كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
أَقَامَ وَهُوَ مُحْدِثٌ ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَسَوَّى بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَقَالَ : وَيَجُوزُ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ إقَامَةَ الْمُحْدِثِ .
( وَالْفَرْقُ ) أَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، فَكَانَ الْفَصْلُ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ الْأَذَانِ ، وَلَا تُعَادُ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْأَذَانِ .
وَأَمَّا الْأَذَانُ مَعَ الْجَنَابَةِ فَيُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُعَادَ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ - وَهُوَ الْإِعْلَامُ - ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْجَنَابَةِ ظَهَرَ فِي الْفَمِ فَيَمْنَعُ مِنْ الذِّكْرِ الْمُعَظَّمِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ ، وَكَذَا الْإِقَامَةُ مَعَ الْجَنَابَةِ تُكْرَهُ لَكِنَّهَا لَا تُعَادُ لِمَا مَرَّ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا إذَا أَذَّنَ لِلْجَمَاعَةِ ، وَيُكْرَهُ قَاعِدًا ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَذَّنَ قَائِمًا حَيْثُ وَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ فِعْلًا ، فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَإِجْمَاعَ الْخَلْقِ ؛ وَلِأَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ بِالْقِيَامِ وَيُجْزِئُهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ ، وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُرَاعَاةُ سُنَّةِ الصَّلَاةِ لَا الْإِعْلَامُ ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُبَّمَا أَذَّنَ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَذَانَ أَصْلًا فِي السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ رَاكِبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا فِي
الْحَضَرِ فَيُكْرَهُ الْأَذَانُ رَاكِبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ثَمَّ الْمُؤَذِّنُ يَخْتِمُ الْإِقَامَةَ عَلَى مَكَانِهِ ، أَوْ يُتِمُّهَا مَاشِيًا ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يَخْتِمُهَا عَلَى مَكَانِهِ سَوَاءً كَانَ الْمُؤَذِّنُ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُتِمُّهَا مَاشِيًا ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَوْلَهُ : ( قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَشَى ، وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ ، إمَامًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَهُ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ ( وَمِنْهَا ) - أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدَيْنِ ، وَيُصَلِّيَ فِي أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي ، وَالتَّنَفُّلُ بِالْأَذَانِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ يَخْتَصُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي يُصَلِّي النَّافِلَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ لَا يُسَاعِدهُمْ فِيهَا .
( وَمِنْهَا ) - أَنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ ، وَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ : فَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ اكْتِسَابَ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِهِ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ تَأَذَّى بِهِ أَوْ لَمْ يَتَأَذَّ ( احْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَخِي صُدَاءَ أَنَّهُ قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا إلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّ أَخَا صُدَاءَ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ } .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ { لَمَّا قَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَهُ : لَقِّنْهَا بِلَالًا ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ فَأَقَامَ } .
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ وَبِلَالٌ يُقِيمُ ، وَرُبَّمَا أَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ ، وَكَانَ يُحِبُّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ ( وَمِنْهَا ) - أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا ، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ أَجْرًا ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الطَّاعَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ ، وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا ، وَإِنْ عَلِمَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُجَازَاةِ عَلَى إحْسَانِهِ بِمَكَانِهِمْ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ فَالْمَحَلُّ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَذَانُ وَيُؤَذَّنُ لَهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ ، فَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْقِيَامُ ، إذْ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا رُكُوعَ وَلَا سُجُودَ وَلَا قُعُودَ ، فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي النَّوَافِلِ ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ النَّوَافِلِ ؛ وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ فَجُعِلَ أَذَانُ الْأَصْلِ أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا ، وَلَا أَذَانَ ، وَلَا إقَامَةَ فِي السُّنَنِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا أَذَانَ ، وَلَا إقَامَةَ فِي الْوِتْرِ ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا فَكَانَ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ ، فَكَانَ تَبَعًا لَهَا فِي الْأَذَانِ كَسَائِرِ السُّنَنِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ ، وَالْوَاجِبُ غَيْرُ الْمَكْتُوبَةِ وَالْأَذَانُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ } ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ الْجَمَاعَةُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِنَّ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ ، وَالْجُمُعَةُ فِيهَا أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ ؛ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَالْجُمُعَةُ قَائِمَةٌ مُقَامَهُ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ : الْفَرْضُ هُوَ الْجُمُعَةُ ابْتِدَاءً وَهِيَ آكَدُ مِنْ الظُّهْرِ ، حَتَّى وَجَبَ تَرْكُ الظُّهْرِ
لِأَجْلِهَا ، ثُمَّ إنَّهُمَا وَجَبَا لِإِقَامَةِ الظُّهْرِ ، فَالْجُمُعَةُ أَحَقُّ ، ثُمَّ الْأَذَانُ الْمُعْتَبَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى بِهِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ ، وَتَجِبُ الْإِجَابَةُ وَالِاسْتِمَاعُ لَهُ دُونَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْمَنَارَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ : الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ يَقَعُ بِهِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَذَانًا وَاحِدًا حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَذَانِ الثَّانِي عَلَى الزَّوْرَاءِ ، } وَهِيَ الْمَنَارَةُ ، وَقِيلَ : اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ تُؤَدَّى مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ ، وَلَا يُرَاعَى لِلْعَصْرِ أَذَانٌ عَلَى حِدَةٍ ، لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ أَذَانُ الظُّهْرِ وَإِقَامَتُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بِإِقَامَتَيْنِ ، وَفِي الثَّانِي يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ ، ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ
عَنْ تَحَقُّقِ الْجَمَاعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ ، فَيُنْدَبُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَوَاتِ الْجَهْرِ ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَقَالَ : يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ ، .
أَشَارَ إلَى أَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ وَإِقَامَتَهُمْ وَقَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَيِّ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْضُرَ مَسْجِدَ الْحَيِّ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ فِي مَنْزِلٍ أَوْ فِي مَسْجِدِ مَنْزِلٍ ، فَأُخْبِرُوا بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ - أَجْزَأَهُمْ .
وَقَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمَا ، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ يَكُونُ أَذَانًا لِلْأَفْرَادِ وَلَا يَكُونُ أَذَانًا لِلْجَمَاعَةِ ، هَذَا فِي الْمُقِيمِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا ، وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ ، وَالسَّفَرُ لَمْ يُسْقِطْ الْجَمَاعَةَ فَلَا يُسْقِطْ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا ، فَإِنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ وَأَقَامُوا وَتَرَكُوا الْأَذَانَ - أَجْزَأَهُمْ وَلَا يُكْرَهُ ، وَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا تَرَكُوا الْأَذَانَ وَأَقَامُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ .
وَقَدْ أَثَّرَ فِي سُقُوطِ شَطْرٍ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ أَحْدِ الْأَذَانَيْنِ ، إلَّا أَنَّ الْإِقَامَةَ آكَدُ ثُبُوتًا فَيَسْقُطُ شَطْرُ الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُسَافِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذَّنَ ، وَأَقَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَلَمْ يُؤَذِّنْ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ
أَهْلِ الْمِصْرِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِهُجُومِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَحْضُرُوا ، وَالْقَوْمُ فِي السَّفْرِ حَاضِرُونَ فَلَمْ يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ ، بِخِلَافِ الْحَضَرِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِرَفِ وَالْمَكَاسِبِ لَا يَعْرِفُونَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ ، فَيُكْرَهُ تَرْكُ الْإِعْلَامِ - فِي حَقِّهِمْ - بِالْأَذَانِ ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، وَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ فَإِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ ، وَالْمُقِيمُ إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ فَتَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَا يُكْرَهُ ( وَالْفَرْقُ ) أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَقَعُ أَذَانًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، فَكَأَنَّهُ وُجِدَ الْأَذَانُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ تَقْدِيرًا ، فَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْمُسَافِرِ مِنْ غَيْرِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ الْأَذَانُ فِي حَقِّهِ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِقَامَةِ ، وَلَوْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ هَلْ يُكْرَهْ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامُ فِيهِ ثَانِيًا ؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ كَانَ مَسْجِدًا لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ : فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ : فَإِنْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ بِأَنْ كَانَ عَلَى شَوَارِعِ الطَّرِيقِ - لَا يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَكْرَارَ الْجَمَاعَةِ
فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ هَلْ يُكْرَهُ ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً ، أَوْ أَرْبَعَةً فَقَامُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ لَا يُكْرَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا يُكْرَهُ .
( احْتَجَّ ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ دَخَلَ رَجُلٌ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَامَ وَصَلَّى مَعَهُ ، } وَهَذَا أَمْرٌ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ ، وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَ بِالْمَكْرُوهِ ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّ الْجَمَاعَةِ ، حَتَّى أَنَّ النَّاسَ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فِي الْبُيُوتِ وَعَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ أَثِمُوا وَخُوصِمُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتَرْكِهِمْ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ صَلَّوْا فُرَادَى فِي الْمَسَاجِدِ أَثِمُوا بِتَرْكِهِمْ الْجَمَاعَةَ ، وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ مَا قَضَوْا حَقَّ الْمَسْجِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ ، وَلَا يُكْرَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي مَسَاجِدِ قَوَارِعِ الطُّرُقِ ، كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ لِتَشَاجُرٍ بَيْنَهُمْ فَرَجَعَ وَقَدْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِ بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَمَعَ
أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً ، وَلَوْ لَمْ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِد .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى ؛ وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمْ الْجَمَاعَةُ فَيَسْتَعْجِلُونَ فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ فَتَقِلُّ الْجَمَاعَةُ ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا أَهْلٌ مَعْرُوفُونَ ، فَأَدَاءُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ أَذَانَ الْمُؤَذِّن الْمَعْرُوفِ فَيَحْضُرُونَ حِينَئِذٍ ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَسْجِدِ لَمْ يُقْضَ بَعْدُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّهِ عَلَى أَهْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرَمَّةَ وَنَصْبَ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ ؟ وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَظِرُوا حُضُورَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ وَاحِدًا وَذَا لَا يُكْرَهُ ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ مُرَاعَاةِ
الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنْ فَاتَهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَاهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، وَكَذَا إذَا فَاتَتْ الْجَمَاعَةَ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَوْهَا بِالْجَمَاعَةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ : يُصَلِّي بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، وَفِي قَوْلٍ : يُصَلِّي بِالْإِقَامَةِ لَا غَيْرُ .
( احْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَضَاهُنَّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ .
وَرُوِيَ فِي قِصَّةِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ وَصَلُّوا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَا حَاجَةَ هَهُنَا إلَى الْإِعْلَامِ بِهِ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَقَالَ : { كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ ، أَوْ سَرِيَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسْنَا فَمَا اسْتَيْقَظْنَا حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَثِبُ دَهْشًا وَفَزَعًا ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ارْتَحِلُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي فَإِنَّهُ وَادِي شَيْطَانٍ ، فَارْتَحَلْنَا وَنَزَلْنَا بِوَادٍ آخَرَ ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَقَضَى الْقَوْمُ حَوَائِجَهُمْ أَمَرَ بِلَالًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ } ، وَهَكَذَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمْ
الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ قَضَاهُنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، حَتَّى قَالُوا : أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ .
وَقَدْ فَاتَتْهُمْ الصَّلَاةُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَتُقْضَى كَذَلِكَ ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحَدِيثِ التَّعْرِيسِ وَالْأَحْزَابِ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ أَذَّنَ هُنَاكَ وَأَقَامَ عَلَى مَا رَوَيْنَا .
وَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فَإِنْ أَذَّنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَأَقَامَ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْبَوَاقِي فَهُوَ جَائِزٌ .
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ، ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى ، خُصُوصًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ ، وَأَدَاءُ الظُّهْرِ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ فِي الْمِصْرِ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَوَقْتُهُمَا مَا هُوَ وَقْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، حَتَّى لَوْ أَذَّنَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِئُهُ وَيُعِيدُهُ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَخِيرًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذَّنَ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
( وَاحْتَجَّا ) بِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ السَّحُورِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ } ؛ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ ، وَفِي مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْحَرَجِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رَوَى شَدَّادُ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ { لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا } ، وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَالْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَذِبٌ ، وَكَذَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالنَّاسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتَ نَوْمِهِمْ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ تَهَجَّدَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ ، فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ .
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ إذَا سَمِعَ مَنْ يُؤَذِّن قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ : عُلُوجٌ فِرَاغٌ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْوَقْتِ ، لَوْ أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ ، وَبِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ لِمَعَانٍ أُخَرَ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ السَّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ وَيَرُدَّ قَائِمَكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صَائِمُكُمْ ، فَعَلَيْكُمْ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ } .
وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةٌ يَتَهَجَّدُونَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ ، وَفِرْقَةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ ، وَكَانَ الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كَانَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُعِيدُهُ ثَانِيًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْفَجْرَ الصَّادِقَ الْمُسْتَطِيرَ فِي الْأُفُقِ مُسْتَبِينٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِجَابَةُ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ : مَنْ بَالَ قَائِمًا ، وَمَنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَلَمْ يُجِبْ ، وَمَنْ سَمِعَ ذِكْرِي وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ } ، وَالْإِجَابَةُ : أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ إلَّا فِي قَوْلِهِ : " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " فَإِنَّهُ يَقُولُ مَكَانَهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ ذَلِكَ تُشْبِهُ الْمُحَاكَاةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " لَا يُعِيدُهُ السَّامِعُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ يَقُولُ : صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ ، أَوْ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ السَّامِعُ فِي حَالِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ سِوَى الْإِجَابَةِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ وَيَشْتَغِلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِجَابَةِ ، كَذَا قَالُوا فِي الْفَتَاوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَالثَّانِي ) : الْجَمَاعَةُ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْجَمَاعَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا :
إنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ ، ( وَاحْتَجَّ ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ، وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } ، جَعَلَ الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْعَامَّةِ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ ، أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } ، أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الرُّكُوعِ ، فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ .
( وَأَمَّا ) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ } ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ .
( وَأَمَّا ) تَوَارُثُ الْأُمَّةِ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاظَبَتْ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهَا ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ ، وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ ، خُصُوصًا مَا كَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ فَقَالَ : الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عَنْهَا إلَّا لِعُذْرٍ ؟ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ : فَالْجَمَاعَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ ، الْعَاقِلِينَ ، الْأَحْرَارِ ، الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ ، وَالْمَجَانِين ، وَالْعَبِيدِ ، وَالْمُقْعَدِ ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ ، وَالْمَرِيضِ ( أَمَّا ) النِّسَاءُ فَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِتْنَةٌ .
( وَأَمَّا ) الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ مَوَالِيهِمْ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ الْمُسْتَحَقَّةِ وَأَمَّا الْمُقْعَدُ وَمَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ .
( وَأَمَّا ) الْأَعْمَى فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعَ حُجَجِهَا تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَأَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَاحِدٌ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ } ؛ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلًا ، أَوْ امْرَأَةً ، أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً ، وَلِحُصُولِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ بِانْضِمَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِمَامِ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِالْعَدَمِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ ، لَكِنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ يَرْجُو إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِيهِ - فَحَسَنٌ ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَحَسَنٌ ، لِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ : كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْجَمَاعَةَ ، أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ وَلِأَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ مُرَاعَاةَ حُرْمَةٍ وَتَرْكَ أُخْرَى ، فَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَسْجِدِهِ وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُرَاعَاةُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ حَقِّ مَسْجِدِهِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَالَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ جَمَعَ بِأَهْلِهِ فِي مَنْزِلِهِ ، وَإِنْ صَلَّى وَحْدَهُ جَازَ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى صُلْحٍ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ، فَانْصَرَفَ مِنْهُ وَقَدْ فَرَغَ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَمَالَ إلَى بَيْتِهِ وَجَمَعَ بِأَهْلِهِ فِي مَنْزِلِهِ } ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الطَّلَبِ ، إذْ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْجَمَاعَةَ ، وَإِنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ صَلَّى فِيهِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ كُلُّ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ ، حَتَّى تَجُوزَ إمَامَةُ الْعَبْدِ ، وَالْأَعْرَابِيِّ ، وَالْأَعْمَى ، وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ ، وَالْفَاسِقُ خَائِنٌ ، وَلِهَذَا لَا شَهَادَةَ لَهُ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } ، وَالْحَدِيثُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ وَرَدَ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْأُمَرَاءِ - وَأَكْثَرُهُمْ فُسَّاقٌ - لَكِنَّهُ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، إذْ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَالتَّابِعُونَ اقْتَدَوْا بِالْحَجَّاجِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَفْسَقَ أَهْلِ زَمَانِهِ ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : لَوْ جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا وَجِئْنَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ لَغَلَبْنَاهُمْ ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ كُنْيَةُ الْحَجَّاجِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : عَرَّسْتُ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ فِي بَيْتِ غَيْرِكَ ؟ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَأَنَا يَوْمئِذٍ عَبْدٌ .
وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى
الصَّلَاةِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَكَانَ أَعْمَى ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ، إلَّا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ غَيْرَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ غَيْرُهُ ، وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي عَصْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ هَؤُلَاءِ فَتُؤَدِّي إمَامَتُهُمْ إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا الْجَهْلُ .
أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ لِيَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا سَاوَى الْعَبْدُ غَيْرَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً ، وَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ أَحَبَّ إلَيَّ ، ( وَاحْتَجَّ ) بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَانْتِقَاصُ فَضِيلَتِهِ عَنْ فَضِيلَةِ الْأَحْرَارِ يُوجِبَانِ الْكَرَاهَةَ .
وَكَذَا الْغَالِبُ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْجَهْلُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } ، وَالْأَعْرَابِيُّ هُوَ الْبَدَوِيُّ ، وَإِنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ ، وَالْعَرَبِيُّ اسْمُ مَدْحٍ .
وَكَذَا وَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْجَهْلُ لِفَقْدِهِ مَنْ يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ مَعَالِمَ الشَّرِيعَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَتَحَمَّلهَا الْفَاسِقُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَعْمَى يُوَجِّهُهُ غَيْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَيَصِيرَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ ، وَرُبَّمَا يَمِيلُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِبْلَةِ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْإِمَامَةِ بَعْد مَا كُفَّ بَصَرُهُ وَيَقُولُ : كَيْفَ أَؤُمُّكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْدِلُونَنِي ؟ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ التَّوَقِّي عَنْ النَّجَاسَاتِ فَكَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى ، إلَّا إذَا كَانَ فِي الْفَضْلِ لَا يُوَازِيهِ فِي مَسْجِدِهِ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَوْلَى ، وَلِهَذَا اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِمَامَةُ صَاحِبِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَكْرُوهَةٌ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي فَقَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ صَاحِبَ هَوًى وَبِدْعَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ ، وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ لَا تَجُوزُ ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُكَفِّرُهُ تَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، حَتَّى لَوْ أَمَّتْ النِّسَاءَ جَازَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ وَسَطَهُنَّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَمَّتْ نِسْوَةً فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَأَمَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ نِسَاءً وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَهَذَا أَسْتَرُ لَهَا ، إلَّا أَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ ، وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ لَكِنَّ تِلْكَ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَا يُبَاحُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى الشَّوَابَّ عَنْ الْخُرُوجِ ؛ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ ، وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ ، وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ .
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى
الْجَمَاعَاتِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ يَصْلُحُ إمَامًا فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَؤُمَّ الصِّبْيَانَ فِي التَّرَاوِيحِ ، وَفِي إمَامَتِهِ الْبَالِغِينَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا مَرَّ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَكُلُّ مَنْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ فِي صَلَاةٍ يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ فِيهَا ، وَمَنْ لَا فَلَا ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ شَرَائِط صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بِهَا فَالْحُرُّ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ الْعَبْدِ ، وَالتَّقِيُّ أَوْلَى مِنْ الْفَاسِقِ ، وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْ الْأَعْمَى ، وَوَلَدُ الرِّشْدَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الزِّنَا ، وَغَيْرُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى مِنْ الْأَعْرَابِيِّ لِمَا قُلْنَا ، ثُمَّ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي إنْسَانٍ كَانَ هُوَ أَوْلَى ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ ، وَالْمُسْتَجْمَعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ أَكْمَلِ النَّاسِ ، أَمَّا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا كِبَرُ السِّنِّ فَلِأَنَّ مَنْ امْتَدَّ عُمُرُهُ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَكْثَرَ طَاعَةً وَمُدَاوَمَةً عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقَتْ فِي أَشْخَاصٍ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ فَقَالَ : وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا } ، ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَجْرَى الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِهِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَهُوَ
أَوْلَى ، كَذَا ذُكِرَ فِي آثَارِ أَبِي حَنِيفَةَ لِافْتِقَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقِرَاءَة إلَى الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَدَارُكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْعَوَارِضِ ، وَافْتِقَارِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا إلَى الْعِلْمِ بِالْخَطَأِ الْمُفْسِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَعْلَمُ أَفْضَلَ حَتَّى قَالُوا : إنَّ الْأَعْلَمَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْفَوَاحِشَ الظَّاهِرَةَ وَالْأَقْرَأُ أَوَرَعُ مِنْهُ - فَالْأَعْلَمُ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْأَقْرَأَ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَأَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ أَعْلَمَ لِتَلَقِّيهِمْ الْقُرْآنَ بِمَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَاهِرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا حَظَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ ، فَكَانَ الْأَعْلَمُ أَوْلَى ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ فَأَوْرَعُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّةَ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ إلَى الْوَرَعِ أَشَدُّ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ } ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَقْدَمَهُمْ هِجْرَةً فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً يَوْمئِذٍ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } ، فَيُقَدَّمُ الْأَوْرَعُ لِتَحْصُلَ بِهِ الْهِجْرَةُ عَنْ الْمَعَاصِي ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْوَرَعِ فَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَأَكْبَرَهُمْ سِنًّا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْكُبْرَ الْكُبْرَ } فَإِنْ ، كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ ، وَمَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ أَكْثَرُ ،
وَبَعْضُهُمْ قَالُوا : مَعْنَى قَوْلِهِ - فِي الْحَدِيثِ - أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا أَيْ أَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِالْأُمُورِ ، يُقَالُ : وَجْهُ هَذَا الْأَمْرِ كَذَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَيْ : أَكْثَرُهُمْ صَلَاةً بِاللَّيْلِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ كَثُرَ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ } ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مُمْكِنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ دَوَاعِي الِاقْتِدَاءِ ، فَكَانَتْ إمَامَتُهُ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى .
وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَةِ أَخِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِعَوْرَاتِ بَيْتِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي بَيْتِهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءً بِهِ بَيْنَ عَشَائِرِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَذَا لَا يَلِيقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كَانَتْ لِحَقِّهِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الضَّيْفَ إذَا كَانَ ذَا سُلْطَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّ بِدُونِ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِمِثْلِ هَذَا الضَّيْفِ ثَابِتٌ دَلَالَةً ، وَإِنَّهُ كَالْإِذْنِ نَصًّا وَأَمَّا إذَا كَانَ الضَّيْفُ سُلْطَانًا فَحَقُّ الْإِمَامَةِ لَهُ حَيْثُمَا يَكُونُ ، وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَنَقُولُ : إذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ يَتَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَلِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ جَدَّتِي مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى طَعَامٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُومُوا لِأُصَلِّيَ بِكُمْ ، فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِهِ ، وَأُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ مِنْ وَرَائِنَا } ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَى الدَّاخِلِ لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ .
وَلَوْ قَامَ فِي وَسَطِهِمْ أَوْ فِي مَيْمَنَةِ الصَّفِّ أَوْ فِي مَيْسَرَتِهِ جَازَ وَقَدْ أَسَاءَ ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْكَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ .
وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَتَرْكُهُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ، وَجَعْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ الدَّاخِلُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ ، وَفِيهِ تَعْرِيضُ اقْتِدَائِهِ لِلْفَسَادِ ، وَلِذَلِكَ إذَا كَانَ سِوَاهُ اثْنَانِ يَتَقَدَّمُهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَسَّطُهُمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَقَامَ وَسَطَهُمَا ، وَقَالَ هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمَ وَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ } ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ : صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تُرْوَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ضِيقِ الْمَكَانِ ، كَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ ، وَهُوَ كَانَ
أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَحْوَالِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَذْهَبِهِ .
وَلَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَهِيَ أَيْضًا مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ : هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَكَانِ ، عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ إنْ تَعَارَضَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمَعْقُولِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ حَالُهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا لَوْ قَامَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمَا لَا يُكْرَهُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ وَكَوْنِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ .
وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ يَقِفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ { بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَبَهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْآيَاتِ ، ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فِي الْهَوَاءِ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ ، فَتَوَضَّأْتُ وَوَقَفْتُ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي - وَفِي رِوَايَةٍ بِذُؤَابَتِي - وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، فَعُدْتُ إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : مَا مَنَعَكَ يَا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْقَفْتُكَ فِيهِ ؟ فَقُلْتُ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ فِي الْمَوْقِفِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ، فَإِعَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَا رُوِيَ { عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَوَّلَهُ وَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ } ، ثُمَّ إذَا وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِمَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ .
وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي أَطْوَلَ مِنْ الْإِمَامِ وَكَانَ سُجُودُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ لَا لِمَوْضِعِ السُّجُودِ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي الصَّفِّ وَوَقَعَ سُجُودُهُ أَمَامَ الْإِمَامِ لِطُولِهِ وَلَوْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَفَا فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُمَا بِهِ ؟ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَقَامَ الْمُخْتَارَ لَهُ ، وَلِهَذَا حَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَقَفَ خَلْفَهُ جَازَ لِمَا مَرَّ ، وَهَلْ يُكْرَهُ ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ الْكَرَاهَةَ نَصًّا ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ خَلْفَهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ عَلَى يَمِينِهِ فَلَا يَتِمُّ إعْرَاضُهُ عَنْ السُّنَّةِ ، بِخِلَافِ الْوَاقِفِ عَلَى يَسَارِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا صَلَاةَ لِمُنْبَذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ } ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ هُوَ الْكَرَاهَةُ ، وَإِنَّمَا نَشَأَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَنْ إشَارَةِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ : وَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُسِيءٌ - فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ جَوَابَ الْإِسَاءَةِ إلَى آخِرِ الْفِعْلَيْنِ ذِكْرًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى
الْآخَرِ بِقَوْلِهِ : " وَكَذَلِكَ " ، ثُمَّ أَثْبَتَ الْإِسَاءَةَ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا .
وَإِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ امْرَأَةٌ أَقَامَهَا خَلْفَهُ ؛ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا مُفْسِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ خُنْثَى مُشْكِلٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، أَوْ رَجُلٌ وَخُنْثَى ، أَقَامَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ أَوْ الْخُنْثَى خَلْفَهُ .
وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ أَوْ خُنْثَى أَقَامَ الرَّجُلَيْنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُمَا وَلَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْخَنَاثَى وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ - يَقُومُ الرِّجَالُ صَفًّا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ ، ثُمَّ الْخَنَاثَى ، ثُمَّ الْإِنَاثُ ، ثُمَّ الصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ .
وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي الْجَنَائِزِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا جِنَازَةُ الرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ وَالْخُنْثَى وَالْأُنْثَى وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلَى إذَا جُمِعَتْ فِي حَفِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ( وَأَفْضَلُ ) مَكَانِ الْمَأْمُومِ إذَا كَانَ رَجُلًا حَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا } ، وَإِذَا تَسَاوَتْ الْمَوَاضِعُ فِي الْقُرْبِ إلَى الْإِمَامِ فَعَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي الْأُمُورِ ، وَإِذَا قَامُوا فِي الصُّفُوفِ تَرَاصَّوْا وَسَوَّوْا بَيْنَ مَنَاكِبِهِمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَاصُّوا وَأَلْصِقُوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ } .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ : إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ : أَوْ كَانَتْ صَلَاةً تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ : فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدهَا سُنَّةٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَامَ وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ فِي مَكَانِهِ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْمُكْثُ عَلَى هَيْئَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ إلَّا مِقْدَارَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ جُلُوسَ الْإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ - بِدْعَةٌ ؛ وَلِأَنَّ مُكْثَهُ يُوهِمُ الدَّاخِلَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ فَيَفْسُدُ اقْتِدَاؤُهُ ، فَكَانَ الْمُكْثُ تَعْرِيضًا لِفَسَادِ اقْتِدَاءِ غَيْرِهِ بِهِ فَلَا يَمْكُثُ ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ إنْ شَاءَ ، إنْ لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ { إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ وَقَالَ : هَلْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا ؟ } كَأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ رُؤْيَا فِيهَا بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ .
فَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لَا يَسْتَقْبِلْ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الصُّورَةِ الصُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لِلْمُصَلِّي : أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ ، وَلِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ ، وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ ؛ لِأَنَّ بِالِانْحِرَافِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ
كَمَا يَزُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ الِانْحِرَافِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْحَرِفُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ تَبَرُّكًا بِالتَّيَامُنِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْحَرِفُ إلَى الْيَسَارِ لِيَكُونَ يَسَارُهُ إلَى الْيَمِينِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمْنَةً وَإِنْ شَاءَ يَسْرَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَهُوَ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ يَحْصُلُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا .
( وَإِنْ ) كَانَتْ صَلَاةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا ، وَكَرَاهَةُ الْقُعُودِ مَرْوِيَّةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا عَلَى الرَّضْفِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَيَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } ، وَعَنْ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَحَّى إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ ، أَوْ اسْتِكْثَارًا مِنْ شُهُودِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
( وَأَمَّا ) الْمَأْمُومُونَ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الِانْتِقَالِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى الدَّاخِلِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ فَرَاغِ مَكَانِ الْإِمَامِ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَيْضًا أَنْ يَنْقُضُوا الصُّفُوفَ وَيَتَفَرَّقُوا لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ الْمُعَايِنِ الْكُلَّ فِي الصَّلَاةِ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ ، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ هُوَ أَصْلِيٌّ ، وَنَوْعٌ هُوَ عَارِضٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ .
( فَصْلٌ ) : أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ فَسِتَّةٌ : مِنْهَا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا : فَإِنْ كَانَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ : قِرَاءَتُهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ .
( احْتَجَّا ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ } .
وَرُوِيَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا } ، أَوْ قَالَ : وَشَيْءٌ مَعَهَا ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } ، أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا أَوْ تَعْيِينُهُمَا نَسَخَ الْإِطْلَاقَ ، وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؟ فَقَبِلْنَا الْحَدِيثَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ عَمَلًا حَتَّى تُكْرَهَ تَرْكُ قِرَاءَتِهِمَا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، كَيْ لَا يُضْطَرَّ إلَى رَدِّهِ لِوُجُوبِ رَدِّهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ ، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ وَهُوَ الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَهُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ إذَا كَانَ إمَامًا .
وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ
مُنْفَرِدًا ، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ ، وَكَذَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّرْوِيحَاتِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَوْمِ فِعْلًا ، فَيَجْهَرُ لِيَتَأَمَّلَ الْقَوْمُ وَيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ وَفَائِدَتُهَا لِلْقَوْمِ ، فَتَصِيرُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُمْ تَقْدِيرًا ، كَأَنَّهُمْ قَرَءُوا .
وَثَمَرَةُ الْجَهْرِ تَفُوتُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْأَغْلَبِ يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَاتِ فِي خِلَالِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ ، فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ ، فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّأَمُّلِ فَلَا يَكُونُ الْجَهْرُ مُفِيدًا بَلْ يَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِثْمِ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ صَلَاةِ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ فِي خِلَالِ الشُّغْلِ ، وَبِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحُضُورِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْعَثَةٌ عَلَى إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالْأَرْكَانُ فِي الْفَرَائِضِ تُؤَدَّى عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دُونَ الْإِخْفَاءِ ، وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ } إلَى أَنْ قَصَدَ الْكُفَّارُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَادُوا يَلْغُونَ فِيهِ فَخَافَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ ، وَلِهَذَا كَانَ يَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِالْمَدِينَةِ قُوَّةُ الْأَذَى ، ثُمَّ وَإِنْ زَالَ هَذَا الْعُذْرُ
بَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَى الْمُخَافَتَةِ فِيهِمَا فِي عُمْرِهِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً ؛ وَلِأَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْعَجْمَاءِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَبِينُ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهَا إلَّا بِتَرْكِ الْجَهْرِ فِيهَا ، وَكَذَا وَاظَبَ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْأُمَّةِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ فِيمَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إسْمَاعُ الْقَوْمِ فِيمَا يُجْهَرُ ، وَإِخْفَاءُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمْ فِيمَا يُخَافَتُ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ خَافَتَ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ ، وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ إنْ زَادَ عَلَى مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ .
وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ ، اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ إذَا جَهَرَ ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى إسْمَاعِ غَيْرِهِ يُخَافِتُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَلَوْ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَابِ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ .
( وَالْفَرْقُ ) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ ، وَالنُّقْصَانُ فِي صَلَاةِ
الْإِمَامِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ أَبْلَغُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئَيْنِ نُهِيَ عَنْهُمَا : أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَسْمَعَ مَنْ أُمِرَ بِالْإِخْفَاءِ عَنْهُ ، وَالْمُنْفَرِدُ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَطْ فَكَانَ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ أَقَلَّ ، وَمَا وَجَبَ لِجَبْرِ الْأَعْلَى لَا يَجِبُ لِجَبْرِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مُفَسَّرًا أَنَّهُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ : إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ ، أَمَّا كَوْنُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ فَلِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إمَامٌ فِي نَفْسِهِ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ .
وَلَهُ أَنْ يُخَافِتَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ لِإِسْمَاعِ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَحْتَاجُ إلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُخَافَتَةِ ، وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالْجَمَاعَةِ ، وَالْمُنْفَرِدُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ ، وَلِهَذَا إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ كَانَ أَفْضَلَ هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ يُخَافِتُ ، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَافَتَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي التَّرَاوِيحِ يَجِبُ الْجَهْرُ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ ، وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ سُمِعَتْ قِرَاءَتُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ ، وَمَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ ، وَقَالَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكِ قَلِيلًا ، وَيَا عُمَرُ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا ، وَيَا بِلَالُ إذَا فَتَحْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا } ، ثُمَّ الْمُنْفَرِدُ إذَا خَافَتَ وَأَسْمَعَ أُذُنَيْهِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ بِيَقِينٍ ، إذْ السَّمَاعُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ لَا يُتَصَوَّرُ ، أَمَّا إذَا صَحَّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ وَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يُسْمِعْ أُذُنَيْهِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَخُرُوجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا - فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ الْبَلْخِيّ الْمَعْرُوفِ بِالْأَعْمَشِ ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُسْمِعْ نَفْسُهُ ، وَعَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أَدْنَى رَجُلٌ صِمَاخَ أُذُنَيْهِ إلَى فِيهِ سَمِعَ كَفَى ، وَإِلَّا فَلَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : يَجُوزُ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ : لَا يَجُوزُ ، وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْحُرُوفِ وَنَظْمِهَا عَلَى
وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْ وُجِدَ ، فَأَمَّا إسْمَاعُهُ نَفْسَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ فِعْلُ الْأُذُنَيْنِ دُونَ اللِّسَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ نَجِدُهَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَصَمِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ ؟ وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَقَدْرِ مَا لَا يَسْمَعُ هُوَ لَوْ كَانَ سَمِيعًا لَمْ يَعْرِفْ قِرَاءَةً .
وَجْهُ قَوْلِ بِشْرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ .
وَمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إشَارَةً إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ .
وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ قَوْلُهُ : قَرَأَ فِي نَفْسِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحُرُوفِ لَأَدَّى إلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَةِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ فِي الْبَابِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالنُّطْقِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) - الطُّمَأْنِينَةُ وَالْقَرَارُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الطُّمَأْنِينَةُ مِقْدَارُ تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ إنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَإِنْ كَانَ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ ، إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ .
( احْتَجَّا ) بِحَدِيثِ { الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَخَفَّ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَسْتَطِعْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَتَطَهَّرْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ - تَعَالَى - ، وَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَقُلْ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَاقْرَأْ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَسْتَقِمْ قَائِمًا } ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ ، وَالْإِعَادَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ فَسَادِ الصَّلَاةِ ، وَفَسَادُهَا بِفَوَاتِ الرُّكْنِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ الْمُؤَدَّى صَلَاةً بِقَوْلِهِ : فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمَرَهُ
بِالطُّمَأْنِينَةِ ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا لِنَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وَأَمَرَ بِمُطْلَقِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ ، يُقَالُ : رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ إلَى الْأَرْضِ ، وَالسُّجُودُ هُوَ : التَّطَأْطُؤُ وَالْخَفْضُ ، يُقَالُ : سَجَدَتْ النَّخْلَةُ إذَا تَطَأْطَأَتْ ، وَسَجَدَتْ النَّاقَةُ إذَا وَضَعَتْ جِرَانَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَخَفَضَتْ رَأْسَهَا لِلرَّعْيِ ، فَإِذَا أَتَى بِأَصْلِ الِانْحِنَاءِ وَالْوَضْعِ فَقَدْ امْتَثَلَ لِإِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَكِنْ يَصْلُح مُكَمِّلًا ، فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالِاعْتِدَالِ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَنَفْيُهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ ، وَتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ الَّذِي يُوجِبُ عَدَمَهَا مِنْ وَجْهٍ ، وَأَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الْوُجُوبِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ إلَى مِثْلِهِ كَالْأَمْرِ بِكَسْرِ دَنَانِ الْخَمْرِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّنَ الْأَعْرَابِيَّ مِنْ الْمُضِيِّ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَرَّاتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَطْعِ ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصَّلَاةُ جَائِزَةً لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهَا عَبَثًا ، إذْ الصَّلَاةُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْهُ .
ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ ، حَتَّى لَا يَجِبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا ، وَكَذَا
الْقَوْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةُ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ؛ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الرُّكْنِ ، وَإِكْمَالُ الرُّكْنِ وَاجِبٌ كَإِكْمَالِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ صَلَاةَ الْأَعْرَابِيِّ بِالْعَدَمِ ؟ وَالصَّلَاةُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ إمَّا لِانْعِدَامِهَا أَصْلًا بِتَرْكِ الرُّكْنِ ، أَوْ بِانْتِقَاصِهَا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ ، فَتَصِيرُ عَدَمًا مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا ، وَلِهَذَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ .
( وَمِنْهَا ) الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا قَامَ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَرَجَعَ ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا ، أَوْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ فَوَجَبَتْ الْقَعْدَةُ فَاصِلَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ ، وَهَذَا دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ
يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قُولُوا : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ } ، أَمَرَنَا بِالتَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ : " قُولُوا " ، وَنَصَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ .
( وَلَنَا ) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك أَثْبَتَ تَمَامَ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَعْدَةِ .
وَلَوْ كَانَ التَّشَهُّدُ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَ التَّمَامُ بِدُونِهِ ، دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ ، وَقَوْلُهُ : قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ : أَيْ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَعْرُوفِ ، إذْ الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ : التَّقْدِيرُ .
( وَمِنْهَا ) - مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ السَّجْدَةُ ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ ، وَقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ فَرَضِيَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ سَاهِيًا فَوَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ( وَأَمَّا ) الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ بِعَارِضٍ فَنَوْعَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : سُجُودُ السَّهْوِ ، وَالْآخَرُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ .
( أَمَّا ) سُجُودُ السَّهْوِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي
مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَان سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا ؟ وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ السُّجُودِ ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ ، وَكَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : إذَا سَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ سُنَّةٌ ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ .
وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَفَعَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ ، وَالْفَائِتُ مِنْ التَّطَوُّعِ كَيْفَ يُجْبَرُ بِالْوَاجِبِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ ، وَلْيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ } ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ .
وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ } ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُمَا تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِهِ ، وَكَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاظَبُوا عَلَيْهِ ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ؛ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا لِنُقْصَانِ الْعِبَادَةَ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ فِي بَابِ الْحَجِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ
الْكَمَالِ وَاجِبٌ ، وَلَا تَحْصُلُ صِفَةُ الْكَمَالِ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ فَكَانَ وَاجِبًا ضَرُورَةً ، إذْ لَا حُصُولَ لِلْوَاجِبِ إلَّا بِهِ ، إلَّا أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لَا لِأَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ السُّجُودَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقَعْدَةِ ، فَالْعَوْدُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ رَافِعًا لِلْقَعْدَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَحَلِّهَا ، فَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَمَحَلُّهَا قَبْلَ الْقَعْدَةِ ، فَالْعَوْدُ إلَيْهَا يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
( أَمَّا ) قَوْلُهُمْ : إنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَنَقُولُ : أَصْلُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا لَكِنَّ لَهَا أَرْكَانٌ لَا تَقُومُ بِدُونِهَا ، وَوَاجِبَاتٌ تَنْتَقِصُ بِفَوَاتِهَا وَتَغْيِيرِهَا عَنْ مَحَلِّهَا ، فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَابِرِ ، مَعَ أَنَّ النَّفَلَ يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَنَا بِالشُّرُوعِ وَيَلْتَحِقُ بِالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يُبَيَّنُ فِي مَوَاضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ تَغْيِيرُهُ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ مِنْهَا عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ سَاهِيًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ ، وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ السَّهْوُ عَنْهُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَذْكَارِ ، إذْ الصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ بِأَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعَ الْقُعُودِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ عَنْ وَقْتِهِ ، أَوْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأُولَى .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَقْعُدْ ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يُعِدْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ } وَكَذَا إذَا رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ أَوْ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ عَنْ مَحَلِّهِ أَوْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ ، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ بَعْدَ مَا قَعَدَ وَعَادَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ ، أَوْ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ وَهُوَ السَّلَامُ .
وَلَوْ زَادَ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ .
( لَهُمَا ) أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
لَوَجَبَ جَبْرُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ وَلَا يُعْقَلُ تَمَكُّنُ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ بِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ حَصَلَ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْخِيرٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَوْ تَلَا سَجْدَةً فَنَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ وَلَوْ سَلَّمَ مُصَلِّي الظُّهْرِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهَا ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ - يُتِمُّهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ أَمَّا الْإِتْمَامُ فَلِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُصَلِّي الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ نَادِرٌ فَكَانَ سَلَامُهُ سَلَامَ عَمْدٍ ، وَأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ .
وَلَوْ تَرَكَ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ ، وَالْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْ الْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سَاهِيًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ : عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ عِنْدَهُمَا وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَعَلَى هَذَا إذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا إنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ ، وَإِمَّا إنْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذِهِ ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى
وَجْهَيْنِ : أَمَّا إنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ بِأَنْ كَانَ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنهُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْ لَمْ يَطُلْ فَإِنْ لَمْ يَطُلْ تَفَكُّرُهُ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَطُلْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ ، وَلِأَنَّ الْفِكْرَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ .
وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ فَإِنْ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ السَّهْوُ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ يُمْكِنُ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا ، فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِكْرِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَالْفِكْرِ الْقَلِيلِ .
وَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ وَإِنْ طَالَ فِكْرُهُ كَذَا هَذَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْفِكْرَ الطَّوِيلَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مِمَّا يُؤَخِّرُ الْأَرْكَانَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَيُوجِبُ تَمَكُّنَ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَبْرِهِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ ، بِخِلَافِ الْفِكْرِ الْقَصِيرِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ سَهْوُ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا سَهْوُ صَلَاةٍ أُخْرَى .
وَلَوْ شَكَّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَتَحَرَّى وَلَا يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَا يَسْلَمُ عَنْ السَّهْوِ فِيهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى .
( وَحُكِيَ ) أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ
لِلْكِسَائِيِّ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ ابْنَ خَالَتِهِ : لِمَ لَا تَشْتَغِلُ بِالْفِقْهِ مَعَ هَذَا الْخَاطِرِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْكَمَ عِلْمًا فَذَاكَ يَهْدِيهِ إلَى سَائِرِ الْعُلُومِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَنَا أُلْقِي عَلَيْك شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَخَرِّجْ جَوَابَهُ مِنْ النَّحْوِ فَقَالَ : هَاتِ قَالَ : فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ ؟ فَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِنْ أَيِّ بَابٍ مِنْ النَّحْوِ خَرَّجْتَ هَذَا الْجَوَابَ ؟ فَقَالَ : مِنْ بَابِ أَنَّهُ لَا يُصَغَّرُ الْمُصَغَّرُ فَتَحَيَّرَ مِنْ فِطْنَتِهِ .
وَلَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي الْعَصْرِ ، فَصَلَّى عَلَى ذَلِكَ الْوَهْمِ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الظُّهْرِ - فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا شَرْطُ بَقَائِهَا كَأَصْلِ النِّيَّةِ ، فَلَمْ يُوجَدْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ وَلَا تَرْكُ وَاجِبٍ ، فَإِنْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ تَفَكُّرًا شَغَلَهُ عَنْ رُكْنٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ ، ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ كَبَّرَ - فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخَّرَ رُكْنًا وَهُوَ الرُّكُوعُ ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ وَهُوَ السَّلَامُ .
وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ مَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً ثُمَّ اسْتَيْقَنَ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ وَانْعَدَمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَنْقِيصُهَا بِتَفْوِيتِ وَاجِبٍ مِنْهَا ، فَاسْتَحَالَ إيجَابُ الْجَابِرِ .
وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَعَادَ إلَى الْوُضُوءِ ، ثُمَّ
شَكَّ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا طَالَ تَفَكُّرُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لَهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ .
وَأَمَّا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبِنَاءِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَنَقُولُ : إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ - وَمَعْنَى قَوْلِهِ : مَا سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَسْهُ فِي عُمُرِهِ قَطُّ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ ، ( احْتَجَّ ) بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ؟ - فَلْيَلْغِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ } ، أَمَرَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا أَخْذًا بِالْيَقِينِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ الْعَمَلِ فَكَانَ أَوْلَى .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى ؟ فَلِيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ ، } أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا هَكَذَا .
وَرُوِيَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ أَدَّى الْفَرْضَ بِيَقِينٍ كَامِلًا ، وَلَوْ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ مَا أَدَّاهُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي زِيَادَةً عَلَى الْمَفْرُوضِ ، وَإِدْخَالُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانٌ فِيهَا ، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ بِأَنْ كَانَ أَدَّى أَرْبَعًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَدَّى ثَلَاثًا فَبَنَى
عَلَى الْأَقَلِّ وَأَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَيْسَ إبْطَالًا لِلصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلَ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا ، وَالْإِكْمَالُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ مِرَارًا وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا هَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا تَحَرَّى وَبَنَى عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَرِّي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُ الْيَقِينِ بِدُونِهِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْأَقَلِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرِّي .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ؟ - فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ ، } وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مِنْ الدَّلَائِلِ ، وَالتَّحَرِّي عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ مَشْرُوعٌ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِقْبَالِ ؛ لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يَقَعَ ثَانِيًا وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ، وَلَا وَجْهَ لِلْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوَصِّلهُ إلَى مَا عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ ، وَعِنْدَنَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ ، وَكَيْفِيَّةُ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ يَجْعَلُهَا
رَكْعَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ لَا مَحَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ ، وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لَهُ فَلِذَلِكَ يَقْعُدُ .
وَأَمَّا الشَّكُّ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ يَكْثُرُ يَتَحَرَّى أَيْضًا كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ .
( وَالْفَرْقُ ) أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي بَابِ الْحَجِّ وَتَكْرَارَ الرُّكْنِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ ، فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ رَكْعَةً فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا وُجِدَتْ قَبْلَ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي أَحْوَطَ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ .
وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ سُجُودُ السَّهْوِ بِهَا أَرْبَعَةٌ : الْقِرَاءَةُ ، وَالْقُنُوتُ ، وَالتَّشَهُّدُ ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ .
( أَمَّا ) الْقِرَاءَةُ فَإِذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَاهِيًا يُوجِبُ السَّهْوَ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هِيَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنًا وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ تَرْكِهَا فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاءً ، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا فَقَدْ غَيَّرَ الْفَرْضَ عَنْ مَحَلِّ أَدَائِهِ سَهْوًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ .
وَلَوْ سَهَا عَنْ الْفَاتِحَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا ، أَوْ عَنْ السُّورَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا - فَعَلَيْهِ السَّهْوُ ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَاجِبَةٌ
عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَا قِرَاءَةُ السُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ ، أَوْ قِرَاءَةُ مِقْدَارِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَهِيَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَاجِبَةٌ ، فَيَتَعَلَّقُ السُّجُودُ بِالسَّهْوِ عَنْهُمَا .
وَلَوْ غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ سَهْوًا بِأَنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ - فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ هَيْئَةِ الرُّكْنِ ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَيَكُونُ سُنَّةً كَهَيْئَةِ كُلِّ رُكْنٍ ، نَحْوَ الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ وَهَيْئَةِ الْقَعْدَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ ، ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي الْمِقْدَارِ فَقَالَ : إنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ ، وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ ، أَوْ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ - فَعَلَيْهِ السَّهْوُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَإِلَّا فَلَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا جَهَرَ بِحَرْفٍ يَسْجُدُ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ أَلْزَمُ مِنْ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ ؟ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُخَافَتُ فَإِذَا جَهَرَ فِيمَا
يُخَافَتُ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ بِنَفْسِ الْجَهْرِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ فَأَمَّا بِنَفْسِ الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ أَحْيَانًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَهَذَا جَهْرٌ فِيمَا يُخَافَتُ ، فَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ثَبَتَ فِي الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ ، ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ الْحَدِيثُ مُقَدَّرًا بِآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ وَلَمْ يَرِدْ بِأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ فَيُوجِبُ السَّهْوَ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَة عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً ، فَإِذَا غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَعَلَّقَ بِهِ السَّهْوُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ ، فَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ التَّغْيِيرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَجِبُ السَّهْوُ ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، أَمَّا إذَا خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَهْرَ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا وَجَبَ تَحْصِيلًا لِثَمَرَةِ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ فَلَمْ يَجِبْ الْجَهْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النَّقْصُ فِي الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ ، وَكَذَا إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا وَجَبَتْ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ الْمُغَالَبَةِ وَاللَّغْوِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْقِرَاءَةِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِهَارِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهَا
الْمُغَالَبَةُ فَلَمْ تَكُنْ الصِّيَانَةُ بِالْمُخَافَتَةِ وَاجِبَةً ، فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فَأَخْطَأَ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُهُ إذْ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَرَأَ الْحَمْدُ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ السُّورَةَ بِتَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ .
وَلَوْ قَرَأَ الْحَمْدُ ثُمَّ السُّورَةَ ثُمَّ الْحَمْدُ - لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً .
وَلَوْ تَشَهَّدَ مَرَّتَيْنِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ أَوْ فِي قِيَامِهِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ مَوَاضِعُ الثَّنَاءِ .
( وَأَمَّا ) الْقُنُوتُ فَتَرْكُهُ سَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَكَذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ إذَا تَرَكَهَا أَوْ نَقَصَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَكَذَا إذَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ .
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ إذَا سَهَا عَنْهَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا - قَرَأَهَا وَسَلَّمَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ .
وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَوَاءٌ ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ سُنَّةٌ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهَا كَبِيرُ نُقْصَانٍ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَمَا إذَا تَرَكَ الثَّنَاءَ وَالتَّعَوُّذَ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ وَاجِبَةٌ ، أَمَّا وُجُوبُ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ فَلِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى
فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِرَاءَتِهِ ، وَمُوَاظَبَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا سَهْوَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا سَهَا عَنْ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ ، وَهَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ - لِمَا يُذْكَرُ - فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا السَّهْوُ ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهَا مِنْ السُّنَنِ ، وَنُقْصَانُ السُّنَّةِ لَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ وَلَا يَجِبُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْفَائِتِ ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ السَّهْوُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا فَوْقَ النَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ بِتَرْكِهِ سَهْوًا ، وَالشَّرْعُ لَمَّا جَعَلَ السُّجُودَ جَابِرًا لِمَا فَاتَ سَهْوًا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا ، وَإِذَا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا كَانَ دُونَ مَا فَاتَ عَمْدًا ، وَالشَّيْءُ لَا يَنْجَبِرُ بِمَا هُوَ دُونَهُ ، وَلِهَذَا لَا يَنْجَبِرُ بِهِ النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ بِفَوَاتِ الْفَرْضِ .
وَلَوْ سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّلَامِ مِنْ بَابِ السُّنَنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ .
وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ .
وَلَوْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ مِرَارًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَتَانِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ ، } وَلِأَنَّ كُلَّ سَهْوٍ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فَيَسْتَدْعِي جَابِرًا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سَجْدَتَانِ تُجْزِيَانِ لِكُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ ، } وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وَسَجَدَ لَهَا سَجْدَتَيْنِ ، وَكَأَنْ سَهَا عَنْ الْقَعْدَةِ وَعَنْ التَّشَهُّدِ حَيْثُ تَرَكَهُمَا ، وَعَنْ الْقِيَامِ حَيْثُ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ ، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ كَافِيَتَانِ ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إنَّمَا أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى تَكْرَارِهِ لَوْ وَقَعَ السَّهْوُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جِنْسِ السَّهْوِ الْمَوْجُودِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَنَّهُ عَيْنُ السَّهْوِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمَتْرُوكِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا ؟ نَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : إنَّ الْمَتْرُوكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنْ الْأَذْكَارِ ، وَمِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ كَانَ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ إنْ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ فَرْضًا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَا تَفْسُدُ ، وَلَكِنْ تُنْتَقَصُ وَتَدْخُلُ فِي حَدِّ الْكَرَاهَةِ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ : أَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِذَا تَرَكَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا آخِرَ الصَّلَاةِ - قَضَاهَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقْضِيهَا وَيَقْضِي مَا بَعْدَهَا ، ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ مَا صَلَّى بَعْدَ الْمَتْرُوكِ حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً فَلَا تُعْتَبَرُ بِدُونِ التَّرْتِيبِ ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَقَدْ وُجِدَتْ الرَّكْعَةُ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ ؟ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ ، فَكَانَ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُعْتَبَرًا مُعْتَدًّا بِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ مَا صَادَفَ مَحَلَّهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ ، وَالرَّكْعَةُ بِدُونِ الرُّكُوعِ لَا تَتَحَقَّقُ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ - قَضَاهُمَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا ، وَيَبْدَأُ
بِالْأُولَى مِنْهُمَا ثُمَّ بِالثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ .
وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ تَرَكَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَالْأُخْرَى صُلْبِيَّةٌ تَرَكَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ - يُرَاعِي التَّرْتِيبَ أَيْضًا فَيَبْدَأُ بِالتِّلَاوَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَبْدَأُ بِالثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ التِّلَاوَةِ أَدَاءً فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا فِي الْقَضَاءِ ، وَلَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ لَخَرَّ لَهَا مِنْ رُكُوعِهِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَسَجَدَهَا ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَعُودَ إلَى حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ فَيُعِيدَهَا لِيَكُونَ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَسْنُونَةِ وَهِيَ التَّرْتِيبُ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرْضٌ عِنْدَهُ فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّهَا فَبَطَلَ مَا أَدَّى مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ ، وَعِنْدَنَا التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ دُونَ مَا سَبَقَهُ ، وَلَئِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ ، فَوَقَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مُعْتَبَرًا لِمُصَادِفَتِهِ مَحَلَّهُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الرُّكُوعِ إذَا خَرَّ لَهَا مِنْ الرُّكُوعِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ مَا أَحْدَثَ فِيهِ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَا قَاهُ الْحَدَثُ مِنْ الرُّكْنِ قَدْ فَسَدَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ كُلَّ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا
الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْبِنَاءِ ، فَيُعْمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ .
وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى سَلَّمَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا ، أَوْ سَاهٍ عَنْهَا .
فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ ، وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مُحَلِّلٌ فِي الشَّرْعِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ، } وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ ، وَالْكَلَامُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ حَالَةَ السَّهْوِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ النِّسْيَانِ ، وَفِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي غَيْرِ حَالَةِ السَّهْوِ فِي حَقِّ مَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مُحَلِّلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ سَلَامَ الْعَمْدِ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا ، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ ؛ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مَا مَرَّ ، ثُمَّ إنْ سَلَّمَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ - لَمْ يَصْرِفْ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ - يَعُدْ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ .
وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ ، وَإِذَا عَادَ إلَى السَّجْدَةِ يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فِيهَا وَلَكِنْ لَا يَعْتَدُّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ ، وَيُتَابِعُهُ فِي التَّشَهُّدِ دُونَ التَّسْلِيمِ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يُتَابِعهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ سَاهِيًا لَا يُتَابِعُهُ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ
مَا سَبَقَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ الْإِمَامُ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ ، وَفَائِدَةُ صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اقْتَدَى بِهِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ الْعِشَاءِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ .
وَأَمَّا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعُودَ ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ صَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ بِالْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ ، وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَكَانَ بَقَاؤُهُ فِيهِ كَبَقَائِهِ فِي مَكَانِ صَلَاتِهِ ، وَصَرْفُ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ ، فَأَمَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ فَلَا بِخِلَافِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَالَانِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يَعُدْ وَتَفْسُدْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ مَانِعٌ مِنْ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الصُّفُوفَ مِنْ خَلْفِهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ أَوْ الْيَسَارِ عَادَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ الْتَحَقَ بِالْمَسْجِدِ ، وَلِهَذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ .
وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ
، لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ ، وَقِيلَ : إنْ مَشَى قَدْرَ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُ عَادَ وَبَنَى وَإِلَّا فَلَا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَقِيلَ : إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ لَا يَعُودُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي حُكْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ كَانَ يَعُودُ مَا لَمْ يُجَاوِزْهَا ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ السُّتْرَةِ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ فَإِنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ ، أَوْ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ - فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ سَلَامَ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ ، حَتَّى لَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ .
وَلَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ ، وَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَكِنَّهَا تُنْتَقَصُ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُ عَنْ الصَّلَاةِ ، حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ بِالْقَهْقَهَةِ ، وَيَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا أَرْبَعًا ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي الْعَوْدِ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْبِيَّةِ ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ - سَقَطَ عَنْهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ ، إلَّا أَنَّهَا تُنْتَقَصُ لِمَا بَيَّنَّا ، ثُمَّ الْعَوْدُ إلَى هَذِهِ الْمَتْرُوكَاتِ وَهِيَ السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ ، بِخِلَافِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ .
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَتَا سَهْوٍ فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُمَا أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا وَذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، أَمَّا إذَا كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ أَوَّلًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَيَتَشَهَّدَ ؛ لِأَنَّ تَشَهُّدَهُ اُنْتُقِضَ بِالْعَوْدِ إلَيْهَا ، ثُمَّ يُسَلِّمُ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ .
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً سَقَطَتَا عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا أَوْ ذَاكِرًا لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ خَاصَّةً لَا يَسْقُطَانِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ أَوْ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ التِّلَاوَةَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَشَهَّدَ - لِمَا مَرَّ - ثُمَّ يُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ .
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا يَعُودُ فَيَقْضِهِمَا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ الصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ سَجْدَتَا السَّهْوِ إنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ أَوْ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَيَعُودُ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إنْ كَانَتْ الصُّلْبِيَّةَ أَوَّلًا بَدَأَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ التِّلَاوَةُ أَوَّلًا بَدَأَ بِهَا عِنْدَهُ ، خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى
مَا مَرَّ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ سَاهِيًا عَنْ الصُّلْبِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمَامِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ ، ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ سَلَامَهُ فِي حَقِّ الرُّكْنِ سَلَامُ سَهْوٍ وَذَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ ، وَبَعْضُ الطَّاعِنِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرَّرُوا هَذَا الْوَجْهَ فَقَالُوا : إنَّ هَذَا سَلَامُ سَهْوٍ فِي حَقِّ الرُّكْنِ ، وَسَلَامُ عَمْدٍ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ ، وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُهُ وَسَلَامُ الْعَمْدِ يُخْرِجُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ ، وَالتَّحْرِيمَةُ صَحِيحَةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِلتِّلَاوَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرُّكْنِ عَلَى جَانِبِ الْوَاجِبِ ، وَفِيمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ إلَّا أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْعَمْدِ يُخْرِجُ وَجَانِبَ الشَّكِّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يُخْرِجُ وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْ الْإِخْرَاجِ ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالرُّكْنِ .
وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ أَنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْرِجًا وَالْآخَرُ مُبْقِيًا ، وَهَهُنَا جَانِبُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْخُرُوجَ ، وَجَانِبُ الرُّكْنِ لَا يُوجِبُ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْ الْإِخْرَاجِ ، فَأَنَّى يَقَعُ التَّعَارُضُ ؟ عَلَى أَنَّ كُلَّ سَلَامٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ مُحَلِّلًا شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ عَلَى مَا مَرَّ إلَّا أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِخْرَاجِ حَالَةَ السَّهْوِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ ، وَلَا يُكْرَهُ سَلَامُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَاجِبَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ
أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ فَبَقِيَ مُخْرَجًا عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِالصُّلْبِيَّةِ - يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَأْتِي بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلتِّلَاوَةِ فَكَانَ سَلَامَ عَمْدٍ فِي حَقِّهِ ، وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ .
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَهُوَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ أَوْ ذَاكِرًا لِلْكُلِّ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَأَ بِالسَّهْوِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، وَالتَّكْبِيرُ يُؤْتَى بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا فِي تَحْرِيمَتِهَا ، وَالتَّلْبِيَةُ لَا تَخْتَصُّ بِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ .
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ سَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ وَالتَّكْبِيرُ ، وَكَذَا إذَا لَبَّى بَعْدَ السَّهْوِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْبِيرُ ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، وَالتَّكْبِيرُ يَخْتَصُّ بِحُرْمَتِهَا ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالتَّلْبِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَلَامٌ لِكَوْنِهَا جَوَابًا لِخِطَابِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } .
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ قُرْبَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ ، وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا .
وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ دُونَ التِّلَاوَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ دُونَ الصُّلْبِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا : الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مِنْهُمَا ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ ، ثُمَّ يُلَبِّي لِمَا مَرَّ .
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ .
وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا تَفْسُدُ - لِمَا مَرَّ - وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ خَارِجُ الصَّلَاةِ فِي حُرْمَتِهَا ، فَإِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ فَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ .
( وَأَمَّا ) إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكُوعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الرُّكُوعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْكَعْ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ السُّجُودِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَالْتَحَقَ السُّجُودُ بِالْعَدَمِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فَكَانَ أَدَاءُ هَذَا الرُّكُوعِ فِي مَحَلِّهِ ، فَإِذَا أَتَى بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ صَارَ مُؤَدِّيًا رَكْعَةً تَامَّةً .
وَكَذَا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ ثُمَّ سَجَدَ - فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَكُونُ هَذَا السُّجُودُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ وَقَعَ مُعْتَبَرًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ ؛
لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ تَتَقَيَّدَ بِالسَّجْدَةِ ، فَإِذَا قَامَ وَقَرَأَ لَمْ يَقَعْ قِيَامُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ مُعْتَدًّا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي مَحَلِّهِ فَلَغَا ، فَإِذَا سَجَدَ صَادَفَ السُّجُودُ مَحَلَّهُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ رُكُوعٍ مُعْتَبَرٍ فَتَقَيَّدَ رُكُوعُهُ بِهِ ، فَقَدْ وُجِدَ انْضِمَامُ السَّجْدَتَيْنِ إلَى الرُّكُوعِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً ، وَكَذَا إذَا قَرَأَ أَوْ رَكَعَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ، فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهُ رُكُوعَانِ وَوُجِدَ السُّجُودُ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا وَيَلْغُو الْآخَرَ ، غَيْرَ أَنَّ فِي بَابِ الْحَدَثِ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ ، وَفِي بَابِ السَّهْوِ مِنْ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ ، ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ بَابِ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ ، فَوَقَعَ الثَّانِي مُكَرَّرًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ ، فَإِذَا سَجَدَ يَتَقَيَّدُ بِهِ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً .
وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ سُجُودَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ ، فَإِذَا قَرَأَ وَرَكَعَ تَوَقَّفَ هَذَا الرُّكُوعُ عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَ بِسُجُودِهِ بَعْدَهُ ، فَإِذَا سَجَدَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ تَقَيَّدَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ بِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً .
وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ فِي الْأُولَى وَلَمْ يَسْجُدْ ، ثُمَّ رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ ، وَسَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ - فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِمَا مَرَّ غَيْرَ أَنَّ
هَذَا السُّجُودَ يَلْتَحِقُ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ أَمْ بِالثَّانِي ؟ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نَقْصٌ فِيهَا ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْبَةٌ وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ إلَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ ، ثُمَّ إدْخَالُ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ أَوْ السُّجُودِ الزَّائِدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ لَا تَفْسُدُ بِوُجُودِ أَفْعَالِهَا بَلْ بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً ؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ صَلَاةٍ كَامِلٌ ، فَانْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْفَرْضِ ضَرُورَةٌ لِمَكَانِ فَسَادِ فَرْضٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِعْلٍ كَامِلٍ لِيَصِيرَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا ، أَوْ بِالِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهَا ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ - فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَيِّدْ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَكُنْ رَكْعَةً فَلَمْ يَكُنْ فِعْلَ صَلَاةٍ كَامِلًا ، وَمَا لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فَكَانَ قَابِلًا لِلرَّفْعِ ، وَيَكُونُ رَفْعُهُ فِي الْحَقِيقَةِ دَفْعًا وَمَنْعًا عَنْ الثُّبُوتِ ، فَيُدْفَعُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَى
الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَعَادَ ، وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ وَفَسَدَ فَرْضُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَيَعُودُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ عِنْدَهُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى النَّقْصِ لِبَقَاءِ فَرْضٍ عَلَيْهِ وَهُوَ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ ، وَأَنَّا نَقُولُ : وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ بِهِ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِهِ فِي النَّفْلِ خُرُوجَهُ عَنْ الْفَرْضِ لِتَغَايُرِهُمَا فَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ فِيهِمَا وَقَدْ حَصَلَ فِي النَّفْلِ فَصَارَ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةً .
وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَعُدْ وَلَكِنْ سَبَّحَ بِهِمْ فَقَامُوا ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ سَبَّحُوا بِهِ فَعَادَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا وَكَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ فَرِيضَةٌ وَالْقَعْدَةَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ فَلَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ لِمَكَانِ الْوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ - تَعَالَى - ، وَإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ مَنْ عَصَاهُ ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْ سَجْدَتِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِوُجُودِ حَدِّ الْقِيَامِ وَهُوَ انْتِصَابُ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ جَمِيعًا ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الِانْحِنَاءِ فَقَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَقْعُدُ لِانْعِدَامِ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ .
وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ هَلْ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ،
كَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ : لَا يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ كَانَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا : إنَّهُ يَسْجُدُ ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ أَخَّرَ وَاجِبًا وَجَبَ وَصْلُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الرُّكْنِ فَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ .
( وَأَمَّا ) الْأَذْكَارُ فَنَقُولُ : إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا عِنْدِي أَدَاءٌ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ ، فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ يَكُونُ قَاضِيًا وَمَسَائِلُ الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ أَدَاءً لَجَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ الْتَحَقَتْ بِالْأُولَيَيْنِ فَحَلَّتْ الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، فَيَصِيرُ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ ، وَإِنَّهُ فَاسِدٌ .
وَذُكِرَ فِي بَابِ السَّهْوِ : مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ فَاقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ، وَقَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا ، ثُمَّ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةِ - وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ .
وَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ لَكَانَ الْإِمَامُ مُؤَدِّيًا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَقَدْ أَدْرَكَهُمَا الْمَسْبُوقُ فَحَصَلَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا
بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، وَمَعَ هَذَا وَجَبَ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُولَيَيْنِ مَحَلُّ أَدَاءِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ الْأُولَيَيْنِ ، فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ قَضَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَالْفَائِتُ إذَا قُضِيَ يَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهِ فَحَلَّتْ الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، فَقَدْ فَاتَ عَلَى الْمَسْبُوقِ الْقِرَاءَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا قِرَاءَةٍ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنْ وُجِدَتْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا لِافْتِرَاضِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَحَسْبُ ، فَقَدْ فَاتَ الْفَرْضُ عَلَى الْمَسْبُوقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهَا فِيمَا يَقْضِي .
وَلَوْ تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ هَهُنَا .
وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَبَدَأَ بِغَيْرِهَا ، فَلَمَّا قَرَأَ بَعْضَ السُّورَةِ تَذَكَّرَ - يَعُودُ فَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّورَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سُمِّيَتْ فَاتِحَةً لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي مَحَلِّهَا كَانَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ ، كَمَا لَوْ سَهَا عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ - يَعُودُ إلَى التَّكْبِيرَاتِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا كَذَا ، هَذَا .
وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ السُّورَةَ لَمْ يَقْضِهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَاتِحَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوْجَبُ مِنْ السُّورَةِ ، ثُمَّ السُّورَةُ تُقْضَى فَلَأَنْ تُقْضَى الْفَاتِحَةُ أَوْلَى .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مَحَلُّ الْفَاتِحَةِ أَدَاءً فَلَا تَكُونَا مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً بِخِلَافِ السُّورَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَضَاهَا فِي
الْأُخْرَيَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ السُّورَةَ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْضِيهَا كَمَا لَا يَقْضِي الْفَاتِحَةَ ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ السُّورَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ لَيْسَتَا مَحَلًّا لِلسُّورَةِ أَدَاءً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً ، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ : وَجَهَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ جَهَرَ بِهِمَا أَوْ بِالسُّورَةِ خَاصَّةً ، وَفَسَّرَهُ الْبَلْخِيّ فَقَالَ : أَتَى بِالسُّورَةِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ ، وَيَجْهَرُ بِالسُّورَةِ أَدَاءً فَكَذَا قَضَاءً ، فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ فِي مَحَلِّهَا ، وَمِنْ سُنَنِهَا الْإِخْفَاءُ فَيُخْفِي بِهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُخَافِتُ بِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ ، وَالسُّورَةُ تُبْنَى عَلَيْهَا ، ثُمَّ السُّنَّةُ فِي الْفَاتِحَةِ : الْمُخَافَتَةُ ، فَكَذَا فِيمَا يُبْنَى عَلَيْهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَهْرُ بِالسُّورَةِ فَيَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ أَيْضًا ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ ، فَإِنْ تَذَكَّرَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ يَعُودُ إلَى الْقِرَاءَةِ ، وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ .
وَلَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَتَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ قَضَاهَا فِي الرُّكُوعِ ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ
إذَا تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ حَيْثُ يَسْقُطُ ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ أَيْضًا .
وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَامَ ثُمَّ تَذَكَّرَ - يَعُودُ وَيَتَشَهَّدُ إذَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَرَأَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَعُودُ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ فَهَهُنَا أَوْلَى .
وَكَذَا إذَا لَمْ يَقُمْ وَتَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا ، وَلَوْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ وَسَقَطَ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِمَا مَرَّ .
وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَرْكُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَا يَعُودُ وَتَسْقُطُ ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَعُودُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْنُونُ بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا ، سَوَاءٌ كَانَ السَّهْوُ بِإِدْخَالِ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ نُقْصَانٍ فِيهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَبْلَ السَّلَامِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلنُّقْصَانِ فَقَبْلَ السَّلَامِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ فَبَعْدَ السَّلَامِ .
( احْتَجَّ ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّشَهُّدِ كَمَا حَمَلْتُمْ السَّلَامَ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَيْ فَتَشَهَّدْ ، وَيُرَجَّحُ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْمَعْنَى إيَّاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّجْدَةَ إنَّمَا يُؤْتَى بِهَا جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالْجَابِرُ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِ النَّقْصِ لَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَالْإِتْيَانُ بِالسَّجْدَةِ بَعْدَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ لَا فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ ، وَالْإِتْيَانُ بِهَا قَبْلَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ فَكَانَ أَوْلَى .
وَالثَّانِي : أَنَّ جَبْرَ النُّقْصَانِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ ، وَبِالسَّلَامِ الْقَاطِعِ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْأَصْلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ جَبْرُ النُّقْصَانِ بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ .
( وَاحْتَجَّ ) مَالِكٌ بِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِي مَثْنَى مِنْ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَكَانَ سَهْوًا فِي نُقْصَانٍ ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَكَانَ سَهْوًا فِي الزِّيَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ السَّهْوَ إذَا كَانَ نُقْصَانًا فَالْحَاجَةُ
إلَى الْجَابِرِ ، فَيُؤْتَى بِهِ فِي مَحِلِّ النُّقْصَانِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ زِيَادَةً فَتَحْصِيلُ السَّجْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ يُوجِبُ زِيَادَةً أُخْرَى فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا يُوجِبُ رَفْعَ شَيْءٍ ، فَيُؤَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ .
وَلَنَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ .
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ } ؛ وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمَعْنًى ، ذَلِكَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ هُنَاكَ ثُمَّ سَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهِ فِي كُلِّ مَحِلٍّ ، وَتَكْرَارُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، فَأُخِّرَ إلَى وَقْتِ السَّلَامِ احْتِرَازًا عَنْ التَّكْرَارِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ أَيْضًا عَنْ السَّلَامِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنْ السَّهْوِ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ ؛ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهَا ، فَلَوْ أَتَى بِالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ الْجَابِرُ لِلنُّقْصَانِ مُوجِبًا زِيَادَةَ نَقْصٍ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ .
( وَأَمَّا ) الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفِعْلِ
مُتَعَارِضَةٌ فَبَقِيَ لَنَا رِوَايَةُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ ، أَوْ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا لِمُعَاضَدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى إيَّاهُ ، أَوْ يُوَفَّقُ فَيُحْمَلُ مَا رَوَيْنَا عَلَى أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سَوَاءٌ فَكَانَ مُحْكَمًا ، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الثَّانِي ، فَكَانَ مُتَشَابِهًا فَيُصْرَفُ إلَى مُوَافَقَةِ الْمُحْكَمِ ، وَهُوَ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ رَدًّا لِلْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْكَمِ وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ نَقَصَ أَوْ زَادَ ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ نُقْصَانًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَهَا مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ مَاذَا يَفْعَلُ ؟ وَتَكْرَارُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَلْزَمَ مَالِكًا بَيْنَ يَدَيْ الْخَلِيفَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ زَادَ وَنَقَصَ كَيْف يَصْنَعُ ؟ فَتَحَيَّرَ مَالِكٌ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ أَحَدِ مَعْنَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْجَابِرَ يَحْصُلُ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ بِالْإِجْمَاعِ ، بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُ لِمَعْنًى يُوجِبُ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْجَبْرَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا حَالَ قِيَامِ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَنَعَمْ ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَاطِعٌ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ أَوْ يَقْطَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ بِالْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ
الثَّانِي يُسَلِّمُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَعُودُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي بِالدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ وَهُوَ سُجُودُ السَّهْوِ ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَرَاغُ ، فَلِذَلِكَ كَانَ التَّأْخِيرُ إلَى التَّشَهُّدِ الثَّانِي أَحَقَّ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِدَعَوَاتٍ تُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ لِئَلَّا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانَ مَحَلِّهِ الْمَسْنُونِ .
وَأَمَّا مَحِلُّ جَوَازِهِ فَنَقُولُ : جَوَازُ السُّجُودِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ السَّلَامِ ، حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ يَجُوزُ وَلَا يُعِيدُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ سُنَّتَهُ وَهُوَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ ، وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ بَعْدَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ كَانَ تَكْرَارًا ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا قَدْرُ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الزَّاهِدِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيِّ وَقَالَ : لَوْ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ تَبْطُلُ التَّحْرِيمَةُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ لِمَعْنَى التَّحِيَّةِ ، وَمَعْنَى التَّحِيَّةِ سَاقِطٌ عَنْ سَلَامِ السَّهْوِ ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ ، فَكَانَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ } ذَكَرَ السَّلَامَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَبْسِ أَوْ إلَى الْمَعْهُودِ وَهُمَا التَّسْلِيمَتَانِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا عَمَلُ سَلَامِ السَّهْوِ أَنَّهُ هَلْ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا ؟ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ : إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَطَعَ ، حَتَّى لَوْ ضَحِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : لَا تَوَقُّفَ فِي انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَلْ تَنْقَطِعُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عِنْدَهُمَا فِي عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا ، إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ تَعُدْ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ ، وَبُطْلَانُهَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِإِعَادَةٍ ، وَلَمْ تُوجَدْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِّعَتَا لِجُبْرَانِ النُّقْصَانِ ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ إنْ حَصَلَتَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مَا يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هَذَا السَّلَامِ ، فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ ، وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً ، فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلَّلًا فِي الشَّرْعِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَتَحْلِيلُهَا ، التَّسْلِيمُ ، وَالتَّحْلِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ ،
وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ، وَإِنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ فِي التَّحْرِيمَةِ لِيَلْتَحِقَ الْجَابِرُ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيُجْبَرُ النُّقْصَانُ ، فَنَفَيْنَا التَّحْرِيمَةَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ فَيَعْمَلُ السَّلَامُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَإِبْطَالُ التَّحْرِيمَةِ عَمَلَهُ .
وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إحْدَاهَا : إذَا قَهْقَهَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقَهْقَهَةِ : أَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَا تُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ ، كَمَا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ .
وَالثَّانِيَةُ إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى السُّجُودِ - فَاقْتِدَاؤُهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، فَإِنْ عَادَ إلَى السُّجُودِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ ، وَقَالَ بِشْرٌ : لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أَوْ لَمْ يُعِدْ ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السَّلَامَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ جَزْمًا .
وَالثَّالِثَةُ : الْمُسَافِرُ إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ - لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ - رَجُلٌ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ، إلَّا عِنْدَ بِشْرٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيُؤَخِّرُ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ سِيَّمَا إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ ، أَوْ سَاهٍ عَنْهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَوْ لَا يَسْجُدَ حَتَّى لَا يَسْقُطَ عَنْهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ السَّلَامِ إلَّا إذَا فَعَلَ فِعْلًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّهُ وَهُوَ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةَ فَوَاتِ مَحَلِّهِ ، وَكَذَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ احْمَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ سَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جَبْرٌ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ ، وَقَدْ وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا يُقْضَى النَّاقِصَ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَسُجُودُ السَّهْوِ ، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْمُنْفَرِدِ مَقْصُودًا لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُمَا وَهُوَ السَّهْوُ ، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِمَامِ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ مِمَّنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ سَهْوُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السُّجُودِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ لِتَعَذُّرِ السُّجُودِ عَلَيْهِ ، فَسَقَطَ السُّجُودُ عَنْهُ أَصْلًا ، وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ وَهُوَ الْمُدْرِكُ لِأَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا فَاتَهُ بَعْضُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ بِسَبَبِ النَّوْمِ أَوْ الْحَدَثِ السَّابِقِ ، بِأَنْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ انْتَبَهَ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَوْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ فَرَغَ عَنْهَا - فَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَسَهَا فِيهِ - لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَجَبَ عَلَيْهِ السَّهْوُ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ؟ .
وَأَمَّا الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ ثُمَّ قَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَسَهَا هَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ ؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ : إنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ كَاللَّاحِقِ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُؤَدِّيهِ
بِتِلْكَ التَّحْرِيمَةِ كَاللَّاحِقِ ، وَلِهَذَا لَا يَقْرَأُ كَاللَّاحِقِ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِإِمَامِهِ إلَّا بِقَدْرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَارَ مُنْفَرِدًا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا لَا يَقْرَأُ فِيمَا يُتِمُّ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَقَدْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا فَكَانَتْ قِرَاءَةً لَهُ ، وَسَهْوُ الْإِمَامِ يُوجِبُ السُّجُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُقْتَدِي ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَابِعْ إمَامَكَ عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدْتَهُ } وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ ، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ ثَبَتَ بِوُجُودِ السَّبَبِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ سَهْوُ الْإِمَامِ سَبَبًا لِوُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُقْتَدِي ، وَلِهَذَا لَوْ سَقَطَ عَنْ الْإِمَامِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يَسْقُطُ عَنْ الْمُقْتَدِي ، وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ إذَا سَهَا فِي حَالِ نَوْمِ اللَّاحِقِ ، أَوْ ذَهَابِهِ إلَى الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَهُ ، وَلَكِنْ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إذَا انْتَبَهَ فِي حَالِ اشْتِغَالِ الْإِمَامِ بِسُجُودِ السَّهْوِ ، أَوْ جَاءَ إلَيْهِ مِنْ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، بَلْ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَوْ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ حَيْثُ تَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالْإِتْمَامِ .
( وَالْفَرْقُ ) أَنَّ اللَّاحِقَ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا اقْتَدَى بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا فَصَّلَ الْإِمَامُ ، وَأَنَّهُ اقْتَدَى بِهِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَيُتَابِعُهُ فِي جَمِيعِهَا عَلَى نَحْوِ مَا يُؤَدِّي الْإِمَامُ ، وَالْإِمَامُ أَدَّى الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَكَذَا هُوَ ، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُتَابَعَتَهُ بِقَدْرِ
مَا هُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا الْقَدْرَ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ ثُمَّ يَنْفَرِدُ ، وَكَذَا الْمُقِيمُ الْمُقْتَدِي بِالْمُسَافِرِ .
وَلَوْ سَجَدَ اللَّاحِقُ مَعَ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ تَابَعَهُ فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ أَوَانِهِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِمَامِ سَهْوٌ - حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابَعَ الْإِمَامَ وَمَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ : لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ ، ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ لَيْسَ لِزِيَادَةِ السَّجْدَتَيْنِ بَلْ لِلِاقْتِدَاءِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ مُقْتَدٍ فِي جَمِيعِ مَا يُؤَدِّي ، فَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَانَ سَهْوُهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ قَبْلَهُ بِأَنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ وَقَدْ سَهَا الْإِمَامُ فِيهَا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ فِي السَّلَامِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمُتَابَعَةُ فِي السَّهْوِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤَدَّى فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً ، وَإِذَا بَقِيَتْ الصَّلَاةُ بَقِيَتْ التَّبَعِيَّةُ فَيُتَابِعُهُ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ ، وَالتَّلْبِيَةِ حَتَّى لَا يُلَبِّيَ الْمَسْبُوقُ ، وَلَا يُكَبِّرَ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالتَّلْبِيَةَ لَا يُؤَدَّيَانِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ .
وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ
لَا يَصِحُّ ؟ بِخِلَافِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَإِنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ ، وَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
( فَإِنْ ) قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْهُو فِيمَا يَقْضِي فَيَلْزَمُهُ السُّجُودُ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَابَعَهُ فِي السُّجُودِ يَقَعُ سُجُودُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ - ( فَالْجَوَابُ ) أَنَّ التَّكْرَارَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَهُمَا صَلَاتَانِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ ، وَنَظِيرُهُ الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ فَسَهَا الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ الْمُقِيمُ فِي السَّهْوِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَدِي رُبَّمَا يَسْهُو فِي إتْمَامِ صَلَاتِهِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّهْوِ يَسْجُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُنْفَرِدًا فِي ذَلِكَ كَانَا صَلَاتَيْنِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً كَذَا هَهُنَا ، ثُمَّ الْمَسْبُوقُ إنَّمَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي السَّهْوِ دُونَ السَّلَامِ ، بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُسَلِّمَ فَيَسْجُدَ فَيُتَابِعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا فِي سَلَامِهِ .
وَإِنْ سَلَّمَ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ ، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي بَاطِلٌ ، فَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ لِلسَّهْوِ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ وَيُتَابِعُهُ فِي التَّشَهُّدِ ، وَلَا يُسَلِّمُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّلَامَ لِلْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ فَإِذَا سَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لَهُ لَا تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الصَّلَاةِ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِ
سَلَامِهِ ؟ يَنْظُرُ إنْ سَلَّمَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَوْ سَلَّمَا مَعًا لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُقْتَدِي ، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي مُتَعَطِّلٌ ، وَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُنْفَرِدِ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ .
وَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَتَابَعَهُ فِيهِمَا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ .
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِتْمَامِ ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبُوقِينَ ، إذْ لَمْ يُدْرِكُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ ، وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ لِإِدْرَاكِهِمْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَلَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي السَّهْوِ - سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يُقْضَى ، وَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي فَصَارَ كَمَنْ لَزِمَتْهُ السَّجْدَةُ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا وَدَخَلَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى ، لَا يَسْجُدُ فِي الثَّانِيَةِ بَلْ يَسْقُطُ كَذَا هَذَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ التَّحْرِيمَةَ مُتَّحِدَةٌ ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْنِي مَا يُقْضَى عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ ، فَجَعَلَ الْكُلَّ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ صَلَاةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَمَكَّنَ فِيهَا النُّقْصَانُ بِسَهْوِ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يُجْبَرْ ذَلِكَ بِالسَّجْدَتَيْنِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : نَعَمْ فِي الْأَفْعَالِ ، أَمَّا هُوَ مُقْتَدٍ فِي التَّحْرِيمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ غَيْرِهِ ؟ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمَةِ .
وَلَوْ سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِ الْإِمَامِ كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِسَهْوِهِ وَلِمَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ ؛
لِأَنَّ تَكْرَارَ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَوْ سَجَدَ لِسَهْوِ الْإِمَامِ ثُمَّ سَهَا فِيمَا يَقْضِي فَعَلَيْهِ السَّهْوُ لِمَا مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ إذًا سَهْوَانِ فِي صَلَاتَيْنِ حُكْمًا ، فَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا .
وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ لِلسَّهْوِ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَمَّا إنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ السُّجُودِ ، أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ ، أَوْ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ السُّجُودِ أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَسُجُودُ السَّهْوِ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ السَّجْدَةِ الْأُولَى إذَا أَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّهْوُ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِي تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ ، وَحِينَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ مَا يَرْتَفِعُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ قَدْ أَتَى بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَانْجَبَرَ النَّقْصُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ شَيْئًا ، ثُمَّ لَمْ يُتَابِعْ إمَامَهُ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ حَيْثُ يَسْجُدُ السَّجْدَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَتَحْرِيمَتُهُ نَاقِصَةٌ نُقْصَانًا لَا يَنْجَبِرُ إلَّا بِسَجْدَتَيْنِ ، وَبَقِيَ النُّقْصَانُ لِانْعِدَامِ الْجَابِرِ فَيَأْتِي بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ السَّهْوُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ السُّجُودِ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِسَبَبِ سَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِي تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ ، وَحِينَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ النَّقْصُ انْجَبَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ ، وَلَا يُعْقَلُ وُجُودُ الْجَابِرِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَهَذَا لَا يَخْلُو : إمَّا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا تَوَضَّأَ وَسَجَدَ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ وَلَا يَمْنَعُ بِنَاءَ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَلَى الْبَعْضِ ؛ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بِنَاءَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ، فَيُقَدِّمَ الْخَلِيفَةَ لِيَسْجُدَ كَمَا لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ أَوْ التَّسْلِيمُ ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْمَسْبُوقَ وَلَا لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَتَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، بَلْ يُقَدِّمُ رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُسَلِّمُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَهُ أَوْ تَقَدَّمَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَا يَأْتِي بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ السُّجُودِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ ، فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَيَتَأَخَّرُ وَيُقِيمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ .
وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ، وَيَسْجُدُ هُوَ مَعَهُمْ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ خَلِيفَتِهِ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ الْمَسْبُوقُ مُدْرِكًا ، وَكَانَ الْكُلُّ مَسْبُوقِينَ ، قَامُوا وَقَضَوْا مَا سُبِقُوا بِهِ فُرَادَى ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ ، ثُمَّ إذَا فَرَغُوا لَا يَسْجُدُونَ فِي الْقِيَاسِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْجُدُونَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ .
وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الْإِمَامُ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ
الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ فَسَجَدَهُمَا - يَعُودُ إلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَقْتَدِي وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا قَرَأَ وَرَكَعَ .
( وَالْجُمْلَةُ ) فِي الْمَسْبُوقِ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا قَامَ إلَيْهِ وَقَضَاهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ، أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ كَانَ مَا قَامَ إلَيْهِ وَقَضَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَمْ يَنْفَرِدْ الْمَسْبُوقُ بِهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَتَهُ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ فَبَقِيَ مُقْتَدِيًا ، وَقِرَاءَةُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ لَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةً مِنْ صَلَاتِهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ قِيَامِهِ ، وَقِرَاءَتُهُ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَوُجِدَ بَعْدَ مَا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ قَدْرَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ - جَازَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْفَرَدَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِانْقِضَاءِ أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، فَقَدْ أَتَى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فِي أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَوْ وُجِدَ الْقِيَامُ دُونَ الْقِرَاءَةِ - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِانْعِدَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فِي أَوَانِهِ .
وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ ، ثُمَّ رَكَعَ وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ - جَازَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَفَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، وَلَا يُعْتَدُّ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ وُجِدَ الْقِيَامُ وَإِنْ قَلَّ فِي
هَذِهِ الرَّكْعَةِ ، وَوُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ ، فَقَدْ أَتَى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ - فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ .
وَإِنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ أَنْجَزَ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قِيَامٌ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَامُ بَعْدَ تَشَهُّدِ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ .
وَأَمَّا إذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ فَقَضَاهُ - أَجْزَأَهُ وَهُوَ مُسِيءٌ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ قِيَامَهُ حَصَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ انْتِظَارَ سَلَامِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ قِيَامِهِ لِلْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ الْقِيَامَ عَنْ السَّلَامِ .
وَلَوْ قَامَ بَعْدَمَا سَلَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَخَرَّ لَهُمَا فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَمَّا إنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رُفِضَ ذَلِكَ وَيَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَيْسَ بِفِعْلٍ كَامِلٍ ، وَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلرَّفْضِ ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ قَبْلَ التَّمَامِ مَنْعًا لَهُ عَنْ الثُّبُوتِ حَقِيقَةً ، فَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ ، فَيَعُودُ وَيُتَابِعُ إمَامَهُ ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ ، وَبَطَلَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَمَضَى عَلَى قَضَائِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ ، وَالْبَاقِي عَلَى الْإِمَامِ سُجُودُ السَّهْوِ وَهُوَ وَاجِبٌ ، وَالْمُتَابَعَةُ فِي الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ ، فَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ ، أَلَا تَرَى لَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ؟ فَكَذَا الْمَسْبُوقُ ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ
الْفَرَاغِ مِنْ قَضَائِهِ اسْتِحْسَانًا .
وَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قَدْ تَمَّ وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ رُكْنٌ وَلَوْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِغَيْرِهِ بَعْدَ وُجُودِ الِانْفِرَادِ وَوُجُوبِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ .
وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فَسَجَدَهَا فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ - لِمَا مَرَّ - فَيَسْجُدَ مَعَهُ لِلتِّلَاوَةِ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَيَقُومَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبْلُ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِرْ مُنْفَرِدًا ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ دُونَ فِعْلِ صَلَاةٍ فَتُرْتَفَضُ الْقَعْدَةُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ، فَإِذَا ارْتَفَضَتْ فِي حَقِّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْفِرَادُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَانُ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ ، وَالِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَمَضَى عَلَيْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، ( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ انْفَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ ، وَالِانْفِرَادُ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ .
( وَجْهُ ) نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ ارْتِفَاضَ الْقَعْدَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْعَوْدِ إلَى التِّلَاوَةِ ، وَالْعَوْدُ حَصَلَ بَعْدَمَا تَمَّ انْفِرَادُهُ عَنْ الْإِمَامِ ، وَخَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ
فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّلَاةِ لَوْ ارْتَفَضَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُؤْتَمِّ ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْقَوْمِ ، فَفِي حَقِّ الْقَعْدَةِ أَوْلَى ، وَلِذَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِقَوْمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَهَا - ارْتَفَضَ ظُهْرُهُ ، وَلَمْ يَظْهَرْ الرَّفْضُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْفِرَادُ لَمْ يَتِمَّ عَلَى مَا قَرَرْنَا ( وَنَظِيرُ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ وَقَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ بَعْدَمَا تَشَهَّدَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ، ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ حَتَّى تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا - فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَمَضَى عَلَيْهَا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ .
وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ وَلَوْ لَمْ يُعِدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ ، وَإِنْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عَادَ إلَى الْمُتَابَعَةِ أَوْ لَمْ يَعُدْ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ ، وَعَلَى الْإِمَامِ رُكْنَانِ : السَّجْدَةُ ، وَالْقَعْدَةُ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ إكْمَالِ الرَّكْعَةِ ، وَلَوْ انْتَقَلَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَعَجَزَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى .
( رَجُلٌ ) صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ لَمْ يَقْعُدْ ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْ فَإِنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَتَّى تَذَكَّرَ - يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيُتِمَّهَا وَيُسَلِّمْ لِمَا مَرَّ .
وَإِنْ قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ثُمَّ عِنْدَنَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ أَوْ فِي الْعِشَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَا لَهُ نَفْلًا ، إذْ التَّنَفُّلُ بَعْدَهُمَا جَائِزٌ ، وَمَا دُونَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ صَلَاةً تَامَّةً ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَاَللَّهِ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ .
وَإِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ لَا يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى بَلْ يَقْطَعْ ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا شَرَعَ فِيهِ قَصْدًا ، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِيهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ فَلَا يُكْرَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فِي الظُّهْرِ بَلْ قَطَعَهَا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ .
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ وَالصَّوْمِ الْمَظْنُونِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ هَهُنَا فِي الْخَامِسَةِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى فِي الظُّهْرِ هَلْ تُجْزِئُ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عَنْ السُّنَّةِ الَّتِي بَعْدَ الظُّهْرِ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : يُجْزِيَانِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَيْسَتْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ يُؤَدَّيَانِ نَفْلًا وَقَدْ وُجِدَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَا يُجْزِيَانِ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بِنَاءً عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهَا ، فَلَمْ يُوجَدْ هَيْئَةُ السُّنَّةِ فَلَا
تَنُوبُ عَنْهَا ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَرَاجِرِيِّ ثُمَّ إذَا أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فَعَلَيْهِ السَّهْوُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ تَمَكَّنَ فِي الْفَرْضِ وَقَدْ أَدَّى بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا بَنَى النَّفَلَ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَقَدْ تَمَكَّنَ فِيهَا النَّقْصُ بِالسَّهْوِ فَيُجْبَرُ بِالسَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْبُوقِ .
( ثُمَّ ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي الْفَرْضِ أَوْ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ فِي النَّفْلِ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي النَّفْلِ لِدُخُولِهِ فِيهِ لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلنَّقْصِ الَّذِي تَمَكَّنَ فِي الْفَرْضِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ انْقَطَعَتْ تَحْرِيمَةُ الْفَرْضِ بِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ ، فَلَا وَجْهَ إلَى جَبْرِ نُقْصَانِ الْفَرْضِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَانْقِطَاعِ تَحْرِيمَتِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ ؛ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ وَوَصْفِهَا ، وَبِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ انْقَطَعَ الْوَصْفُ لَا غَيْرُ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِنَاءَ النَّفْلِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الِاقْتِدَاءِ حَتَّى جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ ؟ فَكَذَا بِنَاءُ فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ فَرْضِهِ يَكُونُ جَائِزًا ، وَالْأَصْلُ فِي الْبِنَاءِ هُوَ الْبِنَاءُ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ .
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ إنْسَانٌ وَاقْتَدَى بِهِ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَوْ أَفْسَدَهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَمِنْ هَذَا صَحَّحَ مَشَايِخُ بَلْخٍ اقْتِدَاءَ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ فِي التَّطَوُّعَاتِ فَقَالُوا : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ ، اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي سِتًّا وَلَوْ أَفْسَدَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ تُجْعَلَ السَّجْدَتَانِ جَبْرًا لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ إحْرَامٌ وَاحِدٌ ، فَيَنْجَبِرُ بِهِمَا النَّقْصُ الْمُتَمَكَّنُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ قَيَّدَ فَسَدَ فَرْضُهُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ ، وَيَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْفَرْضِ بِلَفْظِ السَّلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْكَامِلَةَ فِي احْتِمَالِ النَّقْصِ وَمَا دُونِهَا سَوَاءٌ ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْخَامِسَةَ بِسَجْدَةٍ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَا أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ .
( وَلَنَا ) مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةَ حُصُولِهِ فِي النَّفْلِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِيهِمَا ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ بَقَاءِ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ : صَلَّى الظُّهْرَ وَالظُّهْرُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا ، وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْقَعْدَةَ
الْأُولَى ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ الْفَسَادُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِوَضْعِ رَأْسِهِ بِالسَّجْدَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِرَفْعِ رَأْسِهِ عَنْهَا ، حَتَّى لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ ، وَيَتَوَضَّأَ ، وَيَعُودَ ، وَيَتَشَهَّدَ ، وَيُسَلِّمَ ، وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ الْحَدَثِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِنَفْسِ الْوَضْعِ فَلَا يَعُودُ ، ثُمَّ الَّذِي يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْفَرْضِيَّةُ لَا أَصْلُ الصَّلَاةِ ، حَتَّى كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فَتَصِيرَ السِّتُّ لَهُ نَفْلًا ، ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِيَّةِ مَتَى بَطَلَتْ بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَبْطُلُ ، وَهَذَا الْخِلَافُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَ مِنْ مَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْأَصْلِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ قَبْلَ إتْمَامِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَهْقَهَ - تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ لَا تُنْتَقَضُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ نَفْلًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ ، وَكَذَا تَرْكُ الْقَعْدَةِ فِي كُلِّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ عِنْدَهُ مُفْسِدٌ ، وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُفْسِدٍ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا شُعَبٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِ تَفَاصِيلِهَا وَجُمَلِهَا وَمَعَانِي الْفُصُولِ وَعِلَلِهَا حَالَّةً إلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ فُرُوعِهَا دَخَلَ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ ، لِمَا أَنَّ لَهَا فُرُوعًا أُخَرَ لَا تُنَاسِبُ مَسَائِلَ الْفَصْلِ ، وَكَرِهْنَا قَطْعَ الْفَرْعِ عَنْ الْأَصْلِ ، فَرَأَيْنَا الصَّوَابَ فِي إيرَادِهَا
بِفُرُوعِهَا فِي آخِرِ الْفَصْلِ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ أَدَائِهَا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَائِعَ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ فَلَوْ كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةً لَمَا اُحْتُمِلَ تَرْكُ الْبَيَانِ بَعْدَ السُّؤَالِ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَشَوَّفَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ : أَمَا إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ .
( وَلَنَا ) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا تَلَا ابْنُ آدَمَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ : أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَلَمْ أَسْجُدْ فَلِيَ النَّارُ } ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَكِيمَ مَتَى حَكَى عَنْ غَيْرِ الْحَكِيمِ أَمْرًا وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالنَّكِيرِ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَوَابٌ فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ ابْنِ آدَمَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا بِتَرْكِ السُّجُودِ فَقَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ
بِالسُّجُودِ وَإِلْزَامٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْقَلَمِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اسْتِكْبَارِ الْكَفَرَةِ عَنْ السُّجُودِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ بِتَحْصِيلِهِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } وَعَنْ عُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ تَلَاهَا ، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهَا ، وَعَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ وَعَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَفِيهِ بَيَانُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً لَا مَا يَجِبُ بِسَبَبٍ يُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَنْذُورَ وَهُوَ وَاجِبٌ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ : إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا بَلْ أُوجِبَتْ ، وَفَرْقٌ بَيْن الْفَرْضِ وَالْوَاجِب عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ مُطْلَقَةٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَتَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا ، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ .
( وَأَمَّا ) فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّضْيِيقِ وَهُوَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانًا فِيهَا ، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبُ نُقْصَانًا ، وَإِذَا الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَدَاؤُهَا مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّضْيِيقِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى السُّجُودَ لَمْ يُجْزِهِ .
وَكَذَا إذَا نَوَاهَا فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يَتَحَقَّقُ عَادَةً وَالْجَوَازُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَنْ يَكُونَ إلَّا لِخَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدِ وَلَا خَوْفَ هَهُنَا لِانْعِدَامِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا بِالْإِجْمَاعِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ : التِّلَاوَةُ ، أَوْ السَّمَاعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ مُوجِبٌ فَيَجِبُ عَلَى التَّالِي الْأَصَمِّ وَالسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يَتْلُ .
أَمَّا التِّلَاوَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا السَّمَاعُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْحَقَ اللَّائِمَةَ بِالْكُفَّارِ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } ، وَقَالَ تَعَالَى { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا } الْآيَةَ ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ التَّالِي وَالسَّامِعِ ، وَرَوَيْنَا عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ بِالسَّمَاعِ كَمَا تَلْزَمُهُ بِالتِّلَاوَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ لِحُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَخْضَعُ بِالْقِرَاءَةِ .
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي حَقِّ التَّالِي بَيْنَ مَا إذَا تَلَا السَّجْدَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ السُّجُودُ فِي الْحَالَيْنِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ السَّامِعِ فَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا : يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِمَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزَةٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي : إنْ كَانَ السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْفَارِسِيَّةَ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ سَوَاءٌ فُهِمَ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ
قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ وَإِنْ فُهِمَ .
اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ وَهُمَا : التِّلَاوَةُ ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ تَلَا السَّجْدَةَ ثُمَّ سَمِعَهَا ، أَوْ سَمِعَهَا ثُمَّ تَلَاهَا أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ : الْأَصْلُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ ، أَوْ التِّلَاوَةُ ، أَوْ السَّمَاعُ حَتَّى أَنَّ مَنْ تَلَا آيَةً وَاحِدَةً مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مُعَلِّمِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ الْآيَةَ مِرَارًا وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ آيَةَ السَّجْدَةِ حِينَ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةَ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ جَامِعٌ لِلْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ السَّجْدَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إيقَاعٌ فِي الْحَرَجِ لِكَوْنِ الْمُعَلِّمِينَ مُبْتَلِينَ بِتَكْرَارِ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ لِلتِّلَاوَةِ فَأَمَّا التَّكْرَارُ فَلَمْ يَكُنْ لِحَقِّ التِّلَاوَةِ بَلْ لِلتَّحَفُّظِ أَوْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهِ فَجُعِلَ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ مِنْ
أَفْعَالِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ ، كَذَا عَلَّلَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ .
( وَأَمَّا ) الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكُتُبِ وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا عَلَى السَّجْدَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجْفُونِي بَعْدَ مَوْتِي فَقِيلَ لَهُ : وَكَيْفَ نَجْفُوَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : أَنْ أُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ } وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَتَدَاخَلُ ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إنَّ مَنْ عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يُشَمِّتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَاطِسِ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ : قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّكَ مَزْكُومٌ .
( ثُمَّ ) لَا فَرْقَ هَهُنَا بَيْنَ مَا إذَا تَلَا مِرَارًا ثُمَّ سَجَدَ وَبَيْنَ مَا إذَا تَلَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا بَعْدَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى مِرَارًا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ حُدَّ ثُمَّ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ تَكَرَّرَ السَّبَبُ لِمُسَاوَاةِ كُلِّ فِعْلٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَأْثَمِ ، وَالْقُبْحِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ ، وَكُلِّ مَعْنًى صَارَ بِهِ الْأَوَّلُ سَبَبًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ جُعِلَ ذَلِكَ حُكْمًا لِكُلِّ سَبَبٍ فَجُعِلَ بِكَمَالِهِ حُكْمًا لِهَذَا وَحُكْمًا لِذَاكَ وَجُعِلَ كَأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَيْسَ
مَعَهُ غَيْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَإِذَا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ انْعَقَدَ سَبَبًا كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَهُنَا السَّبَبُ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ السَّبَبُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَبَدَّلُ بِتَخَلُّلِ السَّجْدَةِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ التَّخَلُّلِ لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِحَقِّ التَّأَمُّلِ وَالتَّحَفُّظِ فِي الْحَالَيْنِ .
وَكَذَا السَّامِعُ لَتِلْكَ التِّلَاوَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهَا فِي حَقِّهِ جُعِلَ غَيْرَ سَبَبٍ بَلْ تَبَعًا لِلتَّأَمُّلِ وَالْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْإِعَانَةَ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّدَبُّرِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ إنْسَانٌ آخَرُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ أَوْ الرَّابِعَةَ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَوَّلَ مَا سَمِعَ حَيْثُ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ تِلَاوَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ جُعِلَتْ سَاقِطَةً فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ فِي حَقِّهِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ بَقِيَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا .
وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ النُّصُوصَ مُنْعَدِمَةً وَالْجَامِعُ وَهُوَ الْمَجْلِسُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَمَعْنَى التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ زَائِلٌ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَجْلِسِ الْآخَرِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ لِيَنَالَ ثَوَابَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْضًا .
أَمَّا النُّصُوصُ فَلَا تُشْكِلُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَا يَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرِ بِمِائَةِ
دِينَارٍ وَلِعَبْدِهِ بِالْعِتْقِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَجْعَلُ الْمَجْلِسُ الْكُلَّ إقْرَارًا وَاحِدًا ، وَكَذَا الْحَرَجُ مُنْتَفٍ ، وَكَذَا التِّلَاوَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ فِي الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَكَان وَذَهَبَ عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا فَعَلَيْهِ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فَتَجَدَّدَ السَّبَبُ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ أُخْرَى وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَلَاهَا فِي مَكَانِهِ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ يَزْحَفُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً أُخْرَى فَيُعَلِّمُهُمْ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَوْضِعٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَسْمَعُهَا ثُمَّ ذَهَبَ التَّالِي عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا وَالسَّامِعُ عَلَى مَكَانِهِ سَجَدَ التَّالِي لِكُلِّ مَرَّةٍ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ .
وَأَمَّا السَّامِعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ مَا حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فِي حَقِّهِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّالِي عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ وَالسَّامِعُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَسْمَعُ تِلْكَ الْآيَةِ سَجَدَ السَّامِعُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً وَلَيْسَ عَلَى التَّالِي إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ تَلَاهَا فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَفِي حَقِّ السَّجْدَةِ أَوْلَى ، وَكَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالْمَحْمَلُ وَالسَّفِينَةُ فِي حُكْمِ التِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ السَّفِينَةُ وَاقِفَةً ، أَوْ جَارِيَةً بِخِلَافِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَلَوْ تَلَاهَا وَهُوَ يَمْشِي لَزِمَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ لِتَبَدُّلِ الْمَكَانِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ بَحْرٍ
لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ يَسْبَحُ فِي حَوْضٍ أَوْ غَدِيرٍ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ قِيلَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى غُصْنٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غُصْنٍ آخَرَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَكَذَا التِّلَاوَةُ عِنْدَ الْكِرْسِ ، وَقَالُوا فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ إنَّهُ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ .
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ إنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَهَا فِي السَّفِينَةِ وَهِيَ تَجْرِي حَيْثُ تَكْفِيهِ وَاحِدَةٌ .
( وَالْفَرْقُ ) أَنَّ قَوَائِمَ الدَّابَّةِ جُعِلَتْ كَرِجْلَيْهِ حُكْمًا لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهَا فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ فَكَانَ تَبَدُّلُ مَكَانِهَا كَتَبَدُّلِ مَكَانِهِ فَحَصَلْت الْقِرَاءَةُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ بِخِلَافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ رِجْلَيْ الرَّاكِبِ لِخُرُوجِهَا عَنْ قَبُولِ تَصَرُّفِهِ فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ وَلِهَذَا أُضِيفَ سَيْرُهَا إلَيْهَا دُونَ رَاكِبِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ } وَقَالَ { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } فَلَمْ يَجْعَلْ تَبَدُّلَ مَكَانِهَا تَبَدُّلَ مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ مَا اسْتَقَرَّ هُوَ فِيهِ مِنْ السَّفِينَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ وَذَلِكَ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَكَانَتْ التِّلَاوَةُ مُتَكَرِّرَةً فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَمْ يَجِبْ لَهَا إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الْبَيْتِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ بِأَنْ سَمِعَهَا مِنْ غَيْره مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِ السَّامِعِ ، هَذَا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَيْثُ جَوَّزَ صَلَاتَهُ عَلَيْهَا مَعَ حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْقَطَ
اعْتِبَارَ اخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ أَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَهْرَ الدَّابَّةِ لَا مَا هُوَ مَكَانُ قَوَائِمِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَغْيِيرٍ لِلْحَقِيقَةِ أَوْ هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا لَهَا وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالظَّهْرُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَارَ رَاكِبُ الدَّابَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ أَمْكِنَةَ قَوَائِمِ الدَّابَّةِ لَصَارَ هُوَ مَاشِيًا بِمَشْيِهَا ، وَالصَّلَاةُ مَاشِيًا لَا تَجُوزُ .
( وَأَمَّا ) إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْفِيَهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ إحْدَاهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ رَهْنًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ أَنْ يُخَيَّرَ الْمَوْلَى ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُخَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يُخَيَّرُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ وَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيمَا إذَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكَانَ هَهُنَا وَإِنْ اتَّحَدَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً مُسْتَحَقَّةً فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا لِلْأُولَى وَالْتَحَقَتْ الْقِرَاءَةُ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لَخَلَتْ الثَّانِيَةُ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَلَفَسَدَتْ وَحَيْثُ لَمْ تَفْسُدْ دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ مُكَرَّرَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ جَعْلُ التِّلَاوَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ مُتَّحِدَةً حُكْمًا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَكَانَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيُوجِبُ كَوْنَ الثَّانِيَةِ تَكْرَارًا لِلْأُولَى كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَهَا حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ ،
وَوُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَحِقَةً بِالْأُولَى فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ فَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَسَجَدَ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى .
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَلْزَمُهُ أُخْرَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا ، أَوْ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا ، أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَتَبَدَّلُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَجْلِسُونَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الدَّرْسِ ، ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ النِّكَاحِ ، ثُمَّ بِالْبَيْعِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ ، ثُمَّ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْأَكْلِ ، ثُمَّ بِالْقِتَالِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْقِتَالِ فَصَارَ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كَتَبَدُّلِهِ بِالذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِمَا مَرَّ .
وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَسِيرًا ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا سَوَاءٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا طَالَ الْعَمَلُ اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ إذَا عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ يَدِهَا وَكَانَ قَطْعًا لِلْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ
شَرْبَةً .
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَهَا أَوْ أَطَالَ الْجُلُوسَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَيْسَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَطُولِ الْجُلُوسِ ، وَكَذَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّهْلِيلِ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَهَا وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَمْ يَتَبَدَّلْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ .
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ قِيَامٌ وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ كَأَكْلِ لُقْمَةٍ ، أَوْ شُرْبِ شَرْبَةٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا حَيْثُ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا مُوجِبُ الِاعْتِرَاض عَنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ إذْ التَّخْيِيرُ تَمْلِيكٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّمْلِيكُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا أَمْرٌ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَنْظُرَ أَيَّ ذَلِكَ أَعْوَدَ لَهَا وَأَنْفَعَ ، وَالْقُعُودُ أَجْمَعُ لِلذِّهْنِ وَأَشَدُّ إحْضَارًا لِلرَّأْيِ فَالْقِيَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ إلَى مَا يُوجِبُ تَفَرُّقَ الذِّهْنِ وَفَوَاتَ الرَّأْيِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ أَمَّا هَهُنَا فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَتَعَدُّدِهِ لَا بِالْإِعْرَاضِ وَعَدَمِهِ وَالْمَجْلِسُ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَلَمْ يَعْدُ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ فَقَعَدَ ثُمَّ أَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَرَأَهَا فِي مَكَان ثُمَّ قَامَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ عَلَى مَكَانِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلَوْ سَارَتْ الدَّابَّةُ ثُمَّ تَلَا
بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِهِ بِالنُّزُولِ أَوْ الرُّكُوبِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّزُولَ أَوْ الرُّكُوبَ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَلَا يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ سَارَ ثُمَّ نَزَلَ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِهِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا ثُمَّ قَامَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ وَرَكِبَ ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَعَادَهَا وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ أَنَّ النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ لَيْسَا بِمَكَانَيْنِ
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَتَلَاهَا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ صَارَتْ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ تَابِعَةً لِلْأُخْرَى فَتَسْتَتْبِعُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَهَا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْمَأْثَمُ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ ، وَكِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَصْلِ وَنَوَادِرِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ وَلَنَا عَلَى رِوَايَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو سُلَيْمَانَ لَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ الْأُولَى وَبَقِيَتْ السَّجْدَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ .
وَأَمَّا إذَا تَلَاهَا وَسَجَدَ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَأَعَادَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَسْجُدُ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَتَيْنِ ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَلِعَدَمِ الِاسْتِتْبَاعِ وَثُبُوتِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ فَلِكَوْنِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ تَابِعَةً لِلْمَوْجُودَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّابِعُ لَا يَسْتَتْبِعُ الْمَتْبُوعَ فَلَا تَصِيرُ السَّجْدَةُ لِتِلْكَ التِّلَاوَةِ مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ السَّجْدَةِ بِهَذِهِ التِّلَاوَةِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حُكْمًا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى وُجِدَتْ فِي مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةَ فِي مَجْلِسِ الصَّلَاةِ وَالْمَجْلِسُ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْأَفْعَالِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَجْلِسَ عَقْدٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ مُذَاكَرَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ أَكْلٍ وَاعْتُبِرَ هَذَا التَّبَدُّلُ فِي حَقِّ الْإِيجَابِ
وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْعُقُودِ وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فَكَذَا هَذَا ؛ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْحُكْمِيَّ مُلْحَقٌ بِالتَّعَدُّدِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْمَوَاضِعِ أَجْمَعَ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ وَحُكْمٍ وَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَفُوتُ لِالْتِحَاقِهَا بِأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَا هُوَ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لِلْأُولَى فَالْأُولَى أَيْضًا تَفُوتُ بِالسَّبْقِ فَلَا تَصِيرُ تَابِعَةً لِمَا بَعْدَهَا إذْ الشَّيْءُ لَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مَا قَبْلَهُ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَجْلِسَ صَلَاةٍ وَلَكِنْ فِي الصَّلَاةِ تِلَاوَةٌ مَفْرُوضَةٌ فَكَانَ مَجْلِسُ الصَّلَاةِ مَجْلِسَ التِّلَاوَةِ ضَرُورَةً فَلَمْ يُوجَدْ التَّبَدُّلُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ صِفَةِ الِاتِّحَادِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِلتِّلَاوَتَيْنِ الْمُتَعَدِّدَتَيْنِ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِصِفَةِ الِاتِّحَادِ وَهُوَ الْمَجْلِسُ الْمُتَّحِدُ ، وَكَذَا الْمُتَعَدِّدُ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا كَالسَّمَاعِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ سَبَبٌ ، ثُمَّ مَنْ قَرَأَ وَسَمِعَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْتَحَقَ السَّبَبَانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتَعَدِّدَ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا فَصَارَ مُتَّحِدًا حُكْمًا وَزَمَانُ وُجُودِ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ التِّلَاوَتَيْنِ وُجِدَتَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ مُتَقَرِّرَةٌ فِي مَحِلِّهَا بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ دُونَ جَوَازِ الصَّلَاةِ لَبَقِيَ التَّعَدُّدُ مِنْ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ
الِاتِّحَادِ ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمَوْجُودَةُ فِي الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ التَّفَكُّرِ لِتَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ دُونَ التَّفَكُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى كَأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تُلِيَتَا فِي الصَّلَاةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا .
وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَلَا تِلْكَ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَذَا وَاَلَّذِي تَلَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مَكَانَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَلَوْ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ سَلَّمَ فَأَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَهُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُخْرَى ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ .
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاةِ تَفُوتُ بِالسَّبْقِ ، وَحُرْمَةِ الصَّلَاةِ جَمِيعًا فَيَسْتَتْبِعُ الْأَدْنَى دَرَجَةً الْمُتَأَخِّرَةُ وَقْتًا وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حُكْمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَتْلُوَّةَ فِي الصَّلَاةِ لَا وُجُودَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا الْحُكْمُ فَإِنَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ لَا بَقَاءَ لِمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ أَصْلًا وَالْمَوْجُودُ هُوَ الَّذِي يُسْتَتْبَعُ دُونَ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأُولَى مَتْلُوَّةً خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ تِلْكَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التِّلَاوَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ وُجِدَتْ
وَالْأُولَى مَوْجُودَةٌ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ الْأَوْهَى .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَبِالسَّلَامِ لَمْ يَنْقَطِعْ فَوْرُ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا فِي الصَّلَاةِ وَوَضَعَهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ وَبِالْكَلَامِ يَنْقَطِعُ فَوْرُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ بَعْدَ السَّلَامِ يَأْتِي بِهَا وَبَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَأْتِي بِهَا ؟ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَجَدَهَا الْآنَ قَالَ فِي الْأَصْلِ : أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَسَجَدَ ، أَمَا لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْكَلَامِ .
تَلَاهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ سَمِعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ السَّمَاعِيَّةَ لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَاَلَّتِي أَدَّاهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تَنُوبُ عَمَّا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التِّلَاوَةَ الْأُولَى مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَالثَّانِيَةَ لَا فَحَصَلَتْ الثَّانِيَةُ تَكْرَارًا لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ فَجُعِلَ وَصْفُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ فَصَارَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَة ، وَقَالُوا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَيْضًا : تَكُونُ تَكْرَارًا ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَتَلْتَحِقُ بِالْأُولَى بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُلْحَقَةً بِالْأُولَى .
وَلَوْ سَمِعَهَا أَوَّلًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ تَلَاهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَلَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَانِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ تِلْكَ الْآيَةَ فَعَلَى هَذَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ عَنْ مَكَانِهِ فَسَمِعَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إذَا قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ وَقَرَأَ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَكَانُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَكَانُ قَدْ تَبَدَّلَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ .
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، وَسَمَاعُ السَّجْدَةِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَلَمْ
يَتَّحِدْ الْمَكَانُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ مَكَانًا وَاحِدًا حُكْمًا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجُعِلَتْ الْأَمْكِنَةُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ الْجَوَازِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهَا مُتَّحِدًا ، فَأَمَّا السَّمَاعُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَتَبْقَى الْأَمْكِنَةُ فِي حَقِّهِ مُتَفَرِّقَةً لِعَدَمِ ضَرُورَةٍ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ ، وَالْحَقَائِقُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا حُكْمًا إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ إمَامٍ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْهَا سَجَدَهَا مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ سَجَدَهَا الْإِمَامُ سَقَطَتْ عَنْهُ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ صَارَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُ وَجُعِلَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَهَا ثَانِيًا فَصَارَتْ تِلْكَ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ ثَانِيًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاة فَكَذَا هَهُنَا وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ .
وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِمَا سَمِعَ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ تَلَا مَا سَمِعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَسَجَدَ لَهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ .
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِتَكْرَارٍ لِلْأُولَى لِأَنَّ التَّكْرَارَ إعَادَةُ الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ وَهَهُنَا
الْأُولَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةُ وَاجِبَةٌ وَهِيَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفَ الْوَصْفُ فَلَمْ تَكُنْ إعَادَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ كَانَتَا جَمِيعًا خَارِجَ الصَّلَاةِ حَيْثُ كَانَ تَكْرَارًا لِاتِّحَادِ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَا كَانَ تَكْرَارًا بَلْ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَلَوْ بَاعَ فِي الثَّانِيَةِ بِأَلْفٍ كَانَ تَكْرَارًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَرَأَ آيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَكَان أَوْ آيَةً فِي مَكَانَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَرَأَ الْأُولَى وَسَجَدَ ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَأَعَادَهَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فِي الرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِإِعَادَةٍ وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَمَا لَزِمَهُ أُخْرَى .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ إعَادَةٌ لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِإِعَادَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ ؛ لِأَنَّ وَصْفَ كَوْنِهَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُولَى وَوُجِدَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ حُكْمًا لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى فَجُعِلَتْ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ كَأَنَّهَا عَيْنُ الْأُولَى فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلتِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى لِصَيْرُورَةِ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْأَوْلَى فَتَصِيرُ صِفَتُهَا صِفَةَ تِلْكَ فَصَارَتْ هِيَ أَيْضًا مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَجَدَ لِلْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ حُكْمًا بَلْ انْقَضَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ وَصْفُ الثَّانِيَةِ وَصْفًا لِلْأُولَى فَبَقِيَتْ الثَّانِيَةُ إعَادَةً مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ابْتِدَاءً مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَتَجِبُ سَجْدَةٌ أُخْرَى مِنْ
حَيْثُ الْوَصْفُ وَلَا تَجِبُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ جَانِبُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَتْبُوعُ لِمَا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْوُجُوبِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوَصْفِ فَوَجَبَتْ سَجْدَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْوَصْفِ مُوجِبٌ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ فَلَمْ يَقَعْ التَّعَارُضُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَقَرَأَ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ قَبْلَ هَذَا وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوهَا مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إمَّا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ السَّجْدَةِ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِسْلَامِ ، وَالْعَقْلِ ، وَالْبُلُوغِ ، وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَرَءُوا أَوْ سَمِعُوا ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَتَجِبُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَا تَجِبُ عَلَى السَّامِعِ بِتِلَاوَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمَجْنُونَ ؛ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ مِنْهُمْ صَحِيحَةٌ كَتِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْبَالِغِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ وَالْمُتَطَهِّرُ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّجْدَةِ بِقَلِيلِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ مَا دُونَ آيَةٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ النَّهْيُ فَيُنْظَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّالِي وَأَهْلِيَّتِهِ بِالتَّمْيِيزِ وَقَدْ وُجِدَ فَوُجِدَ سَمَاعُ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ فَتَجِبُ السَّجْدَةُ بِخِلَافِ السَّمَاعِ مِنْ الْبَبْغَاءِ وَالصَّدَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتِلَاوَةٍ وَكَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِانْعِدَامِ التَّمْيِيزِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ ، وَطَهَارَةِ النَّجِسِ وَهِيَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ ، وَمَكَانِ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَهُوَ .
شَرْطُ جَوَازِ السَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ ثَمَّةَ مَاءً أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَيْرُورَةِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ خَشْيَةُ الْفَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى التَّرَاخِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ إذَا تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُجْزِيهِ الْإِيمَاءُ كَمَا فِي سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَسَجَدَ إلَى جِهَةٍ فَأَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّحَرِّي إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ جَائِزَةٌ فَالسَّجْدَةُ أَوْلَى .
وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْإِيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالنَّذْرِ فَإِنَّ الرَّاكِبَ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ التِّلَاوَةَ أَمْرٌ دَائِمٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ فِي اشْتِرَاطِ النُّزُولِ حَرَجٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَالنَّذْرِ ، وَمَا وَجَبَ مِنْ السَّجْدَةِ فِي الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى الدَّابَّةِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الدَّابَّةِ يَجُوزُ عَلَى الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْأَرْضِ وَجَبَ تَامًّا فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِيمَاءِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ السُّجُودِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَى الدَّابَّةِ وَجَبَ بِالْإِيمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً وَهُوَ رَاكِب فَأَوْمَأَ بِهَا إيمَاءً .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَمِعَ سَجْدَةً وَهُوَ رَاكِبٌ قَالَ فَلْيُومِ إيمَاءً ، وَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَاءُ فَإِذَا نَزَلَ وَأَدَّاهَا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ أَدَّاهَا تَامَّةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى الدَّابَّةِ فَنَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَدَّاهَا بِالْإِيمَاءِ جَازَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ يَقُولُ : لَمَّا نَزَلَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ نُزُولِهِ بِالْإِيمَاءِ جَازَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا نَزَلَ وَرَكِبَ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِالْإِيمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ وَجَبَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَمَا لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ قَضَاهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ وَأَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَتْ ، كَذَا هَذَا وَكَذَا يُشْتَرَطُ لَهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِمَا قُلْنَا وَيُشْتَرَطُ النِّيَّةُ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَا الْوَقْتُ حَتَّى لَوْ تَلَاهَا أَوْ سَمِعَهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَأَدَّاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ كَالصَّلَاةِ .
وَلَوْ تَلَاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَسَجَدَهَا فِيهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ جَازَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا نَاقِصَةً كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّحْرِيمَةُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهَا لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَمْ تُوجَدْ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا مِنْ الْحَدَثِ وَالْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لَهَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَمَا لَوْ وُجِدَتْ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ .
وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ
مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِتَمَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَقَدْ حَصَلَ الْوَضْعُ قَبْلَ هَذِهِ الْعَوَارِضِ وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُ لِلْوَضْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُفْسِدَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فِي الْقَهْقَهَةِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَكَذَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِيهَا لَا تُفْسِدُ عَلَيْهِ السَّجْدَةَ وَإِنْ نَوَى إمَامَتَهَا ؛ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ لِهَذِهِ السَّجْدَةِ وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مُفْسِدَةً بِأَمْرِ الشَّرْعِ بِتَأْخِيرِهَا وَالْأَمْرُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَمْ تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ أَدَائِهَا فَمَا تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا مَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ حُكْمًا لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِخُرُوجِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَدَّاهَا فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْخَلَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَفْسُدْ لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ تَنْتَقِصُ لِإِدْخَالِهِ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ الدَّاخِلَ فِيهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ نَظْمَهَا وَيَمْنَعَ وَصْلَ فِعْلٍ بِفِعْلٍ وَذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ فَصَارَ الْمُؤَدَّى مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَلَا يَسْقُطُ بِأَدَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ .
وَأَمَّا مَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ صَارَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ حُكْمًا لِمَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا وَأَدَاءُ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَنْ يُتَصَوَّرَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ ، وَلَا فِي صَلَاةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لِقِرَاءَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُ فَسَقَطَ إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ : إذَا قَرَأَ الرَّجُلُ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى سَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَمِعَهَا فِي صَلَاتِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ سَجَدَهَا فِيهَا كَانَ مُسِيئًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ السَّجْدَةُ لَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَفْسُدُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ
مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ فَكَانَ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ رَفْضًا لَهَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةً مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ دُونَ الرَّكْعَةِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً فِي الصَّلَاةِ تَطَوُّعًا .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مَا إذَا قَرَأَ الْمُقْتَدِي آيَةَ السَّجْدَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَمِعَهَا الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فَنَقُولُ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ بِنَفْسِهِ إذَا خَافَتَ فَقَدْ انْفَرَدَ عَنْ إمَامِهِ فَصَارَ مُخْتَلِفًا عَلَيْهِ .
وَلَوْ سَجَدُوا ؛ لِسَمَاعِ تِلَاوَتِهِ إذَا جَهَرَ بِهِ لَانْقَلَبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا ؛ لِأَنَّ التَّالِيَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لِلسَّامِعِينَ ، وَفِي حَقِّ بَقِيَّةِ الْمُقْتَدِينَ تَصِيرُ صَلَاتُهُمْ بِإِمَامَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا مَقَامَ الْآخَرِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا يَسْجُدُونَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَسْجُدُونَ وَلَوْ سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَسْجُدُونَ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ سَمِعَ مِنْ الْمُقْتَدِي مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِ يَسْجُدُ كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَقِيبَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ التِّلَاوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي حَقِّ الْمُؤْتَمِّ وَسَمَاعُهَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَهُوَ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ الْأَدَاءُ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَمَا إذَا سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ
عَلَى الْأَدَاءِ وَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ أَدَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ التِّلَاوَةِ .
وَتِلَاوَةُ الْمُقْتَدِي مَحْسُوبَةٌ مِنْ صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْقِرَاءَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ ، فَإِذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ مَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ غَيْرُهُ وَقَعَ مَوْقِعَهُ ، فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ مَحْسُوبَةً مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَصَارَ مَا هُوَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ .
وَإِذَا صَارَتْ فِي حَقِّ التَّالِي مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَارَتْ فِي حَقِّ الْكُلِّ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهَا جُعِلَتْ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفِينَ عِنْدَ اتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ كَالْمَوْجُودَةِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ لِحُصُولِ ثَمَرَاتِ الْقِرَاءَةِ بِالسَّمَاعِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْقِرَاءَةُ الْمَوْجُودَةُ مِنْ الْإِمَامِ كَالْقِرَاءَةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ الْكُلِّ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ وَقِيَاسُ هَذِهِ النُّكْتَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَقْرَأْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ قِرَاءَةً لِلْكُلِّ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعُ تَبَعًا فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ كَوْنِهَا مِنْ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ يَقُولُ تَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذِهِ التِّلَاوَةَ مِنْ الْمُقْتَدِي مِمَّنْ لَا يُشَارِكُهُ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَقِّهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ الْمُصَلِّي مِمَّنْ
لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ يَسْجُدُ خَارِجَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ التِّلَاوَةِ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ؛ لِعَدَمِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّالِي فِي الصَّلَاةِ ، وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ وَالسَّمَاعُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيُؤَدَّى .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ يُؤْمَرُ بِهِ ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ حَيْثُ يُوجِبُ السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ وَبِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُنْهِيَا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ دُونَ الْآيَةِ وَهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ عَنْ تِلَاوَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ ، أَمَّا الْمُقْتَدِي فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ قِرَاءَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْ قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَجِبْ ، أَوْ نَقُولُ إنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِدَلِيلِ نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ ، وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَمَنْ سَلَكَ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ يَقُولُ : لَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى السَّامِعِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُمْ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ .