كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
وَالْخَامِسَةُ أَيْ الشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ شَهَادَةً بِاَللَّهِ تَأْكِيدًا لِلشَّهَادَةِ بِالْيَمِينِ ، فَقَوْلُهُ أَشْهَدُ يَكُونُ شَهَادَةً وَقَوْلُهُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا وَهَذَا مَذْهَبُنَا أَنَّهُ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِاللَّفْظَيْنِ فِي مَعْنَيَيْنِ وَفِيمَا قَالَهُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ وَحَضْرَةَ الْحَاكِمِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ فَنَقُولُ هُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ فَيُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَقَدْ رَاعِينَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَيُرَاعَى مَعْنَى الْيَمِينِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعَدَدِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الشَّهَادَاتِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ حَيْثُ سَمَّاهُ شَهَادَةً نَقُولُ بِمُوجَبِهِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً فَهُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ وَاَللَّه تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ ، أَمَّا اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَلَا يَكُونَانِ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَالْمَمْلُوكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَافِرِ .
وَإِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ فَالْكَافِرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِهَا وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَنَا ، وَاللِّعَانُ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ فَمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ النُّطْقِ فَلِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا شَهَادَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ ، وَالْقَذْفُ بِالْإِشَارَةِ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ بِالْكِتَابَةِ وَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ كَمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ شَهَادَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَذْفُ الْفَاسِقِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَهُ شَهَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمَا جَمِيعًا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ قَضَاؤُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَمْلُوكِ إلَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ هَذِهِ الشَّرَائِطُ كَمَا هِيَ شَرْطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَهِيَ شَرْطُ صِحَّةِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ حَتَّى لَا يَجْرِي اللِّعَانُ بِدُونِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَيْنِ وَالْأَخْرَسَيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَكَذَا بَيْنَ الْكَافِرِينَ ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ لَا مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَلِهَذَا قَالَ يَجُوزُ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا إذَا الْتَعْنَا عِنْدَ
الْحَاكِمِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَالْحَاكِمُ الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمَّا كَانَ شَهَادَةً فَالشُّهُودُ إذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَمَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَعْتَدَّ الْحَاكِمُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ .
وَقَوْلُهُ لَا يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلَكِنَّ الْوَجْهَ لَهُ أَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ فَإِذَا الْتَعْنَا فَكَأَنَّهُ أُقِيمَ الْحَدُّ ، وَالْحَدُّ بَعْدَ إقَامَتِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَزْلُ وَالْمَوْتُ وَالْجَوَابُ أَنَّ حُكْمَ الْقَذْفِ لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالتَّفْرِيقِ فَيُؤَثِّرُ الْعَزْلُ وَالْمَوْتُ قَبْلَهُ ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ : لَا لِعَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَالْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ ، وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمَةِ } وَصُورَتُهُ الْكَافِرُ أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فَقَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا .
( وَلَنَا ) أَصْلٌ آخَرُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ أَجْنَبِيًّا لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ إذَا كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَمَا أَنَّ الْحَدَّ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَقَذْفُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَإِذَا كَانَ زَوْجًا لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ .
وَابْتِدَاءُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عُمُومُ آيَةِ اللِّعَانِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ شُهَدَاءَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ وَاسْتَثْنَاهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ وَلَمْ يَدْخُلْ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ فَكَذَا فِي الْمُسْتَثْنَى ؛
لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَتَحْصِيلٌ مِنْهَا ، وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ وَالْمَقْذُوفِ فِيهِ وَنَفْسِ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ سَبَبُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَهُوَ الْقَذْفُ عِنْدَ الْقَاضِي فَسَبَبُ ظُهُورِ الْقَذْفِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةُ إذَا خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ فَأَنْكَرَ الْقَذْفَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَتْرُكَ الْخُصُومَةَ وَالْمُطَالَبَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَكَذَا تَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِكْرَامِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ وَخَاصَمَتْهُ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَدْعُوَهُمَا إلَى التَّرْكِ فَيَقُولُ لَهَا : اُتْرُكِي وَأَعْرِضِي عَنْ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى سَتْرِ الْفَاحِشَةِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَتْ وَانْصَرَفَتْ ثُمَّ بَدَا لَهَا أَنْ تُخَاصِمَهُ فَلَهَا ذَلِكَ وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ فَإِنْ خَاصَمَتْهُ وَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَجَحَدَ الزَّوْجُ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِتُمْكِنَ زِيَادَةُ شُبْهَةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالثَّانِي الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ وَشَرْطُ ظُهُورِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْخُصُومَةُ وَالدَّعْوَى لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : كُلُّ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَ اللِّعَانِ إذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ وُجُوبِهِ يُسْقِطُ كَمَا إذَا جُنَّا بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا ، أَوْ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا ، أَوْ خَرِسَا أَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَوْ وُطِئَتْ الْمَرْأَةُ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَكَذَا إذَا أَبَانَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْقَذْفَ أَوْجَبَ اللِّعَانَ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَلِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَقِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ شَرْطُ جَرَيَانِ حَدِّ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا : يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ أَوْجَبَ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ الزَّوْجَةَ وَلَمَّا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَدْ أَبْطَلَ الزَّوْجِيَّةَ ، وَاللِّعَانُ لَا يَجْرِي فِي غَيْرِ الْأَزْوَاج وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ سَقَطَ اللِّعَانُ لِتَعَذُّرِ الْإِتْيَانِ بِهِ إذْ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَشْهَدَ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَهُوَ يَقُولُ إنَّهُ كَاذِبٌ ، وَيَجِبُ الْحَدُّ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَتْ الزَّوْجَ فِي الْقَذْفِ سَقَطَ اللِّعَانُ لِمَا قُلْنَا وَلَا حَدَّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْقَذْفُ مُوجِبًا لِلِّعَانِ أَصْلًا لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَهَلْ يَجِبُ الْحَدُّ ؟ فَمَشَايِخُنَا أَصَّلُوا فِي ذَلِكَ أَصْلًا فَقَالُوا : إنْ كَانَ عَدَمُ وُجُوبِ اللِّعَانِ أَوْ سُقُوطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا فَلَا حُدُودَ وَلَا لِعَانَ ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَذْفُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يُحَدُّ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ خَرَّجُوا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، فَقَالُوا : إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهِ وَهُوَ إكْذَابُهُ نَفْسَهُ وَالْقَذْفُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ قَذْفُ عَاقِلٍ بَالِغٍ فَيَجِبُ الْحَدُّ ، وَلَوْ أَكَذَبَتْ نَفْسَهَا فِي الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَتْ الزَّوْجَ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا وَهُوَ إكْذَابُهَا نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ وَالزَّوْجُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اللِّعَانُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ وَالزَّوْجَةُ لَا بِصِفَةِ الِالْتِعَانِ بِأَنْ كَانَتْ كَافِرَةً أَوْ مَمْلُوكَةً أَوْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً فَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ صَحِيحٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ قَذَفَهَا لَا يُحَدُّ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً حُرَّةً عَاقِلَةً عَفِيفَةً إلَّا أَنَّهَا مَحْدُودَةٌ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ
لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَلَا الْحَدُّ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ صَحِيحٌ وَسُقُوطُ اللِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الزَّوْجِ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْمَرْأَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا وَالْمَرْأَةُ مَحْدُودَةٌ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِاعْتِبَارِ جَانِبِهَا .
وَإِنْ كَانَ السُّقُوطُ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ اللِّعَانُ وَلَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْقَذْفُ الصَّحِيحُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَاتُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ لَا تُعْتَبَرُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ الزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ الْمَانِعُ بِمَا فِيهِ لَا بِمَا فِيهَا فَكَانَ سُقُوطُ اللِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ الْقَذْفِ فَيُحَدُّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ اللِّعَانِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِ اللِّعَانِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ .
أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ اللِّعَانِ فَلِلِّعَانِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا أَصْلِيٌّ ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ .
أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلِّعَانِ فَنَذْكُرُ أَصْلَ الْحُكْمِ وَوَصْفَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : هُوَ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ مَا دَامَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ لَا وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَجُوزَ طَلَاقُ الزَّوْجِ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَيَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : هُوَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ يَلْتَعِنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَنْ تَلْتَعِنَ الْمَرْأَةُ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفُرْقَةَ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ ؟ فَلَا يَقِفُ وُقُوعُهَا عَلَى فِعْلِ الْمَرْأَةِ كَالطَّلَاقِ ، وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } وَفِي بَقَاءِ النِّكَاحِ اجْتِمَاعُهُمَا وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ .
وَلَنَا مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ } .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا } .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانَيْ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَلَمَّا
فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ } قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا بِلِعَانِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا اُحْتُمِلَ التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ اللِّعَانِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ أَوْ يَمِينٌ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَزُولُ بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَالْأَيْمَانِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ ثَابِتَةٌ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِآيَةِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَزْوَاجَ بِاللِّعَانِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجَةُ تُلَاعِنُهُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ .
وَأَمَّا زُفَرُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَاعِنَ مُتَفَاعِلٌ مِنْ اللَّعْنِ وَحَقِيقَةُ الْمُتَفَاعِلِ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا يَبْقَى فَاعِلًا حَقِيقَةً فَلَا يَبْقَى مُلَاعِنًا حَقِيقَةً فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْفُرْقَةِ عَقِيبَ اللِّعَانِ فَلَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ عَقِيبَهُ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَقِيبَهُ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ فَرَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ
فَإِذَا فَرَّقَ بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَفَرَّقَ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ الْتَعَنَ أَكْثَرَ اللِّعَانِ نَفَّذَ الْقَاضِي إذَا وَقَعَ بَعْدَ أَكْثَرِ اللِّعَانِ فَقَدْ قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعٍ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَاقْتَضَى اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي اللِّعَانِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اجْتَهَدَ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي اللِّعَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْأَكْثَرِ ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَمَّا سَاغَ لِلشَّافِعِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ إذَا قَذَفَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَيِّتَةَ فَلَأَنْ يَسُوغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ إكْمَالِ الزَّوْجِ لِعَانَهُ وَإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِأَكْثَرِ اللِّعَانِ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَهَذَا قَدْ خَالَفَ النَّصَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَرَدَ بِاللِّعَانِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَكَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَالِاجْتِهَادُ إذَا خَالَفَ النَّصَّ بَاطِلٌ فَالْجَوَابُ مَمْنُوعٌ إنْ اجْتِهَادُ الْقَاضِي خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَدٍ لَا يَنْفِي جَوَازَ الْأَكْثَرِ وَإِقَامَتَهُ مَقَامَ الْكُلِّ وَلَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَيْضًا ، فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَكَانَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْأَوْلَى وَهَذَا لَا يَنْفِي الْجَوَازَ .
وَأَمَّا الثَّانِي
فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ أَيْضًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : الْفُرْقَةُ فِي اللِّعَانِ فُرْقَةٌ بِتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ فَيَزُولُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّزَوُّجِ مَا دَامَا عَلَى حَالَةِ اللِّعَانِ فَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِأَنْ صَدَّقَتْهُ جَازَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَيَجْتَمِعَانِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : هِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِنَّهَا تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَذَبْتُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ أُفَارِقْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَصَارَ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَقِيبَ اللِّعَانِ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ؛ لِأَنَّ عُوَيْمِرٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُلَاعَنٍ أَنْ يُطَلِّقَ فَإِذَا امْتَنَعَ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ فَيَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْعِنِّينِ ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ قَذْفُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَاللِّعَانُ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ وَالتَّفْرِيقُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الْقَذْفِ السَّابِقِ وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَكُونُ مِنْ
الزَّوْجِ أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الزَّوْجِ سَبَبَهَا تَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْعِنِّينِ وَالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ : إنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَهِيَ طَلَاقٌ مِنْ نَحْوِ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَفَاعِلِ هُوَ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ وَكَمَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ مَا بَقِيَا مُتَلَاعِنَيْنِ حَقِيقَةً فَانْصَرَفَ الْمُرَادُ إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِيهِمَا ثَابِتًا فَإِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ وَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَلَاعِنًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ { إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا } أَيْ مَا دَامُوا فِي مِلَّتِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَفْعَلُوا يُفْلِحُوا فَكَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ لِلِّعَانِ فَهُوَ وُجُوبُ قَطْعِ النَّسَبِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَذْفِ وَهُوَ الْقَذْفُ بِالْوَلَدِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ فَصَارَ النَّفْيُ أَحَدَ حُكْمَيْ اللِّعَانِ وَلِأَنَّ الْقَذْفَ إذَا كَانَ بِالْوَلَدِ فَغَرَضُ الزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ فِي زَعْمِهِ فَوَجَبَ النَّفْيُ تَحْقِيقًا لِغَرَضِهِ وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ نَفْيِهِ أَحَدَ حُكْمَيْ اللِّعَانِ فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا إنَّ الْقَذْفَ إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا اللِّعَانَ أَوْ سَقَطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَوَجَبَ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَوْ لَمْ يَسْقُطْ لَكِنَّهُمَا لَمْ يَتَلَاعَنَا بَعْدُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُ الْوَلَدِ ، وَكَذَا إذَا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ حُرَّةٍ
فَصَدَّقَتْهُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ لِتَعَذُّرِ اللِّعَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ حَيْثُ تَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ ، وَقَدْ قَالَتْ : إنَّهُ صَادِقٌ وَإِذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ تَعَذَّرَ قَطْعُ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَيَكُونُ ابْنَهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى نَفْيِهِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ وَالنَّسَبُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُمَا عَلَى النَّفْيِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ حَقًّا لِلْوَلَدِ وَفِي تَصَادُقِهِمَا عَلَى النَّفْيِ إبْطَالُ حَقِّ الْوَلَدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ عُلُوقُ الْوَلَدِ فِي حَالٍ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا فِيهَا ثُمَّ صَارَتْ بِحَيْثُ يَقَعُ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ نَحْوُ مَا إذَا عُلِّقَتْ وَهِيَ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ أَوْ أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ فَوَلَدَتْ فَنَفَاهُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلَاعُنَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ وَقْتَ الْعُلُوقِ .
وَقَطْعُ النَّسَبِ حُكْمُ اللِّعَانِ ثُمَّ لِوُجُودِ قَطْعِ النَّسَبِ شَرَائِطُ : مِنْهَا التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ قَائِمٌ فَلَا يَجِبُ النَّفْيُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِالنَّفْيِ بِحَضْرَةِ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ تُوجَدُ فِيهَا لِتَهْنِئَةٍ أَوْ ابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ عَادَةً فَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِي وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَقْتًا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَّتَ لَهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَّتَاهُ بِأَكْثَرِ النِّفَاسِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْفَوْرَ فَقَالَ : إنْ نَفَاهُ عَلَى الْفَوْرِ انْتَفَى وَإِلَّا لَزِمَهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ النَّفْيِ عَلَى الْفَوْرِ إقْرَارٌ مِنْهُ دَلَالَةً فَكَانَ كَالْإِقْرَارِ نَصًّا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ فَيَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ مَا دَامَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ فِيهِ فَيَحْكُمُ فِيهِ الْعَادَةُ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُفْعَلُ ذَلِكَ فِيهَا عَادَةً فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي لَا يَحْصُلُ بِالْفَوْرِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْغَائِبِ عَنْ امْرَأَتِهِ : إذَا وَلَدَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى قَدِمَ أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ غَائِبٌ أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ تَهْنِئَةِ الْوَلَدِ وَابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهُمَا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ بُلُوغِ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَصَارَ حَالُ الْقُدُومِ وَبُلُوغِ الْخَبَرِ كَحَالِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ قَدِمَ قَبْلَ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْفِصَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَلَمْ يُرْوَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ مُحَمَّدٍ .
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَبْلَ الْفِصَالِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ غِذَائِهِ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَمُدَّةِ النِّفَاسِ وَبَعْدَ الْفِصَالِ انْتَقَلَ عَنْ ذَلِكَ الْغِذَاءِ وَخَرَجَ عَنْ حَالِ الصِّغَرِ فَلَوْ احْتَمَلَ النَّفْيَ بَعْدَ ذَلِكَ لَاحْتَمَلَ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَذَلِكَ قَبِيحٌ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَ إلَى تَمَامِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ إلَى تَمَامِ سَنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى وَقْتُ النِّفَاسِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّضَاعِ وَمُدَّتُهُ سَنَتَانِ عِنْدَهُمَا ، وَلَوْ بَلَغَهُ
الْخَبَرُ بَعْدَ حَوْلَيْنِ فَنَفَاهُ ذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ وَيُلَاعِنُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : يَنْتَفِي الْوَلَدُ إذَا نَفَاهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْبِقَ النَّفْيُ عَنْ الزَّوْجِ مَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً فَإِنْ سَبَقَ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بِوَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَالنَّسَبُ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ بِالنَّفْيِ فَالنَّصُّ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : هَذَا وَلَدِي ، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي .
وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ يَسْكُتَ إذَا هُنِّئَ وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْمُهَنِّئِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَسْكُتُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ عَادَةً فَكَانَ السُّكُوتُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ اعْتِرَافًا بِنَسَبِ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا هُنِّئَ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ اعْتِرَافًا وَإِنْ سَكَتَ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ كَانَ اعْتِرَافًا .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِ الزَّوْجَةِ قَدْ ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ إلَّا أَنَّ لَهُ غَرَضِيَّةَ النَّفْيِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِذَا سَكَتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ فَبَطَلَتْ الْغَرَضِيَّةُ فَتَقَرَّرَ النَّسَبُ فَأَمَّا وَلَدُ الْأَمَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ فَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِي لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا أَمَّا لُزُومُ الْوَلَدَيْنِ فَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْأَوَّلِ إقْرَارٌ بِالثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ حَمْلٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ بَعْضِ نَسَبِ الْحَمْلِ دُونَ بَعْضٍ كَالْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ نَسَبِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَإِذَا نَفَى الثَّانِيَ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ .
