كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى بِالْأَرْشِ لِمَا مَرَّ ، وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ الْأُصْبُعِ لِمَا مَرَّ .
وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَوَّلًا فَهُوَ كَمَا إذَا جَاءُوا مَعًا ، وَقَدْ ذَكَرنَا حُكْمَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ مِنْ الْمِرْفَقِ أَوْ بَدَأَ بِالْمِرْفَقِ ثُمَّ بِالْكَفِّ ، وَهُمَا فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ ثُمَّ اجْتَمَعَا فَإِنَّ الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْكَفِّ قُطِعَ لَهُ الْكَفُّ ، وَلَا يُنْتَظَرُ الْغَائِبُ لِمَا مَرَّ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَوَّلًا يُقْطَعُ لَهُ الْمِرْفَقُ أَوَّلًا ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ أَرْشَ الْيَدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْ سَبَّابَةِ رَجُلٍ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ الْمَفْصِلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْمَفْصِلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَرْشِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي مِنْهَا الْأُصْبُعُ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْأُصْبُعِ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْكَفِّ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْكَفِّ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ قَطَعَ سَاعِدَهُ مِنْ الْمِرْفَقِ مِنْ الْيَدِ الَّتِي قَطَعَ مِنْهَا الْكَفَّ عَلَيْهِ فِي الْيَدِ الْقِصَاصُ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي السَّاعِدِ بَلْ فِيهِ أَرْشُ حُكُومَةٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى أَوْ قَبْلَهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى فَهُمَا جِنَايَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهِيَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، ذَكَرَ قَوْلَهُمَا فِي الزِّيَادَاتِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا قَبْلَ الْبُرْءِ
فَهُمَا فِي حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ مَعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ، وَإِذَا بَرِئَتْ الْأُولَى فَقَدْ اسْتَقَرَّتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ جِنَايَةً مُفْرَدَةً فِي مَفْصِلٍ مُفْرَدٍ فَتُفْرَدُ بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى كَانَتْ الْأُصْبُعَانِ صَحِيحَتَيْنِ أَعْنِي أُصْبُعَ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ لَهُ الْمَفْصِلُ أَوَّلًا ، فَكَانَتْ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ مُمَاثَلَةٌ فَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَامِلٌ وَقْتَ الْقَطْعِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ : وَقْتُ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي كَانَ الْقِصَاصُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ الْقَاطِعِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمُسْتَوْفَى فَكَانَ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا إنَّ نَفْسَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْأَجْنَبِيُّ وَقَطَعَ ذَلِكَ الْمَفْصِلَ عَمْدًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا وَجَبَ فَثَبَتَ أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَلَوْ وَجَبَ النُّقْصَانُ لَكَانَ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ ، وَالثَّانِي إنْ سَلَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوُجُوبِ لَكِنْ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً ، وَالْأَوَّلُ نَاقِصٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ .
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ ، وَبَرِئَ اُقْتُصَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَانَتْ
نَاقِصَةً وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ .
وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْهَا ثُمَّ قَطَعَ هُوَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أُصْبُعِ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ دِيَةِ الْيَدِ .
وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى فَبَرِئَ ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَمَاتَ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ ثُمَّ قَتَلَ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءُ مِثْلِ حَقِّهِ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَفْصِلَ وَقَتَلَ ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَاف النَّفْسِ إتْلَافُ الطَّرَفِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَمَاتَ مِنْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَمْدًا فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، وَعَلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ يُسْتَطَاعُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ فَالْأَرْشُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ دِيَةُ النَّفْسِ ، وَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَرْشُ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا ، وَالْآخَرُ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ الْقِصَاصُ ، وَعَلَى الْخَاطِئِ الْأَرْشُ ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَ الْبُرْءِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ جَعْلُهُمَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا كَانَتَا مِنْ شَخْصَيْنِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ جَعْلَ فِعْلِ أَحَدِهِمَا فِعْلُ الْآخَرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَعْتَبِرَ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ ، سَوَاءٌ بَرِئَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى أَوْ لَمْ تَبْرَأْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ السَّبَّابَةِ ثُمَّ قَطَعَ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْبَاقِي إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَيَقْطَعُ مِنْهُ الْمَفْصِلُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ جَمِيعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُقْطَعُ مِنْهُ الْمَفْصِلُ كُلُّهُ ، كَذَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ ، وَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي كُلِّ نِصْفٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ نِصْفِ الْمَفْصِلِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ .
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ السَّبَّابَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمَفْصِلِ ، وَالْحُكُومَةُ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَطَعَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ ، كَذَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ الْأَوَّلُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَثَبَتَ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ .
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَطَعَ مِنْ الْآخَرِ الذِّرَاعَ مِنْ الْمَرْفِقِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّيْنِ اسْتَوَيَا ، وَالْمِرْفَقُ مَفْصِلٌ فَكَانَ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْحُكُومَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ طَرَفَيْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِاخْتِلَافِ الْأَرْشِ ، وَهَهُنَا لَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي الْأَرْشِ لِأَنَّ أَرْشَ الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْكَفِّ يُوجِبُ وَهْنَ السَّاعِدِ وَضَعْفِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَقِيمَةُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ فِيهِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ أَرْشَيْ السَّاعِدَيْنِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُطِعَ يَدُ رَجُلٍ وَفِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ ، وَفِي يَدِ الْقَاطِعِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ مِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَفِيهِمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةُ فِي الْكَفِّ نَقْصٌ فِيهَا وَعَيْبٌ ، وَهُوَ نَقْصٌ يَعْرِفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْكَفَّيْنِ .
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا زَائِدَةً وَفِي يَدِهِ مِثْلُهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ فِي مَعْنَى التَّزَلْزُلِ ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْمُتَزَلْزِلِ ؛ وَلِأَنَّهَا نَقْصٌ وَلَا تُعْرَفُ قِيمَةُ النُّقْصَانِ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ .
وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي فِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ تُوهِنُ الْكَفَّ وَتَنْقُصُهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقُصُهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ .
وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَشَلَّيْنِ ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ زُفَرُ إنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا كَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلَّاءَ .
وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَهُمَا شَلَلًا فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَف الْمُمَاثَلَةُ وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْإِبْهَامِ كُلِّهَا إذَا قَطَعَ يَدًا مِثْلَ يَدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامِ يُوهِنُ الْكَفَّ وَيُسْقِطُ تَقْدِيرَ الْأَرْشِ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا
بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ .
وَلَوْ قَطَعَ يَدُ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا تَدْخُلُ الْيَدُ فِي النَّفْسِ بِلَا خِلَافٍ ، وَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْقَتْلِ ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْ النَّفْسِ وَقَطَعَ يَدَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَدْخُلُ الْيَدُ فِي النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْبُرْءُ لَا حُكْمَ لَهَا مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْمِثْلِ وَذَلِكَ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَإِذَا قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْمِثْلِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ جَزَاءً وِفَاقًا بِخِلَافِ الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ غَيْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلِ النَّفْسِ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ حَالَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ السَّبَبِ لِعَدَمِ الْبُرْءِ مَرْدُودَةً إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَا جَمِيعًا عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا خَطَأً فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ ، وَتَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَتُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ : فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، وَثُلُثٌ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ .
وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، وَسُدُسٌ
مِنْ النِّصْفِ .
وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ يُؤَدَّى فِي سَنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا بَرِئَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَكَانَ الْبَاقِي جِنَايَةَ مُبْتَدَأٍ فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ ، وَيَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْتَقِرَّ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً لَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْعَمْدَ مَعَ الْخَطَأِ جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُحْتَمَلَانِ التَّدَاخُلَ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا فَيَجِبُ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ ، وَفِي الْخَطَأِ الْأَرْشُ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْجَانِي وَاحِدًا فَقَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ فَأَمَّا إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَيْفَمَا كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحِيَالِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّدَاخُلِ وَإِفْرَادُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِي ، وَعَدَمِ الْبُرْءِ قَدْ يُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرًا ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا التَّقْدِيرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجَانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لِصَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَتَعَذَّرَ التَّقْدِيرُ فَبَقِيَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةً مُفْرَدَةً حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيُفْرَدُ حُكْمُهَا ، فَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا
خَطَأً يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُمَا عَاقِلَتُهُمَا فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا ، وَالْآخَرُ خَطَأً يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، وَالْأَرْشُ فِي الْخَطَأِ .
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ يَدِ رَجُلٍ عَمْدًا ، وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ مِنْ الزَّنْدِ فَمَاتَ فَالْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ ، وَالْقَطْعُ الْأَوَّلُ اتَّصَلَ أَلَمُهُ بِالنَّفْسِ ، وَتَكَامَلَ بِالثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْفِعْلَيْنِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْآلَامِ الْمُتَرَادِفَةِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ إلَى أَنْ يَمُوتَ ، وَقَطْعُ الْيَدِ يَمْنَعُ وُصُولَ الْأَلَمِ مِنْ الْأُصْبُعِ إلَى النَّفْسِ فَكَانَ قَطْعًا لِلسِّرَايَةِ فَبَقِيَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى قَطْعِ الْيَدِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُصْبُعَ فَبَرِئَتْ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ فَمَاتَ ، وَهُنَاكَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي ، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَثَرِ ، وَهُوَ وُصُولُ الْأَلَمِ إلَى النَّفْسِ فَوْقَ الْبُرْءِ إذْ الْبُرْءُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاصَ ، وَالْقَطْعُ لَا يَحْتَمِلُ ثُمَّ زَوَالُ الْأَثَرِ بِالْبُرْءِ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ فَزَوَالُهُ بِالْقَطْعِ كَانَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلَوْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَسَرَى فَالسِّرَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ فَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِحَدِيدٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِمَّا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَوْ بَرِئَتْ أَوْ لَا تُوجِبُ ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ الزَّنْدِ أَوْ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً أَوْ آمَّةً أَوْ جَائِفَةً أَوْ أَبَانَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُطْلَقَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى بَطَلَ
حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَتَّى لَوْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ وَرَجُلَيْهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا الْمَقْطُوعُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنْ الْقَطْعِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ أَوْ الْجِرَاحَةُ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَهُوَ عَنْ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ ، وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا قَدْ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْ النَّفْسِ ، وَبَرِئَتْ الْيَدُ ضَمِنَ دِيَةَ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ لَا ضَمَان عَلَيْهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ صَارَتْ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ ، وَالنَّفْسُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْيَدُ حَقَّهُ لَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ عَفَا عَنْ النَّفْسِ فَالْعَفْوُ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ اسْتَوْفَى بَعْضَ دِيَتِهِ ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ إنَّ الْإِبْرَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ لَا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ النَّفْسُ ، أَوْ يُقَالُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَكِنْ فِي الْقَتْلِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ الْقَتْلُ لَا الْقَطْعُ ، وَمِثْلُ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْيَدِ فَإِذَا قَطَعَ الْيَدَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُ .
وَكَانَ الْقِيَاسُ
أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ مُسِيئًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا مَعَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا وَلِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ فَإِذَا عَفَا اسْتَنَدَ الْعَفْوُ إلَى الْأَصْلِ كَأَنَّهُ عَفَا ثُمَّ قَطَعَ فَكَانَ الْقَطْعُ اسْتِيفَاءَ غَيْرِ حَقِّهِ فَيَضْمَنُ هَذَا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِهَا ، وَلَا تَجِبُ فِي الْبَعْضِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ : إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ الدِّيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَطَعَ الْإِمَامُ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ الْفَصَّادُ وَالْبَزَّاغُ وَالْحَجَّامُ إذَا سَرَتْ جِرَاحَاتُهُمْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ السَّارِقَ فَمَاتَ مِنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ أَتَى بِالْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤَثِّرُ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَقَدْ وُجِدَ فَيَضْمَنُ ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا فَسَرَى إلَى النَّفْسِ .
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةَ ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْإِمَامِ أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ قَتْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ لِلضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَامْتَنَعَ الْأَئِمَّةُ عَنْ الْإِقَامَةِ خَوْفًا عَنْ لُزُومِ الضَّمَانِ ، وَفِيهِ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ ، وَالْقَطْعُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْعَفْوُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ .
وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ لِلنُّشُوزِ فَمَاتَتْ مِنْهُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ التَّأْدِيبُ لَا الْقَتْلُ ، وَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا .
وَلَوْ ضَرَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ لِلتَّأْدِيبِ فَمَاتَ ضَمِنَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ مَأْذُونَانِ فِي تَأْدِيبِ الصَّبِيِّ وَتَهْذِيبِهِ ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ عَزَّرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا فَمَاتَ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّأْدِيبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَبْقَى الْمُؤَدَّبُ حَيًّا بَعْدَهُ فَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ بِتَأْدِيبٍ ، وَهُمَا غَيْرُ مَأْذُونَيْنِ فِي الْقَتْلِ .
وَلَوْ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أَوْ الْأُسْتَاذُ فَمَاتَ ؛ إنْ كَانَ الضَّرْبُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الضَّرْبِ ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِالسِّرَايَةِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْهَا يَمْتَنِعُ عَنْ التَّعْلِيمِ فَكَانَ فِي التَّضْمِينِ سَدُّ بَابِ التَّعْلِيمِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ فِي حَقِّهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَبِ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الضَّمَانِ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ التَّأْدِيبِ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا وَرَدَتْ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ فَالسِّرَايَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ ، وَالْفِعْلُ صَادَفَ مَحَلًّا غَيْرَ مَضْمُونٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَكُونُ
مَضْمُونَةً .
وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ السِّرَايَةَ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي حَقِّهِ .
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عِصْمَةَ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَتْ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ السِّرَايَةِ ، وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ فَكَأَنَّهُ أَبْرَأَ الْقَاطِعَ عَنْ السِّرَايَةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالِانْتِهَاءِ ، وَمَا بَيْنَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، وَالْمَحَلُّ هَهُنَا مَضْمُونٌ فِي الْحَالَيْنِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فِيهِمَا فَلَا تُعْتَبَرُ الرِّدَّةُ الْعَارِضَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا ( وَأَمَّا ) قَوْلُ مُحَمَّدٍ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَرَاءَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فَوَقَفَ حُكْمُ السِّرَايَةِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْنَا مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلُحُوقِهِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ يَدِهِ لَا غَيْرُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ يَقْطَعُ حُقُوقَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ بَعْدَ اللُّحُوقِ ، وَلَا يُقَسَّمُ قَبْلَهُ فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ .
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ خَطَأً فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ وَعِتْقُهُ كَبُرْءِ الْيَدِ لِأَنَّ السِّرَايَةَ لَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْجَانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى ( وَإِمَّا ) أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ
بِمَالِكٍ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّرَايَةَ تَكُونُ تَابِعَةً لِلْجِنَايَةِ فَالْجِنَايَةُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً لِلْعَبْدِ لَا تَكُونُ سِرَايَتَهَا مَضْمُونَةً لَهُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ وَلَيْسَ قَطْعُ الْيَدِ فِي هَذَا مِثْلَ الرَّمْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ بِالرَّمْيِ الْقِيمَةَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجِبْ فِي الْقَطْعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ سَبَبُ الْإِصَابَةِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ جَانِيًا بِهِ وَقْتَ الرَّمْيِ ( فَأَمَّا ) الْقَطْعُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلسِّرَايَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ عَمْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْجَانِيَ فِي قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ يَحْجُبُهُ عَنْ مِيرَاثِهِ وَيَدْخُلُ مَعَهُ فِي مِيرَاثِهِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةَ وَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَيَجِبُ مَا نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ هَذَا إذَا كَانَ خَطَأً ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَبِالْكِتَابَةِ بَرِئَ عَنْ السِّرَايَةِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى فَإِذَا مَاتَ وَكَانَ خَطَأً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أَوْ يُشَارِكُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى
فَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَمَاتَ وَكَانَ الْقَطْعُ خَطَأً أَوْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ مَاتَ حُرًّا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ يَحْجُبُهُ أَوْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّرَايَةُ إلَى النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ إلَى الْعُضْوِ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ فِي عُضْوٍ فَسَرَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ - وَالْعُضْوُ الثَّانِي لَا قِصَاصَ فِيهِ - فَلَا قِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَهَذَا الْأَصْلُ يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي مَسَائِلَ .
إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ يَدِ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْكَفُّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْقَاطِعِ قَطْعٌ مُشِلٌّ لِلْكَفِّ ، وَلَا يُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا يَجِبُ بِهَا ضَمَانَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْمَالُ خُصُوصًا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَا إذَا قَطَعَ مَفْصِلًا مِنْ أُصْبُعٍ فَشُلَّ مَا بَقِيَ أَوْ شُلَّتْ الْكَفُّ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قَالَ الْمَقْطُوعُ : أَنَا أَقْطَعُ الْمَفْصِلَ ، وَأَتْرُكُ مَا يَبِسَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقِصَاصِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ اسْتِيفَاءَ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَشْجُوجُ أَنَا أَشُجُّهُ مُوضِحَةً وَأَتْرُكُ أَرْشَ مَا زَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ وَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِصَاصٌ ؛ لِأَنَّ قِصَاصَهُ هُوَ كَسْرٌ مُسْوَدٌّ لِلْبَاقِي ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُصْبُعَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ فِي الْأَوَّلِ لَا قِصَاصَ وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً لِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ ، وَهَهُنَا تَعَدَّدَ الْأَثَرُ فَيُجْعَلُ فِعْلَيْنِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ
فِي الثَّانِي كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَانْسَلَّ السِّكِّينُ إلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى خَطَأً فَقَطَعَهَا حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي .
وَكَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ وَأَصَابَ آخَرَ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَلِكَ هَذَا .
وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ تُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هُوَ الْمِثْلُ ، وَالْمِثْلُ وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُشِلُّ هَهُنَا غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَّحِدَةٌ حَقِيقَةً ، وَهِيَ قَطْعُ الْأُصْبُعِ ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا عَمْدًا فَنَفَذَ السِّكِّينُ إلَى أُخْرَى خَطَأً لِأَنَّ الْمَوْجُودَ هُنَاكَ فِعْلَانِ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ جُعِلَ الْفِعْلُ الْمُتَّحِدُ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا شَرْعًا بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ .
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ ، وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ إذَا تَوَلَّدَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ وَفِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى بِجَنْبِهَا لَا يُمْكِنُ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْفِعْلِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَثَرِ ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْأُصْبُعِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تُوجِبُ إلَّا ضَمَانًا وَاحِدًا ، وَقَدْ وَجَبَ الْمَالُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ .
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَسَقَطَتْ الْكَفُّ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ دِيَةُ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ - وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْكَفِّ - مُتَعَذِّرٌ فَيُمْتَنَعُ الْوُجُوبُ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِمَا ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقِصَاصُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَتْ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي
الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْكَفِّ ، وَالسِّرَايَةُ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجُزْءِ إلَى الْجُمْلَةِ كَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْيَدِ إلَى النَّفْسِ ، وَالْأُصْبُعَانِ عُضْوَانِ مُفْرَدَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا جُزْءَ الْآخَرِ فَلَا تَتَحَقَّقُ السِّرَايَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَعَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ يَجِبُ الْقِصَاصُ هَهُنَا أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الزَّنْدِ .
وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ فَسَقَطَتْ لَا قِصَاصَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ بِكَسْرِ مُسْقِطٍ لِلسِّنِّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ فَسَقَطَتْ مِنْهَا الْكَفُّ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَكَسَّرَ بَعْضُهَا وَتَحَرَّكَ الْبَاقِي وَاسْتَوْفَى حَوْلًا أَنَّهَا إنْ اسْوَدَّتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْوَدُّ ، وَإِنْ سَقَطَتْ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهَا الْأَرْشُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْقِطُ ، فَيَجِبُ فِيهَا الْأَرْشُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ الْكَفُّ .
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً مُتَعَمِّدًا فَذَهَبَ مِنْهَا بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِيهَا وَفِي الْبَصَرِ الْأَرْشُ وَقَالَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَفِي الْبَصَرِ الدِّيَةُ ، هَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْهُ أَنَّ فِيهِمَا جَمِيعًا الْقِصَاصَ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إلَى عُضْوٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَمَا إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَلَفَ الْبَصَرِ حَصَلَ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّجَّةَ تَبْقَى بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ ، وَحُدُوثُ السِّرَايَةِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْجِنَايَةِ كَالْقَطْعِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى قَطْعًا بَلْ يَصِيرُ قَتْلًا ، وَهُنَا الشَّجَّةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بَلْ بَقِيَتْ شَجَّةً كَمَا كَانَتْ فَدَلَّ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ ، وَالْجِنَايَةُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَجِمَاعُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنَيْنِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا بَلْ فِيهِمَا الْأَرْشُ ، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِمَا الْقِصَاصُ دُونَ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ
وَالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ إذْ لَا قِصَاصَ فِي ذَهَابِ مَنْفَعَةِ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ فِي الشَّرْعِ ، وَفِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصٌ فِي الشَّرِيعَةِ .
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَأَوْضَحَهُ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَهُ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا ثُمَّ تَآكَلَتَا حَتَّى صَارَتْ وَاحِدَةً فَهُمَا مُوضِحَتَانِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ، وَهُمَا شَجَّتَانِ مُوضِحَتَانِ تَأَكَّلَ بَيْنَهُمَا ( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ مَا تَأَكَّلَ بَيْنَ الْمُوضِحَتَيْنِ تَلِفَ بِسَبَبِ الْجِرَاحَةِ ، وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ إذَا قُوِّرَتْ أَوْ فُسِخَتْ لِأَنَّا إذَا فَعَلْنَا مَا فَعَلَ ، وَهُوَ التَّقْوِيرُ وَالْفَسْخُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ ، وَإِنْ أَذْهَبْنَا ضَوْءَهُ فَلَمْ نَفْعَلْ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَصَارَ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ السَّاعِدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَطْعِ مِنْ السَّاعِدِ وَلَا مِنْ الزَّنْدِ لِمَا قُلْنَا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ ، كَذَا هَذَا .
وَإِنْ ضُرِبَ عَلَيْهَا فَذَهَبَ ضَوْءُهَا مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَةِ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَنْخَسِفْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ عَلَى وَجْهِهِ الْقُطْنُ الْمَبْلُولُ ، وَتُحْمَى الْمِرْآةُ ، وَتُقَرَّبُ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا ، وَقِيلَ أَوَّلُ مِنْ اهْتَدَى إلَى ذَلِكَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ حُكْمُهَا حَتَّى جَاءَ
سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَقَضَى بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَإِنْ انْخَسَفَتْ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَدْ لَا يَقَعُ خَاسِفًا بِهَا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَيْنِ الْأَحْوَلِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَلَ نَقْصٌ فِي الْعَيْنِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ ، وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ ، كَذَا هَذَا وَلَا قِصَاصَ فِي الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا ( وَأَمَّا ) الْأُذُنُ فَإِنْ اسْتَوْعَبَهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ } وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهَا مُمْكِنٌ فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَإِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ ، وَإِلَّا فَلَا ( وَأَمَّا ) الْأَنْفُ فَإِنْ قُطِعَ الْمَارِنُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ } وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَارِنِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ قُطِعَ قَصَبَةُ الْأَنْفِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَظْمٌ ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَا فِي السِّنِّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ اسْتَوْعَبَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَإِنْ اسْتَوْعَبَ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْمَارِنِ ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ بِهِ اسْتِيعَابَ الْقَصَبَةِ ، وَلَا قِصَاصَ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ .
( وَأَمَّا ) الشَّفَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا قَطَعَ شَفَةَ الرَّجُلِ السُّفْلَى أَوْ الْعُلْيَا .
وَكَانَ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ ، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ ، وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّعَدِّي أَيْضًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ } ، وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كُسِرَ أَوْ قُلِعَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي الْكَسْرِ مِنْ سِنِّ الْكَاسِرِ مِثْلُ مَا كُسِرَ بِالْمِبْرَدِ ، وَفِي الْقَلْعِ يُؤْخَذُ سِنُّهُ بِالْمِبْرَدِ إلَى أَنْ يَنْتَهِي إلَى اللَّحْمِ وَيَسْقُطُ مَا سِوَى ذَلِكَ ، وَقِيلَ فِي الْقَلْعِ أَنَّهُ يُقْلَعُ سِنُّهُ ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، وَالْأَوَّلُ اسْتِيفَاءٌ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ إلَّا أَنَّ فِي الْقَلْعِ احْتِمَالَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْقَالِعُ ( وَأَمَّا ) اللِّسَانُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ اسْتَوْعَبَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ لَا يُقْتَصُّ فِيهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَطْعَ إذَا كَانَ مُسْتَوْعِبًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ بِالِاسْتِيعَابِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَإِنْ قَطَعَ الْحَشَفَةَ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا ، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ
لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ بَعْضَ اللِّسَانِ ، وَلَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ مِنْ أَصْلِهِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ الْقِصَاصُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الذَّكَرَ يَنْقَبِضُ مَرَّةً وَيَنْبَسِطُ أُخْرَى فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَلَا قِصَاصَ فِي جَزِّ شَعْرِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ وَحَلْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدَ الْحَلْقِ وَالنَّتْفِ ( أَمَّا ) الْجَزُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْمِثْلِ ( وَأَمَّا ) الْحَلْقُ وَالنَّتْفُ الْمَوْجُودُ مِنْ الْحَالِقِ وَالنَّاتِفِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ حَلْقُ وَنَتْفُ غَيْرِ مَنْبَتٍ ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَحْلُوقِ وَالْمَنْتُوفِ لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ حَلْقُهُ وَنَتْفُهُ مَنْبَتًا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ .
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إذَا لَمْ يَنْبُتْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَمْ لَا ؟ وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْأُنْثَيَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ .
( وَأَمَّا ) حَلَمَةُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا كَالْحَشَفَةِ وَلَوْ ضَرَبَ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ مَاءُ صُلْبِهِ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا تَذْهَبُ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مُمْكِنًا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ أَوْ رِجْلِهِ فَشُلَّتْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا مُشِلًّا فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الشِّجَاجُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيهَا الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا تَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ ، وَهُوَ الْعَظْمُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ لِتَعَدُّدِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَاشِمَةَ تَهْشِمُ الْعَظْمَ ، وَالْمُنَقِّلَةَ تَهْشِمُ وَتُنَقِّلُ بَعْدَ الْهَشِمِ ، وَلَا قِصَاصَ فِي هَشْمِ الْعَظْمِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَالْآمَّةُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الدِّمَاغِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ ( وَأَمَّا ) مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ وَالْبَاضِعَةِ وَالدَّامِيَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الشِّجَاجِ إلَّا فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِي السِّمْحَاقِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَا
دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ وَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَعَنْ الشُّعَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فِيهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا لَا حَدَّ لَهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ غَوْرِ الْجِرَاحَةِ بِالْمِسْبَارِ ثُمَّ إذَا عُرِفَ قَدْرُهُ بِهِ يُعْمَلُ حَدِيدَةٌ عَلَى قَدْرِهِ فَتَنْفُذُ فِي اللَّحْمِ إلَى آخِرِهَا فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ مِثْلَ مَا فَعَلَ ، ثُمَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ الشِّجَاجِ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الشَّاجِّ إلَّا فِي مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمَشْجُوجِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَوَسَطِهِ وَجَنْبَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصُ لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ ، وَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الرَّأْسِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْنَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الشَّيْنِ الَّذِي فِي مُقَدَّمِهِ ؟ وَلِهَذَا يُسْتَوْفَى عَلَى مِسَاحَةِ الشَّجَّةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا مَا أَمْكَنَ لِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ بِاخْتِلَافِ الشَّجَّةِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَأَخَذَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ ، وَهِيَ لَا تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِصِغَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ أَنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِيعَابِ اسْتِيفَاءَ الزِّيَادَةِ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الشَّيْنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِنْ الشَّاجِّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الطُّولِ ثُمَّ يَكُفُّ ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ مُسْتَوْعَبَةٌ ، وَالثَّانِيَةُ لَا يُمْكِنُ
اسْتِيعَابُهَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَلَا تَفْضُلُ وَهِيَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ ، وَتَفْضُلُ عَنْ قَرْنَيْهِ لِكِبَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَصِغَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَلِلْمَشْجُوجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ فَيُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا إذْ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى فِي قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي .
وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ لَا تَأْخُذُ بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ ، وَهِيَ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْعَبَ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ كُلِّهِ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ غَيْرَ مُسْتَوْعَبَةٍ فَالِاسْتِيعَابُ فِي الْجُزْءِ يَكُونُ زِيَادَةً ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الْمِسَاحَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ مَا فَضَلَ عَنْ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ الشَّجَّةِ الْأُولَى فِي الْمِسَاحَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ شَجَّتِهِ فِي مِقْدَارِهَا فِي الْمِسَاحَةِ فِي الطُّولِ فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَنَقَصَ عَمَّا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْأَرْشَ .
وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ ، وَهِيَ
تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ مِنْ الشَّاجِّ إلَى قَفَاهُ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ أَنَّهُ قَالَ إذَا اسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ ، وَلَمْ تَسْتَوْعِبْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ يُقْتَصُّ مِنْ الشَّاجِّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ كُلِّهِ ، وَإِنْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى طُولِ الشَّجَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ كَمَا فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى فَكَذَا فِي الشَّجَّةِ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ .
أَلَا يَرَى أَنَّ الْيَدَ الصَّغِيرَةَ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مَنْفَعَةً مِنْ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ مَا وَجَبَ لَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْوُجُوبُ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهَا لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الشَّجَّةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( وَأَمَّا ) الْجِرَاحُ فَإِنْ مَاتَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا الْمَجْرُوحُ وَجَبَ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ صَارَتْ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ جَائِفَةً أَوْ غَيْرَهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجَانِي ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا أَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا يُجْرَى فِي النَّفْسِ ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَنَا مُتَدَاخِلَانِ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فِي شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأُرُوشِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُقْطَعُ بِالْأَشَلِّ ، وَلَا كَامِلَ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصِ الْأَصَابِعِ ، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْأَمْوَالِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَلَمْ تُوجَدْ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْأُرُوشِ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ طَرَفِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ ، وَأَرْشُ طَرَفِ الْحُرِّ مُقَدَّرٌ فَلَا يُوجَدُ التَّسَاوِي بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا ، وَلَئِنْ اتَّفَقَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْقَدْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ طَرَفِ الْعَبْدِ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ .
وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّهُمْ إنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَمْ يُوجَدْ التَّسَاوِي فِي الْأَرْشِ ، وَإِنْ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي أُرُوشِهِمْ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوَتَبْقَى فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَالشُّبْهَةُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ .
وَلَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُنْثَى نِصْفُ أَرْشِ
الذَّكَرِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُسَاوَاةُ فِي الْأُرُوشِ فِي الْأَحْرَارِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ جَرَى بَيْنَ نَفْسَيْهِمَا فَيَجْرِي بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ ( وَلَنَا ) أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا فَلَا قِصَاصَ فِي طَرَفَيْهِمَا كَالصَّحِيحِ مَعَ الْأَشَلِّ .
وَلَا قِصَاصَ فِي الْأَظْفَارِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أُرُوشِهَا لِأَنَّ أَرْشَ الظُّفْرِ الْحُكُومَةُ ، وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسِّلَاحِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ فَسَوَاءٌ كَانَتْ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُبْهَةُ عَمْدٍ ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَاسْتَوَى فِيهِمَا السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ( وَأَمَّا ) بَيَانُ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ فَلَا يَحْكُمُ بِالْقِصَاصِ فِيهِ مَا لَمْ يَبْرَأْ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَا يُنْتَظَرُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْحَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْوَاجِبَ لِلْحَالِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الْجِرَاحَةِ حَتَّى يَبْرَأَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا جَرَحَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَخِذِهِ بِعَظْمٍ فَجَاءَ الْأَنْصَارُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبُوا الْقِصَاصَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَظِرُوا مَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِكُمْ فَأَنَا وَاَللَّهِ مُنْتَظِرُهُ } ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ ، وَالْجِرَاحَةُ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَصِيرُ قَتْلًا فَيُتَبَيَّنُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ ، وَهَذَا فَرْعُ مَسْأَلَةٍ ذَكَرْنَاهَا ، وَهِيَ أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا مَاتَ بِالْجِرَاحَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالنَّفْسِ عِنْدَنَا لَا فِي الطَّرَفِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَأَمَّا الَّذِي فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ .
أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعُضْوِ عَلَى الْكَمَالِ ، وَذَلِكَ فِي الْأَصْلِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إبَانَةُ الْعُضْوِ وَإِذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ صُورَةً .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَعْضَاءُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِانْتِهَاءِ كَمَالِ الدِّيَةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةِ : نَوْعٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ ، وَنَوْعٌ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ اثْنَانِ ، وَنَوْعٌ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ ( أَمَّا ) الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ فَسِتَّةُ أَعْضَاءٍ أَحَدُهَا الْأَنْفُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ جَدْعًا أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ وَحْدَهُ ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ ، وَالثَّانِي اللِّسَانُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أَوْ قُطِعَ مِنْهُ مَا يَذْهَبُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ ، وَالثَّالِثُ الذَّكَرُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أَوْ قُطِعَ الْحَشَفَةُ مِنْهُ وَحْدَهَا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ } وَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَالْجَمَالَ أَيْضًا مِنْ بَعْضِهَا فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْأَنْفِ الشَّمُّ وَالْجَمَالُ أَيْضًا ، وَمِنْ اللِّسَانِ الْكَلَامُ ، وَمِنْ الذَّكَرِ الْجِمَاعُ ، وَالْحَشَفَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْفَعَةُ الْإِنْزَالِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَطْعِ .
وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ بِقَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ ، وَقِيلَ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ
فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرُوفِ .
وَنُقِلَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللِّسَانِ هُوَ الْكَلَامُ ، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ الْفَائِتِ مِنْهَا لَكِنْ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الْحُرُوفُ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ فَأَمَّا مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ مِنْ الشَّفَوِيَّةِ وَالْحَلْقِيَّةِ كَالْبَاءِ وَالْفَاءِ وَالْهَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ .
وَالرَّابِعُ الصُّلْبُ إذَا احْدَوْدَبَ بِالضَّرْبِ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ ، فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ .
وَالْخَامِسُ مَسْلَكُ الْبَوْلِ .
وَالسَّادِسُ مَسْلَكُ الْغَائِطِ مِنْ الْمَرْأَةِ إذَا أَفْضَاهَا إنْسَانٌ فَصَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ الْغَائِطَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنْ صَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكهُمَا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً بِالْعُضْوِ عَلَى الْكَمَالِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ( وَأَمَّا ) الْأَعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ فَالْعَيْنَانِ ، وَالْأُذُنَانِ ، وَالشَّفَتَانِ ، وَالْحَاجِبَانِ إذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا وَلَمْ يَنْبُتْ ، وَالثَّدْيَانِ وَالْحَلَمَتَانِ وَالْأُنْثَيَانِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ } وَلِأَنَّ فِي الْقَطْعِ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً أَوَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ كَمَنْفَعَةِ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْبَطْشِ فِي الْيَدَيْنِ وَالْمَشْيِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَالْجَمَالِ فِي الْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لَمْ يَنْبُتَا وَالشَّفَتَيْنِ وَمَنْفَعَةِ إمْسَاكِ الرِّيقِ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ السُّفْلَى .
وَالثَّدْيَانِ وِكَاءٌ لِلَّبَنِ ، وَفِي الْحَلَمَتَيْنِ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ ،
وَالْأُنْثَيَانِ وِكَاءُ الْمَنِيِّ ( وَأَمَّا ) الْأَعْضَاءُ الَّتِي مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فِي الْبَدَنِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ ، وَهِيَ مَنَابِتُ الْأَهْدَابِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ لِمَا فِي تَفْوِيتِهَا مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَصَرِ وَالْجَمَالِ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ ، وَفِي كُلِّ شَفْرٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ .
وَالثَّانِي الْأَهْدَابُ ، وَهِيَ شَعْرُ الْأَشْفَارِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ لِمَا قُلْنَا ( وَأَمَّا ) إذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَاءِ صُورَتِهِ فَنَحْوُ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ إيلَادُهُ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَذَهَبَ مَاءُ صُلْبِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ، ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَكَلَامُهُ وَبَصَرُهُ وَذَكَرُهُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ ( أَمَّا ) الْعَقْلُ فَلِأَنَّ تَفْوِيتَهُ تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ بِفَوْتِ الْعَقْلِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ تَخْرُجُ مَخْرَجَ أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ فَكَانَ إذْهَابُهُ إبْطَالًا لِلنَّفْسِ مَعْنًى ( وَأَمَّا ) السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالْجِمَاعُ وَالْإِيلَادُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَقَدْ فَوَّتَهَا كُلَّهَا .
وَلَوْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَسَقَطَ شَعْرُهُ أَوْ عَلَى رَأْسِ امْرَأَةٍ فَسَقَطَ شَعْرُهَا أَوْ حَلَقَ لَحَيَّةَ رَجُلٍ أَوْ نَتَفَهَا أَوْ حَلَقَ شَعْرَ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَفِيهِ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ حُكُومَةٌ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ إلَّا بِإِتْلَافِ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ إلَّا أَنَّ
الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَجْعَلُ النَّفْسَ تَالِفَةً مِنْ وَجْهٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ مَرْدُودًا إلَى الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي حَلْقِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ ( وَلَنَا ) أَنَّ الشَّعْرَ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمَالٌ كَامِلٌ .
وَكَذَا اللِّحْيَةُ لِلرِّجَالِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ { أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَلَائِكَةً مِنْ تَسْبِيحِهِمْ سُبْحَانَ الَّذِي زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ } وَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ فِي حَقِّ الْحُرِّ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَالْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا إظْهَارُ شَرَفِ الْآدَمِيِّ وَكَرَامَتِهِ ، وَشَرَفُهُ فِي الْجَمَالِ فَوْقَ شَرَفِهِ فِي الْمَنَافِعِ ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنَافِعِ عَلَى الْكَمَالِ لَمَّا أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ أَوْلَى بِخِلَافِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا جَمَالَ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَتَفْوِيتُهُ لَا يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتْ الدِّيَةُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَغْلَى مَاءً فَصَبَّهُ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَانْسَلَخَ جِلْدُ رَأْسِهِ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالدِّيَةِ .
وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ كَامِلَةً بِحَيْثُ يُتَجَمَّلُ بِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لَا يُتَجَمَّلُ بِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَفِّرَةٍ بِحَيْثُ يَقَعُ بِهَا الْجَمَالُ الْكَامِلُ ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَشِينُ
فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَأَمَّا شَعْرُ الْعَبْدِ وَلِحْيَتُهُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ ( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبِيدِ كَالدِّيَةِ فِي الْأَحْرَارِ فَلَمَّا وَجَبَتْ فِي الْحُرِّ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقِيمَةُ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْجَمَالَ فِي الْعَبْدِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ الْخِدْمَةُ ، وَتَفْوِيتُ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ .
وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ إنْسَانٍ أَوْ لِحْيَتَهُ ثُمَّ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الْجَمَالُ أَصْلًا .
وَفِي الصَّعَرِ - وَهُوَ اعْوِجَاجُ الرَّقَبَةِ - كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَتَفْوِيتِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ الْوُجُوبِ ( فَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً فِيمَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَأَمَّا مَا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْد ، وَالْخَطَأُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَكَرًا فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَعَلَيْهِ دِيَةُ أُنْثَى ، وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَانِي ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ تَنْصِيفُ دِيَةِ الْأُنْثَى مِنْ دِيَةِ الذَّكَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا فَلَا دِيَةَ فِيهِ ، وَفِيهِ الْقِيمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَجَبَتْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ بَلَغَتْ الدِّيَةُ يُنْقَصُ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةٌ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ الدِّيَةُ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ الْقِيمَةُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ .
وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ .
وَعُمُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ قَدْرٌ مِنْ الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فِيهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَبَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ مِثْلُ الْحَاجِبِ وَالشَّعْرِ وَالْأُذُنِ ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ إنْ حَلَقَ أَحَدَ حَاجِبَيْهِ فَلَمْ يَنْبُتْ أَوْ نَتَفَ أَشْفَارَ عَيْنَيْهِ الْأَسْفَلِ أَوْ الْأَعْلَى يَعِنِي أَهْدَابَهُ فَلَمْ تَنْبُتْ أَوْ قَطَعَ إحْدَى شَفَتَيْهِ الْعُلْيَا أَوْ السُّفْلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ نِصْفَ
الْقِيمَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَاجِبِ الْعَبْدِ وَفِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ .
وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ اسْتَقْبَحَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَضْمَنَ فِي أُذُنِ الْعَبْدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَهَذَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ أَيْضًا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ هُوَ الْقِيمَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَنْهُ ، وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ وَالْجَمَالُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ النُّقْصَانُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ وَيُقَوَّمُ وَلَيْسَ بِهِ الْجِنَايَةُ فَيَغْرَمُ الْجَانِي مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِمَصْلَحَةِ النَّفْسِ كَالْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِقَدْرِ نُقْصَانِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَمْعِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ بِدِيَتِهِ جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ قَدْ دَخَلَ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الدِّيَةَ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْحُرِّ ( وَوَجْهُ ) رِوَايَةِ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْجَمَالَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْعَبِيدِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ الْخِدْمَةُ فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَمَقْصُودَةٌ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ جَمِيعًا وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ شِبْهُ النَّفْسِ وَشِبْهُ الْمَالِ أَمَّا شِبْهُ النَّفْسِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النَّفْسِ حَقِيقَةً ( وَأَمَّا ) شِبْهُ الْمَالِ فَإِنَّهُ
لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَيُعْمَلُ بِشِبْهِ النَّفْسِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ بِتَقْدِيرِ ضَمَانِهِ بِالْقِيمَةِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى النَّفْسِ وَيُعْمَلُ بِشِبْهِ الْمَالِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ فَلَمْ يُقَدَّرْ ضَمَانُهُ بِالْقِيمَةِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ الْمَالَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ بِشِبْهِ الْمَالِ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْعَمَلَ بِشِبْهِ النَّفْسِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا .
ثُمَّ الْحُرُّ إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدِ إنْسَانٍ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ إلَى الْفَاقِئِ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ - وَهُوَ الْقِيمَةُ - ضَمَانُ الْعُضْوَيْنِ الْفَائِتَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ كَمَا لَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ أَوْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ ، كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَكِنَّ الرَّقَبَةَ هَلَكَتْ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمِنَهُ الْقِيمَةَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْفَاقِئِ لِوُصُولِ عِوَضِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ وَأَمْسَكَهُ وَضَمِنَ النُّقْصَانَ وَهُوَ بَدَلُ الْعَيْنَيْنِ ، كَمَا يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمَالِ عِنْدَ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى الْمَوْلَى بَدَلُ النَّفْسِ فَلَوْ بَقِيَ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فِيمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ أَنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُهُ قِيمَتَهُ ، وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إذَا سَلَّمَ الْهِبَةَ ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْعِوَضَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْعِوَضُ
وَالْمُعَوَّضُ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ عِوَضًا فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الثَّمَنَ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِبَدَلٍ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا الْبَدَلُ الْقِيمَةُ ، وَقَدْ مَلَكَهَا الْبَائِعُ حِينَ مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِهِ .
وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَقَبَضَ الْعَبْدَ فَأَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُمَا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَصَارَ الْعِوَضُ عَنْ الْعَبْدِ الْقِيمَةَ ، وَمَلَكَهَا الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَيْئًا وَعَجَّلَ الْأُجْرَةَ أَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَمْلِكُهَا ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا ، وَكُلَّمَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجَرِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى وَدَفَعَهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ عِوَضٌ عَنْ نَصْفِ الرَّقَبَةِ الَّذِي سَلَّمَ لَهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ اجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ جِنَايَتِهِ لَا عَنْ الْمَالِ ، وَاجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ
عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ كَمَنْ اسْتَوْهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ وَالثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ وَرِثَهُمَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَبْدًا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا ، أَوْ كَانَا جَمِيعًا عَبْدَيْنِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جِنَايَاتِ الْعَبِيدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِي كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْ الْبَدَنِ فِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْحَلَمَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ عِنْدَ قَطْعِ الْعُضْوَيْنِ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكُلِّ فِي الْعُضْوَيْنِ لِتَفْوِيتِ كُلِّ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعُضْوَيْنِ ، وَالْفَائِتُ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا النِّصْفُ فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْيَمِينُ وَالْيَسَارُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا ، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَيْنِ نُورُ الْبَصَرِ دُونَ الشَّحْمَةِ أَوْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مَعَ الشَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَيْنِ الْبَصَرُ ، وَالشَّحْمَةُ فِيهِ تَابِعَةٌ .
وَكَذَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى مِنْ الشَّفَتَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ فِي السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ وَفِي الْعُلْيَا الثُّلُثُ لِزِيَادَةِ جَمَالٍ فِي الْعُلْيَا وَمَنْفَعَةٍ فِي السُّفْلَى ، وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ شُرَيْحٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا ، سَوَاءٌ قَطَعَ الْحَلَمَةَ مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَطَعَ الثَّدْيَ وَفِيهِ الْحَلَمَةُ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْحَلَمَةِ ، وَالثَّدْيُ تَبَعٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الثَّدْيِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْحَلَمَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ مِنْ الْأُولَى
لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَسْتَقِرُّ قَبْلَ الْبُرْءِ فَإِذَا أَتْبَعَهَا الثَّانِيَةَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا صَارَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَهُمَا مَعًا .
وَفِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أُصْبُعٍ وَأُصْبُعٍ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ ، وَأَشَارَ إلَى الْخِنْصَرِ وَالْإِبْهَامِ ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَصَابِعَ الْيَدِ وَحْدَهَا أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ وَمَعَهَا الْأَصَابِعُ .
وَكَذَلِكَ الْقَدَمُ مَعَ الْأَصَابِعِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { فِي الْأَصَابِعِ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ الْأَصَابِعَ وَحْدَهَا أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي فِيهَا الْأَصَابِعُ وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لَهَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْيَدِ الْبَطْشُ ، وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِالْأَصَابِعِ فَكَانَ إتْلَافُهَا إتْلَافًا لِلْيَدِ ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ الْأَصَابِعَ أَوْ شُلَّ مِنْ الْجِرَاحَةِ أَوْ يَبِسَ فَفِيهِ عَقْلُهُ تَامًّا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ يَفُوتُ ، وَمَا كَانَ مِنْ الْأَصَابِعِ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي كُلِّ مِفْصَلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ، وَمَا كَانَ فِيهِ مَفْصِلَانِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْإِصْبَعِ يَنْقَسِمُ عَلَى مَفَاصِلِهَا كَمَا يَنْقَسِمُ مَا فِي الْيَدِ عَلَى عَدَدِ الْأَصَابِعِ ، وَفِي إحْدَى أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ رُبْعُ الدِّيَةِ ، وَفِي الِاثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ إنْ لَمْ يَنْبُتْ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَشْفَارِ كُلِّهَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهَا كَمَا تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ ، وَإِنْ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ سَوَاءٌ قَطَعَ الشَّفْرَ
وَحْدَهُ أَوْ قَطَعَ مَعَهُ الْجَفْنَ لِأَنَّ الْجَفْنَ تَبَعٌ لِلشَّفْرِ كَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ لِلْأَصَابِعِ .
وَكَذَا أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَشْفَارِ .
وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ وَالثَّنَايَا وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَضَّلَ أَرْشَ الطَّوَاحِنِ عَلَى أَرْشِ الضَّوَاحِكِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ وَهَذَا لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسِ الْأَصَابِعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِي كُلِّ سِنٍّ بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَيَزِيدُ الْوَاجِبُ فِي جُمْلَتِهَا عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ .
وَلَوْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَأَلْقَى أَسْنَانَهُ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأَسْنَانِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا ، عِشْرُونَ ضِرْسًا وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ ، وَأَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَهِيَ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةٍ تُؤَدَّى هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَثُلُثٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالْبَاقِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ ، وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ تُؤَدَّى فِي سَنَتَيْنِ مِنْ السِّنِينَ الثَّلَاثِ ، وَهَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالنَّاقِصَةِ فِي السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَقَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَا وَصَفْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يُنْتَظَرُ بِهَا حَوْلًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { يُسْتَأْنَى بِالْجِرَاحِ حَتَّى تَبْرَأَ } وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنْ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، كَذَا رُوِيَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْتَظَرُ فِي الصَّغِيرِ وَلَا يُنْتَظَرُ فِي الرَّجُلِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إذَا تَحَرَّكَتْ وَإِذَا سَقَطَتْ لَا يُنْتَظَرُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السِّنَّ إذَا تَحَرَّكَتْ قَدْ تَثْبُتُ وَقَدْ تَسْقُطُ فَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ أَنَّ سِنَّ الصَّغِيرِ يَثْبُتُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، وَسِنُّ الْكَبِيرِ لَا تَثْبُتُ ظَاهِرًا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ احْتِمَالَ النَّبَاتِ ثَابِتٌ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ فَإِنْ اشْتَدَّتْ وَلَمْ تَسْقُطْ فَلَا شَيْءَ فِيهَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ فَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إلَى السَّوَادِ أَوْ إلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الْأَرْشُ تَامًّا لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا ، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْعُضْوِ ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ حُرًّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَفِيهِ الْحُكُومَةُ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَصِحُّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْأَرْشِ مِنْ الْعَبْدِ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصُّفْرَةِ الْأَرْشُ تَامًّا كَمَا فِي السَّوَادِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ .
( وَلَنَا
) أَنَّ الصُّفْرَةَ لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ نُقْصَانَهَا فَتُوجِبُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَثُرَتْ الصُّفْرَةُ حَتَّى تَكُونَ عَيْبًا كَعَيْبِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا .
وَإِنْ سَقَطَتْ فَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا حُكُومَةَ الْعَدْلِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَوَّتَ السِّنَّ ، وَالنَّابِتُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْفَائِتِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِوَضَ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُتْلَفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ السِّنَّ يُسْتَأْنَى بِهَا فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِينَاءِ فِيهِ مَعْنًى لِأَنَّهُ لَمَّا نَبَتَتْ فَقَدْ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالْجَمَالُ ، وَقَامَتْ الثَّانِيَةُ مَقَام الْأُولَى كَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ كَسِنِّ الصَّبِيِّ هَذَا إذَا نَبَتَتْ بِنَفْسِهَا فَأَمَّا إذَا رَدَّهَا صَاحِبُهَا إلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَنَبَتَ عَلَيْهَا اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لِانْقِطَاعِ الْعُرُوقِ بَلْ يَبْطُلُ بِأَدْنَى شَيْءٍ فَكَانَتْ إعَادَتُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا مُحَمَّدٌ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ حَتَّى قَالَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ مَعَهَا ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَّقَ بَيْنَ سِنِّ نَفْسِهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ فَأَجَازَ الصَّلَاةَ فِي سِنِّ نَفْسِهِ دُونَ سِنِّ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا
إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَخَاطَهَا فَالْتَحَمَتْ إنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَعُودُ الْجَمَالُ هَذَا إذَا نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى صَحِيحَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَتْ مُعْوَجَّةً فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً بِأَنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ خَضْرَاءَ أَوْ صَفْرَاءَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَتَغَيَّرَتْ بِالضَّرْبَةِ لِأَنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ وَتَغَيَّرَتْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) سِنُّ الصَّبِيِّ إذَا ضُرِبَ عَلَيْهَا فَسَقَطَتْ فَإِنْ كَانَ قَدْ ثُغِرَ فَسِنُّهُ وَسِنُّ الْبَالِغِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُثْغَرَ فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ أَوْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي سِنِّ الْبَالِغِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا حُكُومَةُ الْأَلَمِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ سِنِّ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ سِنَّ الصَّبِيِّ إذَا لَمْ يُثْغَرْ لَا نَبَاتَ لَهُ إلَّا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ، بِخِلَافِ سِنِّ الْبَالِغِ ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ إذَا الْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَّعْرُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الشَّاجِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهَا حُكُومَةُ الْأَلَمِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ .
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشِّجَاجِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ ضَرَبَ عَلَى سِنِّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبَ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَالَ إنَّمَا سَقَطَتْ مِنْ ضَرْبَتِك وَقَالَ الضَّارِبُ مَا سَقَطَتْ بِضَرْبَتِي فَالْمَضْرُوبُ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ جَاءَ فِي السَّنَةِ ( وَإِمَّا ) أَنْ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَإِنْ جَاءَ فِي السَّنَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْرُوبِ .
وَلَوْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْمَشْجُوجُ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَتِك وَعَلَيْك أَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ وَقَالَ الشَّاجُّ لَا بَلْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَةٍ أُخْرَى حَدَثَتْ فَالْقِيَاسُ عَلَى السِّنِّ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَشْجُوجِ ، وَلِلْقِيَاسِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَضْرُوبَ وَالْمَشْجُوجَ يَدَّعِيَانِ عَلَى الضَّارِبِ وَالشَّاجِّ الضَّمَانَ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضَ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا ، وَالضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ اُسْتُحْسِنَ فِي السِّنِّ لِوُرُودِ الْأَثَرِ ، وَالْأَثَرُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ مِنْ الْفَرْقِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ فِي مَسْأَلَةِ السِّنِّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ السُّقُوطِ حَصَلَ مِنْ الضَّارِبِ وَهُوَ الضَّرْبُ الْمُحَرِّكُ لِأَنَّ التَّحَرُّكَ سَبَبُ السُّقُوطِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَضْرُوبِ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْمُوضِحَةُ لَا تَكُون سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهَا مُنَقِّلَةً فَلَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا جَرَى التَّأْجِيلُ حَوْلًا فِي السِّنِّ ، وَالتَّأْجِيلُ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِانْتِظَارِ مَا يَكُونُ مِنْ الضَّرْبَةِ فَإِذَا جَاءَ فِي الْحَوْلِ ، وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَدْ جَاءَ بِمَا وَقَعَ لَهُ الِانْتِظَارُ مِنْ الضَّرْبَةِ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ ( فَأَمَّا ) الشَّجَّةُ فَلَمْ يُقَدَّرْ فِي انْتِظَارِهَا وَقْتٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ فِي قَدْرِ الشَّجَّةِ ، وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِاسْتِقْرَارِ حَالِ السِّنِّ لِظُهُورِ حَالِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَجِئْ دَلَّ عَلَى
سَلَامَتِهَا عَنْ السُّقُوطِ بِالضَّرْبَةِ فَكَانَ السُّقُوطُ مُحَالًا إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلضَّارِبِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ لِأَحَدِهِمَا فَيَبْقَى الْمَضْرُوبُ مُدَّعِيًا ضَمَانًا عَلَى الضَّارِبِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ .
وَكَذَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي زَمَانُ مَا بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ يُجْعَلْ لِانْتِظَارِ حَالِ السِّنِّ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ مِنْ ضَرْبَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ ، وَاحْتُمِلَ مِنْ ضَرْبَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( وَأَمَّا ) الشِّجَاجُ فَالْكَلَامُ فِي الشَّجَّةِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِنَفْسِهَا ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِغَيْرِهَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُوضِحَةُ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِل ، وَفِي الْهَاشِمَة عَشْرٌ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } ، وَلَيْسَ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ بِأَنْ الْتَحَمَتْ ، وَنَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ حُكُومَةُ الْأَلَمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إهْدَارِهَا ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ فَيَجِبُ أَرْشُ الْأَلَمِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا يَجِبُ بِالشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِالْأَثَرِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَسَقَطَ الْأَرْشُ وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ حُكُومَةِ الْأَلَمِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ لَا ضَمَانَ لَهُ فِي الشَّرْعِ كَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبًا وَجِيعًا ، وَكَذَا إيجَابُ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا تَتَقَوَّمُ مَالًا بِالْعَقْدِ أَوْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي الْعَقْدُ وَلَا شُبْهَتُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُهَا بِغَيْرِهَا بِأَنْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَسَقَطَ شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ إيلَادُهُ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ أَمْ يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا ؟ عِنْدَهُمَا لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ إلَّا فِي الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِمْلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْكُلِّ إلَّا فِي الْبَصَرِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الشَّعْرِ فَقَطْ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الشَّجَّةَ وَإِذْهَابَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِمَا جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ مِنْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ( وَجْهُ ) قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ مَحَلُّهُمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا فَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَأَرْشِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْبَوَاطِنِ فَيَدْخُلَ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَالْعَقْلِ ( وَأَمَّا ) الْبَصَرُ فَظَاهِرٌ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُوضِحَةُ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَبْطُلُ بِالشَّعْرِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِيهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا ، وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي الشَّعْرِ الْجِنَايَةَ حَلَّتْ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ( وَأَمَّا ) اتِّحَادُ الْعُضْوِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَصَلَ فِي الرَّأْسِ ( وَأَمَّا ) الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا الشَّجَّةُ ( وَأَمَّا ) اتِّحَادُ السَّبَبِ فَلِأَنَّ دِيَةَ الشَّعْرِ تَجِبُ
بِفَوَاتِ الشَّعْرِ ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةُ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهَا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ كَمَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْيَدُ إنَّ أَرْشَ الْأُصْبُعِ يَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْيَدِ ، كَذَا هَذَا .
