كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
كَامِلٌ وَالصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَاقِصٌ لِمُجَاوَرَةِ الْمَعْصِيَةِ إيَّاهُ ، وَالنَّاقِصُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْكَامِلِ وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَصَامَتْ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ ، أَوْ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَحَاضَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِقْبَالُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ لَا تَحِيضُ فِيهِمَا فَكَانَتْ مَعْذُورَةً ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ أَيَّامَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْحَيْضِ بِمَا قَبْلَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ تُصَلِّي وَأَفْطَرَتْ يَوْمًا بَعْدَ الْحَيْضِ اسْتَقْبَلَتْ ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ التَّتَابُعَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلَوْ نَفِسَتْ تَسْتَقْبِلُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ لَا نِفَاسَ فِيهِمَا ، وَلَوْ كَانَتْ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَحَاضَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَسْتَقْبِلُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا حَيْضَ فِيهَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ يُظَاهِرْ مِنْهَا بِالنَّهَارِ نَاسِيًا ، أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ، أَوْ أَكَلَ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا ، لَا يَسْتَقْبِلُ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَفْسُدْ فَلَمْ يَفُتْ شَرْطُ التَّتَابُعِ ( وَمِنْهَا ) عَدَمُ الْمَسِيسِ فِي الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، سَوَاءٌ فَسَدَ الصَّوْمُ أَوْ لَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الشَّرْطُ عَدَمُ فَسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِاللَّيْلِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ، أَوْ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا ، اسْتَقْبَلَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : يَمْضِي عَلَى صَوْمِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا الْجِمَاعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ ، كَمَا لَوْ جَامَعَ امْرَأَةً أُخْرَى ، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا مَسِيسَ فِيهِمَا ، بِقَوْلِهِ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا } ، فَإِذَا جَامَعَ فِي خِلَالِهِمَا ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ، وَلَوْ جَامَعَهَا بِالنَّهَارِ عَامِدًا اسْتَقْبَلَ بِالِاتِّفَاقِ ( أَمَّا ) عِنْدَهُمَا فَلِوُجُودِ الْمَسِيسِ ، ( وَأَمَّا ) عِنْدَهُ فَلِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ لِوُجُودِ فَسَادِ الصَّوْمِ ( وَأَمَّا ) وُجُوبُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَرَّقَ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
( وَأَمَّا ) الْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَتَيْ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ فَالْكَلَامُ فِي جَوَازِهِ صِفَةً وَقَدْرًا وَمَحَلًّا كَالْكَلَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَدَمُ الْمَسِيسِ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ جَامَعَ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } مِنْ غَيْرِ شَرْطِ تَرْكِ الْمَسِيسِ ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ قَبْلَهُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ ، فَتَنْتَقِلُ الْكَفَّارَةُ إلَيْهِمَا ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ .
وَالْكَلَامُ فِي الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ ، كَالْكَلَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، إلَّا فِي عَدَدِ مَنْ يُطْعَمُ وَهُمْ سِتَّةُ مَسَاكِينَ ؛ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَّا فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ وَالْمَحَلِّ ، فَلَا يَخْتَلِفَانِ حَتَّى يَجُوزَ فِيهِ التَّمْلِيكُ وَالتَّمْكِينُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا التَّمْلِيكُ ، كَذَا حَكَى الشَّيْخُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِلَافَ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَوَازَ التَّمْكِينِ فِي طَعَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ ، إذْ هُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِتَقْدِيمِ الطَّعَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ هَهُنَا بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ ، لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ ، وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ ، ( وَلَهُمَا ) أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ ، لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ ، وَذَا يَحْصُلُ
بِالتَّمْكِينِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُ الْقِيمَةِ وَإِنْ فُسِّرَتْ الصَّدَقَةُ بِثَلَاثِ أَصْوُعٍ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ ، وَلَا مَا يَكْسُو ، وَلَا مَا يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ عَنْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْبَدَلَ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْبَدَلِ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَصْلِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْإِفْطَارِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ وَلَا يَجِدُ مَا يُطْعِمُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ ، يَتَأَخَّرُ الْوُجُوبُ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَعَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ مُحَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي .
بَيَانِ أَسْمَاءِ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُسْكِرَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَعَانِيهَا ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا ، وَفِي بَيَانِ حَدِّ السُّكْرِ .
( أَمَّا ) أَسْمَاؤُهَا : فَالْخَمْرُ ، وَالسَّكَرُ ، وَالْفَضِيخُ ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ ، وَالطِّلَاءُ ، وَالْبَاذِقُ ، وَالْمُنَصَّفُ ، وَالْمُثَلَّثُ وَالْجُمْهُورِيُّ ، وَقَدْ يُسَمَّى أَبُو سُقْيَا وَالْخَلِيطَانِ وَالْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعَ .
( أَمَّا ) بَيَانُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَمَّا الْخَمْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ مَاءُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ فَقَدْ صَارَ خَمْرًا وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْخَمْرِ قَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ بِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرُّكْنَ فِيهَا مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ فَلَا يَصِيرُ خَمْرًا بِدُونِهِ ( وَأَمَّا ) السَّكَرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
وَأَمَّا الْفَضِيخُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْبُسْرِ الْمَنْضُوخِ وَهُوَ الْمَدْقُوقُ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَا عَلَى الِاخْتِلَاف .
( وَأَمَّا ) نَقِيعُ الزَّبِيبِ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ الْمَنْقُوعِ فِي الْمَاءِ حَتَّى خَرَجَتْ حَلَاوَتُهُ إلَيْهِ وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَا عَلَى الْخِلَافِ .
( وَأَمَّا ) الطِّلَاءُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَصَارَ مُسْكِرًا وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْبَاذَقِ وَالْمُنَصَّفِ لِأَنَّ الْبَاذَقَ هُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَالْمُنَصَّفُ هُوَ الْمَطْبُوخُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ
نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ ، وَقِيلَ الطِّلَاءُ هُوَ الْمُثَلَّثُ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ مُعَتَّقًا وَصَارَ مُسْكِرًا .
( وَأَمَّا ) الْجُمْهُورِيُّ فَهُوَ الْمُثَلَّثُ يُصَبُّ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيَصِيرُ مُسْكِرًا ( وَأَمَّا ) الْخَلِيطَانِ فَهُمَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ أَوْ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ إذَا خُلِطَا وَنُبِذَا حَتَّى غَلَيَا وَاشْتَدَّا ( وَأَمَّا ) الْمِزْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الذُّرَةِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا ( وَأَمَّا ) الْجِعَّةُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا ( وَأَمَّا ) الْبِتْعُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْعَسَلِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا هَذَا بَيَانُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاء .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ : - أَمَّا الْخَمْرُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ ؛ ( مِنْهَا ) أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَيَسْتَوِي فِي الْحُرْمَةِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا ( وَالدَّلِيلُ ) عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } ، وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَمْرَ بِكَوْنِهَا رِجْسًا وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُوصَفُ بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا ، وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ } الْآيَةُ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ السُّكْرِ فَحُرِّمَتْ عَيْنُهَا وَالسُّكْرُ مِنْهَا وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ شُرْبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ أَوْ لِإِكْرَاهٍ قَدْرَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ قَلِيلِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ الْمَحْضِ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ بِالضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَنَا فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَسْقِيَ الصَّغِيرَ الْخَمْرَ فَإِذَا سَقَاهُ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُهُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ فَكَانَ مُنْكَرُ الْحُرْمَةِ مُنْكَرًا لِلْكِتَابِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ يُحَدُّ شَارِبُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِالْمَاءِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ يَجِبُ الْحَدُّ ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا حَتَّى زَالَ طَعْمُهَا وَرِيحُهَا لَا يَجِبْ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كَانَتْ لِلْخَمْرِ فَقَدْ بَقِيَ اسْمُ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهَا وَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ الْمَمْزُوجِ بِالْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَكَذَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْخَمْرِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَوْ شَرِبَهَا يَجِبُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَوْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا إذَا سَكِرَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَمَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُنَصَّفَ وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ يَجِبُ حَدُّ السُّكْرِ كَمَا فِي الْمُنَصَّفِ وَيَحْرُمُ شُرْبُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ سَكِرُوا مِنْ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمْ ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا سَكِرُوا لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ حَدَّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ مُقَدَّرٌ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي الْأَحْرَارِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ وَبِأَرْبَعِينَ فِي الْعَبِيدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْحَدِّ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمْلِيكُهَا وَتَمَلُّكُهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِالْخَمْرِ وَإِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَمَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا يَشْرَبْهَا وَلَا يَبِعْهَا فَسَكَبُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ } إلَّا أَنَّهَا تُوَرَّثُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْرُوثِ ثَبَتَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ ، وَالْخَمْرُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مَالٌ عِنْدَنَا فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا إذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي حَقِّهِ وَإِتْلَافُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِنْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ يَضْمَنْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهَا نَجِسَةٌ غَلِيظَةٌ حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهَا رِجْسًا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } وَلَوْ بَلَّ بِهَا الْحِنْطَةَ فَغُسِلَتْ وَجُفِّفَتْ وَطُحِنَتْ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا طَعْمُ الْخَمْرِ وَرَائِحَتُهَا يَحِلَّ أَكْلُهُ وَإِنْ وُجِدَ لَا يَحِلَّ لِأَنَّ قِيَامَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ ، وَزَوَالَهَا دَلِيلُ زَوَالِهَا وَلَوْ سُقِيَتْ بَهِيمَةٌ مِنْهَا ثُمَّ ذُبِحَتْ فَإِنْ ذُبِحَتْ سَاعَةَ مَا سُقِيَتْ بِهِ تَحِلَّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّهَا فِي أَمْعَائِهَا بَعْدُ فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ تَحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَفَرَّقَتْ فِي الْعُرُوقِ وَالْأَعْصَابِ .
( وَمِنْهَا ) إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَلِّ بِلَا خِلَافِ لِقَوْلِهِ : - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَصِيرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ فَكَذَا الْخَمْرُ لَا يَصِيرُ خَلًّا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ وَيَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَلِيَّةِ فِيهِ هَذَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا ، فَأَمَّا إذَا خَلَّلَهَا صَاحِبُهَا بِعِلَاجٍ مِنْ خَلٍّ أَوْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، فَالتَّخْلِيلُ جَائِزٌ وَالْخَلُّ حَلَالٌ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ وَإِنْ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَنَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ { كَانَتْ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ خُمُورٌ لِأَيْتَامٍ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَا نَصْنَعُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرِقْهَا فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا } نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّخْلِيلِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ فِي الْفَسَادِ وَيَتَنَجَّسُ الظَّاهِرُ مِنْهُ ضَرُورَةً ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ فَيَحِلُّ فَحَقَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّخْلِيلَ وَأَثْبَتَ حِلَّ الْخَلِّ شَرْعًا وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا اسْتِدْلَالًا بِمَا إذَا أَمْسَكَهَا حَتَّى تَخَلَّلَتْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ أَنَّ بِهَذَا الصُّنْعِ صَارَ الْمَائِعُ حَامِضًا بِحَيْثُ لَا يَبِينُ فِي الذَّوْقِ أَثَرُ الْمَرَارَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ مَعَ بَقَائِهَا فِي ذَاتِهَا ، وَإِمَّا إنْ كَانَ لِتَغَيُّرِ الْخَمْرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا حُمُوضَةَ فِي الْمِلْحِ لِتَغَلُّبِ الْمَرَارَةِ وَكَذَا بِإِلْقَاءِ حُلْوٍ قَلِيلٍ يَصِيرُ حَامِضًا فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ لَا تَتَخَلَّلُ بِنَفْسِهَا عَادَةً ، وَالْقَلِيلُ لَا يَغْلِبُ الْكَثِيرَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ بِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَادَةَ عَلَى أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْخَلِّ يُغَيِّرُهَا مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اكْتِسَابَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا قَالَ : أَفَلَا أُخَلِّلُهَا ؟ قَالَ : - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَعَمْ } فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ دَفْعُ عَادَةِ الْعَامَّةِ ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَكَانَتْ بُيُوتُهُمْ لَا تَخْلُو عَنْ خَمْرٍ وَفِي الْبَيْتِ غِلْمَانٌ وَجَوَارٍ وَصِبْيَانٌ ، وَكَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَصَارَ عَادَةً لَهُمْ وَطَبِيعَةً ، وَالنُّزُوعُ عَنْ الْعَادَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ فَقَيِّمُ الْبَيْتِ إنْ كَانَ يَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ دِيَانَةً فَقَلَّ
مَا يَسْلَمُ الْأَتْبَاعُ عَنْهَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّخْلِيلِ إذْ لَا يَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهَا بَلْ بَعْدَ وَقْتٍ مُعْتَبَرٍ فَيُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي زَمَانِنَا لِيُقَرَّرَ التَّحْرِيمُ وَيَأْلَفَ الطَّبْعُ تَحْرِيمَهَا ؛ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عَنْ الدَّلِيلِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِيمَا قُلْنَاهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْفَسَادِ .
وَقَوْلُهُ : تَنْجِيسُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ نَعَمْ لَكِنْ لِحَاجَةٍ وَإِنَّهُ لَجَائِزٌ كَدَبْغِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ مَا إذَا أَلْقَى فِيهَا شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ الْمِلْحِ أَوْ السَّمَكِ أَوْ الْخَلِّ أَوْ كَثِيرًا حَتَّى تَحِلَّ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْخَلُّ كَثِيرًا لَا يَحِلُّ ، ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُلْقَى مِنْ الْخَلِّ إذَا كَانَ قَلِيلًا فَهَذَا تَخْلِيلٌ لِظُهُورِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَثِيرًا فَهَذَا لَيْسَ بِتَخْلِيلٍ بَلْ هُوَ تَغْلِيبٌ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَلْقَى فِيهَا كَثِيرًا مِنْ الْحَلَاوَاتِ حَتَّى صَارَ حُلْوًا ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَلْ يَتَنَجَّسُ الْكُلُّ فَكَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَخْلِيلٌ ؛ أَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالسَّمَكِ لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِانْعِدَامِ الْحُمُوضَةِ فِيهِمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ ، وَفِي الْكَثِيرِ يَكُونُ أَسْرَعَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) السَّكَرُ وَالْفَضِيخُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : - { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَأَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ } وَاَلَّتِي هَهُنَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِاسْمِ الْخَمْرِ فَكَانَ حَرَامًا وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ التَّدَاوِي بِالسَّكَرِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ السَّكَرُ هِيَ الْخَمْرُ لَيْسَ لَهَا كُنْيَةٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ قَالَ الْخَمْرُ أَحْيَتْهَا أَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ أَنَّ إيقَاعَ الزَّبِيبِ فِي الْمَاءِ إحْيَاءٌ لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ يَعُودُ عِنَبًا فَكَانَ نَقِيعُهُ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُتَّخَذُ إلَّا لِلسُّكْرِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَذْكِيرِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شُكْرِهَا فَيَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا فَالْجَوَابُ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا ، وَالثَّانِي إنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّغْيِيرِ أَيْ إنَّكُمْ تَجْعَلُونَ مَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ بَعْضَهَا حَرَامًا وَهُوَ الشَّرَابُ وَالْبَعْضَ حَلَالًا وَهُوَ الدِّبْسُ وَالزَّبِيبُ وَالْخَلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا } .
وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ عَلَى الْحَرَامِ لَا عَلَى الْحَلَالِ ، وَلَا يُكَفَّرُ
مُسْتَحِلُّهَا وَلَكِنْ يُضَلَّلُ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ وَلَمْ يُوجَدْ بِالسُّكْرِ لِأَنَّ حُرْمَةَ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِالسُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ثَابِتَةً بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيز كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْحُرْمَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَرَادَ بِهِ أَصْلَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى السُّكْرِ فِي كُلِّ شَرَابٍ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحُرْمَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَكَذَا جَمَعَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِّ فَقَالَ فِيمَا أَسْكَرَ مِنْ النَّبِيذِ ثَمَانُونَ وَفِي الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ثَمَانُونَ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ وَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْخَمْرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْبَيْعَ
مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا لِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ مَعَ كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصُّ وَرَدَ بِاسْمِ الْخَمْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ .
( وَمِنْهَا ) حُكْمُ نَجَاسَتِهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا لَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا كَالْخَمْرِ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ وَرُوِيَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَصْلًا لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } فَيَخْتَصُّ بِاسْمِ الْخَمْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهَا الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ كَمَا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِانْتِفَاعِ لَكِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يُكَفَّرَ مُسْتَحِلُّهَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي نَجَاسَتِهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ النِّيءِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْمَطْبُوخِ مِنْهَا أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ أَوْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَهُوَ الْمُنَصَّفُ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَيَصِحُّ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ فَالْحَرَامُ فِيهِ بَانَ ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي أُتِيت بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ فَمُرْ مَنْ قِبَلَك فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَالْقُوَّةُ الْمُسْكِرَةُ فِيهِ قَائِمَةٌ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ .
وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ وَإِذَا سَكِرَ حُدَّ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ لِمَا مَرَّ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ ، فَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ .
( وَأَمَّا ) الْمَطْبُوخُ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ، وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُمَا فَيَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا السُّكْرُ مِنْهُ وَهُوَ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ لَا أَشْرَبُ مِنْهُ ، وَالْحُجَجُ تُذْكَرُ فِي الْمُثَلَّثِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمُنَصَّفِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ ، ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ طَبْخَ الْعَصِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَهُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَصْرِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الطَّبْخِ بَقِيَتْ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ يَغْلِي وَيَشْتَدُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْلَطَ بِغَيْرِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الطَّبْخِ لَمْ يُعْمَلْ فِيهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الطَّبْخِ فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ وَلَا يُخْلَطُ بِهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْتَمِلْ الْغَلَيَانَ أَصْلًا ، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَالْمَاءُ يَغْلِي ، وَيُسْكِرُ إذَا خُلِطَ فِيهِ الْمَاءُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ بِالطَّبْخِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ يَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ ، يَعْنِي إذَا كَانَ يَغْلِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ سُلْطَانُهُ وَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَغْلِي بِنَفْسِهِ بِأَنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ سُلْطَانُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ الْمَدْقُوقُ فِي الْمَاءِ ثُمَّ طُبِخَ نَقِيعُهُ أَدْنَى طَبْخَةٍ ، فَأَمَّا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ كَمَا هُوَ وَصُفِّيَ مَاؤُهُ ثُمَّ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إنْقَاعَ الزَّبِيبِ إحْيَاءٌ لِلْعِنَبِ ، فَلَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُهُ إلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِأَنَّهُ زَبِيبٌ انْتَفَخَ بِالْمَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْمُثَلَّثُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا لَا يُسْكِرُ يَحِلُّ شُرْبُهُ .
( وَأَمَّا ) الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ وَقُعُودُهُ لِذَلِكَ وَالْمَشْيُ إلَيْهِ حَرَامٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ مُسْكِرٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ } إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِكَوْنِهِ مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ ، وَمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا احْتَجَّا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( أَمَّا ) الْحَدِيثُ فَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ لِشِدَّتِهِ ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَشَرِبَ مِنْهُ } ( وَأَمَّا ) الْآثَارُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ الشَّدِيدَ ، وَيَقُولُ : " إنَّا لَنَنْحَرُ الْجَزُورَ وَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْهَا لِآلِ عُمَرَ وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا النَّبِيذُ الشَّدِيدُ .
( وَمِنْهَا ) مَا رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنِّي أُتِيتُ بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ
ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ ، فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ ، نَصَّ عَلَى الْحِلِّ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ زَوَالُ الشِّدَّةِ الْمُسْكِرَةِ بِقَوْلِهِ " وَيَذْهَبُ رِيحُ جُنُونِهِ " ، وَنَدَبَ إلَى الشُّرْبِ بِقَوْلِهِ " فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ ( وَمِنْهَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا فَسَقَاهُمْ فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ فَحَدَّهُ فَقَالَ الرَّجُلُ : " تَسْقِينِي ثُمَّ تَحِدُّنِي " ، فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إنَّمَا أَحِدُّكَ لِلسُّكْرِ وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ : اشْرَبْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ ، فَإِذَا خِفْت السُّكْرَ فَدَعْ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِحْلَالُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيقِهِمْ ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلِهَذَا عَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إحْلَالَ الْمُثَلَّثِ مِنْ شَرَائِطِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، فَقَالَ فِي بَيَانِهَا : " أَنْ يُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ ، وَيُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ ، وَأَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَأَنْ لَا يَحْرُمَ نَبِيذَ الْخَمْرِ " لِمَا أَنَّ فِي الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ تَفْسِيقَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَالْكَفُّ عَنْ تَفْسِيقِهِمْ ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعْنِ فِيهِمْ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ .
( وَأَمَّا ) مَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ فَفِيهَا طَعْنٌ ، ثُمَّ بِهَا تَأْوِيلٌ ، ثُمَّ قَوْلٌ بِمُوجَبِهَا ( أَمَّا ) الطَّعْنُ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ رَدَّهَا ، وَقَالَ : " لَا تَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ " عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مِنْ نَقَلَةِ الْأَحَادِيثِ ، فَطَعْنُهُ يُوجِبُ جَرْحًا فِي الْحَدِيثَيْنِ ( وَأَمَّا ) التَّأْوِيلُ فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الشُّرْبِ
لِلتَّلَهِّي تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ ( وَأَمَّا ) الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْكِرَ عِنْدَنَا حَرَامٌ ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْكَارُ ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ ، وَهُوَ حَرَامٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، وَهَذَا قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْأَحَادِيثِ إنْ ثَبَتَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ خَمْرٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فِيهَا ، وَهُوَ صِفَةُ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ قُلْنَا : اسْمُ الْخَمْرِ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا حَقِيقَةٌ ، وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَالْمُخَامَرَةِ فِيهِ كَامِلٌ ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ نَاقِصٌ فَكَانَ حَقِيقَةً لَهُ مَجَازًا لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَرَكًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا عَامًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِاشْتِرَاكِ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى ، فَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ مَا يَقَعُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ ، كَاسْمِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا ، وَهَهُنَا مَا اخْتَلَفَ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعُمُومِ : أَنْ تَكُونَ أَفْرَادُ الْعُمُومِ مُتَسَاوِيَةً فِي قَبُولِ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ لَا مُتَفَاوِتَةً ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّسَاوِي هَهُنَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْخَمْرِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْجُمْهُورِيُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ ؛ لِأَنَّهُ مُثَلَّثٌ يَرِقُّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِئَلَّا يَفْسُدَ .
( وَأَمَّا ) الْخَلِيطَانِ فَحُكْمُهُمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ مِنْ النِّيءِ عَنْهُمَا وَالْمَطْبُوخِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ شُرْبِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا وَالزَّهْوِ وَالرُّطَبِ جَمِيعًا ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّيءِ وَالسُّكْرِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ نَبِيذِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا وَلَوْ طُبِخَ أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ صُبَّ قَدَحٌ مِنْ النِّيءِ فِيهِ أَفْسَدَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَغْلِبُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَلَوْ خُلِطَ الْعَصِيرُ بِالْمَاءِ فَإِنْ تُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ ، لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَفِيهِ نَظَرٌ : إنْ كَانَ الْمَاءُ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ أَوَّلًا بِالطَّبْخِ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ قَدْرُ الْمَاءِ ، ثُمَّ يُطْبَخُ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحِلُّ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَالْعَصِيرُ يَذْهَبَانِ مَعًا بِالطَّبْخِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ فَلَا يَحِلُّ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعُ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ السُّكَّرِ وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نِيئًا ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَإِنْ سَكِرَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ كَالْمُثَلَّثِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَمَا يَبْلُغُ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ أَنَّ بَقَاءَهُ وَعَدَمَ فَسَادِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ دَلِيلُ شِدَّتِهِ ، وَشِدَّتَهُ دَلِيلُ حُرْمَتِهِ ، ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَمْرِيَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشِدَّةٍ ، وَالشِّدَّةُ لَا تُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْعِدَامِ الْخَمْرِيَّةِ أَيْضًا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَمْرَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ فَاقْتَضَى اقْتِصَارَ الْخَمْرِيَّةِ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْ الشَّجَرَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سُكْرٌ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُبَاحٍ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالسُّكْرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَنَاوُلِ الْبَنْجِ وَالْخُبْزِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكِرَ بِشُرْبِ الْمُثَلَّثِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ هُنَاكَ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ الْمَحْظُورِ وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ .
( وَأَمَّا ) ظُرُوفُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَيُبَاحُ الشُّرْبُ مِنْهَا إذَا غُسِلَتْ إلَّا الْخَزَفَ الْجَدِيدَ الَّذِي يُتَشَرَّبُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ ، أَلَا فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ } فَإِنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ
( وَأَمَّا ) بَيَانُ حَدِّ السُّكْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، وَلَا يَعْقِلُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ السَّكْرَانُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى كَلَامِهِ الْهَذَيَانُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَيُسْتَقْرَأُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَهُوَ سَكْرَانٌ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا وَسَيِّدَنَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَحَضَرَتْهُمْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمَّهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } عَلَى طَرْحِ { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فَنَزَلَ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } .
وَهَذَا الِامْتِحَانُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ السُّكَارَى مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ أَصْلًا ، وَمَنْ تَعَلَّمَ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي حَالَةِ الصَّحْوِ خُصُوصًا مَنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ فِي حَالَةِ السُّكْرِ ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا شَرِبَ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي مَشْيِهِ وَأَطْرَافِهِ وَحَرَكَاتِهِ ، فَهُوَ سَكْرَانُ ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ غَايَتَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : شَهَادَةُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ السَّكْرَانَ فِي مُتَعَارَفِ
النَّاسِ اسْمٌ لِمَنْ هَذَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : إذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ يُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ ، فَيَقُولُ : أَصْلُ السُّكْرِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَابِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَلَا يُعْرَفُ بُلُوغُ السُّكْرِ غَايَتَهُ إلَّا بِمَا ذُكِرَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ ) وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْكَرَاهَةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ مَعْنَى اسْمِ الْكِتَابِ وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فِيهِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالِاسْتِحْسَانُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةِ الْحَسَنِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ الْمُسْتَحْسَنِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ حَسَنًا يُقَالُ اسْتَحْسَنْت كَذَا أَيْ رَأَيْته حَسَنًا فَاحْتَمَلَ تَخْصِيصُ هَذَا الْكِتَابِ بِالتَّسْمِيَةِ بِالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِصَاصِ عَامَّةِ مَا أُورِدَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِحَسَنٍ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلِكَوْنِهَا عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحْسِنُهَا الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ ( وَأَمَّا ) التَّسْمِيَةُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَسْمِيَةٌ طَابَقَتْ مَعْنَاهَا وَوَافَقَتْ مُقْتَضَاهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِبَيَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَكَذَا التَّسْمِيَةُ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ بَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُلُّ مُحَرَّمٍ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وَالشَّرْعُ لَا يُحِبُّ الْحَرَامَ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّ مَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَعَادَةُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُسَمِّيه حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُسَمِّيه مَكْرُوهًا وَرُبَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ إشْعَارًا مِنْهُ أَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فِيهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ الْمُحَرَّمَاتُ الْمَجْمُوعَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا وَنَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ( أَمَّا ) الَّذِي ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ فِي الْكُتُبِ فَلَا نُعِيدُهُ وَنَذْكُرُ مَا لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْكُتُبِ وَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ النِّسَاءِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ النِّسَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَهُوَ الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ لِلنِّكَاحِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ وَهُنَّ الْمَحَارِمُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ وَنَوْعُ مِنْهُنَّ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُنَّ أَصْلًا وَلَا مَحْرَمَ وَهُنَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ وَهُوَ الرَّحِمُ الَّذِي لَا يُحَرِّمُ النِّكَاحَ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ ( أَمَّا ) النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ فَيَحِلُّ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَسُّهَا مِنْ رَأْسِهَا إلَى قَدَمِهَا لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وَأَنَّهُ فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ فَكَانَ إحْلَالًا لَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } فَصَارَتْ حَالَةُ الْحَيْضِ مَخْصُوصَةً عَنْ عُمُومِ النَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا .
وَهَلْ يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِمَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ فَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ سُرَّتِهَا وَلَا يُبَاحُ بِمَا تَحْتَهَا إلَى الرُّكْبَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ مَعَ الْإِزَارِ فَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا تَحْتَ سُرَّتِهَا سِوَى الْفَرْجِ لَكِنْ مَعَ الْمِئْزَرِ لَا مَكْشُوفًا وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِ قَوْلِهِمَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَمَا تَحْتَهَا سِوَى الْفَرْجِ مَعَ الْمِئْزَرِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ فَوْقَ الْإِزَارِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى فَتَخْتَصُّ الْحُرْمَةُ بِمَوْضِعِ الْأَذَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ فَقَالَتْ يَتَّقِي شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ ( وَوَجْهُ ) قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَنَا مَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَلَهُ مَا فَوْقَهَا } وَرُوِيَ
{ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُنَّ إذَا حِضْنَ أَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَّزِرْنَ ثُمَّ يُضَاجِعُهُنَّ } وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا بِمَا يَقْرُبُ مِنْ الْفَرْجِ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } وَالْمُسْتَمْتِعُ بِالْفَخِذِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى وَيَرْتَعُ حَوْلَهُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ دَلَّ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ .
وَسَبَبُ الْحَرَامِ حَرَامٌ أَصْلُهُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ( وَأَمَّا ) الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا حَوْلَ الْفَرْجِ لَا يَخْلُو عَنْ الْأَذَى عَادَةً فَكَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ اسْتِعْمَالَ الْأَذَى وَقَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ أَيْ مَعَ الْإِزَارِ فَحُمِلَ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَى زَوْجِهَا وَاللَّمْسِ مِنْ فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ لَهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ فَهَذَا أَوْلَى وَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَى عَيْنِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ حَلَالٌ فَالنَّظَرُ إلَيْهِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْأَدَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَظَرْت إلَى مَا مِنْهُ وَلَا نَظَرَ إلَى مَا مِنِّي وَلَا يَحِلُّ إتْيَانُ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الْحَائِضِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ كَوْنُ الْمَحِيضِ أَذًى وَالْأَذَى فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَفْحَشُ وَأَذَمُّ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } { نَهَى عَنْ إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي مَحَاشِّهِنَّ } أَيْ أَدْبَارِهِنَّ .
وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَتْ الْآثَارُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهَا سُمِّيَتْ اللُّوطِيَّةَ الصُّغْرَى وَلِأَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الدُّنْيَا لَا يَثْبُتُ لِحَقِّ قَضَاءِ الشَّهَوَاتِ خَاصَّةً لِأَنَّ لِقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ خَاصَّةً دَارًا أُخْرَى وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِحَقِّ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَهِيَ حَاجَةُ بَقَاءِ النَّسْلِ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا إلَّا أَنَّهُ رُكِّبَتْ الشَّهَوَاتُ فِي الْبَشَرِ لِلْبَعْثِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَحَاجَةُ النَّسْلِ لَا تَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ فِي الْأَدْبَارِ فَلَوْ ثَبَتَ الْحِلُّ لَثَبَتَ لِحَقِّ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ خَاصَّةً وَالدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَهُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّانِي وَهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْمَنْكُوحَاتِ فَيَحِلُّ لِلْمَوْلَى النَّظَرُ إلَى سَائِرِ بَدَنِ جَارِيَتِهِ وَمَسُّهَا مِنْ رَأْسِهَا إلَى قَدَمِهَا لِأَنَّهُ حِلٌّ لَهُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةَ إلَّا أَنَّ حَالَةَ الْحَيْضِ صَارَتْ مَخْصُوصَةً فَلَا يَقْرَبُهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يَأْتِي فِي دُبُرِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا إذَا مَلَكهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } وَلِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } وَكَذَا فِيهِ وَهُمْ ظُهُورُ الْحَبَلِ بِهَا فَيَدَّعِيه وَيَسْتَحِقُّهَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ .
( وَأَمَّا ) الدَّوَاعِي مِنْ الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ فَلَا يَحِلُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا فِي الْمَسْبِيَّةِ وَقَالَ مَكْحُولٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ مُطْلِقٌ التَّصَرُّفَ وَلِهَذَا لَمْ تَحْرُمْ الدَّوَاعِي فِي الْمَسْبِيَّةِ وَلَا عَلَى الصَّائِمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ الْقُرْبَانُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ عَرَفْنَاهَا بِالنَّصِّ فَتَقْتَصِرُ الْحُرْمَةُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِخَوْفِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ فَهَذَا مَعْنَى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ إلَى الدَّوَاعِي فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ حُرْمَةَ الْقُرْبَانِ إنَّمَا تَثْبُتُ خَوْفًا عَنْ تَوَهُّمِ الْعُلُوقِ
وَظُهُورِ الْحَبَلِ وَعِنْدَ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الدَّوَاعِي مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ وَنَحْوِهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهَا وَلَا يَتَعَدَّى فِي الْمَسْبِيَّةِ فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالدَّوَاعِي وَسِيلَةٌ إلَى الْقُرْبَانِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ أَصْلُهُ الْخَلْوَةُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِي التَّوَسُّلِ إلَى الْحَرَامِ دُونَ الْمَسِّ فَكَانَ تَحْرِيمُهَا تَحْرِيمًا لِلْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأُولَى كَمَا فِي تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مِنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ مَنَعَ فَضْلَ الْمَسْبِيَّةِ وَزَعَمَ أَنْ لَا نَصَّ فِيهَا عَنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّ حِلَّ الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسْبِيَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَنْعُ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْعِلَّةَ الْأُولَى وَحُرْمَةُ الدَّوَاعِي فِي بَابِ الظِّهَارِ وَالْإِحْرَامُ ثَبَتَ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَالظِّهَارِ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ ذَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَيَحِلُّ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى رَأْسِهَا وَشَعْرِهَا وَأُذُنَيْهَا وَصَدْرِهَا وَعَضُدِهَا وَثَدْيِهَا وَسَاقِهَا وَقَدَمِهَا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ } الْآيَةَ نَهَاهُنَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ إبْدَاءَهَا لِلْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْهُمْ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالزِّينَةُ نَوْعَانِ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ الْكُحْلُ فِي الْعَيْنِ وَالْخَاتَمُ فِي الْأُصْبُعِ وَالْفَتْخَةُ لِلرَّجُلِ وَبَاطِنَةٌ وَهُوَ الْعِصَابَةُ لِلرَّأْسِ وَالْعِقَاصُ لِلشَّعْرِ وَالْقُرْطُ لِلْأُذُنِ وَالْحَمَائِلُ لِلصَّدْرِ وَالدُّمْلُوجُ لِلْعَضُدِ وَالْخَلْخَالُ لِلسَّاقِ وَالْمُرَادُ مِنْ الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا لَا نَفْسُهَا لِأَنَّ إبْدَاءَ نَفْسِ الزِّينَةِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ .
وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزِّينَةَ مُطْلَقَةً فَيَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهَا بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ بَيْنَ الْمَحَارِمِ لِلزِّيَارَةِ وَغَيْرِهَا ثَابِتَةٌ عَادَةً فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ عَنْ الْكَشْفِ إلَّا بِحَرَجٍ وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا وَكُلُّ مَا جَازَ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ جَازَ مَسُّهُ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَحْتَاجُ إلَى إرْكَابِهَا وَإِنْزَالِهَا فِي الْمُسَافَرَةِ مَعَهَا وَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَنْ الِانْكِشَافِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَحْرَمِ الصِّيَانَةُ عَنْ مَسَّ الْمَكْشُوفِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَسِّهَا مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ إنَّمَا ثَبَتَ خَوْفًا عَنْ حُصُولِ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْجِمَاعِ وَالنَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَمَسُّهَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَا يُورِثُ الشَّهْوَةَ لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ لِلشَّهْوَةِ عَادَةً بَلْ لِلشَّفَقَةِ وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ
بِتَقْبِيلِ أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ الْغَزْوِ قَبَّلَ رَأْسَ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ وَالْمَسُّ عَنْ شَهْوَةٍ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي فَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْتَهِي أَوْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ نَظَرَ أَوْ مَسَّ اشْتَهَى لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْحَرَام فَيَكُونُ حَرَامًا وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثًا فَمَا فَوْقَهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا } وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمَحْرَمُ إلَيْهِ فِي السَّفَرِ مَسَّهَا فِي الْحَمْلِ وَالْإِنْزَالِ وَيَحِلُّ لَهُ مَسُّهَا فَتَحِلُّ الْمُسَافَرَةُ مَعَهَا وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الْمَسُّ فَالْخَلْوَةُ أَوْلَى فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَفْعَلْ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَخْلُوَنَّ الرَّجُلُ بِمُغَيَّبَةٍ وَإِنَّ قِيلَ حَمُوهَا أَلَا حَمُوهَا الْمَوْتُ } وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ أَوْ يَكُونُ نَهْيَ نَدْبٍ وَتَنْزِيهٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا وَإِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَخَّصَ النَّظَرَ لِلْمَحَارِمِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ } الْآيَةَ فَبَقِيَ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا مَأْمُورًا بِهِ .
وَإِذَا لَمْ
يَحِلَّ النَّظَرُ فَالْمَسُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْوَى وَلِأَنَّ رُخْصَةَ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِلْحَاجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا حَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَى مَا وَرَاءَهَا فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا بِحَقِّ الشَّهْوَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَالظِّهَارُ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمَنْكُوحَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَهْرُ الْأُمِّ حَرَامُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ لَمْ يَكُنْ الظِّهَارُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مِنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ هَذَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مَكْشُوفَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالثِّيَابِ وَاحْتَاجَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إلَى إرْكَابِهَا وَإِنْزَالِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ بَطْنَهَا أَوْ ظَهْرَهَا أَوْ فَخِذَهَا مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَسَّ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَا يُورِثُ الشَّهْوَةَ عَادَةً خُصُوصًا مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ حَتَّى لَوْ خَافَ الشَّهْوَةَ فِي الْمَسِّ لَا يَمَسُّهُ وَلِيَجْتَنِبْ مَا اسْتَطَاعَ وَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ مِنْ النَّظَرِ وَالْمَسُّ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ ذَلِكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَرُوِيَ أَنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي الْقُعَيْسِ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِيهِ } .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ فَحُكْمُهُنَّ أَيْضًا فِي حِلِّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَحَرَّمَتْهُمَا حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهُنَّ وَمَسُّهَا وَلَا يَحِلُّ مَا سِوَى ذَلِكَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَّ نَاصِيَةَ أَمَةٍ وَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ } وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى أَمَةً مُتَقَنِّعَةً فَعَلَاهَا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يَا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ فَدَلَّ عَلَى حِلِّ النَّظَرِ إلَى رَأْسِهَا وَشَعْرِهَا وَأُذُنِهَا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْبَيْعِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهَا وَقَالَ اشْتَرُوا وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُتَوَهَّمْ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَمَسَّهَا وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَسِّهَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِمَعْرِفَةِ بَشَرَتِهَا مِنْ اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قِيمَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَطْرَافِهَا فَأُلْحِقَتْ بِذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يَحِلُّ بِهِنَّ الْمُسَافَرَةُ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسِّ وَالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالنَّظَرِ إلَى الْأَطْرَافِ وَمَسِّهَا وَهَذَا إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهْوَةَ فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَشْتَهِيَ لَوْ نَظَرَ أَوْ مَسَّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ اشْتَهَى إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النَّظَرِ لِمَا قُلْنَا فَيَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فَصَارَ النَّظَرُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ مِنْ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ وَالْمُتَزَوِّجِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ فَكَذَا هَذَا وَكَذَا لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَمَسَّ .
وَإِنْ اشْتَهَى إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلشَّابِّ مَسُّ شَيْءٍ مِنْ الْأَمَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى الْعِلْمِ بِبَشَرَتِهَا وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِاللَّمْسِ فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ وَكَذَا يَحِلُّ لِلْأَمَةِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ مِنْ الرِّجْلِ الْأَجْنَبِيِّ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ إلَّا أَنْ تَخَافَ الشَّهْوَةَ فَتَجْتَنِبُ كَالرَّجُلِ وَكُلُّ جَوَابِ عَرَفْته فِي الْقِنَّةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِمَا .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ السَّادِسُ وَهُوَ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ فَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ إلَى سَائِرِ بَدَنِهَا إلَّا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } إلَّا أَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ رُخِّصَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَالْمُرَادُ مِنْ الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا وَمَوَاضِعُ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ فَالْكُحْلُ زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَلَا يُمْكِنُهَا ذَلِكَ عَادَةً إلَّا بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَيَحِلُّ لَهَا الْكَشْفُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى الْقَدَمَيْنِ أَيْضًا .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الْقَلْبُ وَالْفَتْخَةُ وَهِيَ خَاتَمُ أُصْبُعِ الرَّجُلِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى الْقَدَمَيْنِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَاسْتَثْنَى مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَالْقَدَمَانِ ظَاهِرَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ عِنْدَ الْمَشْيِ ؟ فَكَانَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْحَظْرِ فَيُبَاحُ إبْدَاؤُهُمَا ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أَنَّهُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ الْكَفُّ وَالْوَجْهُ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى عَلَى ظَاهِرِ النَّهْيِ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَلَا حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْقَدَمَيْنِ فَلَا
يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا ثُمَّ إنَّمَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فَأَمَّا عَنْ شَهْوَةٍ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ } وَلَيْسَ زِنَا الْعَيْنَيْنِ إلَّا النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ وَلِأَنَّ النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ دُعِيَ إلَى شَهَادَةٍ أَوْ كَانَ حَاكِمًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا لِيُجِيزَ إقْرَارَهَا عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا .
وَإِنْ كَانَ لَوْ نَظَرَ إلَيْهَا لَاشْتَهَى أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ قَدْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَصَّ النَّظَرَ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ لِمَنْ قَصَدَ إقَامَةَ حِسْبَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ فِي الْحُرْمَةِ فَوْقَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَمَعَ ذَلِكَ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَهَذَا أَوْلَى وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ تَقْدِيمِ النَّظَرِ أَدَلُّ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً اذْهَبْ فَانْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } دَعَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّظَرِ مُطْلَقًا وَعَلَّلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ .
( وَأَمَّا ) الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ مِنْ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَالْأَفْضَلُ لِلشَّابِّ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَذَا الشَّابَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ يُؤَيِّدُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أَنَّهُ الرِّدَاءُ وَالثِّيَابُ فَكَانَ غَضُّ الْبَصَرِ وَتَرْكُ النَّظَرِ أَزْكَى وَأَطْهَرَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { قُلْ لَلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَرُوِيَ { أَنَّ أَعْمَيَيْنِ دَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَأُخْرَى فَقَالَ لَهُمَا قُومَا فَقَالَتَا إنَّهُمَا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمَا أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا } إلَّا إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ بِأَنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ فِيهِمَا .
وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ إلَى مَوْلَاتِهِ كَالْحُرِّ الَّذِي لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَوَاءٌ وَكَذَا الْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ وَالْمُخَنَّثُ إذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ سَوَاءُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قُلْ لَلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَلِأَنَّ الرِّقَّ وَالْخِصَاءَ لَا يُعْدِمَانِ الشَّهْوَةَ وَكَذَا الْعُنَّةُ وَالْخُنُوثَةُ ( أَمَّا ) الرِّقُّ فَظَاهِرٌ ( وَأَمَّا ) الْخِصَاءُ فَإِنَّ الْخَصِيَّ رَجُلٌ إلَّا أَنَّهُ مُثِّلَ بِهِ إلَى هَذَا أَشَارَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ إنَّهُ رَجُلٌ مُثِّلَ بِهِ أَفَتُحِلُّ لَهُ الْمُثْلَةُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى غَيْرِهِ .
(
وَأَمَّا ) الْعُنَّةُ وَالْخُنُوثَةُ فَالْعِنِّينُ وَالْمُخَنَّثُ رَجُلَانِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِلْمَرْأَةِ مُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يَنْصَرِفُ إلَى الْإِمَاءِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَبِيدِ صَارَ مَعْلُومًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ } إذْ الْعَبْدُ مِنْ جُمْلَةِ التَّابِعِينَ مِنْ الرِّجَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } مَصْرُوفًا إلَى الْإِمَاءِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ فَإِنْ قِيلَ حُكْمُ الْإِمَاءِ صَارَ مَعْلُومًا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أَوْ التَّابِعِينَ } فَالصَّرْفُ إلَيْهِنَّ يُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ أَيْضًا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ الْحَرَائِرِ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْرِيفِ حُكْمِ الْإِمَاءِ فَأَبَانَ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أَنَّ حُكْمَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِيهِ سَوَاءٌ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { كَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ لَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ فَحَجَبُوهُ } وَكَذَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُك عَلَى بِنْتِ غِيلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا أَرَى يَعْرِفُ هَذَا مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ } هَذَا إذَا بَلَغَ الْأَجْنَبِيُّ مَبْلَغَ الرِّجَالِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ فَلَا بَأْسَ لَهُنَّ مِنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُمْ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } مُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } إلَّا لِمَنْ ذُكِرَ وَالطِّفْلُ فِي اللُّغَةِ الصَّبِيُّ مَا بَيْنَ أَنْ يُولَدَ إلَى أَنْ يَحْتَلِمَ وَأَمَّا الَّذِي يَعْرِفُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَرُبَ مِنْ الْحُلُمِ فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبْدِي زِينَتَهَا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّبِيِّ أُمِرَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } إلَّا إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ بِأَنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ فِيهِمَا وَرُوِيَ { أَنَّ أَعْمَيَيْنِ دَخَلَا عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ وَأُخْرَى فَقَالَ لَهُمَا قُومَا فَقَالَتَا إنَّهُمَا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا } هَذَا حُكْمُ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَأَمَّا حُكْمُ مَسِّ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ فَلَا يَحِلُّ مَسُّهُمَا لِأَنَّ حِلَّ النَّظَرِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَسِّ مَعَ مَا أَنَّ الْمَسَّ فِي بَعْثِ الشَّهْوَةِ وَتَحْرِيكِهَا فَوْقَ النَّظَرِ وَإِبَاحَةُ أَدْنَى الْفِعْلَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ أَعْلَاهُمَا هَذَا إذَا كَانَ شَابَّيْنِ فَإِنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ لِخُرُوجِ الْمُصَافَحَةِ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُورِثَةً لِلشَّهْوَةِ لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَافِحُ
الْعَجَائِزَ } ثُمَّ إنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ إلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ أَوْ الْقَدَمَيْنِ أَيْضًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَتْ مَكْشُوفَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالثَّوْبِ فَإِنْ كَانَ ثَوْبُهَا صَفِيقًا لَا يَلْتَزِقُ بِبَدَنِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا وَيَتَأَمَّلَ جَسَدَهَا لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الثَّوْبُ دُونَ الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَ ثَوْبُهَا رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ وَيَشِفُّ أَوْ كَانَ صَفِيقًا لَكِنَّهُ يَلْتَزِقُ بِبَدَنِهَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ جَسَدُهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَبَانَ جَسَدَهَا كَانَتْ كَاسِيَةً صُورَةً عَارِيَّةً حَقِيقَة وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ } وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلْت عَلَيَّ أُخْتِي السَّيِّدَةُ أَسْمَاءُ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ شَامِيَّةٌ رِقَاقٌ وَهِيَ الْيَوْمَ عِنْدَكُمْ صِفَاقٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذِهِ ثِيَابٌ تَمُجُّهَا سُورَةُ النُّورِ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَارَتْنِي أُخْتِي فَقُلْت لَهَا مَا قُلْت فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا } فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُرَّةَ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ مِنْهَا إلَّا إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ السَّابِعُ وَهُوَ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْحَرَائِرِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَالنَّهْيِ عَنْ إبْدَاءِ زِينَتِهِنَّ إلَّا لِلْمَذْكُورِينَ فِي مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ وَذُو الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَتْ مَنْهِيَّةً عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي وَهُوَ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إلَى سَائِرِ جَسَدِهِ إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ لِيَخْتِنَهُ وَيُدَاوِيَهُ بَعْدَ الْخَتْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ بِمَوْضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْ الرَّجُلِ قُرْحٌ أَوْ جُرْحٌ أَوْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُدَاوَاةِ الرَّجُلِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى السُّرَّةِ فَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ وَالسُّرَّةُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ } وَالرُّكْبَةُ مَا تَحْتَهَا فَكَانَتْ عَوْرَةً إلَّا أَنَّ مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ صَارَ مَخْصُوصًا فَبَقِيَتْ الرُّكْبَةُ تَحْتَ الْعُمُومِ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ عَظْمِ السَّاقِ وَالْفَخِذِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ وَالْفَخِذُ مِنْ الْعَوْرَةِ وَالسَّاقُ لَيْسَ مِنْ الْعَوْرَةِ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا بِخِلَافِ السُّرَّةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ مَعْلُومٍ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا اتَّزَرَ أَبْدَى سُرَّتَهُ وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً لَمَا اُحْتُمِلَ مِنْهُ كَشْفُهَا هَذَا حُكْمُ النَّظَرِ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْمَسِّ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُصَافَحَةَ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَصَافَحُوا تَحَابُّوا } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ } وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَصَافَحُونَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فَكَانَتْ سُنَّةً مُتَوَارَثَةً وَاخْتُلِفَ فِي الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَبِّلَ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ( وَوَجْهُهُ ) مَا رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْحَبَشَةِ عَانَقَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ } وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النَّبِيِّ الْحِلُّ وَكَذَا رَوَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا رَجَعُوا مِنْ أَسْفَارِهِمْ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُعَانِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ { أَيُقَبِّلُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَقَالَ لَا فَقِيلَ أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا فَقِيلَ أَيُصَافِحُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَعَمْ } وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعَانَقَةَ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا كَانَتْ شَبِيهَةً بِمَا وُضِعَتْ لِلشَّهْوَةِ فِي حَالَةِ التَّجَرُّدِ فَأَمَّا إذَا قُصِدَ بِهَا الْمَبَرَّةُ وَالْإِكْرَامُ فَلَا تُكْرَهُ وَكَذَا التَّقْبِيلُ الْمَوْضُوعُ لِقَضَاءِ الْوَطَرِ وَالشَّهْوَةِ هُوَ الْمُحَرَّمُ فَإِذَا زَالَ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ أُبِيحَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( وَأَمَّا ) الثَّالِثُ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ ، لَا يَحِلُّ لَهَا ، فَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى سَائِرِ جَسَدِهَا إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ خَوْفُ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ حَتَّى لَوْ خَافَتْ ذَلِكَ تَجْتَنِبُ عَنْ النَّظَرِ كَمَا فِي الرَّجُلِ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى الرُّكْبَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَتْ قَابِلَةً فَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ .
وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ فِي امْرَأَةِ الْعِنِّينِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى شَرْطِ الْبَكَارَةِ إذَا اخْتَصَمَا وَكَذَا إذَا كَانَ بِهَا جُرْحٌ أَوْ قُرْحٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُدَاوِيَهَا إذَا عَلِمَتْ الْمُدَاوَاةَ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ تَتَعَلَّمْ ثُمَّ تُدَاوِيهَا فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ امْرَأَةٌ تَعْلَمُ الْمُدَاوَاةَ وَلَا امْرَأَةٌ تَتَعَلَّمُ وَخِيفَ عَلَيْهَا الْهَلَاكُ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ وَجَعٌ لَا تَحْتَمِلُهُ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ لَكِنْ لَا يَكْشِفُ مِنْهَا إلَّا مَوْضِعَ الْجُرْحِ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ الشَّرْعِيَّةَ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِهَا الضَّرُورَةُ وَالْحُكْمُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ الدُّخُولِ فِي بَيْتِ الْغَيْرِ فَالدَّاخِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مَحَارِمِهِ فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } قِيلَ تَسْتَأْنِسُوا أَيْ تَسْتَأْذِنُوا وَقِيلَ تُسْتَعْلَمُوا وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ طَلَبُ الْإِذْنِ وَالِاسْتِعْلَامَ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْإِذْنُ إعْلَامٌ وَسَوَاءً كَانَ السَّكَنُ فِي الْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لِأَمْوَالِهِ وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ يَكْرَهُ اطِّلَاعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ { مَنْ دَخَلَ بَيْتًا بِغَيْرِ إذْنٍ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ عَصَيْتَ وَآذَيْتَ فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصْعَدُ صَوْتُهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتَقُولُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ أُفٍّ لِفُلَانٍ عَصَى رَبَّهُ وَأَذَى } وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَأُذُنَ لَهُ حَلَّ لَهُ الدُّخُولُ يَدْخُلُ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلَا يُقَدِّمُ التَّسْلِيمَ عَلَى الدُّخُولِ كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وَلِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِذَا دَخَلَ يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ ثَانِيًا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ وَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ فَلْيَرْجِعْ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى الْبَابِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ { الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ
مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِنَّ فَلْيَرْجِعْ أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَسْمَعُ الْحَيُّ وَأَمَّا الثَّانِي فَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا } فَإِذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَقْعُدَ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ لِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالًا فِي الْمَنَازِلِ فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَلَ قُلُوبَهُمْ وَلَعَلَّ لَا تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْقُعُودِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } هَذَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ الدُّخُولُ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِأَنْ سَمِعَ فِي دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ فَلْيَدْخُلْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ فَلَوْ شُرِطَ الْإِذْنُ لَتَعَذَّرَ التَّغْيِيرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِعُمُومِ النَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهَا فَيَكْرَهَانِ ذَلِكَ وَهَكَذَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ أَنَا أَخْدُمُ أُمِّي وَأُفْرِشُهَا أَلَا أَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ فَسَأَلَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسُرُّك أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ فَقَالَ لَا قَالَ اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا } وَكَذَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي ؟ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ مَا يَسُوءُكَ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُطْلَقُ النَّظَرِ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ مِنْهَا شَرْعًا
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَيَدْخُلُ فِي بَيْتِ سَيِّدِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ ؛ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعِنْدَ الظُّهْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَلِأَنَّ هَذِهِ أَوْقَاتُ التَّجَرُّدِ وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ فِي الْعَادَةِ ( أَمَّا ) قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَوَقْتُ الْخُرُوجِ مِنْ ثِيَابِ النَّوْمِ وَوَقْتُ الظَّهِيرَةِ وَقْتُ وَضْعِ الثِّيَابِ لِلْقَيْلُولَةِ وَأَمَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَوَقْتُ وَضْعِ ثِيَابِ النَّهَارِ لِلنَّوْمِ وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْعَوْرَاتِ بَعْدَهَا تَكُونُ مَسْتُورَةً عَادَةً .
وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَسَوَاءً كَانَ الْمَمْلُوكُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ أَوْقَاتِ غُرَّةٍ وَسَاعَاتِ غَفْلَةٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي الصِّغَارِ لِلسَّادَاتِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ كَمَا فِي الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ الصِّغَارِ ( وَأَمَّا ) الصِّبْيَانُ فَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَيَدْخُلُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ بِأَنْ قَرُبَ مِنْ الْبُلُوغِ يَمْنَعُهُ الْأَبُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ تَأْدِيبًا وَتَعْلِيمًا لِأُمُورِ الدِّينِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا وَضَرَبَهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشْرًا وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْبَيْتُ مَسْكُونًا
بِأَنْ كَانَ لَهُ سَاكِنٌ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ وَالْخَرِبَاتِ الَّتِي تُقْضَى فِيهَا حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِقَوْلِهِ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } أَيْ مَنْفَعَةٌ لَكُمْ وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَمَنْفَعَةُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فِي الْخَرِبَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ { لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ قَالَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْبُيُوتِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } } وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الدُّخُولِ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْخَلْوَةُ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَالْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ } وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِالْخَلْوَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ مَا خَلَوْت بِامْرَأَةٍ قَطُّ مَخَافَةَ أَنْ أَدْخُلَ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرَ غَيْرِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ بِشَعْرِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ } وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ وَالِانْتِفَاعُ بِالْجُزْءِ الْمُنْفَصِلِ مِنْهُ إهَانَةٌ لَهُ وَلِهَذَا كُرِهَ بَيْعُهُ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ مِنْ شَعْرِ الْبَهِيمَةِ وَصُوفِهَا لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِطَرِيقِ التَّزَيُّنِ بِمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا احْتَمَلَ الِاسْتِعْمَالُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ فَكَذَا فِي التَّزَيُّنِ .
وَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا ( وَأَمَّا ) الْمَنْكُوحَةُ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً يُكْرَهُ لَهُ الْعَزْلُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ حَقًّا وَفِي الْعَزْلِ فَوَّتَ الْوَلَدَ وَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ حَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَإِذَا رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْإِذْنَ بِذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى أَمْ إلَيْهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِذْنُ فِيهَا إلَى مَوْلَاهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَيْهَا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْعَزْلُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْحُرَّةِ لِمَكَانِ خَوْفِ فَوْتِ الْوَلَدِ الَّذِي لَهَا فِيهِ حَقٌّ وَالْحَقُّ هَهُنَا فِي الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْأَمَةِ وَقَوْلُهُمَا فِيهِ نُقْصَانُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ دَلَّ أَنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ فُلَانٍ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ } ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا اللَّفْظِ يُوهِمُ التَّشْبِيهَ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلَائِقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ وَعَلَا فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ عِزَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْقُودًا بِهِ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ فِي حَدِّ الْآحَادِ إذَا كَانَ مُوهِمًا لِلتَّشْبِيهِ فَالْكَفُّ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ أَسْلَمُ .
وَيُكْرَهُ حَمْلُ الْخِرْقَةِ لِمَسْحِ الْعِرْقِ وَالِامْتِخَاطِ تَرَفُّعًا بِهَا وَتَكَبُّرًا لِأَنَّ التَّكَبُّرَ مِنْ الْمَخْلُوقِ مَذْمُومٌ وَكَذَا هُوَ تَشْبِيهٌ بِزِيِّ الْعَجَمِ وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ فَأَمَّا الْحَاجَةُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ لَاحْتَاجَ إلَى الْأَخْذِ بِالْكَمِّ وَالذَّيْلِ وَفِيهِ إفْسَادُ ثَوْبِهِ .
وَلَا بَأْسَ بِرَبْطِ الْخَيْطِ فِي الْأُصْبُعِ أَوْ الْخَاتَمِ لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعَانَةً عَلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ بِالتَّذْكِيرِ وَدَفْعِ النِّسْيَانِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ .
وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَعَظِّمُوا قِبْلَةَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا تَسْتَقْبِلُوهَا وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا } وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ .
( وَأَمَّا ) الِاسْتِدْبَارُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُكْرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُكْرَهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ { رَأَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ } وَلِأَنَّ فَرْجَهُ لَا يُوَازِي الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاسْتِدْبَارِ وَإِنَّمَا يُوَازِي الْأَرْضَ بِخِلَافِ حَالَةِ الِاسْتِقْبَالِ هَذَا إذَا كَانَ فِي الْفَضَاءِ فَإِنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِقْبَالِ فِي الْبُيُوتِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ ( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَالْبُيُوتِ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلِأَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَبَيْنَ الْبُيُوتِ إنْ كَانَ وُجُودُ الْحَائِلِ مِنْ الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ وُجِدَ الْحَائِلُ فِي الْفَضَاءِ وَهُوَ الْجِبَالُ وَغَيْرُهَا وَلَمْ يَمْنَعْ الْكَرَاهَةَ فَكَذَا هَذَا .
وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى مُتَوَضَّأٍ أَوْ مَخْرَجٍ أَوْ حَمَّامٍ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَأَمَّا مَسْجِدُ الْبَيْتِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَيَّنَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ لِلصَّلَاةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ .
وَتُكْرَهُ التَّصَاوِيرُ فِي الْبُيُوتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ } وَلِأَنَّ إمْسَاكَهَا تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إلَّا إذَا كَانَتْ عَلَى الْبُسُطِ أَوْ الْوَسَائِدِ الصِّغَارِ الَّتِي تُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ لِيُجْلَسَ عَلَيْهَا فَلَا تُكْرَهُ لِأَنَّ دَوْسَهَا بِالْأَرْجُلِ إهَانَةٌ لَهَا فَإِمْسَاكُهَا فِي مَوْضِعِ الْإِهَانَةِ لَا يَكُونُ تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ إلَّا أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهَا فَيُكْرَهُ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ وَيُكْرَهُ عَلَى السُّتُورِ وَعَلَى الْأُزُرِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْحَائِطِ وَعَلَى الْوَسَائِدِ الْكِبَارِ وَعَلَى السَّقْفِ لَمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْسٌ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ صُورَةً بَلْ تَكُونُ نَقْشًا فَإِنْ قَطَعَ رَأْسَهُ بِأَنْ خَاطَ عَلَى عُنُقِهِ خَيْطًا فَذَاكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا صُورَةً بَلْ ازْدَادَتْ حِلْيَةً كَالطَّوْقِ لِذَوَاتِ الْأَطْوَاقِ مِنْ الطُّيُورِ ثُمَّ الْمَكْرُوهُ صُورَةُ ذِي الرُّوحِ فَأَمَّا صُورَةُ مَا لَا رُوحَ لَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ وَالْقَنَادِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَرِّدُوا مَصَاحِفَكُمْ وَذَلِكَ فِي تَرْكِ التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْخَلَلِ فِي تَحَفُّظِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَيْهِ فَلَا يَجْتَهِدُ فِي التَّحَفُّظَ بَلْ يَتَكَاسَلُ لَكِنْ قِيلَ هَذَا فِي بِلَادِهِمْ فَأَمَّا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ فَلَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْعَجَمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ بِدُونِهِ وَلِهَذَا جَرَى التَّعَارُفُ بِهِ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ مَسْنُونًا لَا مَكْرُوهًا .
وَلَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ لِأَنَّ تَزْيِينَ الْمَسْجِدِ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِهِ لَكِنْ مَعَ هَذَا تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ صَرْفَ الْمَالِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْلَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ رَأَى مَالًا يُنْقَلُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ الْمَسَاكِينُ أَحْوَجُ مِنْ الْأَسَاطِينِ وَكَانَ لِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرِيدُ النَّخْلِ وَهَذَا إذَا نَقَشَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَأَمَّا مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَوْ فَعَلَ الْقَيِّمُ مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ قِيلَ إنَّهُ يَضْمَنُ .
وَلَا يَعُقُّ عَنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ وَسَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَبْشًا كَبْشًا } .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ دَمٍ كَانَ قَبْلَهَا وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْم كَانَ قَبْلَهُ وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا } وَالْعَقِيقَةُ كَانَتْ قَبْلَ الْأُضْحِيَّةِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهَا كَالْعَتِيرَةِ وَالْعَقِيقَةِ مَا كَانَتْ قَبْلَهَا فَرْضًا بَلْ كَانَتْ فَضْلًا وَلَيْسَ بَعْدَ نَسْخِ الْفَضْلِ إلَّا الْكَرَاهَةُ بِخِلَافِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَبَعْضِ الصَّدَقَاتِ الْمَنْسُوخَةِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا وَانْتِسَاخِ الْفَرْضِيَّةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّايَةَ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَيِّدَهُ أَمَّا الرَّايَةُ وَهِيَ الْغُلُّ فَلِأَنَّهُ شَيْءٌ أَحْدَثَتْهُ الْجَبَابِرَةُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } فَأَمَّا التَّقْيِيدُ فَلَيْسَ بِمُحْدَثِ بَلْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَيَّدَ عَبْدًا لَهُ يُعَلِّمُهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَبِهِ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ ضَرْبَ الرَّايَةِ عَلَى الْعَبْدِ لِإِبْقَاءِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ مَعَ الْأَمْنِ عَنْ الْإِبَاقِ إلَّا أَنْ لَا يَحْصُلُ بِالرَّايَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إذَا رَآهُ يَمْشِي مَعَ الرَّايَةِ يَظُنُّهُ آبِقًا فَيَصْرِفُهُ عَنْ وَجْهِهِ وَيَرُدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ فَلَا يُمْكِنهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ضَرْبُ الرَّايَةِ عَلَيْهِ مُفِيدًا .
وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدَاوِي وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وَقَدْ خَلْقَ لَهُ دَوَاءً إلَّا السَّامَ وَالْهَرَمَ } .
وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالْأَرْبَعَةِ عَشْرٍ وَهِيَ لَعِبٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ قِمَارٌ أَوْ لَعِبٌ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ ( أَمَّا ) الْقِمَارُ فَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ } وَهُوَ الْقِمَارُ كَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ كُلُّهُ حَتَّى الْجَوْزُ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا أَلْهَاكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ } ( وَأَمَّا ) اللَّعِبُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي } وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْحِيذَ الْخَاطِر وَتَذْكِيَةَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمَ بِتَدَابِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ فَأَشْبَهَ الرِّمَايَة وَالْفُرُوسِيَّة وَبِهَذَا لَا يَخْرُج عَنْ كَوْنِهِ قِمَارًا وَلَعِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ التَّسْلِيم عَلَى اللَّاعِبِينَ بِالشِّطْرَنْجِ تَحْقِيرًا لَهُمْ لِزَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ فَكَانَ التَّسْلِيمُ بَعْض مَا يَمْنَعهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُكْرَهُ .
وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ يَهُودِيًّا فَقَالَ لَهُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَجِبْ مُحَمَّدًا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ } وَلِأَنَّ عِيَادَةَ الْجَارِ قَضَاءُ حَقِّ الْجِوَارِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ مَعَ مَا فِي الْعِيَادَةِ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ رَجَاءَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا ؟ .
وَيُكْرَهُ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ لِكُلِّ بِرٍّ وَخَيْرٍ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ لِلْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ لَا بَأْسَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مُجَازَاةً لَهُ وَلَكِنْ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْك لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْك } .
وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَسَاجِدَ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ النَّجَسِ وَاجِبٌ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ بَعْضِ الطَّاهِرَاتِ كَالنُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنْ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنْ النَّارِ } فَعَنْ النَّجَاسَةِ أَوْلَى وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } خَصَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ حُرْمَةِ الدُّخُولِ بِهِ لِيَكُونَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وُفُودِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَذَا وَفْدُ ثَقِيفٍ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ { وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ } جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَسْجِدَ مَأْمَنًا وَدَعَاهُمْ إلَى دُخُولِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَدْعُوَ إلَى الْحَرَامِ ( وَأَمَّا ) الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ نَجَسُ الِاعْتِقَادِ وَالْأَفْعَالِ لَا نَجَسُ الْأَعْيَانِ إذْ لَا نَجَاسَةَ عَلَى أَعْيَانِهِمْ حَقِيقَةً وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } نَهْيٌ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ لَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَوْفَ الْعَيْلَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ إذَا دَخَلُوا مَكَّةَ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يَتَحَقَّقُ خَوْفُ الْعَيْلَةِ وَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنَادِي أَلَا لَا يَحُجُّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ } فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِمَا أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إتْيَانِ مَكَّةَ الْبَيْتُ وَالْبَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمُسْلَمٌ بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَمْلِكُ ثَمَنَهَا فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الدَّيْنُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِكَوْنِهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِ فَمَلَكَ ثَمَنَهَا فَصَحَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
رَجُلٌ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ وَهُنَاكَ لَعِبٌ أَوْ غِنَاءٌ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَنَّ هُنَاكَ ذَاكَ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَإِنْ كَانَ مِنْ غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّغْيِيرُ يُجِيبُ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَى مَسْنُونَةٌ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا } وَتَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ مَفْرُوضٌ فَكَانَ فِي الْإِجَابَةِ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّغْيِيرُ لَا بَأْسَ بِالْإِجَابَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ مَسْنُونَةٌ وَلَا تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِمَعْصِيَةٍ تُوجَدُ مِنْ الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ وَشُهُودُ الْمَأْتَمِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَعْصِيَةٌ مِنْ النِّيَاحَةِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ كَذَا هَهُنَا .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ بِحَيْثُ يُحْتَرَمُ وَيُحْتَشَمُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَرْكُ الْإِجَابَةِ وَالْقُعُودِ عَنْهَا أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا حَتَّى ذَهَبَ فَوَجَدَ هُنَاكَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّغْيِيرُ غَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ لَأَجْلِ مَعْصِيَةٍ تُوجَدُ مِنْ الْغَيْرِ هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ فَإِنْ عَلِمَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعْ وَلَا يَدْخُلُ وَقِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَمْكُثُ بَلْ يَخْرُجُ لِأَنَّ فِي الْمُكْثِ اسْتِخْفَافًا بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَتَجْرِئَةً لِأَهْلِ الْفِسْقِ عَلَى الْفِسْقِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَصَبْرُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ لَمْ يَصِرْ فِيهِ مُقْتَدًى بِهِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ وَلَوْ صَارَ لَمَا صَبَرَ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغِنَاءِ مَعْصِيَةٌ وَكَذَا الِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ وَكَذَا ضَرْبُ الْقَصَبِ وَالِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمَّاهُ ابْتِلَاءً .
وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ وَالْكَلَامُ فِي الِاحْتِكَارِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا فِي تَفْسِيرِ الِاحْتِكَارِ وَمَا يَصِيرُ بِهِ الشَّخْصُ مُحْتَكِرًا وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاحْتِكَارِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فِي مِصْرٍ وَيَمْتَنِعَ عَنْ بَيْعِهِ وَذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ مَكَان قَرِيبٍ يَحْمِلُ طَعَامَهُ إلَى الْمِصْرِ وَذَلِكَ الْمِصْرُ صَغِيرٌ وَهَذَا يَضُرُّ بِهِ يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَإِنْ كَانَ مِصْرًا كَبِيرًا لَا يَضُرُّ بِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَلَوْ جَلَبَ إلَى مِصْرٍ طَعَامًا مِنْ مَكَان بَعِيدٍ وَحَبَسَهُ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ احْتِكَارًا لِأَنَّ كَرَاهَةَ الِاحْتِكَارِ بِالشِّرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ الْبَيْعِ لِمَكَانِ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ } وَهَذَا جَالِبٌ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الِاحْتِكَارِ بِحَبْسِ الْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ فَيَصِيرُ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهِمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرِي خَارِجَ الْمِصْرِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَيَبِيعَ لِأَنَّ فِي الْحَبْسِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ضَيَاعِهِ بِأَنْ زَرَعَ أَرْضَهُ فَأَمْسَكَ طَعَامَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِاحْتِكَارٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَهْلِ الْمِصْرِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَيَبِيعَ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ الِاحْتِكَارُ يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قُوتًا كَانَ أَوْ لَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجْرِي الِاحْتِكَارُ إلَّا فِي قُوتِ النَّاسِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّ الضَّرَرَ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إنَّمَا يَلْحَقُ الْعَامَّةَ بِحَبْسِ الْقُوتِ وَالْعَلَفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاحْتِكَارُ إلَّا بِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَكَانِ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْقُوتِ وَالْعَلَفِ ( وَأَمَّا ) حُكْمُ الِاحْتِكَارِ فَنَقُولُ يَتَعَلَّقُ بِالِاحْتِكَارِ أَحْكَامٌ ( مِنْهَا ) الْحُرْمَةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ وَالْجَالِبُ مَرْزُوقٌ } وَلَا يَلْحَقُ اللَّعْنُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمِ وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ } وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يُلْحَقُ إلَّا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَلِأَنَّ الِاحْتِكَارَ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ لِأَنَّ مَا بِيعَ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَقَلِيلُ مُدَّةِ الْحَبْسِ وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يُؤْمَرَ الْمُحْتَكِرُ بِالْبَيْعِ إزَالَةً لِلظُّلْمِ لَكِنْ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَصَرَّ عَلَى الِاحْتِكَارِ وَرُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَعِظُهُ وَيُهَدِّدُهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَرُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً ثَالِثَةً يَحْبِسْهُ وَيُعَزِّرْهُ زَجْرًا لَهُ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ وَكَذَا لَا يُسَعِّرُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ } وَرُوِيَ { أَنَّ السِّعْرَ عَلَا فِي الْمَدِينَةِ وَطَلَبُوا التَّسْعِيرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُسَعِّرْ وَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ } .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ إذَا خَافَ الْإِمَامُ الْهَلَاكَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ الْمُحْتَكِرِينَ وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمْ اُضْطُرُّوا إلَيْهِ وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ الْغَيْرِ فِي مَخْمَصَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِالضَّمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لَإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَكَذَا يُكْرَهُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَلِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْعَامَّةِ فَيُكْرَهُ كَمَا يُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ .
وَيُكْرَهُ خَرْقُ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ خَمْرٌ لِمُسْلِمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ خُرِقَ يَضْمَنُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ وَلَا يَضْمَنُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مِنْ الْبَرْبَطِ وَالْعُودِ وَالزَّمَّارَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ رَجُلٌ ابْتَلَعَ دُرَّةَ رَجُلٍ فَمَاتَ الْمُبْتَلِعُ فَإِنْ تَرَكَ مَالًا كَانَتْ قِيمَةُ الدُّرَّةِ فِي تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا لَا يَشُقُّ بَطْنَهُ لِأَنَّ الشَّقَّ حَرَامٌ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَالِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الدُّرَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ فِي الدُّنْيَا قَضَى مِنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ فِي الْآخِرَةِ .
حَامِلٌ مَاتَتْ فَاضْطَرَبَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ الرَّأْيِ أَنَّهُ حَيٌّ يُشَقُّ بَطْنُهَا لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِبَلِيَّتَيْنِ فَنَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا وَشَقُّ بَطْنِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَهْوَنُ مِنْ إهْلَاكِ الْوَلَدِ الْحَيِّ .
