كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا لَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ دَلَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ فَالْحَطُّ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ الْحَطَّ عَنْ الثَّمَنِ الثَّانِي وَلَا يُوجِبُ فِي الْمُسَاوَمَةِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَنِ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَكَذَا الْحَطُّ عَنْهُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَعَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ ( فَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ وَحَطًّا عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هِبَةً مُبْتَدَأَةً ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَمَا لَا يَلْحَقُ بِهِ .
فَنَقُولُ : لَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْحَقَ بِرَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْغَسَّالِ وَالْفَتَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ ، وَالْكِرَاءُ ، وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَعَلَفُ الدَّوَابِّ ، وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الْكُلِّ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يُلْحِقُونَ هَذِهِ الْمُؤَنَ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَعُدُّونَهَا مِنْهُ ، وَعُرْفُ الْمُسْلِمِينَ وَعَادَتُهُمْ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ قَالَ النَّبِيُّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } إلَّا أَنَّهُ لَا يَقُولُ عِنْدَ الْبَيْعِ : اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ : قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَذِبٌ وَالثَّانِيَ صِدْقٌ .
وَأَمَّا أُجْرَةُ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ وَالْبَيْطَارِ ، وَجُعْلِ الْآبِقِ ، وَالْفِدَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الرَّقِيقِ مِنْ تَعْلِيمِ صِنَاعَةٍ أَوْ قُرْآنٍ أَوْ شِعْرٍ فَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ مِنْ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْمُؤَنِ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ } .
وَكَذَا الْمُضَارِبُ مَا أَنْفَقَ عَلَى الرَّقِيقِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَفَرِهِ لَا يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عَادَةَ فِيهِ ، وَالتَّعْوِيلُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعَادَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَمَا لَا يَجِبُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ائْتَمَنَ الْبَائِعَ فِي إخْبَارِهِ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا اسْتِحْلَافٍ فَتَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ سَبَبِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ مِنَّا مِنْ غَشَّنَا } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ } وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ وَمَا لَا يَجِبُ فَنَقُولُ : وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
: إذَا حَدَثَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً يُنْظَرُ إنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ وَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حُدُوثِ الْعَيْبِ لَا يَخْلُو مِنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْعَيْبَ حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَكَانَ لَا يَرْبَحُهُ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ فَقَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهُ جُزْءًا مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْبَاقِي مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَمَا لَوْ احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْفَائِتَ جُزْءٌ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ فَاتَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ بَيَانُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ قَائِمٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَائِعًا مَا بَقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِعْلِ وَصَارَ مُقَابِلُهُ الثَّمَنَ فَقَدْ حَبَسَ الْمُشْتَرِي جُزْءًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْبَاقِي مُرَابَحَةً إلَّا بِبَيَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ حَدَثَ مِنْ الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالْعُقْرِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا حَتَّى تَمْنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ لِلْحَالِ فَهَذَا حَبَسَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَبَاعَ الْبَاقِيَ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ .
وَكَذَا لَوْ هَلَكَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَوَجَبَ الْأَرْشُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَبِيعًا مَقْصُودًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ ثُمَّ الْمَبِيعُ بَيْعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَالْمَبِيعُ مَقْصُودًا أَوْلَى ، وَلَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ هَلَكَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ عَلَى مَا مَرَّ فَالْوَلَدُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالطَّرَفِ ، وَلَوْ اسْتَغَلَّ الْوَلَدَ وَالْأَرْضَ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْمَبِيعِ لَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ بِبَيْعِ الدَّارِ أَوْ الْأَرْضِ حَابِسًا جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَإِنَّ الْوَطْءَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ حَقِيقَةً ، وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِجُزْءٍ لَهَا حَقِيقَةً فَاسْتِيفَاؤُهَا لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الذَّاتِ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْجُزْءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمِلْكِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْأَبْضَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ فَبَقِيَتْ مَبِيعَةً حَقِيقَةً ، وَوَطْءُ الثَّيِّبِ إنَّمَا مَنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا لَا لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ ؛ لِأَنَّ الِافْتِضَاضَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ وَهِيَ عُضْوٌ مِنْهَا فَكَانَ إتْلَافًا لِجُزْئِهَا فَأَشْبَهَ إتْلَافَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ مِنْهَا جُزْءًا آخَرَ لَكَانَ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ ؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شُبْهَةَ الْمَبِيعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبِيعًا حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يُزَادُ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فَكَانَ لَهُ شُبْهَةٌ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِالْبَيَانِ .
وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا صُلْحًا مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ لِيَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ سَامَحَ أَمْ لَا فَيَقَعُ التَّحَرُّزُ عَنْ التُّهْمَةِ وَمَبْنَى الشِّرَاءِ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ ، وَفَرْقٌ آخَرُ أَنَّ فِي الشِّرَاءِ لَا تُتَصَوَّرُ الْخِيَانَةُ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ بَلْ بِمِثْلِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْلُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَبْطُلْ الشِّرَاءُ ، وَلَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ لَبَطَلَ الشِّرَاءُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ لَا تَتَقَدَّرُ الْخِيَانَةُ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَصَادَقَا بَعْدَ عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَبْطُلُ الصُّلْحُ ، فَاحْتَمَلَ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ .
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَرَقَمَهُ اثْنَيْ عَشَرَ فَبَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الرَّقْمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ جَازَ إذَا كَانَ الرَّقْمُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا وَلَا يَكُونُ خِيَانَةً ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لَكِنْ لَا يَقُولُ : اشْتَرَيْته بِكَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ عَادَةَ التُّجَّارِ وَعِنْدَهُ أَنَّ الرَّقْمَ هُوَ الثَّمَنُ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ مَالًا فَرَقَمَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَقْمِهِ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ بَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يَطْرَحُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا يَبْقَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الطَّرْحِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ بِأَنْ اسْتَغْرَقَ الرِّبْحُ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ ( وَأَمَّا ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُقُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ رَبِحَ فِيهَا أَوْ خَسِرَ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى عَشَرَةٍ ، وَلَوْ بَاعَهُ بِعِشْرِينَ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا ، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْعُقُودَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ وَتَلَاشَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا ، فَأَمَّا الْعَقْدُ الْأَخِيرُ ، فَحُكْمُهُ قَائِمٌ وَهُوَ الْمِلْكُ فَكَانَ هَذَا الْمُعْتَبَرُ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الشِّرَاءَ الْأَخِيرَ كَمَا أَوْجَبَ مِلْكَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَكَّدَ الرِّبْحَ وَهُوَ خَمْسَةٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسْخِ فَإِذَا اشْتَرَى فَقَدْ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْبُطْلَانِ فَتَأَكَّدَ وَلِلتَّأَكُّدِ شُبْهَةُ الْإِثْبَاتِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِلثَّوْبِ وَخَمْسَةُ الرِّبْحِ بِعَشَرَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِ الْكُلِّ ، وَذَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْبَابِ لَهَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ نَسِيئَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ نَقْدًا لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ
بَيَانٍ احْتِرَازًا عَنْ الشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شُبْهَةَ أَنْ يُقَابِلَهُ الثَّمَنُ عَلَى مَا مَرَّ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالْبَيَانِ كَذَا هَذَا فَإِذَا بَاعَهُ بِعَشْرَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَيَكُونُ الْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ وَيَبْقَى الثَّوْبُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا فَلَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ اشْتَرَى مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْتَازٌ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَصَحَّ الشِّرَاءُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجِبُ الْبَيَانُ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ فِي الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ قَائِمَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ لَا يُمَاكِسُونَ فِي الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ ، وَهِيَ الشِّرَاءُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ قَائِمَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ ؛ وَلِأَنَّ لِلشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبِيعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ ؛ لِكَوْنِهَا شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ لِهَذَا الشِّرَاءِ شُبْهَةُ عَدَمِ الصِّحَّةِ ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَتُؤَثِّرُ فِي الْمُرَابَحَةِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ .
وَلَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَذَلِكَ أَلْفٌ ، وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَّا بِبَيَانٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ الْمَدْيُونِ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَكْثَرِ الثَّمَنَيْنِ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ مُضَارِبِهِ أَوْ اشْتَرَى مُضَارَبَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ، بَيَانُ ذَلِكَ إذَا دَفَعَ أَلْفًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ ، وَالْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ ، بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ عِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالشِّرَاءُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فَكَانَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ قَائِمَةً فَتَلْتَحِقُ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَكِنْ سَاهَلَهُ الْمُضَارِبُ ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ بِمَالِ نَفْسِهِ ، بَلْ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذَا الْبَيْعِ فَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ إلَّا بِبَيَانٍ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ فَإِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ رِبْحٌ وَهِيَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ فِيهَا شُبْهَةٌ وَتُهْمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيُطْرَحُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ ، وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا تُهْمَةَ إذْ لَا حَقَّ فِيهَا لِرَبِّ الْمَالِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ وَهِيَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي الْأَقَلِّ وَفِي الْأَكْثَرِ تُهْمَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ ، وَالْخَمْسُونَ قَدْرُ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فَتُضَمُّ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَانَةِ إذَا ظَهَرَتْ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ وَإِمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فِي قَدْرِهِ فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ أَوْ بَاعَهُ تَوْلِيَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ بِالْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ بُنِيَ عَلَى الْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ الْبَائِعَ وَائْتَمَنَهُ فِي الْخَبَرِ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَكَانَتْ الْأَمَانَةُ مَطْلُوبَةً فِي هَذَا الْعَقْدِ فَكَانَتْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً فَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ وَكَذَا لَوْ صَالَحَ مِنْ دَيْنِ أَلْفٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ عَلَى عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا .
وَإِنْ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بِأَنْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ دَهٍ يازده أَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتُ ، ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَفِي التَّوْلِيَةِ لَا خِيَارَ لَهُ لَكِنْ يُحَطُّ قَدْرُ الْخِيَانَةِ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا خِيَارَ لَهُ وَلَكِنْ يُحَطُّ قَدْرُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ فِي التَّوْلِيَةِ ، وَدِرْهَمٌ فِي الْمُرَابَحَةِ ، وَحِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَلْزَمُ بِدُونِهِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنْ الْخِيَانَةِ كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ إذَا وُجِدَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ تَبَيَّنَ أَنَّ تَسْمِيَةَ قَدْرِ الْخِيَانَةِ لَمْ تَصِحَّ فَلَغَتْ تَسْمِيَتُهُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا بِالثَّمَنِ الْبَاقِي ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي الْمُرَابَحَةِ لَا تُوجِبُ خُرُوجَ الْعَقْدِ عَنْ كَوْنِهِ مُرَابَحَةً ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ رِبْحٍ ، وَهَذَا قَائِمٌ بَعْدَ الْخِيَانَةِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ رَأْسُ مَالٍ وَبَعْضَهُ رِبْحٌ فَلَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ عَنْ كَوْنِهِ مُرَابَحَةً ،
وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَغْيِيرًا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ .
وَهَذَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ كَمَا إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ نَسِيئَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ التَّوْلِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِيهَا تُخْرِجُ الْعَقْدَ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَقَدْ ظَهَرَ النُّقْصَانُ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لَأَخْرَجْنَاهُ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً وَجَعَلْنَاهُ مُرَابَحَةً ، وَهَذَا إنْشَاءُ عَقْدٍ آخَرَ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَحَطَطْنَا قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَأَلْزَمْنَا الْعَقْدَ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ هَلَكَ أَوْ حَدَثَ بِهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ لَمْ يَكُنْ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ التَّوْلِيَةِ لَا أَنَّهُ تَوْلِيَةٌ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْلِيَةِ مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ .
وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِالْإِشْرَاكِ بَيَانُ الْقَدْرِ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْمُشْتَرَى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُشْرِكَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِمَّا أَنْ أَطْلَقَ الشَّرِكَةَ فَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ فَلَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ فِيهِ يَثْبُتُ فِي قَدْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ فَإِنْ أَطْلَقَ الشَّرِكَةَ بِأَنْ قَالَ أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا الْكُرِّ فَلَهُ نِصْفُ الْكُرِّ كَمَا لَوْ قَالَ : أَشْرَكْتُكَ فِي نِصْفِ الْكُرِّ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الرَّجُلِ مِثْلَ نَصِيبِهِ .
وَلَوْ أَشْرَكَ رَجُلًا فِي نِصْفِهِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى هَلَكَ نِصْفُهُ فَالرَّجُلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَهُوَ رُبُعُ الْكُرِّ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ نِصْفٌ شَائِعٌ مِنْ ذَلِكَ فَمَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا بَقِيَ بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ رَجُلٌ نِصْفَ الْكُرِّ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْهَلَاكِ اسْتِحْقَاقٌ بِأَنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْكُرِّ فَهَهُنَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً فِي الْبَيْعِ وَفِي الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ أُضِيفَ إلَى نِصْفٍ شَائِعٍ وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ فِي نِصْفِ الْمَمْلُوكِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ إلَّا أَنَّ تَنْفِيذَهُ فِي النِّصْفِ الْمَمْلُوكِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ النِّصْفِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ
لِلرَّجُلِ وَنِصْفُهُ لَهُ ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَشْرِكْنِي فِي هَذَا الْعَبْدِ فَقَالَ : قَدْ أَشْرَكْتُكَ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ : مِثْلَ ذَلِكَ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ إنْ كَانَ الثَّانِي عَلِمَ بِمُشَارَكَةِ الْأَوَّلِ فَلَهُ الرُّبُعُ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّبُعُ وَالنِّصْفُ لِلْأَوَّلِ .
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِمُشَارَكَتِهِ فَالنِّصْفُ لَهُ وَالنِّصْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الثَّانِي بِمُشَارَكَةِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَطْلُبْ الشَّرِكَةَ مِنْهُ إلَّا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَالشَّرِكَةُ فِي نَصِيبِهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرِكَةِ فَقَوْلُهُ : أَشْرِكْنِي طَلَبُ الشَّرِكَةِ فِي الْكُلِّ ، وَالْإِشْرَاكُ فِي الْكُلِّ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لَهُ وَالْأَوَّلُ قَدْ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ بِالْمُشَارَكَةِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّانِي النِّصْفَ الْبَاقِيَ تَحْقِيقًا لِلشَّرِكَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : اشْتَرِ جَارِيَةَ فُلَانٍ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ : نَعَمْ ثُمَّ لَقِيَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ لَهُ : مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ فَقَالَ الْمَأْمُورُ : نَعَمْ ، ثُمَّ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَالْجَارِيَةُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ وَبِقَبُولِ الْوَكَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَكِيلًا لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ وَكِيلًا لَهُ بِشِرَاءِ النِّصْفِ .
فَإِذَا قَبِلَ الْوَكَالَةَ مِنْ الثَّانِي صَارَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ فَإِذَا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَقَدْ اشْتَرَاهَا لِمُوَكِّلَيْهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ لَقِيَهُ ثَالِثٌ فَقَالَ لَهُ : مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلَانِ فَقَالَ : نَعَمْ ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِلْأَوَّلَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ وَكِيلًا لِلْأَوَّلَيْنِ إذْ لَا
يَمْلِكُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ عَنْ وَكَالَتِهِمَا حَالَ غَيْبَتِهِمَا فَلَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ الْوَكَالَةَ مِنْ الثَّالِثِ شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ فِي الرَّقِيقِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ فُلَانٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ ثُمَّ أَمَرَهُ آخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهُ ، فَالنِّصْفُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَالنِّصْفُ لِلشَّرِيكَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُ شِرَاءَ الرَّقِيقِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ فَكَانَ الْأَمْرُ سَفَهًا فَلَمْ يَصِحَّ وَصَحَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَاسْتَحَقَّ النِّصْفَ ، وَاسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ تَقْتَضِيهِ الشَّرِكَةُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِوَاحِدٍ فَأَشْرَكَهُ فَإِنْ كَانَ لِاثْنَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْرَكَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ جَمِيعًا ، فَإِنْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا ، فَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً بِأَنْ قَالَ : أَشْرَكْتُكَ فِي نَصِيبِي ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِهِ بِأَنْ قَالَ : أَشْرَكْتُكَ فِي نِصْفِي ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ : أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا الْعَبْدِ ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِهِ بِأَنْ قَالَ : أَشْرَكْتُكَ فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي نَصِيبِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ فِيهِ مِثْلَ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ ، وَكَذَا لَوْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي نِصْفِهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِيهِ ، وَإِنْ أَشْرَكَهُ مُطْلَقًا فَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ فَلَهُ النِّصْفُ كَامِلًا ، وَالنِّصْفُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَالرُّبُعُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ وَحْدَهُ مِثْلَ نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْإِشْرَاكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَنْفُذُ فِي نَصِيبِ
صَاحِبِهِ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ .
وَإِذَا أَجَازَ أَمْكَنَ إجْرَاءُ الشَّرِكَةِ عَلَى إطْلَاقِهَا وَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ لَهُ النِّصْفُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ فَلَهُ النِّصْفُ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَلَهُ الرُّبُعُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَجَازَ كَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيزَ كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِ الَّذِي أَشْرَكَهُ وَهُوَ سُدُسُ الْكُلِّ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إشْرَاكَ أَحَدِهِمَا وَإِجَازَةَ الْآخِرِ بِمَنْزِلَةِ إشْرَاكِهِمَا مَعًا ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَسْتَنِدُ إلَى حَالِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُمَا أَشْرَكَاهُ مَعًا ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَاقِدَ أَشْرَكَ بِوَكَالَةِ صَاحِبِهِ ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِشْرَاكَ وَالْإِجَازَةَ تَثْبُتُ عَلَى التَّعَاقُبِ لِوُجُودِ الْإِشْرَاكِ وَالْإِجَازَةِ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَشْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ ، قَوْلُهُ الْإِجَازَةُ : تَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنَّ الثَّابِتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَكَانَ حُكْمُ الْإِجَازَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ حُكْمِ الْإِشْرَاكِ ثُبُوتًا ، وَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ فَلَهُ نِصْفُ مَا فِي يَدِ هَذَا وَنِصْفُ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَلَهُ نِصْفُ مَا فِي يَد الَّذِي أَشْرَكَهُ لِمَا قُلْنَا هَذَا إذَا أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا ، فَأَمَّا إذَا أَشْرَكَاهُ جَمِيعًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ مَعًا .
وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ ، فَإِنْ أَشْرَكَاهُ مَعًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ النِّصْفُ كَامِلًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا
وَإِنْ أَشْرَكَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّنَا قَدْرَ الشَّرِكَةِ أَوْ أَشْرَكَاهُ فِي نَصِيبِهِمَا بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَشْرَكْتُكَ فِي نَصِيبِي وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ كَانَ لَهُ النِّصْفُ وَلِلْأَوَّلَيْنِ النِّصْفُ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا أَشْرَكَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِهِ فَكَانَ النِّصْفُ لَهُ وَالنِّصْفُ لَهُمَا جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَشْرَكَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ أَنَّ الْإِشْرَاكَ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيَّاهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي أَنْصِبَاءِ الْكُلِّ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ نَصِيبِ الْآخَرِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ مِنْ أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا فِي زَمَانٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِهِ ، وَكَذَلِكَ الْإِشْرَاكُ الْآخَرُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَيَجْتَمِعُ لَهُ رُبُعَانِ وَهُوَ النِّصْفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَهِيَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ ، وَيُعْتَبَرُ لَهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُعْتَبَرُ لِلْمُرَابَحَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي الْمُوَاضَعَةِ أَنْ يُضَمَّ قَدْرُ الْوَضِيعَةِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ يُطْرَحُ مِنْهُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الطَّرْحِ فَهُوَ الثَّمَنُ مِثَالُهُ إذَا قَالَ : اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِوَضِيعَةِ دَهٍ يازده فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ الثَّمَنَ أَنَّهُ كَمْ هُوَ فَسَبِيلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ دِرْهَمٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَكُونُ الْكُلُّ أَحَدَ عَشَرَ ، اطْرَحْ مِنْهُمَا دِرْهَمًا يَكُونُ الثَّمَنُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُوَاضَعَةِ وَاَللَّهُ الْمُوفَقُ لِلصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ خِيَارِ التَّعْيِينِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ الْخِيَارَيْنِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَخِيَارُ الْعَيْبِ شَرْطٌ أَيْضًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ ثَابِتٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا وَيَشْتَرِي ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ بِالْفَسْخِ فَكَانَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ .
( وَلَنَا ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أَبَاحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْأَكْلَ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ ، وَعِنْدَهُ إذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَالِ فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هَذَا .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَإِنْ ثَبَتَ مَعَ كَوْنِهِ فِي حَدِّ الْآحَادِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ ، فَالْخِيَارُ الْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ
عَلَى خِيَارِ الرُّجُوعِ وَالْقَبُولِ مَا دَامَا فِي التَّبَايُعِ ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : بِعْتُ مِنْكَ كَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا ، وَإِذَا قَالَ : الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِكَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ : بِعْتُ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّأْوِيلِ لِلْخَبَرِ نَقَلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ بَيْعِهِمَا } حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا .
فَأَمَّا الْبِيَاعَاتُ الْمَكْرُوهَةُ ( فَمِنْهَا ) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا } وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَهُمَا تَوْلِيهٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا .
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى امْرَأَةً وَالِهَةً فِي السَّبْيِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهَا فَقِيلَ : قَدْ بِيعَ وَلَدُهَا فَأَمَرَ بِالرَّدِّ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ فِي حَالِ الصِّغَرِ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَهَبَ مِنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَقَالَ : بِعْتُ أَحَدَهُمَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : بِعْهُمَا أَوْ رُدَّ } ، وَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ أَوْ رَدِّ الْبَيْعِ فِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّفْرِيق ؛ وَلِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ نَوْعُ إضْرَارٍ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَنْتَفِعُ بِشُفْعَةِ الْكَبِيرِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ وَالْكَبِيرُ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ ، وَذَا يَفُوتُ بِالتَّفْرِيقِ فَيَلْحَقُهُمَا الْوَحْشَةُ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِهِمَا بِإِلْحَاقِ الْوَحْشَةِ ، وَكَذَا بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتَلِفَانِ وَيَسْكُنُ قَلْبُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إيحَاشًا بِهِمَا فَكُرِهَ وَلِأَنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ
يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَفِي التَّفْرِيقِ تَرْكُ الرَّحْمَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا .
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْكَرَاهَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا .
( أَمَّا ) شَرَائِطُ الْكَرَاهَةِ ( فَمِنْهَا ) صِغَرُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا أَوْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ } مَدَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّهْيَ عَنْ التَّفْرِيقِ إلَى غَايَةِ الْبُلُوغِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَزَوَالِهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَرَاهَةَ مَعْلُولَةٌ بِالْإِضْرَارِ بِزَوَالِ الِاسْتِئْنَاسِ وَالشَّفَقَةِ وَتَرْكِ الرَّحِمِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الصِّغَرِ .
، ( وَمِنْهَا ) الرَّحِمُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ لَمْ يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا .
، ( وَمِنْهَا ) الْمَحْرَمِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ فَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ابْنَيْ الْعَمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ الْقَطْعَ مُفْتَرِضَةٌ الْوَصْلَ فَكَانَتْ مَنْشَأَ الشَّفَقَةِ وَالْأُنْسِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ وَكَذَا الْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِ الرَّحِمِ لَا تُحَرِّمُ التَّفْرِيقَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ وَالْأُنْسِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا وَاحِدًا بِأَيِّ سَبَبٍ مَلَكَهُمَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ صَغِيرَانِ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ لَا بَأْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي التَّفْرِيقِ أَنْ يَكُونَا فِي مِلْكِ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا مِلْكُ مَالِكٍ وَاحِدٍ لَا يَقَعُ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْكَسْبِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ فَاخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَلَا بَأْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الَّذِي عِنْدَهُ .
فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَلَمْ يُوجَدْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِ مَالِكٍ وَاحِدٍ ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مِلْكٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ فَلَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مَعْنًى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا لِوُجُودِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ مُضَارِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ الْمُضَارِبِ لَكِنْ لَهُ حَقٌّ قَوِيٌّ فِيهِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَبَيْعُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ اسْتِحْسَانًا فَكَانَ رَأْسِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ
مَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً كَبِيرَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْجَارِيَةِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِالتَّرْكِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بَلْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ حَتَّى لَا يَحْصُلَ التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِذَا مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فَقَدْ اجْتَمَعَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ الْبَائِعُ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فِي الْمُدَّةِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ أَوْ يَفْسَخَ ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْمَمْلُوكَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ تَكُنْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهَا ابْنٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تُكْرَهُ الْإِجَازَةُ بِلَا إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَكُونُ تَفْرِيقًا بَلْ تَكُونُ جَمْعًا ( وَأَمَّا ) الْفَسْخُ فَكَذَلِكَ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا ( أَمَّا ) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي مِلْكِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَلَمْ يَقَعْ الْفَسْخُ تَفْرِيقًا لِانْعِدَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِهِ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَهُمَا فَالْجَارِيَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُ فَالْإِجْبَارُ عَلَى الْإِجَازَةِ إبْطَالٌ لِحَقِّهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَمْلِكَهُمَا عَلَى الْكَمَالِ فَإِنْ مَلَكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِقْصًا مِنْهُ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَهُنَا لَا يَقَعُ تَفْرِيقًا مُطْلَقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ فَلَا بَأْسَ مِنْ بَيْعِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَيْعُهُمَا جَمِيعًا فَلَوْ مُنِعَ عَنْ بَيْعِ الْآخَرِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ ، وَكَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ شَرْعًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ زَائِدٍ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بِإِلْحَاقِ ضَرَرٍ فَوْقَهُ بِالْمَالِكِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا حَقٌّ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَنْ لَحِقَ أَحَدَهُمَا دَيْنٌ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ إنْسَانٍ أَوْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى بَنِي آدَمَ أَوْ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَمْ يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَلْ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّفْرِيقِ دَفْعَ ضَرَرٍ زَائِدٍ بِضَرَرٍ أَقْوَى مِنْهُ ، وَهُوَ إبْطَالُ الْحَقِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَفْدِيَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكُهُمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ خَاصَّةً تَفْرِيقٌ ، وَأَنَّهُ إضْرَارٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِصْرَاعَيْ بَابٍ أَوْ زَوْجَيْ خُفٍّ أَوْ نَعْلٍ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ خَاصَّةً كَذَا هَذَا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ عَبْدَانِ صَغِيرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ وَالْآخَرُ كَبِيرٌ وَهُمَا ذَوَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ اشْتَرَاهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي دَخَلَ مَعَهُ بِأَمَانٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ دَخَلَ بِأَمَانٍ مِنْ وِلَايَةٍ أُخْرَى لَا مِنْ وِلَايَتِهِ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَهُمَا ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَفَعْت الْكَرَاهَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ لَأَدْخَلَهُمَا دَارَ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْعَدِمُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إلْحَاقِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَرْضَيَا بِالتَّفْرِيقِ فَإِنْ رَضِيَا لَا يُكْرَهُ بِأَنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا وَرَضِيَ بِالْبَيْعِ وَرَضِيَتْ أُمُّهُ فَبِيعَ بِرِضَاهُمَا ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِمَكَانِ الضَّرَرِ فَإِذَا رَضِيَا بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فَلَا يُكْرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الصَّغِيرِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ قَرِيبٌ وَاحِدٌ هُوَ ذُو رَحِمٍ مُحَرِّمٍ مِنْهُ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ مِنْ الْأَقَارِبِ كُلُّ وَاحِدٍ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّغِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَا أَبَوَيْنِ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنْ كَانَا أَبَوَيْنِ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ سِوَاهُمَا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْآخَرُ أَبْعَدَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَا فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ لَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ الْأَبْعَدِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأَقْرَبِ تُغْنِي عَنْ شَفَقَةِ الْأَبْعَدِ فَلَمْ يَكُنْ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِالصَّغِيرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قَرَابَةُ الْكَبِيرَيْنِ كَالْأَبِ مَعَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ مَعَ الْجَدَّةِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ الْخَالِ أَوْ اخْتَلَفَتْ كَالْأُمِّ مَعَ الْعَمَّةِ أَوْ الْعَمِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا كَيْفَ مَا كَانَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ شَفَقَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَتَزُولُ بِالتَّفْرِيقِ .
وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ الصَّغِيرِ شَرْعًا سَوَاءً يُنْظَرُ إنْ اتَّفَقَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمَا كَالْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ وَالْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكْرَهَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُكْرَهُ إذَا بَقِيَ مَعَ الصَّغِيرِ قَرِيبٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَفَقَةٌ عَلَى حِدَةٍ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا تَقُومُ شَفَقَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ ، وَكَذَا قَدْ يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ شَفَقَةٍ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِتَفْوِيتِ شَفَقَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ فَيُكْرَهُ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِلْإِضْرَارِ بِالصَّغِيرِ بِتَفْوِيتِ النَّظَرِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَالتَّسَاوِي فِي الْقُرْبِ مِنْ
الصَّغِيرِ كَانَ مَعْنَى النَّظَرِ حَاصِلًا بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ تَخْتَلِفُ الشَّفَقَةُ فَيَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ سِتَّةَ إخْوَةٍ أَوْ سِتَّةَ أَخَوَاتٍ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ كِبَارٌ وَثَلَاثَةٌ صِغَارٌ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ كُلِّ صَغِيرٍ مَعَ كُلِّ كَبِيرٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبَوَانِ حُكْمًا بِأَنْ ادَّعَيَاهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُكْرَهَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِاتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ ، وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُبُوَّةِ كَالْعَمَّيْنِ وَالْخَالَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً فَكَانَ الثَّابِتُ قَرَابَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِثَبَاتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَةِ ، وَلَكِنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا .
فَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا لَاحْتُمِلَ أَنَّهُ بَاعَ الْأَبَ فَيَتَحَقَّقُ التَّفْرِيقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمٌّ حَيْثُ يُكْرَهُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ بِيَقِينٍ فَيُكْرَهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَةِ الْكَبِيرَيْنِ كَالْعَمَّةِ مَعَ الْخَالَةِ وَالْعَمِّ مَعَ الْخَالِ وَالْأَخِ لِأَبٍ مَعَ الْأَخِ لِأُمٍّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ إلَى الصَّغِيرِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ ، وَاَلَّذِي يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبًا وَأُمًّا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ كَذَا هَذَا .