وَفِي الْعَقْلِ الْوَاجِبِ دِيَةُ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَافِعِ النَّفْسِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ تَفْوِيتُهُ تَفْوِيتَ النَّفْسِ مَعْنًى فَكَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ النَّفْسِ فَيَدْخُلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَمَا إذَا شَجَّ رَأْسَهُ مُوضِحَةً فَسَرَى إلَى النَّفْسِ فَمَاتَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) السَّمْعُ ، وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَنَحْوُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَالْمَحَلُّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَاخْتَلَفَ الْمَحَلُّ وَالسَّبَبُ وَالْمَقْصُودُ فَامْتَنَعَ التَّدَاخُلَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَالشَّمِّ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا اعْتِرَافُ الْجَانِي وَتَصْدِيقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ نُكُولُهُ عَنْ الْيَمِينِ ، وَقَدْ يُعْرَفُ الْبَصَرُ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ .
وَقَدْ قِيلَ يُمْتَحَنُ بِإِلْقَاءِ حَيَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَفِي السَّمْعِ يُسْتَغْفَلُ الْمُدَّعِي ، كَمَا رُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَةً فَادَّعَتْ عِنْدَهُ ذَهَابَ سَمْعِهَا فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالنَّظَرِ فِي الْقَضَاءِ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهَا وَقَالَ : يَا هَذِهِ غَطِّي عَوْرَتَكِ فَجَمَعَتْ ذَيْلَهَا فَعَلِمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَاهَا .
وَفِي الْكَلَامِ يُسْتَغْفَلُ أَيْضًا ، وَفِي الشَّمِّ يُخْتَبَرُ بِالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ ، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالشَّجَّةِ أَوْ ذَهَبَ بَعْضُهَا دُونَ الْبَعْضَ
الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ لَيْسَ لِلْكَثْرَةِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ ، وَلَا تَدْخُلُ دِيَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ السِّرَايَةِ إنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ لَا غَيْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِصَاحِبِهِ فِي الْأَرْشِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ أُرُوشُهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ عِنْدَ السِّرَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَتَدْخُلُ أُرُوشُهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَدِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً أَوْ هَاشِمَةً أَوْ مُنَقِّلَةً أَوْ آمَّةً فَالشِّجَاجُ كُلُّهَا فِي التَّدَاخُلِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ ، وَسَوَاءٌ قَلَّتْ الشِّجَاجُ أَوْ كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ أَرْشُهَا الدِّيَةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ آمَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَوَامَّ ، وَذَهَبَ مِنْهَا الشَّعْرُ أَوْ الْعَقْلُ يَدْخُلُ أَرْشُهَا فِي الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ .
وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَ أَوَامَّ يَدْخُلُ قَدْرُ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ ، وَيَجِبُ فِيهَا دِيَةٌ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَتْبَعُ الْقَلِيلَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ .
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ دِيَتَانِ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّدَاخُلَ فِي الشِّجَاجِ أَصْلًا وَرَأْسًا .
وَلَوْ سَقَطَ بِالْمُوضِحَةِ بَعْضُ شَعْرِ رَأْسِهِ يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَإِلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الشَّعْرِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ أَيُّهُمَا كَانَ لِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ لِمَعْنًى
وَاحِدٍ فَيَتَدَاخَلُ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي حَاجِبِهِ فَسَقَطَ وَلَمْ يَنْبُتْ يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي أَرْشِ الْحَاجِبِ ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِ الشَّعْرِ لِمَا قُلْنَا .
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ الشِّجَاجِ الْخَطَأِ ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ عَمْدًا فَذَهَبَ مِنْهَا الْعَقْلُ أَوْ الشَّعْرُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَمِمَّا يُلْحَقُ بِمَسَائِلِ التَّدَاخُلِ مَا إذَا قُطِعَتْ الْيَدُ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ أَوْ أُصْبُعَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْكَفُّ وَفِيهَا ثَلَاثُ أَصَابِعً فَصَاعِدًا تَجِبُ دِيَةُ الْأَصَابِعِ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْكَفُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَصَابِعِ لَا غَيْرُ ، وَلَا يَجِبُ لِأَجْلِ الْكَفِّ شَيْءٌ فَإِذَا بَقِيَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ فَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْكَفِّ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعً يَجِبُ أَرْشُ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مَفْصِلًا وَاحِدًا ، وَلَا يَجِبُ فِي الْكَفِّ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ شَيْءٌ لَهُ أَرْشٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ مَفْصِلًا وَاحِدًا دَخَلَ أَرْشُ الْيَدِ فِيهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَفِّ إلَّا ثُلُثُ مَفْصِلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَقَطَعَ إنْسَانٌ الْكَفَّ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْيَدِ .
وَلَوْ كَانَ فِيهَا إصْبَعٌ وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ خُمُسُ دِيَةِ الْيَدِ وَلَوْ كَانَ فِيهَا أُصْبُعَانِ فَعَلَيْهِ خُمُسَا دِيَةِ الْيَدِ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمَا يَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ أَيُّهُمَا كَانَ فَيُنْظَرُ إلَى حُكُومَةِ الْكَفِّ وَإِلَى أَرْشِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ فَيَدْخُلُ أَقَلُّهُمَا فِي أَكْثَرِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ يَتْبَعُ الْكَثِيرَ لَا عَكْسًا فَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ وَلَا يَدْخُلُ الْكَثِيرُ فِي الْقَلِيلِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ أَوْ مِنْ مَفَاصِلِهَا فَهُوَ أَصْلٌ لِأَنَّ لَهُ أَرْشًا مُقَدَّرًا ، وَالْكَفُّ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصَابِعِ فَيَتْبَعُهَا فِي أَرْشِهَا كَمَا يَتْبَعُ جَمِيعَ
الْأَصَابِعِ أَوْ أَكْثَرَهَا .
وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِي الْقَسَامَةِ أَنَّهُ مَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمُشْتَرِينَ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ فُلَانٍ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ فِي الْوَصِيَّةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا قَطَعَ كَفًّا لَا أَصَابِعَ فِيهَا فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا أَرْشَ أُصْبُعٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ يَتْبَعُهَا الْكَفُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالتَّبَعُ لَا يُسَاوِي الْمَتْبُوعَ فِي الْأَرْشِ .
وَلَوْ قَطَعَ الْيَدَ مَعَ الذِّرَاعِ مِنْ الْمَفْصِلِ خَطَأً فَفِي الْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ الدِّيَةُ ، وَفِي الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي قَوْلِهِمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ ، وَالذِّرَاعُ تَبَعٌ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } وَالْيَدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ إذَا اتَّصَلَ بِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ يَتْبَعُهُ فِي الْأَرْشِ كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَصَابِعِ ، وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لِلْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْأَصَابِعَ بِالْقَطْعِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَوْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ لَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ أَيْضًا فَلَوْ جَعَلَ الذِّرَاعَ تَبَعًا لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ ( وَإِمَّا ) أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْكَفِّ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوٌ فَاصِلٌ وَهُوَ الْكَفُّ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهَا ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ الْكَفَّ تَابِعَةٌ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَسْتَتْبِعُ غَيْرَهَا .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ مِنْ الْمَنْكِبِ ، وَالرِّجْلَ مِنْ الْوَرِكِ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ مِنْ الْعَضُدِ ، وَالرِّجْلَ مِنْ الْفَخِذِ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أَنَّ أَصَابِعَ الْيَدِ لَا يَتْبَعُهَا إلَّا الْكَفَّ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا غَيْرَ أَرْشِ الْكَفِّ .
وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الرِّجْلِ لَا يَتْبَعُهَا غَيْرُ الْقَدَمِ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا غَيْرُ أَرْشِ الْقَدَمِ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ مَا فَوْقَ الْكَفِّ مِنْ الْيَدِ تَبَعٌ .
وَكَذَا مَا فَوْقَ الْقَدَمِ مِنْ الرِّجْلِ تَبَعٌ فَيَدْخُلَ أَرْشُ التَّبَعِ فِي الْمَتْبُوعِ كَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي الْأَصَابِعِ .
( وَأَمَّا ) الْجِرَاحُ فَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } فَإِنْ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَهُمَا جَائِفَتَانِ وَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ .
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا رَمَى امْرَأَةً بِحَجَرٍ فَأَصَابَ فَرْجَهَا فَأَفْضَاهَا بِهِ بِأَنْ جَعَلَ مَوْضِعَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَاحِدًا ، وَهِيَ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَنَّ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْجَائِفَةِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُفْضَاةَ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً ( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ ، وَالْإِفْضَاءُ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ يَكُونَ بِالْآلَةِ ( وَإِمَّا ) أَنْ يَكُونَ بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْخَشَبِ أَوْ الْأُصْبُعِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وَالْإِفْضَاءُ بِالْآلَةِ فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً وَلَمْ يُوجَدْ دَعْوَى الشُّبْهَةِ لَا مِنْ الرَّجُلِ وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهُمَا ، وَلَا مَهْرَ عَلَى الرَّجُلِ لِأَنَّ الْعَقْرَ مَعَ الْحَدِّ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَا أَرْشَ لَهَا بِالْإِفْضَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ لَا تَسْتَمْسِكُ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ تَوَلَّدَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلهَا فَلَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ بِقَطْعِ يَدِهَا فَقُطِعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاطِعِ ، كَذَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَدَّعِي الشُّبْهَةَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَعَنْهَا أَيْضًا ، وَعَلَى الزَّوْجِ الْعَقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَاب حَدٍّ أَوْ غَرَامَةٍ ، وَلَا أَرْشَ لَهَا بِالْإِفْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الرَّجُلُ الشُّبْهَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ
الزِّنَا مِنْهُ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الزِّنَا مِنْهَا ، وَلَا عَقْرَ عَلَى الرَّجُلِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَالْحَدُّ مَعَ الْعَقْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ .
وَعَلَى الرَّجُلِ الْأَرْشُ بِالْإِفْضَاءِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهَا بِذَلِكَ ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَفِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْعُضْوِ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْحَبْسِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَدَّعِي الشُّبْهَةَ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ وَعَنْهَا أَيْضًا لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ وَلَهَا الْأَرْشُ بِالْإِفْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَلَهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا جَائِفَةٌ وَكَمَالُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ فَلَهَا الدِّيَةُ وَلَا مَهْرَ لَهَا فِي قَوْلِهِمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا الْمَهْرُ وَالدِّيَةُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالدِّيَةِ مُخْتَلِفٌ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْمَنْفَعَةِ وَالدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ الْعُضْوِ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمَهْرُ فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ مَعَ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، كَذَا هَذَا .
وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُتَّحِدٌ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ هَذَا الْعُضْوِ .
وَالْعَقْرُ يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَاءِ الْبُضْعِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا وَاحِدًا فَكَانَ الْمَهْرُ عِوَضًا عَنْ جُزْءٍ مِنْ الْبُضْعِ وَضَمَانُ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ وَاحِدٌ يَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ فِي ضَمَانِ الْكُلِّ كَالْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَقْرُ ، وَيَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا وُجُوبُ كَمَالِ الْمَهْرِ مَعَ ثُلُثِ الدِّيَةِ حَالَةَ الِاسْتِمْسَاكِ فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَلْ الْأَقَلُّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ كَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ الشَّعْرِ فَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةً .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِضَمَانِ الْجُزْءِ هُوَ ضَمَانُ كُلِّ الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدِّيَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ لَا يَمْنَعُ ضَمَانَ جُزْءٍ وَاحِدٍ هَذَا إذَا كَانَ الْإِفْضَاءُ بِالْآلَةِ ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ فَالْجَوَابُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ كَالْجَوَابِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ وَعَدَمُ الْجَمْعِ إلَّا أَنَّ الْأَرْشَ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَجِبُ فِي مَالِهِ ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ بِالْآلَةِ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ وَبِغَيْرِهَا يَكُونُ عَمْدًا .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْمَهْرِ فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ وَيُلْحَقُ غَيْرُ الْآلَةِ بِالْآلَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْأَبْضَاعِ كَمَا أُلْحِقَ الْإِيلَاجُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ بِالْإِيلَاجِ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَعَ قِيَامِ شُبْهَةِ الْقُصُورِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْفُرُوجِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فَأَفْضَاهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ لَا تَسْتَمْسِكُ فِي قَوْلِهِمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْإِفْضَاءِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِفْضَاءِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ( وَلَهُمَا ) أَنَّ الْوَطْءَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَالْبَكَارَةِ
.
وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِفْضَاءِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْقَتْلِ ، وَهَذَا قَتْلٌ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ ضَمَانَ هَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَضَمَانَ الْإِفْضَاءِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ عَنْ الْمُعْتَادِ فَكَانَ عَمْدًا فَكَانَ الْوَاجِبُ بِهِ فِي مَالِهِ ( فَأَمَّا ) الْقَتْلُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَذَا الْفِعْلِ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَتَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ( وَأَمَّا ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِفْضَاءِ .
وَلَوْ وَطِئَهَا فَكَسَرَ فَخِذَهَا ضَمِنَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بَلْ هُوَ فِعْلٌ مُبْتَدَأٌ فَكَانَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا مَحْضًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) سَائِرُ جِرَاحِ الْبَدَنِ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الشَّجَّةِ ، وَإِنْ مَاتَ فَالْجِرَاحَةُ لَا تَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ ( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَتْ مِنْ عَدَدٍ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ فَفِيهَا الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا ، وَالدِّيَةُ إنْ كَانَتْ خَطَأً .
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ عَدَدٍ فَالْجِرَاحَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنْ أَعْدَادٍ ( إمَّا ) أَنْ كَانَتْ كُلَّهَا مَضْمُونَةً ( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ بَعْضُهَا مَضْمُونًا وَالْبَعْضُ غَيْرَ مَضْمُونٍ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَضْمُونًا بِأَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى خَطَأً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، وَسَوَاءٌ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً ، وَالْآخَرُ جَرَحَهُ جِرَاحَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْجَارِحِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَسْلَمُ مِنْ عَشَرَةٍ ، وَقَدْ يَمُوتُ مِنْ عَشَرَةٍ وَيَسْلَمُ مِنْ وَاحِدَةٍ حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ ، وَآخَرُ ثَلَاثًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَعَفَا الْمَجْرُوحُ لِلْجَارِحِ عَنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَشْرِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَعَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ الرُّبُعَ ، وَيَسْقُطُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ الْوَاحِدَةُ كَالْعَشْرِ فِي الضَّمَانِ ثُمَّ لَمَّا عَفَا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْ
الْجِرَاحَاتِ الْعَشْرِ انْقَسَمَتْ الْعَشْرُ فَيَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا فَصَارَ لِتِسْعَةٍ مِنْهَا الرُّبْعُ وَلِلْوَاحِدَةِ الرُّبْعُ فَسَقَطَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ الرُّبُعُ وَبَقِيَ الرُّبُعُ تَبَعًا لِلتِّسْعَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَضْمُونًا ، وَالْبَعْضُ غَيْرَ مَضْمُونٍ يَنْقَسِمُ الضَّمَانُ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَيَبْقَى بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ سَبُعٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَنِصْفُهَا هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ فَسَقَطَ بِقَدْرِ غَيْرِ الْمَضْمُونِ وَبَقِيَ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ الرَّجُلُ جِرَاحَتَيْنِ وَالسَّبُعُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً أَوْ جَرَحَهُ السَّبُعُ جِرَاحَتَيْنِ وَالرَّجُلُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْجِرَاحَةِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَعَقَرَهُ سَبُعٌ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ ، وَخَرَجَ بِهِ خُرَّاجٌ ، وَأَصَابَهُ حَجَرٌ رَمَتْ بِهِ الرِّيحُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حُكْمٌ يَلْزَمُ أَحَدًا كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَيَلْزَمُ الرَّجُلَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيَبْطُلُ نِصْفُهَا ، سَوَاءٌ كَثُرَ عَدَدُ الْهَدْرِ أَوْ قَلَّ ، هُوَ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْهَدْرَ لَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَجِرَاحَاتِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إنَّهَا فِي الْحُكْمِ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ يَلْزَمُ فَاعِلَهُ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَيُهْدَرُ الثُّلُثُ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَدْرَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَإِنْ كَثُرَ فَهُوَ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ جِرَاحَتَيْ الرَّجُلَيْنِ مَضْمُونَةٌ فَقَدْ مَاتَ مِنْ ثَلَاثِ جِرَاحَاتِ جِرَاحَتَانِ مِنْهَا مَضْمُونَتَانِ وَجِرَاحَةٌ هَدَرٌ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ قَدْرُ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَهُوَ الثُّلُثُ وَيَبْقَى قَدْرُ الْمَضْمُونِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْجُنَاةِ جِنَايَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ مَا يَخُصُّهُ عَلَى جِنَايَاتِهِ بَعْدَ مَا قَسَّمَ عَدَدَ الْجِنَايَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِعِلَّةٍ بِهَا ثُمَّ إنَّ الْمَأْمُورَ جَرَحَ الْآمِرَ جِرَاحَةً أُخْرَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ جَرَحَهُ رَجُلَانِ آخَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِرَاحَةً ثُمَّ عَقَرَهُ سَبُعٌ ثُمَّ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ ، وَخَرَجَ بِهِ خُرَّاجٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ ؛ لِأَنَّ الْهَدَرَ مِنْ الْجِنَايَاتِ لَهَا حُكْمُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجِرَاحَتَا الْمَأْمُورِ وَإِنْ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَإِنَّهُمَا حَصَلَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا فِي حَقِّ شُرَكَائِهِ إلَّا حُكْمَ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ الدِّيَةِ أَرْبَاعًا ، هُدِرَ الرُّبْعُ مِنْهَا وَبَقِيَتْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ تُقَسَّمُ عَلَى الْجِنَايَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبْعُ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمَأْمُور بِالْقَطْعِ تُقَسَّمُ حِصَّتُهُ ، وَهِيَ الرُّبْعُ عَلَى جِرَاحَتَيْهِ فَإِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ ، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَجْرُوحِ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا بِأَمْرِهِ ، وَهِيَ الْقَطْعُ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَهُوَ نِصْفُ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ ، وَبَقِيَ قَدْرُ مَا هُوَ مَضْمُونُ وَهُوَ نِصْفُ الرُّبْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الثُّمُنُ الْآخَرُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَشَرَةً أَنْ يَضْرِبُوا عَبْدَهُ أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَضْرِبَهُ سَوْطًا فَضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ رَجُلٌ آخَرُ - لَمْ يَأْمُرْهُ - سَوْطًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ أَرْشُ السَّوْطِ الَّذِي ضَرَبَهُ مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشْرَ سَوْطًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ( أَمَّا ) وُجُوبُ أَرْشِ السَّوْطِ الَّذِي ضَرَبَهُ فَلِأَنَّهُ نَقَصَهُ بِالضَّرْبِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ( وَأَمَّا ) اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَلِأَنَّهُ ضَرَبَهُ بَعْدَمَا اُنْتُقِصَ مِنْ ضَرْبِ الْعَشَرَةِ ، وَذَلِكَ حَصَلَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَهُ سَوْطُهُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ ، وَهُوَ مَضْرُوبٌ عَشَرَةً فَيُقَوَّمُ وَهُوَ غَيْرُ مَضْرُوبٍ وَيُقَوَّمُ وَهُوَ مَضْرُوبٌ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَيَلْزَمُ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ ذَلِكَ الْقَدْرَ ( وَأَمَّا ) وُجُوبُ جُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا كُلُّ سَوْطٍ حَصَلَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ حُكْمٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ الْآدَمِيُّ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عَلَى عَدَدِهِمْ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعَشَرَةَ سَقَطَ عَنْهُمْ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَمَا أَصَابَ الْحَادِيَ عَشَرَ ضَمِنَهُ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ لِأَنَّهُ ضَرَبَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ( وَأَمَّا ) اعْتِبَارُ تَضْمِينِهِ مَضْرُوبًا بِأَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا فَلِأَنَّ الْبَعْضَ الْحَاصِلَ بِضَرْبِ الْعَشَرَةِ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ( وَأَمَّا ) السَّوْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ فَلِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ نُقْصَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهُ ثَانِيًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ نُقْصَانُ السَّوْطِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانُ الْجُزْءِ ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ
إذَا تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَهُ وَاحِدٌ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ دُونَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ هُنَاكَ ضَمَانُ جُزْءٍ وَضَمَانُ كُلٍّ فَيَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ فِي ضَمَانِ الْكُلِّ لِاتِّحَادِ سَبَبِ الضَّمَانَيْنِ هَذَا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى عَشَرَةً أَنْ يَضْرِبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَوْطًا فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ بِيَدِهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوْطًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ مَا نَقَصَهُ السَّوْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا أَمَّا وُجُوبُ ضَمَانِ نُقْصَانِ السَّوْطِ ، وَاعْتِبَارُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا ( وَأَمَّا ) وُجُوبُ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سَوْطَيْنِ فِي الْحَاصِلِ ؛ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَسْوَاطِ الْعَشَرَةِ مِنْ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَالْجِنَايَاتُ مِنْ وَاحِدٍ وَإِنْ كَثُرَتْ فَهِيَ فِي حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سَوْطَيْنِ سَوْطِ الْمَوْلَى وَسَوْطِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَسَوْطُ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَضْمُونٍ ، وَسَوْطُ الْأَجْنَبِيِّ مَضْمُونٌ فَسَقَطَ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَثَبَتَ نِصْفُهَا ( وَأَمَّا ) اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا وَعَدَمُ دُخُولِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
رَجُلٌ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَجْرَحَهُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً فَجَرَحَهُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى وَاحِدَةً بِغَيْرِ أَمْرٍ ثُمَّ عَفَا الْمَجْرُوحُ لِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْ التِّسْعِ الَّتِي كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ ثُمُنُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ تَعَلَّقَ بِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِأَمْرِ الْمَجْرُوحِ فَصَارَ عَلَيْهِ الرُّبُعُ ثُمَّ انْقَسَمَ ذَلِكَ بِالْعَفْوِ فَسَقَطَ نِصْفُهُ ، وَهُوَ الثُّمُنُ ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ الثُّمُنُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا ذَكَرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أُنْثَى حُرَّةً فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْهَا بِدِيَتِهَا كَدِيَتِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِيمَا كَانَ أَرْشُهُ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ كَالسِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ أَيْ مَا كَانَ أَرْشُهُ هَذَا الْقَدْرَ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا أَيْ أَرْشُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا سَوَاءٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَيَرْوُونَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا } وَهَذَا نَصٌّ لَا يَتَحَمَّلُ التَّأْوِيلَ .
وَاحْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ الْغُرَّةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى فِي الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ } وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَلَمْ يَفْصِلْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ أَرْشِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي هَذَا الْقَدْرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ بِنِصْفِ بَدَلِ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، فَكَذَا بَدَلُ مَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الْمُنَصِّفَ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْأُنُوثَةُ ، وَلِهَذَا يُنَصَّفُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَكَذَا الثُّلُثُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِقِلَّةِ الْأَرْشِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجِنَايَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ أُصْبُعَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ : فِيهَا عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ، قَالَ : فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةً ؟ قَالَ : فَفِيهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِل ، قَالَ : فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةً ؟ فَقَالَ : عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِل ، فَقَالَ رَبِيعَةُ : لَمَّا كَثُرَتْ جُرُوحُهَا ، وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا قَلَّ أَرْشُهَا ؟ فَقَالَ : أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ ؟ قَالَ : لَا ، بَلْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ أَوْ عَالِمٌ مُتَبَيِّنٌ ، فَقَالَ : هَكَذَا السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي .
وَعَنَى بِهِ سُنَّةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَشَارَ رَبِيعَةُ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى ، وَقَبْلَهُ سَعِيدٌ حَيْثُ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ وَأَحَالَ الْحُكْمَ إلَى السُّنَّةِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ رِوَايَتَهُمْ عَنْهُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ تَصِحَّ إذْ لَوْ صَحَّتْ لَمَا اشْتَبَهَ الْحَدِيثُ عَلَى مِثْلِ سَعِيدٍ ، وَلِأَحَالَ الْحُكْمُ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إلَى سُنَّةِ زَيْدٍ فَدَلَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي أَرْشِ الْجَنِينِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَرْشِ الْمَوْلُودِ ، وَالْحَدِيثُ سَاكِتٌ عَنْ بَيَانِهِ ، ثُمَّ نَقُولُ : اُحْتُمِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْصِلْ فِي الْجَنِينِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ
لَا يَخْتَلِفُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا فَالْأَصْلُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ قَدْرٌ مِنْ الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فِيهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ قِيمَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ أَوْ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ يَجِبُ النُّقْصَانُ ، وَعِنْدَهُمَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَجِبُ النُّقْصَانُ فَيُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ ، وَيُقَوَّمُ غَيْرَ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ الْجَانِي فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَوَجْهَ قَوْلِهِمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِيمَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي فِي عَمْدِهَا الْقِصَاصُ ، وَمَا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، وَاَلَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْأَحْرَارِ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فِي الذُّكُورِ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فِي الْإِنَاثِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لِتَفْرِيطٍ مِنْهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى التَّحَمُّلَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْشِ الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهُوَ الْغُرَّةُ ، وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُ ضَمَانَ الْمَالِ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَرْشُ الْأُنْمُلَةِ فَإِنَّ لَهَا أَرْشًا مُقَدَّرًا ، هُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ الْأُنْمُلَةَ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْإِصْبَعِ فَكَانَتْ جُزْءًا مِمَّا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَهُوَ الْإِصْبَعِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ثُمَّ مَا كَانَ أَرْشُهُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ يُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِكَمَالِ الدِّيَةِ فَإِنَّ كُلَّ الدِّيَةِ تُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ
سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا فَكُلَّمَا كَانَ مِنْ الْأَرْشِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ يُؤْخَذُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ فِي الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ هَكَذَا فَإِذَا ازْدَادَ الْأَرْشُ عَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ فَقَدْرُ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ فِي سَنَةٍ ، وَالزِّيَادَةُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ فِي كُلِّ الدِّيَةِ تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَتْ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَالثُّلُثَانِ فِي سَنَتَيْنِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِي السَّنَةِ قِيَاسًا عَلَى كُلِّ الدِّيَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ حُكْمُ الْأَمْوَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ ، وَضَمَانُ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحُكُومَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ : فِي .
بَيَانِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْحُكُومَةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ اعْتِبَارُهَا بِإِيجَابِ الْجَابِرِ أَوْ الزَّاجِرِ مَا أَمْكَنَ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : فِي كَسْرِ الْعِظَامِ كُلِّهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إلَّا السِّنَّ خَاصَّةً لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا سِوَى السِّنِّ مُتَعَذَّرٌ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ ، وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِي السِّنِّ ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ فِيهَا بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ أَيْضًا فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الْحُكُومَةُ .
وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الذَّاهِبِ نُورُهَا وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ - حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَهُنَا الْمَنْفَعَةُ ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَلَا زِينَةَ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ الذَّاهِبَ نُورُهَا لَا جَمَالَ فِيهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَنْفَعَةُ ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ فِيهَا تَابِعٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ الْأَرْشُ لِأَجْلِهِ .
وَفِي الْإِصْبَعِ وَالسِّنِّ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهَا ، وَلَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ وَالزِّينَةِ لَكِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النَّفْسِ ، وَأَجْزَاءُ النَّفْسِ مَضْمُونَةٌ مَعَ عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ وَالزِّينَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَأَمَّا ) الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَمْشِ وَلَمْ يَقْعُدْ وَرِجْلُهُ وَلِسَانُهُ وَأُذُنَهُ وَأَنْفُهُ وَعَيْنُهُ وَذَكَرُهُ : فَفِي أَنْفِهِ
وَأُذُنِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إذَا كَانَ يُحَرِّكُهُمَا .
وَكَذَا فِي ذَكَرِهِ إذَا كَانَ يَتَحَرَّكُ ، وَفِي لِسَانِهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لَا الدِّيَةُ وَإِنْ اسْتَهَلَّ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صِيَاحٌ وَأَمَّا الْعَيْنَانِ فَإِنْ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِشَيْءٍ عَلَى بَصَرِهِمَا فَفِيهِمَا مِثْلُ عَيْنِ الْكَبِيرِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ( أَمَّا ) الْأَنْفُ وَالْأُذُنُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا الْجَمَالُ لَا الْمَنْفَعَةُ ، وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الصَّغِيرِ بِكَمَالِهِ كَمَا يُوجَدُ فِي الْكَبِيرِ ( وَأَمَّا ) الْأَعْضَاءُ الَّتِي يُقْصَدَ بِهَا الْمَنْفَعَةُ فَلَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشٌ كَامِلٌ حَتَّى يُعْلَمَ صِحَّتُهَا بِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ كَامِلٌ فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ يَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كَمَالِ الْأَرْشِ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَصْلَ هُوَ الصِّحَّةُ وَالْآفَةُ عَارِضٌ فَكَانَتْ الصِّحَّةُ ثَابِتَةً ظَاهِرًا لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ هَذَا الْأَصْلَ فِي الصَّغِيرِ بَلْ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً فَمَا لَمْ يُعْلَمْ صِحَّةُ الْعُضْوِ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَعَارِضٌ لِأَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْجَانِي أَصْلٌ أَيْضًا فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِالْأَصْلِ عَلَى الصِّحَّةِ عَلَى أَنَّ الصِّحَّةَ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً ظَاهِرًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةُ الدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا تَصْلُحُ لِدَفْعِ الْإِرْثِ لَا لِاسْتِحْقَاقِهِ ، وَفِي الظُّفْرِ إذَا نَبَتَ لَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالزِّينَةُ .
وَإِنْ مَاتَ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَكَذَا إذَا نَبَتَ عَلَى عَيْبٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ دُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ عِوَضٌ
عَنْ الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ وَدَخَلَهُ عَيْبٌ ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا نَبَتَ أَسْوَدُ إنَّ فِيهِ حُكُومَةً لِمَا أَصَابَ مِنْ الْأَلَمِ بِالْجِرَاحَةِ الْأُولَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْأَلَمَ مَضْمُونٌ .
وَفِي ثَدْيِ الرَّجُلِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا أَرْشَ مُقَدَّرٌ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا جَمَالَ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيهِمَا ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَفِي حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ حُكْمُ عَدْلٍ دُونَ مَا فِي ثَدْيَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَثَدْيُ الْمَرْأَةِ تَبَعٌ لِلْحَلَمَةِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ الْحَلَمَةَ ثُمَّ الثَّدْيَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْحَلَمَةِ وَالْحُكُومَةُ فِي الثَّدْيِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الثَّدْيِ الرَّضَاعُ وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقَطْعِ الْحَلَمَةِ .
وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَعَ الْمَارِنِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ دُونَ الْأَنْفِ تَجِبُ الدِّيَةُ .
وَلَوْ قَطَعَ مَعَ الْمَارِنِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ .
وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ ثُمَّ الْأَنْفَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ فَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْأَنْفِ الْحُكُومَةُ ، وَكَذَلِكَ الْجَفْنُ مَعَ الْأَشْفَارِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ الشَّفْرَ بِدُونِ الْجَفْنِ يَجِبُ الْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ .
وَلَوْ قَطَعَ الْجَفْنَ مَعَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ الْأَرْشُ كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ وَلَوْ قَطَعَ الشَّفْرَ ثُمَّ الْجَفْنَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ فِي الشَّفْرِ أَرْشُهُ .
وَفِي الْجَفْنِ الْحُكُومَةُ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّفْرَ وَهُوَ كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ ، وَقَطَعَ الْجَفْنَ وَهُوَ نَاقِصُ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا الْأَرْشُ النَّاقِصُ ، وَهُوَ الْحُكُومَةُ وَلَوْ قَطَعَ أَنْفًا مَقْطُوعَ الْأَرْنَبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَنْفِ الْجَمَالُ ، وَقَدْ نَقَصَ جَمَالُهُ بِقَطْعِ الْأَرْنَبَةِ فَيَنْتَقِصُ أَرْشُهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ كَفًّا مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَفِّ الْبَطْشُ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْأَصَابِعِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ ذَكَرًا مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ تَزُولُ بِزَوَالِهَا فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ ( وَلَوْ ) قَطَعَ الذَّكَرَ ، وَالْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا بِأَنْ قَطَعَهُمَا مِنْ جَانِبٍ عَرْضًا يَجِبُ دِيَتَانِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْجِمَاعِ بِقَطْعِ الذَّكَرِ وَمَنْفَعَةَ الْإِنْزَالِ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي قَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ بِأَنْ قَطَعَهُمَا طُولًا فَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ أَوَّلًا تَجِبُ دِيَتَانِ أَيْضًا : دِيَةٌ بِقَطْعِ الذَّكَرِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِمَاعِ ، وَدِيَةٌ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ الذَّكَرِ لَا تَنْقَطِعُ مَنْفَعَةُ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ الْإِنْزَالُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ
يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِ الذَّكَرِ ، وَإِنْ بَدَأَ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ الذَّكَرِ فَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأُنْثَيَيْنِ كَانَتْ كَامِلَةً وَقْتَ قَطْعِهِمَا ، وَمَنْفَعَةُ الذَّكَرِ تَفُوتُ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْزَالُ بَعْدَ قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَنَقَصَ أَرْشُهُ وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ رَجُلٍ فَنَبَتَ أَبْيَضَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَقَالَ ) أَبُو يُوسُفَ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَفِيهِ مَا نَقَصَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّعْرِ الزِّينَةُ ، وَالزِّينَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْرَارِ ، وَلَا زِينَةَ فِي الشَّعْرِ الْأَبْيَضِ فَلَا يَقُومُ النَّابِتُ مَقَامَ الْفَائِتِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّيْبَ فِي الْأَحْرَارِ لَيْسَ بِعَيْبٍ بَلْ هُوَ جَمَالٌ وَكَمَالٌ فَلَا يَجِبُ بِهِ أَرْشٌ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ فَإِنَّ الشَّيْبَ فِيهِمْ عَيْبٌ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُنْقِصُ الثَّمَنَ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْجَانِي ؟ .
وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ ( وَكَذَلِكَ ) رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَالشَّرْعُ مَا وَرَدَ فِيهِ بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ ، وَالْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمُتَلَاحِمَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى بَلْ إلَى الِاسْمِ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَّةُ الَّتِي قَبْلَ الْبَاضِعَةِ أَقَلَّ مِنْهَا أَرْشًا .
وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الشَّجَّةِ الَّتِي ذَهَبَتْ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَهَبَتْ الْبَاضِعَةُ زَائِدًا عَلَى أَرْشِ الْبَاضِعَةِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَارَةِ .
وَفِيمَا سِوَى الْجَائِفَةِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي فِي الْبَدَنِ إذَا انْدَمَلَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيهِ أَرْشُ الْأَلَمِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُجْرَةُ الطَّبِيبِ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ بَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَكَذَا فِي شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يَنْبُتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَإِنْ نَبَتَ لَا شَيْءَ فِيهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) تَفْسِيرُ الْحُكُومَةِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ وَغَيْرَ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ نُقْصَانُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا جِنَايَةَ بِهِ ، وَيُقَوَّمُ وَبِهِ الْجِنَايَةُ فَيُنْظَرُ كَمْ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْقَدْرُ مِنْ الدِّيَةِ ( وَقَالَ ) الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقَرَّبُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ إلَى أَقْرَبِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ هَهُنَا فِي قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا وَيَحْكُمُ مِنْ الْأَرْشِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ ( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَيُقَدَّرُ الْعَبْدُ حُرًّا فَمَا أَوْجَبَ نَقْصًا فِي الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِهِ الْحُرُّ .
وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ : هَذَا يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ فَظِيعٍ ، وَهُوَ أَنْ يَجِبَ فِي قَلِيلِ الشِّجَاجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي كَثِيرِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ شَجَّةِ السِّمْحَاقِ فِي الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ قِيمَتِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ لَأَوْجَبْنَا فِي السِّمْحَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الْجَنِينُ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى بَطْنِ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَنِينَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا بِأَنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً عَلِقَتْ مِنْ مَوْلَاهَا أَوْ مِنْ مَغْرُورٍ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَإِمَّا أَنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ الْغُرَّةُ .
وَالْكَلَامُ فِي .
الْغُرَّةِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا وَفِي تَفْسِيرِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ لَهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْغُرَّةُ وَاجِبَةٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ الْحَيَاةُ بَعْدُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ شَيْءٌ إلَّا نُقْصَانُ الْبَهِيمَةِ ، كَذَا هَذَا ، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ } وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ اُخْتُصِمَ إلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ الْجَنِينَ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ تَعَالَى هَلْ سَمِعْتُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ وَقَالَ فِيهِ : فَقَامَ عَمُّ الْجَنِينِ فَقَالَ إنَّهُ أَشْعَرَ ، وَقَامَ وَالِدُ الضَّارِبَةِ فَقَالَ : كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ ، وَدَمُ مِثْلِ ذَلِكَ يُطَلُّ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ .
وَرُوِيَ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ ، فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ } ، فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ شَهِدَ مَعَكَ بِهَذَا ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ فَشَهِدَ ، فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهَا بِرَأْيِنَا وَفِيهَا سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ أَيْضًا حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ
وَلِأَنَّ الْجَنِينَ إنْ كَانَ حَيًّا فَقَدْ فَوَّتَ الضَّارِبُ حَيَاتَهُ ، وَتَفْوِيتُ الْحَيَاةِ قَتْلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فَقَدْ مَنَعَ مِنْ حُدُوثِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَضْمَنُ كَالْمَغْرُورِ لَمَّا مَنَعَ مِنْ حُدُوثِ الرِّقِّ فِي الْوَلَدِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِالْغُرَّةِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ .
وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَنِينٍ إنَّمَا هُوَ مُضْغَةٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِمَا قُلْنَا .
وَلِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ يَتَعَذَّرُ الْفَصْلُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِيهِ .
( وَأَمَّا ) تَفْسِيرُ الْغُرَّةِ فَالْغُرَّةُ فِي اللُّغَةِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَذَا فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ } فَسَّرَ الْغُرَّةَ بِالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةٍ } .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى فَصَارَتْ الْغُرَّةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمًا لِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ يَعْدِلُ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ بِخَمْسِمِائَةٍ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَقْدِيرُ الْغُرَّةِ بِالْخَمْسِمِائَةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَقْدِرَةٌ بِسِتِّمِائَةٍ .
وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الدِّيَةِ فَالدِّيَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عِنْدَنَا مَقْدِرَةٌ بِعَشْرَةِ آلَافٍ فَكَانَ نِصْفُ عُشْرِهَا خَمْسَمِائَةٍ وَعِنْدَهُ مُقَدَّرَةٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَكَانَ نِصْفُ عُشْرِهَا سِتَّمِائَةٍ ثُمَّ ابْتَدَأَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةٍ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ فَالْغُرَّةُ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ عَاقِلَةَ الضَّارِبَةِ قَالُوا : أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ ، وَدَمُ مِثْلِ هَذَا بَطَلَ ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِالدِّيَةِ كَانَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ أَضَافُوا الدِّيَةَ إلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَلِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسٍ فَكَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالدِّيَةِ ( وَأَمَّا ) مَنْ تَجِبُ لَهُ فَهِيَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْجَنِينِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا لَا تُورَثُ وَهِيَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأُمِّ فَكَانَ الْأَرْشُ لَهَا كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْغُرَّةَ بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مِيرَاثًا كَالدِّيَةِ ( وَالدَّلِيلُ ) عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ لَا بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ أُمِّ الْوَلَدِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ جَنِينَ أُمِّ الْوَلَدِ جُزْءٌ وَلَوْ كَانَ فِي حُكْمِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْأُمِّ لَكَانَ جُزْءًا مِنْ الْأُمِّ حُرًّا ، وَبَقِيَّةُ أَجْزَائِهَا أَمَةً ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ( وَالدَّلِيلُ ) عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى بِدِيَةِ الْأُمِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ } ، وَلَوْ كَانَ فِي مَعْنَى أَجْزَاءِ الْأُمِّ لَمَا أَفْرَدَ الْجَنِينَ بِحُكْمٍ بَلْ دَخَلَتْ الْغُرَّةُ فِي دِيَةِ الْأَمَةِ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْأُمِّ فَمَاتَتْ أَنَّهُ تَدْخُلُ دِيَةُ الْيَدِ فِي النَّفْسِ .
وَكَذَا لَمَّا أَنْكَرَتْ عَاقِلَةُ الضَّارِبَةِ حَمْلَ الدِّيَةِ إيَّاهُمْ فَقَالَتْ : أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ
وَمِثْلُ دَمِهِ يُطَلُّ ؟ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي أَوْجَبْت ذَلِكَ بِجِنَايَةِ الضَّارِبَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا بِجِنَايَتِهَا عَلَى الْجَنِينِ وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْأَرْشِ فِيهِ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ لَرُفِعَ إنْكَارُهُمْ بِمَا قُلْنَا فَدَلَّ أَنَّ الْغُرَّةَ وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ لَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأُمِّ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِنَفْسِهِ لَا بِالْأُمِّ .
وَلَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْئًا لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَسْبَابِ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الضَّارِبِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الضَّارِبَةِ لَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ مَعَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقُ بِالْقَتْلِ وَأَوْصَافٍ أُخْرَى لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهَا فِي الْجَنِينِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أَيْ كَانَ الْمَقْتُولُ ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَكَذَا إيمَانُهُ وَكُفْرُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ( أَمَّا ) الْحَقِيقَةُ فَلَا شَكَّ فِي انْتِفَائِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَتَحَقَّقَانِ مِنْ الْجَنِينِ .
وَكَذَلِكَ حُكْمًا لِأَنَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ وَلَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ ، وَالْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْجَنِينِ الَّذِي أُلْقِيَ مَيِّتًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِ الْمُطْلَقَةِ ، وَالْجَنِينُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ مَعَ مَا أَنَّ الضَّرْبَ لَوْ وَقَعَ قَتْلُ نَفْسٍ لَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً .
وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : وَلَا كَفَّارَة عَلَى الضَّارِبِ وَإِنْ سَقَطَ كَامِلَ الْخَلْقِ مَيِّتًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَاجِبٌ وَلْيَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا يَشَاءُ إنْ اسْتَطَاعَ
وَيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا صَنَعَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا فَنُدِبَ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِالْكَفَّارَةِ لِمَحْوِهِ هَذَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ، فَأَمَّا إذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً لَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْهَا شَيْئًا ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ( أَمَّا ) حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ فَلِمَا قُلْنَا وَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ فَحَصَلَ الضَّرْبُ قُتِلَ النَّفْسُ ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ هَذَا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا وَاحِدًا .
فَأَمَّا إذَا أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ فَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُرَّةٌ ، وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِتْلَافُ إلَّا أَنَّهُ أَتْلَفَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَنْ أَتْلَفَ شَخْصَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالضَّرْبِ كَمَا فِي الْكَبِيرَيْنِ فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ فِي الْمَيِّتِ الْغُرَّةُ وَفِي الْحَيِّ الدِّيَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ الْمَيِّتِ وَالدِّيَةِ فِي الْجَنِينِ الْحَيِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْجَمْعُ فِي الْإِتْلَافِ وَالْإِفْرَادِ فِيهِ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبَةِ وَخَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَدِيَةٌ فِي الْجَنِينِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِمَا وَهُوَ قَتْلُ شَخْصَيْنِ .
فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُمِّ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَنِينِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَنِينِ الْغُرَّةُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ إنْ أَتْلَفهُمَا جَمِيعًا فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى كَوْنُ الْجَنِينِ مَضْمُونًا أَصْلًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ احْتِمَالِ عَدَمِ الْحَيَاةِ ، وَازْدَادَ هَهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِالضَّرْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِمَوْتِ الْأُمِّ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الضَّمَانَ فِيهِ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالضَّمَانِ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَهِيَ مَا إذَا خَرَجَ مَيِّتًا قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي فِي نَفْيِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْجَنِينُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ رَقِيقًا فَإِنْ خَرَجَ فَفِيهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ
ذَكَرًا ، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ مَا نَقَصَ الْأُمَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ .
أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْعَبْدِ ضَمَانُ النَّفْسِ أَمْ ضَمَانُ الْمَالِ ؟ فَعَلَى أَصْلِهِمَا ضَمَانُ النَّفْسِ حَتَّى قَالَا أَنَّهُ لَا تُزَادُ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ تَنْقُصُ هَهُنَا .
وَكَذَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضَمَانُهَا ضَمَانُ الْمَالِ حَتَّى قَالَ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَصَارَ جَنِينُهَا كَجَنِينِ الْبَهِيمَةِ ، وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ كَذَا هَهُنَا ( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ أَمْ بِأُمِّهِ ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِأُمِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ ضَمَانَ جَنِينِ الْحُرَّةِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ .
وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِأُمِّهِ لَسَلِمَ لَهَا كَمَا يَسْلَمُ لَهَا أَرْشُ عُضْوِهَا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَنِينَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ ضَمَانٌ فَهَذَا الِاعْتِبَارُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ رَقِيقًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ خَمْسُمِائَةٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ وَعُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى ، وَالْقِيمَةُ فِي الرَّقِيقِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنِينِ الرَّقِيقِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا اعْتِبَارًا بِالْحُرِّ وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى اعْتِبَارًا بِالْحُرَّةِ .
وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قِيمَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا
فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أَوْ جَنِينَيْنِ حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ مَا فِيهِ حَالَ الِانْفِرَادِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ ضَمَانُهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبِ وَخَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ فِي الْأُمِّ وَقِيمَةٌ فِي الْجَنِينِ ، وَإِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ فَعَلَيْهِ فِي الْأُمِّ الْقِيمَةُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَنِينِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ الْغُرَّةُ فَفِي الرَّقِيقِ نَصِفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِي الْمَضْرُوبَةِ - إذَا كَانَتْ حُرَّةً - الدِّيَةُ فَفِي الْأَمَةِ الْقِيمَةُ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ هُنَاكَ شَيْءٌ لَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ يَكُونُ فِي مَالِ الضَّارِبِ يُؤْخَذُ مِنْهُ حَالًّا وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَالْوَاجِبُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَاقِلِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالتَّحَمُّلِ فِي الْغُرَّةِ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الْخُنْثَى ) ( الْكَلَامُ ) فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي تَفْسِيرِ الْخُنْثَى ، وَفِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ ، أَوْ أُنْثَى ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ .
( أَمَّا الْأَوَّلُ ) فَالْخُنْثَى مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى حَقِيقَةً ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُنْثَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ ، أَوْ أُنْثَى ، فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَلَامَةِ ، وَعَلَامَةُ الذُّكُورَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَبَاتُ اللِّحْيَةِ ، وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى النِّسَاءِ وَعَلَامَةُ الْأُنُوثَةِ فِي الْكِبَرِ نُهُودُ ثَدْيَيْنِ كَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَنُزُولُ اللَّبَنِ فِي ثَدْيَيْهِ وَالْحَيْضُ وَالْحَبَلُ ، وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهَا مِنْ فَرْجِهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا يَخْتَصُّ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَكَانَتْ عَلَامَةً صَالِحَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ فَالْمَبَالُ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ } ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الذُّكُورِ فَهُوَ ذَكَرٌ ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهُوَ أُنْثَى " وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُحَكَّمُ السَّبْقُ ؛ لِأَنَّ سَبْقَ الْبَوْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَخْرَجُ الْأَصْلِيُّ وَأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْآخَرِ بِطَرِيقِ الِانْحِرَافِ عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ : هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ وَاجِبٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : تُحَكَّمُ الْكَثْرَةُ ؛ لِأَنَّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَخْرَجِ الْأَصْلِيِّ كَالسَّبْقِ فَيَجُوزُ تَحْكِيمُهُ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ كَثْرَةَ الْبَوْلِ وَقِلَّتَهُ لِسَعَةِ الْمَحِلِّ وَضَيْقِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ، بِخِلَافِ السَّبَقِ ، وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي تَحْكِيمِ الْكَثْرَةِ لَمْ يَرْضَ بِهِ ، وَقَالَ : هَلْ رَأَيْت حَاكِمًا يَزِنُ الْبَوْلَ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا تَوَقَّفَا أَيْضًا ، وَقَالَا هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَهُ فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ : حُكْمُ الْخِتَانِ وَحُكْمُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
أَمَّا حُكْمُ الْخِتَانِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَنْ تَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَلَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ مَالِهِ جَارِيَةً تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُنْثَى فَالْأُنْثَى تُخْتَنُ بِالْأُنْثَى عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَتَخْتِنُهُ أَمَتُهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى فَرْجِ مَوْلَاهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي لَهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةً خَتَّانَةً فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا وَرَدَّ ثَمَنَهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَامُ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، ثُمَّ تُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، وَقِيلَ : يُزَوِّجُهُ الْإِمَامُ امْرَأَةً خَتَّانَةً ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتِنَ زَوْجَهَا ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْمَرْأَةُ تَخْتِنُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
وَأَمَّا حُكْمُ غُسْلِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَلَكِنَّهُ يُيَمَّمُ ، كَانَ الْمُيَمِّمُ رَجُلًا ، أَوْ امْرَأَةً ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ يَمَّمَهُ مِنْ غَيْرِ خِرْقَةٍ ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَمَّمَهُ بِالْخِرْقَةِ وَيَكُفُّ بَصَرَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْوُقُوفِ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَقِفُ بَعْدَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ قَبْلَ صَفِّ النِّسَاءِ احْتِيَاطًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا حُكْمُ إمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا فَقَدْ مَرَّ فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَيَؤُمُّ النِّسَاءَ .
وَأَمَّا حُكْمُ وَضْعِ الْجَنَائِزِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَتُقَدَّمُ جِنَازَتُهُ عَلَى جِنَازَةِ النِّسَاءِ وَتُؤَخَّرُ عَنْ جِنَازَةِ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ ذَكَرٌ فَيُسْلَكُ مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْغَنَائِمِ فَلَا يُعْطَى سَهْمًا وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ شَكًّا ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُعْطَى لَهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ ذَكَرًا حُكْمًا ، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ : إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخُنْثَى الثُّلُثُ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى هَاهُنَا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا ، وَلَوْ تَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَصَبَةً فَالنِّصْفُ لِلْخُنْثَى وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ بِنْتًا وَعَصَبَةً ، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ ، وَعَصَبَةً فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ، وَالْخُنْثَى لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ ، وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أَيْضًا هَاهُنَا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَأُخْتًا لِأَبٍ ، وَعَصَبَةً .
فَإِنْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ ، وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْخُنْثَى وَيُجْعَلُ هَاهُنَا ذَكَرًا ؛ لِأَنَّ هَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ أُنْثَى لَأَصَابَ السُّدُسَ وَتَعُولُ الْفَرِيضَةُ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ذَكَرًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا كَأَنَّهَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْطَى نِصْفَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ الْأُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَيُعْطَى لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ الرِّجَالِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ( وَالصَّحِيحُ ) قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ ، وَفِي الْأَكْثَرِ شَكٌّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ
الْأَكْثَرُ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا الْأَقَلُّ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْأَقَلِّ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَكْثَرِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْمَالِ ثَابِتٌ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ذَكَرٌ فِيهِ وَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِمُزَاحِمَةِ الْآخَرِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ أُنْثَى وَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ .
وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَخْرِيجِهِ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ : يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى سَبْعَةٍ : أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ ، وَثَلَاثَةٌ لِلْخُنْثَى .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ : يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا : سَبْعَةٌ مِنْهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ ، وَخَمْسَةٌ لِلْخُنْثَى ، وَجْهُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ وَتَخْرِيجِهِ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ لِلْخُنْثَى فِي حَالٍ سَهْمًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ ، وَلَهُ فِي حَالٍ ثُلُثَا سَهْمٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَثُلُثُ سَهْمٍ فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَهْمِ وَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَسْدَاسِ فَيَصِيرُ كُلُّ سَهْمٍ سِتَّةً فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْخُنْثَى مِنْهَا خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ
الْمَعْرُوفِ سَبْعَةٌ ، أَوْ يُقَالُ إذَا جَعَلْنَا جَمِيعَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَالْخُنْثَى يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ سِتَّةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَفِي حَالٍ أَرْبَعَةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَالْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ ، وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُنَصَّفُ .
وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِلْخُنْثَى .
وَأَمَّا الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فَالسِّتَّةُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ فَيُنَصَّفُ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَخْرِيجُهُ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ نَصِيبُ ابْنٍ وَهُوَ سَهْمٌ ، وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهُ نَصِيبُ بِنْتٍ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ فَلَهُ فِي حَالٍ سَهْمٌ تَامٍّ وَفِي حَالٍ نِصْفُ سَهْمٍ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالَتَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ ، وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ تَامٌّ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَوَجَدْتُ ) فِي شَرْحِ مَسَائِلِ الْمُجَرَّدِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِمَامِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْهَقِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي اخْتَصَرَ الْمَبْسُوطَ وَالْجَامِعَيْنِ وَالزِّيَادَاتِ فِي مُجَلَّدَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَرَحَهُ بِكِتَابٍ لَقَبُهُ الشَّامِلُ بَابًا فِي الْخُنْثَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُلْحِقَهُ بِهَذَا الْفَصْلِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الشَّيْخِ وَهُوَ بَابُ الْخُنْثَى .
( قَالَ ) ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُوَرَّثُ الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ } وَهُوَ مَذْهَبُنَا ، الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِلْحَاقِ بِهِنَّ ، وَبِالرِّجَالِ إذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ ، فَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْقُعُودِ وَالسَّتْرِ ، وَفِي الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الرِّجَالِ فِي إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ ، وَيَقُومُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَقُدَّامَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إلْحَاقًا بِالرِّجَالِ ، وَفِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِثْلُ الْمَرْأَةِ ، وَلَوْ مَاتَ يُمِّمَ بِالصَّعِيدِ وَلَا يُغَسِّلُهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَيُسَجَّى قَبْرُهُ وَيَدْخُلُ قَبْرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ .
فَإِنْ قَبَّلَهُ رَجُلٌ بِشَهْوَةٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُمِّهِ ، وَلَوْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً يُؤَجَّلُ كَالْعِنِّينِ سَنَةً وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ ، وَفِي الْكُلِّ يُعْتَبَرُ الِاحْتِيَاطُ قَالَ : " كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ " وَقَالَ : " كُلُّ أَمَةٍ " لَمْ يَعْتِقْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَلَوْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عَتَقَ لِمَا عُرِفَ .
( وَقَوْلُهُ ) أَنَا ذَكَرٌ ، أَوْ أُنْثَى لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَيَشْتَرِي امْرَأَةً بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَمَةً مِنْ مَالِهِ لِلْخِدْمَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
( مَاتَ ) وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ إنَّهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ تَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ ، وَامْرَأَةٌ أَنَّهُ كَانَ زَوْجَهَا وَكَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ لَمْ يُقْضَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إنْ ذَكَرَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا أَقْدَمَ فَيُقْضَى لَهُ وَفِي حَبْسِهِ فِي الدَّعَاوَى ، وَلَا يُفْرَضُ لَهُ فِي الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الرَّجُلِ الْمُقَاتِلِ ، فَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ يُرْضَخُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الرَّضْخَ نَوْعُ إعَانَةٍ .
وَإِنْ أُسِرَ لَمْ يُقْتَلْ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي قَسَامَةٍ
وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الرِّجَالِ أَوْصَى رَجُلٌ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ غُلَامًا ، وَبِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَكَانَ مُشْكِلًا لَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ نِصْفُ الْأَلْفِ وَالْخَمْسُمِائَةِ ، قَالَ : وَخُرُوجُ اللِّحْيَةِ دَلِيلُ أَنَّهُ رَجُلٌ ، وَالثَّدْيُ عَلَى مِثَالِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ مَعَ عَدَمِ اللِّحْيَةِ وَالْحَيْضُ دَلِيلُ كَوْنِهِ امْرَأَةً .
زُوِّجَ خُنْثَى مِنْ خُنْثَى مُشْكِلَانِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَجُلٌ وَالْآخَرَ امْرَأَةٌ صَحَّ الْوَقْفُ فِي النِّكَاحِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ ، فَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْبَيَانِ لَمْ يَتَوَارَثَا لِمَا مَرَّ شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى خُنْثَى أَنَّهُ غُلَامٌ ، وَشُهُودٌ أَنَّهُ جَارِيَةٌ ، وَالْمَطْلُوبُ مِيرَاثٌ ، قَضَيْتُ بِشَهَادَةِ الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَهْرًا قَضَيْتُ بِكَوْنِهَا جَارِيَةً ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ لَا يَطْلُبُ شَيْئًا لَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْوَصَايَا ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُزِيلٌ لَلْمِلْكِ فَتَقَعُ الْإِضَافَةُ إلَى زَمَانِ زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ { يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ { يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ { تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } شُرِعَ الْمِيرَاثُ مُرَتَّبًا عَلَى الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } ، نَدَبَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى حَالِ الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ .
( وَأَمَّا ) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ مَرِيضًا فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَبِنِصْفِ مَالِي ؟ قَالَ : لَا قَالَ : فَبِثُلُثِ مَالِي ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً
يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
وَرُوِيَ : فُقَرَاءُ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ } .
أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَنَا أَخَصَّ بِثُلُثِ أَمْوَالِنَا فِي آخِرِ أَعْمَارِنَا لِنَكْسِبَ بِهِ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِنَا .
وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي ثُلُثِ الْمَالِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ فَكَانَتْ مَشْرُوعَةً .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَإِنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُوصُونَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ مَعَ مَا أَنَّ ضَرْبًا مِنْ الْقِيَاسِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَتَمَ عَمَلَهُ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ أَوْ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ ، فَإِذَا مَسَّتْ حَاجَتُهُمْ إلَى الْوَصِيَّةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَزُولُ بِمَوْتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا يَرَى : أَنَّهُ بَقِيَ فِي قَدْرِ جِهَازِهِ مِنْ الْكَفَنِ ، وَالدَّفْنِ وَبَقِيَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِحَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ هَهُنَا ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ : الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ لَمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ
رَأْسِهِ } .
وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْإِيصَاءِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِيصَاءِ ، وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى إرَادَةِ مَنْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ ، أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَالْوَاجِبَاتِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهَا وَاجِبَةٌ - عِنْدَنَا - عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ فَلَا يُقْبَلُ ، وَقِيلَ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } ، ثُمَّ نُسِخَتْ وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ قَالَ بَعْضُهُمْ : نَسَخَهَا الْحَدِيثُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُنْسَخُ الْكِتَابَ عِنْدَكُمْ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، وَهَذَا مِنْ الْآحَادِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَوَاتِرٌ غَيْرَ أَنَّ التَّوَاتُرَ ضَرْبَانِ : تَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ ، وَتَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ قَرْنًا فَقَرْنًا مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ مَا رَوَوْهُ عَلَى التَّوَاتُرِ ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَمَلِ بِهِ أَغْنَاهُمْ عَنْ رِوَايَتِهِ ، وَقَدْ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَذَا مَعَ ظُهُورِ الْقَوْلِ أَيْضًا مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْفَتْوَى بِهِ بِلَا تَنَازُعٍ مِنْهُمْ ، وَمِثْلُهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ قَطْعًا ، فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ أَنَّ
جَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ يُكَفَّرُ وَجَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي ظُهُورِ الْعَمَلِ لَا يُكَفَّرُ لِمَعْنَى عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَقَوْلُهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَيْ : كُلَّ حَقِّهِ فَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ الَّذِي أُعْطِيَ لِلْوَارِثِ كُلُّ حَقِّهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْوَصِيَّةِ ، وَتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِذَا تَحَوَّلَ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ كَالْقِبْلَةِ لَمَّا تَحَوَّلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَبْقَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً .
وَكَالدَّيْنِ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى .
وَكَمَا فِي الْحَوَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرِ الْوَارِثِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْآيَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمَخْرَجِ لَكِنْ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } فَكَانَ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ لَا نَاسِخًا وَالْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ إلَّا أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالُوا : إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فَرِيضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ ، أَوْ زَكَاةٌ ، أَوْ كَفَّارَةٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ جَائِزَةٌ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَقَدْ قَالُوا : إنْ كَانَ
مَالُهُ قَلِيلًا ، وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُوصِيَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { : إنَّكَ إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالْأَجَانِبِ ، وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالْأَقَارِبِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا ، فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ غُنْيَةً الْوَرَثَةِ تَحْصُلُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ قِلَّتِهِ .
وَالْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ ، وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَيْ : لَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّهُ ، فَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لَهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ ، وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ ، فَالْأَفْضَلُ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلْأَجَانِبِ ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَرِيبِ الْمُعَادِي أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الْمُوَالِي ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُعَادِي تَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدَ عَنْ الرِّيَاءِ ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا ، فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَكَ ، وَإِنْ كَفَرَكَ ، فَهُوَ شَرٌّ لَهُ وَخَيْرٌ لَكَ ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمُعَادِي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْعَدَاوَةِ ، وَصِيَانَةٌ لِلْقَرَابَةِ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى هَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْفَضْلِ ، وَالدِّينِ وَالْحَاجَةِ ، وَأَحَدُهُمَا مُعَادِي ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ الْمُوَالِي مِنْهُمَا أَعَفَّهُمَا ، وَأَصْلَحَهُمَا وَأَحْوَجَهُمَا ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ تَقَعُ إعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : هُوَ الْإِيجَابُ ، وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ فَمَا لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لَا يَتِمُّ الرُّكْنُ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ : رُكْنُ الْوَصِيَّةِ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي ، وَعَدَمُ الرَّدِّ مِنْ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّهِ ، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الرُّكْنُ هُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي فَقَطْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمِلْكَيْنِ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ ، ثُمَّ مِلْكُ الْوَارِثِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِهِ .
وَكَذَا مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ ( وَلَنَا ) : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ بِدُونِ سَعْيِهِ فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرُ الْمِنَّةِ ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبُولِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ شَيْئًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى لَهُ ، كَالْعَبْدِ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ ، وَالْمُقْعَدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : أَرَيْتَ لَوْ أَوْصَى بِعَبِيدٍ عُمْيَانَ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ شَاءَ ، أَوْ أَبَى ، وَتَلْحَقُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهُمْ نَفْعٌ فَلَوْ لِزَمَهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ لَلَحِقَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ إذْ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِ الضَّرَرِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْوَارِثِ ؛
لِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَاكَ بِإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ ، وَهُوَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْقَبُولِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقْبَلْ ، أَوْ يَمُتْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْقَبُولِ ، أَوْ بِدُونِ عَدَمِ الرَّدِّ ، وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبُولُ مِنْهُ ، وَلَا وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الرَّدِّ مَا دَامَ حَيًّا فَلَا يُعْتَقُ .
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ صَارَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ : أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ وَيَكُونَ لِوَرَثَتِهِ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا قَبِلُوا ، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْعَقْدِ ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ ، فَيَبْطُلُ الرُّكْنُ الْآخَرُ كَمَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبُولِ ، أَوْ أَوْجَبَ الْهِبَةَ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ الثَّانِي : أَنَّ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ لَهُ الْقَبُولُ ، وَالرَّدُّ فَإِذَا مَاتَ تَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْمُوصَى لَهُ هُوَ عَدَمُ الرَّدِّ مِنْهُ ، وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَلَى الرَّدِّ مِنْهُ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَمَّ الرُّكْنُ .
( وَأَمَّا ) عَلَى عِبَارَةِ الْقَبُولِ فَنَقُولُ : إنَّ الْقَبُولَ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَا يُشْتَرَطُ لَعَيْنِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الرَّدِّ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِجَارِيَتِهِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّكَاحِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ ، أَوْ يَمُوتُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، فَإِذَا مَاتَ
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ ، فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى مَاتَ ، أَوْ عَلِمَ وَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ ، وَهُوَ يَطَؤُهَا بِالنِّكَاحِ حَتَّى وَلَدَتْ أَوْلَادًا ، ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ ، فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ فَلَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ شَرْطٌ ، فَإِنْ قَبِلَ ، فَقَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبُولِ ، وَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يُخْرَجُونَ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَبُولِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي يُحْكَمُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَادَ وُلِدُوا عَلَى فِرَاشِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، فَدَخَلُوا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ فَيَمْلِكُهُمْ بِالْقَبُولِ فَيُعْتَقُونَ إذَا كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي ، وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ ، وَالْحُرِّيَّةِ .
وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِرَجُلَيْنِ وَمَاتَ الْمُوصِي فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ كَانَ لِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الثُّلُثَ إلَيْهِمَا ، وَقَدْ صَحَّتْ الْإِضَافَةُ فَانْصَرَفَ
إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ ارْتَدَّ فِي نِصْفِهِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي قَبِلَ كَمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لِرَجُلَيْنِ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا إقْرَارَهُ ارْتَدَّ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً ، وَكَانَ لَلْآخَرِ نِصْفُ الْإِقْرَارِ كَذَا هَهُنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِهَذَا ، وَالثُّلُثِ لِهَذَا فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَنَّ كُلَّ الثُّلُثِ لِلَّذِي قَبِلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهُ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَكَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ فَوَقْتُ الْقَبُولِ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَلَا حُكْمَ لِلْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى لَوْ رَدَّ قَبْلَ الْمَوْتِ ، ثُمَّ قَبِلَ بَعْدَهُ صَحَّ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ يُعْتَبَرُ ، كَذَا الْإِيجَابُ ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ ، وَالْجَوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ .
وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ إذَا جَاءَ غَدٌ كَذَا هَذَا ، فَإِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ يَقَعُ إيجَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ اسْمٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِهِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي حَدِّ الْوَصِيَّةِ مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ ، أَوْ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَوْلُهُ : مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْوَصَايَا فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ : كَالْحَجِّ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَكُنْ الْحَدُّ جَامِعًا .
وَقَوْلُهُ : أَوْ فِي مَرَضِهِ حَدٌّ مُقَسَّمٌ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ ، وَكَذَا تَبَرُّعُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ ، وَالْهِبَةِ وَالْمُحَابَاةِ ، وَالْكَفَالَةِ وَضَمَانِ الدَّرَكِ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُنَجَّزٌ نَافِذٌ فِي الْحَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِنْ الْمَرِيضِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا فِي حَقِّ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً حَقِيقَةً فَلَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ، أَوْ رُبُعِهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ مُشَاعًا ، أَوْ مُعَيَّنًا أَنَّ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ مَالٍ هُوَ : مَالُهُ الَّذِي عِنْدَ الْمَوْتِ لَا مَا كَانَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَمَالُهُ يَوْمَ أَوْصَى ثَلَاثَةُ آلَافٍ ، وَيَوْمَ مَاتَ ثَلَثُمِائَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ إلَّا مِائَةً ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَوْمَ أَوْصَى ، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا ، ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ مَاتَ .
وَلَوْ كَانَ
لَهُ مَالٌ يَوْمَ أَوْصَى فَمَاتَ ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ بَطَلَتْ ، وَصِيَّتُهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ؛ فَيَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ مَا كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَيَصِيرُ الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ : لِفُلَانٍ ثُلُثُ مَالِي فَيُعْتَبَرُ مَا يَمْلِكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا مَا قَبْلَهُ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ : إذَا أَوْصَى رَجُلٌ فَقَالَ : لِفُلَانٍ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي ، أَوْ نَخْلَةٌ مِنْ نَخْلِي ، أَوْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيَّ ، وَلَمْ يَقُلْ : مِنْ غَنَمِي هَذِهِ ، وَلَا مِنْ جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ ، وَلَا مِنْ نَخْلِي هَذِهِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا تَقَعُ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَلَا تَقَعُ يَوْمَ أَوْصَى حَتَّى لَوْ مَاتَتْ غَنَمُهُ تِلْكَ ، أَوْ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مَكَانَهَا أُخْرَى ، أَوْ مَاتَتْ جَوَارِيهِ فَاشْتَرَى غَيْرَهُنَّ ، أَوْ بَاعَ النَّخْلَ ، وَاشْتَرَى غَيْرَهَا ، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ نَخْلَةً مِنْ نَخْلِهِ يَوْمَ يَمُوتُ .
وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ غَيْرَ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا : أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى الْمَوْتِ فَكَانَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ : لِفُلَانٍ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي فَيَسْتَحِقُّ شَاةً مِنْ الْمَوْجُودِ دُونَ مَا قَبْلَهُ قَالَ : فَإِنْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي ، أَوْ وَلَدَتْ الْجَوَارِي قَبْلَ مَوْتِهِ ، فَلَحِقَتْ الْأَوْلَادُ الْأُمَّهَاتِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَإِنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ إنْ شَاءُوا مِنْ الْأُمَّهَاتِ ، وَإِنْ شَاءُوا مِنْ الْأَوْلَادِ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْمُسْتَفَادُ بِالْوِلَادَةِ كَالْمُسْتَفَادِ بِالشِّرَاءِ قَالَ فَإِنْ اخْتَارَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ، وَلَهَا وَلَدٌ قَدْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنَّ وَلَدَهَا يَتْبَعُهَا .
وَكَذَلِكَ صُوفُهَا ، وَلَبَنُهَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِشَاةٍ
غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لَكِنَّ التَّعْيِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ ، هِيَ مِنْ الْمُوصَى بِهَا كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِهَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً فَمَا حَدَثَ مِنْ نَمَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ قَالَ : فَأَمَّا مَا وَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْحَادِثُ قَبْلَ الْمَوْتِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ، وَكَذَلِكَ الصُّوفُ الْمُنْفَصِلُ ، وَاللَّبَنُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا ، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَإِنْ حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ عَنْهَا بِالتَّمْلِيكِ قَالَ : وَلَوْ اسْتَهْلَكَتْ الْوَرَثَةُ لَبَنَ الشَّاةِ ، أَوْ صُوفَهَا ، وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَلَكَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ قَالَ : وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي هَذِهِ ، أَوْ بِجَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ ، أَوْ قَالَ : قَدْ أَوْصَيْتُ لَهُ بِإِحْدَى جَارِيَتَيَّ هَاتَيْنِ فَهَذَا عَلَى هَذِهِ الْغَنَمِ ، وَهَؤُلَاءِ الْجَوَارِي ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْمُوصَى بِهِ ، وَهُوَ الشَّاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْمُشَارُ إلَيْهَا حَتَّى لَوْ مَاتَتْ الْغَنَمُ ، أَوْ بَاعَهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الشَّاةِ ، أَوْ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهَلَكَتْ .
وَلَوْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ أَوْ الْجَوَارِي فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي ، ثُمَّ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ الْأَوْلَادِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُشَارٍ إلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِهَا ، فَإِنْ دَفَعَ الْوَرَثَةُ إلَيْهِ جَارِيَةً مِنْ الْجَوَارِي لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَكُنْ ، وَجَبَتْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا يُنْقَلُ بِالْمَوْتِ فَمَا حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ ، فَيَكُونُ
لِلْوَرَثَةِ ، وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْمَوْتِ فَحَدَثَ الْوَلَدُ عَلَى مِلْكِهِ قَالَ : فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يُزَاحِمُهَا فِي تَعَلُّقِ الْوَصِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا ، وَقَدْ بَقِيَ لَهَا أَوْلَادٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ ، أَوْ أُحْرِقَ النَّخْلُ ، وَبَقِيَ لَهَا ثَمَرٌ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ وَلَدَ جَارِيَةٍ ، وَثَمَرَةَ نَخْلَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهَا فَيَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ ، فَإِذَا هَلَكَتْ الْأُمُّ بَقِيَ الْحَقُّ فِي الْوَلَدِ عَلَى حَالِهِ ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ ( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ : فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ ، فَإِنْ خَالَفَ الْإِيجَابَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَهُ لَمْ يَرْتَبِطْ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ بِلَا قَبُولٍ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ : أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لَكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَرَدَّ الْآخَرُ لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ وَصِيَّةً لِكُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْجَارِيَةِ .
وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا لَوْ قَبِلَا فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، وَهُوَ قَبُولُهُمَا جَمِيعًا ، فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، وَلَوْ أَوْصَى بِهَا لِإِنْسَانٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَرَدَّ الْآخَرُ فَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَالنِّصْفُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْقَبُولِ ، فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَتِمَّ الرُّكْنُ فِي حَقِّهِ ، بَلْ بَطَلَ الْإِيجَابُ فِي حَقِّهِ فَعَادَ نَصِيبُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي فَصَحَّ الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْوَصِيَّةِ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ الْآخَرِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِإِيجَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فَلَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ لِكَوْنِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ إذْ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي الْقُرَبِ صَحِيحَةٌ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ ، وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَافِعٍ ، وَهُوَ الَّذِي قَرُبَ إدْرَاكُهُ ؛ وَلِأَنَّ فِي وَصِيَّتِهِ نَظَرًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ لَزَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ ثَوَابٍ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ جَبْرًا شَاءَ ، أَوْ أَبَى فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفًا نَافِعًا فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ ، وَصَوْمَ التَّطَوُّعِ ، وَالْجَوَابُ إمَّا إجَازَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ وَصِيَّةَ ذَلِكَ الصَّبِيِّ كَانَتْ لِتَجْهِيزِهِ ، وَتَكْفِينِهِ ، وَدَفْنِهِ .
وَوَصِيَّةُ الصَّبِيِّ فِي مِثْلِهِ جَائِزَةٌ - عِنْدَنَا - لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ ( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ : يَحْصُلُ لَهُ عِوَضٌ ، وَهُوَ الثَّوَابُ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ كَالصَّدَقَةِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا فِي حَدِّ التَّعَارُضِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُثَابُ عَلَى الْوَصِيَّةِ يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ لِلْوَارِثِ ، بَلْ هُوَ أَوْلَى فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَسَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ، أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهَا ، وَقَعَتْ بَاطِلَةً ، فَلَا تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِدْرَاكِ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، أَوْ مَحْجُورًا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ إذْ التِّجَارَةُ
مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَلَوْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ بِأَنْ قَالَ : إذَا أَدْرَكْتُ ، ثُمَّ مِتُّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ لَمْ تَقَعْ صَحِيحَةً ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، وَالْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، وَلَوْ أَوْصَيَا ، ثُمَّ أُعْتِقَا وَمَلَكَا مَالًا ، ثُمَّ مَاتَا : لَمْ تَجُزْ لِوُقُوعِهَا بَاطِلَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ أَضَافَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَنْ قَالَ : إذَا أُعْتِقْتُ ، ثُمَّ مِتَّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ : صَحَّ فَرْقًا بَيْنَ الْعَبْدِ ، وَالصَّبِيِّ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مُلْحَقَةٌ بِالْعَدَمِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ فَلَمْ تَصِحَّ عِبَارَتُهُ مِنْ الْأَصْلِ ، بَلْ بَطَلَتْ .
وَالْبَاطِلُ لَا حُكْمَ لَهُ بَلْ هُوَ ذَاهِبٌ مُتَلَاشٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ، فَأَمَّا عِبَارَةُ الْعَبْدِ : فَصَحِيحَةٌ لِصُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ مُمَيِّزٍ إلَّا أَنَّ امْتِنَاعَ تَبَرُّعِهِ لَحِقَ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا رِضَا الْمُوصِي ؛ لِأَنَّهَا إيجَابُ مِلْكٍ ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الرِّضَا كَإِيجَابِ الْمِلْكِ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَصِحُّ ، وَصِيَّةُ الْهَازِلِ ، وَالْمُكْرَهِ ، وَالْخَاطِئِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُفَوِّتُ الرِّضَا .
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمُوصِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الَّذِي بِالْمَالِ لِلْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْكَافِرِ ، وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا أَوْصَى لِلْمُسْلِمِ ، أَوْ الذِّمِّيِّ يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ دَخَلَ وَارِثُهُ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَقَفَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى إجَازَةِ وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ مُسْتَأْمَنًا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، أَوْ أَلْزَمَهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ لِإِمْكَانِ إجْرَاءِ الْإِحْكَامِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِمَّنْ لَهُ وَارِثٌ تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ وَارِثِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا : تَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، كَمَا فِي الْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَكِنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ .
وَحَقُّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَمْوَالِهِمْ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لِحَقِّهِمْ الَّذِي فِي مَالِ مُورِثِهِمْ عِصْمَةٌ أَوْلَى .
وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَلَوْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ، ثُمَّ اخْتَصَمَا إلَيَّ فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلْتُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مِنْ أَهْلِ التَّمْلِيكِ .
أَلَا يَرَى : أَنَّهُ
مِنْ أَهْلِ سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ كَالْبَيْعِ ، وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا وِلَايَةُ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، وَتَنْفِيذِهَا فِي دَارِهِمْ ، فَإِذَا أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً قَدَرْنَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَنُنَفِّذُهَا مَا دَامَ الْمُوصَى بِهِ قَائِمًا ، فَأَمَّا إذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ ، وَأَلْحَقْنَاهَا بِالْعَدَمِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا أَسْلَمُوا ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً لَا يُؤَاخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَبِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَلْ يَبْطُلُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِتَرِكَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ ، وَالْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى - فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَ { يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ، وَ { يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ ، وَقَدْ { شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ } أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ فِي الْحُكْمِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّكَ تَأْمُرُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ ، وَقَدْ بَدَأَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى بِالْحَجِّ ، فَقَالَ - تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى - { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ تَقْرَءُونَ آيَةَ الدَّيْنِ ، فَقَالُوا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ، فَقَالَ : وَبِمَاذَا تَبْدَءُونَ قَالُوا بِالدَّيْنِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ ذَاكَ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعُ وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ ، وَمَعْنَى تَقَدُّمِ الدَّيْنِ
عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ أَنَّهُ يُقْضَى الدَّيْنُ أَوَّلًا ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، وَإِلَّا فَلَا ( وَأَمَّا ) مَعْنَى تَقَدُّمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمِيرَاثِ ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُخْرِجَ الثُّلُثَ ، وَيُعْزَلُ عَنْ التَّرِكَةِ ، وَيَبْدَأُ بِدَفْعِهِ إلَى الْمُوصَى لَهُ ، ثُمَّ يُدْفَعُ الثُّلُثَانِ إلَى الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ تَكُونُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الثُّلُثِ شَيْئًا قَلَّ ، أَوْ كَثُرَ إلَّا .
وَيَسْتَحِقُّ مِنْهُ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ ، وَيَكُونُ فَرْضُهُمَا مَعًا لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا ، وَلَا يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ كُلَّ الثُّلُثِ مِنْ الْبَاقِي بَلْ الْهَالِكُ يَهْلِكُ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَالْبَاقِي يَبْقَى عَلَى الْحَقَّيْنِ ، كَمَا إذَا هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ الْمَوَارِيثِ بَعْدَ الْوَصَايَا ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ ، وَبَقِيَ الْبَعْضُ يُسْتَوْفَى كُلُّ الدَّيْنِ مِنْ الْبَاقِي وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحْسَبُ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ ، أَوَّلًا ؛ لِتَظْهَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ ، كَمَا تُحْسَبُ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ ، أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الْفَاضِلُ لِلْعَصَبَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى يُوصِيكُمْ { اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ } إلَى قَوْله تَعَالَى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا } أَيْ سِوَى مَا لَكُمْ أَنْ تُوصُوهُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْصَاكُمْ اللَّهُ بِكَذَا وَتَكُونُ بَعْدُ بِمَعْنَى سِوَى وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ إنَّهَا ، إنْ وَلَدَتْ لِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ ؛ صَحَتْ الْوَصِيَّةُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَقْتُ الْمَوْتِ ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ ، أَوْ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا عَلِقَتْ بَعْدَهُ .
فَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِالشَّكِّ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً مِنْ زَوْجِهَا مِنْ طَلَاقٍ ، أَوْ وَفَاةٍ ، فَوَلَدَتْ إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا ، أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا ، فَلَهُ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ زَوْجِهَا إلَى سَنَتَيْنِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثَبَاتِ النَّسَبِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فُرِّقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ ، وَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْقَبْضِ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ كَانَ فِي بَطْنِ
فُلَانَةَ جَارِيَةٌ ؛ فَلَهَا وَصِيَّةُ أَلْفٍ وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ ؛ فَلَهُ وَصِيَّةُ أَلْفَانِ ، فَوَلَدَتْ جَارِيَةً لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَوَلَدَتْ غُلَامًا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ ؛ فَلَهُمَا جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أُوصِي لَهُمَا جَمِيعًا لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ ، وَقَدْ عُلِمَ كَوْنُهُمَا فِي الْبَطْنِ أَمَّا الْجَارِيَةُ ، فَلَا شَكَّ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا وُلِدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمُوصِي فَعُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْبَطْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَكَذَا الْغُلَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ لَأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ مَعَ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَوْأَمٌ ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَطْنِ كَوْنُ الْآخَرِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا عَلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّ الْغُلَامَيْنِ شَاءُوا وَأَيَّ الْجَارِيَتَيْنِ شَاءُوا إلَّا أَنَّهُ مَا أَوْصَى لَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَكَانَ الْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ أَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهَا صَحِيحَةٌ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَحَدِهِمَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّهمَا شَاءُوا ، فَقَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تِلْكَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى
يَجْمَعُهُمَا ، وَهُوَ جَهَالَةُ الْمُوصَى لَهُ ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ : هَهُنَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ مُقَارِنَةٌ لِلْعَقْدِ ، وَهَهُنَا طَارِئَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَاكَ حَالَ وُجُودِهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا فِي الْبَطْنِ لَا إلَى أَحَدِ الْغُلَامَيْنِ وَإِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ ، ثُمَّ طَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوِلَادَةِ .
وَالْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَالْعِدَّةِ إذَا قَارَنَتْ النِّكَاحَ مَنَعَتْهُ مِنْ الِانْعِقَادِ ، فَإِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ لَا تَرْفَعُهُ كَذَا هَهُنَا ، وَلَوْ قَالَ : إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِ فُلَانَةَ غُلَامًا ؛ فَلَهُ أَلْفَانِ ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً ؛ فَلَهَا أَلْفٌ ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا كَذَا فَلَهُ كَذَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ بَعْضُ مَا فِيهِ ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ صِحَّةِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّة ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ كَانَ فِي بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ ؛ فَلَهَا كَذَا ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ ؛ فَلَهُ كَذَا لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلَّ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ ، وَأَنْ يَكُونَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ ، وَقَدْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ ، فَوُجِدَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ دَابَّةِ فُلَانٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهَا ، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُدَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا هُوَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ ، فَأَمَّا حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ ( أَمَّا ) إنْ بَيَّنَ السَّبَبَ (
وَأَمَّا ) إنْ لَمْ يُبَيِّنْ بَلْ أَطْلَقَ ، فَإِنْ بَيَّنَ السَّبَبَ ( فَإِمَّا ) إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ .
( وَإِمَّا ) إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً ، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قَالَ : لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنِّي اسْتَهْلَكْتُ مَالَهُ ، أَوْ غَصَبْتُ أَوْ سَرَقَتْ ؛ جَازَ إقْرَارُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا ، هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قَالَ : لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنِّي اسْتَقْرَضْتُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى سَبَبٍ هُوَ مُحَالٌ عَادَةً ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِلْإِقْرَارِ سَبَبًا بَلْ سَكَتَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ : لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ ؛ وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِالْحَمْلِ عَلَى سَبَبٍ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهُ ؛ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُطْلَقَ بِالدَّيْنِ يُرَادُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمُدَايَنَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ الْمَوْضُوعُ لِثُبُوتِ الدَّيْن ، وَإِنَّهُ فِي الدَّيْنِ هَهُنَا مُحَالٌ عَادَةً ، وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي حَتَّى لَوْ قَالَ : أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا مَيِّتًا لَا وَصِيَّةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ ، كَمَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ وُلِدَ مَيِّتًا ، وَإِنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ حَيًّا وَمَيِّتًا ، فَجَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كَانَ كُلُّ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِآدَمِيٍّ وَحَائِطٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ ، وَهِيَ مَا حُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ الْأَعْمَشِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ مَرِيضًا ، فَعَادَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَهُ يُوصِي لِابْنَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ، فَقَالَ : وَلِمَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ : لِأَنَّكَ رَوَيْتَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } فَقَالَ سُلَيْمَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَا مَعْشَرَ الْفُقَهَاءِ أَنْتُمْ الْأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ .
فَقَدْ نَفَى الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ نَصًّا .
وَأَشَارَ إلَى تَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَرَثَةِ ؛ لَكَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ ، وَفِيهِ إيذَاءُ الْبَعْضِ وَإِيحَاشُهُمْ ، فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ وَمَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ ، فَهُوَ حَرَامٌ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ ، ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ ، وَهُوَ الْأَخُ صَارَ وَارِثَ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَا ابْنَ لَهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ بِوَارِثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْجُوبًا بِالِابْنِ .
وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْوِرَاثَةُ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي
لَا وَقْتَ وَصِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ لِلْحَالِ لِيُعْتَبَرَ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ وُجُودِهَا ، بَلْ هِيَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ بِأَنْ وَهَبَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ مَاتَ إنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ صَحِيحٌ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا إنَّهُ لَا يَصِحُّ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِدَيْنٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا جَازَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَصِيرُ مِلْكًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهَا وَارِثَةً لَهُ حِينَئِذٍ ، وَهِيَ وَارِثَتُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ ( فَأَمَّا ) الْإِقْرَارُ فَاعْتِبَارُهُ حَالَ وُجُودِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ حَالَ وُجُودِهِ فَاعْتِرَاضُ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهُ وَكَذَا لَوْ وَهَبَ لَهَا هِبَةً فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا وَلَوْ أَوْصَى وَهُوَ مَرِيضٌ ، أَوْ صَحِيحٌ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثِهِ ، فَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ اعْتِبَارَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَارِثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْأَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُعْتَبَرُ حَالَ وُقُوعِهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ ، فَاعْتِرَاضُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ الثَّابِتَ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَرْأَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ
الْوِرَاثَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ سَبَبَهَا كَانَ قَائِمًا وَهُوَ الْقَرَابَةُ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُهَا لِلْحَالِ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ الْكُفْرُ ، فَعِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَيُعْمَلُ السَّبَبُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ لَا مِنْ وَقْتِ زَاوَلَ الْمَانِعِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنَّ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ يُعْمَلُ السَّبَبُ ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِي الْحُكْمِ مِنْ ، وَقْتِ وُجُودِهِ لَا مِنْ وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْعَامِلَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ ذَاتَ الْبَيْعِ وَذَاتَ الْقَرَابَةِ فَتَسْتَنِدُ السَّبَبِيَّةُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ ذَاتِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ فَلَمْ يَصِحَّ ، أَوْ يُقَالُ إنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا يُرَدُّ لِلتُّهْمَةِ ، وَسَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ مَوْجُودٌ ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبَ الْقَرَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الزَّوْجِيَّةُ ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبَعْدَ وُجُودِهَا لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى حَالِ وُجُودِهَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا لِوَارِثِهِ فَيَصِحَّ ، وَيَثْبُتَ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِحُدُوثِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَعَلَى التَّقْرِيبِ الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَصِحَّ ، وَلَوْ كَانَ ابْنُهُ مُسْلِمًا ، لَكِنَّهُ مَمْلُوكٌ ، فَأَوْصَى لَهُ ، ثُمَّ أُعْتِقَ ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَانَ اعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ أَوَانَ الْمَوْتِ ، وَهُوَ وَارِثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ .
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ ، أَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً ، فَقَبَضَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لِمَوْلَاهُ وَإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوصِي ، فَجَازَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ
لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْهِبَةَ يَقَعَانِ لَهُ لَا لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ لِوَارِثِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ، فَلَا يَصِحُّ ، أَوْ لَا يَصِحُّ لِقِيَامِ سَبَبِ شُبْهَةِ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِقْرَارِ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ .
وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ ، فَأَجَازَ الْبَاقُونَ ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لَحَقِّهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْأَذَى وَالْوَحْشَةِ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ } ، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ ، فَإِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا .
وَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَبَيْنَ الْوَارِثِ نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ رَدُّوا ، جَازَتْ فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ الْوَارِثِ .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يُصْرَفُ الثُّلُثُ كُلُّهُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فَالْتَحَقَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْعَدَمِ ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ إنَّ الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا لِلْحَيِّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَيْسَتْ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اتَّصَلَتْ بِهَا الْإِجَازَةُ جَازَتْ ، وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَارِثَ مَحَلٌّ لِلْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُضَافَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ يَكُونُ بَاطِلًا دَلَّ أَنَّهُ مَحَلٌّ ، وَأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً إلَّا أَنَّهَا تَبْطُلُ فِي حِصَّتِهِ بِرَدِّ الْبَاقِينَ ، وَإِذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً ، فَقَدْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ ، ثُمَّ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ ، فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى
حَالِهَا ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيَّيْنِ ؛ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ ، كَمَا إذْ أَقَرَّ لَهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْوَارِثُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ تَصَادَقَا إنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُمَا الْإِقْرَارُ أَصْلًا لَا لِلْوَارِثِ ، وَلَا لِلْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ ، فَبُطْلَانُهُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ فِي حَقِّ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ ، وَالْإِقْرَارُ لَهُمَا بِالدَّيْنِ إخْبَارٌ عَنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا ، فَلَوْ صَحَّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لَكَانَ فِيهِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَنَّهَا بَاطِلَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ إخْبَارًا عَنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَالْوَارِثُ يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِيمَا يَقْبِضُ ، ثُمَّ تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَفِيهِ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّ الْوَارِثَ لَا يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ .
وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ أَصْلًا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْن وَرَثَةِ الْمُقِرِّ فَمَا أَصَابَ الْوَارِثَ الْمُقِرَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ إلَى تَمَامِ الْإِقْرَارِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا ، فَمِنْ زَعَمِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ هَذَا إذَا تَصَادَقَا ، فَإِنْ تَكَاذَبَا ، أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ شَرِكَةَ الْوَارِثِ ، أَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ إقْرَارَهُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا بَطَلَ كَانَ الْمَالُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُقِرِّ ، فَمَا أَصَابَ الْوَارِثَ ، فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَلَا شَرِكَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ، وَيَكُونُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ يُكَذِّبُ الْوَارِثَ ، وَالْوَارِث يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ فَالْخَمْسمِائَةِ مِمَّا
أَصَابَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ الْوَارِثُ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ خَمْسُمِائَةٍ دِينٌ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى الشَّرِكَةَ فِيهِ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي الشَّرِكَةِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَجْنَبِيِّ ، وَيَأْخُذُ تِلْكَ الْخَمْسمِائَةِ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدٍ وَارِثُهُ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
( أَمَّا ) إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لَهُ ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ يَصِيرُ الْمُوصَى بِهِ لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ مِنْ وَجْهٍ ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا إذَا عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَهُوَ كَانَ حُرًّا عِنْدَ مَوْتِهِ .
وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِعَبْدِ نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ لَهُ ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَبْدٌ بَطَلَتْ ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ لِمَوْلَاهُ وَمَوْلَاهُ وَارِثُهُ ، وَلَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبِ وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصِيَّةِ تَحْصُلُ لِوَارِثِهِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ، فِي الْحَالِ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَفِي الْمَآلِ بِالْعَجْزِ ، وَلَوْ أَوْصَى لَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ ( إمَّا ) أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَيَصِيرَ أَجْنَبِيًّا ، فَتَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ ( وَإِمَّا ) أَنْ يَعْجَزَ وَيُرَدَّ فِي الرِّقِّ ، فَيَصِيرَ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ إيثَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ ، فَتَجُوزُ ، كَمَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ قَاتَلَ الْمُوصِي قَتْلًا حَرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ ، فَإِنْ كَانَ ؛ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَنَا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ ، وَتَمَلُّكٌ وَالْقَتْلُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ } وَهَذَا نَصٌّ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ } ذَكَرَ الشَّيْءَ نَكِرَةً فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ عَنْ عُمُومَاتِ الْوَصِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا لِلْقَاتِلِ مِيرَاثًا وَعَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَرِثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَيُرْوَى لَا يُوَرَّثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ .
وَهَذَا مِنْهُ بَيَانٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى زَمَنِ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ ، وَذَكَر مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْآثَارَ فِي الْأَصْلِ .
وَقَالَ : وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَتَأَذَّى بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِي الْقَاتِلِ ، كَمَا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِوَضْعِهَا فِي الْبَعْضِ فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ ؛ وَلِأَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ نَظَرًا لَهُمْ لِئَلَّا يُزِيلَ الْمُوَرِّثُ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِمْ لِعَدَاوَةٍ ، أَوْ أَذًى لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