وَالنَّسَبُ
الْمَقَرُّ بِهِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ نَفْيُهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا وَيُلَاعَنُ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ يُلَاعِنُ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ بَلْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ شُرِعَ فِي الْمَقْذُوفَةِ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ وَصَفَ امْرَأَتَهُ بِالْعِفَّةِ وَلَمَّا نَفَى الْوَلَدَ فَقَدْ وَصَفَهَا بِالزِّنَا ، وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَفِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ زَانِيَةٌ يُلَاعَنُ وَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي حُدَّ وَلَا لِعَانَ وَيَلْزَمَانِهِ جَمِيعًا أَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَلِأَنَّ نَفْيَ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَضَمَّنَ نَفْيَ الثَّانِي فَالْإِقْرَارُ بِالثَّانِي يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْأَوَّلِ فَيَصِيرُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُحَدُّ وَإِذَا حُدَّ لَا يُلَاعَنُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الْأَوَّلَ فَقَدْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَلَمَّا أَقَرَّ بِالثَّانِي فَقَدْ وَصَفَهَا بِالْعِفَّةِ .
وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ زَانِيَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَفِيفَةٌ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يُلَاعَنُ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا وَقْتَ قَطْعِ النَّسَبِ وَهُوَ وَقْتُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَمَاتَ ثُمَّ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ وَلَكِنَّهُ يُلَاعِنُ لِوُجُودِ الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَانْقِطَاعُ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَنَفَاهُمَا يُلَاعَنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فَنَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ قُتِلَا يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ وَيُلَاعَنُ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَا لَوْ نَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ قُتِلَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ لِتَقَرُّرِهِ بِالْمَوْتِ فَكَذَا نَسَبُ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ وَأَمَّا اللِّعَانُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْطُلُ اللِّعَانُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وَجَبَ بِالنَّفْيِ فَلَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ لِامْتِنَاعِ قَطْعِ النَّسَبِ وَامْتِنَاعُهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ اللِّعَانَ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللِّعَانِ الْوَاجِبِ بِهَذَا الْقَذْفِ أَعْنِي الْقَذْفَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ هُوَ نَفْيُ الْوَلَدِ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَقْصُودِ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ اللِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَا يَنْفِي الْوَلَدَ .
وَلَوْ وَلَدَتْ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ وَأَلْزَمَ الْوَلَدَ أُمَّهُ أَوْ لَزِمَهَا بِنَفْسِ التَّفْرِيقِ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ مِنْ الْغَدِ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا وَاللِّعَانُ مَاضٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي إذْ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِمَا وَجَدَ مِنْ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ قَدْ بَطَلَ بِالْفُرْقَةِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ هُمَا ابْنَايَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي إقْرَارِهِ بِنَسَبِ الْوَلَدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا ثَابِتَيْ النَّسَبِ مِنْهُ شَرْعًا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ هُمَا ابْنَايَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَمَنْ نَفَى الْوَلَدَ فَلُوعِنَ ثُمَّ أَكْذَبَ
نَفْسَهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَاحِدٍ فَقَالَ : هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي فَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ : هُوَ ابْنِي فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ هُمَا ابْنَايَ يَحْتَمِلُ الْإِكْذَابَ وَيَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْ حُكْمٍ لَزِمَهُ شَرْعًا وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ إكْذَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ إكْذَابًا لَلَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَلَوْ جُعِلَ إخْبَارًا عَمَّا قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } ، وَقَالَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } حَتَّى لَوْ قَالَ : كَذَبْت فِي اللِّعَانِ وَفِيمَا قَذَفْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْإِكْذَابِ فَزَالَ الِاحْتِمَالُ ، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا : إنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَلَدِ بَعْدَ النَّفْيِ إنَّمَا يَكُونُ إكْذَابًا إذَا كَانَ الْمُقِرُّ بِحَالٍ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَلُوعِنَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَهَهُنَا لَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا لَمْ يُلَاعَنْ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا لَلُوعِنَ بِهِ .
وَعَلَى هَذَا قَالُوا : لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَقَالَ : هُوَ ابْنِي ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ فَنَفَاهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَا يُلَاعَنُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ .
وَلَوْ قَالَ : لَيْسَا بِابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَ الْقَذْفَ الْأَوَّلَ وَكَرَّرَهُ ؛ لِتَقَدُّمِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَاللِّعَانِ ، وَالْمُلَاعِنُ إذَا كَرَّرَ الْقَذْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَنَفَاهُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَدْ بَانَتْ وَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هَذِهِ رَجْعِيَّةٌ وَعَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ فَنَذْكُرُ أَصْلَهُمَا وَأَصْلَهُ وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَتْبَعُ الْوَلَدَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِيهَا وَهَكَذَا هُوَ سَابِقٌ فِي الْوِلَادَةِ فَكَانَ الثَّانِي تَابِعًا لَهُ فَجُعِلَ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فَتَبِينُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً فَيَتَعَذَّرُ اللِّعَانُ .
وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَقِينٍ إذْ الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْأَوَّلُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ أَيْضًا وَإِنَّنَا نَرُدُّ الْمُحْتَمَلَ إلَى الْمُحْكَمِ فَجُعِلَ الْأَوَّلُ تَابِعًا لِلثَّانِي فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ .
وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَقِينٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِالْوَطْءِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالثَّانِي بَعْدَ نَفْيِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيُحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُحَدُّ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَتْبَعُ الْأَوَّلَ فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَيَجِبُ الْحَدُّ لِإِكْذَابِ نَفْسِهِ .
وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَتْبَعُ الثَّانِيَ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْمَرْأَةُ مَبْتُوتَةٌ وَالْمَبْتُوتَةُ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا ؛ لِأَنَّ مَعَهَا عَلَامَةَ الزِّنَا
وَهُوَ وَلَدٌ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُ الْوَلَدِ مَحْكُومًا بِثُبُوتِهِ شَرْعًا كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ فَصُورَتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِالْوَلَدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ فَضَرَبَ الْقَاضِي الْأَجْنَبِيَّ الْحَدَّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَسْقُطُ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا حَدَّ قَاذِفَهَا بِالْوَلَدِ فَقَدْ حَكَمَ بِكَذِبِهِ وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ حُكْمٌ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ الْمَحْكُومُ بِثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بِاللِّعَانِ كَالنَّسَبِ الْمَقَرِّ بِهِ وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمَّا حَدَّ قَاذِفَهَا فَقَدْ حَكَمَ بِإِحْصَانِهَا فِي عَيْنِ مَا قُذِفَتْ بِهِ ثُمَّ إذَا قَطَعَ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ يَبْقَى النَّسَبُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا حَتَّى لَا يَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَصَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا .
وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ بِاللِّعَانِ يَثْبُتُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَظَنِّهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَحْكَامِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ اللِّعَانِ فَكُلُّ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ يُبْطِلُ الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُودِهِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جُنُونِهِمَا بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ ، أَوْ جُنُونِ أَحَدِهِمَا ، أَوْ خَرَسِهِمَا أَوْ خَرَسِ أَحَدِهِمَا ، أَوْ رِدَّتِهِمَا أَوْ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا ، أَوْ صَيْرُورَةِ أَحَدِهِمَا مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ أَوْ صَيْرُورَةِ الْمَرْأَةِ مَوْطُوءَةً وَطْئًا حَرَامًا وَإِكْذَابِ أَحَدِهِمَا نَفْسَهُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَالْأَصْلُ أَنَّ بَقَاءَهُمَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ شَرْطُ بَقَاءِ حُكْمِ اللِّعَانِ فَإِنْ بَقِيَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ بَقِيَ حُكْمُ اللِّعَانِ وَإِلَّا فَلَا .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الشَّاهِدِ عَلَى صِفَةِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ حَتَّى يَجِبَ الْقَضَاءُ بِهَا .
وَقَدْ زَالَتْ صِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي التَّفْرِيقُ وَلَوْ لَاعَنَهَا بِالْوَلَدِ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَلَوْ لَاعَنَهَا بِغَيْرِ الْوَلَدِ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ تَحْقِيقَ الزِّنَا مِنْهَا فَلَا تَزُولُ عِفَّتُهَا بِاللِّعَانِ إلَّا أَنَّ فِي اللِّعَانِ بِالْوَلَدِ قَذْفَهَا وَمَعَهَا عَلَامَةُ الزِّنَا وَهُوَ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبٍ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي اللِّعَانِ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَبَقِيَتْ عِفَّتُهَا فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ بِوَلَدٍ أَوْ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَقِّقُ الزِّنَا وَالْوَلَدُ بِلَا أَبٍ مَعَ الْإِكْذَابِ لَا يَكُونُ عَلَامَةَ الزِّنَا فَتَكُونُ عِفَّتُهَا قَائِمَةً فَيُحَدُّ قَاذِفُهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الرَّضَاعِ ) : قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نِكَاحًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ ، وَمُحَرَّمَاتٌ بِالصِّهْرِيَّةِ ، وَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِيَّةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا فِي .
بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ صِفَةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ ، وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ ( فَصْلٌ ) : أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ مِنْ الْفِرَقِ السَّبْعِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ؛ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعَةِ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَفِي جَانِبِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
أَمَّا تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضَعِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا لَهُ بِالرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } مَعْطُوفًا عَلَى قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } فَسَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُرْضِعَةَ أُمَّ الْمُرْضَعِ وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِ ، وَكَذَا بَنَاتُهَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ صَاحِبِ اللَّبَنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ اللَّبَنِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُنَّ وَمَنْ تَأَخَّرَ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الْأُخُوَّةَ بَيْنَ بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ وَبَيْنَ الْمُرْضَعِ وَالْحُرْمَةَ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أُخْتٍ وَأُخْتٍ ، وَكَذَا بَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخِ الْمُرْضَعِ
وَأُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَهُنَّ يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ كَذَا مِنْ الرَّضَاعَةِ .
وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَغِيرَيْنِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَجَانِبِ صَارَا أَخَوَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أُنْثَى ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ صَارَا أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ أَخًا وَأُخْتًا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْآخَرِ وَلَا بِوَلَدِهِ كَمَا فِي النَّسَبِ ، وَأُمَّهَاتُ الْمُرْضِعَةِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْمُرْضَعِ ؛ لِأَنَّهُنَّ جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَآبَاءُ الْمُرْضِعَةِ أَجْدَادُ الْمُرْضَعِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي النَّسَبِ .
وَأَخَوَاتُ الْمُرْضِعَةِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْمُرْضَعِ ؛ لِأَنَّهُنَّ خَالَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَتُهَا أَخْوَالُ الْمُرْضَعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي النَّسَبِ فَأَمَّا بَنَاتُ إخْوَةِ الْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُهَا فَلَا يَحْرُمْنَ عَلَى الْمُرْضَعِ ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَنَّهُنَّ لَا يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ فَكَذَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَتَحْرُمُ الْمُرْضِعَةُ عَلَى أَبْنَاءِ الْمُرْضَعِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا كَمَا فِي النَّسَبِ هَذَا تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ .
وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فِي جَانِبِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ لَبَنٌ فَثَبَتَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عَنْ رَافِعٍ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَثْبُتُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَالِكٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ أَنَّهُ هَلْ يُحَرِّمُ أَوْ لَا ؟ وَتَفْسِيرُ تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ أَنَّ الْمُرْضَعَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَكَذَا عَلَى أَبْنَائِهِ الَّذِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَكَذَا عَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ بَنَاتِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ إخْوَةِ الْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُهَا لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ .
وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ امْرَأَتَانِ فَحَمَلَتَا مِنْهُ وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَجْنَبِيًّا ؛ فَقَدْ صَارَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ .
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أُنْثَى فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَخُوهَا لِأَبِيهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَإِنْ كَانَا أُنْثَيَيْنِ لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَتَحْرُمُ عَلَى آبَاءِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَادُهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَكَذَا عَلَى إخْوَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتُ الْمُرْضَعِ فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَلَا تَحْرُمُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَيَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمْ فِي النَّسَبِ فَيَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ .
هَذَا تَفْسِيرُ لَبَنِ الْفَحْلِ .
احْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يُحَرِّمُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي جَانِبِهِ ؛ لَبَيَّنَهَا كَمَا بَيَّنَ فِي النَّسَبِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } وَلِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهَا لَا مِنْهُ فَصَارَتْ بِنْتًا لَهَا لَا لَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِلزَّوْجِ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْ مِنْهُ صَغِيرَةٌ ؛ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِهِ فَكَيْف تَثْبُتُ بِلَبَنِ غَيْرِهِ ؟ ، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا هُوَ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ } أَيْ : بَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ النِّسَاءَ بِالْحِجَابِ عَنْ الْأَجَانِبِ ، وَقِيلَ : كَانَ الدَّاخِلُ عَلَيْك أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَانَتْ امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ أَرْضَعَتْهَا ، وَعَنْ عَمْرَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِك فَقَالَ { : أُرَاهُ فُلَانًا - لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ - فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ فُلَانًا حَيًّا - لِعَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ - أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا
تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَنْكِحْ مَنْ أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةُ أَبِيك وَلَا امْرَأَةُ أَخِيك وَلَا امْرَأَةُ ابْنِك وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ أَوْ جَارِيَةٌ وَامْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْ هَذِهِ غُلَامًا وَهَذِهِ جَارِيَةً : هَلْ يَصْلُحُ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ ؟ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ اتِّحَادُ اللِّقَاحِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ اللَّبَنُ وَسَبَبُ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا كَمَا كَانَ الْوَلَدُ لَهُمَا جَمِيعًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ لَا فِي جَانِبِ زَوْجِهَا فَنَقُولُ : إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا نَصًّا فَقَدْ بَيَّنَهَا دَلَالَةً ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ : بَيَانُ إحَاطَةٍ وَبَيَانُ كِفَايَةٍ ، فَبَيَّنَ فِي النَّسَبِ بَيَانَ إحَاطَةٍ وَبَيَّنَ فِي الرَّضَاعِ بَيَانَ كِفَايَةٍ تَسْلِيطًا لِلْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ لِمَكَانِ اللَّبَنِ وَسَبَبُ حُصُولِ اللَّبَنِ وَنُزُولِهِ هُوَ مَاؤُهُمَا جَمِيعًا ؛ فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِرُ الْعَظْمَ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ حُصُولِ اللَّبَنِ وَنُزُولِهِ مَاءَهُمَا جَمِيعًا ، وَبِارْتِضَاعِ اللَّبَنِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِوَاسِطَةِ نَبَاتِ اللَّحْمِ ؛ يُقَامُ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا وَالسَّبَبُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ خُصُوصًا فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ أَيْضًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَى جَدِّهَا كَمَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهَا ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ تَحْرِيمُهَا عَلَى جَدِّهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُبَيَّنًا بَيَانَ كِفَايَةٍ وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَ وَإِنْ حَدَثَتْ مِنْ مَاءِ الْأَبِ حَقِيقَةً دُونَ مَاءِ الْجَدِّ لَكِنَّ الْجَدَّ سَبَبُ مَاءِ الْأَبِ أُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا كَذَا هَهُنَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْبَنَاتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ نَصًّا ؛ لَمْ يَذْكُرْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ نَصًّا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ لِبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ دَلَالَةً حَتَّى حُرِّمْنَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَهُنَا .
عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ فَقَدْ بَيَّنَ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْإِرْضَاعَ وُجِدَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ اللَّبَنِ مَاؤُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ الْإِرْضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَأَمَّا الزَّوْجُ إذَا نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْ بِهِ صَغِيرَةٌ فَذَاكَ لَا يُسَمَّى رَضَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً ، وَمَعْنَى الرَّضَاعِ أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ اكْتِفَاءُ الصَّغِيرِ بِهِ فِي الْغِذَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ مِنْ جُوعٍ فَصَارَ كَلَبَنِ الشَّاةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
ثُمَّ إنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ بِأَنْ وَلَدَتْ مِنْ الزِّنَا فَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيًّا فَالرَّضَاعُ يَكُونُ مِنْهَا خَاصَّةً لَا مِنْ الزَّانِي ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ يَثْبُتُ مِنْهَا لَا مِنْ الزَّانِي وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْهُ الرَّضَاعُ وَمَنْ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ الرَّضَاعُ ، وَكَذَا الْبِكْرُ إذَا نَزَلَ لَهَا لَبَنٌ وَهِيَ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ ؛ فَالرَّضَاعُ يَكُونُ مِنْهَا خَاصَّةً وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ - يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَبِنْتُهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا فِي النَّسَبِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ إذَا كَانَ صَحِيحًا ، وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ كَمَا فِي النَّسَبِ وَكَذَا جَدَّاتُ زَوْجَتِهِ مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ أَوْ بَنَاتِ بَنَاتِهَا وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا فِي النَّسَبِ ، وَكَذَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِ الرَّضَاعِ وَإِنْ سَفَلَ عَلَى أَبُ الرَّضَاعِ وَأَبِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا كَمَا فِي النَّسَبِ ، وَتَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبُ الرَّضَاعِ وَأَبِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا عَلَى ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ كَمَا فِي النَّسَبِ ، وَكَذَا يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا مِنْ الرَّضَاعِ عَلَى الْوَاطِئِ ، وَكَذَا جَدَّاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا كَمَا فِي النَّسَبِ وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ عَلَى أَبُ الْوَاطِئِ وَابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَكَذَا عَلَى أَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا ، وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا كَمَا فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا بِأَنْ كَانَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ ، أَوْ كَانَ بِزِنًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } مُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ لِأُمِّهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِابْنِهِ أُخْتٌ لِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ لَهَا ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ لَمْ تُرْضِعْهَا امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ فِي النَّسَبِ كَوْنُ أُمِّ الْأُخْتِ مَوْطُوءَةَ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا إذَا كَانَتْ مَوْطُوءَةً ؛ كَانَتْ هِيَ بِنْتَ الْمَوْطُوءَةِ ، وَإِنَّهَا حَرَامٌ ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّضَاعِ ، وَلَوْ وُجِدَ ؛ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي النَّسَبِ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ لِأَبِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ لَا مِنْ أُمِّهِ ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ هَذِهِ الْأُخْتِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَتَزَوَّجَ أُمَّهَا مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي النَّسَبِ كَوْنُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّضَاعِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ ؛ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي النَّسَبِ .
وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَصُورَتُهُ مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ إذَا وَلَدَتْ ابْنًا وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ ؛ فَهِيَ أُخْتُ أَخِيهِ لِأَبِيهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَيَجُوزُ لِزَوْجِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمُرْضَعِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْضَعَ ابْنُهُ ، وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ وَكَذَا أَبَ الْمُرْضَعِ مِنْ النَّسَبِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْضِعَةَ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَهِيَ كَأُمِّ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ ، وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَحَارِمِ أَبِي الصَّبِيِّ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ النَّسَبِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ فَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ مَا يَكُونُ فِي حَالِ الصِّغَرِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي حَالِ الْكِبَرِ فَلَا يُحَرِّمُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ يُحَرِّمُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ جَمِيعًا وَاحْتَجَّتْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ { فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ أَتَتْ سَهْلَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْكِ } .
وَكَانَ سَالِمًا كَبِيرًا فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مُحَرِّمٌ وَقَدْ عَمِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَبَنَاتِ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُرْضِعْنَهُ فَدَلَّ عَمَلُهَا بِالْحَدِيثِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : هَذَا عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُنْظُرْنَ مَا أَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } .
أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنَّ الرَّضَاعَ فِي الصِّغَرِ هُوَ الْمُحَرِّمُ ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الْجُوعَ فَأَمَّا جُوعُ الْكَبِيرِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِالرَّضَاعِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ } وَذَلِكَ هُوَ رَضَاعُ الصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّ إرْضَاعَهُ لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا يُنْشِزُ الْعَظْمَ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الرَّضَاعُ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ } وَرَضَاعُ الصَّغِيرِ هُوَ الَّذِي يَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ ، لَا رَضَاعُ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّ أَمْعَاءَ الصَّغِيرِ تَكُونُ ضَيِّقَةً لَا يَفْتُقُهَا إلَّا اللَّبَنُ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ أَلْطَفِ الْأَغْذِيَةِ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } فَأَمَّا أَمْعَاءُ الْكَبِيرِ فَمُنْفَتِقَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْفَتْقِ بِاللَّبَنِ وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ } .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَمَاتَ وَلَدُهَا فَوَرِمَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّهُ فَدَخَلَتْ جَرْعَةٌ مِنْهُ حَلْقَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْكَ ثُمَّ جَاءَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : هَلْ سَأَلْت أَحَدًا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، سَأَلْت أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ؛ فَقَالَ : حُرِّمَتْ عَلَيْك فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى : لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ
إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ أَطَؤُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْت عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : دُونَكَ مَقْدُورُ اللَّهِ أَرْضَعْتهَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاقِعْهَا فَهِيَ جَارِيَتُك فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ عِنْدَ الصِّغَرِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ بِكَوْنِهِ دَافِعًا لِلْجُوعِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ مُنْشِزًا لِلْعَظْمِ فَاتِقًا لِلْأَمْعَاءِ ، وَهَذَا وَصْفُ رَضَاعِ الصَّغِيرِ لَا الْكَبِيرِ ؛ فَصَارَتْ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لِمَا فِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَائِرَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِالرَّضَاعِ فِي حَالِ الْكِبَرِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ وَقُلْنَ : مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إلَّا رُخْصَةً فِي سَالِمٍ وَحْدَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَالِمًا كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ ، وَمَا كَانَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ بَعْضِ النَّاسِ لِمَعْنًى لَا نَعْقِلُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِيَاسَ ، وَلَا نَتْرُكُ بِهِ الْأَصْلَ الْمُقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ كَانَ مُحَرِّمًا ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ .
وَأَمَّا عَمَلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ .
وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا عَلَى أَنَّ عَمَلَهَا مُعَارَضٌ بِعَمَلِ سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُنَّ كُنَّ لَا يَرَيْنَ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ ؛ وَالْمُعَارَضُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ وَرَضَاعَ الصَّغِيرِ مُحَرِّمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ وَهُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَلَا يُحَرِّمُ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : حَوْلَانِ لَا يُحَرِّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ زُفَرُ : ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَرْبَعُونَ سَنَةً .
احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ تَمَامَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ شَيْءٌ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ حَوْلَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ } وَهَذَا نَصُّ فِي الْبَابِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ مُطْلَقًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِزَمَانِ الْإِرْضَاعِ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ زَمَانَ مَا بَعْدَ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا لَيْسَ بِمُرَادٍ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الْفِصَالِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي بَقَاءَ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ الْفِصَالُ بَعْدَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الْفِصَالِ
مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ ، وَلَا يَكُونُ الْفِصَالُ إلَّا عَنْ الرَّضَاعِ فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الرَّضَاعِ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّقْيِيدِ وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ } أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَمَنْ ادَّعَى التَّقْيِيدَ بِالْحَوْلَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ مُنْشِزًا لِلْعَظْمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ .
وَمِنْ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَكُونَ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ إلَى الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ لَا يَنْبُتُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسَاعَةٍ لَطِيفَةٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَغْيِيرِ الْغِذَاءِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ فَإِذَا تَمَّ عَلَى الصَّبِيِّ سَنَتَانِ ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْمَرَ الْمَرْأَةُ بِفِطَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ عَلَى الْوَلَدِ ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُعَوَّدْ بِغَيْرِهِ مِنْ الطَّعَامِ ؛ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُؤْمَرَ بِالرَّضَاعِ وَمُحَالٌ أَنْ تُؤْمَرَ بِالرَّضَاعِ وَيُحَرَّمُ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يَكُونُ رَضَاعًا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِي تَقْدِيرِهِ مُدَّةَ إبْقَاءِ حُكْمِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مُدَّةِ تَغَيُّرِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا ثُمَّ يَنْفَصِلُ فَيَصِيرُ أَصْلًا فِي الْغِذَاءِ وَزُفَرُ اعْتَبَرَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ سَنَةً كَامِلَةً فَقَالَ : لَمَّا ثَبَتَ حُكْمُ الرَّضَاعِ فِي ابْتِدَاءِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ - لِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - ؛ يَثْبُتُ فِي بَقِيَّتِهَا كَالسَّنَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَفِيهَا أَنَّ الْحَوْلَيْنِ مُدَّةُ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ تَمَامَ الرَّضَاعَةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ مُدَّةَ
الرَّضَاعِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ مَعَ مَا أَنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِالتَّمَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } وَهَذَا لَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ الْفَرْضِ عَلَيْهِ فَإِنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْحَوْلَيْنِ تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَكِنَّهَا تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ أَوْ فِي حَقِّ وُجُوبِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ فَالنَّصُّ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ ، وَعِنْدَهُمَا : تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَى الْأَبِ حَتَّى أَنَّ الْأُمَّ الْمُطَلَّقَةَ إذَا طَلَبَتْ الْأَجْرَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ - وَلَا تُرْضِعُ بِلَا أَجْرٍ - ؛ لَمْ يُجْبَرْ الْأَبُ عَلَى أَجْرِ الرَّضَاعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَتَنَاقَضُ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْفِصَالُ فِي عَامَيْنِ لَا يَنْفِي الْفِصَالَ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَامَيْنِ كَمَا لَا يَنْفِيهِ فِي أَقَلَّ مِنْ عَامَيْنِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَكَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } الْآيَةَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْكِتَابَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِمْ خَيْرًا .
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَتَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَمْلِ هُوَ الْحَمْلُ بِالْبَطْنِ وَالْفِصَالُ هُوَ الْفِطَامُ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ سَنَتَيْنِ وَمُدَّةُ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَمْلِ الْحَمْلَ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا لَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ
الْمُدَّةِ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَبَعْضُهَا مُدَّةَ الْفِصَالِ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ السَّنَتَيْنِ إلَى الْوَقْتِ لَا تَقْتَضِي قِسْمَةَ الْوَقْتِ عَلَيْهِمَا بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ الْوَقْتِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ : صَوْمُك وَزَكَاتُك فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
هَذَا لَا يَقْتَضِي قِسْمَةَ الشَّهْرِ عَلَيْهِمَا بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَقْتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ شَهْرًا مُدَّةَ الرَّضَاعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ .
عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَاتِ ظَاهِرًا لَكِنْ مَا تَلَوْنَا حَاظِرٌ وَمَا تَلَوْتُمْ مُبِيحٌ وَالْعَمَلُ بِالْحَاظِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَشْهُورُ : { لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ } .
وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَدِيثِ هَذَا وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْحَوْلَيْنِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ ، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْإِرْضَاعَ عَلَى الْأَبِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ أَيْ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
ثُمَّ الرَّضَاعُ يُحَرِّمُ فِي الْمُدَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا سَوَاءٌ فُطِمَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ فُصِلَ الرَّضِيعُ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثُمَّ سُقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ ؛ كَانَ ذَلِكَ رَضَاعًا مُحَرِّمًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ فَيُحَرِّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا كَانَ فِي السَّنَتَيْنِ وَنِصْفٍ وَعِنْدَهُمَا مَا كَانَ فِي السَّنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ فِي وَقْتِهِ عُرِفَ مُحَرِّمًا فِي الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا فُطِمَ فِي السَّنَتَيْنِ حَتَّى اسْتَغْنَى بِالْفِطَامِ ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّنَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَضَاعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِنْ هِيَ فَطَمَتْهُ فَأَكَلَ أَكْلًا ضَعِيفًا لَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ عَادَ فَأُرْضِعَ كَمَا يُرْضَعُ أَوَّلًا فِي الثَّلَاثِينَ شَهْرًا فَهُوَ رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ كَمَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُفْطَمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ تَفْسِيرًا لِظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنَّ الرَّضَاعَ فِي الْمُدَّةِ بَعْدَ الْفِطَامِ إنَّمَا يَكُونُ رَضَاعًا مُحَرِّمًا لَمْ يَكُنْ الْفِطَامُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي بِالطَّعَامِ عَنْ الرَّضَاعِ ، فَإِنْ اسْتَغْنَى لَا يُحَرِّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ } عَلَى الْفِصَالِ الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الْفِصَالُ التَّامُّ الْمُغْنِي عَنْ الرَّضَاعِ .
وَيَسْتَوِي فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { : كَانَ فِيمَا نَزَلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمُ ، ثُمَّ صِرْنَ إلَى خَمْسٍ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِيمَا يُقْرَأُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ والإملاجتان } وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ وَمُنْشِزًا لِلْعَظْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مُحَرِّمًا وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } مُطْلَقًا عَنْ الْقَدْرِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ : لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ ، فَقَالَ : قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ : لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَقَالَ : حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَخَيْرٌ مِنْ حُكْمِهَا .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ : تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فَمَا الَّذِي نَسَخَهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الرَّضَاعُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلِهَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَنَّهُ مِنْ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَنُسِخَ الْعَدَدُ بِنَسْخِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ فِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابًا ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عُرْوَةُ عَنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَطْرَةً وَاحِدَةً مُحَرِّمٌ وَالرَّاوِي إذَا عَمِلَ بِخِلَافِ مَا رَوَى أَوْجَبَ ذَلِكَ وَهْنًا فِي ثُبُوتِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ لَعَمِلَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِعَدَمِ الْقَدْرِ الْمُحَرِّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ اللَّبَنَ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَمْ لَا وَمَا لَمْ يَصِلْ لَا يُحَرِّمُ فَلَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ الْقَدْرِ الْمُحْتَرَمِ وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا عَقَى الصَّبِيُّ فَقَدْ حُرِّمَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ هَلْ تُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّ الْعِقْيَ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ أَسْوَدُ لَزِجٌ إذَا وَصَلَ اللَّبَنُ إلَى جَوْفِهِ يُقَالُ هَلْ عَقَى صَبِيُّكُمْ أَيْ هَلْ سَقَيْتُمُوهُ عَسَلًا لِيَسْقُطَ عَنْهُ عِقْيُهُ إنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّبَنَ قَدْ صَارَ فِي جَوْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَى مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ حَتَّى يَصِيرَ فِي جَوْفِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي إرْضَاعِ الْكَبِيرِ حِينَ كَانَ مُحَرِّمًا ثُمَّ نُسِخَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الرَّضَاعَ إنَّمَا يُحَرِّمُ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ مُنْشِزًا لِلْعَظْمِ فَنَقُولُ :
الْقَلِيلُ يُنْبِتُ وَيُنْشِزُ بِقَدْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرِّمَ بِأَصْلِهِ وَقَدْرِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إنْ ثَبَتَتْ فَهِيَ مُبِيحَةٌ وَمَا تَلَوْنَا مُحَرِّمٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي عَلَى الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ الْجُرْعَةَ الْكَثِيرَةَ عِنْدَهُ لَا تُحَرِّمُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَرْعَةَ الْوَاحِدَةَ الْكَثِيرَةَ فِي إثْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ فَوْقَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ صِغَارٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مَدَارَ عَلَى هَذَا .
وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ لَبَنُ الْحَيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ بِأَنْ حُلِبَ لَبَنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فِي قَدَحٍ فَأُوجِرَ بِهِ صَبِيٌّ يُحَرِّمُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ لَا يُحَرِّمُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا حَلَبَ لَبَنَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فِي إنَاءٍ فَأُوجِرَ بِهِ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ .
( وَجْهٌ ) قَوْلُهُ إنَّ حُكْمَ الرَّضَاعِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَالْمَرْأَةُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِهَذَا الْحُكْمِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا عِنْدَكُمْ فَصَارَ لَبَنُهَا كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ وَلَوْ ارْتَضَعَ صَغِيرَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا كَذَا هَذَا وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهَا لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَأَوَّلًا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهَا فَكَيْفَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا حُلِبَ حَالَ حَيَاتِهَا ثُمَّ أُوجِرَ الصَّبِيُّ بَعْدَ وَفَاتِهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْحُكْمِ وَقْتَ انْفِصَالِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَنْجُسُ بِمَوْتِهَا لِتَنَجُّسِ وِعَائِهِ وَهُوَ الثَّدْيُ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ وَالدَّمَ وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَاسْمُ الرَّضَاعِ لَا يَقِفُ عَلَى الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ يَتِيمٌ رَاضِعٌ وَإِنْ كَانَ يَرْضَعُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَلَا عَلَى فِعْلِ الِارْتِضَاعِ مِنْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ مِنْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ يُسَمَّى ذَلِكَ رَضَاعًا حَتَّى يُحَرِّمَ وَيُقَالُ أَيْضًا : أُرْضِعَ هَذَا الصَّبِيُّ بِلَبَنِ هَذِهِ الْمَيِّتَةِ كَمَا يُقَالُ : أُرْضِعَ بِلَبَنِ الْحَيَّةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّضَاعُ مِنْ
الْمَجَاعَةِ } وَقَوْلُهُ { الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّضَاعُ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ } وَلَبَنُ الْمَيِّتَةِ يَدْفَعُ الْجُوعَ وَيُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ وَيَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ فَيُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ كَانَ مُحَرِّمًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْعَارِضُ هُوَ الْمَوْتُ وَاللَّبَنُ لَا يَمُوتُ كَالْبَيْضَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ اللَّبَنُ لَا يَمُوتُ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْحَيَاةِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَتَأَلَّمْ بِأَخْذِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا ، وَالْحَيَوَانُ يَتَأَلَّمُ بِأَخْذِ مَا فِيهِ حَيَاةٌ مِنْ لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ ؛ كَانَ حَالُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ كَحَالِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا وَقَبْلَ مَوْتِهَا مُحَرِّمٌ كَذَا بَعْدَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْحُرْمَةِ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ فَنَقُولُ الْحُرْمَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَا ثَبَتَتْ بِاعْتِبَارِ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَقَدْ بَقِيَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَبْقَى الْحُرْمَةِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ فَسَادِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِكَوْنِ الْوَطْءِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَتَقَدَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَقَوْلُهُ اللَّبَنُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ مَمْنُوعٌ وَهَذَا شَيْءٌ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَاللَّبَنُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ تَنَجَّسَ الْوِعَاءُ الْأَصْلِيُّ لَهُ وَنَجَاسَةُ الظَّرْفِ إنَّمَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ الظَّرْفُ مَعْدِنًا لِلْمَظْرُوفِ وَمَوْضِعًا لَهُ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُهُ وَمَظَانُّهُ فَنَجَاسَتُهُ لَا
تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ فِي الْمُذَكَّاةِ لَا يُنَجِّسُ اللَّحْمَ لَمَّا كَانَ فِي مَعْدِنِهِ وَمَظَانِّهِ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَبَ لَبَنَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَأُوجِرَ بِهِ الصَّبِيُّ يُحَرِّمُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوِعَاءَيْنِ ؛ إذْ النَّجَسُ فِي الْحَالَيْنِ مَا يُجَاوِرُ اللَّبَنَ لَا عَيْنَهُ ثُمَّ نَجَاسَةُ الْوِعَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْدِنِ اللَّبَنِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ فَمَا هُوَ مَعْدِنٌ لَهُ أَوْلَى ، وَيَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الِارْتِضَاعُ مِنْ الثَّدْيِ وَالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي التَّحْرِيمِ مِمَّا هُوَ مَعْدِنٌ لَهُ أَوْلَى وَيَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الِارْتِضَاعُ مِنْ الثَّدْيِ وَالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي التَّحْرِيمِ هُوَ حُصُولُ الْغِذَاءِ بِاللَّبَنِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَسَدِّ الْمَجَاعَةِ لَأَنْ يَتَحَقَّقَ الْجُزْئِيَّةُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ ؛ لِأَنَّ السَّعُوطَ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَإِلَى الْحَلْقِ فَيُغَذِّي وَيَسُدُّ الْجُوعَ وَالْوَجُورُ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَيُغَذِّي .
وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ فَلَا يُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُصُولُهُ إلَى الدِّمَاغِ لِضِيقِ الْخَرْقِ فِي الْأُذُنِ وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَضْلًا عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَعِدَةِ وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْعَيْنِ وَالْقُبُلِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْجَائِفَةِ وَفِي الْآمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ لَا إلَى الْمَعِدَةِ وَالْآمَّةُ إنْ كَانَ يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ لَكِنْ مَا يَصِلُ إلَيْهَا مِنْ الْجِرَاحَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِذَاءُ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَالْحُقْنَةُ لَا تُحَرِّمُ بِأَنْ حُقِنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُحَرِّمُ ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى أَوْجَبَتْ فَسَادَ الصَّوْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَصَلَ مِنْ الْفَمِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ هُوَ مَعْنَى التَّغَذِّي وَالْحُقْنَةُ لَا تَصِلُ إلَى مَوْضِعِ الْغِذَاءِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْغِذَاءِ هُوَ الْمَعِدَةُ وَالْحُقْنَةُ لَا تَصِلُ إلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِهَا نَبَاتُ اللَّحْمِ وَنُشُوزُ الْعَظْمِ وَانْدِفَاعُ الْجُوعِ فَلَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ .
وَلَوْ جُعِلَ اللَّبَنُ مَخِيضًا أَوْ رَائِبًا أَوْ شِيرَازًا أَوْ جُبْنًا أَوْ أَقِطًا أَوْ مَصْلًا فَتَنَاوَلَهُ الصَّبِيُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الرَّضَاعِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا يُنْشِزُ الْعَظْمَ وَلَا يَكْتَفِي بِهِ الصَّبِيُّ فِي الِاغْتِذَاءِ فَلَا يُحَرِّمُ وَلَوْ اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِغَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ أَمَّا إنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالدَّوَاءِ أَوْ بِالْمَاءِ أَوْ بِلَبَنِ الْبَهَائِمِ أَوْ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ حَتَّى نَضِجَ لَمْ يُحَرِّمْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ طَبْعِهِ بِالطَّبْخِ وَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الطَّعَامَ ؛ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا غَلَبَ سَلَبَ قُوَّةَ اللَّبَنِ وَأَزَالَ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّغَذِّي فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ .
وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا لِلطَّعَامِ وَهُوَ طَعَامٌ يَسْتَبِينُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَثْبُتُ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ وَإِلْحَاقَ الْمَغْلُوبِ بِالْعَدَمِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَا أَمْكَنَ كَمَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ أَوْ بِلَبَنِ شَاةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّعَامَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ يَرِقُّ وَيَضْعُفُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حِسِّ الْبَصَرِ فَلَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي تَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ فَكَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا مَعْنًى وَإِنْ كَانَ غَالِبًا صُورَةً وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ أَوْ بِالدُّهْنِ أَوْ بِالنَّبِيذِ ؛ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يُحَرِّمُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَحِلُّ بِصِفَةِ اللَّبَنِ وَصَيْرُورَتِهِ غِذَاءً بَلْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُخْلَطُ بِاللَّبَنِ لِيُوصَلَ اللَّبَنُ إلَى مَا كَانَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِقُوَّةِ التَّنْفِيذِ ثُمَّ اللَّبَنُ بِانْفِرَادِهِ
يُحَرِّمُ فَمَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبَ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إذَا صَارَ مَغْلُوبًا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّغَذِّي فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَكَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا يَثْبُتُ بِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا قُطِّرَ مِنْ الثَّدْيِ مِقْدَارَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي جُبِّ مَاءٍ فَسُقِيَ مِنْهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّبَنَ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ بِقَدْرِهِ فِي وَقْتِهِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ كَمَا إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا وَلَا شَكَّ فِي وَقْتِ الرَّضَاعِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمُحَرِّمَ مِنْ اللَّبَنِ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا فَهُوَ مَوْجُودٌ شَائِعٌ فِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرَى فَيُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ الْحُرْمَةَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ بِمَعْنَى التَّغَذِّي عَلَى مَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَاللَّبَنُ الْمَغْلُوبُ بِالْمَاءِ لَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ لِزَوَالِ قُوَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ فِي تَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرِّمًا وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُمَا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا وَقَاسَ الْمَاءَ عَلَى الطَّعَامِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اخْتِلَاطَهُ بِالْمَاءِ يَسْلُبُ قُوَّتَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا كَاخْتِلَاطِهِ بِالطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَطْلَقَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَلَوْ اخْتَلَطَ بِلَبَنِ الْبَهَائِمِ كَلَبَنِ الشَّاةِ وَغَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ
مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّبَنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْجِنْسُ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَلَا يَكُونُ خَلْطُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ اسْتِهْلَاكًا فَلَا يَصِيرُ الْقَلِيلُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْكَثِيرِ فَيُغَذِّي الصَّبِيَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ بِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ أَوْ سَدِّ الْجُوعِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْلُبُ قُوَّةَ الْآخَرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ لَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهُ أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ اشْتَرَكَا فِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَلَوْ خَلَطَهُ بِشَيْرَجٍ أَوْ بِدُهْنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ؛ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْمَغْصُوبَ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ قِسْطَ مَا اخْتَلَطَ بِزَيْتِهِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ غَيْرَ الْمَغْصُوبِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَمُ لَهُ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْجِنْسَيْنِ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِاخْتِلَاطِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَهُنَاكَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ كَذَا هَهُنَا وَلِمُحَمَّدٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَإِنَّ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى التَّغَذِّي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْلُبُ قُوَّةَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ ، وَاللَّبَنُ مَغْلُوبٌ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ أَوْ يُخِلُّ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ التَّغَذِّي أَوْ يَخْتَلُّ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهَا لَبَنٌ مِنْ وَلَدٍ كَانَتْ وَلَدَتْهُ مِنْهُ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا عِنْدَ الثَّانِي يُنْظَرُ إنْ أَرْضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْ الثَّانِي فَالرَّضَاعُ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ نَزَلَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ وَكَمَا لَوْ حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ ثُمَّ مَاتَتْ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الرَّضَاعِ مِنْ لَبَنِهَا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ بَعْدَمَا وَضَعَتْ مِنْ الثَّانِي فَالرَّضَاعُ مِنْ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْهُ ظَاهِرًا ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ بَعْدَمَا حَمَلَتْ مِنْ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ تَضَعَ ؛ فَالرَّضَاعُ مِنْ الْأَوَّلِ إلَى أَنْ تَضَعَ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ مِنْ الثَّانِي بِأَنْ ازْدَادَ لَبَنُهَا فَالرَّضَاعُ مِنْ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَالرَّضَاعُ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهَا إذَا حَبِلَتْ فَاللَّبَنُ لِلثَّانِي ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا إلَى أَنْ تَلِدَ فَإِذَا وَلَدَتْ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّبَنَ الْأَوَّلَ بَاقٍ وَالْحَمْلَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ زِيَادَةِ لَبَنٍ فَيَجْتَمِعُ لَبَنَانِ فِي ثَدْيٍ وَاحِدٍ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِمَا كَمَا قَالَ فِي اخْتِلَاطِ أَحَدِ اللَّبَنَيْنِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَضَعَتْ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْأَوَّلَ يَنْقَطِعُ بِالْوَضْعِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ اللَّبَنُ مِنْ الثَّانِي ؛ فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَنْزِلُ لَهَا لَبَنٌ فَلَمَّا ازْدَادَ لَبَنُهَا عِنْدَ الْحَمْلِ مِنْ الثَّانِي دَلَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الْحَمْلِ الثَّانِي ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لَكَانَ لَا يَزْدَادُ بَلْ يَنْقُصُ ؛ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ اللَّبَنَ يَنْقُصُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَلَا يَزْدَادُ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْحَمْلِ الثَّانِي لَا
مِنْ الْأَوَّلِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ بِالْحَمْلِ يَنْقَطِعُ اللَّبَنُ الْأَوَّلُ وَيَحْدُثُ عِنْدَهُ لَبَنٌ آخَرُ فَكَانَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْحَمْلِ الثَّانِي مِنْ الْحَمْلِ الثَّانِي لَا مِنْ الْأَوَّلِ ؛ فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ بِيَقِينٍ عَادَةً فَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُهُ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ آخَرُ مِثْلُهُ بِيَقِينٍ وَهُوَ وِلَادَةٌ أُخْرَى لَا الْحَمْلُ ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَنْزِلُ لَهَا لَبَنٌ بِسَبَبِ الْحَمْلِ وَقَدْ لَا يَنْزِلُ حَتَّى تَضَعَ وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : لَمَّا ازْدَادَ اللَّبَنُ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ اللَّبَنِ مِنْ الثَّانِي فَمَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّبَنِ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ اللَّبَنِ مِنْ الْحَمْلِ فَإِنَّ لِزِيَادَةِ اللَّبَنِ أَسْبَابًا مِنْ زِيَادَةِ الْغِذَاءِ وَجَوْدَتِهِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَاعْتِدَالِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا يَدُلُّ الْحَمْلُ عَلَى حُدُوثِ الزِّيَادَةِ بِالشَّكِّ فَلَا يَنْقَطِعُ الْحُكْمُ عَنْ الْأَوَّلِ بِالشَّكِّ ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
وَيَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الرَّضَاعُ الْمُقَارِنُ لِلنِّكَاحِ وَالطَّارِئُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ التَّحْرِيمِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ الرَّضَاعِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لَهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ أَوْ بِنْتُهُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتَ بِنْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَنَّهَا تَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا يَحْرُمُ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجَمْعُ كَمَا فِي النَّسَبِ فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ جَمِيعًا مَعًا حُرِّمْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأُولَتَانِ وَكَانَتْ الثَّالِثَةُ زَوْجَتَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةَ ؛ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَبَانَتَا مِنْهُ فَإِذَا أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لَهُمَا لَكِنَّهُمَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ كَذَا إذَا أَرْضَعَتْ الْبِنْتَيْنِ مَعًا ثُمَّ الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ أَرْضَعَتْ الْأُولَى ثُمَّ الثِّنْتَيْنِ مَعًا حُرِّمْنَ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَحْرُمْ وَكَذَا الْإِرْضَاعُ لِعَدَمِ الْجَمْعِ فَإِذَا أَرْضَعَتْ الْأُخْرَتَيْنِ مَعًا صِرْنَ أَخَوَاتٍ فِي
حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَفْسُدُ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حُرِّمْنَ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لِلْأُولَى فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَبَانَتَا ، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ الرَّابِعَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لِلثَّالِثَةِ فَحَصَلَ الْجَمْعُ ؛ فَبَانَتَا .
وَحُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ مَا إذَا تَزَوَّجَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ أَمَّا حُكْمُ النِّكَاحِ فَقَدْ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ مِنْ الرَّضَاعِ نِكَاحًا حَرَامٌ كَمَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَبَدًا كَمَا فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِالْكَبِيرَةِ ؛ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا كَمَا فِي النَّسَبِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْبِنْتِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا كَمَا فِي النَّسَبِ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُهَا وَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهَا ، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ حَقًّا لَهَا بِطَرِيقَةِ الصِّلَةِ وَبِالْإِرْضَاعِ خَرَجَتْ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَقَطَ مَهْرُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ تُوجِبُ سُقُوطَ كُلِّ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ يَعُودُ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ وَسَلَامَةُ الْمُبْدَلِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْبَدَلِ لِلْآخَرِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْمُبْدَلُ وَالْبَدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ فِي عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ .
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَتْ
الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ أَوْ بِطَلَاقٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَالًا مُقَدَّرًا بِنِصْفِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ صِلَةً لَهَا تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا لِمَا لَحِقَهَا مِنْ وَحْشَةِ الْفِرَاقِ بِفَوَاتِ نِعْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا فَإِذَا أَرْضَعَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَلَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا شَيْءَ لَهَا ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا لِوُجُودِ عِلَّةِ الْفُرْقَةِ مِنْهَا وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ اللَّبَنُ فِي جَوْفِهَا فَيُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ فَتَحْصُلُ الْجُزْئِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُرْضِعَةِ التَّمْكِينُ مِنْ ارْتِضَاعِهَا بِإِلْقَامِهَا ثَدْيَهَا فَكَانَتْ مُحَصِّلَةً لِلشَّرْطِ وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلصَّغِيرَةِ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلْمُرْضِعَةِ شَيْءٌ أَيْضًا وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَتْ تُوجِبُ سُقُوطَ كُلِّ الْمَهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى ابْتِدَاءً صِلَةٌ لِلْمَرْأَةِ نَظَرًا لَهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الصَّغِيرَةِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهَا عَنْ اسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَا يُوصَفُ بِالْخَطَرِ ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا لِنَجْعَلَ فِعْلَهَا دَلَالَةُ الرِّضَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَلَا تُحْرَمُ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى الْإِرْضَاعِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا ، وَإِرْضَاعُهَا جِنَايَةٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّظَرَ بِإِيجَابِ نِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا ابْتِدَاءً ؛ إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ عَلَى جِنَايَتِهِ بَلْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ بِالْحِرْمَانِ لِئَلَّا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا جِنَايَةٌ فِي الْحَالَيْنِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَتَعَمَّدْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا كَذَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّافِعِيِّ ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِتْلَافِ أَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا وَلِهَذَا لَمْ تَسْتَحِقَّ الْمَهْرَ أَصْلًا وَرَأْسًا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا صَارَتْ بِالْإِرْضَاعِ مُؤَكِّدَةً نِصْفَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِرِدَّتِهَا أَوْ تَمْكِينِهَا مِنْ ابْنِ الزَّوْجِ أَوْ تَقْبِيلِهَا إذَا كَبُرَتْ فَهِيَ بِالْإِرْضَاعِ أَكَّدَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَصَارَتْ مُتْلِفَةً عَلَيْهِ مَالَهُ فَتَضْمَنُ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا وَإِنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَهِيَ صَاحِبَةُ شَرْطٍ فِي ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْفُرْقَةِ هِيَ الِارْتِضَاعُ لِلصَّغِيرَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ إرْضَاعَهَا إنْ كَانَ سَبَبَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ وَالسَّبَبُ إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا ، وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ لَهُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ السَّبَبِ مُتَعَمِّدًا فِي مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ كَفَتْحِ بَابِ الْإِصْطَبْلِ وَالْقَفَصِ حَتَّى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ أَوْ طَارَ الطَّيْرُ وَضَاعَ ؛ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا إمَّا
أَنْ يَجِبَ بِإِتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ بِإِتْلَافِ الصَّدَاقِ أَوْ بِتَأْكِيدِ نِصْفِهِ عَلَى الزَّوْجِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ عَلَى أَصْلِنَا وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا مَا أَتْلَفَتْ الصَّدَاقَ بَلْ أَسْقَطَتْ نِصْفَهُ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَقِيَ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُمَاثِلُ التَّفْوِيتَ فَلَا يَكُونُ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُحَصِّلَةً شَرْطَ الْفُرْقَةِ ، وَعِلَّةُ الْفُرْقَةِ مِنْ الصَّغِيرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الشَّرْطَ مَعَ الْعِلَّةِ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَيْ فِي سَبَبِ الْمُؤَاخَذَةِ وَعَدَمِهِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَحْظُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ كَمَا فِي حَقِّ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَالْكَبِيرَةُ إذَا لَمْ تَكُنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَقَدْ اسْتَوَى الشَّرْطُ وَالْعِلَّةُ فِي عَدَمِ الْحَظْرِ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ؛ كَانَ الشَّرْطُ مَحْظُورًا وَهُوَ إرْضَاعُ الْكَبِيرَةِ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ وَهِيَ ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى وَإِذَا أُضِيفَتْ الْفُرْقَةُ إلَى الْكَبِيرَةِ عِنْدَ تَعَمُّدِهَا الْفَسَادَ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلصَّغِيرَةِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً مُلَازِمًا لِلْفُرْقَةِ ؛ صَارَتْ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهَا كَأَنَّهَا عِلَّةُ لِوُجُوبِهِ لَا أَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ لِكُلِّهِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ فَصَارَتْ الْكَبِيرَةُ مُتْلِفَةً
هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ إذْ الْأَدَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى فِعْلِ الْكَبِيرَةِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا عِلَّةُ وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ فَتْحِ بَابِ الْإِصْطَبْلِ وَالْقَفَصِ فَكَمَا يَلْزَمُهَا يَلْزَمُ مُحَمَّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَإِنْ اعْتَرَضَ عَلَى الْفَتْحِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا ؛ فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْبَاقِي فَافْهَمْ ثُمَّ تَعَمُّدُ الْفَسَادِ يَثْبُتُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِعِلْمِهَا بِنِكَاحِ الصَّغِيرَةِ ، وَعِلْمِهَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِإِرْضَاعِهَا وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لَوْ لَمْ تُرْضِعْهَا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي أَنَّهَا لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِدَعْوَى تَعَمُّدِ الْفَسَادِ يَدَّعِي عَلَيْهَا الضَّمَانَ وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ فَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا حُرِّمْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا صَارَتَا بِنْتَيْنِ لِلْمُرْضِعَةِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ نِكَاحًا فَحُرِّمْنَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ فَتَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ .
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّغِيرَتَيْنِ نِكَاحًا أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِحْدَاهُمَا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَلَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ كَمَا فِي النَّسَبِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ؛ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي النَّسَبِ وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ : وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ مَعَ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَبَانَتَا مِنْهُ .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّمَا أَرْضَعَتْهَا بَعْدَ مَا بَانَتْ الْكَبِيرَةُ فَلَمْ يَصِرْ جَامِعًا لَكِنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّغِيرَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى حَرُمْنَ عَلَيْهِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عَلَيْهِ ، لَمَّا أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَالْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى مُبَانَتَانِ فَلَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ وَقَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ
بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ حَتَّى تُرْضِعَ الثَّالِثَةَ فَإِذَا أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَالْحُكْمُ فِي تَزَوُّجِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَغِيرَتَيْنِ وَتَزَوُّجِ إحْدَى الصَّغَائِرِ مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ وَكَبِيرَتَيْنِ فَعَمَدَتْ الْكَبِيرَتَانِ إلَى إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتَاهَا إحْدَاهُمَا بَعْدَ أُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الثَّانِيَةَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الْأُولَى صَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَصَارَتْ الصَّغِيرَةُ بِنْتَ امْرَأَتِهِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ فَحُرِّمْنَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرْضَعَتَا الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتَاهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَمْ يَصِرْ جَامِعًا فَلَا تَحْرُمُ هَذِهِ الصَّغِيرَةُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَلَكِنَّهَا ابْنَةُ مَنْكُوحَةٍ كَانَتْ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَحْرُمُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالٍ وَالْأَمْرُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي مَرَّ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي بَدَأَتْ بِهَا الْكَبِيرَةُ الْأُولَى ؛ بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الْأُخْرَى امْرَأَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لَمْ تَبْدَأْ بِهَا الْأُولَى حُرِّمْنَ عَلَيْهِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْأُولَى لَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عَلَيْهِ .
فَلَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى أَرْضَعَتْهَا
وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ لَكِنْ صَارَتْ الْأُخْرَى رَبِيبَتَهُ .
فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَحْرُمُ فَلَمَّا جَاءَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَتِهِ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُخْرَى فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَصَارَتْ رَبِيبَتَهُ فَلَا تَحْرُمُ إذَا كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا تَحْرُمُ وَإِنْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لَمْ تَبْدَأْ بِهَا الْكَبِيرَةُ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا فَصَارَ جَامِعَهَا مَعَ أُمِّهَا فَحُرِّمَتَا عَلَيْهِ كَمَا حُرِّمَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فَحُرِّمْنَ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْ أُخْتُ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِ امْرَأَتِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي النَّسَبِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا عَمَّةُ الْكَبِيرَةِ أَوْ خَالَتُهَا لَمْ تَبِنْ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ عَمَّةِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتَ خَالَتِهَا وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا أَوْ بِنْتِ خَالَتِهَا فِي النَّسَبِ فَكَذَا فِي الرَّضَاعِ وَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَته ثَلَاثًا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا امْرَأَةً لَهُ صَغِيرَةً بَانَتْ الصَّغِيرَةُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتًا لَهُ فَحَصَلَ الْجَمْعُ فِي حَالِ الْعِدَّةِ وَالْجَمْعُ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالْجَمْعِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ ، وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ امْرَأَةً لَهَا لَبَنٌ فَارْتَدَّتْ وَبَانَتْ مِنْ الصَّبِيِّ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَحَبِلَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهَا ذَلِكَ الصَّبِيَّ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا
الثَّانِي كَذَا رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ صَارَ ابْنًا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَنْكُوحَةَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ أُمَّ وَلَدِهِ مَمْلُوكًا لَهُ صَغِيرًا فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ السَّيِّدِ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ صَارَ ابْنًا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ ابْنِهِ وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَةٍ كَانَتْ لَهُ فَتَحْرُمُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ أَيْ : يَظْهَرُ بِهِ فَالرَّضَاعُ يَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْإِقْرَارُ وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ .
أَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا : هِيَ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ بِنْتِي مِنْ الرَّضَاعِ وَيَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ مَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ لِلْحَالِ فَيُصَدَّقُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا صُدِّقَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَا يَكُونُ فِي إبْقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ أَوْ كَذَّبَتْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي زَعْمِهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَذَّبَتْهُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُصَدِّقٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَيْهَا بِإِبْطَالِ حَقِّهَا فِي الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : أَوْهَمْت أَوْ أَخْطَأْت أَوْ غَلِطْت أَوْ نَسِيت أَوْ كَذَبْت ؛ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعَ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : أَوْهَمْت ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ : هَذِهِ امْرَأَتِي أَوْ أُمِّي أَوْ أُخْتِي أَوْ ابْنَتِي ثُمَّ قَالَ : أَوْهَمْت ؛ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَتَعْتِقُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فَقَوْلُهُ : هَذِهِ أُخْتِي إخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ قَطُّ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ .
فَإِذَا قَالَ : أَوْهَمْت ؛ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ : مَا تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ قَالَ : تَزَوَّجْتهَا وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَوْ
قَالَ ذَلِكَ ؛ يُقَرَّانِ عَلَى النِّكَاحِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا إقْرَارٌ مِنْهُ بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ جِهَتِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِذَا أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ لِأَمَتِهِ : هَذِهِ أُمِّي أَوْ ابْنَتِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ حَقِيقَةً ؛ جَازَ دُخُولُهَا فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَتِهِ ، فَتَضَمَّنَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ إنْشَاءَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا فَإِذَا قَالَ : أَوْهَمْت لَا يُصَدَّقُ كَمَا لَوْ قَالَ : هَذِهِ حُرَّةٌ ثُمَّ قَالَ : أَوْهَمْت وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِهَذَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَقَالَ هَذِهِ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُمِّي أَوْ ابْنَتِي وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ قَالَ : أَوْهَمْت أَوْ غَلِطْت جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ جَحَدَ الْإِقْرَارَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فَقَالَ : هَذِهِ أُمِّي مِنْ النَّسَبِ أَوْ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي وَلَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَأَنَّهَا تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ أَوْ أُمًّا لَهُ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِظُهُورِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ : أَوْهَمْت أَوْ أَخْطَأْت أَوْ غَلِطْت ؛ يُصَدَّقُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ لَا تَصْلُحُ أُمًّا أَوْ بِنْتًا لَهُ ؛ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ : فَهِيَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الرَّضَاعِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ .
وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الرَّضَاعِ شَهَادَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الثَّدْيِ وَإِنَّهُ عَوْرَةٌ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالْوِلَادَةِ وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ النَّكِيرُ مِنْ أَحَدٍ ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ هَذَا بَابٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالْمَالِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ أَمَّا ثَدْيُ الْأَمَةِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا ثَدْيُ الْحُرَّةِ فَيَجُوزُ لِمَحَارِمِهَا النَّظَرُ إلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِذَا جَازَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِيهَا مِنْ الرِّجَالِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْقَبُولِ وَإِذَا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُفَارِقَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ : تَزَوَّجْت بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ : إنِّي أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَارِقْهَا فَقُلْت إنَّهَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَإِنَّهَا كَيْت وَكَيْت فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ : وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ عُقْبَةُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ ثُمَّ ذَكَرْتُهُ فَأَعْرَضَ حَتَّى قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ : فَدَعْهَا إذًا } وَقَوْلُهُ : فَارِقْهَا أَوْ فَدَعْهَا إذًا نَدْبٌ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ أَعْرَضَ وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ فَدَلَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارِقْهَا عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَسَأَلَ الرَّجُلُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ هِيَ امْرَأَتُك لَيْسَ أَحَدٌ يُحَرِّمُهَا عَلَيْك فَإِنْ تَنَزَّهْت فَهُوَ أَفْضَلُ وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً فِي شَهَادَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هُوَ الْمُفَارَقَةَ .
فَإِذَا فَارَقَهَا فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْأَفْضَلُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ لِاحْتِمَالِ فَسَادِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَالْأَفْضَلُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى وَلَا تَأْخُذُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْمُقَامِ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ فِي الْحُكْمِ ، وَكَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَوْ رَجُلَانِ غَيْرُ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ غَيْرُ عُدُولٍ
لِمَا قُلْنَا ، وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فَاسِدًا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ النَّفَقَةِ ) : النَّفَقَةُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ : نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ ، وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ ، وَنَفَقَةُ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي .
بَيَانِ وُجُوبِهَا وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا وَبَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ .
أَمَّا وُجُوبُهَا فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } أَيْ : عَلَى قَدْرِ مَا يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ السَّعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى النَّفَقَةِ إلَّا بِالْخُرُوجِ وَالِاكْتِسَابِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَهُوَ نَصٌّ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } أَيْ : لَا تُضَارُّوهُنَّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ فَيَخْرُجْنَ أَوْ لَا تُضَارُّوهُنَّ فِي الْمَسْكَنِ فَتَدْخُلُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الْمَسْكَنَ فَيَخْرُجْنَ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ : هُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ كِسْوَتُهُنَّ وَرِزْقُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قَالَ ثَلَاثًا : أَلَا هَلْ بَلَّغْت } وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَ الْحَقُّ فِي قَوْلِهِ { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَكَانَ الْحَدِيثُ مُبَيِّنًا لِمَا فِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُطْعِمُهَا إذَا طَعِمَ وَيَكْسُوهَا إذَا كُسِيَ وَأَنْ لَا يَهْجُرَهَا إلَّا فِي الْمَبِيتِ وَلَا يَضْرِبَهَا وَلَا يُقَبِّحْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } وَلَوْ لَمْ تَكُنْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً ؛ لَمْ يُحْتَمَلْ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى هَذَا ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ بِحَبْسِ النِّكَاحِ حَقًّا لِلزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الِاكْتِسَابِ بِحَقِّهِ فَكَانَ نَفْعُ حَبْسِهَا عَائِدًا إلَيْهِ فَكَانَتْ كِفَايَتُهَا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً بِحَبْسَةٍ مَمْنُوعَةٍ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ بِحَقِّهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كِفَايَتُهَا عَلَيْهِ لَهَلَكَتْ وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْقَاضِي رِزْقٌ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِحَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِجِهَتِهِمْ مَمْنُوعٌ عَنْ الْكَسْبِ فَجُعِلَتْ
نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ بَيْتُ الْمَالِ كَذَا هَهُنَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : سَبَبُ وُجُوبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السَّبَبُ هُوَ الزَّوْجِيَّةُ وَهُوَ كَوْنُهَا زَوْجَةً لَهُ وَرُبَّمَا قَالُوا : مِلْكُ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا وَرُبَّمَا قَالُوا : الْقِوَامَةُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ قَوَّامِينَ وَالْقِوَامَةُ تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمَمْلُوكِ مِنْ بَابِ إصْلَاحِ الْمِلْكِ وَاسْتِبْقَائِهِ فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِهِ الْمِلْكُ ، كَنَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ مُؤَثِّرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا الْمِلْكُ فَلَا أَثَرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً وَهُوَ الْمَهْرُ فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ ؛ إذْ الْعِوَضُ الْوَاحِدُ لَا يُقَابَلُ بِعِوَضَيْنِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إثْبَاتَ الْقِوَامَةِ بِسَبَبِ النَّفَقَةِ لَا إيجَابَ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ الْقِوَامَةِ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً وَكَذَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُ إنْ ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَالِ النِّكَاحِ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ فِي النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا تَجِبَ فِي الْعِدَّةِ أَوْلَى وَتَجِبُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَمَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّهَا قَبْلَ الْفُرْقَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ تَأَكَّدَ بِحَقِّ الشَّرْعِ وَتَأَكُّدُ السَّبَبِ يُوجِبُ تَأَكُّدَ الْحُكْمِ فَلَمَّا وَجَبَتْ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ؛ فَبَعْدَهَا أَوْلَى سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا ، أَوْ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِطَلَاقٍ ؛ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا عِنْدَنَا لِقِيَامِ حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَهِيَ حَامِلٌ فَكَذَلِكَ .
فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِزَوَالِ النِّكَاحِ بِالْإِبَانَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا السُّكْنَى إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ فِي السُّكْنَى بِالنَّصِّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ وَلَا سُكْنَى لَهَا وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِبَدَلٍ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَهُوَ الْخُلْعُ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ؛ يَبْرَأُ مِنْ النَّفَقَةِ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ السُّكْنَى لَكِنَّهُ يَبْرَأُ عَنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا عَلَى الْخُلُوصِ وَكَذَا مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْ حَقِّهَا فَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَمْلِكُ الْمُعْتَدَّةُ إسْقَاطَهُ وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لَا
يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْوُجُوبِ وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا قَبْلَ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا عَلَى نَفَقَتِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْخُلْعِ وَلِأَنَّهَا جَعَلَتْ الْإِبْرَاءَ عَنْ النَّفَقَةِ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهَا فِي الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ سَابِقَةِ الْوُجُوبِ فَيُثْبِتُ الْوُجُوبُ مُقْتَضَى الْخُلْعِ بِاصْطِلَاحِهِمَا كَمَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى النَّفَقَةِ أَنَّهَا تَجِبُ وَتَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى سَوَاءٌ كَانَتْ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْبُلُوغِ أَوْ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ كَالرِّدَّةِ وَوَطْءِ أُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا أَوْ تَقْبِيلِهِمَا بِشَهْوَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لِقِيَامِ السَّبَبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَكَذَلِكَ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ ارْتَدَّتْ أَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا اسْتِحْسَانًا وَلَهَا السُّكْنَى وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَكَمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَدْ بَطَلَ بِرِدَّتِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحْبَسُ بَعْدَ الرِّدَّةِ جَبْرًا لَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ لِثُبُوتِ بَقَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ فَلَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ
مُبَاحٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَبْسَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَبَقِيَتْ النَّفَقَةُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحْبَسُ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ فَيَبْقَى حَبْسُ النِّكَاحِ فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لَكِنْ هَذَا يُشْكَلُ بِمَا إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ ؛ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَإِنْ بَقِيَ حَبْسُ النِّكَاحِ مَا دَامَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَلَا إشْكَالَ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا خَاصَّةً بِفِعْلٍ هُوَ مَحْظُورٌ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ وَهُوَ حَبْسُ النِّكَاحِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالثَّانِي أَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ صِلَةً لَهَا فَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلِهَا الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ لَمْ تَسْتَحِقَّ الصِّلَةَ ؛ إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ الصِّلَةَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ فِي الْحِرْمَانِ لَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً عَلَى الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الصِّلَةِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَبِخِلَافِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا قِبَلَ الزَّوْجِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِعْلُهُ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْغَيْرِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَإِنَّمَا لَمْ تُحْرَمْ السُّكْنَى بِفِعْلِهَا الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ فِي السُّكْنَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ ارْتَدَّتْ فِي النِّكَاحِ حَتَّى حُرِمَتْ النَّفَقَةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ ؛ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَوْ ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ تَعُودُ النَّفَقَةُ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بَقِيَتْ وَاجِبَةً بَعْدَ الْفُرْقَةِ
قَبْلَ الرِّدَّةِ لِبَقَاءِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَبْسُ النِّكَاحِ وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ثُمَّ امْتَنَعَ وُجُوبُهَا مِنْ بَعْدِ تَعَارُضِ الرِّدَّةِ فَإِذَا عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ فَتَعُودُ النَّفَقَةُ .
وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَالنَّفَقَةُ لَمْ تَبْقَ وَاجِبَةً وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِبُطْلَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا بِالرِّدَّةِ فِي حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ ذَلِكَ الْحَبْسِ فَلَا يَعُودُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ فَلَا تَعُودُ النَّفَقَةُ بِدُونِهِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ بَطَلَتْ فِي الْعِدَّةِ لِعَارِضٍ مِنْهَا ثُمَّ زَالَ الْعَارِضُ فِي الْعِدَّةِ ؛ تَعُودُ نَفَقَتُهَا وَكُلُّ مَنْ بَطَلَتْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَشَزَتْ ثُمَّ عَادَتْ ؛ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ؛ لِأَنَّ النُّشُوزَ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا فَوَّتَ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فَإِذَا عَادَتْ فَقَدْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَاسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ وَلَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ وَهُوَ رَجْعِيٌّ ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مَا وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا وَهُوَ مَحْظُورٌ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا إلَى أَنْ تَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ يَفُوتُ بِالرِّدَّةِ وَلَا يَفُوتُ بِالْمُطَاوَعَةِ وَالْمَسِّ ، وَلَوْ ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَتْ وَأَسْلَمَتْ أَوْ سُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ أَوْ لَمْ تُعْتَقْ ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ
الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللَّحَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ طَلَاقًا بَائِنًا وَقَدْ كَانَ الْمَوْلَى بَوَّأَهَا مَعَ زَوْجِهَا بَيْتًا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا الْمَوْلَى لِخِدْمَتِهِ حَتَّى سَقَطَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الزَّوْجِ وَيَأْخُذَ النَّفَقَةَ ؛ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا حَتَّى طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ لِتَجِبَ النَّفَقَةُ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ - وَشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا إلَى خِدْمَتِهِ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى الزَّوْجِ الِاحْتِبَاسَ الثَّابِتَ حَقًّا لَهُ وَالتَّسْلِيمَ ؛ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لَهُ ، فَإِذَا أَعَادَهَا إلَى الزَّوْجِ عَادَ حَقُّهُ فَيَعُودُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي النَّفَقَةِ فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَالنَّفَقَةُ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الْعِدَّةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ يُرِيدُ إلْزَامَ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ ابْتِدَاءً فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ يَوْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِيهَا ؛ فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ النَّفَقَةَ ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا يَوْمَ الطَّلَاقِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ أَبَدًا إلَّا النَّاشِزَةَ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَوِي فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْأَشْهُرِ وَعِدَّةُ الْحَمْلِ ؛ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ لِعُذْرِ الْحَبَلِ أَوْ لِعُذْرٍ آخَرَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِهَا حَتَّى لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ
أَنْفَقَ عَلَيْهَا إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ مَضَتْ سَنَتَانِ وَلَمْ تَضَعْ فَقَالَتْ : كُنْتُ أَتَوَهَّمُ أَنِّي حَامِلٌ وَلَمْ أَحِضْ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ لِعُذْرِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وَقَالَ الزَّوْجُ : إنَّك ادَّعَيْت الْحَمْلَ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيَّ النَّفَقَةُ لِعِلَّةِ الْحَمْلِ ، وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيَّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِ وَيُلْزِمُهُ النَّفَقَةَ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَتَدْخُلَ فِي عِدَّةِ الْإِيَاسِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعُذْرَيْنِ إنْ بَطَلَ وَهُوَ عُذْرُ الْحَمْلِ فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ عُذْرُ امْتِدَادِ الطُّهْرِ ؛ إذْ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ فِي ذَلِكَ .
فَإِنْ لَمْ تَحِضْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ ؛ أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَطَلَّقَهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَقْبَلَتْ عِدَّةَ الْأَقْرَاءِ أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ طَالَبَتْهُ امْرَأَةٌ بِالنَّفَقَةِ وَقَدَّمَتْهُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ الرَّجُلُ لِلْقَاضِي : قَدْ كُنْتُ طَلَّقْتهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَجَحَدَتْ الْمَرْأَةُ الطَّلَاقَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الزَّوْجِ إنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ ، وَلَكِنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مُنْذُ أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُمَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ وَفَرَضَ لَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةَ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ لَمْ
تَظْهَرْ بَعْدُ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَادِلَةً أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ شَيْئًا تَرُدُّهُ عَلَيْهِ لِظُهُورِ ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ مُنْذُ سَنَةٍ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنْ قَالَتْ لَمْ أَحِضْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَهَا النَّفَقَةَ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَوْلُهَا .
فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ نَفَقَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهَا ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَسْتَرِدُّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَامْتَدَّ مَرَضُهُ إلَى سَنَتَيْنِ وَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ وَقَدْ كَانَ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ ؛ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهَا نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ وَلَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَلَا نَفَقَةَ فِي الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَتْ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَنْعَدِمُ السَّبَبُ وَهُوَ الْحَبْسُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ لَمْ يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ الْمَاءِ
فَأَشْبَهَتْ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بِالِاحْتِبَاسِ وَقَدْ زَالَ بِالْإِعْتَاقِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالِاحْتِبَاسِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلِوُجُوبِهَا شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي : نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَنَفَقَةَ الْعِدَّةِ .
وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ : التَّخْلِيَةَ وَهِيَ أَنْ تَخْلِي بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِرَفْعِ الْمَانِعِ مِنْ وَطْئِهَا أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا حَقِيقَةً إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَسَائِلُ : إذَا تَزَوَّجَ بَالِغَةً حُرَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً وَنَقَلَهَا إلَى بَيْتِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْقُلْهَا وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ وَلَمْ يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَالزَّوْجُ بِتَرْكِ النُّقْلَةِ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ فَإِنْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ فَامْتَنَعَتْ فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ بِأَنْ امْتَنَعَتْ لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْعَاجِلِ - فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعَاجِلِ مِنْ مَهْرِهَا ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا : لَوْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ بَعْدَ مَا أَوْفَاهَا الْمَهْرَ إلَى دَارٍ مَغْصُوبَةٍ فَامْتَنَعَتْ فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ فَلَمْ تَمْتَنِعْ مِنْ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَتْ سَاكِنَةً مَنْزِلَهَا فَمَنَعَتْهُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا لَا عَلَى سَبِيلِ النُّشُوزِ فَإِنْ قَالَتْ
حَوِّلْنِي إلَى مَنْزِلِك أَوْ اكْتَرِ لِي مَنْزِلًا أَنْزِلُهُ فَإِنِّي أَحْتَاجُ إلَى مَنْزِلِي هَذَا آخُذُ كِرَاءَهُ - فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عَنْ التَّسْلِيمِ فِي بَيْتِهَا لِغَرَضِ التَّحْوِيلِ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ إلَى مَنْزِلِ الْكِرَاءِ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ ؛ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْفَاهَا مَهْرَهَا أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا تَجِبُ ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ لِلنَّاشِزَةِ وَهَذِهِ نَاشِزَةٌ ، وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا بِرِضَاهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا نَفَقَةَ لَهَا لِكَوْنِهِ مَنْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ عِنْدَهُمَا وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا مُحِقَّةٌ فِي الْمَنْعِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ فِي النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ كَانَتْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهَا النَّفَقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ النِّكَاحُ وَشَرْطُهُ عَدَمُ النُّشُوزِ وَقَدْ وُجِدَ وَشَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَنَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا لِقِيَامِ الْمَانِعِ فِي نَفْسِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِذَلِكَ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ ؛ فَلَا يَجِبُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ تَخْدُمُ الزَّوْجَ وَيَنْتَفِعُ الزَّوْجُ بِهَا بِالْخِدْمَةِ فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا .
فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا
؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْتَمِلْ الْوَطْءَ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْهَا نَوْعُ مَنْفَعَةٍ وَضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ ، وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى يَجِيءَ حَالٌ يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى جِمَاعِهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةً ؛ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ مِنْهَا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا أَوْ مَحْبُوسًا فِي دَيْنٍ أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ خَارِجًا لِلْحَجِّ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً قَبْلَ النُّقْلَةِ مَرَضًا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ فَنُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا أَيْضًا فَإِذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فَلَمْ يَنْقُلْهَا الزَّوْجُ وَهِيَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ النُّقْلَةِ لَوْ طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَإِنْ كَانَتْ تَمْتَنِعُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا كَالصَّحِيحَةِ كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا قَبْلَ النُّقْلَةِ فَإِذَا نُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ ؛ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ ؛ إذْ هُوَ تَخْلِيَةٌ وَتَمْكِينٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْمَانِعِ وَهُوَ تَبَوُّءُ الْمَحَلِّ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ وَإِذَا أَسْلَمَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ مِنْ الْوَطْءِ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّسْلِيمَ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي
الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا : أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ صَوْمَ رَمَضَانَ وَإِذَا امْتَنَعَتْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّسْلِيمُ رَأْسًا ؛ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا كَانَتْ الْمَرِيضَةُ تُؤْنِسُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ وَإِنْ نُقِلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ مَرِضَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ مَرَضًا لَا تَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صَحِيحَةً كَذَا الِانْتِقَالُ ثُمَّ قَصُرَ التَّسْلِيمُ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ أَوْ نَقُولُ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ قَبْلَ الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ هُوَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا فِي حَقِّ الْوَطْءِ كَمَا فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَكَذَا إذَا نَقَلَهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُهَا فَصَارَتْ مَعْتُوهَةً مَغْلُوبَةً أَوْ كَبِرَتْ فَطَعَنَتْ فِي السِّنِّ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ زَوْجُهَا جِمَاعَهَا أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ - فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ حُبِسَتْ فِي دَيْنٍ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْحَبْسُ قَبْلَ الِانْتِقَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى التَّخْلِيَةِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ قَدْ بَطَلَ بِإِعْرَاضِ حَبْسِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِحَبْسِهَا بِالدَّيْنِ وَفَاتَ التَّسْلِيمُ أَيْضًا بِمَعْنًى مِنْ
قِبَلِهَا وَهُوَ مَطْلَبُهَا فَصَارَتْ كَالنَّاشِزِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً فِي دَيْنٍ مِنْ قَبْلِ النُّقْلَةِ فَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْلِيَةِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَهَذَا تَفْسِيرُ مَا أَجْمَلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُوصِلَهُ إلَيْهَا ؛ فَالظَّاهِرُ مِنْهَا عَدَمُ الْمَنْعِ لَوْ طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهَا فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْلِيَةِ فَالتَّسْلِيمُ فَاتَ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ مُمَاطَلَتُهَا فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ النُّقْلَةِ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا لِمَا قُلْنَا فِي الْمَرِيضَةِ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي الْحَبْسِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْقَضَاءِ فَلَمْ تَقْضِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَقْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ صَارَتْ كَأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا فَتَصِيرُ بِمَعْنَى النَّاشِزَةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ ثُمَّ أَخَذَهَا رَجُلٌ كَارِهَةً فَهَرَبَ بِهَا شَهْرًا أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَنَعَهَا لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا ، وَالرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ لَهُمَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا إذَا طَلَبَتَا وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا الِامْتِنَاعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهُمَا النَّفَقَةَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ فَأَمَّا قَبْلَ الِانْتِقَالِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُمَا ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ
الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَهُمَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ فِي الْمَرِيضَةِ ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا قَالَ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا ، وَقَالَ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالْمَرِيضَةِ الَّتِي يَسْتَأْنِسُ بِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ فِي حَقِّهِمَا مُوجِبًا تَسْلِيمَ مِثْلِهِمَا وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْوَطْءِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّسْلِيمِ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ كَتَسْلِيمِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ مَعَ مَا أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ بِالْعِلَاجِ فَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا وَطْئًا ، وَلَوْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّقْلَةِ فَإِنْ حَجَّتْ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ ؛ فَهِيَ نَاشِزَةٌ وَإِنْ حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهَا النَّفَقَةُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ فَاتَ بِأَمْرٍ مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ خُرُوجُهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالنَّاشِزَةِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ وَهَذَا لَا يُبْطِلُ النَّفَقَةَ كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ نَقُولُ حَصَلَ التَّسْلِيمُ الْمُطْلَقُ بِالِانْتِقَالِ ثُمَّ فَاتَ لِعُذْرٍ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ كَالْمَرِيضَةِ ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ يَفْرِضُ لَهَا الْقَاضِي نَفَقَةَ الْإِقَامَةِ لَا
نَفَقَةَ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نَفَقَةُ الْحَضَرِ فَأَمَّا زِيَادَةُ الْمُؤْنَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَرْأَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْكِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ، وَالْفَرْضُ عَلَيْهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ فِي الْحَضَرِ كَانَتْ الْمُدَاوَاةُ عَلَيْهَا لَا عَلَى الزَّوْجِ فَإِنْ جَاوَرَتْ بِمَكَّةَ أَوْ أَقَامَتْ بِهَا بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ إقَامَةً لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْذُورَةٍ فِي ذَلِكَ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ فَإِنْ طَلَبَتْ نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَدْرَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُعْطِيهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا عَادَتْ أَخَذَتْ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَهَا نَفَقَةُ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةُ السَّفَرِ ، وَنَفَقَةُ الْإِقَامَةِ تُفْرَضُ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ فَشَهْرٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا تَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ هَذَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ الزَّوْجُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَطْئًا وَاسْتِمْتَاعًا فِي الطَّرِيقِ فَصَارَتْ كَالْمُقِيمَةِ فِي مَنْزِلِهِ ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَالتَّسْلِيمَ مَوْجُودٌ وَلِتَمَكُّنِهِ مِنْ وَطْئِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي الْإِيلَاءِ وَبِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ فَوُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ بِهَا ؛ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا مُدَّةَ عِدَّةِ أُخْتِهَا فَلِامْرَأَتِهِ النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِعَارِضٍ يَزُولُ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَصَوْمَ
رَمَضَانَ وَلَا نَفَقَةَ لِأُخْتِهَا وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَمَةً أَوْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَنَّهُ إنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى تَجِبُ النَّفَقَةُ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّبْوِئَةِ ؛ لِأَنَّ التَّبْوِئَةَ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْمَوْلَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا لَا يَسْتَخْدِمُهَا فَإِذَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى ؛ لَمْ تَكُنْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا مُسَلَّمَةً إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى التَّبْوِئَةِ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ بِالتَّبْوِئَةِ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَارِيَّتَهُ وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، وَلَوْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ فَكَانَتْ تَجِيءُ فِي أَوْقَاتٍ إلَى مَوْلَاهَا فَتَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا قَالُوا لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْخِدْمَةِ لَا يَقْدَحُ فِي التَّسْلِيمِ كَالْحُرَّةِ إذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبْوِئَةُ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا لَيْسَتْ حَقَّ الْمَوْلَى ؛ إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ فِي مَنَافِعِهَا كَالْحُرَّةِ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى التَّسْلِيمِ وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ
النَّفَقَةُ .
وَالْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَهُوَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْحُرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ ؛ وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ إذَا صَارَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ ؛ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى فَيَسْقُطَ حَقُّ الْغَرِيمِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَيَبْدَأُ بِهَا قَبْلَ الْغَلَّةِ لِمَوْلَاهُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى ضَرَبَ عَلَيْهِ ضَرِيبَةً فَإِنَّ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ تُقَدَّمُ عَلَى ضَرِيبَةِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهَا بِالْفَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ حَتَّى يُبَاعَ بِهَا فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْبَيْعِ ؛ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ وَلَا يُؤْخَذُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا هَلَكَ يَبْطُلُ الدَّيْنُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي قِيمَتِهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهُ فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ لَا فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ ، وَالنَّفَقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا - لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَقُتِلَ خَطَأً ؛ سَقَطَتْ عِنْدَنَا وَلَا تُقَامُ الدِّيَةُ مَقَامَهُ فَكَذَا إذَا كَانَ عَبْدًا وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ - لِمَا قُلْنَا - غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُبَاعُونَ ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِأَكْسَابِهِمْ لَا بِرِقَابِهِمْ
لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِالْبَيْعِ ، وَرِقَابُهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَعِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ كَالْقِنِّ لِتَصَوُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ يَعُودُ قِنًّا فَيَسْعَى فِيهَا مَا دَامَ مُكَاتَبًا فَإِذَا قُضِيَ بِعَجْزِهِ وَصَارَ قِنًّا يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كَمَا فِي الْكِتَابَةِ .