امْرَأَةٌ سُبِيَتْ وَفِي حِجْرِهَا بِنْتٌ صَغِيرَةٌ وَقَعَتَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةُ تَزْعُمُ أَنَّهَا ابْنَتُهَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ وَرَدَتْ فِي حَقِّ السَّبَايَا وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُ الصَّغِيرِ وَلَدَ الْمَسْبِيَّةِ إلَّا بِقَوْلِهَا : فَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِي حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّيَانَةِ ، وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ خُصُوصًا فِيمَا يُسْلَكُ فِيهِ طَرِيقُ الِاحْتِيَاطِ وَلَوْ كَبِرَتْ الصَّغِيرَةُ فِي يَدِ السَّابِي وَقَدْ كَانَ وَطِئَ الْكَبِيرَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمَسْبِيَّةِ إرْضَاعَ الصَّغِيرَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الْبِنْتَ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنْهَا لِدَعْوَتِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا بِنْتُهَا مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ فَلَا يَقْرَبُهَا احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصَّغِيرَةُ فِي حِجْرِهَا وَقْتَ السَّبْيِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهَا عِنْدَ السَّبْيِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِهَا وَلَدًا لَهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا أَصْلًا .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ السَّبَايَا صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ : وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مِلْكٍ خَاصٍّ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ وَقْتَ السَّبْيِ فِي يَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْوَلَدَ مَعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ زَوْجُهَا وَصَدَّقَهَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الزَّوْجِيَّةُ بِتَصَادُقِهِمَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا ، وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَلَوْ ادَّعَى وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ وَلَدًا صَغِيرًا مِنْ السَّبْيِ أَنَّهُ وَلَدُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَكُونُ وَلَدُهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مُسْلِمًا وَلَا يَسْتَرِقُّ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الدَّاعِي وَلَكِنَّهُ يَسْتَرِقُّ ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ وَإِنْ صَحَّتْ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَاسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لَكِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ وَلَمْ تَسْتَنِدْ فِي حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ الْإِنْسَانُ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَعْتِقَ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ بَائِعِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْأُنْسِ وَالشَّفَقَةِ ، وَكَذَا الْقِسْمَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْغَنَائِمِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ خُصُوصًا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَيَحْصُلُ بِهَا التَّفْرِيقُ فَيُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمَا أَوْ يُكَاتِبَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، بَلْ هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ أَوْ إنْهَاؤُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْنَاسُ بِصَاحِبِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ تَفْرِيقًا وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَنْقَطِعُ بِهَا مَنْفَعَةُ الْأُنْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَفْرِيقًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَئِنْ كَانَ تَفْرِيقًا فَيَقَعُ الْإِعْتَاقُ فَوْقَ ضَرَرِ التَّفْرِيقِ فَلَا يَكُونُ ضَرَرًا مَعْنًى وَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا نَسَمَةً لِلْعِتْقِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ : أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالَةِ الْمُشْتَرِي إنْجَازُ مَا وَعَدَ فَيَخْرُجُ التَّفْرِيقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ نَفْعٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَهُوَ الْعِتْقُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا لَأَوْجَبَ فَسَادَ الْبَيْعِ فَبَقِيَ قَصْدُ الْإِعْتَاقِ وَتَنْفِيذُ هَذَا الْقَصْدِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَبَقِيَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ الْمُشْتَرِي : إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، قَالُوا : لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَيَخْرُجُ الْبَيْعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْبَيْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْبَيْعُ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَالْبَائِعُ بِالتَّفْرِيقِ آثِمٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَفِي سَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ جَائِزٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي الْكُلِّ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ لِلنَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّهْيِ ، وَالْبَيْعُ تَفْرِيقٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا ، وَالنَّهْيُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى أَصْلِهِ فَأَبُو يُوسُفَ إنَّمَا خَصَّ الْبَيْعَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ بِالْفَسَادِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِتَغْلِيظِ الْوَعِيدِ بِالتَّفْرِيقِ فِيهِمْ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا ، وَلَهُمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَنَحْوَهُ مِنْ نُصُوصِ الْبَيْعِ يَقْتَضِيَ شَرْعِيَّةَ الْبَيْعِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ أَوْ التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ فَلَا يَخْرُجُ الْبَيْعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْبَيْعِ إمَّا حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا عَلَى مَا عُرِفَ .
( وَمِنْهَا ) الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } أَمَرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ نَهْيًا عَنْ الْبَيْعِ لَكِنْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ فَكَانَ الْبَيْعُ فِي ذَاتِهِ مَشْرُوعًا جَائِزًا لَكِنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ .
( وَمِنْهَا ) بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ طَعَامٌ وَعَلَفٌ لَا يَبِيعُهُمَا إلَّا لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } وَلَوْ بَاعَ جَازَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي قَحْطٍ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ .
( وَمِنْهَا ) بَيْعُ مُتَلَقِّي السِّلَعِ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَنْ يَسْمَعَ وَاحِدٌ خَبَرَ قُدُومِ قَافِلَةٍ بِمِيرَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَلَقَّاهُمْ الرَّجُلُ وَيَشْتَرِي جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَيَدْخُلُ الْمِصْرَ فَيَبِيعُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهَذَا الشِّرَاءُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى تُبْسَطَ الْأَسْوَاقُ } ، وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي جَدْبٍ وَقَحْطٍ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُمْ لَا بَأْسَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَفْسِيرُهُ هُوَ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُمْ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سِعْرَ الْبَلَدِ وَهَذَا أَيْضًا مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ تَضَرَّرَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُمْ ، وَالشِّرَاءُ جَائِزٌ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْعَامَّةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي .
( وَمِنْهَا ) بَيْعُ الْمُسْتَامِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يُسَاوِمَ الرَّجُلَانِ فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرُ وَدَخَلَ عَلَى سَوْمِ الْأَوَّلِ فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } .
وَرُوِيَ { لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ } وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِيذَاءُ فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ ، وَهَذَا إذَا جَنَحَ الْبَائِعُ لِلْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْنَحْ لَهُ فَلَا بَأْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ ، وَلِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ أَيْضًا ، بَلْ هُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا لَهُ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ } وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا ، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرَكَنَ قَلْبُهَا إلَيْهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا لِمَا رَوَيْنَا وَإِنْ لَمْ يَرْكُنْ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
( وَمِنْهَا ) بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْهُمْ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ ، وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلَاحُ مِنْهُمْ كَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِعَانَةِ ، وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْخَشَبِ الَّذِي يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْمِزْمَارِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كُرِهَ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ .
( وَأَمَّا ) مَا يُكْرَهُ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْبُيُوعِ .
( فَمِنْهَا ) الِاحْتِكَارُ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ فِيهِ فِي بَابِ الْكَرَاهِيَةِ وَإِلْحَاقُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى .
( وَمِنْهَا ) النَّجْشُ وَهُوَ أَنْ يَمْدَحَ السِّلْعَةَ وَيَطْلُبَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ لَا يَشْتَرِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ النَّجْشِ } ؛ وَلِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِلْإِضْرَارِ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ السِّلْعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَطْلُبُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا فَنَجَشَ رَجُلٌ سِلْعَةً حَتَّى تَبْلُغَ إلَى ثَمَنِهَا فَهَذَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَإِنْ كَانَ النَّاجِشُ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْبَيْعِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبِيَاعَاتِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : الْبَيْعُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ، وَالصَّحِيحُ لَا يَخْلُو إمَّا .
أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَارٌ أَوْ لَا خِيَارَ فِيهِ أَمَّا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ فَلَهُ أَحْكَامٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا أَصْلٌ ، وَبَعْضَهَا مِنْ التَّوَابِعِ .
( أَمَّا ) الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ ، وَلِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْبَيْعِ ، وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي .
تَفْسِيرِ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى - الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَالْمَبِيعُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَالثَّمَنُ فِي الْأَصْلِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ تَغَيُّرُ هَذَا الْأَصْلِ بِعَارِضٍ بِأَنْ يَكُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مَبِيعًا كَالْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ ثَمَنًا كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إذَا كَانَ عَيْنًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا
فَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ عُيِّنَتْ حَتَّى لَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إلَيْهِ ، وَيَرُدَّ مِثْلَهُ وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ ، وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ ، وَالْقَدْرِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ الْمُشَارِ إلَيْهِ جِنْسًا ، وَنَوْعًا ، وَقَدْرًا ، وَصِفَةً ، وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا يَتَعَيَّنُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إلَيْهَا ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ هَلَكَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : إنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } سَمَّى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَبِيعُ ثَمَنًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ ، وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذْكَرَ الشِّرَاءَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ يُقَالُ : شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ } أَيْ ، وَبَاعُوهُ ، وَلِأَنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ ، وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِي اللُّغَةِ ، وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ إذْ هُوَ مَبِيعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الثَّمَنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ وَهُوَ إمَامٌ فِي اللُّغَةِ ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا وَالْآخَرَ مَبِيعًا فِي عُرْفِ
اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ صَاحِبَهُ فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ كَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً ، وَجَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً .
( فَأَمَّا ) الْحَقِيقَةُ فَمَا ذَكَرْنَا ، وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُطْلَبُ مِنْ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مِثْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فَيَلْغُو فِي حَقِّهِ ، وَيُعْتَبَرُ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي حَقِّهِ مُفِيدٌ ثُمَّ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَنَا أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِي مُقَابَلَتِهَا ، وَسَوَاءٌ دَخَلَهُ حَرْفُ الْبَاءِ فِيهِمَا أَوْ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِحَالٍ فَكَانَتْ أَثْمَانًا عَلَى كُلِّ حَالٍ .
( وَأَمَّا ) مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَالذَّرْعِيَّاتِ فَهُوَ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَلْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا عَيْنًا إلَّا الثِّيَابَ الْمَوْصُوفَةَ الْمُؤَجَّلَةَ سَلَمًا فَإِنَّهَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَبِيعَةً بِطَرِيقِ السَّلَمِ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى السَّلَمِ فِيهَا ، وَكَذَا الْمَوْصُوفُ الْمُؤَجَّلُ فِيهَا لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ
كَالْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ .
فَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَهُوَ مَبِيعٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ مُعَيَّنًا فَهُوَ مَبِيعٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا يُحَكَّمُ فِيهِ حَرْفُ الْبَاءِ فَمَا دَخَلَهُ فَهُوَ ثَمَنٌ ، وَالْآخَرُ مَبِيعٌ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعَيَّنًا ، وَالْآخَرُ مَوْصُوفًا أَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا فَإِنَّهُ يُحَكَّمُ فِيهِ حَرْفُ الْبَاءِ فَمَا صَحِبَهُ فَهُوَ الثَّمَنُ ، وَالْآخَرُ الْمَبِيعُ ( وَأَمَّا ) الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ فَإِنْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ وَكَذَا إنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ ، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً فِي الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ .
( فَمِنْهَا ) : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِي الْعَقَارِ اخْتِلَافٌ .
وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَثْمَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الصَّرْفَ ، وَالسَّلَمَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ } فَيَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ ، وَنَأْخُذُ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ ، وَمَكَانَ الدَّنَانِيرِ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِمَا ، وَافْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ } ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ ، وَلِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ نَفْسِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ قَبْضُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ قَبْضُهُ بِقَبْضِ بَدَلِهِ ، وَهُوَ قَبْضُ الْعَيْنِ فَتَصِيرُ الْعَيْنُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْقَابِضِ ، وَفِي ذِمَّةِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ مِثْلُهَا فِي الْمَالِيَّةِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا هَذَا هُوَ طَرِيقُ قَبْضِ الدُّيُونِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْمَعْنَى ، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ ، وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ الْعَيْنُ لَا الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ
عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ ، وَنَفْسُ الدَّيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِخِلَافِ السَّلَمِ ، وَالصَّرْفِ .
( أَمَّا ) الصَّرْفُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَبِيعٍ إذْ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِجَعْلِهِ مَبِيعًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ ، وَثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ هُوَ ثَمَنٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الْأَثْمَانِ ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَبِيعٌ لَا يَجُوزُ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا ( وَأَمَّا ) الْمُسْلَمُ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِالنَّصِّ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، وَرَأْسُ الْمَالِ أُلْحِقَ بِالْمَبِيعِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ شَرْعًا فَمَنْ ادَّعَى الْإِلْحَاقَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَكَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَرْضِ ، وَسَائِرِ الدُّيُونِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لَا مُبَادَلَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ فِيهِ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ ؟ ، وَلَوْ كَانَ مُبَادَلَةً لَلَزِمَ فِيهِ الْأَجَلُ ، وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ ، وَالْمَأْذُونُ ، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْمُبَادَلَةَ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا ، وَهُوَ فَضْلُ الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ دَلَّ أَنَّهُ إعَارَةٌ ، وَالْوَاجِبُ فِي الْعَارِيَّةِ رَدُّ الْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِبْدَالِ ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ مَا اسْتَقْرَضَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا عَيْنُهُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِاسْتِبْدَالِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ دَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ تَسْلِيمُ مِثْلِ مَا اسْتَقْرَضَ لَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ تَسْلِيمُ الْمِثْلِ فِيهِ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ انْتَفَعَ بِالْعَيْنِ مُدَّةً ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَغَيْرَهُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } .
وَيَجُوزُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ } ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْك هَذِهِ الْحِنْطَةَ بِدِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ إلَى شَهْرٍ أَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْك دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا إلَى شَهْرٍ بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ مَا يُقَابِلُهَا مَبِيعًا فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ .
وَلَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ بِهَذَا الدِّينَارِ وَوَصَفَ الْحِنْطَةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَرَائِطَ السَّلَمِ ، أَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك هَذَا الدِّرْهَمَ أَوْ هَذَا الدِّينَارَ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَوَصَفَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَرَائِطَ السَّلَمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ بِأَيِّ شَيْءٍ قُوبِلَتْ فَكَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مَبِيعًا فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَرَائِطَ السَّلَمِ فَلَوْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْعِ شَرَائِطَ السَّلَمِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ وَعِنْد زُفَرَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ إلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ اُخْتُصَّ بِشَرَائِطَ فَإِذَا أُتِيَ بِهَا فَقَدْ أُتِيَ بِالسَّلَمِ ، وَإِنْ لَمْ يُتَلَفَّظْ بِهِ .
وَلَوْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاسْتَقْرَضَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ تَقَابَضَا ، وَافْتَرَقَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ كُلُّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ لَا بَائِعًا ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَلَوْ تَبَايَعَا تِبْرًا بِتِبْرٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَقْرَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَتَقَابَضَا ثُمَّ افْتَرَقَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : ذَكَرَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ ، وَذَكَرَ فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ قَالَ : لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُوَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ تُحْمَلَ رِوَايَةُ كِتَابِ الصَّرْفِ عَلَى مَوْضِعٍ يَرُوجُ التِّبْرُ فِيهِ رَوَاجَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى مَوْضِعٍ لَا يَرُوجُ رَوَاجَهَا .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : بِعْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا كُرٍّ حِنْطَةً وَوَصَفَهَا أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحِنْطَةَ الْمَوْصُوفَةَ ثَمَنًا حَيْثُ أَدْخَلَ فِيهَا حَرْفَ الْبَاءِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مَبِيعًا ، فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْك كَذَا كُرٍّ حِنْطَةً ، وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ ثَمَنًا بِدَلَالَةِ حَرْفِ الْبَاءِ ، فَكَانَتْ الْحِنْطَةُ مَبِيعَةً ، فَكَانَ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ مِنْ الْأَجَلِ وَبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ، وَقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ السَّلَمِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ بِقَفِيزٍ حِنْطَةً ، وَوَصَفَهَا أَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ ، وَوَصَفَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَيْنَ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَالدَّيْنَ الْمَوْصُوفَ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا بِإِدْخَالِ حَرْفِ الْبَاءِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَكِنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِنْهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ يُشْرَطُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِيهِ عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ ، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَلَوْ قَبَضَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبْضِ الْعَيْنِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْقَفِيزِ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْك قَفِيزَيْ شَعِيرٍ ، وَوَصَفَهُمَا بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَوْصُوفَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا مَبِيعًا ، وَالْآخَرَ ثَمَنًا بِقَرِينَةِ حَرْفِ الْبَاءِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهِ سَلَمًا ؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا مَوْصُوفًا بِمَكِيلٍ مَوْصُوفٍ أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا بِمَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ ، وَوَصَفَهَا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ ، وَوَصَفَهَا أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ ، وَوَصَفَهُمَا أَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك مِنْ سُكَّرٍ ، وَوَصَفَهُ بِمِنْ سُكَّرٍ ، وَوَصْفَهُ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَقْرَضَا ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ افْتَرَقَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي صَحِبَهُ مِنْهُمَا حَرْفُ الْبَاءِ يَكُونُ ثَمَنًا ، وَالْآخَرُ مَبِيعًا فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا سَلَمًا ، وَالسَّلَمُ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إسْلَامُ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ ، وَإِسْلَامُ الْمَوْزُونِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي الْمَوْزُونِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ ، فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ الشِّرَاءُ ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرَى لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ ، وَلَا يَتَضَمَّنُ هَهُنَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى بِدَيْنِهِ ، وَهُوَ دَرَاهِمُ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَنْ اشْتَرَى بِهَا دِينَارًا أَوْ فُلُوسًا أَوْ هُوَ فُلُوسٌ فَاشْتَرَى بِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا جَازَ الشِّرَاءُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُشْتَرَى فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَوْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا فَاشْتَرَى بِهَا مَكِيلًا مَوْصُوفًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا أَوْ ثِيَابًا مَوْصُوفَةً مُؤَجَّلَةً لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَكَذَا الْفُلُوسُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً فَكَانَ الْآخَرُ مَبِيعًا بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهِ بِطَرِيقِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ كَيْ لَا يَكُونَ الِافْتِرَاقُ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِفُلُوسٍ أَوْ اشْتَرَى هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ بِدَيْنِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَكَذَا الْفُلُوسُ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ : إنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا مَبِيعًا ، وَالْآخَرَ ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ فِيهِ حَرْفَ الْبَاءِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فَلَا يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ حَرْفَ الْبَاءِ فِيهِ وَالْآخَرَ مَبِيعًا لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ ، وَإِنْ أَحْضَرَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بَائِعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ، وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاسْتِهْلَاكِهِ مِثْلُهُ .
فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاسْتِهْلَاكِهِ الْقِيمَةَ ، وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَصَارَ مُشْتَرِيًا بِدَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُشْتَرَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ ، وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ يُنْظَرُ : إنْ جَعَلَ مَا عَلَيْهِ مَبِيعًا ، وَهَذَا ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَرْفَ الْبَاءِ ؛
يَجُوزُ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ فَيَجُوزُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ جَعَلَ مَا عَلَيْهِ ثَمَنًا بِأَنْ صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ أَحْضَرَ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ؛ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ دَيْنٌ ، وَلَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ الْمُسْتَهْلَكِ عَلَى الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ ، وَقَضَى بِهِ الْحَاكِمُ جَازَ ، وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ شِرَاءً بِالدَّيْنِ ، بَلْ هُوَ نَفْسُ حَقِّهِ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ ؛ جَازَ الصُّلْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْقِيمَةِ بَاطِلٌ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - .
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِفُلُوسٍ بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ قَالَ : بِعْتُ مِنْك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ بِهَذِهِ الْفُلُوسِ جَازَ وَلَا يَتَعَيَّنُ ، وَإِنْ عُيِّنَتْ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا حَتَّى كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَهَا ، وَيَرُدَّ مِثْلَهَا ، وَلَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْوَضْعِ ثَمَنًا فَقَدْ صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ ، وَمِنْ شَأْنِ الثَّمَنِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ وَكَذَا إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِعَيْنِهِ أَوْ دِينَارًا بِعَيْنِهِ بِفُلُوسٍ بِأَعْيَانِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ أَيْضًا كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِمَا قُلْنَا ، إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ هَهُنَا شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ أَصْلًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ إلَّا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا مَضَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ صَارَ عَيْنًا بِالْقَبْضِ فَكَانَ
افْتِرَاقًا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِبَا النَّسَاءِ ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ هَهُنَا لِانْعِدَامِ الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ وَالْجِنْسِ ، وَكَذَا إذَا تَبَايَعَا فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسٍ بِعَيْنِهِ فَالْفَلْسَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ ، وَإِنْ عُيِّنَا إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ حَتَّى يَبْطُلَ بِتَرْكِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
وَلَوْ قَبَضَ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ فَافْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْآخَرِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مِنْ خَصَائِصِ الصَّرْفِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرْفٍ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ لَا لِكَوْنِهِ صَرْفًا بَلْ لِتَمَكُّنِ رِبَا النَّسَاءِ فِيهِ لِوُجُودِ أَحْدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ الْجِنْسُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَلَوْ تَبَايَعَا فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ عَلَى أَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ وَتَقَابَضَا ، وَافْتَرَقَا بَطَلَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّقَابُضِ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ أَصْلًا فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَعْمَلُ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَهُ ، وَيَنْعَدِمُ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْمَلُ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَيَنْعَدِمُ الْقَبْضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْقَبْضِ عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ ، وَهُوَ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهُوَ الصَّرْفُ ، وَمِنْهَا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ أَصْلًا كَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ مِمَّا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ مِمَّا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا ، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِالْفُلُوسِ ، وَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ مِمَّا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ كَبَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَبَيْعِ
الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ ، وَهُوَ السَّلَمُ .
وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَكَذَا إذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ أَوْ اُسْتُحِقَّ ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَتَعَيَّنُ ، وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ مَعَ دَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا أَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الْآخَرَ لَا يَجُوزُ ، فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمْ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَالصَّحِيحُ : جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفَلْسَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ مِنْ الْأَثْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُرُوضِ فَالتَّعْيِينُ فِي الْعُرُوضِ شَرْطُ الْجَوَازِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ فَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا شَرْطُ الْجَوَازِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا الْبَيْعِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْفَلْسَيْنِ يَقْبِضُهُمَا ، وَيَنْقُدُ أَحَدَهُمَا ، وَيَبْقَى الْآخَرُ عَنْ غَيْرِ ضَمَانٍ فَيَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ ، وَشَرَطَا الْخِيَارَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْعُرُوضِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخِيَارُ مَانِعًا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ كَاسِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ لَا تُنْفَقُ ، فَإِنْ كَانَتْ بِأَعْيَانِهَا جَازَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَرَضٌ ، وَالتَّعْيِينُ شَرْطُ الْجَوَازِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ .
وَمِنْهَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ عَادَةً ، وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَدْ تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ ، وَحَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَيُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا عَنْ حَضْرَتِهِمَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَبِيعُ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بِالتَّقْدِيمِ ، بَلْ يَتَقَدَّمُ حَقُّ الْبَائِعِ ، وَيَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي ، حَيْثُ يَكُونُ الثَّمَنُ بِالْقَبْضِ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهِ ، وَالْمَبِيعُ لَا ؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ هَلَكَ ، وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الْمَبِيعِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ فَإِنَّ الرَّاهِنَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِإِحْضَارِ الرَّهْنِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْمُرْتَهِنَ مُؤْنَةٌ فِي الْإِحْضَارِ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ أَوَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ هَلَكَ ، وَسَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ فِي الْإِحْضَارِ لَا يُؤْمَرُ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِحْضَارِ أَوَّلًا ، بَلْ يُؤْمَرُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوَّلًا إنْ كَانَ مُقِرًّا أَنَّ الرَّهْنَ قَائِمٌ لَيْسَ بِهَالِكٍ ،
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ هَالِكٌ ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : هُوَ قَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِالْإِحْضَارِ عَلَى مَا مَرَّ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ عَقْدُ أَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ كَأَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ عِوَضًا عَنْ الرَّهْنِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ .
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ سَلَّمَا مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةٌ لِلْمُتَعَاوِضَيْنِ عَادَةً ، وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا ، وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقٌّ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَيُسَلِّمَانِ مَعًا ، وَكَذَا لَوْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ سَلَّمَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَلِاسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ عَيْنًا إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ أَوَّلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا ، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْمَبِيعِ ، فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ كُلُّهُ وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ بَعْضُهُ ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ بَعْدَهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخَ ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنْ الْأَصْلِ ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ ، وَعَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونَ فِي يَدِهِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِأَحَدِ الضَّمَانَيْنِ ، وَهُوَ الثَّمَنُ أَلَا تَرَى : لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ
الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِضَمَانٍ آخَرَ إذْ الْمَحَلُّ الْوَاحِدُ لَا يَقْبَلُ الضَّمَانَيْنِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمَضْمُونَ بِالرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعْنَى الْمَرْهُونِ لَا عَيْنُهُ ، بَلْ عَيْنُهُ أَمَانَةٌ حَتَّى كَانَ كَفَنُهُ وَنَفَقَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَالْمَضْمُونُ بِالْإِتْلَافِ عَيْنُهُ فَإِيجَابُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى كَوْنِ الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ ، لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ فِي الْحَالَيْنِ فَيُمْنَعُ كَوْنُهُ مَضْمُونًا بِضَمَانٍ آخَرَ ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا كُلَّ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إتْلَافُهُ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ فَلَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ .
وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ ، فَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ ، وَكَذَا الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ
فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ فَيُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَقِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ ، وَاتَّبَعَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ تَعَيَّنَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَيْنًا فَصَارَ قِيمَةً ، وَتَعَيُّنُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ يُوجِبُ الْخِيَارَ ثُمَّ إنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ ، وَفَسَخَ ، وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ ، وَضَمَّنَهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الثَّمَنِ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ مَا لَمْ يُمْلَكْ لِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ .
وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَطِيبُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الرِّبَا فَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الثَّمَنِ ، طَابَ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ ، وَضَمَّنَهُ فَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّهِ لَا رِبْحُ مَا لَمْ يُمْلَكْ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ طَابَ الْفَضْلُ لَهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ ، وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا ؛ إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا اخْتَارَ الْفَسْخَ ، وَفَسَخَ الْبَيْعَ اتَّبَعَ الْبَائِعُ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَبِيعَ اتَّبَعَ الْعَاقِلَةَ بِقِيمَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ
، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتَصَّ الْقَاتِلَ بِعَبْدِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ الْقَاتِلَ بِعَبْدِهِ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ، وَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ الْقِيمَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْتَصَّ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ بِحَالٍ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنْ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ ، وَاتَّبَعَ الْقَاتِلَ بِالْقِيمَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْقَتْلِ ، بَلْ كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِلْبَائِعِ ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا ، بَلْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْعَوْدِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ فَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ لِأَحَدِهِمَا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ الِاقْتِصَاصِ لِلْبَائِعِ لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَ مَحَلًّا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْقَتْلِ فَأَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِي ، وَقْتَ الْقَتْلِ ، وَقَدْ لَزِمَ وَتَقَرَّرَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمَا عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ ، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ فَلِمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ ؛ فَلِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى
مِلْكِ الْبَائِعِ فَثَبَتَتْ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ ، هَذَا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ .
فَأَمَّا إذَا هَلَكَ كُلُّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ ، وَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَقَرَّرَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ ، فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ ، وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ ، وَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَضْلَ رِبْحُ مَا قَدْ ضُمِنَ ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، لَكِنَّ الثَّمَنَ مَنْقُودٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ فَاسْتِهْلَاكُهُ وَاسْتِهْلَاكُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْبَيْعِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَحَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ فِي ضَمَانِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ ، وَسُقُوطَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ .
فَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يُنْظَرُ إنْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ بِأَنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْهَالِكِ ، وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فِي الْكُلِّ ، وَسُقُوطَ كُلِّ الثَّمَنِ ، فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ، وَسُقُوطَ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ وَصْفٍ ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ كَالشَّجَرِ ، وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ ، وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ ، وَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ أَصْلًا ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ أَوْ الْجِنَايَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ وَالْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَعَيُّبِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَهَلَاكُ بَعْضِهِ نُقْصَانُ الْوَصْفِ ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُقَابَلُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى حَيَوَانَيْنِ سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ
إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى حَيَوَانَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَبِرَ الْوَلَدُ ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي ، وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إعَادَةٌ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَبَطَلَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَاتِلَ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَصَارَ آخِذًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي الِانْتِهَاءِ فَيُخَيَّرُ فِي الِابْتِدَاءِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْحَيَّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْقَاتِلَ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي الْمَقْتُولِ .
وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَعَوْدُهُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَبْدَ الْمُشْتَرِي قَتَلَ عَبْدَ الْبَائِعِ فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ بِالْفِدَاءِ ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ قَامَ مَقَامَ الْمَقْتُولِ فَيَحْيَا الْمَقْتُولُ مَعْنًى فَيَأْخُذُهُ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ ، فَصَارَ فِي أَخْذِ الْبَاقِي مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ آخِذًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي الْمَآلِ فَخَيَّرْنَاهُ فِي الِابْتِدَاءِ لِلْأَخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَالْفَسْخِ ، هَذَا وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَدْرِهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهُوَ قَدْرُ النُّقْصَانِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قِيمَةٍ أَوْ نُقْصَانَ وَصْفٍ ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ
أَصْلًا بِالْفِعْلِ فَتُقَابَلُ بِالثَّمَنِ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْأَخْذَ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مَاتَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ مِنْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْرِهَا سَقَطَتْ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ ، وَلَزِمَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ أَمَّا إذَا مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِأَنَّ قَبْضَ الْبَاقِي وُجِدَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ قَبْضُهُ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ مِنْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْبَاقِيَ حَقِيقَةً ، وَقَبْضُ الْمَبِيعِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ فِي الْأَصْلِ إلَّا إذَا وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ مَا يُنْقِصُهُ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا ، وَالسِّرَايَةُ لَيْسَتْ فِعْلَهُ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ صُنْعُ اللَّهِ - تَعَالَى - يَعْنِي مَصْنُوعَةً فَبَقِيَ الْمَقْبُوضُ عَلَى حُكْمِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ ، وَلِأَنَّ قَبْضَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شِبْهًا بِالْعَقْدِ ، وَإِنْشَاءُ الشِّرَاءِ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ ، وَمَاتَ ، فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَإِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي ؛ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْكُلِّ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إتْلَافِ الْبَعْضِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْكُلِّ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَبْضِ أَوْ صَارَ قَابِضًا قَدْرَ الْمُتْلَفِ بِالْإِتْلَافِ ، وَالْبَاقِي بِالتَّعْيِيبِ ، فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ وَلَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي
يُنْظَرُ إنْ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ مَاتَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا لِلْكُلِّ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ سَوَاءٌ مَنَعَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْبَائِعِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْ الْمُشْتَرِي هَدَرٌ ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا ، وَعَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالْجِنَايَةِ صَارَ قَابِضًا لِكُلِّ الْمَبِيعِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُضُ قَبْضَهُ فَبَقِيَ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَهُ لَزِمَ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ مَا اسْتَهْلَكَ ، وَسَقَطَ عَنْهُ ثَمَنُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا مَنَعَ فَقَدْ نَقَضَ قَبْضَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الْقَائِمِ ، فَصَارَ مُسْتَرِدًّا إيَّاهُ .
فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ هَلَكَ فِي ضَمَانِهِ فَيَهْلِكُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَزِمَهُ ثَمَنُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْبَاقِي بِجِنَايَتِهِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَعْيِيبِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنْ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ ، لَكِنَّ الْجِنَايَةَ فِيهِ قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَنْقُودٍ ، فَلَمَّا جَنَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ فَقَدْ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ ، فَحَصَلَتْ جِنَايَتُهُ تَعْيِيبًا لِلْمَبِيعِ ، وَحُدُوثُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ ،
وَسَقَطَتْ عَنْهُ جِنَايَةُ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهُوَ الرُّبُعُ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، وَرُبُعٌ مِنْهُ قَائِمٌ يَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ أَيْضًا ، وَالرُّبُعُ هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُهُ .
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ مَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ ، وَسَقَطَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالْقَطْعِ ، وَلَمَّا قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ فَقَدْ اسْتَرَدَّ نِصْفَ الْقَائِمِ مِنْ الْعَبْدِ ، وَهُوَ الرُّبُعُ ، فَبَقِيَ هُنَاكَ رُبُعٌ قَائِمٌ مِنْ الْعَبْدِ ، فَإِذَا سَرَتْ الْجِنَايَةُ ؛ فَقَدْ هَلَكَ ذَلِكَ الرُّبُعُ مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَتَيْنِ ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ الرُّبُعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَرْبَاعِ ، فَيُجْعَلُ كُلُّ سَهْمٍ أَرْبَعَةً ، فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً ، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الْحِسَابَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَهَلَكَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي النِّصْفُ ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِمْ ثُمُنُهُ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ ، وَهَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَهْمَانِ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ يَسْقُطُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ هَذَا الْقَدْرِ يَسْقُطُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا جَنَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ فَبَرَأَتْ الْجِرَاحَةُ أَوْ سَرَتْ .
( فَأَمَّا ) إذَا جَنَى الْبَائِعُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي فَإِنْ بَرِئَ الْعَبْدُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْجِنَايَةِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَعْيِينِهِ ، فَبَطَلَ خِيَارُهُ ، وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ
قَابِضًا لِمَا بَقِيَ ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ فَالْجَوَابُ هَهُنَا عَلَى الْقَلْبِ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةَ أَثْمَانٍ ، وَسَقَطَ عَنْهُ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ ، فَحُكْمُ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي هَهُنَا كَحُكْمِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ هُنَاكَ لِمَا ذَكَرْنَا فَافْهَمْ .
وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا ، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَجَنَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَنَى عَلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ يَلْزَمُ الْبَائِعُ مِنْ الْقِيمَةِ مَا يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ نَقْضَ الْقَبْضِ ، وَالِاسْتِرْدَادَ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْبُوضٌ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ وَجِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ جَنَى أَوَّلًا ، ثُمَّ جَنَى الْمُشْتَرِي فَمَا هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَمَا هَلَكَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ بِجِنَايَتِهِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا مَا هَلَكَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، لَا شَكَّ فِيهِ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ، وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِضَمَانِ مَا جَنَى ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ ، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ كُلَّ الْمَبِيعِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
فَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي ؛ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي ، فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا ، وَيَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ أَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهَذَا ، وَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوَاءٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالثَّمَنُ حَالٌ غَيْرُ مَنْقُودٍ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُتْلَفِ ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْإِتْلَافِ فَتَلِفَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي ضَمَانِهِ فَيَسْقُطُ قَدْرُهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَرِدًّا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا هَلَكَ الْبَاقِي مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْبَاقِي حَصَلَ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْكُلِّ فَتَلِفَ الْكُلُّ فِي ضَمَانِهِ فَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ .
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَقَالَ الْبَائِعُ : هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلِيَ عَلَيْك الثَّمَنُ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي : هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَا ثَمَنَ لَك عَلَيَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْقَبْضَ وَالثَّمَنَ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا ، وَهُوَ الزَّوَالُ ، وَالِانْتِقَالُ فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ الظَّاهِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَلَوْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ ، وَمَا شُرِعَتْ الْبَيِّنَاتُ إلَّا لِهَذَا ؛ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ إظْهَارًا ؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْقَبْضَ وَالثَّمَنَ ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ ، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَيِّنَتَيْنِ تَارِيخٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُمَا تَارِيخٌ ، وَتَارِيخُ إحْدَاهُمَا أَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ جَمِيعًا ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَبْضُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ظَاهِرًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا فَادَّعَيَا الِاسْتِهْلَاكَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا بَاطِنًا لِيُزِيلَ بِهِ ظَاهِرًا ، وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ الْبَائِعِ ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ، وَكَذَا الْمُشْتَرِي لَوْ تَرَكَ الدَّعْوَى يُتْرَكُ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا ، وَالْبَائِعُ لَوْ تَرَكَ الدَّعْوَى لَا يُتْرَكُ بَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ مَشَايِخِنَا فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
وَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَالثَّمَنُ حَالٌ غَيْرُ مَنْقُودٍ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ صَارَ مُسْتَرِدًّا ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَكِنَّ الثَّمَنَ مَنْقُودٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِهْلَاكِ مُسْتَرِدًّا ، وَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ ، فَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِهْلَاكُ
فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ نَافِقَةً ، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَقِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْفُلُوسِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُلُوسَ فِي الذِّمَّةِ ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ ، فَلَا يَكُونُ الْكَسَادُ هَلَاكًا بَلْ يَكُونُ عَيْبًا ، فَيُوجِبُ الْخِيَارَ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْفُلُوسِ ، كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ رُطَبًا فَانْقَطَعَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفُلُوسَ بِالْكَسَادِ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا ثَمَنًا ؛ لِأَنَّ ثَمَنِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهَا عَدَدًا ؛ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ ، وَلَا بَيْعَ بِلَا ثَمَنٍ ، فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً ، وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ ، وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ قِيمَتُهَا أَوْ غَلَتْ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا عَدَدًا ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْقِيمَةِ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَ أَوْ الْغَلَاءَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الثَّمَنِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ قَدْ تَرْخُصُ ، وَقَدْ تَغْلُو وَهِيَ عَلَى حَالِهَا أَثْمَانٌ ؟ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، فَاعْتَبَرَ أَبُو يُوسُفَ وَقْتَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ وُجُوبِ الثَّمَنِ ، وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ وَقْتَ الْكَسَادِ ، وَهُوَ آخِرُ يَوْمٍ تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ .
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً ، وَقَبَضَهَا فَكَسَدَتْ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ مَا قَبَضَ مِنْ الْفُلُوسِ عَدَدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَبْضِ الْقَرْضِ رَدُّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ وَبِالْكَسَادِ عَجْزٌ عَنْ رَدِّ الْمِثْلِ لِخُرُوجِهَا عَنْ رَدِّ الثَّمَنِيَّةِ ، وَصَيْرُورَتِهَا سِلْعَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَثَرَ الْكَسَادِ فِي بُطْلَانِ الثَّمَنِيَّةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّدِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَهَا بَعْدَ الْكَسَادِ جَازَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ ، وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ مَا قَبَضَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ بَاقِيَةٌ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا ، وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْفُلُوسُ مِنْ يَدِهِ ، وَأَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ عَنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ دُونَ الْفُلُوسِ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ ، وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا ، وَأَخَذَ قَدْرَ الْمُسْتَحَقِّ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَكَذَلِكَ إذَا ، وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْفُلُوسَ مِنْ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَقَدْ وُجِدَ قَبْضُ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْفُلُوسَ ، وَلَمْ يَنْقُدْ الدَّرَاهِمَ ، وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْفُلُوسُ فَالْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ نَقْدَ الْبَائِعِ ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ فَجَازَ النَّقْدُ وَالْعَقْدُ ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ بِمِثْلِهَا ، وَيَنْقُدُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ لِبَائِعِ الْفُلُوسِ .
وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُجِزْ ، وَأَخَذَ الْفُلُوسَ ، وَبَطَلَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجِزْ ، وَأَخَذَ الْفُلُوسَ فَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضٍ أَصْلًا فَبَطَلَ الْعَقْدُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْفُلُوسِ فَحُكْمُ الْبَعْضِ كَحُكْمِ الْكُلِّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَلَوْ وَجَدَ الْفُلُوسَ كَاسِدَةً لَا تَرُوجُ بَطَلَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُمَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، وَإِنْ وَجَدَهَا تَرُوجُ فِي بَعْضِ التِّجَارَةِ ، وَلَا تَرُوجُ فِي الْبَعْضِ أَوْ يَأْخُذُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ إنْ تَجَوَّزَ بِهَا الْمُشْتَرِي جَازَ ؛
لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ فِي الْمَرْدُودِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ يَبْطُلُ ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ قَلِيلًا فَاسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَبْطُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّلَمِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ صِفَة الْحُكْمِ فَلَهُ صِفَتَانِ : إحْدَاهُمَا اللُّزُومُ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْفَسْخِ ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ قَبْلَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَالثَّانِيَةُ : الْحُلُولُ ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ ، وَهُوَ إيجَابُ الْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِلْحَالِ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ وُقُوعَهُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبْضِ فَيَصِيرُ تَمْلِيكًا عِنْدَهُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلْبَيْعِ .
( فَمِنْهَا ) وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ .
أَحَدُهَا فِي بَيَانِ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ ، وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ تَسْلِيمِهِمَا ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ ، وَقْتِ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِمَا ، وَالثَّالِثُ : فِي تَفْسِيرِ التَّسْلِيمِ ، وَالْقَبْضِ ، وَالرَّابِعُ : فِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ، وَمَا لَا يَصِيرُ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ ، وَاجِبٌ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمِلْكَ مَا ثَبَتَ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ ، وَسِيلَةً إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ ، وَلَا يَتَهَيَّأُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ شَرْعًا إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِمَا ضَرُورَةً ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ ، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ فِي التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهَا أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وَإِنَّمَا قَوْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا ، وَلِهَذَا كَانَ التَّعَاطِي بَيْعًا عِنْدَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ ، وَالْوَزَّانِ ، وَالْعَدَّادِ ، وَالذِّرَاعِ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ ، وَالْمَعْدُودِ ، وَالْمَذْرُوعِ مُكَايَلَةً ، وَمُوَازَنَةً ، وَمُعَادَدَةً ، وَمُذَارَعَةً أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ أَمَّا أُجْرَةُ الْكَيَّالِ ، وَالْوَزَّانِ فَلِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَاتِ الْكَيْلِ ، وَالْوَزْنِ ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيمَا يُبَاعُ مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى الْبَائِعِ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ ، وَالْعَدَدُ فِي الْمَعْدُودِ الَّذِي بِيعَ
عَدَدًا بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَكَانَتْ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ كَالذَّرْعِ فِيمَا بِيعَ مُذَارَعَةً ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ ، وَهُوَ الْبَائِعُ ، وَكَذَا أُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا ( وَأَمَّا ) أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ : رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْهُ أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَيِّدِ ، وَالنَّقْدُ لِتَمْيِيزِ حَقِّهِ ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ ثَمَنٍ جَيِّدٍ ، فَكَانَتْ مُؤْنَةُ تَسْلِيمِهِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَعَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ ظَاهِرًا فَإِنَّمَا يَطْلُبُ بِالنَّقْدِ إذَا أَدَّى فَكَانَ النَّاقِدُ عَامِلًا لَهُ ، فَكَانَتْ أُجْرَةُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ وَقْتِ الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ عَلَى التَّوَسُّعِ ثَبَتَ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ .
وَأَمَّا عَلَى التَّضْيِيقِ فَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ ، وَجَبَ تَسْلِيمُهُمَا مَعًا إذَا طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً ، وَتَحْقِيقُ التَّسَاوِي هَهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا طَالَبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إذَا طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ التَّسَاوِي فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَأَمَّا ) تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ ، وَالْقَبْضِ فَالتَّسْلِيمُ ، وَالْقَبْضُ عِنْدَنَا هُوَ التَّخْلِيَةُ ، وَالتَّخَلِّي وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيُجْعَلُ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ ، وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ ، وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَبْضُ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالشَّجَرِ بِالتَّخْلِيَةِ .
وَأَمَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَنَاوُلُهُمَا بِالْبَرَاجِمِ ، وَفِي الثِّيَابِ بِالنَّقْلِ ، وَكَذَا فِي الطَّعَامِ إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فَإِذَا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَبِالْكَيْلِ ، وَفِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ بِالسَّيْرِ مِنْ مَكَانِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ الْأَخْذُ بِالْبَرَاجِمِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِالْبَرَاجِمِ أُقِيمَ النَّقْلُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُقِيمَ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا يُقَالُ : سَلَّمَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ أَيْ خَلَّصَ لَهُ ، وَقَالَ - اللَّهُ تَعَالَى - { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أَيْ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ جَعْلُ الْمَبِيعِ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي أَيْ : خَالِصًا لَهُ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنْ الْبَائِعِ ، وَالتَّخَلِّي قَبْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ ، فَأَمَّا الْإِقْبَاضُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ
لِلْقَابِضِ ، فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ قَبْضٌ تَامٌّ فِيهَا أَمْ لَا ؟ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَالتَّخْلِيَةُ فِيهَا قَبْضٌ تَامٌّ بِلَا خِلَافٍ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى مَذْرُوعًا مُذَارَعَةً أَوْ مَعْدُودًا مُعَادَدَةً ، وَوُجِدَتْ التَّخْلِيَةُ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الذَّرْعِ وَالْعَدِّ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَإِنْ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ فِي بَيْعِ الْمُجَازَفَةِ ، وَإِنْ بَاعَ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَخَلَّى فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، وَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُمْلَكُ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَكَذَا لَوْ اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ اتَّزَنَهُ مِنْ بَائِعِهِ ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ يَمْتَنِعَ بِهِ حَتَّى يَكِيلَهُ أَوْ يَزِنَهُ ، وَلَا يُكْتَفَى بِاكْتِيَالِ الْبَائِعِ أَوْ اتِّزَانِهِ مِنْ بَائِعِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُكَالَ } .
لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِانْعِدَامِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ بِالتَّخْلِيَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّهَا تَثْبُتُ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ انْعِدَامِ الْقَبْضِ عَلَى التَّمَامِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَصْلًا لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى يَصِيرُ سَالِمًا خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ لَهُ تَقْلِيبُهُ ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا وَقَبْضًا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ وَفِيمَا لَهُ مِثْلٌ إذَا بِيعَ مُجَازَفَةً ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ مَعَ وُجُودِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ ثَبَتَ تَعَبُّدَا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْآخَرِينَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَصْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْقَبْضِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ ، وَالْوَزْنَ فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ الَّذِي بِيعَ مُكَايَلَةً ، وَمُوَازَنَةً مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ أَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كِيلَ فَازْدَادَ لَا تَطِيبُ لَهُ الزِّيَادَةُ بَلْ تُرَدُّ ، أَوْ يُفْرَضُ لَهَا ثَمَنٌ ؟ ، وَلَوْ نَقَصَ يُطْرَحُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا يُعْرَفُ
الْقَدْرُ فِيهِمَا إلَّا بِالْكَيْلِ ، وَالْوَزْنِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْضُ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكَيْلِ ، وَالْوَزْنِ فَكَانَ الْكَيْلُ ، وَالْوَزْنُ فِيهِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ قَبْضِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الْمَذْرُوعَاتِ ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِيهَا لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ ، وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا ، وَلِهَذَا سَلِمَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي بِلَا ثَمَنٍ ، وَفِي النُّقْصَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فِيهَا قَبْضًا تَامًّا فَيُكْتَفَى بِهَا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِأَصْلِهِ ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الْقَبْضِ لَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ ، فَأَمَّا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَسْتَدْعِي قَبْضًا كَامِلًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، وَالْقَبْضُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْقَبْضُ الْكَامِلُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ إذَا بِيعَتْ عَدَدًا لَا جُزَافًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا إلَّا بَعْدَ الْعَدِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْعَدِّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْعَدَدِيَّ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّرْعِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا لَا تُشْتَرَطُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَذْرُوعِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَعْدُودِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ كَالْقَدْرِ فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ عَدَّهُ فَوَجَدَهُ زَائِدًا لَا تَطِيبُ الزِّيَادَةُ لَهُ بِلَا ثَمَنٍ بَلْ يَرُدُّهَا أَوْ يَأْخُذُهَا بِثَمَنِهَا ؟ .
وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا يَرْجِعُ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ كَمَا فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ دَلَّ أَنَّ الْقَدْرَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، وَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ فِي عَدَدِ الْمَبِيعِ ثَابِتٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَامْتِيَازِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ إلَّا بِالْعَدِّ فَأَشْبَهَ الْمَكِيلَ ، وَالْمَوْزُونَ ، وَلِهَذَا كَانَ الْعَدُّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ فِي ضَمَانِ الْعَدِّ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ وَاحِدٍ ، وَوَاحِدٍ فِي الْعَدِّ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ ، وَإِهْدَارِهِمْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ ، وَالْكِبَرِ لَكِنْ مَا ثَبَتَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ جَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِاصْطِلَاحِهِمْ ، وَلَمَّا تَبَايَعَا وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ فَقَدْ أَهْدَرَا اصْطِلَاحَ الْإِهْدَارِ وَاعْتَبَرَا الْكِبَرَ ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْبَيْعَ الصَّحِيحَ ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْكِبَرِ ، وَسُقُوطِ الْعَدِّ فَكَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الْكَبِيرِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَمَّا هَهُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدِّ إذَا
بِيعَ عَدَدًا ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْعَدُّ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ بِخِلَافِ الْمَذْرُوعِ فَإِنَّ الْقَدْرَ فِيهِ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فِيهِ قَبْضًا تَامًّا فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ ، أَوْ وَزَنَهُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْكَيْلِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكَيْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي ، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي } مَحْمُولٌ عَلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ مُكَايَلَةً لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكِيلَهُ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ حَاضِرًا عِنْدَ اكْتِيَالِ بَائِعِهِ فَلَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَدْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ رَجُلٍ مُكَايَلَةً ، وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِاقْتِضَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مَا لَمْ يَكِلْهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، وَمَرَّةً لِنَفْسِهِ بِالنَّصِّ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ السَّلَمِ قَرْضٌ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْتَقْرِضُ كُرًّا مِنْ إنْسَانٍ ، وَأَمَرَ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ الْكُرِّ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِكَيْلٍ ، وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْمُسْتَقْرِضِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْكَيْلَ ، وَالْوَزْنَ فِيمَا عُقِدَ بِشَرْطِ الْكَيْلِ ، وَالْوَزْنِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالسَّلَمُ عَقْدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ ، وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكِيلَ رَبُّ السَّلَمِ أَوَّلًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا لَهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْبَائِعِ ثُمَّ يَكِيلُ لِنَفْسِهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا قَبْضُ بَدَلِ الْقَرْضِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْكَيْلِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِانْدِفَاعِ جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَمَيُّزِ
حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ ، وَالْقَرْضُ يَقْبَلُ نَوْعَ جَهَالَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَبْضُ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ عِنْدَنَا فَالْمَقْبُولُ مِنْ بَدَلِ الْقَرْضِ كَأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعَارَ عَيْنًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَيَصِحُّ قَبْضُهُ بِدُونِ الْكَيْلِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ كَيْلٌ ، وَاحِدٌ لِلْمُشْتَرِي لَا غَيْرَ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ، وَمَا لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا .
فَنَقُولُ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ تَمْكِينٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ ، وَالْإِتْلَافُ تَصَرُّفٌ فِيهِ حَقِيقَةً ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ، أَوْ شَجَّ رَأْسَهُ ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ نَقَصَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّمْكِينِ فَوْقَ التَّخْلِيَةِ ثُمَّ بِالتَّخْلِيَةِ صَارَ قَابِضًا فَبِهَا أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْبَائِعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَلْحَقُ بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً ، وَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ ، أَوْ اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ أَيْ : أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ ، أَوْ الِاسْتِيلَادَ تَنْقِيصٌ حُكْمًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالتَّنْقِيصِ حَقِيقَةً ، وَلَوْ زَوَّجَ الْمَبِيعَ بِأَنْ كَانَ جَارِيَةً ، أَوْ عَبْدًا ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يَصِيرُ قَابِضًا .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ : أَنَّ التَّزَوُّجَ تَعْيِيبٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهَا ؟ وَإِذَا كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ عَيْبًا كَانَ التَّزَوُّجُ تَعْيِيبًا ، وَالتَّعْيِيبُ قَبْضٌ ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ ، وَلَا نُقْصَانَ الْمِلْكِ فِيهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ فَالْقِيَاسُ : أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ
حَتَّى يُرَدَّ بِهِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فَلَا يَكُونُ قَبْضًا ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي يَدِ الْبَائِعِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ، وَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إثْبَاتُ الْيَدِ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ قَابِضًا مِنْ الْمُشْتَرِي .
وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ ، أَوْ أَوْدَعَهُ ، أَوْ آجَرَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْضًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ تَصِحَّ مِنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ثَابِتَةٌ لِلْبَائِعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ لَهُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَمْ تَصِحَّ ، وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ .
وَلَوْ أَعَارَهُ ، أَوْ أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا صَارَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ ، وَالْإِيدَاعَ إيَّاهُ صَحِيحٌ فَقَدْ أَثْبَتَ يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا .
وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ إلَى حَاجَةٍ صَارَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ فِي الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِهِ ، وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ .
وَلَوْ جَنَى أَجْنَبِيٌّ عَلَى الْمَبِيعِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ كَانَ اخْتِيَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ حَتَّى لَوْ تَوَى الضَّمَانُ عَلَى الْجَانِي بِأَنْ مَاتَ مُفْلِسًا كَانَ التَّوَى عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الْبَيْعُ ، وَالتَّوَى عَلَى الْبَائِعِ ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَكَذَا لَوْ اسْتَبْدَلَ الْمُشْتَرِي الضَّمَانَ لِيَأْخُذَ مَكَانَهُ مِنْ الْجَانِي شَيْئًا آخَرَ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي الْعُقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لَا مِنْ الْبَائِعِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَكَذَا الْمَبِيعُ إذَا كَانَ مَصُوغًا مِنْ فِضَّةٍ اشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ فَاسْتَهْلَكَ الْمَصُوغَ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ ، وَنَقَدَ الدِّينَارَ الْبَائِعُ فَافْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمُ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَهَا ، وَلِهَذَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ثُمَّ الْعَيْنُ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَهَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي فَكَذَا الْقِيمَةُ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي ، وَأَمْرِهِ دَلَالَةً فَيَصِيرُ قَابِضًا كَمَا لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ تَمْلِيكٌ مِنْ
الْمَضْمُونِ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَجْنَبِيِّ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ .
وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَبِيعِ عَمَلًا فَإِنْ كَانَ عَمَلًا لَا يُنْقِصُهُ كَالْقِصَارَةِ ، وَالْغَسْلِ بِأَجْرٍ ، أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْيَدِ الثَّابِتَةِ كَمَا إذَا نَقَلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِمِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا ، وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ بِأَجْرٍ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ صَحَّتْ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْبَائِعِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَجَازَ أَنْ تُقَابِلَهُ الْأُجْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَمَلًا يُنْقِصُهُ يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ تَنْقِيصَهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَقَدْ حَصَلَ بِأَمْرِهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَسْلَمَ - فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ أَنَّهُ إنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الَّتِي يَكِيلُهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ رَبِّ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ بِكَيْلِهَا فَلَمْ يَصِرْ ، وَكِيلًا لَهُ فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَرَائِرُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، أَوْ لِرَبِّ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ عَنْ الْغَرَائِرِ قَدْ زَالَتْ فَإِذَا كَالَ فِيهَا الْحِنْطَةُ لَمْ تَصِرْ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا .
وَكَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا ، وَدَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ لِيَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ ، وَهُوَ غَائِبٌ لَا يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْكُرُّ عَلَى مِلْكِ الْمُقْرِضِ فَلَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ بِكَيْلِهِ فَلَا يَصِيرُ ، وَكِيلًا لَهُ فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمُسْتَقْرِضِ كَمَا فِي السَّلَمِ ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ كُرًّا بِعَيْنِهِ ، وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَ فِيهَا فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ ، وَقَدْ مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ عَيْنًا هُوَ مِلْكُهُ فَصَحَّ أَمْرُهُ ، وَصَارَ الْبَائِعُ ، وَكِيلًا لَهُ ، وَصَارَتْ يَدُهُ يَدَ الْمُشْتَرِي .
وَكَذَلِكَ الطَّحْنُ إذَا طَحَنَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّ السَّلَمِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا ، وَلَوْ طَحَنَهُ الْبَائِعُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ فِي الْغَرَائِرِ وَلَوْ اسْتَعَارَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ غَرَائِرَهُ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخَلِّي بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ يُسَلِّمْ الْغَرَائِرَ إلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَرَائِرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، أَوْ بِعَيْنِهَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِنَفْسِ الْكَيْلِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِأَنْ قَالَ أَعِرْنِي غِرَارَةً ، وَكِلْ فِيهَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْغَرَائِرَ عَارِيَّةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَلَمْ يَقْبِضْهَا ، وَالْعَارِيَّةُ لَا حُكْمَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ فَبَقِيَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ مَا فِيهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا إلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَرَائِرِ إلَيْهِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالَةِ التَّعْيِينِ
، وَعَدَمِ التَّعْيِينِ ، وَهُوَ أَنَّ الْغَرَائِرَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ التَّعْيِينِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مِنْ حَيْثُ إقَامَتِهَا مَقَامَ يَدِهِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَعَيَّنَةٌ فَلَا ، وَجْهَ لِلْإِعَارَةِ بِوَجْهٍ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ اشْتَرَى كُرًّا بِعَيْنِهِ ، وَلَهُ عَلَى الْبَائِعِ كُرُّ دَيْنٍ فَأَعْطَاهُ جَوْلَقًا ، وَقَالَ لَهُ : كِلْهُمَا فِيهِ فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا لَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ أَوَّلًا ، أَوْ الدَّيْنُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَوَّلًا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُمَا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَوَّلًا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِلدَّيْنِ ، وَكَانَ قَابِضًا لِلْعَيْنِ ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْكَيْلِ فِي الدَّيْنِ لَيْسَ بِقَبْضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا بَدَأَ بِكَيْلِهِ لَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ فَإِذَا كَالَهُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَخْلُوطِ ، وَنَفْسُ الْكَيْلِ فِي الْعَيْنِ قَبْضٌ فَإِذَا بَدَأَ بِكَيْلِهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ ثُمَّ إذَا كَالَ الدَّيْنَ بَعْدَهُ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ بِالْخَلْطِ فَقَامَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَائِعَ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فِي الْحَالِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي ، وَالْخَلْطُ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الدَّيْنَ بِالْخَلْطِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي غَرَائِرِهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا فِي فِرَاشٍ ، أَوْ حِنْطَةً فِي سُنْبُلٍ ، وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُ الْقُطْنِ ، أَوْ الْحِنْطَةِ مِنْ غَيْرِ فَتْقِ الْفِرَاشِ ، أَوْ دَقُّ السُّنْبُلِ صَارَ قَابِضًا لَهُ لِحُصُولِ مَعْنَى الْقَبْضِ ، وَهُوَ التَّخَلِّي ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا بِالْفَتْقِ ، وَالدَّقِّ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَتْقَ ، أَوْ الدَّقَّ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّمَكُّنُ ، وَالتَّخَلِّي فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا ، وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ عَلَى الشَّجَرَةِ ، وَسَلَّمَ كَذَلِكَ صَارَ قَابِضًا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجِذَاذُ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَحَصَلَ التَّخَلِّي بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ قَبْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْقُطْنِ فِي الْفِرَاشِ ، وَالْحِنْطَةِ فِي السُّنْبُلِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ أُجْرَةَ الْجِذَاذِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَأُجْرَةَ الْفَتْقِ ، وَالدَّقِّ عَلَى الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ إلَّا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ الْجَاذُّ عَامِلًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ بِتَسْلِيمِ الْفِرَاشِ ، وَالسُّنْبُلِ فَكَانَ الْفَتْقُ ، وَالدَّقُّ عَلَى الْبَائِعِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَلَيْهِ هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْبَيْعِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ إنْ كَانَ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يَنُوبُ مَنَابَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَحَقِّ نَابَ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَا يَنُوبُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنْهُ يُوجَدُ فِيهِ الْمُسْتَحَقُّ ، وَزِيَادَةٌ ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَنُوبُ عَنْ كُلِّهِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ إمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ فَإِنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ فَإِمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ كَيَدِ الْغَاصِبِ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ ، وَالْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانُ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ التَّجَانُسَ يَقْتَضِي التَّشَابُهَ ، وَالْمُتَشَابِهَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ ، وَيَسُدُّ مَسَدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ فِي الْحَالَيْنِ يَدُ ضَمَانٍ .
وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِغَيْرِهِ كَيَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا ، أَوْ يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ الرَّهْنِ ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ ، وَهُوَ الدَّيْنُ ، وَالْمَبِيعُ
مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَتَجَانَسْ الْقَبْضَانُ فَلَمْ يَتَشَابَهَا فَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا عَلَى مَا عُرِفَ ، وَإِذَا كَانَ أَمَانَةً فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ ، الْوَدِيعَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْوَدِيعَةِ ، وَالْعَارِيَّةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ ، أَوْ يَذْهَبُ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ بِالتَّخَلِّي ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَمَانَةِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ يَدِ الضَّمَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ ، وَالْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَالَ الْبَائِعُ : قَبَضْتَهُ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي : لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُودَ الْقَبْضِ ، وَتَقَرُّرَ الثَّمَنِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَبْضِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَكَذَا إذَا قَبَضَ بَعْضَهُ ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : قَطَعْتَ يَدَهُ فَصِرْتَ قَابِضًا ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ : أَنْتَ قَطَعْتَ يَدَهُ ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ يَدَهُ ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِتَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ ، وَانْعِدَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبُولِ عَلَى صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ فَلَا يُقْبَلُ ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَيَأْخُذُ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ أَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا ( وَأَمَّا ) تَحْلِيفُ الْمُشْتَرِي فَمُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ بِكُلِّ الثَّمَنِ ، وَهَذَا فِيمَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي ، وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا حَيْثُ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُكَالُ ، أَوْ يُوزَنُ فَذَهَبَ بَعْضُهُ فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي : أَنْتَ أَكَلْت ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ : مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْأَطْرَافُ مِنْ الْحَيَوَانِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَوْصَافِ فَلَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَهُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَيَأْخُذُ ، وَلَا إشْكَالَ هَهُنَا فِي تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ كُلَّ الثَّمَنِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ لُزُومُ كُلِّ الثَّمَنِ بِالْحَلِفِ فَكَانَ مُفِيدًا .
( وَأَمَّا ) تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَفِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ ، وَذَا حَاصِلٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ ، وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُوجِبُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَتُقَرِّرُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي نَافِيَةٌ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) ثُبُوتُ حَقِّ الْحَبْسِ لِلْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلٍ : يُسَلَّمَانِ مَعًا ، وَفِي قَوْلٍ : يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ ، وَالْمَبِيعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ عِنْدَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ كُلُّ ثَمَنٍ مَبِيعًا ، وَكُلُّ مَبِيعٍ ثَمَنًا ( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنَّ فِي تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ صِيَانَةَ الْعَقْدِ عَنْ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ، وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوْلَى صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عَنْ الِانْفِسَاخِ مَا أَمْكَنَ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ } ، وَصَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ لَا يُؤَخَّرْنَ : الْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ ، وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ لَهَا كُفْئًا ، وَالدَّيْنُ إذَا وَجَدْتَ مَا يَقْضِيهِ } ، وَتَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِظَاهِرِ النَّصِّ ، وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ عَادَةً ، وَحَقِيقَةً ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُتَعَيِّنٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَالثَّمَنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ عَلَى أَصْلِنَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ أَوَّلًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ ، وَقَوْلُهُ فِيمَا قُلْتَهُ صِيَانَةٌ لِلْعَقْدِ عَنْ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قُلْنَا هَلَاكُهُ قَبْلَ تَسْلِيمِ
الثَّمَنِ نَادِرٌ ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ .
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوْضِعَيْنِ : .
أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ عَيْنًا ، وَالْآخَرُ دَيْنًا فَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ ، أَوْ دَيْنَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ بَلْ يُسَلَّمَانِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَبْسِ تَثْبُتُ حَقًّا لِلْبَائِعِ لِطَلَبِهِ الْمُسَاوَاةَ عَادَةً لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَمَّا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ ، وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْأَجَلُ عَلَى الْعَقْدِ بِأَنْ أُخِّرَ الثَّمَنُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ هَلْ لَهُ أَجَلٌ آخَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؟ يُنْظَرُ إنْ ذَكَرَا أَجَلًا مُطْلَقًا بِأَنْ ذَكَرَا سَنَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَلَهُ أَجَلٌ آخَرُ هُوَ سَنَةٌ أُخْرَى مِنْ حِينِ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ الثَّمَنُ حَالٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَجَلٌ آخَرُ ، وَإِنْ ذَكَرَا أَجَلًا بِعَيْنِهِ بِأَنْ بَاعَهُ إلَى رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَى رَمَضَانُ صَارَ الثَّمَنُ حَالًا بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى سَنَةٍ تَعْقُبُ الْعَقْدَ بِلَا فَصْلٍ فَإِذَا مَضَتْ انْتَهَى الْأَجَلُ كَمَا لَوْ عُيِّنَ الْأَجَلُ نَصًّا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّمَنِ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ فِي الْحَالِ مَعَ تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ ، وَلَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْغَرَضُ لَهُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْأَجَلِ مِنْ ، وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هَذَا تَأْجِيلًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ دَلَالَةً بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْأَجَلَ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى تَعَيُّنِهِ
فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إذْ لَا دَلَالَةَ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهَا ، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، وَالْأَجَلُ مُطْلَقٌ فَابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الْعَقْدِ وَهُوَ وَقْتُ سُقُوطِ الْخِيَارِ لَا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ؛ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ هُوَ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ ، وَوَقْتُ وُجُوبِهِ هُوَ وَقْتُ وُجُوبِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ لَا قَبْلَهُ إذْ لَا وُجُوبَ لِلثَّمَنِ قَبْلَهُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْحَبْسِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، وَمَا لَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ ، وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ أَوْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْ كُلِّهِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَاسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ مُحَالٌ ، وَلَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ جَمِيعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ بِالثَّمَنِ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ كُلُّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَسَمَّى لِكُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَنَقَدَ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْبَائِعِ حَبْسُهُمَا حَتَّى يَقْبِضَ حَقَّ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّ الْقَبْضِ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّ الْقَبُولِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِيجَابَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فِي حَقِّ الْقَبْضِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شِبْهًا بِالْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ حَبْسُ الْكُلِّ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِمَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مِنْ اثْنَيْنِ فَنَقَدَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ مَا عَلَى الْآخَرِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ( النَّوَادِرِ ) أَنَّهُ إذَا نَقَدَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ فَإِذَا أَدَّى النِّصْفَ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ حَقِّهِ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ عَلَى أَدَاءِ صَاحِبِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ
تَوَقَّفَ ، وَصَاحِبُهُ مُخْتَارٌ فِي الْأَدَاءِ قَدْ يُؤَدِّي ، وَقَدْ لَا يُؤَدِّي فَيَفُوتُ حَقُّهُ أَصْلًا ، وَرَأْسًا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلِهَذَا جُعِلَ التَّخْلِيَةُ ، وَالتَّخَلِّي تَسْلِيمًا ، وَقَبْضًا فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَبْسِ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ اسْتِحْقَاقَ كُلِّهِ ، وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ فِي الْبَعْضِ كَمَا لَا تَحْتَمِلُهُ فِي الْقَبُولِ فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ كُلِّ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ لَا كُلُّهُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِتَسْلِيمِ كُلِّهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَاضِرُ ذَلِكَ ، وَنَقَدَ كُلَّ الثَّمَنِ ، وَقَبَضَ الْمَبِيعَ هَلْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ أَمْ لَا ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ الْغَائِبِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا نَقَدَ عَنْهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي حِصَّتِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ قَضَى دَيْنَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَمَا لَوْ قَضَاهُ بِأَمْرِهِ نَصًّا ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا غَابَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَحَقَّ قَبْضَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَبِيعِ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ كُلِّ الثَّمَنِ كَانَ إذْنًا لَهُ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا ، وَصَارَ هَذَا كَمَنْ أَعَارَ مَالَهُ إنْسَانًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَ ثُمَّ افْتَكَّهُ الْغَيْرُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا ،
وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَّقَ مَالَ الْغَيْرِ بِدَيْنِهِ ، وَلَا يَزُولُ الْعُلُوقُ إلَّا بِانْفِكَاكِهِ فَكَانَ إذْنًا لَهُ بِالْفِكَاكِ دَلَالَةً كَذَا هَذَا ، وَلَهُ حَقُّ حَبْسِ الْعَبْدِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا نَقَدَ عَنْهُ كَمَا لَوْ نَقَدَ بِأَمْرِهِ نَصًّا .
وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَقَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَبْسِ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَالرَّهْنُ بِالثَّمَنِ ، وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا يُبْطِلَانِ حَقَّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْقِطَانِ الثَّمَنَ عَنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِهِ بِالْقَبْضِ قَائِمَةً فَيَبْقَى حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَائِهِ .
( وَأَمَّا ) الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ فَهَلْ تُبْطِلُ حَقَّ الْحَبْسِ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُبْطِلُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى إنْسَانٍ ، وَقَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ ، أَوْ مِنْ الْبَائِعِ بِأَنْ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا تَبْطُلُ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَا تَبْطُلُ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَيْهِ تَبْطُلُ فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَذِمَّتُهُ بَرِئْت مِنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ ؛ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ ، وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِحَوَالَةِ الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى : أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ ؟ فَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ .
وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ فِي الشَّرْعِ يَدُورُ مَعَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا مَعَ قِيَامِ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ دَلَّ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا قِيَامُ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ ، وَحَقَّ الْمُطَالَبَةِ فِي حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا ، وَفِي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ غَرِيمًا لَهُ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ
حَوَالَةً مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ حَبْسِ الرَّهْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : لَا يَبْطُلُ فِي حَوَالَةِ الرَّاهِنِ ، وَكَذَا فِي حَوَالَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً تَبْطُلُ .
وَلَوْ أَعَارَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَوْدَعَهُ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ ، وَالْإِيدَاعِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ ، فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَعَارَ الرَّهْنَ مِنْ الرَّاهِنِ أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِعَارَةَ ، وَالْإِيدَاعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْبَائِعِ فِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ فَكَانَ أَصْلًا فِي الْيَدِ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ أَوْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ وَقَعَتْ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ ، وَهِيَ يَدُ الْمِلْكِ ، وَيَدُ الْمِلْكِ يَدٌ لَازِمَةٌ ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالِاسْتِرْدَادِ ، وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْإِنَابَةِ ، وَيَدُ النِّيَابَةِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً فَمَلَكَ الِاسْتِرْدَادَ .
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادَ ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ ، وَلَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فِيهِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْإِمْهَارِ فَسَخَهُ ، وَاسْتَرَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ ، وَالتَّدْبِيرِ ، وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ ، وَالْإِعَارَةَ إلَى الْحَبْسِ إمَّا أَنْ كَانَ مَعَ نَقْضِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَعَ قِيَامِهَا لَا
سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ كَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى الْحَبْسِ حَبْسَ الْجُزْءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا .
وَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ الْبَائِعُ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا أَوْ مُسْتَحَقًّا أَوْ وَجَدَ بَعْضَهُ كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقْبِضْ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ تَصَرُّفَهُ ، وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ إلَّا إذَا كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُفْسَخُ ، وَيُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ التَّصَرُّفَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يُفْسَخُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَدَ الثَّمَنَ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ ، وَالِاسْتِرْدَادِ ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ وَجَدَهُ زُيُوفًا فَرَدَّهَا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ الْبَائِعَ مَا رَضِيَ بِزَوَالِ حَقِّ الْحَبْسِ إلَّا بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ ، وَحَقُّهُ فِي الثَّمَنِ السَّلِيمِ لَا فِي الْمَعِيبِ فَإِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ حَقُّهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَبَضَ الرَّهْنَ ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَهِنَ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ، وَيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) : أَنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّيُوفَ جِنْسُ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ جَازَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ جِنْسَ حَقِّهِ فَتَسَلُّمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ الْحَقِّ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ مِنْ الرَّهْنِ ، وَالِافْتِكَاكَ إيفَاءٌ مِنْ مَالٍ آخَرَ فَإِذَا وُجِدَ زُيُوفًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّهْنِ ، وَالْبَيْعِ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَبِيعَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ ، وَلَوْ أَعَارَ الْمَرْهُونَ الرَّاهِنُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ مُسْتَحَقًّا ، وَأَخَذَ مِنْهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الزُّيُوفِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ أَصْلًا ، وَرَأْسًا ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ ، وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ آذِنًا لَهُ بِالْقَبْضِ ، وَلَا رَاضِيًا بِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فِيهِ فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَنَحْوِهَا أَوْ لَا يَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ ، وَنَحْوِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَنَّهُ يُفْسَخُ ، وَيُسْتَرَدُّ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ
إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ ، وَهَهُنَا وُجِدَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ ، فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي حَاصِلًا عَنْ تَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَنَفَذَ ، وَبَطَلَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا أَجَّرَ الْمَبِيعَ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ ، وَهَهُنَا لَا تُفْسَخُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعُذْرُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ ، فَجُعِلَ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ ، وَلَا فَسَادَ هَهُنَا فَلَا عُذْرَ فِي الْفَسْخِ فَلَا يُفْسَخُ .
وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْبَيْعِ كِتَابَةٌ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَوْلَى الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا أَوْ مُسْتَحَقًّا فَالْعِتْقُ مَاضٍ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا لَا يَعْتِقُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَصَارَ بِقَبْضِهَا قَابِضًا أَصْلَ حَقِّهِ ، وَكَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ الْمُسْتَحَقَّةِ ، وَقَعَ صَحِيحًا ظَاهِرًا ، وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ أَيْضًا ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهَا سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا ، وَرَأْسًا فَلَمْ يُوجَدْ أَوْ أَبْدَلَ الْكِتَابَةَ فَلَا يَعْتِقُ ، يُحَقِّقُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَةَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَقَبَضَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ زُيُوفًا أَوْ مُسْتَحَقًّا فَرَدَّ الزُّيُوفَ أَوْ أَخَذَ الْمَالِكُ الْمُسْتَحَقَّةَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ بَعْدَ مَا نَقَدَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسٍ شَتَّى هَلْ يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَكُونُ لَهُ بَلْ الْغُرَمَاءُ كُلُّهُمْ أُسْوَةٌ فِيهِ فَيُبَاعُ ، وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ حَتَّى أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ غُصِبَ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَضَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ ، وَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ .
( وَلَنَا ) : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعًا فَوَجَدَهُ ، وَقَدْ أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَالُهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ } ، وَهَذَا نَصٌّ ، وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَالَ كَوْنِ الْمُشْتَرِي حَيًّا مَلِيًّا فَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِفْلَاسِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، وَاعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُفَارَقَةً فِي الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى : أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ ، وَمِلْكَ الثَّمَنِ لَيْسَ شَرْطًا ؟ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ لَا
يَمْلِكُهَا جَازَ ، وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَاسِدًا ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَعِنْدَنَا : الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِفْلَاسَ ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَلِيءَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الِاسْتِرْدَادِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ ، وَالْمُفْلِسُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ ذِكْرُ الْإِفْلَاسِ مُقَيَّدًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ .
( وَمِنْهَا ) وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ نَوْعَانِ .
نَوْعٌ هُوَ مَنْدُوبٌ ، وَنَوْعٌ هُوَ وَاجِبٌ ( أَمَّا ) الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ : اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً ، وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يُخْرِجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ وَاجِبٌ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُهُ التَّعَرُّفُ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ كَمَا فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي .
( وَلَنَا ) أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُشْتَرِي غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءِ الْبَائِعِ ، وَالْخَلْطُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا عَلَى الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مُبَاشَرَةً شَرْطَ الِاخْتِلَاطِ فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مُسْتَحَبًّا ، وَكَذَا إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ ، أَوْ مُدَبَّرَتَهُ ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِمَا قُلْنَا ، وَإِذَا زَوَّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ ، وَلَسْتُ أُوجِبُهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ، وَيَعْلَمَ فَرَاغَ رَحِمِهَا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي ، وَكُلُّ مَنْ حَدَثَ لَهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ وُجُوبِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } ، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي السَّبْيِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَلَالَةً ، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الصِّيَانَةُ عَنْ الْخَلْطِ ، وَالْخَلْطُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } وَالصِّيَانَةُ عَنْ الْحَرَامِ تَكُونُ وَاجِبَةً ، وَلَا تَقَعُ الصِّيَانَةُ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَيَكُونُ وَاجِبًا ضَرُورَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَلَا أَنْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ ، وَالْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كَمَا فِي بَابِ الظِّهَارِ ، وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لَمْ تُحَرَّمْ الدَّوَاعِي مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ الْوَطْءُ بَلْ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى ، وَالْوَطْءُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاعِي فَلَا يَجُوزُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) سَبَبُ وُجُوبِهِ فَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا يَعْنِي بِهِ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ، وَالْيَدِ بِأَيِّ سَبَبٍ حَدَثَ الْمِلْكُ مِنْ الشِّرَاءِ ، وَالسَّبْيِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْإِرْثِ ، وَنَحْوِهَا فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحِلِّ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِوُجُودِ سَبَبِهِ سَوَاءٌ كَانَ بَائِعُهُ مِمَّنْ يَطَأُ أَوْ مِمَّنْ لَا يَطَأُ كَالْمَرْأَةِ ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا قُلْنَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَفَرَاغِهَا عَمَّا يَشْغَلُهَا ، وَرَحِمُ الْبِكْرِ بَرِيئَةٌ فَارِغَةٌ عَنْ الشَّغْلِ فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ الْبَرَاءَةِ ، وَالْفَرَاغِ .
( وَالْجَوَابُ ) : أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّغْلِ ، وَالْفَرَاغِ مُتَعَذَّرٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ حُرِّمَ عَلَيْهِ فَرْجُ أَمَتِهِ بِعَارِضِ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَالرِّدَّةِ ، وَالْكِتَابَةِ ، وَالتَّزْوِيجِ إذَا زَالَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ بِأَنْ طَهُرَتْ ، وَأَسْلَمَتْ ، وَعَجَزَتْ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ؛ لِأَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ لَمْ يَحْدُثْ بَلْ كَانَ ثَابِتًا لَكِنْ مُنِعَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ زَالَ بِزَوَالِ الْعَوَارِضِ ، وَكَذَا لَمْ يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ ، وَلَا يَجِبُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ لَا يَحِلُّ فَرْجُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِأَنْ وَطِئَهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ ، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا لَا بِشَهْوَةٍ أَوْ كَانَ هُوَ وَطِئَ أُمَّهَا ، أَوْ ابْنَتَهَا ، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ ، أَوْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوجِ الَّتِي لَا
تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِبْرَاءِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بَعْدَ حُصُولِ انْعِدَامِ مَانِعٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْمَاءَيْنِ .
وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُفِيدُ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ لِوُجُودِ مَانِعٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَالْمُكَاتَبِ ، وَالْمُدَبَّرِ ؛ لِانْعِدَامِ حُدُوثِ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ ، وَلَا يُسَرِّيهِ مَوْلَاهُ ، وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ ، وَلَا الْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ } .
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَصْلًا أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا كَانَتْ حَاضَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ ، وَيَجْتَزِئ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ مِلْكَ الْمَوْلَى فَقَدْ حَاضَتْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَجْتَزِئُ بِهَا عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ رَقَبَتَهُ ، وَكَسْبَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ .
وَلَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَإِنْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يَجِبُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ ، وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً ، وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقَالَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ ، وَالْفَسْخُ رَفْعٌ مِنْ الْأَصْلِ ، وَإِعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ مَعَ مَا أَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَتَكَامَلْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فَلَمْ يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَتَكَامَلْ السَّبَبُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ ( أَمَّا ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ اسْتِحْدَاثًا لِلْمِلْكِ مُطْلَقًا ( وَأَمَّا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَأَمَّا فِي حَقِّ ثَالِثٍ فَبَيْعٌ جَدِيدٌ ، وَالِاسْتِبْرَاءُ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ حَقُّ الشَّرْعِ ثَالِثًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ احْتِيَاطًا .
وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ، وَخِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ( وَأَمَّا ) الرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيُنْظَرُ فِيهِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَلَمْ يُوجَدْ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ ، وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ ؛ لِأَنَّهَا زَالَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَدَخَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مَحْضٌ ، وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ قِيَاسًا ، وَاسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فَاسِدًا فَفُسِخَ ، وَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ الْحِلُّ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ .
أَسَرَ الْعَدُوُّ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحِلِّ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ ، وَجَبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ ، وَلَوْ أَبَقَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ عَادَتْ إلَى صَاحِبِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ .
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مَعَ غَيْرِهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِمَا ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحِلِّ إذْ لَا تَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا .
اشْتَرَى جَارِيَةً ، وَلَهَا زَوْجٌ فَقَبَضَهَا ، وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ ، وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِقِيَامِ فِرَاشِ الزَّوْجِ ، وَبَعْدَ زَوَالِ الْفِرَاشِ لَمْ يَحْدُثْ سَبَبُ حُدُوثِ الْحِلِّ ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَمِنْ هَذَا اسْتَخْرَجُوا لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةً ، وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِطِ ثُمَّ يَبِيعُهَا ، وَيُسَلِّمُهَا إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ، وَحِيلَةٌ أُخْرَى لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ : أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ ، وَالْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا فَيَفْسُدُ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى إبْرَائِهِ عَنْهُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجِهَا عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ فَاشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ النِّكَاحِ ، وَلَوْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ كَذَا هَذَا ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ كَمَا يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي النِّكَاحِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ جَارِيَةً فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهَا عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ اسْتَبْرَأَ بِهَا الزَّوْجُ اسْتِحْسَانًا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمِلْكَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِهَا دَلِيلُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا شَرْعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعَرُّفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وَهُوَ حَسَنٌ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى حَاضَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَيْضَةً أَنَّهُ لَا يَجْتَزِئُ بِهَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ قَبَضَهَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الْيَمِينِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِانْعِدَامِ الْيَدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ ، وَالتَّأَكُّدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يَجْتَزِئُ بِهَا وَلَا اسْتِبْرَاءَ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ فَيُكْتَفَى بِهَا .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْجَارِيَةُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا بِحَيْضَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أُخْتُ الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } وَالْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ ، وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الِاسْتِبْرَاءُ ، وَهُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ لِكِبَرٍ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ وَهِيَ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا .
( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ لِكِبَرٍ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ ، وَالصَّغِيرَةِ فِي الْعِدَّةِ فَكَذَا فِي بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : " لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ حَامِلٍ " وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : " يَسْتَبْرِئُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ " وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ قَالَ : يَسْتَبْرِئُهَا بِشَهْرَيْنِ ، وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ
عِدَّةِ الْإِمَاءِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : يَسْتَبْرِئُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مُدَّةِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَسْتَبْرِئُهَا بِسَنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْجُودَ فِي الْبَطْنِ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ، فَإِذَا مَضَتْ سَنَتَانِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ عَلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ حَامِلٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ حَامِلٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ : لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَعْلَمُ فِيهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ يَظْهَرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَوْ كَانَ لِظُهُورِ آثَارِهِ مِنْ انْتِفَاخِ الْبَطْنِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَدُلُّ عَدَمُ الظُّهُورِ عَلَى بَرَاءَةِ رَحِمِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ بِهَا فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا فَوْقَ الْحَيْضَةِ ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ مَا دَامَتْ فِي نِفَاسِهَا كَمَا فِي الْحَائِضِ فَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا ، وَلَا يَجْتَزِئُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَجْتَزِئُ بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجْتَزِئُ بِهِ كَمَا يَجْتَزِئُ بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلْبَيْعِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ يَثْبُتُ فِي زَوَائِدِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الزَّوَائِدِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً أَوْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ إلَّا الْهِبَةَ
، وَالصَّدَقَةَ وَالْكَسْبَ وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ السَّابِقِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْبَيْعُ ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الزَّوَائِدِ لِكَوْنِهَا مُنْعَدِمَةً عِنْدَ الْبَيْعِ ، فَلَا يَكُونُ مَبِيعَةً ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْكَسْبُ مَبِيعًا وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ إذْ الْبَيْعُ مُقَابَلَةُ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ .
وَالزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِالْأَصْلِ ، فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً كَالْكَسْبِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْمَبِيعَ مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ يَثْبُتُ فِي الزَّوَائِدِ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْبَيْعِ هُوَ الْمِلْكُ ، وَالزَّوَائِدُ مَمْلُوكَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ أَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ وَمَتَى ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ فِي التَّبَعِ فَكَانَ مِلْكُ الزِّيَادَةِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافًا إلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً وَلَكِنْ تَبَعًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِيهَا تَبَعًا .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( مِنْهَا ) أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الزَّوَائِدِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كَمَا لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الزَّوَائِدَ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْأَرْشَ أَوْ الْعُقْرَ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْجُزْءِ وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْأُمِّ لَا مَقْصُودًا وَالْأَطْرَافُ كَالْأَوْصَافِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ مِنْ الْقَبْضِ أَوْ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا خِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَتَفَرَّقْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا تَبَعًا فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِهَلَاكِ الزِّيَادَةِ بَلْ لِحُدُوثِ نُقْصَانٍ فِي الْأُمِّ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ وَكَذَا لَا خِيَارَ بِحُدُوثِ زِيَادَةِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ لِأَجْلِ نُقْصَانِ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ لَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الزَّوَائِدَ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ عِنْدَنَا ، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ ، وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِالْأَصْلِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الثَّمَنِ بِحَالٍ ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ بِالْأَصْلِ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَلَا يَكُونُ بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ ، وَكَذَا إذَا وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا يَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ أَصْلًا وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِالْإِتْلَافِ ، وَبِالْقَبْضِ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ : لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ بِحَالٍ ، وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَنَا ، وَيَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْهَلَاكِ فَيَبْطُلُ مِلْكُ الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ وَيَبْقَى بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ إذْ لَوْ بَقِيَ لَطَلَبَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَيَطْلُبُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً ؛ لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ ، وَإِذَا بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ كَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فِيهَا وَصَارَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَعِنْدَهُ إذَا هَلَكَ الْأَصْلُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَضَمِنَهَا بِلَا خِلَافٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عِنْدَنَا إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْفَسْخَ ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْمَبِيعَ ، وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْأَصْلَ ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي .
( وَمِنْهَا ) إذَا اشْتَرَى نَخْلًا بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ فَلَمْ يَقْبِضْ النَّخْلَ حَتَّى أَثْمَرَ النَّخْلُ كُرَّا فَقَبَضَ النَّخْلَ مَعَ الْكُرِّ الْحَادِثِ لَا يَطِيبُ الْكُرُّ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ الْحَادِثَ عِنْدَنَا زِيَادَةٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ الْمَبِيعِ فَكَانَ مَبِيعًا ، وَلَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لِغَيْرِهِ مِنْ الزَّوَائِدِ ، وَالثَّمَرُ مِنْ جِنْسِهِ زِيَادَةَ عَلَيْهِ فَلَوْ قُسِمَ عَلَى النَّخْلِ وَالْكُرِّ الْحَادِثِ يَصِيرُ رِبًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعَ فِي الْكُرِّ الْحَادِثِ ، وَلَا يَفْسُدُ فِي النَّخْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ نَخْلًا وَكُرًّا مِنْ تَمْرٍ بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ فِي التَّمْرِ ، وَالنَّخْلِ جَمِيعًا لِأَنَّ هُنَاكَ الرِّبَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا ، وَصُنْعِهِمَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا ، وَهُوَ التَّمْرُ ، وَالتَّمْرُ مَقْسُومٌ عَلَيْهِمَا ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا ، وَإِدْخَالُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كُلَّهُ وَهَهُنَا الْبَيْعُ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ ، وَهُوَ النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَارَ مَبِيعًا فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا ، فَيَفْسُدُ فِي الْكُرِّ الْحَادِثِ ، وَيَقْتَصِرُ الْفَسَادُ عَلَيْهِ .
( وَمِنْهَا ) إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقُتِلَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ وَابْتَاعَ الْجَانِي فَأَخَذَ قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ رَبِحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَعِنْدَهُ : لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) إذَا غَصَبَ كُرَّ حِنْطَةٍ فَابْتَلَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَانْتَفَخَتْ حَتَّى صَارَتْ كُرًّا وَنِصْفَ كُرٍّ ضَمِنَ لِلْمَالِكِ كُرًّا مِثْلَهُ ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْكُرَّ ، وَنِصْفَ الْكُرِّ عِنْدَنَا لَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ الْكُرِّ الزَّائِدِ ، وَطَابَ لَهُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِالضَّمَانِ وَالزِّيَادَةُ بِالِانْتِفَاخِ حَصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُعْتَبَرُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يُرَدُّ الْكُلُّ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْأَصْلِ عَيْبًا ، فَالزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ بِالْعَيْبِ ، وَبِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ فِي بَيَانِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ فِي أَيِّ حَالٍ حَدَثَتْ ، وَلَا تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ بِكُلِّ الثَّمَنِ .
وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَمَرٌ وَسَمَّاهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الْبَيْعِ فَالثَّمَرُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الشَّجَرِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ عَلَى الْكُلِّ أَثْلَاثًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ مَقْصُودٌ لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْكُلِّ فَإِنْ كَانَ لِلثَّمَرِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ أَكَلَهُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ ، وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمَّا كَانَ مَبِيعًا مَقْصُودًا بِهَلَاكِهِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّمَرُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَحَدَثَ بَعْدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ فَقَدْ صَارَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِصَيْرُورَتِهِ مَبِيعًا مَقْصُورًا بِالْإِتْلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْحِصَّةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يَأْخُذُ الْحِصَّةَ مِنْ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى الشَّجَرِ ، وَالْأَرْضِ ، وَالثَّمَرِ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ ثُلُثُ الثَّمَنِ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ مِنْ الشَّجَرِ خَاصَّةً فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ ، وَالشَّجَرِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعَقْدِ ، وَعَلَى قِيمَةِ الثَّمَرِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ فَيَسْقُطُ بَيَانُهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْأَشْجَارِ أَلْفًا ، وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فَأَكَلَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ ، وَالْأَشْجَارَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً ،
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ ، وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي رُبْعُ الثَّمَنِ ، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى الْأَشْجَارِ ، وَالْأَرْضِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى الثَّمَرِ نِصْفَيْنِ ، فَكَانَ حِصَّةُ الثَّمَرِ رُبْعَ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ ، وَالشَّجَرَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا ، فَيَأْخُذُ الْحِصَّةَ مِنْهَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مَعَ وَلَدِهَا ، فَوَلَدَتْ مَعَ وَلَدِهَا وَلَدًا آخَرَ فَالْوَلَدُ الثَّانِي يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّجَرَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ فِي الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ مَا دَخَلَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ دَلَّ أَنَّهَا تَابِعَةٌ ، وَمَا كَانَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي حُكْمٍ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ ، فَكَانَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَلَدَ وَلَدُهَا وَلَدًا لَا يَكُونُ لِلْوَلَدِ الثَّانِي حِصَّةٌ مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي نَفْسِهِ تَابِعٌ فَلَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ كَذَا هَهُنَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْحَطُّ عَنْ الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ الْجَوَازِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ أَمْ لَا ، وَالثَّانِي فِي شَرَائِطِ الْجَوَازِ ، وَالثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَائِزَةٌ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَقَالَ زُفَرُ : لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَلَكِنْ تَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَإِنْ قَبَضَهَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ وَإِلَّا تَبْطُلُ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِنَا إنْ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي زِدْتُكَ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى ثَمَنًا وَقَبِلَ الْبَائِعُ ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ : زِدْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ الْآخَرَ ، أَوْ قَالَ هَذَا الثَّوْبَ مَبِيعًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الزِّيَادَةُ كَانَ الثَّمَنُ فِي الْأَصْلِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، وَالْمَبِيعُ فِي الْأَصْلِ عَبْدَانِ ، أَوْ عَبْدٌ ، وَثَوْبٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ كَانَ الثَّمَنُ فِي الْأَصْلِ أَلْفًا وَمِائَةً تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ عَلَى قِيمَتِهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِعَبْدٍ ثَمَنٌ مُسَمًّى أَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ مُسَمًّى وَزَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ مِائَةً مُطْلَقًا انْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْوَارِثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ الْقَائِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ كَانَ الْوَارِثُ حَيًّا قَائِمًا فَزَادَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَوْلِيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا : لَا تَجُوزُ وَأَمَّا عِنْدَنَا : فَإِنْ زَادَ بِأَمْرِ الْعَاقِدِ جَازَ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِي الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَفَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى إجَازَتِهِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَتْ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الزَّائِدُ الزِّيَادَةَ فَيَجُوزُ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَاقِدِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ .
وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ سِوَى الْأَلْفِ عَلَى رَجُلٍ ضَمِنَهُ وَقَبِلَ فَالْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْخَمْسُمِائَةِ عَلَى الثَّالِثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِالْخَمْسِمِائَةِ ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ بِعْ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ صَحِيحٌ ، وَالْخَمْسُمِائَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكَ خَمْسَمِائَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ .
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْكُوحَةِ بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ نَذْكُرُهُ فِي ( كِتَابِ الرَّهْنِ ) .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ حَطُّ بَعْضِ
الثَّمَنِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الِابْتِدَاءِ حَتَّى إنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ أَوْ كَوْنَهُ قَابِلًا لِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَفِي الزِّيَادَةِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مَبِيعٌ بِلَا ثَمَنٍ ، وَلَا ثَمَنٌ بِلَا مَبِيعٍ ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ مَبِيعًا وَثَمَنًا قَوْلٌ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَا ثَمَنَ وَالثَّمَنِ وَلَا مَبِيعَ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وَهُوَ الْمَبِيعُ .
فَالزِّيَادَةُ مِنْ الْبَائِعِ لَوْ صَحَّتْ مَبِيعًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَلَوْ صَحَّتْ مِنْ الْمُشْتَرِي ثَمَنًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا ؛ لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ فَيُجْعَلُ مِنْهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً ، وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ لَمَّا صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الثَّمَنِ ، وَكُلُّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَالزِّيَادَةُ لَوْ صَحَّتْ مَبِيعًا ، وَثَمَنًا لَخَلَتْ عَمَّا يُقَابِلُهُ ، فَكَانَتْ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا .
( وَلَنَا ) فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ قَوْله تَعَالَى : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً يُرَادُ
بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِيتَاءِ الْمُهُورِ الْمُسَمَّاةِ فِي النِّكَاحِ وَأَزَالَ الْجُنَاحَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ مَا يَتَرَاضَاهُ الزَّوْجَانِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِلْوَازِنِ : { زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ } وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ ، وَقَدْ نُدِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ ، وَالْفِعْلِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ الْجَوَازُ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي لُزُومَ الْوَفَاءِ بِكُلِّ شَرْطٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ عِنْدَ شَرْطِهِ .
وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا ، وَثَمَنًا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَا الزِّيَادَةَ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَمَا لَوْ تَبَايَعَا ابْتِدَاءً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ ، وَالْمَحَلُّ قَابِلًا ، وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وُجِدَ وَقَوْلُهُمَا أَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ ، وَالْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي قُلْنَا : هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا أَزَالَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ ، وَيَدَهُ عَنْهُ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ أَزَالَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ وَيَدَهُ عَنْهُ ، فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالَ الَّذِي كَانَ مِلْكَ صَاحِبِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ شَرْعًا عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ نَقُولُ : مَا ذَكَرَاهُ حَدُّ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنُ مَبِيعٌ ، وَثَمَنٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ،
وَالتَّسْمِيَةُ رِبْحٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقِيقَةُ مَا يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ ، وَالتَّسْمِيَةُ وَالزِّيَادَةُ هَهُنَا كَذَلِكَ فَكَانَتْ رِبْحًا حَقِيقَةً فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُقَابَلَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا تَسْمِيَةً ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ كَيْفَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ ، وَالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَيْعِ هُوَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ .
وَهُوَ مَالِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بِطَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ عُرْفًا ، وَحَقِيقَةً ، وَالْمُقَابَلَةُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَنَا ، وَالثَّمَنُ تَقْدِيرٌ لِمَالِيَّةِ الْمَبِيعِ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ ، وَإِذَا زَادَ فِي الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَخْطَأَ فِي التَّقْدِيرِ ، وَغَلِطَ فِيهِ ، وَمَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ ، فَإِذَا بَيَّنَّا التَّقْدِيرَ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَكَانَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ لَا عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ أَغْلَبُ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى مَا عَرَفْتَ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى حَالِهِ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ مَعَ تَغْيِيرِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْأَلْفُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِيَخْلُوَ النِّصْفُ عَنْ الثَّمَنِ ، فَتَجْعَلُ الْأَلْفُ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ النِّصْفِ الْخَالِي .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا ، وَلَكِنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَلَا تَرَى : أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الْفَسْخِ وَأَنَّهُ فَوْقَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْأَصْلَ ، وَالْوَصْفَ ، وَالتَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ مَعَ بَقَاءِ
أَصْلِ الْعَقْدِ فَلَمَّا ثَبَتَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْفَسْخِ فَوِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَوْلَى ، وَلَهُمَا حَاجَةٌ إلَى التَّغْيِيرِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ ، أَوْ لِمَقْصُودٍ آخَرَ فَمَتَى اتَّفَقَا عَلَى الزِّيَادَةِ ، وَقَصَدَا الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ يُثْبِتُ هَذَا الشَّرْطُ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ .
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَمِنْهَا الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ حَتَّى لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا ، وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ .
( وَمِنْهَا ) الْمَجْلِسُ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ إيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ ، وَالْمَبِيعِ وَأَمَّا الْحَطُّ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمَجْلِسُ ، وَلَا الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِهِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ وَأَمَّا كَوْنُ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا وَمَبِيعًا ؟ وَكَذَا كَوْنُ الْحَطِّ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ حَطًّا ؟ ، وَهَلْ يُؤَثِّرَانِ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيُؤَثِّرَانِ فِيهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرْطٌ فَيُبْطِلَانِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْعَقْدِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فِي الزِّيَادَةِ لَا فِي الْحَطِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ ، وَالثَّمَنِ أَوْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ .