كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
حَقٌّ لَازِمٌ لِلْغَيْرِ ، وَكَذَا إذَا كَاتَبَهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْمُكَاتِبِ ، وَالثَّابِتُ بِهَا حَقٌّ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَ ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ ، وَالثَّابِتُ بِهَا مِلْكٌ لَازِمٌ أَوْ حَقٌّ لَازِمٌ ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ إجَازَةً وَالْتِزَامًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً .
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَكُونُ أَدْنَى مِنْ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ بَلْ فَوْقَهُ ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ ، فَهَذَا أَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهُ عَنْ مِلْكِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ عَنْ الْبَاقِي ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْبَاقِي تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الرِّضَا ، وَكَذَا إذَا اُنْتُقِصَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ ( وَأَمَّا ) الضَّرُورِيُّ فَهُوَ كُلُّ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ ، وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ نَحْوُ مَوْتِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَكَذَا إجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا اشْتَرَيَاهُ ، وَلَمْ يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ .
وَكَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ أَوْ اُنْتُقِصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْ زَادَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً أَوْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَالِاتِّفَاقُ ، وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالْعَيْبِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا
يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ إلَّا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَلَا بَعْدَهَا أَمَّا قَبْلَهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هُوَ أَوَانُ الرُّؤْيَةِ فَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا خِيَارَ ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَثُبُوتِ سَبَبِهِ مُحَالٌ .
وَأَمَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَا ثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ مُطْلَقٌ عَنْ الشَّرْطِ نَصًّا وَدَلَالَةً ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا لِحُكْمِهِ فِيهِ فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - .
( وَأَمَّا ) خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ أَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ ( وَأَمَّا ) خِيَارُ الْعَيْبِ فَلِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً ، وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِصَرِيحِ النَّصِّ فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلْعَبْدِ ، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا ، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ حَقًّا - لِلَّهِ تَعَالَى - فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إسْقَاطًا مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ ، فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ فِي ضِمْنِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَمَا إذَا أَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ ، وَرَضِيَ بِهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً بِمُبَاشَرَةِ تَصَرُّفٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ حَقًّا لِلشَّرْعِ ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَهُ نَظَرًا لِلْعَبْدِ حَتَّى إذَا رَآهُ وَصَلَحَ لَهُ أَجَازَهُ .
وَإِنْ
لَمْ يَصْلُحْ لَهُ رَدَّهُ إذْ الْخِيَارُ هُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ ، فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِجَازَةِ لُزُومُ الْعَقْدِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِ الْعَقْدِ سُقُوطُ الْخِيَارِ ، فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَا بِالْإِسْقَاطِ مَقْصُودًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ ، وَلَوْ بَاعَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ كَذَا هُنَا .
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ وَهَبَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ أَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي دَارًا فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الرِّضَا ، وَهَذَا الْخِيَارُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَبِدَلَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ بِأَنْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ بَاعَ أَوْ آجَرَ أَوْ رَهَنَ ، وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا مَمْلُوكًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ فَتَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ فَسْخِهِمَا .
( وَأَمَّا ) الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ فَلِأَنَّهَا تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَ بِهَا مِلْكًا لَازِمًا أَوْ حَقًّا لَازِمًا لِلْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ فَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ ، وَتَعَذُّرُ فَسْخِ الْعَقْدِ يُوجِبُ لُزُومَهُ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَلَوْ بَاعَ أَوْ رَهَنَ أَوْ آجَرَ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ افْتَكَّ الرَّهْنَ أَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ مَا سَقَطَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَاتَبَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الرُّؤْيَةِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُودٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَتْ حُقُوقًا لَازِمَةً ( أَمَّا ) الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُكَاتِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ، وَكَذَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ .
( وَأَمَّا ) الْهِبَةُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكٌ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ إلَيْهِ إلَّا
بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا ، فَكَانَ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَتَعَذُّرُ الْفَسْخِ يُوجِبُ اللُّزُومَ وَيُسْقِطُ الْخِيَارَ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا الْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ بِرِضَا الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى كُلَّ الْمَبِيعِ فَرَضِيَ بِهِ .
فَأَمَّا إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ ؟ فَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى النَّحْو الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا رَأَى بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضٍ وَقْتَ الشِّرَاءِ ، فَكُلُّ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ هُنَاكَ يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ هَهُنَا ، وَمَا لَا فَلَا ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفَانِ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
وَعَلَى ذَلِكَ يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالسَّلْقِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ فَقَلَعَ بَعْضَهُ وَرَضِيَ بِالْمَقْلُوعِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّهُ إذَا قَلَعَ الْبَاقِي كَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ رَدَّ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْكُلَّ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : إذَا قَلَعَ شَيْئًا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَاقِي فِي عِظَمِهِ ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَازِمٌ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا قَلَعَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَاقِي كَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ فَكَأَنَّهُ قَلَعَ الْكُلَّ ، وَرَضِيَ بِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً فَرَأَى ظَاهِرَهَا ، يَسْقُطُ خِيَارُهُ كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ مِنْهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَقِيَّةِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ، وَلَوْ قَطَعَ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ سَقَطَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَّصَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْمُو فِي الْأَرْضِ وَيَزِيدُ ، وَلَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَبَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَنْمُو ، وَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، وَانْتِقَاصُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صُنْعِهِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ ، وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى ، وَكَذَا إذَا قَلَعَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَقَّصَ بَعْضَ الْمَبِيعِ ، وَانْتِقَاصُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ يَمْنَعُ رَدَّ الْبَاقِي فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ قَلَعَ كُلَّهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ قَلَعَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ هَذَا الْفَصْلَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ
بِفِعْلِ الْبَائِعِ ، أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَسْقُطُ ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَلَعَ الْبَعْضَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ قَلَعَ الْبَائِعُ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ الْمُغَيَّبُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ بَعْدَ الْقَلْعِ فَقَلَعَ قَدْرَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ ، وَرَضِيَ بِهِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِبَعْضِ الْمَكِيلِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ رِضًا بِالْكُلِّ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِهِ تُعَرِّفُ حَالَ الْبَاقِي إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْلُوعُ قَلِيلًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ قَلْعَهُ وَالتَّرْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْلَعْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا كَالسَّلْقِ ، وَالْفُجْلِ ، وَنَحْوِهَا فَقَلَعَ بَعْضًا مِنْهُ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْهُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ ، فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْقَلْعِ ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : إنِّي أَخَافُ إنْ قَلَعْتُهُ لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ ، وَقَالَ الْبَائِعُ : إنِّي أَخَافُ إنْ قَلَعْتُهُ لَا تَرْضَى بِهِ فَمَنْ تَطَوَّعَ مِنْهُمَا بِالْقَلْعِ جَازَ ، وَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى ذَلِكَ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَشَاحَّا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِجْبَارِ لِمَا فِي الْإِجْبَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُفْسَخُ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ .
فَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ، وَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنَّ خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لَكِنْ بَعْدَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ ، وَهُوَ الْجَسُّ فِيمَا يُجَسُّ ، وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ ، وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ ، وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ كَالدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ عَلَى مَا وُصِفَ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ : يُوَكِّلُ بَصِيرًا بِالرُّؤْيَةِ ، وَتَكُونُ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ قَائِمَةً مَقَامَ رُؤْيَتِهِ ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الْمَبِيعِ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ يُوصَفُ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ ، وَلَوْ وَصَفَ لَهُ فَرَضِيَ بِهِ ثُمَّ أَبْصَرَ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي حَقِّهِ كَالْخَلْفِ عَنْ الرُّؤْيَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْخَلْف كَمَنْ صَلَّى بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْبَصِيرُ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ حَتَّى ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ثُمَّ عَمِيَ فَهَذَا وَالْأَعْمَى عِنْدَ الشِّرَاءِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، وَهُوَ أَعْمَى ، فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْعُمْيَانِ ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ .
فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي .
بَيَانِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ : اخْتِيَارِيُّ ، وَضَرُورِيٌّ ، فَالِاخْتِيَارِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ فَسَخْتُ الْعَقْدَ ، أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى ، وَالضَّرُورِيُّ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ .
( وَأَمَّا ) شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا سَقَطَ لَزِمَ الْعَقْدُ ، وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنُ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ بِأَنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَصِحَّ ، وَكَذَا إذَا رَدَّ الْبَعْضَ ، وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَكَانَ هَذَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَامِهَا ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ ، وَمِنْهَا عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ الْمَسْأَلَةِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ .
وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدِهِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَرَائِطَ الصِّحَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا .
( وَأَمَّا ) حُكْمُهُ فَالْكَلَامُ فِي حُكْمِهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا فِي .
بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ ، أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا حُكْمَ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ قِسْمَانِ : جَائِزٌ ، وَبَاطِلٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا ، وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ ، وَعِنْدَنَا الْفَاسِدُ قِسْمٌ آخَرَ وَرَاءَ الْجَائِزِ وَالْبَاطِلِ ، وَهَذَا عَلَى مِثَالِ مَا يَقُولُ فِي أَقْسَامِ الْمَشْرُوعَاتِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ ، وَعِنْدَنَا هُمَا قِسْمَانِ حَقِيقَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَلَا يُفِيدُ الْمِلْك قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ لِعَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ بَيْعٍ مَا لَمْ يَقْبِضُوا ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ ، وَعَنْ بَيْعٍ ، وَسَلَفٍ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ حَرَامًا ، وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ نِعْمَةٌ ، وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النِّعْمَةِ ، وَلِهَذَا بَطَلَ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَكَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ هَذَا بَيْعٌ
مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْك فِي الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ أَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } سَمَّى مُبَادَلَةَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اشْتِرَاءً وَتِجَارَةً فَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } ، وَالتِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } سَمَّى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُبَادَلَةَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِالْجَنَّةِ اشْتِرَاءً وَبَيْعًا حَيْثُ قَالَ - تَعَالَى - فِي آخَرِ الْآيَةِ { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ بَيْعًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - { ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْبَابِ عَامًّا مُطْلَقًا ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
( وَلَنَا ) الِاسْتِدْلَال بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْخَالِي عَنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ ، وَقِرَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ بِالْبَيْعِ ذِكْرًا لَمْ يَصِحَّ ، فَالْتُحِقَ ذِكْرُهَا بِالْعَدَمِ ، إذْ الْمَوْجُودُ الْمُلْحَقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا ، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ ، وَإِذَا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ خَالِيًا عَنْ الْمُفْسِدِ وَالْبَيْعُ الْخَالِي عَنْ الْمُفْسِدِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ
بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ .
( وَأَمَّا ) النَّهْيُ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ غَيْرِ الْبَيْعِ لَا عَنْ عَيْنِهِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا أَنَّ شَرْعِيَّةَ أَصْلِ الْبَيْعِ وَجِنْسِهِ ثَبْتٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى حِينِ إذْ لَا قِوَامَ لِلْبَشَرِ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِبْقَاءِ النَّفْسِ بِذَلِكَ إلَّا بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَذَلِكَ سَبَبُ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ عَمَّا عُرْفَ حُسْنُهُ أَوْ حَسُنَ أَصْلُهُ بِالْعَقْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ النَّهْيُ عَنْ الْإِيمَان بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَشُكْرِ النِّعَمِ ، وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ لِثُبُوتِ حُسْنِهَا بِالْعَقْلِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ الْمُضَافُ إلَى الْبَيْعِ عَلَى غَيْرِهِ ضَرُورَةً .
وَالثَّانِي إنْ سُلِّمَ جَوَازُ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ ، لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْغَيْرِ هَهُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَمَلٌ بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْبَيْعِ نَسْخَ الْمَشْرُوعِيَّةِ ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى التَّنَاسُخِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ مِنْ بَابِ نَسْخِ الْكَلَامِ ، وَنَسْخُ الْمَشْرُوعِيَّةِ نَسْخُ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَالْكَلَامُ وَسِيلَةٌ وَنَسْخُ الْوَسِيلَةِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ الْمَقْصُودِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) صِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ فَنَقُولُ لَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ فَسْخًا ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ أَوْجَبَ الْفَسْخَ فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي ذَاتِهِ فَالْفَسَادُ مُقْتَرِنٌ بِهِ ذِكْرًا وَدَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَيُسْتَحَقُّ فَسْخُهُ لَكِنْ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ الْفَسَادِ بِدُونِ فَسْخِ الْبَيْعِ لَا يُفْسَخُ كَمَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فَأَسْقَطَاهُ يَسْقُطُ وَيَبْقَى الْبَيْعُ مَشْرُوعًا كَمَا كَانَ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرِّبَا وَشَرْطَ الْخِيَارِ مَجْهُولٌ وَإِدْخَالُ الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ، وَالزَّجْرُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ وَاسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ يَصْلُحُ زَاجِرًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْسَخُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْفَسَادُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ بِأَنْ بَاعَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا إلَيْهِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ، وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ كَيْفَ مَا كَانَ الْفَسَادُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ شَرْطِ الْعَاقِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ الرَّاجِعَ إلَى الْبَدَلِ فَسَادٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِخِلَافِ هَذَا الْمُفْسِدِ ؟ لِمَا أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَقْدِ إلَّا بِالْبَدَلَيْنِ فَكَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا فَيُؤَثِّرُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِسَلْبِ اللُّزُومِ عَنْهُ فَيَظْهَرُ عَدَمُ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَسْخِ لِصَاحِبِ الشَّرْطِ لَا لِصَاحِبِهِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ لَا يَكُونُ قَوِيًّا لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْحَذْفِ وَالْإِسْقَاطِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ لَا غَيْرُ وَيُؤَثِّرُ فِي سَلْبِ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ شُرِطَ لَهُ
الْمَنْفَعَةُ لَا غَيْرُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ لَهُ شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ قَادِرٌ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ وَإِسْقَاطِهِ ، فَلَوْ فَسَخَهُ الْآخَرُ لَأَبْطَلَ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَقْدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ لَازِمٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ فِي نَفْسِهِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ ، وَقَوْلُهُ : الْمُفْسِدُ مُمْكِنُ الْحَذْفِ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ إلَى أَنْ يُحْذَفْ فَهُوَ قَائِمٌ وَقِيَامُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ مِنْ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِإِبْطَالٍ لِحَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِهِ مُحَالٌ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَكُونُ فَسْخًا لِهَذَا الْعَقْدِ فَفَسْخُهُ بِطَرِيقَيْنِ : قَوْلٍ وَفِعْلٍ ، فَالْقَوْلُ هُوَ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ : فَسَخْتُ أَوْ نَقَضْتُ أَوْ رَدَدْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَيَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْفَسْخِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ .
وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَكَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا عَلَى الرِّضَا وَالْفِعْلُ هُوَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ عَلَى بَائِعِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مَا رَدَّهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ بِأَنْ بَاعَهُ مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ مَا رَدَّهُ يَقَعُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا الْوَدِيعَةُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ الرَّدُّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ وَكِيلِ الْبَائِعِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْبَائِعِ ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عَبْدِ بَائِعِهِ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَكَانَ بَيْعًا مِنْ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ لَا يَقَعُ لِلْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْ الْمَوْلَى فَصَارَ كَمَا
إذَا بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ .
وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا مِنْهُ شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهُ ، ثُمَّ إنَّهُ بَاعَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِنْ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِنْهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَبَاعَهُ مِنْ مَوْلَاهُ ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ مُضَارِبِ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ ، وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ وَكِيلِ بَائِعِهِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لَهُ ؟ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَيْعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَذَلِكَ فَسْخٌ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَمُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ؟ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا لِمُوَكِّلِهِ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي وَتَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ ، وَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) شَرْطُ صِحَّةِ الْفَسْخِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَجَعَلَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ وَمَا لَا يَبْطُلُ وَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَتَقَرَّرُ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ بِأَنْ يَقُولَ : أَبْطَلْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ أَوْ أَلْزَمْتُهُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ عَنْهُ ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إسْقَاطِهِ مَقْصُودًا كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَكِنْ قَدْ يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ أَوْ يَفُوتَ مَحَلُّ الْفَسْخِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ أَوْ الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى بَعْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ عَنْ تَسْلِيطٍ مِنْهُ ، وَيَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ بِخِلَافٍ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ بَاعَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا لَا يَطِيبُ لِلْآخِذِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ عَدَمَ الطِّيبِ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَأْخُوذُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاجِبُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهِ رَدًّا لِلْخِيَانَةِ ، وَبِالْبَيْعِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ عَلَى مَالِكِهِ لِحُصُولِهِ لَا بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَبَقِيَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَمَا كَانَ وَهَذَا يَمْنَعُ الطِّيبِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الطِّيبِ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِقِرَانِ الْفَسَادِ بِهِ ذِكْرًا لَا حَقِيقَةً ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الثَّانِي وَخَرَجَ الْمَبِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ لِحُصُولِ الْبَيْعِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ وَعَادَ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ عَادَ حَقُّ الْفَسْخِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسْخٌ مَحْضٌ فَكَانَ دَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعْلًا لَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أَوْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبْتَدَإٍ لَا يَعُودُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ .
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ دَبَّرَهُ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ ، وَالْفَسْخَ ضَرُورَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا ؛ لِمَا قُلْنَا وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ قَدْ صَحَّ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالِاسْتِيلَادِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ ، وَهَلْ يَغْرَمُ الْعُقْرَ ؟ ذَكَرَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ ، وَفِي الشُّرْبِ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْعُقْرَ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِالِاسْتِيلَادِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ ، وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُعَلِّقْهَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْجَارِيَةَ مَعَ عُقْرِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَأَعْلَقَهَا ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ وَأَخَذَ الْجَارِيَةَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا يَضْمَنُ الْعُقْرَ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ مُحَلِّلٌ لِلْوَطْءِ ، وَبِالرُّجُوعِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ فَكَانَ مُسْتَمْتِعًا بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ فَكَانَ
الْوَطْءُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعَقْدُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ صَحَّتْ لِوُجُودِهَا فِي الْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ إلَى نَقْضِهَا لِحُصُولِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْعَبْدِ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لِعَدَمِ لُزُومِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ لِعَارِضِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ عَجَزَ وَرَدَّ فِي الرِّقِّ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَعَادَ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ تَقَرَّرَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ وَلَزِمَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ فَيَعُودُ إلَيْهِ لَازِمًا وَالْمِلْكُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَوِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ افْتَكَّهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ أَجَّرَهُ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَقْدًا لَازِمًا إلَّا أَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ أَقْوَى مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ وَسُلِّمَتْ الْأُجْرَةُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وُجِدَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ ، وَهَلْ تَطِيبُ لَهُ ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ أَدَّى ضَمَانَ الْقِيمَةِ ثُمَّ آجَرَ طَابَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ ؛
لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَضْمُونِ ، قَائِمٌ مَقَامَهُ ، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ رِبْحَ مَا قَدْ ضَمِنَ ، وَإِنْ آجَرَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ لَا تَطِيبُ لَهُ لِأَنَّهَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُوصِي حَيًّا بَعْدُ فَلِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي بَلْ مُحْتَمَلٌ .
وَإِنْ مَاتَ بَطَلَ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى لَهُ مِلْكٌ جَدِيدٌ بِخِلَافِ الثَّابِتِ لِلْوَارِثِ بِأَنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَلِوَرَثَتِهِ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ عَيْنُ مَا كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَإِنَّمَا هُوَ خَلْفُهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلِهَذَا يَرُدُّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَمِلْكُ الْمُوَرِّثِ مَضْمُونُ الرَّدِّ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ بِخِلَافِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّ الثَّابِتَ مِلْكٌ جَدِيدٌ حَصَلَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَلِهَذَا لَمْ يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ الْفَسْخِ .
ازْدَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ التَّبَعُ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَسَلٍ أَوْ سَمْنٍ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فُسِخَ إمَّا أَنْ يُفْسَخَ عَلَى الْأَصْلِ وَحْدَهُ وَإِمَّا أَنْ يُفْسَخَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْبَيْعِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً مِنْهُ .
وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَا الزِّيَادَةُ كَمَا فِي بَابِ الْغَصْبِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ أَرْشًا أَوْ عُقْرًا ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ فَائِتٍ مِنْ الْأَصْلِ حَقِيقَةً كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَالْعُقْرَ بَدَلُ حَالِهِ حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ فَكَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ ثُمَّ فِي فَصْلِ الْوَلَدِ إذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ ؛ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الْوِلَادَةُ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ نَقَصَتْهَا وَلَيْسَ بِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ رَدَّهَا مَعَ ضَمَانِ النُّقْصَانِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ لَا ضَمَانَ
عَلَى الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ ؛ ضَمِنَ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَالزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ وَيَضْمَنَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مَضْمُونَيْ الرَّدِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ وَصَارَ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ فَبَقِيَ الْوَلَدُ عَلَى حَالِهِ مَضْمُونَ الرَّدِّ كَمَا كَانَ ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونُ الرَّدِّ وَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ فِي ضَمَانِهِ بَلْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ فِي مَعْنَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَلَوْ هَلَكَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ؛ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الزِّيَادَةِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا ، أَمَّا أَصْلًا فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا تَبَعًا فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا مُلِكَتْ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بِسَبَبِ الْأَصْلِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْغَصْبِ أَنَّهُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْغَاصِبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هَلْ يَضْمَنُ ؟ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي تَقَرَّرَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْمُتَوَلَّدِ
كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ يُذْكَرُ فِي الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا زَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا .
( فَأَمَّا ) إذَا انْتَقَصَ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْقَبْضُ وَرَدَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَصَارَ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي قَبْضِ الْمَغْصُوبِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَالنُّقْصَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَقَصَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ؛ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْجَانِي وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْجَانِيَ وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا فِي الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ فِيهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَالْأَجْنَبِيُّ لَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَرْجِعُ .
وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ حَالَةَ الْقَبْضِ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَرَّقَ هَهُنَا بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَاتِلٌ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ حَالَةَ الْغَصْبِ ، وَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْغَاصِبِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ جَنَى عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ ، وَتَقَرَّرَ مِلْكُهُ
فِيهِ بِالْجِنَايَةِ لَا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ تَضْمِينَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ إلَّا بِتَضْمِينِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إيَّاهُ فَقَبْلَهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ الْقَتْلُ جِنَايَةً عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ ، وَالْقَبْضُ جِنَايَةٌ عَلَى مِلْكِهِ أَيْضًا فَكَانَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا بِفِعْلِهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَبْسٌ عَلَى الْبَائِعِ ؛ يُهْلَكُ عَلَى الْبَائِعِ .
وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ حَبْسٌ ثُمَّ هَلَكَ يَنْظُرُ إنْ هَلَكَ مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ هَلَكَ لَا مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ لَكِنْ يُطْرَحُ مِنْهُ حِصَّةُ النُّقْصَانِ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِجِنَايَتِهِ ، وَلَوْ قَتْلَهُ الْبَائِعُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ بِالْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ الْبَائِعُ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهِ وَمَاتَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ الْمُشْتَرِي وَخَاطَهُ قَمِيصًا أَوْ بَطَّنَهُ وَحَشَاهُ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَبِيعِ صُنْعًا لَوْ أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ ؛ يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ ، كَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قُطْنًا فَغَزَلَهُ ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا ، أَوْ سِمْسِمًا أَوْ عِنَبًا فَعَصَرَهُ ، أَوْ سَاحَةً فَبَنَى عَلَيْهَا ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ ، وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ حَالَ هَلَاكِهِ ؟ ، فَكُلُّ مَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ هُنَاكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ هَهُنَا .
، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الْمُشْتَرِي بِصَبْعٍ يَزِيدُ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْبَائِعِ عَنْهُ إلَى الْقِيمَةِ وُورِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ ، ثُمَّ الْجَوَابُ فِي الْغَصْبِ هَكَذَا أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَى الْغَاصِبَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا ؛ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيُنْقَضُ الْبِنَاءُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ بِقَبْضِ الْغَصْبِ ثُمَّ هُنَاكَ يَنْقُضُ الْبِنَاءُ فَكَذَا هَهُنَا ؛ وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ يُنْقَضُ بِحَقِّ الشَّفِيعِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَحَقُّ الْبَائِعِ فَوْقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِقَضَاءٍ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فَلَمَّا نُقِضَ لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَلِحَقِّ الْبَائِعِ أَوْلَى ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ؛ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعَ الْبِنَاءِ أَوْ بِدُونِ الْبِنَاءِ لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّقْضَ ، كَتَصَرُّفِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ عَلَى الْبِنَاءِ ، وَكَذَا لَا يَمْنَعَانِ نَقْضَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْلِ لَا بِالْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِيَاعَاتِ ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُ الْمَبِيعِ فِي الْمَالِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْدَلُ عَنْهَا إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ قِبَلِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا لَمْ تَصِحَّ لَمْ يَثْبُتْ الْمُسَمَّى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ بِالْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ صَرِيحًا صَارَتْ الْقِيمَةُ أَوْ الْمِثْلُ مَذْكُورًا دَلَالَةً فَكَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْثَالِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ يُفِيدُ الْمُشْتَرِيَ انْطِلَاقَ تَصَرُّفٍ لَيْسَ فِيهِ انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَمْلُوكِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ .
( وَأَمَّا ) التَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَمْلُوكِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ مِلْكٌ خَبِيثٌ وَالْمِلْكُ الْخَبِيثُ لَا يُفِيدُ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ تَقَرَّرَ لَهُ وَفِيهِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُفْدِ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَحَرُّزًا عَنْ تَقْرِيرِ الْفَسَادِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى دَارًا لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ ، وَالشُّفْعَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِبَيْعِ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُنْكِرٌ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ ؟ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ وَهَهُنَا حَقُّ الْبَائِعِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ حَتَّى لَوْ وُجِدَ مَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّهِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ .
بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا ؛ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ صَحِيحٌ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهَا ؛ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَسْخِ وَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ أَعْلَقَهَا وَضَمِنَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الْعُقْرِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( وَأَمَّا ) شَرَائِطُهُ فَاثْنَانِ : أَحَدُهُمَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ وَفِي وُجُوبِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَفِي التَّسْلِيمِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ وَإِيجَابُ رَفْعِ الْفَسَادِ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ رَفْعُ الْفَسَادِ مُتَنَاقِضٌ ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِأَنْ نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ أَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ وَلَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ صَرِيحًا فَقَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا مِنْهُ بِالْقَبْضِ دَلَالَةً مَعَ مَا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّابِتَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ ، وَالْإِذْنُ بِالْقَبْضِ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً كَمَا فِي بَابِ الْهِبَةِ إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ فَلَمْ يَنْهَهُ صَحَّ قَبْضُهُ كَذَا هَهُنَا وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْقَبْضِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ إذْنًا بِمَا فِيهِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَقَعُ تَسْلِيطًا عَلِيَ الْقَبْضِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا مَانِعَ مِنْ الْقَبْضِ إنْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا وَإِنَّمَا شُرِطَ الْمَجْلِسُ ؛ لِأَنَّ
الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمَجْلِسُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْقَبُولِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْبَيْعُ الْبَاطِلُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا كَمَا لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً ، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَا بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ ، وَكَذَا بَيْعُ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُطْلَقًا وَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا فَلَمْ يَكُنْ مَالًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
وَكَذَا بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ تَقَوُّمَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ أَهَانَهَا عَلَيْهِمْ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْمُسَمَّى وَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَصِحَّ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ إذْ التَّقْوِيمُ يَنْبَنِي عَنْ الْعِزَّةِ ، وَالشَّرْعُ أَهَانَ الْمُسَمَّى عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ ؟ وَلَا قِيمَةَ لَهُ ؟ ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ يَبْطُلُ ضَرُورَةً ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ تَفْصِيلًا فَقَالَ : إنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا بِأَنْ
بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ .
وَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الثَّوْبِ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ هُوَ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلتَّمَلُّكِ ، وَالتَّمْلِيكُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَقْصُودٌ بَلْ تَمْلِيكُ الثَّوْبِ وَتَمَلُّكُهُ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ ، فَالتَّسْمِيَةُ إنْ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّ الْخَمْرِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّوْبِ وَلَا مُقَابِلَ لَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُشْتَرِي بَاعَ الثَّوْبَ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّمَنَ فَيَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَتَصِيرُ الْخَمْرُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا .
( وَأَمَّا ) بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَكَذَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَالْخَمْرُ مَالٌ فِي حَقِّنَا إلَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا ، فَإِذَا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ثَمَنًا فَقَدْ ذَكَرَ مَا هُوَ مَالٌ ، وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ أَوْ مَرْغُوبًا فِيهِ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ يَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتَقَوِّمًا شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، وَقَدْ وُجِدَ ، وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ فِي الْجُمْلَةِ مَرْغُوبٌ فِيهَا فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِمَا يَرْعَى إبِلَهُ مِنْ أَرْضِهِ مِنْ الْكَلَأِ أَوْ بِمَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ بِئْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَنًا مَالٌ
مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، وَكَذَا هُوَ مَجْهُولٌ أَيْضًا فَانْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ .
قَالَ عَامَّتُهُمْ : يَبْطُلُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَفْسُدُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى ثَمَنًا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا ، وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قَالَ : بِعْتُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يَبْطُلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ كَمَا إذَا بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مَالًا بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى بَطَلَ الْبَيْعُ فَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَالَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ أَمَانَةً ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَكُونُ أَمَانَةً ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى فَالْتَحَقَ الْعَقْدُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إذْنُهُ بِالْقَبْضِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ لَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ بِعَلَيَّ سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى .
( وَأَمَّا ) الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ فَهُوَ بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ يُعْرَفُ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ مِنْ الْمَالِكِ فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ فِي الْحَالِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ مَا يَبْطُلُ مِنْهَا وَمَا يُتَوَقَّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ غَيْرِ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
وَنَوْعٌ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِإِقَالَةٍ وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الْخَالَيْ عَنْ الْخِيَارِ .
وَالْكَلَامُ فِي الْإِقَالَةِ فِي مَوَاضِعَ ، فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِقَالَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِقَالَةِ ( أَمَّا ) رُكْنُهَا فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الرُّكْنُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا : أَقَلْتُ ، وَالْآخَرُ : قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ هَوِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ ؟ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَقِلْنِي ، فَيَقُولُ : أَقَلْتُكَ ، أَوْ قَالَ لَهُ : جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي ، فَقَالَ : أَقَلْتُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَنْعَقِدُ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي كَمَا فِي الْبَيْعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِقَالَةِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَرُكْنِ الْبَيْعِ ، ثُمَّ رُكْنُ الْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي ، فَكَذَا رُكْنُ الْإِقَالَةِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقَالَةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ ، فَكَانَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا فَلَمْ تَقَعْ إيجَابًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ بِعَلَيَّ حَقِيقَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ وَلِهَذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْإِيجَابِ فِي النِّكَاحِ كَذَا هَذَا .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وَعَمَلِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاهِيَّتِهَا ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : الْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا فَسْخٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعٌ بَعْدَهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْعًا فَتُجْعَلَ فَسْخًا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنَّهَا فَسْخٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلَ بَيْعًا لِلضَّرُورَةِ وَقَالَ زُفَرُ : إنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً ( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّفْعِ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي أَيْ ارْفَعْهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَعَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا فِي حَدٍّ } ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً ، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا فَيَخْتَلِفَانِ حُكْمًا ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْفَسْخُ ، كَمَا قَالَ زُفَرُ : إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا ضَرُورَةً ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا ، وَالْعِبْرَةُ لَلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ ، وَلِهَذَا أُعْطِيَ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الْأَحْكَامِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَكَذَا اُعْتُبِرَ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى الْفَسْخِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَزُفَرَ أَنَّهُ رَفْعٌ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَرَفْعُ الشَّيْءِ فَسْخُهُ .
وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ فَمَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ بِبَدَلٍ وَهَذَا مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ لِلتَّنَافِي فَأَظْهَرْنَاهُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فَجُعِلَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا بَيْعًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ ؟ فَمِنْ شَخْصَيْنِ أَوْلَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، وَلَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ .
، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا تَقَايَلَا وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهَا ، وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَنْقُولٍ لِأَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ ، وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ رَفَعَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ ذَلِكَ الْعَقْدَ ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالْأَجَلُ ، وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الرِّبَا فِيهِ .
وَالْإِقَالَةُ رَفْعُ الْبَيْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَكُّنُ الرِّبَا فِيهِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ عَلَى مَا سَمَّيَا ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ كَأَنَّهُ بَاعَهُ فِيهِ ابْتِدَاءً ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ عَقَارًا فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ إقَالَتُهُ
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ تَكُونُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالنُّقْصَانُ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فَسْخًا كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعًا لَكِنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ عَقَارًا .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ تَقَايَلَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَصْلًا ، أَوْ سَمَّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ أَوْ نَقَصَا عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ النُّقْصَانِ وَتَكُونُ فَسْخًا أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهَا فَسْخٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ فَسْخًا وَإِنْ تَقَايَلَا عَنْ الزِّيَادَةِ أَوْ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ سِوَى جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى مَا سَمَّيَا وَيَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا فَسْخًا هَهُنَا ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْفَسْخِ أَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا تُجْعَلُ بَيْعًا بِمَا سَمَّيَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَايَلَا عَلَى أَنْقَصَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ ، وَتُجْعَلُ فَسْخًا وَلَا تُجْعَلُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِأَنَّ هَذَا سُكُوتٌ عَنْ نَقْصِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ نَقْصُ الثَّمَنِ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ النَّقْصِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ السُّكُوتِ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُنَاكَ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا بَيْعًا فَهَهُنَا أَوْلَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَقُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ بَاطِلَةٌ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَالتَّسْلِيمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ يَكُونُ إقَالَةً عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ فَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ وَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا هَهُنَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ بَيْعِ الْمَبِيعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَبْقَى فَسْخًا عَلَى الْأَصْلِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ وَكَذَا تَسْمِيَةُ جِنْسٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فَتَبْقَى بَيْعًا عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فِي الْمَنْقُولِ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ بَاعَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَهَذَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمُشْتَرِي أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ جَعْلِهِ فَسْخًا ، وَلَا مَانِعَ هَهُنَا مِنْ جَعْلِهِ فَسْخًا بَلْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْ جَعْلِهِ بَيْعًا ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ فَسْخًا عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَازَ ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَطَّرِدُ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ .
وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَنْهُ الْخِلَافُ فِيهِ ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا لِمَانِعٍ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا هَهُنَا لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَا تَفْسُدُ الْإِقَالَةُ ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَتُجْعَلُ بَيْعًا فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَجُزْ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَهِيَ بَيْعٌ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُهُمَا فَكَانَ بَيْعًا فِي بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ، وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ زُفَرَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
الْأَصْلُ فِيهَا الْفَسْخُ إلَّا لِمَانِعٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ فَبَقِيَ فَسْخًا فِي حَقِّ الْكُلِّ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ بَيْعُهُ ، مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَكَذَا عَلَى قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ ، وَهَهُنَا ، يُمْكِنُ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْمَبِيعِ الْعَقَارَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا ، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ ، وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَتْ فَسْخًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَلْ بَيْعُ الْمَفْسُوخِ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ فَسْخٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَجُوزُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ أَوْ اشْتَرَاهَا ، وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا فَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ .
وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ مُطْلَقٌ ، وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ ، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ مَا أَمْكَنَ ، وَهَهُنَا مُمْكِنٌ ، وَالشُّفْعَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ لَا بِالْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَلَوْ تَقَايَلَا ثُمَّ وُهِبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ ، مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ ، وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الْهِبَةُ ، وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي ، وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ ، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِأَنْ ، وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ ، وَهَذَا يُشْكَلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ أَجْرَى الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَجْرَى الْبَيْعِ ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا جَازَتْ الْهِبَةُ ، وَلَكَانَتْ فَسْخًا لِلْإِقَالَةِ كَمَا كَانَتْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ ثُمَّ الْفَرْقُ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا فَسْخًا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عَنْ الْإِقَالَةِ ، فَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عَنْ إقَالَةِ الْبَيْعِ .
، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا بِيعَ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فَتَقَايَلَا الْبَيْعَ فَاسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ صَحَّ قَبْضُهُ ، وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا صَحَّ قَبْضُهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ .
وَلَوْ تَقَايَلَا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِهِ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ بَائِعِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ ، فَكَانَ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أَوْ وَرِثَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ، وَزُفَرَ يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ الرَّدَّ .
، وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ، ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ إنَّ بَائِعَهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّقْدِ يَجُوزُ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ هَهُنَا ثَالِثٌ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ، وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْإِقَالَةَ فَسْخًا فَكَانَتْ إعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِيَ أَنْ لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ ( فَمِنْهَا ) رِضَا الْمُتَقَايِلَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُطْلَقٌ ، وَالرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلِأَنَّهَا فَسْخُ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَيْضًا ( وَمِنْهَا ) الْمَجْلِسُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ ( وَمِنْهَا ) تَقَابُضُ بَدَلَيْ الصَّرْفِ فِي إقَالَةِ الصَّرْفِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إنَّمَا ، وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ ، وَالْإِقَالَةُ عَلَى أَصْلِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ فَكَانَ حَقُّ الشَّرْعِ فِي حُكْمِ ثَالِثٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَزُفَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ ازْدَادَ زِيَادَةً تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ لِلْعَقْدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فَإِذَا خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسْخِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْإِقَالَةِ ضَرُورَةً ( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ ، وَهُوَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْبَيْعِ ، فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا لِلْإِقَالَةِ .
( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ، وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا فَسْخًا لَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَصَحَّتْ فَجُعِلَ بَيْعًا
لِضَرُورَةِ الصِّحَّةِ ، فَلِهَذَا اتَّفَقَ جَوَابُ مُحَمَّدٍ مَعَ جَوَابِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ( وَمِنْهَا ) قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَإِنْ كَانَ هَالِكًا ، وَقْتَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ إقَالَةَ الْبَيْعِ رَفْعُهُ ، فَكَانَ قِيَامُهَا بِالْبَيْعِ ، وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَيْهِ ، لَا عَلَى الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْمُعَيَّنِ ، وَالْمُعَيَّنُ هُوَ الْمَبِيعُ لَا الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ ، وَإِنْ عَيَّنَ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّ قِيَامَ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ فَإِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ مَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ ، فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِقَالَةُ الَّتِي هِيَ رَفْعُ حُكْمِ الْبَيْعِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فَمَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ قَائِمٌ فَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيَّنَا أَوْ لَمْ يُعَيِّنَا وَالْفُلُوسِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ ، ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُمَا إنْ تَقَايَلَا ، وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْإِقَالَةُ ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا فِي يَدِهِ أَوْ هَالِكًا لِقِيَامِ حُكْمِ الْبَيْعِ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لَمْ تَصِحَّ ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلَ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءً كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا أَوْ هَالِكًا ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ مَا فِي يَدِهِ عَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ هَلَاكُ الْبَيْعِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَهَلَاكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ كَذَا هَذَا سَوَاءٌ بَقِيَ الثَّمَنُ أَوْ هَلَكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ، فَقِيَامُهُ وَهَلَاكُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدَيْنِ ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَا ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُ لَا تَصِحَّ الْإِقَالَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ مَحَلُّ الْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ، ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قَبْلَ الرَّدِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ هَلَكَتْ إحْدَاهُمَا فِي يَدِ مُشْتَرِيهَا ، ثُمَّ تَقَايَلَا صَحَّتْ الْإِقَالَةُ ، وَعَلَى مُشْتَرِي الْهَالِكِ قِيمَةَ الْهَالِكِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَمِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلُ فَيُسَلِّمُهُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ الْعَيْنَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ عَلَى حِدَةِ لِقِيَامِ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ الْهَالِكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الْعَقْدِ بِهِ فَيَقُومُ بِالْآخَرِ ، وَإِذَا بَقِيَ الْمَبِيعُ بَقِيَ مَحَلُّ الْفَسْخِ ، فَيَصِحُّ أَوْ نَقُولُ : الْمَبِيعُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ ثَمَنٌ إذْ الْمَبِيعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلثَّمَنِ ، وَالْقَائِمُ لِلْمَبِيعِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ ، وَفِي الْقَلْبِ إفْسَادُهُ ، فَكَانَ التَّصْحِيحُ أَوْلَى فَبَقِيَ الْبَيْعُ بِبَقَاءِ الْمَبِيعِ ، فَاحْتَمَلَ الْإِقَالَةَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَايَلَا ، وَالْعَيْنَانِ قَائِمَتَانِ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ لَا تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْإِقَالَةِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَهَلَاكُهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا عَلَى الصِّحَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ بِيعَ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَرْضَيْنِ ابْتِدَاءً ، وَإِذَا انْعَقَدَ بِهِمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ، وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْعَرْضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَرْضَيْنِ مَبِيعٌ ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ ( فَأَمَّا ) الْإِقَالَةُ فَرَفْعُ الْبَيْعِ فَتَسْتَدْعِي بَقَاءَ حُكْمِ الْبَيْعِ ، وَقَدْ بَقِيَ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا .
وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ إقَالَةُ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ هَالِكًا ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِبْدَالُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَوُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ ، وَإِذَا صَحَّتْ ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنَ مَالٍ قَائِمَةٍ رَدَّهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ رَدَّ مِثْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ رَدَّ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا رَدَّ مِثْلَهُ قَائِمًا كَانَ أَوْ هَالِكًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَهَلَاكُهُ وَقِيَامُهُ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ثَمَّةَ ؛ لِأَنَّهَا صَحَّتْ حَالَ كَوْنِهِ دَيْنًا حَقِيقَةً فَحَالُ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا بِالْقَبْضِ أَوْلَى ، وَإِذَا صَحَّتْ فَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعُ مَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ .
وَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي التَّقْدِيرِ وَالْحُكْمِ ، وَجَبَ رَدُّ عَيْنِهِ فِي الْإِقَالَةِ .
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِنُقْرَةٍ أَوْ بِمَصُوغٍ ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْفِضَّةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ عَيْنِ الْفِضَّةِ ، وَيَسْتَرِدُّ مِنْ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَبْدِ لَكِنْ ذَهَبًا لَا فِضَةً ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَرُدَّتْ لَا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَلَوْ اسْتَرَدَّ قِيمَتَهُ فِضَّةً ، وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ فَتَزْدَادُ أَوْ تَنْقُصُ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَ قَبْلَ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْفِضَّةَ ، وَيَسْتَرِدَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ ذَهَبًا ، وَإِنْ شَاءَ فِضَّةً ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ هَهُنَا وَرَدَتْ عَلَى عَيْنِ الْعَبْدِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَدَلًا لِلْعَبْدِ ، وَلَا رَبَا بِينَ الْعَبْدِ وَقِيمَتِهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْكَفَالَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ أَمْ لَا ( أَمَّا ) الرُّكْنُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْقَبُولُ مِنْ الطَّالِبِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف الْآخَرُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الرُّكْنُ هُوَ الْإِيجَابُ فَحَسْبُ ( فَأَمَّا ) الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقِيلَ نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهَا } وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولُ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ لُغَةً وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ شَرْعًا لَا تَمْلِيكٌ .
أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجَهَالَةُ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَمَعْنَى الضَّمِّ وَالِالْتِزَامِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَأَشْبَهَ النَّذْرَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ اضْمَنُوا عَنِّي مَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ لِغُرَمَائِي وَهُمْ غُيَّبٌ فَضَمِنُوا ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُمْ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِالْتِزَامٍ مَحْضٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا نَذْكُرُ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفْت أَنَّ رُكْنَ الْكَفَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ أَنَا كَفِيلٌ أَوْ
ضَمِينٌ أَوْ زَعِيمٌ أَوْ غَرِيمٌ أَوْ قَبِيلٌ أَوْ حَمِيلٌ أَوْ لَك عَلَيَّ أَوْ لَك قِبَلِي أَوْ لَك عِنْدِي .
( أَمَّا ) لَفْظُ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَصَرِيحَانِ وَكَذَلِكَ الزَّعَامَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالْغَرَامَةُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ وَكَذَلِكَ الْقُبَالَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ أَيْضًا يُقَالُ قَبِلْت بِهِ أَقْبَلُ قُبَالَةً وَتَقَبَّلْت بِهِ أَيْ كَفَلَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ تَأْتِيَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ كَفِيلًا يَكْفُلُونِي بِمَا يَقُولُ وَالْحَمِيلُ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وَأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ تَحَمُّلِ الضَّمَانِ وَقَوْلُهُ عَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ وَكَذَا قَوْلُهُ إلَيَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ } وَقَوْلُهُ { قِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الْقُبَالَةِ } وَهِيَ الْكَفَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ عِنْدِي وَإِنْ كَانَتْ مُطْلِقَةً لِلْوَدِيعَةِ لَكِنَّهُ بِقَرِينَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ كَفَالَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْيَدَ وَيَحْتَمِلُ الذِّمَّةَ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ قُرْبٍ وَحَضْرَةٍ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْيَدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَعِنْدَ قَرِينَةِ الدَّيْنِ يُحْمَلُ عَلَى الذِّمَّةِ أَيْ فِي ذِمَّتِي لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا الذِّمَّةُ .
( وَأَمَّا ) الْقَبُولُ مِنْ الطَّالِبِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلَتْ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوَيْت أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
ثُمَّ رُكْنُ الْكَفَالَةِ .
فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ وَهِيَ مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا كَانَتْ الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَتَتَقَيَّدُ بِصِفَةِ الْمَضْمُونِ .
( وَأَمَّا ) الْمُقَيَّدُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِوَصْفِ التَّأْجِيلِ أَوْ بِوَصْفِ الْحُلُولِ فَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ بِأَنْ كَفَلَ إلَى شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ جَازَ ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى أَجَلٍ مِثْلِهِ يَتَأَجَّلُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ أَيْضًا وَإِنْ سَمَّى الْكَفِيلُ أَجَلًا أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْقَصَ جَازَ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الطَّالِبِ فَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ حَالًّا جَازَ التَّأْجِيلُ إلَى الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَأْجِيلًا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكُونُ تَأْجِيلًا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ خَاصَّةً ( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّالِبَ خَصَّ الْكَفِيلَ بِالتَّأْجِيلِ فَيَخُصُّ بِهِ كَمَا إذَا كَفَلَ حَالًّا أَوْ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ عَنْهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ يَجْعَلُ الْأَجَلَ صِفَةً لِلدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَقَدْ خُصَّ بِهِ الْكَفِيلُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ
مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَكَفَلَ بِهِ مُؤَجِّلًا إلَى سَنَةٍ أَوْ مُطْلِقًا ثُمَّ مَاتَ الْأَصِيلُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي مَالِهِ وَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي مَالِ الْكَفِيلِ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْأَجَلِ وُجِدَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ فَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ آجَالَ النَّاسِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَنَحْوِهِ فَكَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ ( وَلَنَا ) أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ فَتَحْمِلُهَا الْكَفَالَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَجَهَالَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَامَحُ فِي أَخْذِ الْعَقْدِ مَا لَا يُسَامَحُ فِي غَيْرِهِ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ جِهَة الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ مُتَعَارَفَةٌ .
وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ حَالَّةً فَأَخَّرَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِهُ آجَالَ النَّاسِ كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ فَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْكَفَالَةُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فَبَطَلَ وَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَجَّلَهُ الطَّالِبُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ مَبِيعٍ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَسَادَ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ التَّأْخِيرِ فِي الْكَفَالَةِ وَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا هَذَا ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ
مُؤَجَّلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَالَّةً فَإِنْ شَرَطَ الطَّالِبُ الْحُلُولَ عَلَى الْكَفِيلِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ .
وَلَوْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَأَخَّرُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ إذَا قُبِلَ التَّأْخِيرُ دُونَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ فِي الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصْلِ حَالًّا فَأَخَّرَهُ الطَّالِبُ إلَى مُدَّةٍ وَقَبِلَهُ الْمَطْلُوبُ جَازَ التَّأْخِيرُ وَيَكُونُ تَأْخِيرًا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ هَذَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَرْطًا سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ أَوْ لِوُجُوبِهِ أَوْ وَسِيلَةً إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ جَازَ بِأَنْ قَالَ إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ قُدُومَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَكْفُولًا عَنْهُ أَوْ يَكُونَ مُضَارَبَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَلَا لِوُجُوبِهِ وَلَا وَسِيلَةَ إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ قَالَ إذَا جَاءَ الْمَطَرُ أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ إنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ إلَّا شَرْطًا أُلْحِقَ بِهِ تَعَلُّقٌ بِالظُّهُورِ أَوْ التَّوَسُّلِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَيَجُوزُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَلَوْ قَالَ إنْ قَتَلَك فُلَانٌ أَوْ إنْ شَجَّك فُلَانٌ أَوْ إنْ غَصَبَك فُلَانٌ أَوْ إنْ بَايَعْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَلَوْ قَالَ إنْ غَصَبَك فُلَانٌ ضَيْعَتَك فَأَنَا ضَامِنٌ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قَالَ مَنْ قَتَلَك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ غَصَبَك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ شَجَّك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ بَايَعَكَ مِنْ النَّاسِ لَمْ يَجُزْ لَا مِنْ قِبَلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ .
وَلَوْ قَالَ ضَمِنَتْ لَك مَا عَلَى فَلَانَ إنْ نَوَى جَازَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى التَّوَسُّلِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجَ مِنْ
الْمِصْرِ وَلَمْ يُعْطِك فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى السَّوَاءِ .
وَلَوْ قَالَ كَفَلَتْ لَك مَالَك عَلَى فُلَانٍ حَالًّا عَلَى أَنَّك مَتَى طَلَبْته فَلِيَ أَجَلُ شَهْرٍ جَازَ وَإِذَا طَلَبْته مِنْهُ فَلَهُ أَجَلُ شَهْرٍ ثُمَّ إذَا مَضَى الشَّهْرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَى شَاءَ وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ حَالًّا لَمْ يَجُزْ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مَتَى شَاءَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْجُودَ هَهُنَا كَفَالَتَانِ إحْدَاهُمَا حَالَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُؤَجَّلَةٌ إلَى شَهْرٍ ، مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الطَّلَبِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ إلَى شَهْرٍ فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ انْتَهَى حُكْمُ التَّأْجِيلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ الْحَالَّةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ يَأْخُذُهُ مَتَى شَاءَ بِالطَّلَبِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ بِالشَّرْطِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ الْمُؤَجَّلِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلُ نَفْسُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ جَازَ .
وَلَوْ كَفَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ فَمَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ هُنَا كَفَالَتَانِ بِالنَّفْسِ وَبِالْمَالِ إلَّا أَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ .
( أَمَّا ) الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ
فَلَا شَكَّ فِيهَا وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ مُحَقِّقٌ لِمَا شُرِعَ لَهُ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْأَصِيلِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وَإِذَا أَدَّاهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا قَالَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَمْ يُسَمِّ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى مَا عَلَيْهِ وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا إنْ لَمْ يُوَافِ الزَّوْجُ وَصَدَاقُهَا وَصِيفٌ فَالْوَصْفُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْوَصِيفِ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ أَوْ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَيْت وَالْمَطْلُوبُ يُنْكَرُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْمَالِ مُعَلَّقًا بِالْخَطَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَاجِبِ ، وَوُجُوبُ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِمَالٍ ثَابِتٍ فَتَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ وَلَمْ يُوجَدْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ مُطْلَقَ الْأَلْفِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَلْفِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ مَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ فَسَادَ الْعَقْدِ وَفِي الصَّرْفِ إلَى مَا عَلَيْهِ صِحَّتُهُ فَالصَّرْفُ إلَى مَا فِيهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوْلَى وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ إذَا ادَّعَى بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ جَازَ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَافَاةِ وَهَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْمَكْفُولُ لَهُ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ مَكَانَهُ بَرِئَ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ .
وَلَوْ قَالَ ائْتِنِي بِهِ عَشِيَّةً أَوْ غَدْوَةً وَقَالَ الْكَفِيلُ أَنَا آتِيك بِهِ بَعْدَ غَدٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي طَلَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِوُجُودِ شَرْطِ اللُّزُومِ وَإِنْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ إلَى مَا بَعْدِ غَدٍ كَمَا قَالَهُ الْكَفِيلُ فَأَتَى بِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَبْطَلَ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَبْقَ التَّسْلِيمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ التَّسْلِيمَ بَعْدَ غَدٍ وَقَدْ وُجِدَ وَبَرِئَ مِنْ الْمَالِ .
وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وَقَالَ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ فَوَافَاهُ مِنْ الْغَدِ يَبْرَأُ مِنْ الْمَالِ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَبْرَأُ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَالْبَرَاءَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ .
( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بَلْ هُوَ جَعْلُ الْمُوَافَاةِ غَايَةً لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالشَّرْطُ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَازَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ وَيَكُونُ التَّسْلِيمُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي مَكَان يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ
الْقَاضِي تَسْلِيمًا إلَى الْقَاضِي لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِالْمِصْرِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ حَتَّى لَوْ دَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ .
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ مَا يَدَّعِيه الطَّالِبُ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى شَيْءٌ فَقَدْ أَضَافَ الِالْتِزَامُ إلَى مَا لَيْسَ بِسَبَبِ اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهَا الْمَطْلُوب لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى الْكَفِيلِ .
وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْكَفِيلُ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيُؤَاخِذُ بِهِ .
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى شَهْرٍ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ فَمَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الشَّهْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ مَضَى الشَّهْرُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ وَيَضْرِبُ الطَّالِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ أَمَّا لُزُومُ الْمَالِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لَوْ كَفَلَ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ تُعْتَبَرُ الْكَفَالَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ .
( وَأَمَّا ) الضَّرْبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَلِاسْتِوَاءِ الدِّينَيْنِ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ ثُمَّ مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ فَقَدْ عَجَزَ الْكَفِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَوُجِدَ شَرْطُ
لُزُومِ الْمَالِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ بِأَنْ ضَمِنَ مَا ادَّانَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَوْ مَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ أَوْ مَا دَايَنَ فُلَانًا أَوْ مَا أَقْرَضَهُ أَوْ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَا غَصَبَهُ أَوْ ثَمَنَ مَا بَايَعَهُ صَحَّتْ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى سَبَبِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ وَالْكَفَالَةُ إنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ مَحْضٍ فَجَازَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْإِضَافَةَ .
وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا بَايَعْتَ فُلَانًا فَثَمَنُهُ عَلَيَّ أَوْ مَا بَايَعْتَ أَوْ الَّذِي بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِجَمِيعِ مَا بَايَعَهُ .
وَلَوْ قَالَ إنْ بَايَعْتَ أَوْ إذَا بَايَعْتَ أَوْ مَتَى بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ أَوَّلِ الْمُبَايَعَةِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ مَا بَايَعَهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ كَلِمَةَ ( كُلَّ ) لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ وَكَذَا كَلِمَةُ ( مَا ) وَاَلَّذِي لِلْعُمُومِ وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبَايَعَةِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُبَايَعَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ إنْ بَايَعْتَ وَنَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
رُكْنِ الْكَفَالَةِ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْكَفَالَةِ .
فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ .
( أَمَّا ) .
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ .
فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَإِنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَنْعَقِدُ كَفَالَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا تَنْعَقِدُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ لَوْ اسْتَدَانَ دَيْنًا فِي نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَأَمَرَ الْيَتِيمَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ عَنْهُ جَازَ .
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ النَّفْسَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّيْنِ قَدْ لَزِمَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَأَمَّا ضَمَانُ النَّفْسِ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ ( وَمِنْهَا ) الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطُ نَفَاذِ هَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مَا كَانَ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ مِنْهُ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَاذَ بِالْبُلُوغِ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالتَّبَرُّعِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَتْ كَفَالَتُهُ وَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى
لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِأَنَّ إذْن الْمَوْلَى لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ وَصَحَّ فِي حَقِّ الْقِنِّ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَوْ كَفَلَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ عَنْ الْمَوْلَى جَازَ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ عَلَيْهِ وَأَمَّا صِحَّةُ بَدَنِ الْكَفِيلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ لَكِنْ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ .
فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا بَقِيَ إذَا مَاتَ مَلِيًّا حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَكَذَا بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وَإِذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْهُ بِالدَّيْنِ فَكَذَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ وَالتَّبَرُّعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلَا تَصِحُّ كَمَا كَفَلَ عَلَى إنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَإِذَا مَاتَ مَلِيًّا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ .
( وَأَمَّا ) الْإِبْرَاءُ وَالتَّبَرُّعُ فَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إبْرَاءٌ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ الْمُمَاطَلَةِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ بِتَخْلِيصِ الْمَيِّتِ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ بِوَاسِطَةِ إرْضَاءِ الْخَصْمِ بِهِبَةِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَتَبَرُّعًا بِقَضَائِهِ حَقِيقَةً فَلَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ كَفَلَ مَا عَلَى فُلَانٍ فَأَمَّا إذَا قَالَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاس أَوْ بِعَيْنٍ أَوْ بِنَفْسٍ أَوْ بِفِعْلٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَصِيلِ وَعَقْلُهُ وَبُلُوغُهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونِ مَا عَلَى الْأَصْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ وَقَدْ وُجِدَ أَمَّا الْعَبْدُ
فَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَيُطَالِبُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِمَا وَالْوَلِيُّ مُطَالِبٌ بِهِ فِي الْحَالِ وَيُطَالَبَانِ أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا وَعَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّى وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِمْ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مَحْبُوسٍ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ فِي الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا أَجْوَزَ مَا يَكُونُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ .
فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ شَرَطَ الِانْعِقَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَفَلَ لِغَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ عِنْدَهُ لَيْسَ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ النَّفَاذِ وَلَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رُبَّمَا يُطْلِقُ الْجَوَازَ عَلَى النَّافِذِ فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَنُسَمِّيه بَاطِلًا إلَّا أَنْ يُجِيزَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْجَائِزَ هُوَ النَّافِذُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ جَازَ السَّهْمُ إذَا نَفَذَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ مَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ لُغَةً وَشَرْعًا وَهُوَ الضَّمُّ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَكَانَ إيجَابُهُ كُلَّ الْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَيْضًا وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِيجَابُ وَحْدَهُ شَطْرَ الْعَقَدِ فَلَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ مَعَ مَا أَنَّا نَعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا فَنَقُولُ لِشِبْهِ الِالْتِزَامِ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ وَلِشِبْهِ التَّمْلِيكِ لَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
( وَأَمَّا ) مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ جَوَازَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ لَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ اضْمَنُوا عَنِّي إيصَاءً مِنْهُ إلَيْهِمْ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ شَيْءٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ وَبَعْضُهُمْ أَجَازُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَفَالَةِ وَوَجْهُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْ غُرَمَائِهِ وَشَرْحُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ حَتَّى لَا يَنْفُذَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ الْمُبْطِلُ لِحَقِّ الْغَرِيمِ .
وَلَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِلْوَرَثَةِ اضْمَنُوا لِغُرَمَاءِ فُلَانٍ عَنْهُ فَقَالُوا ضَمِنَّا يُكْتَفَى بِهِ فَكَذَا الْمَرِيضُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ( وَمِنْهَا ) وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ وَلِيِّهِمَا عَنْهُمَا لِأَنَّ الْقَبُولَ يُعْتَبَرُ مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَمَنْ قَبِلَ لَمْ يَقَعْ الْإِيجَابُ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ .
( وَأَمَّا ) حُرِّيَّةُ الْمَكْفُولِ لَهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ .
( وَأَمَّا ) .
الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ .
فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا أَوْ نَفْسًا أَوْ فِعْلًا لَيْسَ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَيْنٌ وَدَيْنٌ وَنَفْسٌ وَفِعْلٌ لَيْسَ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ أَمَّا الْعَيْنُ فَنَوْعَانِ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ وَعَيْنٌ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَمَّا الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَمَانَةً غَيْرَ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ أَوْ كَانَتْ أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى عَيْنِهَا وَعَيْنُهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ .
وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُمَا مَضْمُونَا التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَالَةُ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ ( وَأَمَّا ) الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَمَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالرَّهْنِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَالَ قِيَامِهِ وَرَدُّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ حَالَ هَلَاكِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَلَا تَصِحُّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَكَذَا الرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالدَّيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
إذَا هَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ .
( وَأَمَّا ) الْفِعْلُ فَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْبَائِعِ وَالرَّهْنَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْكَفِيلِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبَ عَلَى الْآجِرِ فِعْلُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ دُونَ الْحَمْلِ ، فَلَمْ تَكُنْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَمْ تَجُزْ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْحَمْلِ دُونَ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِفِعْلٍ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَتْ وَعَلَى هَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِرَأْسِهِ أَوْ بِوَجْهِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِنِصْفِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كَمَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَا جَازَتْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ
بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ وَالنَّفْسُ فِي حَقِّ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِذَا أَضَافَهَا إلَى الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ مُتَجَزِّئَةٌ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَلَوْ قَالَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هُوَ عَلَيَّ جَازَ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ جُزْءٌ جَامِعٌ .
وَلَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ قَالَ لِلطَّالِبِ أَنَا ضَامِنٌ لَك لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَصْلًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَالْفِعْلِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ عَلَيْهَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَلَا تَصِحُّ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ فَكَانَ مَحِلَّهَا الدَّيْنُ فَلَمْ تُوجَدْ ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْإِعْتَاقِ لَا تَتَحَقَّقُ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يُغَيِّرْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ وَلِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ الْإِنْكَارُ خُرُوجًا عَنْ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا
وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الدَّيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا وَالْعَيْنُ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ كَالدَّيْنِ عَبْدٌ مُقَرٌّ بِالرِّقِّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَوْلَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَبَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ بَعْدَ إبَاقِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ فَقَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك قِيمَةَ هَذَا إنْ اسْتَحْقَقْتَهُ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونِ صَبِيٍّ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَضَمِنَ لَهُ إنْسَانٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَدْ مَاتَ الصَّبِيُّ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَضْمُونٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ غَصَبَهُ عَبْدًا فَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ قَالَ رَجُلٌ أَنَا ضَامِنٌ بِالْعَبْدِ الَّذِي يَدَّعِي فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فَإِنْ هَلَكَ وَاسْتَحَقَّهُ بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ بِعَيْنٍ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ غَضَبُهُ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَهَا أَوْ عَبْدًا وَمَاتَ فِي يَدِهِ فَقَالَ رَجُلٌ خَلِّهِ فَأَنَا ضَامِنُ الْمَالِ أَوْ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَأْخُذُهُ بِهِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يَقِفُ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَنَا ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْقِيمَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا عُرِفَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ بِمَضْمُونٍ وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَبِحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ إذَا بَذَلَهَا الْمَطْلُوبُ فَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الطَّلَبِ هَلْ يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجْبُرُهُ وَقَالَ ، أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجْبُرُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّلَبِ كَنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ثُمَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَيُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَبِ فَكَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يُنَاسِبُهَا التَّوْثِيقُ بِالْجَبْرِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَبْسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قَبْلَ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالْحَبْسُ تَوْثِيقٌ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ لَا لِلتَّوْثِيقِ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَا تَخْلُو عَنْ إيرَاثِ تُهْمَةٍ فَكَانَ الْحَبْسُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ دُونَ التَّوْثِيقِ وَيَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِي التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ .
( وَأَمَّا ) الدَّيْنُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ فَلَوْ أَجَزْنَا الْكَفَالَةَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَكَانَ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ يَمْلِكَ الْكَفِيلُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَمْلِكُ الْأَصِيلُ ( وَإِمَّا ) أَنْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ مَلَكَ لَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْتِزَامَ مَا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ كَفَالَةً وَلِأَنَّا لَوْ أَجَزْنَا هَذِهِ الْكَفَالَةَ لَكَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ أَلْزَمَ مِنْهُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَ عَنْهُ الدَّيْنُ .
وَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ عَاجِزًا مُفْلِسًا لَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ الدَّيْنُ فَكَانَ الْحَقُّ عَلَى الْكَفِيلِ أَلْزَمَ مِنْهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهَذَا خِلَافُ مَا تُوجِبُهُ الْأُصُولُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ فَلَا تَجُوزُ فِيمَا لَا عُرْفَ فِيهِ وَلَا عُرْفَ فِي الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ سِوَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الدُّيُونِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا لُزُومُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ فَكَانَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ أَصْلًا لِوُجُوبِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْأَصْلِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزَ بِالْفَرْعِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَوْنُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعْلُومَ الذَّاتِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ أَوْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فِي الدَّيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَفَلَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ جَازَ وَعَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ بِالْبَيَانِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْكَفَالَةِ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ أَوْ بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ جَازَ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الطَّالِبِ .
وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُهُ فِي هَذَا الْبَيْعِ جَازَ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ الْكَفَالَةَ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ مَعَ أَنَّ الْحِمْلَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ ضَمَانُ الدَّرْكِ وَهُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعُهْدَةَ تَحْتَمِلُ الدَّرْكَ وَتَحْتَمِلُ الصَّحِيفَةَ وَهُوَ الصَّكُّ وَأَحَدُهُمَا وَهُوَ الصَّكُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَدَارَتْ الْكَفَالَةُ بِالْعُهْدَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَوَّلًا فَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ
بِالثَّمَنِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْكَفِيلِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْكَفِيلَ أَوَّلًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ الْكَفِيلُ يَكُونُ خَصْمًا هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَا سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَظَهَر أَنَّهُ حُرٌّ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا سِوَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الدَّرْكِ .
وَلَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي رَهْنًا بِالدَّرْكِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَالْفَرْقُ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ بِنَاءً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ وَنُقِضَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ بِنَائِهِ مَبْنِيًّا إذَا سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِ إلَّا بِالثَّمَنِ خَاصَّةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالتَّالِفِ وَلَوْ سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ بِهِمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا مِنْ الْكَفِيلِ بِالدَّرْكِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الدَّرَكِ ضَمَانُ الْمُشْتَرِي فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ فَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ مِنْهُ
قِيمَةَ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَفَلَ بِمَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ ضَمِنَهَا الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يُقِرُّ بِهِ أَمَّا الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَدْرِ الْمُلْتَزَمِ كَمَا إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ مَجْهُولٍ وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الزِّيَادَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ فِي الشَّرْعِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى كَفِيلِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُدَّعٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الْمُدَّعِي إلَّا بِحُجَّةٍ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْكَفَالَةِ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لِلْكَفَالَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَيَطَّرِدُ هَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي احْتِمَالِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مَحَلُّ الْحُكْمِ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْفِعْلِ فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ لَا عَلَيْهِ فَالدَّيْنُ عَلَى وَاحِدٍ وَالْمُطَالَبُ بِهِ اثْنَانِ غَيْرَ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ وَاحِدًا يُطَالَبُ بِكُلِّ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ بِهِ كَفِيلَانِ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ يُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا لَمْ يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْكَفَالَةِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ فَيَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَحْضُر فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبْسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ لَهُ فَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْ غَيْرِهَا أَطْلَقَهُ وَأَنْظَرَهُ إلَى حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْلِسِ لَكِنْ لَا يَحُولُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْكَفِيلِ بَلْ يُلَازِمُهُ مِنْ الطَّالِبِ وَلَا يَحُولُ الطَّالِبُ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَسْبِ وَغَيْرِهِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْعَيْنِ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَمِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ هَالِكَةً وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَبِالْفِعْلِ بِهِمَا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وُجُوبُ أَصْلِ الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْمُطَالَبَةُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى
الْأَصِيلِ كَمَا يُطَالَبُ الْأَصِيلُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْكَفِيلِ فَيَتَعَدَّدُ الدَّيْنُ حَسْبَ تَعَدُّدِ الْمُطَالَبَةِ وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَالنَّفْسِ وَالْفِعْلِ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الدَّيْنِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَفَالَاتِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ فَانْعِدَامُ حُكْمِ نَوْعٍ مِنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ حُكْمِ نَوْعٍ آخَرَ فَأَمَّا بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فَلَيْسَ حُكْمَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلَ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ إلَّا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى أَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْحَوَالَةِ أَيْضًا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تُنْبِئُ عَنْ الضَّمِّ وَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ أَوْ فِي حَقِّ أَصْلِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةُ تُنَافِي الضَّمَّ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُبَرِّئَةً لَكَانَتْ حَوَالَةً وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَسَامِي دَلِيلُ تَغَايُرِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ وَأَيَّهمَا اخْتَارَ مُطَالَبَتَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ بَلْ يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنْ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْلِكُ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْآخَرِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ هَلَكَ الْمَضْمُونُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الطَّالِبِ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا بِالْمَضْمُونِ لَا يَتَضَمَّنُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَكَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ حَتَّى يَثْبُتَ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ وَاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُبْطِلُ اخْتِيَارَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الضَّمَانَ صَارَ نَصِيبُهُ مَنْقُولًا إلَى الْمُعْتَقِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَلَوْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَسْعَى وَهُوَ رَقِيقٌ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَلَا تَنَافٍ هَهُنَا لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ بِاخْتِيَارِ الْمُطَالَبَةِ فَيَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْآخَرِ .
وَالثَّانِي ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ الْأَصِيلَ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَطَالَبَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ إذَا طَالَبَهُ وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ يُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَتَسْلِيمِ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً إذَا طُولِبَ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ بِفِعْلِ التَّسْلِيمِ وَالْحَمْلِ يُطَالَبُ بِهِمَا وَإِنْ كَانَتْ بِدَيْنٍ يُطَالِبُهُ بِالْخَلَاصِ إذَا طُولِبَ فَكَمَا طُولِبَ الْكَفِيلُ طَالَبَ هُوَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْخَلَاصِ وَإِنْ حَبَسَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ مُلَازَمَةِ الْأَصِيلِ إذَا لُوزِمَ وَلَا حَقُّ الْحَبْسِ إذَا حُبِسَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ هُوَ وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ هُوَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَبِيعِ كَمَا .
وَقَعَ وَقَعَ لِلْمُوَكِّلِ فَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ وَهُنَا الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ أَوْ التَّمْلِيكِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا وَإِذَا أَدَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ اسْتِقْرَاضٌ وَهُوَ طَلَبُ الْقَرْضِ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْكَفِيلُ بِأَدَاءِ الْمَالِ مُقْرِضٌ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَنَائِبٌ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وَفِي حَقِّ الطَّالِبِ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْكَفِيلِ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ مِنْ
الْمَالِ وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ وَالْمُشْتَرِي يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْبَيْعِ لَا غَيْرَ هَذَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا .
الْكَفِيلُ بِالْمَالِ .
فَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْأَدَاءِ فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْعَقْدِ وَكَذَا إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ كَالْهِبَةِ فَكَانَ هُوَ وَأَدَاءُ الْمَالِ سَوَاءً كَالْهِبَةِ .
وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ أَوْ الْأَصِيلَ خَرَجَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ وَإِذَا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْأَصِيلِ لَا عَلَى الْكَفِيلِ إنَّمَا عَلَيْهِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَكَانَ إبْرَاءُ الْأَصِيلِ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّتِهِ فَإِذَا سَقَطَ الدَّيِّنُ عَنْ ذِمَّتِهِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ فَأُمًّا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ فَإِبْرَاؤُهُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لَا عَنْ الدِّينِ إذْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْكَفِيلِ سُقُوطِ أَصْلِ الدَّيْنِ عَنْ الْأَصِيلِ لَكِنْ يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْكَفِيلِ فَإِذَا سَقَطَ تَنْتَهِي إلَّا أَنَّ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَكَذَا الْهِبَةُ مِنْهُ أَوْ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةِ مِنْهُ وَالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا ارْتَدَّتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِرَدِّ الْأَصِيلِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ وَهَلْ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ إلَى الْكَفِيلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلُ أَوْ وَهَبَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَرَدَّ وَرَثَتُهُ يَرْتَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرْتَدُّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ حَالَ حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الرَّدِّ وَهُنَاكَ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ إبْرَاءَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إبْرَاءٌ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِبْرَاءُ الْوَرَثَةِ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ بِوَجْهٍ فَاقْتَصَرَ حُكْمُ
الْإِبْرَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ غَايَةً لِبَرَاءَتِهِ وَالْبَرَاءَةُ الَّتِي هِيَ غَايَتُهَا نَفْسُهُ هِيَ بَرَاءَةُ الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَبَرِئَا جَمِيعًا لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ يُوجِبُ بَرَاءَتَهُمَا جَمِيعًا فَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ بَرِئْتُ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ إلَيَّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا .
وَقَوْلُهُ بَرِئْتُ إلَيَّ سَوَاءٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ وَهَذَا .
وَقَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الْمَالِ قَدْ تَكُونُ بِالْأَدَاءِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ إلَيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا فَتُحْمَلُ عَلَى الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ فِي الْأَصْلِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَالِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ عُرْفًا وَعَادَةً فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ .
وَلَوْ أَحَالَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ بِمَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى رَجُلٍ وَقَبِلَهُ الطَّالِبُ فَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِمَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى رَجُلٍ وَقَبِلَهُ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مُبَرِّئَةٌ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ مُخْرِجٌ عَنْ الْكَفَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَخْرُجُ
الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ أَصْلًا لِمَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالصُّلْحِ كَمَا يَخْرُجُ بِالْحَوَالَةِ بِأَنْ يُصَالِحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى جِنْسِ الْمُدَّعَى إسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَعَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ غَيْرَ أَنَّ فِي حَالَيْنِ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جَمِيعًا وَفِي حَالٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ .
( أَمَّا ) الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ بَرِئَ فِيهِمَا الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جَمِيعًا إحْدَاهُمَا أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُكَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي وَالْمَكْفُولُ مِنْهُ بَرِئَانِ مِنْ الْخَمْسمِائَةِ الْبَاقِيَةِ وَيَكُونُ الطَّالِبُ فِي الْخَمْسمِائَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا مِنْ الْكَفِيلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يَرْفَعُ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مِنْ الْأَصِيلِ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ صَالِحَتُكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُضَافَ إلَى الْمَالِ الْمُجَرَّدِ عَنْ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ فَإِذَا سَقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ الْكَفِيلِ .
( وَأَمَّا ) الْحَوَالَةُ الَّتِي يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فِيهَا دُونَ الْأَصِيلِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْخَمْسمِائَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ مِنْ قَبْلُ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْكَفِيلِ خَمْسِمِائَةٍ وَمِنْ الْأَصِيلِ خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ .
( وَأَمَّا ) الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إحْدَاهَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الطَّالِبِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ إمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ يَنْتَهِي حُكْمُهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ .
وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي صَحْرَاءَ أَوْ بَرِيَّةٍ لَا يَخْرُجُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَلَوْ سَلَّمَ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الْمِصْرِ يَخْرُجُ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْكَفَالَةَ أَوْ قَيَّدَهَا بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَمَّا إذَا أَطْلَقَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ وَكَذَا إذَا قَيَّدَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ تَسْلِيمٌ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بِوَاسِطَةٍ .
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي الْمِصْرِ الْمَشْرُوطِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِصْرِ مُفِيدٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي وَهَذَا الْغَرَضُ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ كُلِّ قَاضٍ فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السَّوَادِ وَلَا قَاضِي فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ لَا يَصْلُحُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ
وَكَذَا إذَا عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وُلِّيَ ذَلِكَ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فَلَا يَتَقَيَّدُ وَلَوْ كَفَلَ جَمَاعَةً بِنَفْسِ رَجُلٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً فَأَحْضَرَهُ أَحَدُهُمْ بَرِئُوا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُتَفَرِّقَةً لَمْ يَبْرَأْ الْبَاقُونَ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ الْوَاحِدَةِ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِحْضَارُ .
وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ وَالدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِإِحْضَارِ وَاحِدٍ الْإِبْرَاءُ بِهِ فَيَبْرَأُ هُوَ دُونَ الْبَاقِينَ وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إذَا كَفَلَ جَمَاعَةً بِمَالِ وَاحِدٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمْ بَرِئَ الْبَاقُونَ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْكَفِيلِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَا فَلَقِيَ الرَّجُلُ الطَّالِبَ فَخَاصَمَهُ الطَّالِبُ وَلَازَمَهُ فَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ لَازَمَهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْكَفِيلِ الْمُوَافَاةُ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِلطَّالِبِ قَدْ دَفَعْتُ نَفْسِي إلَيْكَ عَنْ كَفَالَةٍ فَلَأَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الْكَفِيلِ فِي التَّسْلِيمِ عَنْهُ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ كَمَنْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَهُنَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ انْعِدَامَ الْجَبْرِ عَلَى الْقَبُولِ فِي بَابِ الْمَالِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ لُحُوقِ الْمِنَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا تُطَاوِعُهُ بِتَحَمُّلِ الْمِنَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَا مِنَّةَ فِي
أَدَاءِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالَيْنِ وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ خَرَجَ عَنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ .
وَقَدْ أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي الْحَقُّ ضَرُورَةً وَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِبْرَاءُ لِلْأَصِيلِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ دُونَ الْأَصِيلِ .
وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ بَرِئَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ بَطَلَ الضَّمَانُ بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْكَفَالَةِ وَالثَّالِثُ مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) .
الْكَفِيلُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَفْعَالِ الْمَضْمُونَةِ تَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَتَسْلِيمُ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ هَالِكَةً وَيَحْصُلُ الْفِعْلُ الْمَضْمُونُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالْحَمْلُ وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ فَلَا يَخْرُجُ بِمَوْتِ الْغَاصِبِ وَالْبَائِعِ وَالْمُكَارِي لِأَنَّ نَفْسَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَكْفُولٍ بِهَا حَتَّى يَسْقُطَ بِمَوْتِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُجُوعُ الْكَفِيلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي .
شَرَائِطِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ .
وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ بِهِ .
( أَمَّا ) الشَّرْطُ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْرَاضِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ إذْنُ مَنْ يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ بِإِذْنِهِ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ .
( وَأَمَّا ) الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ فَإِذْنُهُ بِالْكَفَالَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ( وَمِنْهَا ) إضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي وَلَوْ قَالَ اضْمَنْ كَذَا وَلَمْ يُضِفْ إلَى نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ فَالْكَفَالَةُ لَمْ تَقَعْ إقْرَاضًا إيَّاهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ( وَمِنْهَا ) أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقْرَاضِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَهُ ( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَصِيلِ عَلَى الْكَفِيلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ الْتَقَى الدَّيْنَانِ قِصَاصًا إذْ لَوْ ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ لَثَبَتَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا
يُفِيدُ فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا .
وَلَوْ وَهَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَ مِنْهُ فَقَدْ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَمَا إذَا مَلَكُهُ بِالْأَدَاءِ وَإِذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْأَصِيلِ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ هَذَا وَأَدَاءَ الْمَالِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَهُ مِنْهُ فَقَدْ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا إذَا أَدَّى وَمَتَى بَرِئَ الْأَصِيلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ .
وَلَوْ مَاتَ الطَّالِبُ فَوَرِثَهُ الْكَفِيلُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ وَرِثَهُ الْأَصِيلُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُهُ الْأَصِيلُ وَمَتَى مَلَكَهُ بَرِئَ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ كَمَا إذَا أَدَّى وَلَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَهُوَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ وَلِهَذَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى تَمْلِيكِ الدَّيْنِ أَصْلًا فَلَا يَرْجِعُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ جَازَ حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِإِذْنِهِ مَوْجُودٌ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْكَفِيلُ مَا كَفَلَ بِهِ حَتَّى عَجَّلَ الْأَصِيلُ لِمَا كَفَلَ عَنْهُ وَدَفَعَ إلَى الْكَفِيلِ يُنْظَرُ إنْ دَفْعَهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لَهُ فِي الْحَالِ لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ إذَا عَجَّلَهُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُونُ قَضَاءً كَذَا هَذَا
وَبَرِئَ الْأَصِيلُ مِنْ دَيْنِ الْكَفِيلِ وَلَكِنْ لَا يَبْرَأُ عَنْ دَيْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْأَصِيلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا أَدَّى لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ تَصَرَّفَ فِي ذَلِكَ الْمُعَجَّلِ وَرَبِحَ هَلْ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَطِيبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَحَصَلَ التَّمْلِيكُ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ .
وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ يَتَصَدَّقُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّ الرِّبْحَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ هَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِيُؤَدِّيَ الدَّيْنَ مِمَّا دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْوَكِيلُ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ وَهُوَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ وَرَبِحَ فِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأَتَّى فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِمَا نَذْكُرُ وَفِي قَوْلِهِ بَرِئْتُ مِنْ الْمَالِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ حَتَّى يَثْبُتَ لِلطَّالِبِ وَلَايَةُ مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ مَالِ الْكَفَالَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا فَإِنْ لَمْ يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُلْ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَإِنْ كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْفُلْ عَنْهُ صَاحِبُهُ بِمَا عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِيمَا أَدَّى أَنَّهُ مِنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ أَوْ مِنْ كَفَالَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ كَفَالَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْأَصِيلِ وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْكَفَالَةِ عَنْ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ لَهُ وَلَايَةُ الْأَدَاءِ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِذَا قَالَ أَدَّيْتُهُ عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِي يُصَدَّقُ وَيُرْجَعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أَدَّى الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ أَوْ قَالَ ابْتِدَاءً إنِّي أُؤَدِّي عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِي وَكَذَا إذَا قَالَ أَدَّيْتُهُ عَنْ كَفَالَةِ الْأَصِيلِ فَقُبِلَ مِنْهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أَوْ عِنْدَهُ ابْتِدَاءً وَإِنْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَمَا أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ أَنَّهُ أَدَّى عَنْ شَرِيكِهِ لَا عَنْ نَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ .
وَكَذَا إذَا
قَالَ ابْتِدَاءً إنِّي أُؤَدِّي عَنْ شَرِيكَيْ لَا عَنْ نَفْسِي لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى هَذَا الْقَدْرِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي إلَى خَمْسِمِائَةٍ لَهُ مُعَارِضٌ وَالزِّيَادَةُ لَا مُعَارِضَ لَهَا فَإِذَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ إنْ شَاءَ عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْأَصِيلِ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ إذَا افْتَرَقَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَأَيُّهُمَا أَدَّى شَيْئًا لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا كَفَلَا كَفَالَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً مُتَفَرِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْ الْمَطْلُوبِ ثُمَّ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا يَرْجِعُ بِكُلِّ الْمُؤَدَّى عَلَى الْأَصِيلِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْكَفَالَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْكَفَالَةُ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَقَعُ الْمُؤَدَّى نِصْفُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَنِصْفُهُ عَنْ صَاحِبِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُؤَدَّى وَإِذَا وَقَعَ نِصْفُ الْمُؤَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِيُسَاوِيَهُ فِي الْأَدَاءِ كَمَا سَاوَاهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْمُؤَدَّى بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلٌ فِي نِصْفِ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا عَنْ نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا مَرَّ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّاهُ حَتَّى لَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ جِيَادٍ فَأَعْطَاهُ مُكَسَّرَةً أَوْ زُيُوفًا وَتَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالصِّحَاحِ الْجِيَادِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ بِالْمُؤَدَّى وَهُوَ الصِّحَاحُ الْجِيَادُ وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُؤَدَّى لَا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ مَا مَلَكَ الدَّيْن بَلْ أَقْرَضَ الْمُؤَدِّي مِنْ الْآمِرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَقْرَضَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّى لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْخَمْسِمِائَةِ لَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الْخَمْسمِائَةِ مَا مَلَكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَهُوَ الْأَلْفُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الصُّلْحِ تَمْلِيكًا هَهُنَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَقَعُ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ كَفَلَ بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ فَصَالَحَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يَقُلْ أَصَالِحُكَ عَلَى أَنْ تُبَرِّئَنِي فَالصُّلْحُ وَاقِعٌ عَنْ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا وَبَرِئَا جَمِيعًا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَلَوْ قَالَ أُصَالِحُكَ عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى أَنْ تُبَرِّئَنِي فَهَذَا بَرَاءَةٌ عَنْ الْكَفِيلِ خَاصَّةً وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِدِينَارَيْنِ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إيقَاعُ الصُّلْحِ عَلَى ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ تَصَرُّفٌ فِي نَفْسِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَنْهُمَا جَمِيعًا فَيَبْرَآنِ جَمِيعًا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ لِأَنَّهُ مَلَكَ هَذَا الْقَدْرَ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ .
( وَأَمَّا )
فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِضَافَةُ الصُّلْحِ إلَى ثَلَاثَةٍ مَقْرُونًا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ الْمُضَافِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءً لِلْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِدِينَارَيْنِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَيَبْقَى الدِّينَارَانِ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَأْخُذُهُ الطَّالِبُ مِنْهُمَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
( كِتَابُ الْحَوَالَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَنْ الْحَوَالَةِ ، وَفِي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ : أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ أَمْ لَا ؟ .
( أَمَّا ) رُكْنُ الْحَوَالَةِ .
فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، الْإِيجَابُ مِنْ الْمُحِيلِ ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمُحَالِ جَمِيعًا ، فَالْإِيجَابُ : أَنْ يَقُولَ الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ : أَحَلْتُك عَلَى فُلَانٍ هَكَذَا ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الْمُحِيلِ وَقَبُولِ الْمُحْتَالِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُحِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُسْتَوْفٍ حَقَّ نَفْسِهِ بِيَدِ الطَّالِبِ ؛ فَلَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، كَمَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْمُحَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ عَلَيْهِ بِنَقْلِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ مَعَ اخْتِلَافِ الذِّمَمِ ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، بِنَقْلِ الْحَقِّ إلَى ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ وَرِضَاهُ ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَصَرُّفًا عَلَيْهِ بِنَقْلِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً ؛ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ وَرِضَاهُ ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا عَلَى التَّفَاوُتِ : بَعْضُهُمْ أَسْهَلُ مُطَالَبَةً وَاقْتِضَاءً ، وَبَعْضُهُمْ أَصْعَبُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ لِيَكُونَ لُزُومُ ضَرَرِ الصُّعُوبَةِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ
.
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، فَلَا تَصِحُّ حَوَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا ، ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا ، وَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ دُونَ الِانْعِقَادِ ، فَتَنْعَقِدُ حَوَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ؛ مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ بِحَالِهَا ، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بِمَا لَهَا ، خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً ؛ فَتَنْعَقِدُ مِنْ الصَّبِيِّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُحِيلِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ ، حَتَّى تَصِحَّ حَوَالَةُ الْعَبْدِ مَأْذُونًا كَانَ فِي التِّجَارَةِ أَوْ مَحْجُورًا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ بِالْتِزَامِ شَيْءٍ كَالْكَفَالَةِ ؛ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ؛ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لِلْحَالِّ إذَا أَدَّى ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا ؛ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَكَذَا الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ ؛ فَتَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ .
( وَمِنْهَا ) : رِضَا الْمُحِيلِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ ، فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، فَتَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) الْعَقْلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ؛ وَلِأَنَّ قَبُولَهُ رُكْنٌ ، وَغَيْرُ الْعَاقِلِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ .
( وَمِنْهَا ) الْبُلُوغُ وَأَنَّهُ شَرْطُ النَّفَاذِ ، لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ ، فَيَنْعَقِدُ احْتِيَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ الثَّانِي أَمْلَأَ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَكَذَا الْوَصِيُّ إذَا احْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ ؛ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ قُرْبَانِ مَالِهِ ، إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ ؛ لِلْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهِ { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
( وَمِنْهَا ) : الرِّضَا عَلَى لَوْ احْتَالَ مُكْرَهًا ؛ لَا تَصِحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( وَمِنْهَا ) : مَجْلِسُ الْحَوَالَةِ وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ شَرْطُ النَّفَاذِ ، حَتَّى أَنَّ الْمُحْتَالَ لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ ؛ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ ، وَالصَّحِيحُ : قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَكَانَ كَلَامُهُمَا بِدُونِ شَرْطِ الْعَقْدِ ؛ فَلَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ - كَمَا فِي الْبَيْعِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا : ( مِنْهَا ) : الْعَقْلُ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ قَبُولَ الْحَوَالَةِ أَصْلًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَمِنْهَا ) الْبُلُوغُ ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ قَبُولُ الْحَوَالَةِ أَصْلًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا ، سَوَاءٌ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ ، أَوْ بِأَمْرِهِ .
( أَمَّا ) إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ ، فَكَانَ تَبَرُّعًا بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ ، مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، كَالْكَفَالَةِ ، وَإِنْ قَبِلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ .
( وَمِنْهَا ) الرِّضَا ، حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَبُولِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ .
( وَمِنْهَا ) الْمَجْلِسُ ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَهُمَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِ الْمُحِيلِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ .
فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ دَيْنًا ؛ فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَقْلُ مَا فِي الذِّمَّةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ لَازِمًا ؛ فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ غَيْرِ لَازِمٍ ، - كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ تَسْمِيَةً لَا حَقِيقَةً ؛ إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ، وَالْأَصْلُ : أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ ، لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ .
( وَأَمَّا ) وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ ؛ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ ، حَتَّى تَصِحَّ الْحَوَالَةُ ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْحَوَالَةَ نَوْعَانِ : مُطْلَقَةٌ ، وَمُقَيَّدَةٌ ، فَالْمُطْلَقَةُ : أَنْ يُحِيلَ بِالدَّيْنِ عَلَى فُلَانٍ ، وَلَا يُقَيِّدُهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ، وَالْمُقَيَّدَةُ : أَنْ يُقَيِّدَهُ بِذَلِكَ ، وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ جَائِزَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ ؛ تُخَالِفُ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ فِي أَحْكَامٍ ، ( مِنْهَا ) : أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الْحَوَالَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنَّ الْمُحَالَ يَطْلُبُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يُطَالَبُ بِدَيْنَيْنِ : دَيْنِ الْحَوَالَةِ ، وَدَيْنِ الْمُحِيلِ ، فَيُطَالِبُهُ الْمُحَالُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ ، وَيُطَالِبُهُ الْمُحِيلُ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَوَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَمْ تَتَقَيَّدْ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مُطْلَقَةً عَنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، فَيَتَعَلَّقُ دَيْنُ الْحَوَالَةِ بِنَعْتِهِ ، وَدَيْنُ الْمُحِيلِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ ، وَإِذَا قَيَّدَهَا بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ؛ يَنْقَطِعُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهَذَا الدَّيْنِ ، فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ بَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ
فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ ؛ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَوْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لِمَعْنًى عَارِضٍ ، بِأَنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ ، حَتَّى سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْهُ ؛ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عَنْهُ لَكِنْ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ بَعْدَ سُقُوطِ الثَّمَنِ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ .
وَلَوْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ ؛ لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ ضَرُورَةً ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِهِ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْحَوَالَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ ؛ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِأَلْفٍ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ ، فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ عِنْدَ الْمُودَعِ ؛ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ مَضْمُونَةً ؛ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِالْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ ، قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ إلَى الْمُحَالِ ، وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى هَذَا الدَّيْنِ ؛ لَا يَكُونُ الْمُحَالُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ : يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ كَالرَّهْنِ .
( وَلَنَا ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ اُخْتُصَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ خَاصَّةً ؟ وَلَمَّا اُخْتُصَّ بِغُرْمِهِ اُخْتُصَّ بِغُنْمِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ، فَأَمَّا
الْمُحَالُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِ ذَلِكَ الْمَالِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَوِيَ لَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ عَلَى الْمُحِيلِ ، وَالتَّوَى عَلَى الْمُحِيلِ دُونَهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِهِ لَمْ يَخْتَصَّ بِغُنْمِهِ أَيْضًا ، بَلْ يَكُونُ هُوَ وَغُرَمَاءُ الْمُحِيلِ أُسْوَةً فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُحِيلُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ اُسْتُحِقَّ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ فَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ؛ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ جَمِيعُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُحَالُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ ، فَذَلِكَ مِلْكُ الْمُحِيلِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُحَالُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَعُودُ إلَى الْمُحِيلِ ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ كَفِيلًا ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ .
( أَمَّا ) الْمُحَالُ ، إذَا تَوِيَ مَا عَلَى الْآخَرِ ، وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ ؛ فَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيُحْتَاطُ فِي ذَلِكَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَوَالَةِ .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْحَوَالَةُ لَهَا أَحْكَامٌ ( مِنْهَا ) : بَرَاءَةُ الْمُحِيلِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : الْحَوَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ ، وَالْحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا ، كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ ، كَالْكَفَالَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْوَثِيقَةِ بَرَاءَةُ الْأَوَّلِ ، بَلْ الْوَثِيقَةُ فِي مُطَالَبَةِ الثَّانِي ، مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ ، كَمَا فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءً .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْحَوَالَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ وَهُوَ النَّقْلُ ، فَكَانَ مَعْنَى الِانْتِقَالِ لَازِمًا فِيهَا ، وَالشَّيْءُ إذَا انْتَقَلَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى فِي الْمَحِلِّ الْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ ، وَمَعْنَى الْوَثِيقَةِ يَحْصُلُ بِسُهُولَةِ الْوُصُولِ مِنْ حَيْثُ الْمَلَاءَةُ وَالْإِنْصَافُ .
وَلَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ ؛ جَازَ وَتَكُونُ حَوَالَةً ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِهِ مُوجِبًا لِلْحَوَالَةِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَحَسْبُ ، فَأَمَّا أَصْلُ الدَّيْنِ فَبَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ : دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ ( أَمَّا ) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ ؛ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ، أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ ؛ صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ وَالْهِبَةُ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلَ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ ؛ لَا يَصِحُّ .
وَلَوْلَا أَنَّ الدَّيْنَ انْتَقَلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَفَرَغَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ عَنْ الدَّيْنِ ؛ لَمَا صَحَّ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الدَّيْنِ ، وَهِبَةُ الدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ
مُحَالٌ ، وَلَصَحَّ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ دَيْنٍ ثَابِتٍ ، وَهِبَتُهُ مِنْهُ صَحِيحٌ - وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ - كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ ؛ فَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ النَّقْلَ ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ ، وَهُوَ النَّقْلُ ؛ فَيَقْتَضِي نَقْلَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ ، وَقَدْ أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ لَا إلَى الْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ : أَحَلْتُ بِالدَّيْنِ ، أَوْ أَحَلْتُ فُلَانًا بِدَيْنِهِ ؛ فَيُوجِبُ انْتِقَالَ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَيْهِ ؛ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْآخَرِينَ : دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ ( أَمَّا ) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ : فَإِنَّ الْمُحِيلَ إذَا قَضَى دَيْنَ الطَّالِبِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ؛ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَكَانَ مُتَطَوِّعًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقَبُولِ ، كَمَا إذَا تَطَوَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِ إنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ : لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ ؛ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ .
وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ ؛ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ ، كَمَا إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبَ الْكَفِيلُ ، أَوْ وَهَبَ مِنْهُ .
وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ ، وَلَا ارْتَدَّا جَمِيعًا بِالرَّدِّ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ ، أَوْ وَهَبَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ ؛ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ .
وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ ؛ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، كَمَا فِي الْكَفَالَةِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَلَى التَّسْوِيَةِ
بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ، ثُمَّ إنَّ الدَّيْنَ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ، فَكَذَا فِي الْحَوَالَةِ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ : فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ - بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ - وَلَيْسَ مِنْ الْوَثِيقَةِ إبْرَاءُ الْأَوَّلِ ، بَلْ الْوَثِيقَةُ فِي نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ .
( وَمِنْهَا ) : ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ أَوْجَبَتْ النَّقْلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، إمَّا نَقْلُ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا ، وَإِمَّا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
( وَمِنْهَا ) : ثُبُوتُ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ إذَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ فَكُلَّمَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ ؛ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ مُلَازَمَةِ الْمُحَالِ ، وَإِذَا حَبَسَهُ : لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ لِلْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ ؛ فَعَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، أَوْ كَانَتْ بِأَمْرِهِ ، وَلَكِنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، وَالْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةٌ ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ إذَا لُوزِمَ ، وَلَا أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا حُبِسَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ ؛ كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، وَقَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَلَوْ لَازَمَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ؛ لَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُلَازِمَهُ أَيْضًا ؛ فَلَا يُفِيدُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَوَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْحَوَالَةِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ ، وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ يَنْتَهِي بِأَشْيَاءَ ( مِنْهَا ) : فَسْخُ الْحَوَالَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ ، فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ ، وَمَتَى فُسِخَ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ .
( وَمِنْهَا ) التَّوَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ الْحَوَالَةِ لَا يَنْتَهِي بِالتَّوَى ، وَلَا تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } ، وَلَمْ يُفَصِّلْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ؛ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَقَدْ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً عَنْ شَرِيطَةِ السَّلَامَةِ ، فَتُفِيدُ الْبَرَاءَةَ مُطْلَقًا .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ : إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، وَقَالَ : لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، .
وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُ ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ ؛ فَكَانَ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَضَاءِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ } إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ الْإِبْرَاءُ بِالْقَضَاءِ فِي السُّقُوطِ ، وَالْحَوَالَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ ، وَلَا إبْرَاءٍ ، فَبَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ ، إلَّا أَنَّ بِالْحَوَالَةِ انْتَقَلَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، لَكِنْ إلَى غَايَةِ التَّوَى ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِالْمُطَالَبَةِ ، فَإِذَا تَوِيَ ؛ لَمْ تَبْقَ وَسِيلَةٌ إلَى الْإِحْيَاءِ ، فَعَادَتْ إلَى مَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ
فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرِيطَةِ الْمَلَاءَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ بِالْإِفْلَاسِ ، ثُمَّ التَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِشَيْئَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : أَحَدُهُمَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا .
وَالثَّانِي : أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِهِمَا وَبِثَالِثٍ ، وَهُوَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ ، وَيَقْضِيَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْإِفْلَاسِ حَالَ حَيَاتِهِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ : لَا يَقْضِي بِهِ .
( وَمِنْهَا ) : أَدَاءُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْمَالَ إلَى الْمُحَالِ ، فَإِذَا أَدَّى الْمَالَ خَرَجَ عَنْ الْحَوَالَةِ ؛ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ حُكْمِهَا .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَهَبَ الْمُحَالُ الْمَالَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ وَيَقْبَلَهُ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَيَقْبَلَهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ ؛ فَيَرِثُهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الْمَالِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا بَيَانُ الرُّجُوعِ ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّجُوعِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ بِهِ أَمَّا شَرَائِطُهُ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لَا يَرْجِعُ ، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِلطَّالِبِ : إنَّ لَك عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدَّيْنِ ، فَاحْتَلْ بِهَا عَلَيَّ ، فَرَضِيَ بِذَلِكَ الطَّالِبُ ؛ جَازَتْ الْحَوَالَةُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ صَارَ الْمُحَالُ مُمَلَّكًا الدَّيْنَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُوجَدُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ؛ فَلَا تَثْبُتُ وَلَايَةُ الرُّجُوعِ .
( وَمِنْهَا ) : أَدَاءُ مَالِ الْحَوَالَةِ ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ - كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ - إذَا قَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا وَرِثَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَإِذَا وَرِثَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ ؛ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ .
وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقِّهِ ؛ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ التَّمْلِيكِ إلَّا عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالرَّدِّ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَقِيَ إسْقَاطًا مَحْضًا ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُحَالُ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ فَلَا يَرْجِعُ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ ، فَإِنْ كَانَ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ الْتَقَيَا قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ لَرَجَعَ الْمُحِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا ، فَلَا يُفِيدُ فَيَتَقَاصَّا الدَّيْنَيْنِ ؛ فَبَطَلَ حَقُّ الرُّجُوعِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَرْجِعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِالْمُحَالِ بِهِ لَا بِالْمُؤَدَّى ، حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ دَرَاهِمَ ، فَنَقَدَ
الْمُحَالُ عَلَيْهِ دَنَانِيرَ عَنْ الدَّرَاهِمِ ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ ، فَنَقَدَهُ دَرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ فَتَصَارَفَا ؛ جَازَ ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ ، حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ شَرَطَا فِيهِ الْأَجَلَ ، وَالْخِيَارُ يُبْطِلُ الصَّرْفَ ، وَيَعُودُ الدَّيْنُ إلَى حَالِهِ ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُصَارَفَةُ ؛ فَالْمُحَالُ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَالِ الْحَوَالَةِ ، لَا بِالْمُؤَدَّى ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ دَيْنَ الْحَوَالَةِ لَا الْمُؤَدَّى - بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ - لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِالدَّرَاهِمِ ، أَوْ الدَّنَانِيرِ عَرَضًا ؛ يَرْجِعُ بِمَالِ الْحَوَالَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا إذَا أَعْطَاهُ زُيُوفًا مَكَانَ الْجِيَادِ وَتَجَوَّزَ بِهَا الْمُحَالُ ؛ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِالْجِيَادِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ صَالَحَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى جِنْسِ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَاقِي ؛ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ ؛ فَيَرْجِعُ بِهِ ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ ، بِأَنْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى دَنَانِيرَ ، أَوْ عَلَى مَالٍ آخَرَ ؛ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِكُلِّ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْحَقِّ مُعَاوَضَةً ، وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ عِوَضًا عَلَى كُلِّ الدَّيْنِ .
وَلَوْ قَبَضَ الْمُحَالُ مَالَ الْحَوَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا ؛ فَقَالَ الْمُحِيلُ : لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا أَنْتَ وَكِيلِي فِي الْقَبْضِ ، وَالْمَقْبُوضُ لِي ، وَقَالَ الْمُحَالُ : لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِأَلْفٍ كَانَتْ لِي عَلَيْك : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْوَكَالَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّوْكِيلِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَفِي بَيَانِ ، رُكْنِ التَّوْكِيلِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي حُكْمِ التَّوْكِيلِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : .
فَالتَّوْكِيلُ : .
إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا : الْحِفْظُ ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } أَيْ الْحَافِظُ ، وَقَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ حَفِيظًا ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا : الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - خَبَرًا عَنْ سَيِّدِنَا هُودٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أَيْ اعْتَمَدْتُ عَلَى اللَّهِ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْهِ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا عَلَى تَقْرِيرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَهُوَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ ، وَالْحِفْظِ إلَى الْوَكِيلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ " وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا " أَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ .
فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ : " وَكَّلْتُكَ بِكَذَا " أَوْ " افْعَلْ كَذَا " أَوْ " أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا " وَنَحْوُهُ .
وَالْقَبُولُ مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ : " قَبِلْتُ " وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ، ثُمَّ ذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَبَضَهُ لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ .
ثُمَّ رُكْنُ التَّوْكِيلِ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : " إنْ قَدِمَ زَيْدٌ ؛ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ " وَقَدْ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ : " وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ غَدًا " ، وَيَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ ، وَالتَّمْلِيكَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ ، وَالتَّقْيِيدَاتُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ ، وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، وَالرَّجْعَةُ ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ : فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِهِ ، فَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ ، كَيْفَ يَحْتَمِلُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ ؟ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمَجْنُونِ ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا ؟ وَكَذَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ ، كَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ ، وَيَصِحُّ بِالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ : كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ .
وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ : كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ، وَعَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ بِالتِّجَارَةِ أَيْضًا ، كَمَا إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِهِ فَائِدَةً ، لِوُجُودِ الْمُجِيزِ لِلْحَالِ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ .
وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ ، وَيَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ ، وَالْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ بِأَنْفُسِهِمَا ، فَيَمْلِكَانِ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ وَأَمَّا التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ : فَمَوْقُوفٌ : إنْ أَسْلَمَ يَنْفُذُ ، وَإِنْ قُتِلَ ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، يَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ نَافِذٌ ، بِنَاءً عَلَى
أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، وَالْعَبْدِ ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَالَةُ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ : إنَّ أَوْلِيَائِي غُيَّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُنِي ثُمَّ قَالَ لِعَمْرِو ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ : قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنِّي فَزَوَّجَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ صَبِيًّا } وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ هُنَاكَ وَوُجِدَ هُنَا ؛ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَ بَالِغًا ، وَإِذَا كَانَ صَبِيًّا تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَا رِدَّةُ الْوَكِيلِ : لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ ؛ فَتَجُوزُ وَكَالَةُ الْمُرْتَدِّ ، بِأَنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا ؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنَّهُ نَافِذُ التَّصَرُّفَاتِ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ ، ثُمَّ ارْتَدَّ ، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ .
( وَأَمَّا ) عِلْمُ الْوَكِيلِ : فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطٌ ، إمَّا عِلْمُ
الْوَكِيلِ ، وَإِمَّا عِلْمُ مَنْ يُعَامِلُهُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ قَبْلَ عِلْمِهِ ، وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِالتَّوْكِيلِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ ، أَوْ الْوَكِيلُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْآمِرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ، أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى اكْتِسَابِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ، كَمَا فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ .
( وَأَمَّا ) عِلْمُ الْوَكِيلِ عَلَى التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيلِ : فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ ؟ ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ .
وَذُكِرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِرَجُلٍ : اذْهَبْ بِعَبْدِي هَذَا إلَى فُلَانٍ ، فَيَبِيعُهُ فُلَانٌ مِنْكَ ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مِنْهُ ، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ صَحَّ شِرَاؤُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُشْتَرِي بِالتَّوْكِيلِ كَعِلْمِ الْبَائِعِ الْوَكِيلَ .
وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ ، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِقَوْمٍ : بَايِعُوا عَبْدِي ؛ فَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَبَايَعُوهُ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ .
وَلَيْسَ التَّوْكِيلُ كَالْوِصَايَةِ ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ ، أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ، ثُمَّ إنَّ الْوَصِيَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ ؛ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبُولًا مِنْهُ لِلْوِصَايَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْهَا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفٌ عَنْ الْمُوصِي ، قَائِمٌ مَقَامَهُ
، كَالْوَارِثِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ .
وَلَوْ بَاعَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَهُ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَا الْوَصِيُّ ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، وَحُكْمُ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ، أَوْ سَبَبِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ شَرْطٌ ، فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، أَوْ كَتَبَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَيْهِ ، فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ ، صَارَ وَكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلًا أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْعَدْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ وَكِيلًا كَمَا فِي الْعَزْلِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهِيَ الْحُدُودُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَالتَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - نَوْعَانِ ، أَحَدُهُمَا بِالْإِثْبَاتِ ، وَالثَّانِي بِالِاسْتِيفَاءِ ، أَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ فَإِنْ كَانَ حَدًّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ الزِّنَا ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلَا يَتَقَدَّرُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ ، أَوْ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ، وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِمَا إلَّا مِنْ الْمُوَكِّلِ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَذَا بِالْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ وَسِيلَةٌ إلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ ، وَهُوَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ ، وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ فِي التَّوْكِيلِ بِالْإِثْبَاتِ .
( وَأَمَّا ) التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ حَاضِرًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ جَازَ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الْإِمَامِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا
يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ فَيَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ كَيْفَمَا كَانَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا حَقُّهُ ، فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ ، وَبِنَائِبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ .
( وَلَنَا ) الْفَرْقُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الرَّامِيَ فِيمَا رَمَاهُ ، أَوْ يَتْرُكُ الْخُصُومَةَ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالتَّعْزِيرِ إثْبَاتًا وَاسْتِيفَاءً بِالِاتِّفَاقِ .
وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا ، أَوْ حَاضِرًا ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ ، وَالْقِصَاصِ ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ .
( وَأَمَّا ) التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ الْمَوْلَى حَاضِرًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ .
وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ قَائِمٌ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَعَفَا ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ .
( وَأَمَّا ) التَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى نَوْعَيْنِ ، نَوْعٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، كَالْقِصَاصِ ، وَقَدْ مَرَّ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ ، وَنَوْعٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ وَأَخْذُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، كَالدُّيُونِ وَالْإِعْتَاقِ ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى الْقِصَاصِ ، فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ ، وَالْعَيْنِ ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، بِرِضَا الْخَصْمِ ، حَتَّى يَلْزَمَ الْخَصْمَ جَوَابُ التَّوْكِيلِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ ، وَكَانَ يَقُولُ : إنَّ لَهَا لَحْمًا يَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ ، فَجَعَلَ الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ : مَا قُضِيَ لِوَكِيلِي فَلِيَ وَمَا قُضِيَ عَلَى وَكِيلِي فَعَلَيَّ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِتَوْكِيلِهِ ، فَكَانَ تَوْكِيلُهُ بِرِضَا الْخَصْمِ ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بِرِضَا الْخَصْمِ ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتَحْسَنُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً غَيْرَ بَرِيزَةٍ ، فَجَوَّزُوا تَوْكِيلَهَا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي مَوْضِعِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَجُوزُ إلَّا تَوْكِيلُ الْبِكْرِ ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا يُذْكَرُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ صَادَفَ حَقَّ الْمُوَكِّلِ ، فَلَا
يَقِفُ عَلَى رِضَا الْخَصْمِ ، كَالتَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى حَقُّ الْمُدَّعِي ، وَالْإِنْكَارُ حَقُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَقَدْ صَادَفَ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ نَفْسِهِ ، فَلَا يَقِفُ عَلَى رِضَا خَصْمِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ خَاصَمَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الدَّعْوَى الصَّادِقَةُ ، وَالْإِنْكَارُ الصَّادِقُ ، وَدَعْوَى الْمُدَّعِي خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ ، وَالْكَذِبَ ، وَالسَّهْوَ وَالْغَلَطَ ، وَكَذَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَا يَزْدَادُ الِاحْتِمَالُ فِي خَبَرِهِ بِمُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمُدَّعِي ، فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ حَقًّا ، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْجَوَابَ لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْفَسَادِ ، وَإِحْيَاءِ الْحُقُوقِ الْمَيِّتَةِ ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ ، فَلَا تَلْزَمُ الْخُصُومَةُ عَنْ جَوَابِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، مَعَ مَا أَنَّ النَّاسَ فِي الْخُصُومَاتِ عَلَى التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَشَدُّ خُصُومَةً مِنْ الْآخَرِ ، فَرُبَّمَا يَكُونُ الْوَكِيلُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ ، فَيَعْجِزُ مَنْ يُخَاصِمُهُ عَنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ ، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَيُشْرَطُ رِضَا الْخَصْمِ ، لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ وَإِذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا ، أَوْ مُسَافِرًا ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الدَّعْوَى ، وَعَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ ، وَهَلَكَتْ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ الْحُضُورِ لِمَحَافِلِ الرِّجَالِ ، وَعَنْ الْجَوَابِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا ؛ فَيَضِيعُ حَقُّهَا .
( وَأَمَّا ) فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَا ضَرُورَةَ ، وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ وَتَزْكِيَةَ الشُّهُودِ فِي عَقْدِ التَّوْكِيلِ بِكَلَامٍ
مُنْفَصِلٍ جَازَ ، وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ ، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ الطَّالِبِ أَوْ مِنْ الْمَطْلُوبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ الطَّالِبُ ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ ، يَجُوزُ ، وَإِنْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ لَا يَجُوزُ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ؛ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ فِي عَقْدِ التَّوْكِيلِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ .
وَلَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّوْكِيلِ مِنْ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ ، هَذَا إذَا وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ مُطْلَقًا ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ ، يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ .
( وَأَمَّا ) التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ : فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، أَنَّهُ يَجُوزُ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ ، وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ ، وَالْمُفَاوَضَةِ ، وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، وَالْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَيَمْلِكُونَ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّوْكِيلِ .
وَيَجُوزُ مِنْ الذِّمِّيِّ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مَصُونَةٌ مَرْعِيَّةٌ عَنْ الضَّيَاعِ كَحُقُوقِنَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ ، إنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ ، وَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ
مِنْ الْغَرِيمِ بَرِئَ الْغَرِيمُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ ، وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْقَضَاءَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا أَيْضًا ، وَيَجُوزُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُقُوقٌ يَتَوَلَّاهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ ، فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهَا غَيْرَهُ .
وَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَلَى إنْكَارٍ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِ : وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْإِيدَاعُ وَالرَّهْنُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيهَابُ وَالِارْتِهَانُ ، لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالشَّرِكَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا .
وَيَجُوزُ بِالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ ، إلَّا أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مَا اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ ، إلَّا إذَا بَلَغَ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ : أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ لِيَسْتَقْرِضَ كَذَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالصُّلْحِ وَبِالْإِبْرَاءِ وَيَجُوزُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمَا بِنَفْسِهِ ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُمَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمَا لِمَا نَذْكُرُ فَإِذَا تَقَابَضَ الْوَكِيلَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ إذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا أَنَّهُ
يَبْطُلُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الرَّسُولِ ، فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُمَا عَنْ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، فَإِذَا افْتَرَقَا ، فَقَدْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ ، بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا ، فَبَقَاؤُهُ وَافْتِرَاقُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ لِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرْطًا ، وَهُوَ الْخُلُوُّ عَنْ الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْوَكَالَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ نَوْعَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْعَامُّ : أَنْ يَقُولَ لَهُ : اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ ، أَوْ مَا رَأَيْتَ ، أَوْ أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ ، أَوْ أَيَّ دَارٍ شِئْتَ ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ لَكَ مِنْ الثِّيَابِ ، وَمِنْ الدَّوَابِّ ، وَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ .
وَالْخَاصُّ : أَنْ يَقُولَ : اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ دَابَّةً أَوْ جَوْهَرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ فَرَسًا أَوْ بَغْلًا ، أَوْ حِمَارًا أَوْ شَاةً وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً لَا تَمْنَعُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِمَا أَيْضًا .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً
، } وَلَوْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الْأُضْحِيَّةَ ، وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ ؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ ، وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَلَّتْ الْجَهَالَةُ ، صَحَّ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَإِلَّا فَلَا ، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ اسْمُ مَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ ، إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : اشْتَرِ لِي ثَوْبًا لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ ثَوْبِ الْإِبْرَيْسَمِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَغَيْرِهِمْ ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ كَثِيرَةً ، فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ ، فَلَا يَصِحُّ .
وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَا تَقِلُّ ، إلَّا بِذِكْرِ النَّوْعِ : بِأَنْ يَقُولَ : اشْتَرِ لِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : اشْتَرِ لِي حَيَوَانًا ، أَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي دَابَّةً ، أَوْ أَرْضًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ جَوْهَرًا أَوْ حُبُوبًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمُ جِنْسٍ ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ : ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : اشْتَرِ لِي دَارًا لَا يَصِحُّ ؛
لِأَنَّ بَيْنَ الدَّارِ وَالدَّارِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنْ عَيَّنَ الدَّارَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ الثَّمَنَ جَازَ أَيْضًا وَيَقَعُ عَلَى دُورِ الْمِصْرِ الَّذِي وَقَّعَ فِيهِ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ حَتَّى يُعَيِّنَ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَارِ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي دَارًا فِي مَوْضِعِ كَذَا ، أَوْ حَبَّةَ لُؤْلُؤٍ أَوْ فَصَّ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مُتَفَاحِشٌ وَالصِّفَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ مَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ يُكْتَفَى فِيهِ بِذِكْرِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا الصِّفَةُ بِأَنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا تُرْكِيًّا ، أَوْ مِقْدَارُ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا ، وَبِحَالِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِذَا ذَكَرَ الصِّفَةَ يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِحَالِ الْآمِرِ ، فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَمْثَالُهُ عَادَةً حَتَّى إنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْمُشْتَرِي عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي خَادِمًا مِنْ جِنْسِ كَذَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى مَا يَتَعَامَلُهُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ كَثِيرًا ، لَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ ، وَكَذَا الْبَدَوِيُّ إذَا قَالَ : اشْتَرِ لِي خَادِمًا حَبَشِيًّا فَهُوَ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَهُمَا أَصْلًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فَحُشَتْ بِتَرْكِ ذَكَرِهِمَا جَمِيعًا ، فَمَنَعَتْ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي حِمَارًا أَوْ بَغْلًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بَعِيرًا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ
صِفَةً وَلَا ثَمَنًا قَالُوا إنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ ، وَالصِّفَةُ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَا الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ إنْ اشْتَرَى حِمَارًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ ، أَوْ بِأَكْثَرَ ، قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، إذَا كَانَ الْحِمَارُ مِمَّا يَشْتَرِي مِثْلَهُ الْمُوَكِّلُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَشْتَرِي مِثْلَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مُكَارِيًا فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ حِمَارًا مِصْرِيًّا يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يَشْتَرِي الْحِمَارَ لِلْعَمَلِ وَالْحَمْلِ لَا لِلرُّكُوبِ .
وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي شَاةٌ ، أَوْ بَقَرَةٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةً وَلَا ثَمَنًا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي حِنْطَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ : إمَّا : قَدْرُ الثَّمَنِ ، وَإِمَّا قَدْرُ الْمُثَمَّنِ وَهُوَ الْمَكِيلُ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ طَيْلَسَانًا لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالنَّوْعِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّوْكِيلِ .
فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - حُكْمُ التَّوْكِيلِ صَيْرُورَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَكِيلًا ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَلِلْوَكَالَةِ أَحْكَامٌ ( مِنْهَا ) : ثُبُوتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ التَّوْكِيلُ فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمُوجَبِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ صِحَّتِهِ ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ ، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : لَا يَمْلِكُ ، وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَأَمِينُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى الصَّغِيرِ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْمُنَازَعَةِ ، وَالْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ .
( وَلَنَا ) : أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْجَوَابِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إنْكَارًا ، وَقَدْ يَكُونُ إقْرَارًا ، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ دَلَّ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْإِقْرَارُ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ : أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ ، يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا فِي غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَصِحُّ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِقْرَارُ الْمُوَكِّلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَكَذَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ وَلَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ لَكِنْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِجَوَابِ الْخُصُومَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ؟ وَكَذَا الْخُصُومَةُ لَا
تَنْدَفِعُ بِالْيَمِينِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ؛ فَتَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَيَنْعَزِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ وَكِيلًا لَبَقِيَ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ عَيْنًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ لِلتَّنَاقُضِ ، وَالْإِقْرَارُ عَيْنًا غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ يَمْلِكُ قَبْضَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَمْلِكُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ الِاهْتِدَاءُ وَمِنْ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ الْأَمَانَةُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَهْتَدِي إلَى شَيْءٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ .
( وَلَنَا ) : أَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ فَقَدْ ائْتَمَنَهُ عَلَى قَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ لَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْقَبْضِ ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهَا تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ ، وَالْوَكِيلُ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَاضِي لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ ؛ وَلِأَنَّ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا إنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِقَبْضِ الْمُتَقَاضِي كَالْوُكَلَاءِ عَلَى أَبْوَابِ الْقُضَاةِ لِتُهْمَةِ الْخِيَانَةِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ إذَا أَنْكَرَ الْغَرِيمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَيَمْلِكُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى مِنْهُ ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهُ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَمْلِكُ وَأَجْمَعُوا فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ إذَا
أَنْكَرَ مَنْ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الَّذِي وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ بَيِّنَتُهُ فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ ، وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ لِدَفْعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ فِي الْحَالِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ ، وَقَالُوا فِي الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ إنَّهُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ ، فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْخُصُومَةِ كَالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ ، وَالْحُقُوقُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْفِعْلِ وَهُوَ فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ .
وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ ، وَلَكِنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُبَادَلَةٍ ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَأْخُوذِ الْعَيْنِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَتَمْلِيكُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَالِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْخُصُومَةَ فِي حُقُوقِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ لَا بِالْمُبَادَلَةِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهَا إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ قَامَتْ لَا عَلَى خَصْمٍ ، وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ فِي دَفْعِ قَبْضِ الْوَكِيلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَسْمُوعَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَمَنْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِنَقْلِ زَوْجَتِهِ إلَى حَيْثُ هُوَ فَطَالَبَهَا الْوَكِيلُ بِالِانْتِقَالِ ، فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي انْدِفَاعِ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي النَّقْلِ وَلَا تُسْمَعُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ .
كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِأَخْذِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَكَذَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ ،
وَالْقِسْمَةُ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ فِيهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَيَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : ( إمَّا ) أَنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ عَامَّةً بِأَنْ قَالَ لَهُ وَقْتَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ : اصْنَعْ مَا شِئْتَ أَوْ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : ( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِأَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعُمُومِ ، إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِتَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَبَضَ الْوَكِيلُ الثَّانِي لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَصِحَّ فَقَبْضُهُ وَقَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ فَإِنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بَرِئَ الْغَرِيمُ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِ مَنْ هُوَ نَائِبُ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ .
وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ضَمِنَ الْقَابِضُ لِلْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ، وَالْقَبْضُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ قَبْضٌ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَوْكِيلِهِ بِالْقَبْضِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذْ كُلُّ غَارٍّ ضَامِنٌ لِلْمَغْرُورِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ .
وَلَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ لَمْ يَصِحَّ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَرِيمَ بِدَيْنِهِ وَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ
الثَّانِي لِمَا قُلْنَا ، وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي بَلَدٍ مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِحُكْمِ الْآمِرِ لَا يَمْلِكُ التَّعَدِّيَ عَنْ مَوْضِعِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا عَنْ الدَّيْنِ ؛ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنًا مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جُعِلَ تَوْكِيلًا بِالْمُعَاوَضَةِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ .
وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِثُبُوتِهَا ضِمْنًا لِلْعَقْدِ فَبَقِيَتْ الْمُعَاوَضَةُ الْمَقْصُودَةُ خَارِجَةً عَنْ الْعَقْدِ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ .
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَجَاءَ إنْسَانٌ إلَى الْغَرِيمِ وَقَالَ : إنَّ الطَّالِبَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْبِضَهُ مِنْكَ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ وَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ فِي الدَّيْنِ وَفِي الْعَيْنِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ : أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي الدَّيْنِ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ ، فَكَانَ مَجْبُورًا عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَفِي الْعَيْنِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ ذَلِكَ الْغَيْرِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الدَّفْعِ فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ ثُمَّ جَاءَ الطَّالِبُ فَإِنْ صَدَّقَهُ مَضَى الْأَمْرُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَإِمَّا أَنْ كَذَّبَهُ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا إنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ ،
فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَلَمْ يُضَمِّنْهُ فَجَاءَ الطَّالِبُ ، يُقَالُ لَهُ : ادْفَعْ الدَّيْنَ إلَى الطَّالِبِ ، وَلَا حَقَّ لَكَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِوَكَالَتِهِ ، وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مُحِقًّا فِي الْقَبْضِ ، وَإِنَّ الطَّالِبَ ظَالِمٌ فِيمَا يَقْبِضُ مِنِّي ، وَإِنْ ظَلَمَ عَلَى مُبْطِلٍ فَلَا أَظْلِمُ عَلَى مُحِقٍّ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَضَمَّنَهُ مَا دَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الطَّالِبُ فَأَخَذَ مِنْهُ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ الْقَابِضَ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ فِي الْوَكَالَةِ فَعِنْدَهُ أَنَّ الطَّالِبَ مُبْطِلٌ فِيهِ ظَالِمٌ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْهُ ؛ فَإِذَا ضَمِنَهُ فَقَدْ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى مَا يَقْبِضُهُ الطَّالِبُ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِضَافَةُ الضَّمَانِ إلَى الْمَقْبُوضِ الْمَضْمُونِ صَحِيحٌ كَمَا إذَا قَالَ مَا غَصَبَكَ فُلَانٌ فَعَلَيَّ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي الْقَبْضِ وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجَوِّزَهُ الطَّالِبُ وَكَذَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُكَذِّبْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ مُحِقًّا فِي الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ ، الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا قَبَضَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَمَا كَانَ لِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ فَلَهُ رَدُّهُ وَأَخْذُ بَدَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ يَمْلِكُ قَبْضَ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَذَا الْوَكِيلُ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَغَابَ الطَّالِبُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبَ لَا يَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا إلَى إحْضَارِ الطَّالِبِ لِيُحَلِّفَهُ ، لَكِنْ يُقَالُ لِلْغَرِيمِ : ادْفَعْ الدَّيْنَ إلَى الْوَكِيلِ ، ثُمَّ اتْبَعْ الطَّالِبَ وَحَلِّفْهُ إنْ أَرَدْتَ يَمِينَهُ فَإِنْ حَلَفَ وَإِلَّا رَجَعْتَ عَلَيْهِ ؛