رَجُلٌ لَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ فَأَرَادَ أَنْ يُوصِيَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ تَقَعُ الْكِفَايَةُ لَهُمْ بِمَا سِوَى ثُلُثِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمَتْرُوكِ فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ لَهُمْ إلَّا بِكُلِّ الْمَتْرُوكِ فَالْمَتْرُوكُ لَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِكَمْ يُوصِي الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
رَجُلٌ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ أَبَاهُ وَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِقِصَاصٍ أَوْ رِدَّةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الِابْنُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَسِعَ الِابْنُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّهُ عَايَنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يُعْفَى أَوْ يُفَادَى } وَالْقَاتِلُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ فِي السِّرِّ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ بِقِصَاصٍ أَوْ بِرِدَّةٍ كَانَ الِابْنُ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ إقْرَارٌ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ لَمْ يُعَايِنْ الْقَتْلَ وَلَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لَمْ يَسَعْهُ قَتْلُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَرْقًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِمَا فِيهَا مِنْ تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ فَلَا تَنْدَفِعُ التُّهْمَةُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ( فَأَمَّا ) الْإِقْرَارُ فَحُجَّةٌ بِنَفْسِهِ إذْ الْإِنْسَانُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ يَحِلُّ لِمَنْ عَايَنَ الْقَتْلَ أَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِهِ أَنْ يُعِينَ الْوَلِيَّ عَلَى قَتْلِهِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ظَاهِرًا وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الِابْنِ اثْنَانِ بِمَا يَدَّعِيه الْقَاتِلُ مِمَّا يَحِلُّ دَمُهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ فَإِنْ كَانَا مِمَّنْ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ لَا يَنْبَغِي لِلِابْنِ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْقَتْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْمُبَاحِ أَوْلَى مِنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ .
وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَوْ شَهِدَا
عِنْدَهُ كَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَالنِّسَاءُ وَحْدُهُنَّ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَتَّصِلُ بِهَا الْقَضَاءُ كَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِاحْتِمَالِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا حَقِيقَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي الْقَذْفِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي الْقَتْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَاهِدٌ آخَرُ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَتَوَقَّفَ أَيْضًا فَكَانَ الِانْتِظَارُ أَفْضَلَ وَلَوْ لَمْ يَنْتَظِرْ وَاسْتَعْجَلَ فِي قَتْلِهِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الشَّطْرِ الْآخَرِ .
وَلَوْ عَايَنَ الْوَارِثُ رَجُلًا أَخَذَ مَالًا مِنْ أَبِيهِ أَوْ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا مِنْ أَبِيهِ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ وَدِيعَةً لَهُ عِنْدَ أَبِيهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ اقْتَضَاهُ مِنْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا عَايَنَ أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُ فَقَدْ عَايَنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَخْذُ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَأْخُوذِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَرَدُّ بَدَلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } وَدَعْوَى الْإِيدَاعِ وَالدَّيْنِ أَمْرٌ عَارِضٌ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الدَّفْعِ يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ } وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ يَسَعُ لِمَنْ عَايَنَ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ إعَانَةً عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَلَوْ لَمْ يُعَايِن ذَلِكَ وَلَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي فِي يَدِ فُلَانٍ مِلْكُ وَرَثَتِهِ عَنْ أَبِيك لَا يَسَعُهُ أَخْذُهُ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي فَصْلِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) .
الَّذِي ثَبَتَ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتُ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْقَزِّ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ فَقَالَ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حُلَّةً فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِي حُلَّةً وَقَدْ قُلْت فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أُكْسِكْهَا لِتَلْبِسَهَا وَفِي رِوَايَةٍ إنَّمَا أَعْطَيْتُك لِتَكْسُوَ بَعْضَ نِسَائِك } فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ ؟ } قِيلَ نَعَمْ ثُمَّ نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةً حَرِيرًا أَهْدَاهَا لَهُ أُكَيْدِرُ دُومَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ } كَذَا قَالَ أَنَسٌ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ .
( وَأَمَّا ) فِي حَالِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي حَالِ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ السِّلَاحِ عَنْهُ وَالْحَرِيرُ أَدْفَعُ لَهُ وَأَهْيَبُ لِلْعَدُوِّ وَأَيْضًا فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الَّذِي رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا .
وَمَا ذَكَرَاهُ مِنْ الضَّرُورَةِ يَنْدَفِعُ بِلُبْسِ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لِأَنَّ دَفْعَ ضَرَرِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبَ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ فَلَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ مِنْ غَيْرِ
ضَرُورَةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي الْحُرْمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَكَرًا لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَدَارَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الذُّكُورَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } إلَّا أَنَّ اللَّابِسَ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ كَمَا إذَا سُقِيَ خَمْرًا فَشَرِبَهَا كَانَ الْإِثْمُ عَلَى السَّاقِي لَا عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا هَذَا إذَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الْمُصْمَتُ فَإِنْ كَانَتْ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِ مَضَرَّةِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبِ الْعَدُوِّ فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ فَمَكْرُوهٌ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَهَهُنَا نُكْتَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا لِلَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ .
وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي إبَاحَةَ لُبْسِ الثِّيَابِ الْعَتَّابِيِّ وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ نُكْتَةُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّ السَّدَى إذَا كَانَ حَرِيرًا وَاللُّحْمَةُ غَيْرُ حَرِيرٍ يَصِيرُ السَّدَى مَسْتُورًا بِاللُّحْمَةِ فَأَشْبَهَ الْحَشْوَ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُبَاحَ لُبْسُ الْعَتَّابِيِّ لِأَنَّ سَدَاهُ ظَاهِرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَالصَّحِيحُ هُوَ النُّكْتَةُ الْأُولَى لِأَنَّ رِوَايَةَ الْإِبَاحَةِ فِي لُبْسِ مُطْلَقِ ثَوْبٍ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ مَنْصُوصَةٌ فَتَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهَا فَلَا تُنَاسِبُهَا إلَّا النُّكْتَةُ الْأُولَى وَلَوْ جَعَلَ حَشْوَ الْقَبَاءِ حَرِيرًا أَوْ قَزًّا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِالظِّهَارَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ أَلَا يَرَى أَنَّ لَابِسَ هَذَا الثَّوْبِ
لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالْقَزِّ وَلَوْ جَعَلَ الْحَرِيرَ بِطَانَةً يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَابِسُ الْحَرِيرِ حَقِيقَةً وَكَذَا مَعْنَى التَّنَعُّمِ حَاصِلٌ لِلتَّزَيُّنِ بِالْحَرِيرِ وَلُطْفِهِ .
هَذَا إذَا كَانَ الْحَرِيرُ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَأَعْلَامِ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَمَا دُونَهَا لَا يُكْرَهُ وَكَذَا الْعَلَمُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَكَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعَمُّمِ الْعَمَائِمِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمُعَلَّمَةِ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَا الثَّوْبُ وَالْقَلَنْسُوَةُ الَّذِي جُعِلَ عَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ لَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَمَا دُونَهَا لِمَا قُلْنَا .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبِسَ فَرْوَةً وَعَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ } وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَسَعُ ذَلِكَ فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّمَا رَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي عَرْضِ الثَّوْبِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تِكَّةُ الدِّيبَاجِ وَالْإِبْرَيْسَمِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ مَقْصُودًا لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَيُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّ بِخِلَافِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ .
( فَأَمَّا ) حُكْمُ التَّوَسُّدِ بِهِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَكْرُوهٌ ( لَهُمَا ) إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الَّذِي رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ كَمَا يَحْصُلُ بِاللُّبْسِ يَحْصُلُ بِالتَّوَسُّدِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُرْفَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَضَرَ وَلِيمَةً فَجَلَسَ عَلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ عَلَيْهَا طُيُورٌ فَدَلَّ فِعْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رُخْصَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ وَعَلَى الْوِسَادَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا صُورَةٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ اللُّبْسِ فَيَكُونُ فِعْلُ الصَّحَابِيِّ مُبَيِّنًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا مُخَالِفًا لَهُ وَالْقِيَاسُ بِاللُّبْسِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِهَذِهِ الْجِهَاتِ دُونَ التَّزَيُّنِ بِاللُّبْسِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ فِيهِ إهَانَةُ الْمُسْتَعْمِلِ بِخِلَافِ اللُّبْسِ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهِ .
( وَأَمَّا ) الْمَرْأَةُ فَيَحِلُّ لَهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ وَالدِّيبَاجُ وَالْقَزُّ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَلَّ هَذَا لِلْإِنَاثِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَلَّ لَإِنَاثِهَا } .
( وَمِنْهَا ) الذَّهَبُ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ وَبَيْنَ الْحَرِيرِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى الذُّكُورِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي } فَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ التَّزَيُّنُ بِالذَّهَبِ كَالتَّخَتُّمِ وَنَحْوِهِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } وَرُوِيَ عَنْ { النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ اتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَدَخَلْت عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَالَك اتَّخَذْت حُلِيَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَهَا ؟ فَرَمَيْت ذَلِكَ وَاِتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَالَك اتَّخَذَتْ حُلِيَّ أَهْلِ النَّارِ ؟ فَاِتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ نُحَاسٍ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ إنِّي أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ فَقُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اتَّخِذْهُ مِنْ الْوَرِقِ وَلَا تَزِدْ عَلَى الْمِثْقَالِ } .
وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّزَيُّنِ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ لِمَا قُلْنَا وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْبَدَنِ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا حَتَّى يُكْرَهَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْأَدْهَانُ وَالتَّطَيُّبُ مِنْ مَجَامِرِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذَّهَبَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْ الْفِضَّةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ رَخَّصَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّخَتُّمَ بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَلَا رُخْصَةَ فِي الذَّهَبِ أَصْلًا فَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْفِضَّةِ وَارِدًا فِي الذَّهَبِ دَلَالَةً مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى كَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مَعَ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَكَذَلِكَ الِاكْتِحَالُ بِمُكْحُلَةِ الذَّهَبِ أَوْ بِمِيلٍ مِنْ ذَهَبٍ
مَكْرُوهٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ .
( وَأَمَّا ) الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّإِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُكْرَهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ فَيُكْرَهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الذَّهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ تَابِعٌ لَهُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ دُونَ التَّابِعِ كَالثَّوْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ الْمُضَبَّبِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثُّفْرِ الْمُضَبَّبَةِ وَكَذَا الْمُصْحَفُ الْمُضَبَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَكَذَا حَلْقَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ الذَّهَبِ وَلُبْسُ ثَوْبٍ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
( وَأَمَّا ) السَّيْفُ الْمُضَبَّبُ وَالسِّكِّينُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ الْمُضَبَّبَةُ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِالرُّخْصَةِ بِذَلِكَ فِي السِّلَاحِ وَلَا بَأْسَ بِشَدِّ الْفَصِّ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَصِّ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَصْلِ دُونَ التَّبَعِ كَالْعَلَمِ لِلثَّوْبِ وَنَحْوِهِ .
( وَأَمَّا ) شَدُّ السِّنِّ الْمُتَحَرِّكِ بِالذَّهَبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَوْ شَدَّهَا بِالْفِضَّةِ لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لَوْ جُدِعَ أَنْفُهُ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ لَا يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْأَنْفَ يَنْتُنُ بِالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّخَاذِهِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حُرْمَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ عَرْفَجَةَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ فَأَمَرَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ } وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ لِجَوَازِ تَضْبِيبِ السِّنِّ بِالذَّهَبِ وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَشُدَّهُ بِالْفِضَّةِ فَكَذَا بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُمَا فِي حُرْمَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى السَّوَاءِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّنِّ وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهَذَا يُوَافِقُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحُجَّةُ مَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَا يُرَخَّصُ مُبَاشَرَةُ الْمُحَرَّمُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ فَبَقِيَ الذَّهَبُ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْفِضَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ الْحُرْمَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ سَقَطَ سِنُّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ سِنَّ مَيِّتٍ فَيَشُدُّهَا مَكَانَ الْأُولَى بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ السِّنَّ السَّاقِطَةَ مَكَانَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ سِنَّ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ فَيَشُدُّهَا مَكَانَهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِسِنِّهِ وَيُكْرَهُ سِنُّ غَيْرِهِ قَالَ وَلَا يُشْبِهُ سِنُّهُ سِنَّ مَيِّتٍ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ وَبَيْنَهُمَا عِنْدِي فَصْلٌ وَلَكِنْ لَمْ
يَحْضُرْنِي ( وَوَجْهُ ) الْفَصْلِ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ سِنَّ نَفْسِهِ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ لِلْحَالِ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ مُتَّصِلًا فِي الثَّانِي بِأَنْ يَلْتَئِمَ فَيَشْتَدُّ بِنَفْسِهِ فَيَعُودُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى وَإِعَادَةُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ إلَى مَكَانِهِ لِيَلْتَئِمَ جَائِزٌ كَمَا إذَا قُطِعَ شَيْءٌ مِنْ عُضْوِهِ فَأَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَأَمَّا سِنُّ غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ إهَانَةٌ بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ وَلَا إهَانَةَ فِي اسْتِعْمَالِ جُزْءِ نَفْسِهِ فِي الْإِعَادَةِ إلَى مَكَانِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّنَّ مِنْ الْآدَمِيِّ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِذَا انْفَصَلَ اسْتَحَقَّ الدَّفْنَ كُلَّهُ وَالْإِعَادَةُ صَرْفٌ لَهُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا تَجُوزُ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ سِنِّهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ .
( وَمِنْهَا ) الْفِضَّةُ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِتَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ يَكُونُ وَارِدًا بِتَحْرِيمِ الْفِضَّةِ دَلَالَةً فَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي جَمِيعِ مَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فِيهِ إلَّا التَّخَتُّمَ بِهِ إذَا ضُرِبَ عَلَى صِيغَةِ مَا يَلْبِسُهُ الرِّجَالُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْمِثْقَالِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَذَا الْمِنْطَقَةُ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ مِنْ الْفِضَّةِ لِمَا مَرَّ وَمَا لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فِيهِ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْفِضَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَخَفُّ حُرْمَةً مِنْ الذَّهَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَلَا نُعِيدُهُ .
( وَأَمَّا ) التَّخَتُّمُ بِمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالصِّفْرِ فَمَكْرُوهٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ زِيُّ أَهْلِ النَّارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ .
( وَأَمَّا ) الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةُ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي لَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالسَّرْجِ وَالرِّكَابِ وَالسِّلَاحِ وَالسَّرِيرِ وَالسَّقْفِ الْمُمَوَّهِ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَخْلُصُ ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الْبُيُوعِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْبَيْعِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ أَقْسَامِ الْبَيْعِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ .
( وَأَمَّا ) رُكْنُ الْبَيْعِ : فَهُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ ( أَمَّا ) الْقَوْلُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْكَلَامُ فِي الْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَالثَّانِي فِي صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي ، وَقَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الْحَالِ ( أَمَّا ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ : بِعْتُ وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُ ، فَيَتِمَّ الرُّكْنُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا ، لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ وَكَذَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ : خُذْ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُكَهُ بِكَذَا أَوْهَوْ لَكَ بِكَذَا أَوْ بَذَلْتَكَهُ بِكَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي : قَبِلْتُ أَوْ أَخَذْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ هَوَيْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ الرُّكْنُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُؤَدِّي مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ .
( وَأَمَّا ) صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُ ، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي أَشْتَرِي مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ وَقَالَ الْبَائِعُ : أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي : أَشْتَرِيهِ وَنَوَيَا الْإِيجَابَ ؛ يَتِمُّ الرُّكْنُ
وَيَنْعَقِدُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هَهُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلُ لِلْحَالِ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِالِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ : أَتَبِيعُ مِنِّي هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا أَوْ أَبِعْتَهُ مِنِّي بِكَذَا فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُ ، لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : اشْتَرِ مِنِّي هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا فَقَالَ : اشْتَرَيْتُ ، لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ : بِعْتُ .
وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ : بِعْ عَبْدَكَ هَذَا مِنِّي بِكَذَا فَيَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْتُ وَكَذَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : اشْتَرِ مِنِّي هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا ، فَقَالَ : اشْتَرَيْتُ ، لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ : بِعْتُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تَصْلُحُ شَطْرَ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ ، أَلَا تَرَى أَنْ مَنْ قَالَ لِآخَرَ : تَزَوَّجْ ابْنَتِي ، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ : تَزَوَّجْتُ ، أَوْ قَالَ زَوِّجْ ابْنَتَكَ مِنِّي ، فَقَالَ : زَوَّجْتُ ، يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ ؟ فَإِذَا صَلُحَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ شَطْرًا فِي النِّكَاحِ صَلُحَتْ شَطْرًا فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ : بِعْ أَوْ اشْتَرِ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَطَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا يَكُونُ إيجَابًا وَقَبُولًا ، فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ سُؤَالَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا إيجَابًا وَقَبُولًا ، كَذَا هَذَا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي
النِّكَاحِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي النِّكَاحِ بِنَصٍّ خَاصٍّ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ أَنَّ { بِلَالًا خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لَمْ أَخْطُبْ فَقَالُوا لَهُ : أَمَلَكْتَ } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَبِلْتُ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ ، وَلَا نَصَّ فِي الْبَيْعِ ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَكُونُ إيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً ، بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظٍ ؛ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا .
وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تُوجَدُ فِي النِّكَاحِ عَادَةً ، فَحُمِلَتْ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ زَوِّجْ ابْنَتَكَ مِنِّي شَطْرَ الْعَقْدِ ، فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ شَطْرَ الْعَقْدِ ، لَتَضَرَّرَ بِهِ الْوَلِيُّ لِجَوَازِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلَا يَقْبَلُ الْمُخَاطَبُ فَيَلْحَقَهُ الشَّيْنُ فَجُعِلَتْ شَطْرًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْأَوْلِيَاءِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ الْبَيْعِ مُنْعَدِمٌ فَبَقِيَتْ سُؤَالًا فَلَا يَتِمُّ بِهِ الرُّكْنُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّطْرُ الْآخَرُ .
( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ ، فَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ حَتَّى إذَا وُجِدَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، فَلِلْآخَرِ خِيَارُ الْقَبُولِ ، وَلَهُ خِيَارُ الرُّجُوعِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا عَنْ بَيْعِهِمَا } ، وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ لَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ عَنْ بَيْعِهِمَا هُوَ خِيَارُ الْقَبُولِ ، وَخِيَارُ الرُّجُوعِ ؛ وَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ لَوْ لَزِمَ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ لَكَانَ صَاحِبُهُ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ الشَّطْرِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
( وَأَمَّا ) الْمُبَادَلَةُ بِالْفِعْلِ فَهِيَ التَّعَاطِي وَيُسَمَّى هَذَا الْبَيْعُ بَيْعَ الْمُرَاوَضَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَلَامُ إيجَابٍ وَقَبُولٍ ، فَأَمَّا التَّعَاطِي فَلَمْ يُعْرَفْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بَيْعًا ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ التَّعَاطِيَ يَجُوزُ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ ، وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ فِي الْأَصْلِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ ، وَهِيَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ ، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ ، وَإِنَّمَا قَوْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ، وَالتِّجَارَةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ لِلْغَيْرِ بِبَدَلٍ وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّعَاطِي وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } ، أَطْلَقَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اسْمَ التِّجَارَةِ عَلَى تَبَادُلٍ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُ الْبَيْعِ وَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إنَّ اللَّهَ { اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } سَمَّى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُبَادَلَةَ الْجَنَّةِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - اشْتِرَاءً وَبَيْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ الْبَيْعِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ ، فَهَذَا يُوجَدُ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ وَالنَّفِيسَةِ جَمِيعًا ، فَكَانَ التَّعَاطِي فِي كُلِّ ذَلِكَ بَيْعًا ، فَكَانَ جَائِزًا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَعُمُّ الْبِيَاعَاتِ كُلَّهَا ، ( وَمِنْهَا ) مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، فَنَقُولُ : الْبَيْعُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ : قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ ، وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ .
وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الثَّمَنُ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : الْبَيْعُ فِي حَقِّ الْبَدَلَيْنِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ بَيْعُ السِّلَعِ بِالسِّلَعِ ، وَيُسَمَّى بَيْعَ الْمُقَايَضَةِ ، وَبَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَيْعُ السِّلَعِ بِالْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَبَيْعُهَا بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَبِالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ الْمَوْصُوفِ ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ السَّلَمُ ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ الْمُطْلَقِ بِالثَّمَنِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الصَّرْفُ .
( فَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيَنْقَسِمُ فِي حَقِّ الْبَدَلِ ، وَهُوَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَبِيعِ بِأَيِّ ثَمَنٍ اُتُّفِقَ ، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَبِيعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ ، وَبَيْعُ التَّوْلِيَةِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَبَيْعُ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ التَّوْلِيَةُ ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ ، وَبَيْعُ الْوَضِيعَةِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ فَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ حُكْمِ الْبَيْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .
وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْسَامَ الْبِيَاعَاتِ ، فَنَذْكُرُ شَرَائِطَهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَهُوَ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْعَقِدُ التَّصَرُّفُ بِدُونِهِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ بِدُونِهِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ ، وَهُوَ مَا لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ بِدُونِهِ ( أَمَّا ) شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، ( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُتَصَرِّفِ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّصَرُّفِ وَالْأَهْلِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ فَلَا يَثْبُتُ الِانْعِقَادُ بِدُونِهِ ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا ، حَتَّى لَوْ بَاعَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مَالَ نَفْسِهِ ؛ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ، وَعَلَى إجَازَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فَلَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ عِنْدَهُ أَصْلَا وَكَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ النَّفَاذِ فِي الْجُمْلَةِ ، حَتَّى لَوْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ، وَعِنْدَهُ لَا يَنْفُذُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَلَا لِنَفَاذِهِ حَتَّى يَنْفُذَ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ عِنْدَنَا ، وَكَذَا الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا ، بَلْ هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ ، وَعِنْدَهُ
شَرْطٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ أَصْلًا ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا .
وَكَذَا إسْلَامُ الْبَائِعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَلَا لِنَفَاذِهِ وَلَا لِصِحَّتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَافِرِ وَشِرَاؤُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إسْلَامُ الْمُشْتَرِي شَرْطُ جَوَازِ شِرَاءِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ ، حَتَّى لَا يَجُوزَ ذَلِكَ مِنْ الْكَافِرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ فِي تَمَلُّكِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ إذْلَالًا بِالْمُسْلِمِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَكُمْ ، وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَبَيْنَ بَيْعِهِ مِنْ الْكَافِرِ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ ، إلَّا حَيْثُ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْكَافِرِ بِالشِّرَاءِ لَيْسَ إلَّا الْمِلْكُ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ أَبِيهِ ؟ ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ كَافِرٌ فَأَسْلَمَ بَقِيَ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَرَضٌ لَا بَقَاءَ لَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُسْلِمِ ، وَقَوْلُهُ فِيهِ إذْلَالٌ بِالْمُسْلِمِ ، قُلْنَا : الْمِلْكُ عِنْدَنَا لَا يَظْهَرُ فِيمَا فِيهِ إذْلَالٌ بِالْمُسْلِمِ ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِخْدَامِ وَالْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ الْمُسْلِمَةِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا لَا ذُلَّ فِيهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ لَيْسَ لِدَفْعِ الذُّلِّ ، إذْ لَا ذُلَّ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَكِنْ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ فِعْلٍ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ لِعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ .
وَإِذَا جَازَ شِرَاءُ الذِّمِّيِّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ، فَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ وَكِتَابَتُهُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ ، وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ إذَا دَبَّرَهُ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ
إلَى إبْقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِزَالَةِ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتَعَيَّنَتْ الْإِزَالَةُ بِالسِّعَايَةِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ؛ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا لِمَا قُلْنَا ، وَيُوجَعُ الذِّمِّيُّ ضَرْبًا لِوَطْئِهِ الْمُسْلِمَةَ ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، فَيَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ ، وَإِذَا كَاتَبَهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ يَدَهُ عَنْهُ ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا مَلَكَ شِقْصًا فَالْحُكْمُ فِي الْبَعْضِ كَالْحُكْمِ فِي الْكُلِّ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ الْكَافِرِ شِرَاءً فَاسِدًا ؛ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
النُّطْقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا لِنَفَاذِهِمَا وَصِحَّتِهِمَا ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْرَسِ وَشِرَاؤُهُ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فِي ذَلِكَ ، قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْخَرَسُ أَصْلِيًّا بِأَنْ وُلِدَ أَخْرَسَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ فَلَا ، إلَّا إذَا دَامَ بِهِ حَتَّى وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ كَلَامِهِ وَصَارَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فَيُلْحَقُ بِالْأَخْرَسِ الْأَصْلِيِّ .
وَالثَّانِي الْعَدَدُ فِي الْعَاقِدِ فَلَا يَصْلُحُ الْوَاحِدُ عَاقِدًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ إلَّا الْأَبَ فِيمَا يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً ، أَوْ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ حُقُوقٌ مُتَضَادَّةٌ مِثْلُ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْمُطَالَبَةِ ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا طَالِبًا وَمُطَالَبًا ، وَهَذَا مُحَالٌ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ .
وَيَصْلُحُ رَسُولًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا تَلْزَمُهُ الْحُقُوقُ ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ ، وَكَدَا الْقَاضِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ وَبِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا مَحْضًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ ، وَكَذَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً قَدْ يَكُونُ قُرْبَانًا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِحُكْمِ الْحَالِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ ؛ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِذَلِكَ قُرْبَانًا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ ، وَقَوْلُهُ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ قُلْنَا : مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الصَّبِيَّ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ بَالِغٌ ، فَتَعَدَّدَ الْعَاقِدُ حُكْمًا ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ .
( وَأَمَّا ) الْوَصِيُّ إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ ؛ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ ؛ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُ أَصْلًا مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ جَمِيعًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ جَعَلَ شَخْصَهُ الْمُتَّحِدَ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا ذَاتًا وَرَأْيًا وَعِبَارَةً ، وَالْوَصِيُّ لَا يُسَاوِيهِ فِي الشَّفَقَةِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْيَتِيمِ قُرْبَانُ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ فَيَمْلِكُهُ بِالنَّصِّ .
قَوْلُهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْوَصِيِّ بِالْأَبِ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ ، قُلْنَا : الْوَصِيُّ لَهُ شَبَهَانِ : شَبَهٌ بِالْأَبِ ، وَشَبَهٌ بِالْوَكِيلِ ، أَمَّا شَبَهُهُ بِالْوَكِيلِ فَلِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا ، وَشَبَهُهُ بِالْأَبِ لِكَوْنِهِ مَرْضِيَّ الْأَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ إلَّا لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ عَلَى الصَّغِيرِ فَأَثْبَتْنَا لَهُ الْوِلَايَةَ عِنْدَ ظُهُورِ النَّفْعِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْأَبِ وَقَطَعْنَا وِلَايَتَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْوَكِيلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ ، بِأَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ وَبِمَا أَوْجَبَهُ ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِلَ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِبَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ ؛ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ مُبْتَدَإٍ مُوَافِقٍ بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الْعَبْدِ فَقَبِلَ فِي الْجَارِيَةِ ، لَا يَنْعَقِدُ ، وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ فِي الْعَبْدَيْنِ فَقَبِلَ فِي أَحَدِهِمَا بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي : قَبِلْتُ فِي هَذَا الْعَبْدِ وَأَشَارَ إلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالصَّفْقَةُ إذَا وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً مِنْ الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي تَفْرِيقَهَا قَبْلَ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ التَّفْرِيقِ لَقَبِلَ فِي الْجَيِّدِ دُونَ الرَّدِيءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ ، وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَ التَّرْوِيجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبُولِ فِيهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِالْقَبُولِ فِي أَحَدِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ إعْرَاضًا عَنْ الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي كُلِّ الْعَبْدِ ، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ ، لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَيْبُ الشَّرِكَةِ ، ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ ؛ كَانَ هَذَا شِرَاءً مُبْتَدَأً مِنْ الْبَائِعِ ، فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيجَابُ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْمَجْلِسِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لِلْبَعْضِ الَّذِي قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ ، وَإِلَّا فَلَا بَيَانُهُ إذَا قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْكُرَّيْنِ
بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا وَأَوْجَبَ الْبَائِعُ ؛ جَازَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ ، فَكَانَ بَيْعُ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ بَيْعَ كُلِّ كُرٍّ بِعَشَرَةٍ لِتَمَاثُلِ قُفْزَانِ الْكُرَّيْنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا ، وَبَيَّنَ ثَمَنَهُ فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتُ يَجُوزُ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ثَمَنَهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ الْإِيجَابَ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُرَّيْنِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَكَانَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَعْلُومًا ، وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ لِانْعِدَامِ تَمَاثُلِ الْأَجْزَاءِ وَإِذَا لَمْ يَنْقَسِمْ بَقِيَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ مَجْهُولَةً ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ ، هَذَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْبَائِعُ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ هَذَا بِأَلْفٍ ، وَهَذَا بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ جَازَ الْبَيْعُ لِانْعِدَامِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، بَلْ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي فَرَّقَ الصَّفْقَةَ حَيْثُ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ لَهُ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ فَهُوَ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ ، وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِلَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَنْعَقِدُ ، وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِلَ بِجِنْسٍ آخَرَ ، إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَلَى هَذَا إذَا خَاطَبَ الْبَائِعُ رَجُلَيْنِ فَقَالَ : بِعْتُكُمَا هَذَا الْعَبْدَ ، أَوْ هَذَيْنِ
الْعَبْدَيْنِ ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ فِي الْعَبْدَيْنِ أَوْ عَبْدٍ وَاحِدٍ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْإِيجَابِ ، وَكَذَا لَوْ خَاطَبَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ فَقَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْكُمَا هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا ، فَأَوْجَبَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْعَقِدْ لِمَا قُلْنَا .
( فَصْلٌ ) : فِي الشَّرْطِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ .
بِأَنْ كَانَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدْ حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَامَ الْآخَرُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ فِي الثَّانِي مِنْ زَمَانِ وُجُودِهِ فَوُجِدَ الثَّانِي ، وَالْأَوَّلُ مُنْعَدِمٌ فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْبَيْعِ فَتَوَقَّفَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حُكْمًا وَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ مَعَ تَفَرُّقِهِمَا لِلضَّرُورَةِ ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ، فَإِذَا اخْتَلَفَ لَا يَتَوَقَّفُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَوْرُ مَعَ ذَلِكَ شَرْطٌ لَا يَنْعَقِدُ الرُّكْنُ بِدُونِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ ، وَالتَّأْخِيرُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَأَنَّهَا تَنْدَفِعُ بِالْفَوْرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ فِي تَرْكِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ عَلَى دَابَّتَيْنِ أَوْ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحْمِلٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ خَرَجَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مِنْهُمَا مُتَّصِلَيْنِ انْعَقَدَ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ وَسُكُوتٌ وَإِنْ قَلَّ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ تَبَدَّلَ بِالْمَشْيِ وَالسَّيْرِ وَإِنْ قَلَّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ ، أَوْ يَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا مِرَارًا يَلْزَمُهُ
لِكُلِّ قِرَاءَةٍ سَجْدَةٌ ؟ ، وَكَذَا لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ أَوْ تَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَمَشَتْ أَوْ سَارَتْ ؛ يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ صَحَّ اخْتِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَكَذَا هَهُنَا ، وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا وَاقِفَانِ انْعَقَدَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَلَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا وَاقِفَانِ فَسَارَ الْآخَرُ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوْ سَارَا جَمِيعًا ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَارَا وَسَارَا فَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ الشَّطْرَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ وَقَفَا فَخَيَّرَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ سَارَ الزَّوْجُ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَالْخِيَارُ فِي يَدِهَا ، وَلَوْ سَارَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ وَاقِفٌ ؛ بَطَلَ خِيَارُهَا ، فَالْعِبْرَةُ لِمَجْلِسِهَا لَا لِمَجْلِسِ الزَّوْجِ .
وَفِي بَابِ الْبَيْعِ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَازِمٌ ، أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ ، فَاحْتُمِلَ الْبُطْلَانُ بِالْإِعْرَاضِ ، وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا فِي سَفِينَةٍ ؛ يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ جَارِيَةً ، خَرَجَ الشَّطْرَانِ مُتَّصِلَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ جَرَيَانَ السَّفِينَةِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ لَا بِإِجْرَائِهِ أَلَا تَرَى : أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ لَا يَمْلِكُ ، وَقْفَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ جَرَيَانُهَا مُضَافًا إلَيْهِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَجْلِسُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ ، وَالسَّيْرِ ، أَمَّا الْمَشْيُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ ، وَكَذَا سَيْرُ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ سَيَّرَهَا سَارَتْ ، وَلَوْ ، وَقَفَهَا ، وَقَفَتْ فَاخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِسَيْرِهَا ، وَلِهَذَا لَوْ كَرَّرَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي السَّفِينَةِ ،
وَهِيَ جَارِيَةٌ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ ، وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ كَرَّرَهَا فِي بَيْتٍ ، وَاحِدٍ .
وَكَذَا لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ ، وَهِيَ جَارِيَةٌ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ ، وَلَوْ قَبِلَ عَنْهُ قَابِلٌ يَنْعَقِدُ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّطْرِ الْآخَرِ مِنْ الْعَاقِدِ الْآخَرِ فِيمَا ، وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَّا إذَا كَانَ عَنْهُ قَابِلٌ ، أَوْ كَانَ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَى رَجُلٍ ، وَيَقُولَ لِلرَّسُولِ : إنِّي بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا ، فَاذْهَبْ إلَيْهِ ، وَقُلْ لَهُ : إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ، وَقَالَ لِي : قُلْ لَهُ : إنِّي قَدْ بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَذَهَبَ الرَّسُولُ ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ : قَبِلْتُ انْعَقَدَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ ، وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ نَاقِلٌ كَلَامَهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ .
وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بِعْتُ عَبْدِي فُلَانًا مِنْكَ بِكَذَا فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَالَ فِي مَجْلِسِهِ : اشْتَرَيْتُ ؛ لِأَنَّ خِطَابَ الْغَائِبِ كِتَابُهُ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ ، وَخَاطَبَ بِالْإِيجَابِ ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخِطَابِ ، وَلَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ ؛
لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُشَافَهَةِ ، وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ ، وَيَنْقُلُهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا ، وَمُعَبِّرًا مَحْضًا فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ .
فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ فَشُرِطَ عِلْمُهُ بِالْعَزْلِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَكَذَا هَذَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَالْكِتَابَةِ أَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ إذَا كَانَ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إلَّا إذَا كَانَ عَنْ الْغَائِبِ قَابِلٌ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ بِأَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِلشُّهُودِ : اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِكَذَا ، وَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ أَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ : اشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَوَقَّفُ أَيْضًا إلَّا إذَا كَانَ عَنْ الْغَائِبِ قَابِلٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ أَحَدٌ ، وَكَذَا الْفُضُولِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قَالَ : زَوَّجْتُ فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ .
، وَالْفُضُولِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الشَّطْرُ فِي بَابِ الْخُلْعِ فَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ قَالَ : خَالَعْتُ امْرَأَتِي الْغَائِبَةَ عَلَى كَذَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَبِلَتْ جَازَ .
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ : اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي فُلَانٍ الْغَائِبِ عَلَى كَذَا ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَمْ يَجُزْ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَالِ فَكَانَ يَمِينًا ، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَتَصِحُّ فِيهِ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ : خَالَعْتكِ غَدًا ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى كَذَا ، وَإِذَا كَانَ يَمِينًا فَغَيْبَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْيَمِينِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ مِنْ جَانِبِهَا ، وَلَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى ، وَقْتٍ ، وَتَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ إجَازَةِ الزَّوْجِ ، وَإِذَا كَانَ مُعَاوَضَةً فَالشَّطْرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَغَيْرِهِ .
وَكَذَا الشَّطْرُ فِي إعْتَاقِ الْعَبِيدِ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا ، وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ ، وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ عَلَى مَا ، وَرَاءِ الْمَجْلِسِ ؛ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ ، وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْكِتَابَةِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ ، وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كَمَا فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَمَالَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ كَبَيْعِ نِتَاجِ النِّتَاجِ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ وَلَدَ وَلَدِ هَذِهِ النَّاقَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ، وَإِنْ بَاعَ الْحَمْلَ فَلَهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ ، وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَهُ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ انْتِفَاخِ الضَّرْعِ .
، وَكَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ ، وَالزَّرْعِ قَبْلَ ظُهُورِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْدُومٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الطُّلُوعِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِمَا إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّرْكُ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا صَارَ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا لَا يَنْعَقِدُ .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا } ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا فَلَا تَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَهَذَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ الْعُشْرِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الثِّمَارَ فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ ، وَتَرَكَهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ حَتَّى أَدْرَكَتْ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا حِينَ مَا طَلَعَتْ لَمَا وَجَبَ عُشْرُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ } جَعْلُ الثَّمَرَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا أَوْ لَا ، دَلَّ أَنَّهَا مَحَلُّ الْبَيْعِ كَيْفَ مَا كَانَ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ بَاعَ ثَمَرَةً مَوْجُودَةً ، وَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ جَرْوِ الْكَلْبِ عَلَى أَصْلِنَا ، وَبَيْعِ الْمَهْرِ ، وَالْجَحْشِ ، وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ ، وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ مُدْرَكَةٌ قَبْلَ إدْرَاكِهَا بِأَنْ بَاعَهَا ثَمَرًا ، وَهِيَ بُسْرٌ أَوْ بَاعَهَا عِنَبًا ، وَهِيَ حِصْرِمٌ دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ { : أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ ؟ }
وَلَفْظَةُ الْمَنْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا ، وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مَوْجُودًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مَنْعُ الْوُجُودِ ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ الزَّرْعِ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ كَالْبِطِّيخِ ، وَالْبَاذِنْجَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يَظْهَرْ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْكُلُّ دَفْعَةً ، وَاحِدَةً بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَعْضِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَعْدُومٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ ، وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ ، وَالْحَرَجِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الثَّمَرِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ ، وَحَبَلِ الْحَبَلِ ، وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ } ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْهَاءِ لِلتَّأْكِيدِ ، وَالْمُبَالَغَةِ ، وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ بِحِفْظِ الْهَاءِ مِنْ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْحَبَلَةُ هِيَ الْحُبْلَى فَكَانَ نَهْيًا عَنْ بَيْعِ ، وَلَدِ الْحُبْلَى .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، وَبَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ } ؛ لِأَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْعَسْبِ ، وَهُوَ الضِّرَابُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِعَارَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ ، وَأَضْمَرَهُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ ، وَالْعَصِيرِ فِي الْعِنَبِ ، وَالسَّمْنِ فِي اللَّبَنِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ ، وَسَائِرِ الْحُبُوبِ فِي سَنَابِلِهَا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَقِيقَ فِي الْحِنْطَةِ ، وَلَا زَيْتَ فِي الزَّيْتُونِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَالدَّقِيقَ اسْمٌ لِلْمُتَفَرِّقِ ، فَلَا دَقِيقَ فِي حَالِ كَوْنِهِ حِنْطَةً ، وَلَا زَيْتَ حَالَ كَوْنِهِ زَيْتُونًا ، فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا ؛ لِأَنَّ مَا فِي السُّنْبُلِ حِنْطَةٌ ، إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ .
وَهِيَ فِي سُنْبُلِهَا عَلَى تَرْكِيبِهَا فَكَانَ بَيْعَ الْمَوْجُودِ حَتَّى لَوْ بَاعَ تِبْنَ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا دُونَ الْحِنْطَةِ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تِبْنًا إلَّا بِالْعِلَاجِ ، وَهُوَ الدَّقُّ ، فَلَمْ يَكُنْ تِبْنًا قَبْلَهُ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ ، وَالْآجُرِّ فِي الْحَائِطِ ، وَذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ أَوْ دِيبَاجٍ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ نُزِعَ ، وَقُطِعَ ، وَسُلِّمَ إلَى الْمُشْتَرِي يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ ، وَهَهُنَا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ طَحَنَ أَوْ عَصَرَ ، وَسَلَّمَ لَا يُجْبِرْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ هُنَاكَ لَيْسَ لِخَلَلٍ فِي الرُّكْنِ ، وَلَا فِي الْعَاقِدِ ، وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَلْ لِمَضَرَّةٍ تَلْحَقُ الْعَاقِدَ بِالنَّزْعِ ، وَالْقَطْعِ فَإِذَا نَزَعَ ، وَقَطَعَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ أَمَّا هَهُنَا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ .
وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَكَذَا بَيْعُ الْبَزْرِ فِي الْبِطِّيخِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَبَيْعُ النَّوَى فِي التَّمْرِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ اللَّحْمِ
فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لَحْمًا بِالذَّبْحِ ، وَالسَّلْخِ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ ، وَكَذَا بَيْعُ الشَّحْمِ الَّذِي فِيهَا ، وَأَلْيَتِهَا وَأَكَارِعِهَا ، وَرَأْسِهَا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا بَيْعُ الْبُحَيْرِ فِي السِّمْسِمِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بُحَيْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْيَاقُوتَ بِكَذَا فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ أَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْفَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَاقُوت بِكَذَا فَإِذَا هُوَ زُجَاج أَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِكَذَا فَإِذَا هُوَ مَرْوِيٌّ ، أَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي بَابِ الْبَيْعِ فِيمَا يَصْلُحُ مَحَلَّ الْبَيْعِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى ، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَةِ فَإِنْ تَفَاحَشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا ، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ أَيْضًا عِنْدَنَا ، وَيُلْحَقَانِ بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ ، وَإِنْ قَلَّ التَّفَاوُتُ فَالْعِبْرَةُ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : الْيَاقُوتُ مَعَ الزُّجَاجِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَكَذَا الْهَرَوِيُّ مَعَ الْمَرْوِيِّ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ .
قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُسَمَّى هَهُنَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَعْنِي الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الذُّكُورَةِ ، وَالْأُنُوثَةِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْعَقْدِ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ كَمَا إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ عَلَى أَنَّهَا نَعْجَةٌ ، فَإِذَا هِيَ كَبْشٌ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنَى ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَالْتُحِقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ النَّعْجَةِ مَعَ الْكَبْشِ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا جِنْسًا ذَاتًا وَمَعْنًى أَمَّا ذَاتًا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُهُمَا .
وَأَمَّا مَعْنًى ؛ فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَتَجَانَسَا ذَاتًا وَمَنْفَعَةً فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ
وَكَذَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ ، فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ ، فَإِذَا هُوَ مَصْبُوغٌ بِزَعْفَرَانٍ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ مَعَ الزَّعْفَرَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي اللَّوْنِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ حِنْطَةً فِي جَوْلَقٍ فَإِذَا هُوَ دَقِيقٌ أَوْ شَرَطَ الدَّقِيقَ فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَعَ الدَّقِيقِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الدَّقِيقُ مَعَ الْخُبْزِ أَلَا تَرَى : أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حِنْطَةً وَطَحَنَهَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمِلْكِ دَلَّ أَنَّهَا تَصِيرُ بِالطَّحْنِ شَيْئًا آخَرَ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ .
وَإِنْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَإِذَا هِيَ ذَكِيَّةٌ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ فَلَغَتْ التَّسْمِيَةُ ، وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الذَّكِيَّةِ .
وَلَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْقَزَّ فَإِذَا هُوَ مُلْحَمٌ يَنْظُرُ إنْ كَانَ سَدَاهُ مِنْ الْقَزِّ ، وَلُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَقِدُ ، وَإِنْ كَانَ لُحْمَتُهُ مِنْ الْقَزِّ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّوْبِ هُوَ اللُّحْمَةُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِهَا فَإِذَا كَانَتْ لُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْقَزِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ ، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ الْقَزِّ فَالْجِنْسُ لَمْ يَخْتَلِفْ فَتُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مَوْجُودٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ كَوْنَ السَّدَى مِنْهُ أَمْرٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ ، وَقَدْ فَاتَ فَوَجَبَ الْخِيَارُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْخَزَّ بِكَذَا ، فَإِذَا هُوَ مُلْحَمٌ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ إلَّا أَنَّ لُحْمَتَهُ إذَا كَانَتْ خَزًّا وَسَدَاهُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الْخَزَّ هَكَذَا يُنْسَجُ بِخِلَافِ الْقَزِّ .
وَلَوْ بَاعَ جُبَّةً عَلَى أَنَّ بِطَانَتَهَا وَظِهَارَتَهَا كَذَا ، وَحَشْوَهَا كَذَا فَإِنْ كَانَتْ الظِّهَارَةُ مِنْ غَيْرِ مَا شَرَطَ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْبِطَانَةُ وَالْحَشْوُ مِمَّا شَرَطَ ، وَإِنْ كَانَتْ الظِّهَارَةُ مِمَّا شَرَطَ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَتْ الْبِطَانَةُ ، وَالْحَشْوُ مِنْ غَيْرِ مَا شَرَطَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الظِّهَارَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ الثَّوْبُ إلَيْهَا ، وَيَخْتَلِفُ الِاسْمُ بِاخْتِلَافِهَا ؟ وَإِنَّمَا الْبِطَانَةُ تَجْرِي مَجْرَى التَّابِعِ لَهَا وَكَذَا الْحَشْوُ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الظِّهَارَةَ ، وَمَا سِوَاهَا جَارِيًا مَجْرَى الْوَصْفِ لَهَا فَفَوَاتُهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ ، وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّهُ فَاتَ شَيْءٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ .
وَلَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّ فِيهَا بِنَاءً فَإِذَا لَا بِنَاءَ فِيهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ ، فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْآجُرَّ مَعَ اللَّبِنِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَالْتَحَقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَالًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، فَلَا يَنْعَقِدَ بَيْعُ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ : { لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ الثُّلُثِ } نَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَازَ بَيْعِهَا مُطْلَقًا وَسَمَّاهَا حُرَّةً فَلَا تَكُونُ مَالًا عَلَى الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ ، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْإِعْتَاقِ ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ لَا ضَمَانُ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : " بَيْعُ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَعَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا دَبَّرَتْ مَمْلُوكَةً لَهَا فَغَضِبَتْ عَلَيْهَا فَبَاعَتْهَا ؛ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ ثَابِتًا أَصْلًا قَبْلَ الْمَوْتِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ ، وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ } وَمُطْلَقُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ : الِاسْتِدْلَال بِضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْكَلَامُ السَّابِقُ ، وَلَيْسَ هُوَ بِتَحْرِيرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَيِّتِ فَكَانَ تَحْرِيرًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهَا تَأَخَّرَتْ مِنْ وَجْهٍ إلَى آخَرَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا إجْمَاعَ عَلَى التَّأْخِيرِ مِنْ وَجْهٍ فَبَقِيَتْ الْحُرِّيَّةُ
مِنْ وَجْهٍ ثَابِتَةً لِلْحَالِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُطْلَقًا ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِكَايَةُ فِعْلٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - أَجَازَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْعَ مُدٍّ مُقَيَّدًا أَوْ بَاعَ مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تُسَمَّى بَيْعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ .
( وَأَمَّا ) الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ السَّابِقُ إيجَابًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ أَوْ لَا ، فَكَانَ الْخَطَرُ قَائِمًا فَكَانَ تَعْلِيقًا ، فَلَمْ يَكُنْ إيجَابًا مَا دَامَ الْخَطَرُ قَائِمًا وَمَتَى اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ تَحْرِيرًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَكِنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَا بَيْعُ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَثْبُتُ يَدُ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَلَا بَيْعُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ مُوسِرًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ مُعْسِرًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْإِعْتَاقُ مُنْجَزٌ فَبَقِيَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي هَؤُلَاءِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْأَوْلَادِ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ ، وَلِهَذَا كَانَ وَلَدُ الْحُرَّةِ حُرًّا ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ رَقِيقًا وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ ، وَوَلَدِهِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ وَلَدِهِ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ ، وَوَالِدَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ .
( وَأَمَّا ) مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إذَا اشْتَرَاهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ ، وَالْمُشْرِكِ ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ ، وَكَذَا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا - عِنْدَنَا - خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ .
( كِتَابِ الذَّبَائِحِ ) وَكَذَا ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ ، وَكَذَا مَا ذُبِحَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كَانَ الذَّابِحُ ، أَوْ حَلَالًا ، وَمَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ سَوَاءٌ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ أَوْ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَيْتَةٌ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كَانَ الْبَائِعُ أَوْ حَلَالًا ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا ، فَلَمْ يَكُنْ مَالًا ، وَلَا بَيْعُ صَيْدِ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ أَوْ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَقِّهِ ، فَلَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّهِ ، وَلَوْ وَكَّلَ مُحْرِمٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ : بَاطِلٌ ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُسْلِمٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ فَبَاعَهَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمُوَكِّلُ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ لَهُ ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِ الصَّيْدِ ، وَتَمَلُّكِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا تَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا فِي نَفْسِ الْحُكْمِ مَعَ اقْتِصَارِ نَفْسِ التَّصَرُّفِ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ حَقِيقَةً ، وَالْمُحْرِمُ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الصَّيْدِ حُكْمًا لَا يَتَمَلَّكُهُ حَقِيقَةً أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرِثُهُ ؟ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّا لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ ، وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيمَا يُثْبِتُ حُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ وَلَوْ بَاعَ حَلَالٌ حَلَالًا صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ
أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ كَمَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْقَبْضَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَازَ الْبَيْعُ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا : يَبْطُلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْقَائِمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ عِنْدَهُ ، فَالطَّارِئُ لَا يُبْطِلُهُ ، وَعِنْدَهُمَا الْقَائِمُ يَمْنَعُ ، فَالطَّارِئُ يُبْطِلُهُ حَلَالَانِ تَبَايَعَا صَيْدًا فِي الْحِلِّ ، وَهُمَا فِي الْحَرَمِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : لَا يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَرَمِ مَأْمَنًا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَعَرِّضُ فِي الْحَرَمِ أَوْ الْحِلِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُتَعَرِّضُ فِي الْحَرَمِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحَلَالِ الَّذِي فِي الْحَرَمِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى الصَّيْدِ الَّذِي فِي الْحِلِّ ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهِ إذَا كَانَ فِي الْحَرَمِ ؟ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْحَرَمِ يَمْنَعُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِصَيْدِ الْحِلِّ لَكِنْ حِسًّا لَا شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ فِي الْحَرَمِ إذَا أَمَرَ حَلَالًا آخَرَ بِذَبْحِ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ جَازَ وَلَوْ ذَبَحَ حِلٌّ أَكَلَهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ فِي مَعْنَى التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوْقَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ هَذَا أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّعَرُّضِ إنَّمَا كَانَ احْتِرَامًا لِلْحَرَمِ فَكُلُّ مَا فِيهِ تَرْكُ احْتِرَامِهِ يَجِبُ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْإِيذَاءِ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْبَيْعِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَا بَيْعُ لَحْمِ السَّبُعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فَلَمْ يَكُنْ مَالًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعَهُ إذَا ذُبِحَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ طَاهِرًا بِالذَّبْحِ .
وَأَمَّا جِلْدُ السَّبُعِ ، وَالْحِمَارِ ، وَالْبَغْلِ فَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا أَوْ مَذْبُوحًا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فَكَانَ مَالًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْبُوغًا وَلَا مَذْبُوحًا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُدْبَغْ وَلَمْ يُذْبَحْ بَقِيَتْ رُطُوبَاتُ الْمَيْتَةِ فِيهِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَيْتَةِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ كَيْفَ مَا كَانَ ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَقِيلَ : إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ ، وَأَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَعَصَبُهَا ، وَشَعْرُهَا ، وَصُوفُهَا ، وَوَبَرُهَا ، وَرِيشُهَا ، وَخُفُّهَا وَظِلْفُهَا ، وَحَافِرُهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا - عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ طَاهِرَةٌ - عِنْدَنَا - وَعِنْدَهُ نَجِسَةٌ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَهَذِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَكُونُ حَرَامًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } ( وَلَنَا ) قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } الْآيَةَ أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَنَا وَمَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ فَيَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْإِبَاحَةِ ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِمَوْتِهَا فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ ، وَالْجَرَادِ ، وَهُمَا حَلَالَان قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ السَّيَّالَةِ ، وَالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ ؛ لِانْجِمَادِهَا بِالْمَوْتِ ، وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغِ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ لِزَوَالِ الرُّطُوبَةِ عَنْهُ وَلَا رُطُوبَةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، فَلَا تَكُونُ حَرَامًا ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ لُغَةً ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَصَبِ حَالَ الرُّطُوبَةِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ .
وَأَمَّا عَظْمُ الْخِنْزِيرِ ، وَعَصَبُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَأَمَّا شَعْرُهُ فَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ وَأَمَّا عَظْمُ الْآدَمِيِّ وَشَعْرُهُ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ لَكِنْ احْتِرَامًا لَهُ وَالِابْتِذَالُ بِالْبَيْعِ يُشْعِرُ بِالْإِهَانَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ } وَأَمَّا عَظْمُ الْكَلْبِ ، وَشَعْرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ عَظْمِ الْفِيلِ ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَظْمُ الْفِيلِ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا بَيْعُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ سِوَى الْخِنْزِيرِ كَالْكَلْبِ ، وَالْفَهْدِ ، وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ ، وَالذِّئْبِ ، وَالْهِرِّ ، وَنَحْوِهَا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ثُمَّ عِنْدَنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ ، وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَيَجُوزَ بَيْعُهُ كَيْفَ مَا كَانَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُكْرَمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { وَمِنْ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ } وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَمَا كَانَ ثَمَنُهُ سُحْتًا ، وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ ، وَالِاصْطِيَادِ لِلْحَاجَةِ ، وَالضَّرُورَةِ ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ كَمَا فِي شَعْرِ الْخِنْزِيرِ .
( وَلَنَا ) : أَنَّ الْكَلْبَ مَالٌ ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالصَّقْرِ ، وَالْبَازِي ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ ، وَالِاصْطِيَادِ مُطْلَقٌ شَرْعًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْعَهُ يَقَعُ سَبَبًا ، وَوَسِيلَةً لِلِاخْتِصَاصِ الْقَاطِعِ لِلْمُنَازَعَةِ إذْ الْحَاجَةُ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِيمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا فِيمَا يَجُوزُ .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي
ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِهَا مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ : أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ، قُلْنَا : هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ اصْطِيَادًا ، وَحِرَاسَةً .
وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَالْخِنْزِيرِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ كَالْخَلِّ ، وَكَالشَّاةِ لَنَا فَكَانَ مَالًا فِي حَقِّهِمْ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ ، وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا : حُرْمَةُ الْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَالْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ عَنْ بَيْعِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا ، ويتمولونها .
وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ ، وَمَا يَدِينُونَ ، وَلَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ ، وَالشِّرَاءُ ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ ، وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْإِنْشَاءَ أَوْ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا ، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا هُوَ النَّهْيُ عَنْ قَبْضَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ ، وَلَا تُظْلَمُونَ } وَإِذَا حَرُمَ الْقَبْضُ ، وَالتَّسْلِيمُ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ ، فَيُبْطِلَهُ الْقَاضِي كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ كَانَ إسْلَامُهُمَا أَوْ إسْلَامُ
أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ مَضَى الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ ، وَالْقَبْضِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ .
وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ فِيهَا ، وَلَوْ أَقْرَضَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ أَمَّا سُقُوطُ قِيمَةِ الْخَمْرِ ، فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ قَبْضِ الْمِثْلِ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُسْتَقْرِضُ .
رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَسْقُطُ الْخَمْرُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ أَيْضًا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ ، وَزُفَرُ ، وَعَافِيَةُ بْنُ زِيَادٍ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْخَمْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّسْلِيمِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ إنَّمَا جَاءَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهِ ، وَهُوَ إسْلَامُهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ خَمْرَهُ ، وَالْمُسْلِمُ إذَا اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَسْلِيمِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَلَا إلَى الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُسْتَقْرِضِ ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْقِرْدُ .
فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونَ مَالًا كَالْخِنْزِيرِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ بِذَاتِهِ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَى لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ عَادَةً بَلْ لِلَّهْوِ بِهِ ، وَهُوَ حَرَامٌ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْحَرَامِ لِلْحَرَامِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفِيلِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْحَيَّةِ ، وَالْعَقْرَبِ ، وَجَمِيعِ هَوَامِّ الْأَرْضِ كَالْوَزَغَةِ ، وَالضَّبِّ ، وَالسُّلَحْفَاةِ ، وَالْقُنْفُذِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ الِانْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمْ تَكُنْ أَمْوَالًا فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّةِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا لِلْأَدْوِيَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي كَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَمْ يُجْعَلْ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْبَيْعِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ كَالضِّفْدَعِ ، وَالسَّرَطَانِ إلَّا السَّمَكَ ، وَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ ، أَوْ عَظْمِهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ ، وَلَا بِهِ ، وَلَا بِعَظْمِهِ لَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سُئِلَ عَنْ الضِّفْدَعِ يُجْعَلُ فِي دَوَاءٍ فَنَهَى عَنْهُ ، وَقَالَ : خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ } ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى : أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ النَّحْلِ إلَّا إذَا كَانَ فِي كُوَّارَتِهِ عَسَلٌ فَبَاعَ الْكُوَّارَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْعَسَلِ ، وَالنَّحْلِ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا مِنْ غَيْرِ كُوَّارَتِهِ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ .
( وَلَنَا ) : أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، وَهُوَ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ مَعَ الْكُوَّارَةِ ، وَفِيهَا عَسَلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْعَسَلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِهِ مُفْرَدًا ، وَيَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَعَ غَيْرِهِ كَالشُّرْبِ ، وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا فَقَالَ : إنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا إذَا كَانَ مِنْ حُقُوقِهِ كَمَا فِي الشُّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ قَزٌّ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا ، وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّحْلِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ بَذْرِ الدُّودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدُّودِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
( وَوَجْهُ ) الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيْعِ النَّحْلِ ، وَالدُّودِ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ ، وَالْبَعْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا ، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ الْخَالِصَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِحَالٍ ، فَلَا تَكُونُ مَالًا إلَّا إذَا كَانَ مَخْلُوطًا بِالتُّرَابِ ، وَالتُّرَابُ غَالِبٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " كُلُّ شَيْءٍ أَفْسَدَهُ الْحَرَامُ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ " وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ ، وَمَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَرَامَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، وَلَا هِبَتُهُ كَالْفَأْرَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْعَجِينِ ، وَالسَّمْنِ الْمَائِعِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزَّيْتِ إذَا وَقَعَ فِيهِ وَدَكُ الْمَيْتَةِ : " إنَّهُ إنْ كَانَ الزَّيْتُ غَالِبًا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْوَدَكُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ " لِأَنَّ الْحَلَالَ إذَا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ اسْتِصْحَابًا ، وَدَبْغًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي .
( كِتَابِ الطَّهَارَاتِ ) فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِذَا كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْغَالِبَ لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مِنْ الْبَرْبَطِ ، وَالطَّبْلِ ، وَالْمِزْمَارِ ، وَالدُّفِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ : لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؛ لِأَنَّهَا آلَاتٌ مُعَدَّةٌ لِلتَّلَهِّي بِهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفِسْقِ ، وَالْفَسَادِ فَلَا تَكُونُ أَمْوَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِأَنْ تُجْعَلَ ظُرُوفًا لِأَشْيَاءَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ فَلَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَمْوَالًا ، وَقَوْلُهُمَا : إنَّهَا آلَاتُ التَّلَهِّي ، وَالْفِسْقِ بِهَا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَالِيَّتِهَا كَالْمُغَنِّيَاتِ ، وَالْقِيَانِ ، وَبَدَنِ الْفَاسِقِ ، وَحَيَاتِهِ ، وَمَالِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَصْلُحُ لِلتَّلَهِّي تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ عَلَى مَالِيَّتِهَا بِجِهَةِ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهَا لَا بِجِهَةِ الْحُرْمَةِ ، وَلَوْ كَسَرَهَا إنْسَانٌ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْعُ النَّرْدِ ، وَالشِّطْرَنْجِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا مِنْ ، وَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ يُجْعَلَ صَنَجَاتِ الْمِيزَانِ فَكَانَ مَالًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ
وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالسُّكَّرِ ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ ، وَالْمُنَصَّفِ ، وَنَحْوِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ شُرْبُهَا لَمْ تَكُنْ مَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْخَمْرِ ، وَلِأَنَّ مَا حَرُمَ شُرْبُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا ، وَبَاعُوهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ بَيْعَهُ ، وَأَكْلَ ثَمَنِهِ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مُتَيَقَّنٍ مَقْطُوعٍ بِهِ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَالْمَالِيَّةُ قَبْلَ حُدُوثِ الشِّدَّةِ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ بِالِاجْتِهَادِ فَبَقِيَتْ أَمْوَالًا ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ مُحَرَّمٌ ، ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَطَلَتْ مَالِيَّتُهَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ ، وَالْمَضَامِينِ الَّذِي ، وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ مَا فِي صُلْبِ الذَّكَرِ ، وَالْمَلْقُوحَ مَا فِي رَحِمِ الْأُنْثَى ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَسْبَ هُوَ الضِّرَابُ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَقَدْ يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ لَبَنِ الْمَرْأَةِ فِي قَدَحٍ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ ، وَالْمَاءِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْمَعْقُولُ .
أَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنْهُمْ فَمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ ، وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي ، وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِالْقِيمَةِ ، وَبِالْعَقْرِ بِمُقَابَلَةِ الْوَطْءِ ، وَمَا حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ اللَّبَنِ بِالِاسْتِهْلَاكِ ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَحَكَمَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ إتْلَافِ مَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَكَانَ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَتِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُسْتَحِقِّ إلَى ضَمَانِ الْمَالِ أَوْلَى ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَهُوَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لِضَرُورَةِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ ، وَمَا كَانَ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا يَكُونُ مَالًا كَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا ، وَلَا يُبَاعُ فِي سُوقٍ مَا مِنْ الْأَسْوَاقِ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ ، وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَرَامَةِ ، وَالِاحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ ، وَبَيْنَ لَبَنِ الْأَمَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ آدَمِيٍّ هُوَ مَالٌ
فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْآدَمِيَّ لَمْ يُجْعَلْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا بِحُلُولِ الرِّقِّ فِيهِ ، وَالرِّقُّ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْحَيِّ ، وَاللَّبَنُ لَا حَيَاةَ فِيهِ فَلَا يُحِلُّهُ الرِّقُّ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ سُفْلٌ ، وَعُلْوٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ انْهَدَمَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ ، وَعَبْدٍ أَوْ بَيْنَ عَصِيرٍ ، وَخَمْرٍ أَوْ بَيْنَ ذَكِيَّةٍ ، وَمَيْتَةٍ ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ بَيَّنَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْعَصِيرِ ، وَالْعَبْدِ ، وَالذَّكِيَّةِ ، وَيَبْطُلُ فِي الْحُرِّ ، وَالْخَمْرِ ، وَالْمَيْتَةِ ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ ، وَمُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ ، وَمُكَاتَبٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ ، وَعَبْدِ غَيْرِهِ ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً ؛ جَازَ الْبَيْعُ فِي عَبْدِهِ بِلَا خِلَافٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ ، وَالْمُفْسِدُ خَصَّ أَحَدَهُمَا ، فَلَا يَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ مَعَ خُصُوصِ الْعِلَّةِ ، فَلَوْ جَاءَ الْفَسَادُ إنَّمَا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا بَيَّنَ حِصَّةَ كُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ ؛ فَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ فَسَدَتْ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا تَصِحُّ فِي الْآخَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَمْ يَتَكَرَّرْ ، وَالْبَائِعُ ، وَاحِدٌ ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدٌ ، وَتَفْرِيقُ الثَّمَنِ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ ، دَلَّ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ فَسَدَتْ فِي أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ لِخُرُوجِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ ، فَلَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ صَحِيحَةً وَفَاسِدَةً ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إذَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَذَا
إذَا سَمَّى ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَتَفْرِيقَ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ لِاتِّحَادِ الْبَيْعِ وَالْعَاقِدَيْنِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبِدِ وَالْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الصَّفْقَةَ مَا فَسَدَتْ فِي أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ فَاعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي تَصْحِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُدَبَّرِ ؛ لِيَظْهَرَ فِي حَقِّ الْقِنِّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ إظْهَارُهُ فِي حَقِّهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ قَدْ جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطَ الْقَبُولِ فِي الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ ، وَالْحُرُّ لَا يُحْتَمَلُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ ، فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَصَحَّ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ فِيهِ بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ فِي الْقِنِّ ؛ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِيهِمَا ، فَالْقَبُولُ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ تَفْرِيقًا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْبَيْعِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ النَّفَاذِ فِي الْجُمْلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ .
وَهَذَا يَمْنَعُ مَحَلِّيَّةَ الْقَبُولِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي صَاحِبِهِ فَيُجْعَلُ مَحَلًّا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ لَا يُسَمِّيَ ، وَهُنَاكَ لَا يَخْتَلِفُ دَلَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ ، وَبَيْنَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ثُمَّ إذَا جَازَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا عِنْدَهُمَا
فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ إنْ عَلِمَ بِالْحَرَامِ ؟ يَثْبُتْ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّفْرِيقِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا .
لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَلَا يَنْعَقِدُ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ كَمَنْ بَاعَ الْكَلَأَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، وَالْمَاءَ الَّذِي فِي نَهْرِهِ أَوْ فِي بِئْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَأَ وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْرَازُ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ } ، وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ الْكَلَأُ بِمَاءِ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ أَوْ سَاقَ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ وَلَحِقَهُ مُؤْنَةٌ ؛ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إلَيْهِ لَيْسَ بِإِحْرَازٍ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهِ فَبَقِيَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ ، وَكَذَا بَيْعُ الْكَمْأَةِ ، وَبَيْعُ صَيْدٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَرْضِهِ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ ، وَكَذَا بَيْعُ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصُّيُودِ الَّتِي فِي الْبَرَارِي ، وَالطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يُصَدْ فِي الْهَوَاءِ ، وَالسَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَاءِ .
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّةَ ، وَإِجَارَتُهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعُمُومَاتِ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَرْضِ الْحَرَمِ ، وَغَيْرِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَمَلُّكُ بَعْضِهَا شَرْعًا لِعَارِضِ الْوَقْفِ كَالْمَسَاجِدِ ، وَنَحْوِهَا ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْحَرَمِ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا } أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ ، وَالْحَرَامُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَكَّةُ حَرَامٌ ، وَبَيْعُ رِبَاعِهَا حَرَامٌ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَضَعَ لِلْحَرَمِ حُرْمَةً ، وَفَضِيلَةً ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَأْمَنًا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَك وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } .
فَابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَالتَّمْلِيكِ ، وَالتَّمَلُّكِ امْتِهَانٌ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرَاضِي ، وَقِيلَ : إنَّ بُقْعَةَ مَكَّةَ وَقْفٌ حَرَمُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا حُجَّةَ فِي الْعُمُومَاتِ ؛ لِأَنَّهُ خُصَّ مِنْهَا الْحَرَمُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ الْحَرَمَ
لِلْبُقْعَةِ لَا لِلْبِنَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كُرِهَ إجَارَةُ بُيُوتِ مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ مِنْ الْحَاجِّ ، وَالْمُعْتَمِرِ ، فَأَمَّا مِنْ الْمُقِيمِ وَالْمُجَاوِرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَيَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِي الْخَرَاجِ ، وَالْقَطِيعَةِ ، وَالْمُزَارَعَةِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْإِكَارَةِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْخَرَاجِ أَرْضُ سَوَادِ الْعِرَاقِ الَّتِي فَتَحَهَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَرَاضِيهِمْ فَكَانَتْ مُبْقَاةً عَلَى مِلْكِهِمْ فَجَازَ لَهُمْ بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْقَطِيعَةِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَطَعَهَا الْإِمَامُ لِقَوْمٍ ، وَخَصَّهُمْ بِهَا فَمَلَكُوهَا بِجُعْلِ الْإِمَامِ لَهُمْ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا ، وَيَقُومُ بِهَا ، وَبِهَذَا لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً ، وَأَرْضُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ صَاحِبِهَا لِيَعْمُرَهَا ، وَيَزْرَعَهَا ، وَأَرْضُ الْإِكَارَةِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْأَكَرَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِأَصْحَابِهَا .
وَأَمَّا أَرْضُ الْمَوَاتِ الَّتِي أَحْيَاهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ ، وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ بَغْدَادَ ، وَحَوَانِيتِ السُّوقِ الَّتِي لِلسُّلْطَانِ عَلَيْهَا غَلَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي بِنَائِهَا ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْبُقْعَةَ مِلْكًا لَهُمْ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) وَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَنْعَقِدْ ، وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً ، وَهَذَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ { ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } ، وَلَوْ بَاعَ الْمَغْصُوبَ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ تَقَدَّمَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَهَهُنَا تَأَخَّرَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِلْكًا ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ { حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ كَانَ يَبِيعُ النَّاسَ أَشْيَاءَ لَا يَمْلِكُهَا ، وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَدْخُلُ السُّوقَ فَيَشْتَرِي ، وَيُسَلِّمَ إلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ } ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ تَمْلِيكُ مَا لَا يَمْلِكُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ .
وَهُوَ الشَّرْطُ فِيمَا يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا وَكَفِيلًا فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذ فَإِنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ ، وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ عِنْدَهُ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدْ ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَبَيْعِ الْآبِقِ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا وَامْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَلَوْ سَلَّمَ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَبْضِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْآبِقِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ وَسُلِّمَ يَجُوزُ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْبَيْعِ إلَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي فَسَخَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي فَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فَفَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ .
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ يَنْفُذُ ، وَلَوْ ، وَهَبَهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ وَكَانَ مِلْكًا لَهُ فَقَدْ بَاعَ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنْ سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ ، وَصَارَ كَبَيْعِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي فِي يَدِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِذَا الْعَاقِدِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا لِفَائِدَةٍ ، وَلَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ثَابِتٌ حَالَةَ الْعَقْدِ ، وَفِي حُصُولِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَكٌّ ، وَاحْتِمَالٌ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا بِيَقِينٍ لَا يَنْعَقِدُ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ
بِالشَّكِّ ، وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ كَانَتْ ثَابِتَةً لِذَا الْعَقْدِ فَانْعَقَدَ ثُمَّ زَالَتْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ عَوْدَهَا فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي زَوَالِ الْمُنْعَقِدِ بِيَقِينٍ .
وَالثَّابِتُ بِالْيَقِينِ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَهُوَ الْفَرْقُ ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ يَنْفُذُ ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ الْمَالِكَ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ بِقُدْرَةِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ يَنْفُذُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ يَدِ الْغَاصِبِ صُورَةً فَإِذَا سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْآبِقِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ لَا تَصِلُ إلَيْهِ يَدُ أَحَدٍ لِمَا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ فَكَانَ الْعَجْزُ مُتَقَرِّرًا وَالْقُدْرَةُ مُحْتَمَلَةٌ مَوْهُومَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَأَشْبَهَ بَيْعُ الْآبِقِ بَيْعَ الطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي الْهَوَاءِ ، وَبَيْعَ السَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَاءِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا ، وَلَوْ جَاءَ إنْسَانٌ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ فَقَالَ : إنَّ عَبْدَكَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي ، وَأَنَا أَقْبِضُهُ مِنْهُ فَصَدَّقَهُ ، وَبَاعَهُ مِنْهُ لَا يَنْفُذُ لِمَا فِيهِ مِنْ عُذْرِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَبْضِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ يَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْقَبْضِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ فِي زَعْمِ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الْمَنْعِ قَائِمٌ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِهِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ تَحَقَّقَ مَا زَعَمَهُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ مُتَحَقِّقٌ فَيَمْنَعُ الِانْعِقَادَ .
وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَجَاءَ إلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ جَازَ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ ، وَهَذَا الْبَيْعُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ
النَّهْيِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِآبِقٍ فِي حَقِّهِ ثُمَّ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَحْضَرَ الْعَبْدَ مَعَ نَفْسِهِ ، وَإِمَّا إنْ لَمْ يُحْضِرْهُ فَإِنْ أَحْضَرَهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ مَعَ نَفْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّجْدِيدِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوُصُولِ يَهْلِكُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِنَفْسِ الْوُصُولِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بِالْبَرَاجِمِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ ، وَالتَّخَلِّي ، وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ صَارَ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ يَهْلِكُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ ، وَقَبْضُ الشِّرَاءِ أَيْضًا قَبْضُ الضَّمَانِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانِ فَتَنَاوَبَا ، وَلَوْ كَانَ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَبْضُ ضَمَانٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا بَعْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَبْضُ أَمَانَةٍ عِنْدَهُمَا ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِبَاقِ وَاللُّقَطَةِ .
وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الطَّائِرِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ ، وَطَارَ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْعَقِدُ ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ السَّمَكَةِ الَّتِي أَخَذَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي حَظِيرَةٍ سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِدُونِ الِاصْطِيَادِ ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ كَذَا الْبَيْعُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَجْتَمِعُ فِي الضَّرْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَخْتَلِطَ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْعَقِدُ ، وَكَذَا بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ بِالْحَادِثِ بَعْدَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالْجَزِّ وَالنَّتْفِ وَاسْتِخْرَاجِ أَصْلِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَهُ ، وَالصُّلْحَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ جَزُّهُ قَبْلَ الذَّبْحِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَبَيْعِ الْقَصِيلِ فِي الْأَرْضِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَصِيلِ ، وَالصُّوفِ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّوفَ لَا يُمْكِنُ جَزُّهُ مِنْ أَصْلِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الشَّاةَ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَدْيُونِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ هَهُنَا ، وَنَظِيرُ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُنْكِرًا ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
، وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُجَمَّدِ ؟ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْمُجَمَّدَةَ أَوَّلًا إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَّا إذَا بَاعَ ثُمَّ سَلَّمَ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضَهُ يَذُوبُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ جَمِيعِهِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا بَاعَهُ ، وَسَلَّمَهُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ يَجُوزُ ، وَإِنْ سَلَّمَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ لَا يَنْقُصُ نُقْصَانًا لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى النَّفَاذِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ أَمَّا الْمِلْكُ .
فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ ، وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا حَتَّى لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ الَّتِي لَهَا مُجِيزٌ حَالَةَ الْعَقْدِ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُجِيزِ مِنْ الْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَجَازَ يَنْفُذْ ، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصَرُّفَاتُهُ بَاطِلَةٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْوِلَايَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَصِحَّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ هُوَ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ الَّذِي ، وُضِعَ لَهُ شَرْعًا لَا يُعْقَلُ لِلصِّحَّةِ مَعْنًى سِوَى هَذَا .
( فَأَمَّا ) الْكَلَامُ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا شَرْعًا ، وَالْحُكْمُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْبَيْعُ شَرْعًا وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ حَالَ وُجُودِهِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ فَكَذَا بَيْعُهُ .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ - تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى - { ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } شَرَعَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَبَيْنَ مَا إذَا