وَأَمَّا الْمُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْعَجْزُ وَالْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ فَيَسْعَى فِي نَفَقَتِهَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ يَكُونُ حُرًّا فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ الْحُرِّ وَتَكُونُ عَلَى الْأُمِّ نَفَقَتُهُ إنْ كَانَتْ غَنِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً فَعَلَى مَنْ يَرِثُ الْوَلَدَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَوْلَى الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَوْلَى الْأَمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَقِيرًا وَالزَّوْجُ أَبَ الْوَلَدِ غَنِيًّا لَا يُؤْمَرُ الْأَبُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ قِنَّةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ يُنْفِقُ الْأَبُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى إذَا أَيْسَرَ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ هَهُنَا لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهَا لَا تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ الْمُكَاتَبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا
أَوْ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبَةِ كَسْبًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْتَعِينُ بِأَكْسَابِهِ فِي رَقَبَتِهَا وَعِتْقِهَا وَإِذَا كَانَتْ أَكْسَابُهُ حَقًّا لَهَا ؛ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ كَسْبَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ } وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ يَجِبُ لَهَا عَلَى أَبِيهَا دَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى عَبْدِ أَبِيهَا وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَنَفَقَتُهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَالْكِتَابِيَّةُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَالذِّمِّيُّ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ كَالْمُسْلِمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي النَّفَقَةِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَعَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَكَذَا عَلَى الذِّمِّيِّ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهَا إذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ حَتَّى قَالَ إنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَافَعَا أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ النَّفَقَةَ مَعَ فَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ مَعَ فَسَادِهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : إنِّي أَفْرِضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ أُقِرَّتْ عَلَى نِكَاحِهَا جَائِزًا كَانَ النِّكَاحُ عِنْدِي أَوْ بَاطِلًا ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّهُ عَلَى نِكَاحِهَا فَقَدْ أَلْحَقَ هَذَا النِّكَاحَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَقَدْ يُلْحَقُ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ النَّفَقَةِ الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ فَتَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ
الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْغَنِيِّ لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَتَجِبُ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَنَفَقَةُ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُذْكَرُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ وَالنُّشُوزُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهِ بِأَنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَغَابَتْ أَوْ سَافَرَتْ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا فِي رِوَايَةٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ مُنْتَفِعٌ بِهَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ حَاصِلًا وَالنُّشُوزُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أَوْ تَخْرُجَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ تَبْدُو عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى } ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كَانَ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَخُصُّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِفُرْقَةٍ حَاصِلَةٍ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَدْ مَرَّ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ فَلَهَا الْكِسْوَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَا شَرْطُ الْوُجُوبِ وَيَجِبَانِ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ لَا يَفْصِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ لَهَا السُّكْنَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِهِمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهُمَا - وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ - ، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحْمَائِهَا كَأُمِّ الزَّوْجِ وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا وَأَقَارِبِهِ فَأَبَتْ ذَلِكَ ؛ عَلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ مُفْرَدٍ ؛ لِأَنَّهُنَّ رُبَّمَا يُؤْذِينَهَا وَيَضْرُرْنَ بِهَا فِي الْمُسَاكَنَةِ وَإِبَاؤُهَا دَلِيلُ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُعَاشِرَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يَتَّفِقُ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ فَفَرَّغَ لَهَا بَيْتًا وَجَعَلَ لِبَيْتِهَا غَلْقًا عَلَى حِدَةٍ قَالُوا : إنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِبَيْتٍ آخَرَ ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا فَشَكَتْ إلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا ؛ سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَيَأْمُرَ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا قَالَتْ ؛ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ أَبَاهَا وَأُمَّهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَحَارِمَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مَنْزِلُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ شَاءَ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا خَارِجِ الْمَنْزِلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ بِأَنْ يَخَافَ عَلَيْهَا الْفَسَادَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا .
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا تُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ النَّفَقَةُ وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ مَنْ تُقَدَّرُ بِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا : هَذِهِ النَّفَقَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِكِفَايَتِهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مُقَدَّرَةٌ بِنَفْسِهَا ، عَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ نِصْفُ مُدٍّ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أَيْ قَدْرَ سَعَتِهِ فَدَلَّ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ عِنْدِي وَمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } مُطْلَقًا عَنْ التَّقْدِيرِ فَمَنْ قَدَّرَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِاسْمِ الرِّزْقِ وَرِزْقُ الْإِنْسَانِ كِفَايَتُهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ .
وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } نَصَّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةً عَنْ الْكَسْبِ لِحَقِّهِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرَ الَّذِي عِنْدَهُ السَّعَةُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَدْرِ السَّعَةِ مُطْلَقًا عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْوَزْنِ فَكَانَ
التَّقْدِيرُ بِهِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ : إنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ يَبْطُلُ بِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْكِفَايَةِ ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْوَزْنِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا نَفَقَةً وَاجِبَةً بَلْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لِوُجُوبِهَا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ كَالزَّكَاةِ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً بِنَفْسِهَا كَالزَّكَاةِ وَوُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا مَمْنُوعٌ ، وَلَسْنَا نَقُولُ : إنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ بَلْ تَجِبُ جَزَاءً عَلَى الْحَبْسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ النَّفَقَةِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إلَّا مَأْدُومًا وَالدُّهْنُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلنِّسَاءِ وَلَا تُقَدَّرُ نَفَقَتُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى أَيِّ سِعْرٍ كَانَتْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ؛ إذْ السِّعْرُ قَدْ يَغْلُو وَقَدْ يَرْخُصُ بَلْ تُقَدَّرُ لَهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ غَلَاءً وَرُخْصًا رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِسْوَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ صَيْفِيَّةً وَشَتْوِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَحْتَاجُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَحْتَاجُ إلَى اللِّبَاسِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُعْسِرَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ وَالْمُوسِرَ عَشَرَةٌ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اعْتِبَارِ قَرَارِ السِّعْرِ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِطَعَامٍ يَحْتَاجُ إلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَأَبَتْ الْمَرْأَةُ
الطَّبْخَ وَالْخَبْزَ يَعْنِي بِأَنْ تَطْبُخَ وَتَخْبِزَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَجَعَلَ أَعْمَالَ الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ وَأَعْمَالَ الدَّاخِلِ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَكِنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إنْ أَبَتْ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ أَنْ يَأْتِيَ لَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ ؛ لَمْ يَجُزْ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْ الْأُجْرَةَ لَأَخَذَتْهَا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فِي الْفَتْوَى فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْأَخْذُ ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ بِنَفْسِهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ يَجِبُ لِخَادِمِهَا أَيْضًا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّغَةً لِشُغُلِهَا وَلِخِدْمَتِهَا لَا شُغْلَ لَهَا غَيْرُهَا ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْبَيْتِ لَا تَقُومُ بِهَا وَحْدَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ لِخَادِمَيْنِ وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ يَجِلُّ مِقْدَارُهَا عَنْ خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ خِدْمَةَ امْرَأَةٍ لَا تَقُومُ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ بَلْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى خَادِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَامَ بِخِدْمَتِهَا بِنَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلًا وَخَادِمٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَامَ مَقَامَهُ ؛ صَارَ كَأَنَّهُ خَدَمَ
بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ بِهِ فَلَا يَكُونُ اعْتِبَارُ الْخَادِمَيْنِ أَوْلَى مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَيُقَدَّرَ بِالْأَقَلِّ وَهُوَ الْوَاحِدُ هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ خَادِمٍ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ ؛ دَلَّ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى اتِّخَاذِ خَادِمٍ لَمْ يَكُنْ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ مِنْ النَّفَقَةِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ ، وَقَدْ تُكْفَى الْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ النَّفَقَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لَا بِحَالِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُوسِرَةً ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُعْسِرَةً ؛ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ عَلَيْهِ أَدْنَى مِنْ نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَأَوْسَعُ مِنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُفْرِطًا فِي الْيَسَارِ يَأْكُلُ خُبْزَ الْحُوَّارَى وَلَحْمَ الْحَمَلِ وَالدَّجَاجِ ، وَالْمَرْأَةُ مُفْرِطَةً فِي
الْفَقْرِ تَأْكُلُ فِي بَيْتِهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ ؛ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهَا مَا يَأْكُلُهُ وَلَا يُطْعِمُهَا مَا كَانَتْ تَأْكُلُ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا أَيْضًا وَلَكِنْ يُطْعِمُهَا خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَلَحْمَ الشَّاةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَجْهُ قَوْلِ الْخَصَّافِ إنَّ فِي اعْتِبَارِ حَالَتِهِمَا فِي تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ أَحَدِهِمَا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنْ الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتْوِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا كَانَتْ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ مِنْ الْكِفَايَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ فَيَكْفِيهَا مِنْ الْكِسْوَةِ فِي الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَسَرَاوِيلُ - أَيْضًا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - عَلَى قَدْرِ حَالِهِ مِنْ الْخَشِنِ وَاللَّيِّنِ وَالْوَسَطِ ، وَالْخَشِنُ إذَا كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَاللَّيِّنُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْوَسَطُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْكَتَّانِ عَلَى حَسَبِ عَادَاتِ الْبُلْدَانِ إلَّا الْخِمَارُ فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى الْغَنِيِّ خِمَارٌ حَرِيرٌ فِي الشِّتَاءِ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ حَشْوِيًّا وَفَرْوَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ .
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ كَمَا يَلْزَمُ الْمُعْسِرَ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَهُوَ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْكِسْوَةُ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : إنَّهُ مُوسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ ، وَقَالَ الزَّوْجُ : إنِّي مُعْسِرٌ وَعَلَيَّ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي وَالْخَصَّافُ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ فِي يَسَارِ الْمَطْلُوبِ وَإِعْسَارِهِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فَالْمَشَايِخُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَّمَ فِيهِ رَأْيَ الْمَطْلُوبِ وَمُحَمَّدٌ فَصَلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ فِي الْبَعْضِ وَقَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي الْبَعْضِ ، وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ أَصْلًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَكَذَا فَصَلَ الْخَصَّافُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَصْلًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ قَوْلَ الزَّوْجِ .
وَبَيَانُ الْأَصْلَيْنِ وَذِكْرُ الْحُجَجِ يَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَبْسِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى يَسَارِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَا تُثْبِتُ شَيْئًا ، وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ يَزِيدُهَا فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ لَهَا فَرِيضَةً لِلْوَقْتِ وَالسِّعْرُ رَخِيصٌ ثُمَّ غَلَا فَلَمْ يَكْفِهَا مَا فَرَضَ لَهَا فَإِنَّهُ يَزِيدُهَا فِي الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
كِفَايَةُ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّعْرِ ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ فَدَفَعَهَا الزَّوْجُ إلَيْهَا ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَمْضِيَ الشَّهْرُ وَكَذَا إذَا كَسَاهَا الزَّوْجُ فَضَاعَتْ الْكِسْوَةُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ فَلَا كِسْوَةَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي أَخَذَتْ لَهَا الْكِسْوَةَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى لِتَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ لَهَا الْكِسْوَةَ إذَا حَلَفَ أَنَّهَا ضَاعَتْ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُحْتَاجِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى وَوُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ لَيْسَ مَعْلُولًا بِالْحَاجَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُوسِرَةِ إلَّا أَنَّ لَهَا شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ الِاحْتِبَاسِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ آخَرُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً فَمَضَى الْوَقْتُ الَّذِي أَخَذَتْ لَهُ وَقَدْ بَقِيَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ أَوْ الْكِسْوَةُ بِأَنْ أَكَلَتْ مِنْ مَالٍ آخَرَ أَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا آخَرَ فَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ صِلَةً مَحْضَةً وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ بَقَاءِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ جَزَاءً عَلَى الِاحْتِبَاسِ لَكِنْ لَهَا شُبْهَةُ الْعِوَضِيَّةِ عَنْ الِاحْتِبَاسِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِوَضًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهِيَ مُحْتَبِسَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِحَبْسٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِوَضٍ آخَرَ ، وَلَوْ نَفِدَتْ نَفَقَتُهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي لَهَا أُخِذَتْ أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا كِسْوَةَ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ
الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ ، وَالْفَرْقُ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذَيْنِ ؛ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا رِضَاهُ وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي هَلْ هُوَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمْ لَا وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ فَرْضِهَا مِنْ الْقَاضِي عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ شَرْطًا ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } عَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ ، فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قَدْ وَجَبَتْ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أَوْ الْإِبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا لِوُجُوبِهَا بِمُقَابَلَةِ الْمُتْعَةِ فَبَقِيَتْ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَالْمَهْرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ وَيُحْبَسُ عَلَيْهَا وَالصِّلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَبْسَ وَالْجَبْرَ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ
وَهِيَ الِاسْتِمْتَاعُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاخْتِصَاصُ بِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ فَخَلَتْ النَّفَقَةُ عَنْ مُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَتْ صِلَةً ؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِلصِّلَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي ، وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ بِأَنْفُسِهَا بَلْ بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا وَهِيَ الْقَبْضُ كَمَا فِي الْهِبَةِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ التَّرَاضِي ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ عِوَضًا مُطْلَقًا فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَا بَقَاؤُهَا وَاجِبَةً ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَرَّضَانِ لِلْوَقْتِ فَلَوْ ثَبَتَ الْبَقَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْأَصْلَ فِيمَا وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَنَقُولُ : هَذَا حُكْمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لَا حُكْمَ الْوَاجِبِ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ بَلْ حُكْمُهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا .
وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْحَبْسُ فَالصِّلَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
وَيُحْبَسُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ صِلَةً وَكَذَا مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُوهَبَ عَبْدُهُ مِنْ فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْ تَنْفِيذِ الْهِبَةِ فِي الْعَبْدِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ ؛ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ صِلَةً فَدَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ وَالْحَبْسَ لَا يَنْفِيَانِ مَعْنَى الصِّلَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي فَأَنْفَقَتْ أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ بَلْ تَكُونُ مُتَطَوِّعَةً فِي الْإِنْفَاقِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لِعَدَمِ شَرْطِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ إلْزَامَ الدَّيْنِ الزَّوْجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَمْرِ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَذَا إذَا أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِ نَفْسِهَا لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ عَمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَا لَوْ صَالَحَتْ زَوْجَهَا عَلَى نَفَقَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكْفِيهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي مَا يَكْفِيهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ لَهَا مَا يَكْفِيهَا ؛ لِأَنَّهَا حَطَّتْ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْحَطُّ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَالْإِبْرَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَى الْقَاضِي وَجَوَازِهِ مِنْهُ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا طَلَبُ الْمَرْأَةِ الْفَرْضَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْرِضُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَالثَّانِي : حَضْرَةُ الزَّوْجِ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً لَمْ يَفْرِضْ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ : وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ عَلَى الْغَائِبِ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } وَذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ غَائِبًا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ قَضَاءٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ لِهِنْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهَا مَا تَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ وَفَرْضُ النَّفَقَةِ مِنْ الْقَاضِي تَقْدِيرُهَا فَإِذَا لَمْ تُقَدَّرْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَمْ تَكُنْ قَضَاءً تَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ غَائِبًا غَيْبَةَ سَفَرٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَائِبًا وَأَبُو سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إعَانَةً لَا قَضَاءً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي عَالِمًا
بِالزَّوْجِيَّةِ فَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ عَلَى الْغَائِبِ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَفْرِضُ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَسْمَعُ وَيَفْرِضُ لَهَا وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ يَأْمُرُهَا بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ فِي وَجْهِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُنَفَّذْ وَلَمْ يَصِحَّ ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَى الْغَائِبِ لِيُقَالَ : إنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى الْفَرْضِ ، وَيَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ كَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى السَّرِقَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ كَذَا هَهُنَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ لَا فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ فَإِذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ اسْتَعَادَ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَعَادَتْ ؛ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُسْمَعُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا خَصْمَ فَلَا تُسْمَعُ ، وَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ أَنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفَرْضِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ سَبِيلٌ لِعَدَمِ الْخَصْمِ ؛ لَمْ يَصِحَّ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَبُولِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ ضَرُورَةً هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ فَلَهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لِحَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَبِالْمَالِ فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ ؛
لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ فَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي فَلَمْ يَكُنْ الْفَرْضُ مِنْ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَضَاءً بَلْ كَانَ إعَانَةً لَهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مُودِعِهِ أَوْ مُضَارِبِهِ أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِذَلِكَ فَرَضَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَتَهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَفْرِضُ ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ؛ إذْ الْمُودِعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَلَى الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ وَهُوَ الْمُودِعُ إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ لَهَا حَقَّ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا إلَى مَالِ زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ كِفَايَتَهَا مِنْهُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ قَضَاءً بَلْ كَانَ إعَانَةً لَهَا عَلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَلَهُ عَلَى إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ ؛ فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ جَحَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَفْرِضْ ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْضِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجِيَّةَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَدِيعَةَ أَوْ الدَّيْنَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَصْمٍ عَنْ زَوْجِهَا فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ فَكَانَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا
هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا مِنْ جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي فَرَضَ النَّفَقَةَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَا يَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ النَّفَقَةِ فِيهِ إلَّا بِالْبَيْعِ وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا مِنْ الْعُرُوضِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فِيهِ فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا : لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَقَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يَبِيعُ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الِامْتِنَاعِ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَالْغَائِبُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ فَلَا يُعْلَمُ ظُلْمُهُ فَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهَا كَفِيلًا فَهُوَ حَسَنٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى طَلَاقِهَا أَوْ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ عَاجِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيمَا يُعْطِيهَا بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ الزَّوْجُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَمْ يُعَجِّلْ لَهَا النَّفَقَةَ ؛ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَّلَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً وَاسْتَحْلَفَهَا فَنَكَلَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْكَفِيلِ وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ تَعَجَّلَتْ النَّفَقَةَ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ
الْكَفِيلِ ، وَلَوْ طَلَبَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَهْرَهَا وَنَفَقَتَهَا مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ ؛ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ كَانَ نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِمَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْمَهْرِ وَالدَّيْنِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ فَرَضَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ قَبْلَ غَيْبَتِهِ فَطَلَبَتْ مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ قَضَى لَهَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فُقَرَاءُ وَكِبَارٌ ذُكُورٌ زَمْنَى فُقَرَاءُ أَوْ إنَاثٌ فَقِيرَاتٌ وَوَالِدَانِ فَقِيرَانِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ مِنْهُ فَرَضَ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ يَكُونُ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ مُودِعِهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهُمْ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْضَى بِإِحْيَاءِ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ مِنْ مَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ الْآخَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ هَهُنَا فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ ، وَإِنْ جَحَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ لَمْ يَفْرِضْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجَةِ وَلَا يُفْرَضُ لِغَيْرِهِمَا
وَلَا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ ؛ إذْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِ الْغَائِبِ أَصْلًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ مَسَّتْ حَاجَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْفَرْضُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ ؛ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعَقَارَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ فِي الْعُرُوضِ مَا بَيَّنَّا مِنْ الِاتِّفَاقِ أَوْ الِاخْتِلَافِ وَفِي بَيْعِ الْأَبِ الْعُرُوضَ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ .
وَأَمَّا يَسَارُ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفَرْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي فَرَضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ فَتُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْفَرْضَ ، وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ النُّقْلَةِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لَوْ طَالَبَهَا بِالتَّسْلِيمِ أَوْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ - فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا إعَانَةً لَهَا عَلَى الْوُصُولِ إلَى حَقِّهَا الْوَاجِبِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَمَا حَوَّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَيْسَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا أَوْ شَكَتْ التَّضْيِيقَ فِي النَّفَقَةِ ؛ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَرْضِ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ وَالتَّوْسِيعِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَتَأَتَّى فِي الْفَرْضِ وَيَتَوَلَّى الزَّوْجُ الْإِنْفَاقَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْفَرْضِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّرْكِ وَالتَّضْيِيقِ فِي النَّفَقَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْرِضُ عَلَيْهِ نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ
وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ هِيَ بِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَلَوْ قَالَتْ : أَيُّهَا الْقَاضِي إنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْحَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيلِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : لَا أُوجِبُ عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ لَهَا بَعْدُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ لَهَا مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفَقَةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَجِبُ فِي السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَمْتَدُّ إلَى شَهْرٍ غَالِبًا وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ لَا تَجِبُ قَبْلَ الشَّهْرِ فَكَانَ تَكْفِيلًا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَوْ أَعْطَاهَا كَفِيلًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا يَنُوبُ عَلَى فُلَانٍ جَائِزَةٌ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ صَيْرُورَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَنَقُولُ إذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ ذَلِكَ أَشْهُرًا غَائِبًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا بِالْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي ؛ صَارَتْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ تُؤْخَذْ أَنَّهَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا رَأْسًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى فَلَا يَبْقَى الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لِلْكِفَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْكِفَايَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَلَيْسَ فِي مُضِيِّ الزَّمَانِ إلَّا الِاسْتِغْنَاءَ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كَانَتْ اسْتِدَانَتُهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ؛ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا خَاصَّةً وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِمَا اسْتَدَانَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ الْقَاضِي ؛ لَهَا أَنْ تُحِيلَ الْغَرِيمَ عَلَى الزَّوْجِ فَيُطَالِبَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ فَائِدَةُ إذْنِ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ ، وَلَوْ فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ فَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا وَهُوَ مُوسِرٌ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ لَهَا أَنْ تَحْبِسَهُ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ ؛ صَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بَلْ يُؤَخِّرُ الْحَبْسَ إلَى مَجْلِسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَعِظُهُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ
يُقَدَّمُ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ ؛ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحَبْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُبِسَ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ فَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ سَلَّمَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا كَانَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُ عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي قَضَاءَ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلَوْ أَعْطَاهَا الزَّوْجُ مَالًا فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ : هُوَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ هِيَ : هُوَ مِنْ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَكَانَ هُوَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ بَعَثَ إلَيْهَا شَيْئًا فَقَالَتْ : هُوَ هَدِيَّةٌ ، وَقَالَ : هُوَ مِنْ الْمَهْرِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُهُ إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ - لِمَا قُلْنَا - كَذَا هَذَا ، وَلَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَاحْتَسَبَتْ عَنْ نَفَقَتِهَا ؛ جَازَ لَكِنْ بِرِضَا الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ التَّقَاصُرَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَدَيْنُ الزَّوْجِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَدَيْنُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فَاشْتَبَهَ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُقَاصَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الدُّيُونِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ قِيلَ صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ وَهُوَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي .
وَأَمَّا الْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَأُمُورٌ : مِنْهَا الْإِبْرَاءُ عَنْ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ ، وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَمَّا يُسْتَقْبَلُ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ ؛ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا إسْقَاطَ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَيْضًا وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ ؛ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَذَا يَصِحُّ هِبَةُ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْهُ فَيَكُونُ إسْقَاطَ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ مَا يُسْتَقْبَلُ لِمَا قُلْنَا .
وَمِنْهَا : مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ إعْطَاءِ النَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَهَا مِنْ مَالِهِ ، وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَسَلَفَهَا نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تَرْجِعْ وَرَثَتُهُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ فِي تَرِكَتِهَا عِنْدَهُمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهَا حِصَّةُ مَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَيَجِبُ رَدُّ الْبَاقِي إنْ كَانَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَلَا شَيْءَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ
قَبَضَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ فَمَا دُونَهُ ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الْمَفْرُوضُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْفَعُ عَنْهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَرَدَّتْ مَا بَقِيَ ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهْرَ فَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْحَالِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَيَثْبُتُ بِهِ الرُّجُوعُ كَالدَّيْنِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَتَسْلَمُ لَهَا بِقَدْرِ مَا سَلِمَ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمُعَوَّضِ كَالْإِجَارَةِ إذَا عَجَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأُجْرَةَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ الْمَقْبُوضَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهَا تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَنَعَمْ لَكِنْ بِوَصْفِهَا لَا بِأَصْلِهَا بَلْ هِيَ صِلَةٌ بِأَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّلَةِ فَيُرَاعِي فِيهَا الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا : إنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا : إنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصِّلَاتِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا : لَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ كَالْأَعْوَاضِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَيْضًا يَقَعُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَهِيَ بَيَانُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا وَشَرْطُ الْوُجُوبِ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ وَمَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَمَّا الْأَوَّلُ : وَهُوَ بَيَانُ الْوُجُوبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْقَرَابَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ ، وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا : قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ كَالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَقَرَابَةٌ غَيْرُ مُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ فَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَقَضَى رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } أَيْ : أَمَرَ رَبُّك وَقَضَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ .
أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَصَّى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا حَالَ فَقْرِهِمَا مِنْ أَحْسَنِ الْإِحْسَانِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } وقَوْله تَعَالَى { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك } وَالشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ هُوَ الْمُكَافَأَةُ لَهُمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَلَدَ أَنْ يُكَافِئَ لَهُمَا وَيُجَازِيَ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْهُمَا إلَيْهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْبِرِّ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ وَذَلِكَ عِنْدَ عَجْزِهِمَا عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَنْفُسِهِمَا وَالْحَوَائِجِ لَهُمَا وَإِدْرَارُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا حَالَ عَجْزِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَهَذَا فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ فَالْمُسْلِمَانِ أَوْلَى وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ
مِنْ أَعْرَفِ الْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَلَامٍ فِيهِ ضَرْبُ إيذَاءٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى التَّأَذِّي بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ عَجْزِهِمَا وَقُدْرَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً ، كَمَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ دَلَالَةً .
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُوهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَإِنَّ لِي أَبًا وَلَهُ مَالٌ وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْحَقِيقَةُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَمَّا بِآخِرِهِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ لِلْأَبِ الْأَكْلَ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْعِوَضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ .
وَأَمَّا بِأَوَّلِهِ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَيْ : كَسْبُ وَلَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ كَسْبَ الرَّجُلِ أَطْيَبَ الْمَأْكُولِ وَالْمَأْكُولُ كَسْبُهُ لَا نَفْسُهُ وَإِذَا كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَسْبَهُ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ كَسْبِهِ ؛ كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَكَسْبِهِ وَكَسْبُ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَسْبُهُ ، كَكَسْبِ عَبْدِهِ
الْمَأْذُونِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ .
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } أَيْ : رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُنْقَضِيَاتِ الْعِدَّةِ ؛ فَفِيهَا إيجَابُ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَهُوَ الْأَبُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ( هُنَّ ) الْمَنْكُوحَاتِ أَوْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى فَضْلِ إطْعَامٍ وَفَضْلِ كِسْوَةٍ لِمَكَانِ الرَّضَاعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ إذَا كَانَتْ صَائِمَةً لِزِيَادَةِ حَاجَتِهَا إلَى الطَّعَامِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عِنْدَ الْحَاجَةَ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ جُزْءُ الْوَالِدِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ كَذَا إحْيَاءُ جُزْئِهِ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ النَّفَقَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ بَابِ الصِّلَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ لِلْمُنْفِقِ وَتَحَقُّقِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ فَكَانَ حَرَامًا وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ سِوَى قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا : تَجِبُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجِبُ غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ : لَا نَفَقَةَ إلَّا عَلَى الْأَبِ لِلِابْنِ وَالِابْنِ لِلْأَبِ حَتَّى قَالَ : لَا نَفَقَةَ عَلَى الْجَدِّ لِابْنِ الِابْنِ وَلَا عَلَى ابْنِ الِابْنِ لِلْجَدِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ عَلَى الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ
مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ ، وَوُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْعَتَاقِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ لَا غَيْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَمَنْ كَانَ مِثْلَ حَالِهِ فِي الْقُرْبِ يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُقَالُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرَفَ قَوْلَهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَا إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ؛ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُضَارُّ الْوَارِثُ بِالْيَتِيمِ كَمَا لَا تُضَارُّ الْوَالِدَةُ وَالْمَوْلُودُ لَهُ بِوَلَدِهِمَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَا غَيْرُ ، لَا عَلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ مَا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ؛ وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى هَذَا ؛ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَإِنَّهُ شَائِعٌ ، وَلَوْ عُطِفَ عَلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ ؛ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ { لَا تُضَارَّ } لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذَلِكَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَطَفُوا عَلَى الْكُلِّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَإِنَّهُ حَرْفُ جَمْعٍ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مَذْكُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْصَرِفُ قَوْلُهُ ذَلِكَ إلَى الْكُلِّ أَيْ : عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا ، وَلَا تُضَارُّهُ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ رُجْحَانُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَارِثِ بَلْ يُوجِبُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْمُضَارَّةِ مُطْلَقًا فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ مَعْنَى إضْرَارِ الْوَالِدِ الْوَالِدَةَ بِوَلَدِهَا بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَقَدْ أُمِرَ الْوَارِثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا ؛ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مِثْلِ مَا لَزِمَ الْأَبَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْوَالِدَةَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَلَا يُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ يَدِهَا إلَى يَدِ غَيْرِهَا إضْرَارًا بِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ أَوْ عَلَى مُطْلَقِ الْوَارِثِ إلَّا مَنْ خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ .
وَأَمَّا الْقَرَابَةُ الَّتِي بِمُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ وَارِثٍ وَوَارِثٍ ، وَإِنَّا نَقُولُ : الْمُرَادُ مِنْ الْوَارِثِ الْأَقَارِبُ الَّذِي لَهُ رَحِمٌ مَحْرَمٌ لَا مُطْلَقُ الْوَارِثِ ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَعْلُولًا بِكَوْنِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْقَطِيعَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِقَرَابَةٍ يَجِبُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا وَلَمْ تُوجَدْ ؛ فَلَا تَجِبُ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ وَلَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ
، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ أَمَّا نَفَقَةُ الْوِلَادَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا هُوَ الْوِلَادَةُ ؛ لِأَنَّ بِهِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ وَالْبَعْضِيَّةُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِ إحْيَاءٌ لَهُ وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ وَإِنْ شِئْت قُلْت : سَبَبُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ هُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ قَطْعُهَا يَحْرُمُ كُلُّ سَبَبٍ مُفْضٍ إلَى الْقَطْعِ .
وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَعَ قُدْرَتِهِ وَحَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ تُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ فَيَحْرُمُ التَّرْكُ وَإِذَا حَرُمَ التَّرْكُ ؛ وَجَبَ الْفِعْلُ ضَرُورَةً وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : الْحَالُ فِي الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّفَقَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ حَالَ الِانْفِرَادِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَإِنْ كَانَتْ حَالَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إلَّا وَاحِدًا تَجِبُ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَشَرْطُهُ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ ؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَقْرَبِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَفِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ نَوْعُ رُجْحَانٍ فَلَا تَنْقَسِمُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّرْجِيحُ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا .
وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا وَالْآخَرُ مَحْجُوبًا ؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ وَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَارِثًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ تَجِبُ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ لَا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا بِاسْمِ الْوِلَادَةِ ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ تَجِبُ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِحْقَاقَ بِالْإِرْثِ فَتَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ مَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ ؛ كَانَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءً فَدَلَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا .
وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ مُعْسِرًا وَابْنُ الِابْنِ مُوسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ زَمِنًا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبْعَدِ مَعَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ ابْنَ الِابْنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ فَيَصِيرُ الْأَبْعَدُ نَائِبًا عَنْ الْأَقْرَبِ فِي الْأَدَاءِ ، وَلَوْ أَدَّى بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَرْجِعْ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَجَدٌّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْجَدِّ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَالْجَدُّ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ زَمِنًا لَكِنْ يُؤْمَرُ الْجَدُّ بِأَنْ يُنْفِقَ ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنُ ابْنٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا غَيْرَ زَمِنٍ وَابْنُ الِابْنِ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ الْأَبِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ
أَبٌ وَابْنٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الِابْنِ لَا عَلَى الْأَبِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ وَيَرْجِعُ الِابْنُ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ كَسْبَ الْأَبِ فَيَكُونُ لَهُ حَقًّا فِي كَسْبِهِ وَكَوْنِ مَالِهِ مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ وَالِدِهِ أَحَدٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا فِي نَفَقَة وَالِدَتِهِ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، وَالِاخْتِصَاصُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ وَكَذَا لَا يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْجَدَّةُ تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ وَلَا يُفَضِّلُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي النَّفَقَةِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهَا مَعَ الْبِنْتِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الِابْنِ نَفَقَةُ مَنْكُوحَةِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مُحْتَاجًا إلَى مَنْ يَخْدُمُهُ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِخِدْمَةِ الْأَبِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْأَجِيرِ ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبَوَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِلَادَةِ وَلَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَبَ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُ وَأَضَافَ الْوَلَدَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَخَصَّهُ بِإِيجَابِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ
الْمُرْضِعَاتِ سَمَّى الْأُمَّ وَالِدَةً وَالْأَبَ مَوْلُودًا لَهُ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَبَ بِإِيتَاءِ أَجْرِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَكَذَا أَوْجَبَ فِي الْآيَتَيْنِ كُلَّ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْكُلِّ شَيْءٌ وَلَا يُقَالُ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } ثُمَّ قَالَ { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَالْأُمُّ وَارِثَةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تُشَارِكَ فِي النَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَكَمَنْ قَالَ : أَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِنْ مَالِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْرُجْ الْوَصِيَّتَانِ مِنْ الثُّلُثِ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ كَذَا هَذَا ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِقَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ } تَعَذَّرَ إيجَابُهَا عَلَى الْأُمِّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَالِ عَدَمِهِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالنَّصِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحَالَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذَا فِي سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَفِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي حَالَيْنِ وَقَدْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ قَبُولِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ ضَرُورَةً ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا غَيْرَ عَاجِزٍ عَنْ الْكَسْبِ وَالْأُمُّ مُوسِرَةً فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ لَكِنْ تُؤْمَرُ الْأُمُّ بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ تَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إذَا أَنْفَقَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمُّ أُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ وَالْحَضَانَةُ عَلَى الْجَدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ لَمَّا لَمْ تُشَارِكْ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مَعَ قُرْبِهَا ؛ فَالْجَدَّةُ مَعَ بُعْدِهَا أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَقِيرًا وَلَهُ أَبَوَانِ مُوسِرَانِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ
كَبِيرًا وَهُوَ ذَكَرٌ فَقِيرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نَفَقَتَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَبِ خَاصَّةً ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَبِ وَثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا خُصَّ بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوِلَايَةِ وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ فَيَزُولُ الِاخْتِصَاصُ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَبِ بِالْإِيجَابِ حَالَ الصِّغَرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُ وَهَذَا ثَابِتٌ بَعْدَ الْكِبَرِ فَيَخْتَصُّ بِنَفَقَتِهِ كَالصِّغَرِ ، وَاعْتِبَارُ الْوِلَايَةِ وَالْإِرْثِ فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا وِلَايَةَ وَلَا إرْثَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا يُشَارِكُ الْجَدَّ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ وَلَدِ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلَا يُشَارِكُ الزَّوْجَ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ مُعْسِرٌ وَابْنٌ مُوسِرٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الزَّوْجِ أَوْ أَبٌ مُوسِرٌ أَوْ أَخٌ مُوسِرٌ ؛ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ ، لَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ أَوْ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ وَالْوِرَاثَةِ سَوَاءٌ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ : السُّدُسُ عَلَى الْجَدِّ وَالْبَاقِي عَلَى ابْنِ الِابْنِ كَالْمِيرَاثِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا : الثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْجَدِّ عَلَى
قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ عَمٌّ لِأُمٍّ وَأَبٍ أَوْ لِأَبٍ ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا : ثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا سُدُسُهَا عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَجَدَّةٌ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقَطْعِ ، وَالْعَمُّ هُوَ الْوَارِثُ فَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالٌ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ أَوْ خَالٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهَا عَلَى الْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ عَلَى الْخَالِ أَوْ الْخَالَةِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ لَا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ ؛ لِأَنَّهُمَا مَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الرَّحِمُ الْمُحَرِّمُ لِلْقَطْعِ ؛ إذْ الْخَالُ هُوَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لِلتَّرْجِيحِ وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ وَابْنُ عَمٍّ فَعَلَى الْخَالَةِ الثُّلُثُ وَعَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَيَكُونُ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا شَيْءَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ الْقَطْعِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَابْنُ عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ : ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْأُخْتِ