كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
وَهُوَ النَّفْسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَصِحُّ وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ الْوَاقِعَةِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يُصَدَّقُ وَيَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ لِمَا قُلْنَا : هَذَا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ عَنْ الْمُبْدَلِ إلَّا أَنْ يَصِلَ الْبَدَلُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ بَدَلًا مَعْنًى لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا وُصُولَ لِلْبَدَلِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِمْ فَبَقِيَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَوْفَى دَيْنًا مِنْ غَيْرِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ - وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ - لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ عَلَى الْمَرِيضِ شَيْئًا فِي مَرَضِهِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُبْدَلِ حَالَةَ الْمَرَضِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ وَلَوْ أَتْلَفَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ دَيْنِ الصِّحَّةِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا
لَيْسَ بِمَالٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِالْمَرَضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ فَصَارَ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَكَذَا هَذَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِلْمَرِيضِ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَزِمَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ بَدَلُ النَّفْسِ عِنْدَنَا لَا بَدَلُ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ مُقَدَّرًا كَأَرْشِ الْأَحْرَارِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُنْقِصُ عَشَرَةً عَنْ عَشْرَةِ آلَافٍ لِئَلَّا يَبْلُغَ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقِصُ الدِّرْهَمُ الْحَادِيَ عَشَرَ لِئَلَّا تَبْلُغَ بَدَلُ يَدِهِ بَدَلَ نَفْسِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ بِقَطْعِ يَدِ هَذَا الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَلَّ أَنَّ أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ وَجَبَ مُقَدَّرًا فَكَانَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَأَرْشِ الْحُرِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْجَانِي قَتَلَ الْعَبْدَ مُتَعَمِّدًا فَصَالَحَهُ الْمَرِيضُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَدَلَ الصُّلْحِ جَازَ وَكَانَ مُصَدَّقًا ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ أَوْ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ .
وَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ مَهْرَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا وَعَلَيْهَا دَيْنُ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا وَلَا مَالَ لَهَا غَيْرُ الْمَهْرِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَى الْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَارِثُهَا وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَوْ أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهَا فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ مِنْهُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ فَصَحَّ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ فَيَقُولُ أَنَّهَا أَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَهْرِ مِنِّي وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فَصَارَ نِصْفُ الْمَهْرِ دَيْنًا لِي عَلَيْهَا فَأَنَا أَضْرِبُ مَعَ غُرَمَائِهَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الزَّوْجِ عَنْ الْمَهْرِ لَا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ فِي مَالِهَا مَعَ غُرَمَائِهَا ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ دُيُونُ الصِّحَّةِ ، وَإِقْرَارُهَا لِلزَّوْجِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ
الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا فَأَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِوَارِثٍ وَلَوْ مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّة لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا ( أَمَّا ) فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ وَالْوِرَاثَةَ قَائِمَةٌ ( وَأَمَّا ) فِي الْبَائِنِ فَلِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ ، وَكَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ هَذَا الْإِقْرَارِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ مَا دَامَ الْمَانِعُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِزَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهَا وَعَلَيْهَا دُيُونُ الصِّحَّةِ فَيَسْتَوْفِي أَصْحَابُ دُيُونِ الصِّحَّةِ دُيُونَهُمْ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِهَا شَيْءٌ يُنْظَرُ إلَى الْمَهْرِ وَإِلَى مِيرَاثِهِ مِنْهَا فَيُسَلَّمُ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا وَمَشَايِخُنَا يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِ .
أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَأَمَّا ) عَلَى قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ مِنْ الزَّوْجِ صَحِيحًا فِي حَقِّ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّتْ ( وَأَصْلُ ) الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرِيضِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ بِسُؤَالِهَا ثُمَّ يُقِرُّ لَهَا بِمَالٍ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ لَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَمِمَّا أَقَرَّ لَهَا بِهِ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ ظَاهِرَ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى ذَلِكَ لِيُقِرَّ لَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهَا فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا زَادَ عَلَى مِيرَاثِهَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَصِحَّ فَهَذَا كَذَلِكَ ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فِي الْإِقْرَارِ
بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَقَبْضِهِ كَالْحُرِّ ، فَكُلُّ مَا صَحَّ مِنْ الْحُرِّ يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالْإِبْرَاءِ بِأَنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ كَانَ أَبْرَأَ فُلَانًا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ لِلْحَالِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْإِقْرَارِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا إقْرَارُ الرَّجُلِ بِوَارِثٍ وَالثَّانِي إقْرَارُ الْوَارِثِ بِوَارِثِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَانِ : حُكْمُ النَّسَبِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَلِصِحَّتِهِ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ شَرَائِطُ ، مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلَ الثُّبُوتِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ فَإِذَا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ فَالْإِخْبَارُ عَنْ كَائِنٍ يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِغُلَامٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مِثْلَهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ فَكَانَ كَذِبًا فِي إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ ثُبُوتَهُ لَهُ بَعْدَهُ ، وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ إذَا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ أَوْ التُّهْمَةِ فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْعَدِمٌ ، أَمَّا التَّعَلُّقُ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ التَّعَلُّقُ فِي مَجْهُولِ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ مَعْنَى التُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ النَّسَبِ فَإِنَّ لِحِرْمَانِ الْإِرْثِ أَسْبَابًا لَا تَقْدَحُ فِي النَّسَبِ مِنْ الْقَتْلِ وَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ أَوْ صَدَّقَهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أَوْ دَعْوَى وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ
وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَالْإِقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةً وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِخَمْسَةِ نَفَرٍ : الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى ، وَيَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى ، وَلَا يَجُوزُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِقْرَارِ بِهَؤُلَاءِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَاءِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبٍ إلَى أَحَدٍ وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْدِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ إنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُقِرِّ جَازَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ الزَّوْجِ يَصِحُّ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَاتَ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ فِي الْعِدَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّصْدِيقِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ كَمَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النِّكَاحَ لِلْحَالِ عَدَمٌ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّصْدِيقِ إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْبَقَاءِ لِاسْتِيفَاءِ أَحْكَامٍ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَالْمِيرَاثُ حُكْمٌ لَا
يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ زَائِلًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيُقْبَلُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْدِيقِ إذَا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْوَالِدَيْنِ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيُقْبَلُ وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِهَؤُلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ تَشْهَدُ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْعَمِّ وَالْأَخِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الْمِيرَاثِ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا إلَّا شَرْطَ حَمْلِ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِنَسَبٍ يَحْمِلُهُ الْمُقِرُّ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ أَصْلًا وَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا وَيَكُونَ مِيرَاثُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ وَاجِبُ التَّصْحِيحِ مَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِفَقْدِ شَرْطِ الصِّحَّةِ أَمْكَنَ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ وَارِثٌ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ
فَمِيرَاثُهُ لِعَمَّتِهِ أَوْ لِخَالَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُمَا وَارِثَانِ بِيَقِينٍ فَكَانَ حَقُّهُمَا ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ أَوْ ابْنِ ابْنٍ وَلَهُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ ثُمَّ مَاتَ فَالْمِيرَاثُ لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ رُجُوعًا عَنْ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ الْعَقْدُ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ هُوَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ فِي زَعْمِهِ وَظَنِّهِ ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَيْضًا فَلِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَكِنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ آخِرُ الْوَرَثَةِ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَأَضْعَفُ الْوِلَاءَيْنِ لَمَّا مَنَعَ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمَرِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَك قَرَابَةٌ بَطَلَ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَيْضًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بَعْدَ الْإِنْكَارِ بِمَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْهُ رُجُوعٌ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً فِي
الْحَقِيقَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ صَحِيحٌ وَلَوْ أَنْكَرَ وَلَيْسَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالْمَالِ أَصْلًا فَالْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ أَصْلًا بِالرُّجُوعِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا وَإِمَّا إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِد بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ : النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ دَعْوًى فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ ، وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَقْبُولٌ ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ
أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَعَلَى ذَلِكَ هَهُنَا جَازَ أَنْ يُقْبَلَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مَعَ الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثَمَنُ مَا فِي يَدِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى إثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ وَفِي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِابْنَةٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَتْهُ لَكِنَّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ بِأَخٍ لِلزَّوْجِ الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهَا الْأَخُ وَلَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هِيَ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ إثْبَاتُ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهَا وَلَوْ أَقَرَّ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ بِأَخٍ لَهَا وَصَدَّقَهُ الْأَخُ لَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ زَوْجُهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قِيَاسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ النِّكَاحَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْإِقْرَارُ بِسَبَبٍ مُنْقَطِعٍ لَا يُسْمَعُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ النَّسَبِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثَالِثٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْأَخُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ شَارَكَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا إذَا أَقَرَّا جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَذَّبَهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ أَوَّلًا نِصْفَيْنِ فَيُدْفَعُ النِّصْفُ إلَى الْأَخِ الْمُنْكِرِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ وَثُلُثُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثٌ وَأَنَّ ثُلُثَ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفُهُ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ الْمُنْكِرِ عَلَى الشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى أَخِيهِ لَا يَنْفُذُ فِيمَا فِي يَدِ أَخِيهِ فَيَنْفُذُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَيُعْطِيهِ ثُلُثَ ذَلِكَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ فِي الْمِيرَاثِ حَقُّهُ وَأَنَّ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَهُوَ النِّصْفُ التَّامُّ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ الْمَالِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَيُقْسَمُ الْمَالُ
أَوَّلًا نِصْفَيْنِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ ، النِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ ثُمَّ يُقْسَمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ الْمُقِرِّ وَأُخْتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِينَا فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا فَتُصَحِّحْ الْمَسْأَلَةَ فَتَضْرِبُ سَهْمَيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ لَهَا ثُمُنُهَا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَهَا تُسْعُ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ فِي أَنَّ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنَ مَا فِي يَدَيْ الْأَخَوَيْنِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحَّ فِيمَا فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَإِذَا صَحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُعْطِيهَا ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ ثُمُنَ التَّرِكَةِ لَهَا وَسَبْعَةَ أَثْمَانِهَا لَهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَقِسْمَتُهَا مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ الْأَخَ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الزِّيَادَةِ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِهِ كَالْهَالِكِ وَيُقْسَمُ النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا وَيُجْعَلُ مَا يَحْصُلُ لِلْمُقِرِّ ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ لَهَا وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ لَهُ ، وَإِذَا جُعِلَ هَذَا النِّصْفُ عَلَى تِسْعَةٍ صَارَ كُلُّ الْمَالِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ : تِسْعَةٌ مِنْهَا لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَسَهْمَانِ لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ الْمُقِرِّ هَذَا إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِوَارِثٍ وَاحِدٍ .
فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ بَعْدَ وَارِثٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِوَارِثٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ صَدَّقَ الْمُقِرُّ بِوِرَاثَةِ الْأَوَّلِ وَفِي إقْرَارِهِ بِالْوِرَاثَةِ لِلثَّانِي فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ دَفَعَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْهَالِكِ ، وَيُقْسَمَانِ عَلَى مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ الْمَدْفُوعُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَيُعْطَى الثَّانِي حَقَّهُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ .
بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِخْوَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَمَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ ، وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلِلثَّانِي رُبْعُ الْمَالِ وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُقِرِّ الرُّبْعُ ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ فِي الْقَضَاءِ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا فِي الدَّفْعِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الثَّانِيَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ رُبْعُ الْكُلِّ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ صَارَ مُسْتَحَقَّ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَعْطَى الثَّانِيَ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، وَالْمَضْمُونُ كَالْقَائِمِ فَيَدْفَعُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَيَبْقَى فِي يَدِهِ الثُّلُثُ فَإِنْ دَفَعَ ثُلُثَ
الْمَالِ إلَى الثَّانِي بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ ثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ الثَّالِثُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَوَّلَيْنِ أَخَذَ الثَّالِثُ مِنْ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ رُبْعَ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَالِ قَائِمٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الدَّافِعِ فَيَأْخُذُ السُّدُسَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَنِصْفَ سُدُسٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فَيَضْمَنُ لَهُ قَدْرَ نِصْفِ سُدُسٍ فَيَدْفَعُهُ مَعَ السُّدُسِ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَيْهِ وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ اشْتَرَكُوا فِي الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلُ فَنِصْفُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوِرَاثَةِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُقَرِّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَكَانَ النِّصْفُ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ دَفَعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حُكْمِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُمُنُ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ يُعْطِي الثَّانِيَ مِمَّا فِي يَدِهِ وَهُوَ رُبْعُ الْمَالِ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ عَلَى الدَّافِعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الرُّبْعُ كَالْقَائِمِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ وَدَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْتٍ أُخْرَى وَكَذَّبَهُ الْأَخُ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُخْتُ الْأُولَى فَنِصْفُ الْمَالِ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَالنِّصْفُ بَيْنَ الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ
فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا وَهُوَ ثُلُثُ النِّصْفِ ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ بِقَضَاءٍ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُخْتِ الْأُخْرَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَدْفُوعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الدَّافِعِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُعْطِي لِلْأُخْتِ الْأُخْرَى مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ إتْلَافٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِأُخْتَيْنِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ لَهُمَا رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ الثُّمُنُ كَذَلِكَ هَهُنَا يُعْطِي الْأُخْتَ الْأُخْرَى مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِأَبِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْرَى فَإِنْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا فَذَلِكَ التُّسْعَانِ لَهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأُولَى وَدَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ بِالْأُخْرَى فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُولَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالنِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَتُسْعَانِ لِلْأُولَى فَبَقِيَ هُنَاكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَرْأَةُ الْأُخْرَى فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ دَفَعَ التُّسْعَيْنِ إلَى الْأُولَى بِالْقَضَاءِ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْهَالِكِ وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ : ثُمُنٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةٌ لِلِابْنِ الْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ يُعْطِي مِنْ التِّسْعَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ سُبُعُ نِصْفِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ كَالْقَائِمِ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ نِصْفُ الْمَالِ عِنْدَهُ قَائِمًا يُعْطِي الْأُخْرَى التُّسْعَ وَذَلِكَ سَهْمٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثُمُنُ الْمَالِ لِلْمَرْأَتَيْنِ
جَمِيعًا ، وَالثُّمُنُ هُوَ تُسْعَانِ تُسْعٌ لِلْأُولَى وَتُسْعٌ لِلْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْأُولَى ظَلَمَتْ حَيْثُ أَخَذَتْ زِيَادَةَ سَهْمٍ ، وَذَلِكَ الظُّلْمُ حَصَلَ عَلَى الْأَخِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَدْفَعُ التُّسْعَ الثَّانِي إلَى الْأُخْرَى وَهُوَ سُبْعُ نِصْفِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهُوَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فِي يَدِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَدَفَعَ إلَى الْغَرِيمِ ذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الدَّفْعِ مَجْبُورٌ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَضْمَنُ لِلثَّانِي نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الدَّفْعِ فَكَانَ إتْلَافًا فَيَضْمَنُ ، كَمَا إذَا أَقَرَّ لَهُمَا ثُمَّ دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَسْت بِأَخٍ لِي وَإِنَّمَا أَخِي هَذَا الرَّجُلُ الْآخَرُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ بِذَلِكَ وَكَذَّبَهُ فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلُ ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ يُشَارِكُهُ الثَّانِي فِيمَا فِي يَدِهِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَدْفَعُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ إلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ وَدَفَعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَذَّبَهُ الْوَارِثُ وَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ وَأَنْكَرَ الْغَرِيمُ الثَّانِي دَيْنَ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ وَيَقْتَسِمَانِ
الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَرِيمِ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ لَهُ إلَّا بِالنِّصْفِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْغَرِيمُ الثَّانِي لِغَرِيمٍ ثَالِثٍ فَإِنَّ الْغَرِيمَ الثَّالِثَ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْتَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَخًا لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ لِلْمُقَرِّ بِهِ : أَنَا وَأَنْتَ أَخَوَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَلِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ الدَّيْنَ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ مَانِعٍ مِنْ الْإِرْثِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ بِذَلِكَ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُمَا بِذَلِكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَكَذَّبَاهُ فِيمَا أَقَرَّ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةَ مُؤَخَّرَانِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمِيرَاثُ وَلَوْ أَقَرَّ لَهُمَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَدَفَعَ إلَيْهِمَا ثُمَّ أَقَرَّ لِلْغَرِيمِ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُضَمِّنَهُ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ فَإِذَا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ أَتْلَفَ عَلَى الْغَرِيمِ حَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ ثَبَتَ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْمِيرَاثُ بِالْبَيِّنَةِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْغَرِيمِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَى
الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِيرَاثِ أَوْ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ أَوْ مُوصًى لَهُ فَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّهِمَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْغَرِيمِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الدَّفْعِ إلَى الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ لِمَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ لَهُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ دَلِيلُ لُزُومِ الْمُقَرِّ بِهِ وَتَكْذِيبُ الْمُقِرِّ دَلِيلُ عَدَمِ اللُّزُومِ ، وَاللُّزُومُ لَمْ يُعْرَفْ ثُبُوتُهُ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ .
وَالثَّانِي رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَالِصًا كَحَدِّ الزِّنَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ فَيَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ ضَرُورَةً فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَسَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا .
وَرُوِيَ { أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ هَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُبْحَانَ اللَّهِ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ } وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَلْقِينُ الْمُقِرِّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ : لَعَلَّك لَمَسْتَهَا أَوْ قَبَّلَتْهَا كَمَا لَقَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَكَمَا لَقَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا إخَالُهُ سَرَقَ أَوْ أَسَرَقْت ، قُولِي لَا } لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى وَفَائِدَةٌ فَكَانَ التَّلْقِينُ مِنْهُ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمِ - احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ
بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ بِهِمَا حَقُّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِمَا إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لَا فِي حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ ، فَأَمَّا الْمَالُ فَحَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ .
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيهِ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقًّا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الرُّجُوعِ فَلَا يَصِحُّ كَالرُّجُوعِ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَة لِلْعِبَادِ وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الْجِنَايَاتِ ) الْجِنَايَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : جِنَايَةٌ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ ، وَجِنَايَةٌ عَلَى الْآدَمِيِّ .
( أَمَّا ) الْجِنَايَةُ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا : غَصْبٌ وَإِتْلَافٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ ، وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ خَاصَّةً ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : الْجِنَايَةُ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ مُطْلَقًا ، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا ، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
( أَمَّا ) الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ مُطْلَقًا فَهِيَ قَتْلُ الْمَوْلُودِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَتْلِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْقَتْلُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : قَتْلٌ هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ ، وَقَتْلٌ عَمْدٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَقَتْلٌ هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ ، وَقَتْلٌ هُوَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ .
( أَمَّا ) الَّذِي هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِحَدِيدٍ لَهُ حَدٌّ أَوْ طَعْنٌ كَالسَّيْفِ ، وَالسِّكِّينِ ، وَالرُّمْحِ ، وَالْإِشْفَى ، وَالْإِبْرَةِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، أَوْ مَا يَعْمَلُ عَمَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي الْجَرْحِ ، وَالطَّعْنِ كَالنَّارِ ، وَالزُّجَاجِ ، وَلِيطَةِ الْقَصَبِ ، وَالْمَرْوَةِ ، وَالرُّمْحِ الَّذِي لَا سِنَانَ لَهُ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْآلَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ النُّحَاسِ ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ لَهُ كَالْعَمُودِ ، وَصَنْجَةِ الْمِيزَانِ ، وَظَهْرِ الْفَأْسِ ، وَالْمَرْوِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ عَمْدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، ( وَرَوَى ) الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ ، فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْعِبْرَةُ لِلْحَدِيدِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ
جَرَحَ أَوْ لَا ، وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ الْعِبْرَةُ لِلْجَرْحِ نَفْسِهِ حَدِيدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْحَدِيدِ كَالصُّفْرِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالْآنُكِ ، وَالرَّصَاصِ ، وَالذَّهَب ، وَالْفِضَّة فَحُكْمُهُ حُكْم الْحَدِيدِ .
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى كَوْنِهِ شِبْهُ عَمْدٍ ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَطْمَةٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ الْغَالِبَ فِيهِ الْهَلَاكُ كَالسَّوْطِ ، وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ ، وَلَمْ يُوَالِ فِي الضَّرَبَاتِ .
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ ، وَيُوَالِيَ فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ ، وَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْن أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ عَمْدٌ ، وَإِنْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا يَغْلِب فِيهِ الْهَلَاكُ مِمَّا لَيْسَ بِجَارِحٍ ، وَلَا طَاعِنٍ كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ ، وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ ، وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ ، وَنَحْوِهَا فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا ، وَالشَّافِعِيِّ هُوَ عَمْدٌ ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ ، فَمَا كَانَ شِبْهُ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتْ الْآلَاتُ كُلُّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْدِ فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا فَيُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَجِبْ الْأَرْشُ .
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَالْخَطَأُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّ الْفَاعِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ أَنْ يَقْصِدَ صَيْدًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا ، وَأَنْ يَقْصِدَ رَجُلًا فَيُصِيبَ غَيْرَهُ ، فَإِنْ قَصْدَ عُضْوًا مِنْ رَجُلٍ فَأَصَابَ عُضْوًا آخَرَ مِنْهُ فَهَذَا عَمْدٌ ، وَلَيْسَ بِخَطَأٍ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَنَحْوَ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ .
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ ، وَصِفَتَهُ بَعْدَ هَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَهَذِهِ صِفَاتُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ .
وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِهَا فَوُقُوعُ الْقَتْلِ بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ عُلِمَ ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يُعْلَمْ بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ .
أَمَّا الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ : مِنْهَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِصَاصِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ ، وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : .
فَلِوُجُوبِ الْقِصَاصِ شَرَائِطُ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَخَمْسَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَالِغًا ، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ ، وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ .
وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا الْحُدُودُ .
وَأَمَّا ذُكُورَةُ الْقَاتِلِ ، وَحُرِّيَّتُهُ ، وَإِسْلَامُهُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا فِي الْقَتْلِ قَاصِدًا إيَّاهُ فَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } أَيْ الْقَتْلُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْقَوَدَ ، شَرَطَ الْعَمْدَ لِوُجُوبِ الْقَوَدِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَنَاهَى إلَّا بِالْعَمْدِ ، وَالرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مِنْهُ عَمْدًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُرِطَ الْعَمْدُ مُطْلَقًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } ، وَالْعَمْدُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْعَمْدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا كَمَالَ مَعَ شُبْهَةِ الْعَمْدِ .
وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ
أَوْ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَةَ أَوْ الضَّرْبَتَيْنِ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ عَادَةً بَلْ التَّأْدِيبُ وَالتَّهْذِيبُ ، فَتَمَكَّنَتْ فِي الْقَصْدِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْمُوَالَاةِ فِي الضَّرَبَاتِ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الضَّرَبَاتِ دَلِيلُ قَصْدِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا لَا يُقْصَدُ بِهَا التَّأْدِيبُ عَادَةً ، وَأَصْلُ الْقَصْدِ مَوْجُودٌ فَيَتَمَحَّضُ الْقَتْلُ عَمْدًا فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْقَصْدِ ثَابِتَةٌ ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حُصُولُ الْقَتْلِ بِالضَّرْبَةِ ، وَالضَّرْبَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الضَّرَبَاتِ الْأُخَرِ ، وَالْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ لَا يَكُونُ عَمْدًا ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَإِذَا جَاءَ الِاحْتِمَالُ جَاءَتْ الشُّبْهَةُ وَزِيَادَةٌ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الضَّرْبَ بِالْمُثْقَلِ مُهْلِكٌ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْقَتْلِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَصْلُ الْقَصْدِ فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِهِ عَمْدًا مَحْضًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ بِآلَةٍ غَيْرِ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ كُلِّ فِعْلٍ بِالْآلَةِ الْمُعَدَّةِ لَهُ ، فَحُصُولُهُ بِغَيْرِ مَا أُعِدَّ لَهُ دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ ، وَالْمُثْقَلُ ، مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ لَيْسَ بِمُعَدٍّ لِلْقَتْلِ عَادَةً فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلَالَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ ، فَيَتَمَكَّنُ فِي الْعَمْدِيَّةِ شُبْهَةُ
الْعَمْدِ ، بِخِلَافِ الْقَتْل بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ مُعَدَّةٌ لِلْقَتْلِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } ، وَالْقَتْلُ بِالْعَمُودِ مُعْتَادٌ ، فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلِيلُ الْقَصْدِ فَيَتَمَحَّضُ عَمْدًا ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَالثَّانِي وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ اعْتِبَارُ الْجُرْحِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقُصُورُ فِي هَذَا الْقَتْلِ لِوُجُودِ فَسَادِ الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ نَقْضُ التَّرْكِيبِ ، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ إفْسَادُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ جَمِيعًا ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا خَنَقَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ غَرَّقَهُ بِالْمَاءِ أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ، وَلَوْ طَيَّنَ عَلَى أَحَدٍ بَيْتًا حَتَّى مَاتَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الطِّينَ الَّذِي عَلَيْهِ تَسْبِيبٌ لِإِهْلَاكِهِ ، لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْآدَمِيِّ إلَّا بِالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ فَالْمَنْعُ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عَلَيْهِ يَكُونُ إهْلَاكًا لَهُ ، فَأَشْبَه حَفْرَ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ لَا بِالتَّطْيِينِ ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ ، بِخِلَافِ الْحَفْرِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْوُقُوعِ ، وَالْحَفْرُ حَصَلَ مِنْ الْحَافِرِ فَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا ، وَلَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ سُمًّا فَمَاتَ ، فَإِنْ كَانَ تَنَاوَلَ بِنَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَطْعَمَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ ، وَيُضْرَبُ ، وَيُؤَدَّبُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ ، وَهِيَ الْغَرُورُ فَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَلَوْ غَرَّقَ
إنْسَانًا فَمَاتَ أَوْ صَاحَ عَلَى وَجْهِهِ فَمَاتَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَالْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا ، اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ زُفَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، خِلَافًا لَهُمَا ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعِ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ جُزْءَ الْقَاتِلِ ، حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ أَوْ أَبُ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَا ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ وَلَدَ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَكَذَا الْأُمُّ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَهَا أَوْ أُمُّ الْأُمِّ أَوْ أُمُّ الْأَبِ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَ وَلَدِهَا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ } ، وَاسْمُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَالِدٍ ، وَإِنْ عَلَا ، وَكُلَّ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ ، وَلَوْ كَانَ فِي وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ وَلَدُ الْقَاتِلِ أَوْ وَلَدُ وَلَدِهِ فَلَا قِصَاصَ ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ لِلْوَلَدِ فِي نَصِيبِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلْبَاقِينَ ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْكُلِّ .
وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعُمُومَاتِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، ثُمَّ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدُ بِالنَّصِّ الْخَالِصِ فَبَقِيَ الْوَلَدُ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ ، وَالرَّدْعِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لَا فِي جَانِبِ الْوَالِدِ ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ يُحِبُّ وَلَدَهُ لِوَلَدِهِ لَا لِنَفْسِهِ بِوُصُولِ النَّفْعِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ ، أَوْ يُحِبُّهُ لِحَيَاةِ الذِّكْرِ لِمَا يَحْيَا بِهِ ذِكْرُهُ ، وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ شَفَقَةٍ تَمْنَعُ الْوَالِدَ عَنْ قَتْلِهِ ، فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّمَا يُحِبُّ وَالِدَهُ لَا لِوَالِدِهِ بَلْ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ وُصُولُ النَّفْعِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ وَشَفَقَتُهُ مَانِعَةً مِنْ الْقَتْلِ ، فَلَزِمَ الْمَنْعُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ كَمَا فِي الْأَجَانِبِ ، وَلِأَنَّ مَحَبَّةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَمَّا كَانَتْ لِمَنَافِعَ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَرُبَّمَا يَقْتُلُ الْوَالِدَ لِيَتَعَجَّلَ الْوُصُولَ إلَى أَمْلَاكِهِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ لَا يَصِلُ
النَّفْعُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لِعَوَارِضَ ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْدُرُ فِي جَانِبِ الْأَبِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكَ الْقَاتِلِ ، وَلَا لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ ، وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ } ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ لَهُ وَالْقِصَاصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَكَذَا إذَا كَانَ يَمْلِكُ بَعْضَهُ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ عَبْدًا مِنْ كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّ لَلْمُكَاتَبِ شُبْهَةٌ فِي أَكْسَابِهِ ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ ، وَلَا يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَّبَّرِهِ ، وَأُمِّ وَلَدِهِ ، وَمُكَاتَبِهِ ، لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ " عَتَقَ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقُصُورٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ .
وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِمَوْلَاهُ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُكَاتَبُ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ ، وَلِتَحْقِيقِ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ ، بِخِلَافِ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْمَوْلَى عَلَى مَالِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَ سَيَحَانِ الْعَدَاوَةِ الْحَامِلِ عَلَى الْقَتْلِ إلَّا نَادِرًا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ لَوْ انْفَرَدَ ، وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ انْفَرَدَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا كَالصَّبِيِّ مَعَ الْبَالِغِ ، وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْعَاقِلِ ، وَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ ، وَالْأَبِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ ، وَالْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَاقِلِ ، وَالْبَالِغِ ، وَالْأَجْنَبِيِّ
إلَّا الْعَامِدَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إذَا شَارَكَهُ الْخَاطِئُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الْوُجُوبُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ ، وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَتْلِ فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَتْلِ ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْآخَرِ فَضْلًا ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى الْقَلْبِ ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةٌ فِي الشَّرِيكَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا ، وَأَلْحَقَهَا بِالْعَدَمِ فَتْحًا لِبَابِ الْقِصَاصِ ، وَسَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ ثَمَّ يَكُونُ أَغْلَبَ ، وَهَهُنَا أَنْدَرَ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ، ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْخَاطِئِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ وَالْعَامِدِ يَكُونُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ لَكِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَفِي الْأَبِ ، وَالْأَجْنَبِيِّ الدِّيَةُ فِي مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ ، وَفِي الْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ نَفْسَهُ ، وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيٌّ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِجُرْحَيْنِ أَحَدُهُمَا هَدَرٌ ، وَالْآخَرُ مُعْتَبَرٌ ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ تَأْتِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا ، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ ، وَلَا ذِمِّيٌّ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ ، وَلَا بِالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَلَا بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ مَقَامِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ بَلْ لِعَارِضِ حَاجَةٍ يَدْفَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ ، فَكَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ ، وَهَلْ يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ؟ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُقْتَلُ ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ .
وَلَا يُقْتَلُ الْعَادِلُ بِالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرْبِ ، لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا وَيَسْتَحِلُّونَهَا ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَاتِلْ دُونَ نَفْسِك } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ } ، وَلَا يُقْتَلُ الْبَاغِي بِالْعَادِلِ أَيْضًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْتَلُ ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ فِي زَعْمِ الْبَاغِي ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ دَمَ الْعَادِلِ بِتَأْوِيلٍ ، وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّ لَهُ مَنَعَةً ، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ أُلْحِقَ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ : اُقْتُلْنِي ، فَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ الْقِصَاصَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْآمِرَ بِالْقَتْلِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ ، لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْقَوْلِ ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ ، لِأَنَّ عِصْمَةَ الطَّرَفِ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الْأَمْرُ فِيهَا ، وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ فِي هَذِهِ الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ حَقِيقَةً فَصِيغَتُهُ تُورِثُ شُبْهَةً ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَاب لَهَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ ؟ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ تَجِبُ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ هِيَ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْحُرْمَةِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ ، وَلَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدَيَّ فَقَطَعَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ ، وَعِصْمَةُ الْأَمْوَالِ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ ، فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ ، وَلَوْ قَالَ : اُقْتُلْ عَبْدِي أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَتَلَ أَوْ قَطَعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ ، وَعِصْمَةُ مَالِهِ ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِذْنِهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ ، وَلَوْ قَالَ : اُقْتُلْ أَخِي فَقَتَلَهُ ، وَهُوَ وَارِثُهُ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَخَ الْآمِرَ
أَجْنَبِيٌّ عَنْ دَمِ أَخِيهِ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْقَتْلِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ أَخِيهِ لَوَجَبَ لَهُ ، وَالْقَتْلُ حَصَلَ بِإِذْنِهِ ، وَالْإِذْنُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ شَرْعًا لَكِنَّهُ وُجِدَ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ ، فَوُجُودُهُ يُورِثُ شُبْهَةً كَالْإِذْنِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ ، وَالشُّبْهَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْمَالِ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ ، وَهَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ الشَّجَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّجَّةِ كَالْأَمْرِ بِالْقَطْعِ ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا كَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَهُ ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ ، وَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ ، وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَا شَجًّا ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَهُمَا ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ .
رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَفَعَلَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى قَاطِعِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمَا خَاصَّةً ، كَمَا قَالَا فِيمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا قَطَعَ طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَمَاتَ : إنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ
أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ كَمَا قَالَ فِيمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدنَا ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي عِصْمَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَهُوَ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ ، وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دِينًا فَهُوَ مِنْهُمْ دَارًا فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ .
وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ تَاجِرَيْنِ أَوْ أَسِيرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ ، وَالْكَفَّارَةُ فِي التَّاجِرَيْنِ ، وَفِي الْأَسِيرَيْنِ خِلَافٌ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ ، وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِثْلَ الْقَاتِلِ فِي كَمَالِ الذَّات ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الشَّرَفِ ، وَالْفَضِيلَةِ فَيُقْتَلُ سَلِيمُ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ ، وَالْأَشَلِّ ، وَيُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ ، وَالشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ ، وَالْعَاقِلُ بِالْمَجْنُونِ ، وَالْبَالِغُ بِالصَّبِيِّ ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى ، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ الَّذِي يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَوْنُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ الْقَاتِلِ فِي شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ ، وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ ، وَالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ الْوُجُوبِ ، فَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَلَا خِلَافَ فِي
أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ اُحْتُجَّ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ } ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَلِأَنَّ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِثُبُوتِهَا مَعَ الْقِيَامِ الْمُنَافِي ، وَهُوَ الْكُفْرُ ؛ لِأَنَّهُ مُبِيحٌ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً فَيُوجِبُ عُقُوبَةً مُتَنَاهِيَةً ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ الثَّابِتِ بِالذِّمَّةِ فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةً ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْن الْمُسْلِمِ ، وَالْكَافِرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مَشْهُودٌ لَهُ بِالسَّعَادَةِ ، وَالْكَافِرُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالشَّقَاءِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ ؟ .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، وَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { ، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ ، وَنَفْسٍ وَنَفْسٍ ، وَمَظْلُومٍ وَمَظْلُومٍ ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَيَاةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ تَحْمِلُهُ عَلَى الْقَتْلِ خُصُوصًا عِنْدَ الْغَضَبِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ لِغُرَمَائِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ أَمَسَّ فَكَانَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ فِيهِ فِي
تَحْقِيقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَبْلَغُ ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { أَقَادَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى ذِمَّتَهُ } .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ ، لِأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } عَطَفَ قَوْلَهُ ، { وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِهِ ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ " مَمْنُوعٌ بَلْ دَمُهُ حَرَامٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ مَعَ قِيَامِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ مَعَ قِيَامِ الْإِسْلَامِ ، وَقَوْلُهُ : " الْكُفْرُ مُبِيحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ " مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُبِيحُ هُوَ الْكُفْرُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحِرَابِ ، وَكُفْرُهُ لَيْسَ بِبَاعِثٍ عَلَى الْحِرَابِ فَلَا يَكُونُ مُبِيحًا ، وَقَوْلُهُ : " لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ " قُلْنَا : الْمُسَاوَاةُ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الدِّينِ ، لَكِنَّ الْقِصَاصَ مِحْنَةٌ اُمْتُحِنُوا الْخَلْقُ بِذَلِكَ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْبَلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَشْكَرَ لِنِعَمِهِ كَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ ، لِأَنَّ الْعُذْرَ لَهُ فِي ارْتِكَابِ الْمَحْذُورِ أَقَلُّ ، وَهُوَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ أَكْمَلُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَعْظَمَ ، وَاحْتُجَّ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } ، وَفُسِّرَ الْقِصَاصُ الْمَكْتُوبُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ ،
وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ قَتْلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا ، وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّفْسَيْنِ فِي الْعِصْمَةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحُرَّ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالْعَبْدَ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ ، مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَكُونُ لَهُ ، وَعِصْمَةُ الْمَالِ تَكُونُ لِلْمَالِكِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ فِي عِصْمَةِ الْعَبْدِ شُبْهَةَ الْعَدَم ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ ، وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَثْبُتُ مُطْلَقَةً فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ فِي الْعِصْمَةِ ، وَكَذَا لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْفَضِيلَةِ ، وَالْكَمَالِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالنُّقْصَانِ ، وَالْحُرِّيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْعِزَّةِ ، وَالشَّرَفِ .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؛ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرِّ بِقَتْلِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ يَقِفُ عَلَى حُصُولِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَتْلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لَا يَخْشَى الْحُرُّ تَلَفَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ الْعَبْدِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَنْ قَتْلِهِ بَلْ يَقْدُمُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَسْبَابٍ حَامِلَةٍ عَلَى الْقَتْل مِنْ الْغَيْظِ الْمُفْرِطِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ ، لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ قِصَاصٌ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا ، لِأَنَّ التَّنْصِيصَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } ثُمَّ الْبِكْرُ إذَا زَنَى بِالثَّيِّبِ وَجَبَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْحَدِيثِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ شَكْلٍ بِشَكْلٍ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ
الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ ، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ ، وَلَوْ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْحُكْمِ فِي نَوْعٍ مُوجِبًا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِ لَمَا قُتِلَ ، ثَمَّ قَوْله تَعَالَى { ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ، لِأَنَّهُ قَالَ : " الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى " مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ تُقْتَلَ الْحُرَّةُ بِالْأَمَةِ ، وَعِنْدكُمْ لَا تُقْتَلُ ، فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ ، وَقَوْلُهُ : " الْعَبْدُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ " قُلْنَا : لَا ، بَلْ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ اسْمٌ لِشَخْصٍ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَنْسُوبٍ إلَى سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْعَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِثْلَ عِصْمَةِ الْحُرِّ بَلْ فَوْقَهَا ، عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَهُ ، لَا لِمَوْلَاهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ يُؤْخَذُ بِهِ ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ بِذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فَكَانَ نَفْسُ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَهُ لَا لِلْمَوْلَى كَنَفْسِ الْحُرِّ لِلْحُرِّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " الْحُرُّ أَفْضَلُ مِنْ الْعَبْدِ " فَنَعَمْ لَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الشَّرَفِ ، وَالْفَضِيلَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ أُعْتِقَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ، وَإِنْ اسْتَفَادَ فَضْلَ الْحُرِّيَّةِ .
وَكَذَا الذَّكَرُ يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى ، وَكَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُمَاثَلَةُ ، فِي الْعَدَدِ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْفِعْلِ بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ زَجْرًا ، وَفِي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا ، حَتَّى لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا يُقْتَلُونَ بِهِ قِصَاصًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ مُمَاثَلَةٌ لِوُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْفَائِتِ بِهِ زَجْرًا ، وَجَبْرًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَقُّ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ الْوَاحِدَ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ عَادَةً إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاوُنِ ، وَالِاجْتِمَاعِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ الْقِصَاصُ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِصَاصِ ؛ إذْ كُلُّ مَنْ رَامَ قَتْلَ غَيْرِهِ اسْتَعَانَ بِغَيْرٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ لِيُبْطِلَ الْقِصَاصَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ بِأَنْ شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهُ ثُمَّ حَزَّ آخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْحَازِّ إنْ كَانَ عَمْدًا .
وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ لَا الشَّاقُّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَعِيشُ بَعْدَ شَقِّ الْبَطْنِ بِأَنْ يُخَاطَ بَطْنُهُ ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَ حَزِّ رَقَبَتِهِ عَادَةً ، وَعَلَى الشَّاقِّ أَرْشُ الشَّقِّ ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الشَّقُّ نَفَذَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ فِي سَنَتَيْنِ ، فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُمَا جَائِفَتَانِ ، هَذَا إذَا كَانَ الشَّقُّ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا غَمَرَاتُ الْمَوْتِ ، وَالِاضْطِرَابُ فَالْقِصَاصُ عَلَى الشَّاقِّ ، لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَازِّ ، لِأَنَّهُ قَتَلَ الْمَقْتُولَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ
لِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا مُقَدَّرٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً مُثْخِنَةً لَا يَعِيشُ مَعَهَا عَادَةً ثُمَّ جَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى فَالْقِصَاصُ عَلَى الْأَوَّلِ ، لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ ؛ لِإِتْيَانِهِ بِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَتَانِ مَعًا فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا ، لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ .
وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً ، وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَمُوتُ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ قِصَاصًا اكْتِفَاءً ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَوَدِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ قِصَاصًا ، وَتُؤْخَذُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ : يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ يُقْتَل ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْبَاقِينَ ، وَفِي قَوْلٍ : يَجْتَمِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُ ، وَتُقَسَّمُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ بَيْنَهُمْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي بَابِ الْقِصَاصِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ ، فَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ ، وَتَجِبُ الدِّيَاتُ لِلْبَاقِينَ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِمَا اكْتِفَاءً بَلْ يُقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْأُخْرَى ؛ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَوْ مَعْقُولًا بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَا يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ ، وَقَتْلُ الْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ ، وَإِنَّا نَقُولُ : حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْقَتْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ الْمَالَ لَكَانَ زِيَادَةً عَلَى الْقَتْلِ .
وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يُرَاعَى فِي الْفِعْلِ زَجْرًا ، وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى فِي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا ،
وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا ، أَمَّا فِي الْفِعْلِ زَجْرًا فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَالْمُسْتَحَقُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى قِبَلَ الْقَاتِلِ قَتْلُهُ ، فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ .
وَأَمَّا فِي الْفَائِتِ جَبْرًا فَلِأَنَّهُ بِقَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ ظُلْمًا انْعَقَدَ سَبَبُ هَلَاكِ وَرَثَةِ الْقَتْلَى ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ طَلَبًا لِلثَّأْرِ وَتَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ فَيَقْصِدُ هُوَ قَتْلَهُمْ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَقَعُ الْمُحَارَبَةُ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ ، وَمَتَى قُتِلَ مِنْهُمْ قِصَاصًا سَكَنَتْ الْفِتْنَةُ ، وَانْدَفَعَ سَبَبُ الْهَلَاكِ عَنْ وَرَثَتِهِمْ فَتَحْصُلُ الْحَيَاةُ لِكُلِّ قَتِيلٍ مَعْنًى بِبَقَاءِ حَيَاةِ وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ دَخِرَ حَيَاةَ كُلِّ قَتِيلٍ تَقْدِيرًا بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ وَرَثَتِهِ ، فَيَتَحَقَّقُ الْجَبْرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي قَتْلِ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ ، وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ كَانَ تَسْبِيبًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً ، وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ قَتْلٌ سَبَبًا لَا مُبَاشَرَةً ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ شُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَقَعَتْ قَتْلًا ، لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي ظُهُورِ الْقِصَاصِ ، وَالظُّهُورَ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي وَقَضَاءَ الْقَاضِي مُؤَثِّرٌ فِي وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَوِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الِاسْتِيفَاء طَبْعًا وَعَادَةً ، فَكَانَتْ فَوَاتُ الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَتْلًا تَسْبِيبًا ، وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا مِثْلُ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً فِي حَقّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتْلًا بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ قَتْلًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ ، كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا قَتْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً ، وَالْقَتْلُ مُبَاشَرَةً قَتْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ وَضَرَبَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى قَتْلِهِ ، وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ
فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً ، وَيَضْمَنُونَ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ ، وَهَلْ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى الْوَلِيِّ ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ : لَا يَرْجِعُونَ ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ ، وَلَهُمَا أَنَّ الشُّهُودَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامُوا مَقَامَ الْمَقْتُولِ فِي مِلْكِ بَدَلِهِ إنْ لَمْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي مِلْكِ عَيْنِهِ فَأَشْبَهَ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ إذَا غَصَبَ مِنْهُ فَمَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الثَّانِي بِمَا ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَنَفْسُ الْحُرِّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمْ فِي الْبَدَلِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهِ لِمُعَارِضٍ وَهُوَ التَّدْبِيرُ ، فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ فَوَاحِدٌ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصَ وُجُوبٌ لِلِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ مِنْ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ لَهُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ ، وَتَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً أَحْرَارًا غَيْرَ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَبَهٌ ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَارِثَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُون هُوَ الْمَوْلَى لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوْتِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، فَإِنْ مَاتَ حُرًّا كَانَ وَلِيُّهُ الْوَارِثَ ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كَانَ وَلَيُّهُ الْمَوْلَى وَمَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ مَوْضِعُ التَّعَارُضِ وَالِاشْتِبَاهِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ ، وَإِنْ اجْتَمَعَا لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ بِالِاجْتِمَاعِ هَذَا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً غَيْرَ الْمَوْلَى ، فَأَمَّا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَلَمْ يَتْرُكْ وَرَثَةً غَيْرَ الْمَوْلَى فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ : عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَصْلًا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا كَانَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمِلْكُ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى ، فَوَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَلَا تَثْبُتُ وَلَهُمَا أَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مُتَعَيَّنٌ غَيْرُ مُشْتَبَهٍ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ مُوجِبٌ الْمُزَاحِمَةَ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلَوْ قُتِلَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَجَبَ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَعْلُومٌ ، وَهُوَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَمُوتُ رَقِيقًا بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى كَالْعَبْدِ الْقَنِّ إذَا
قُتِلَ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ ، وَالْمُدَبَّرَةُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ ؛ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا ، وَلَوْ قُتِلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ فَلَا قِصَاصَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ نَوْعُ مِلْكِ ، وَلِلْمَوْلَى أَيْضًا فِيهِ نَوْعُ مِلْكٍ فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلْعَبْدِ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْقَطْعِ السَّابِقِ ، وَالْحَقُّ عِنْدَ الْقَطْعِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْوَرَثَةِ ، وَعِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ ، وَهُوَ الْوُجُوبُ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، الْحَقُّ لِلْوَارِثِ لَا لَلْمَوْلَى ، فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْلَى مَعَ الْوَارِثِ فَلَا قِصَاصَ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا .
فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ ، وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ قُتِلَ ، وَاجْتَمَعَا ، أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مِلْكًا ، وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقًّا يُشْبِهُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ ، وَهَهُنَا اشْتَبَهَ الْوَلِيُّ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهِ حَقٌّ ، وَوَقْتُ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى فِيهِ حَقٌّ فَصَارَ الْوَلِيُّ مُشْتَبَهًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا : لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَقْتَ الْقَطْعِ ، وَوَقْتَ الْمَوْتِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاقْتِصَاصِ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمَوْلَى وَقْتَ الْقَطْعِ كَانَ وِلَايَةَ الْمِلْكِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَهُ وِلَايَةُ الْعَتَاقَةِ ، فَاشْتَبَهَ سَبَبُ
الْوِلَايَةِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَإِعْتَاقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ بُرْئِهِ فِي الْيَدِ لِتَبَدُّلِ الْمَحَلِّ حُكْمًا بِالْإِعْتَاقِ فَتَنْقَطِعُ آيَةُ السِّرَايَةِ ، هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ ، وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَقْتَ الْقَطْعِ ، وَالْمَوْتِ جَمِيعًا فَلَمْ يُشْبِهُ الْوَلِيَّ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ دِيَةُ الْيَدِ ، وَيَجِبُ مَا نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا .
وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أَوْ يُشَارِكُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ ، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى ، وَتَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ هَذَا إذَا كَانَ الْقَطْعُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ آخَرَ أَوْ غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ
خَطَأً فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ : الْقِصَاصِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ ( إمَّا ) الْقِصَاصُ ( وَإِمَّا ) الدِّيَةُ ، وَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا مَاتَ الْقَاتِلُ يَتَعَيَّنُ الْمَالُ وَاجِبًا ، فَإِذَا عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا ، وَفِي قَوْلٍ الْقِصَاصُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ ، وَإِذَا عَفَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ ، وَإِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } .
مَعْنَاهُ فَلْيَتَتَبَّعْ وَلْيُؤَدِّ الدِّيَةَ ، أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْقَاتِلِ أَدَاءَ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الدِّيَةِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ الْهَلَاكِ ، وَإِنَّهُ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى حَقِّهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ بِهَا حَقًّا لَهُ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ .
وَالْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ ، وَيَنْتَفِعُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ ، وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرَعَ الْقِصَاصُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَتْلِ عَدُوِّهِ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَالِ ، فَشُرِعَ ضَمَانًا زَاجِرًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي
شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَفِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، وَالْبَاءُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَتُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا .
( وَلَنَا ) قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ، وَهَذَا يُفِيدُ تَعَيُّنَ الْقِصَاصِ مُوجَبًا ، وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْإِبْهَامِ جَمِيعًا ، أَمَّا الْإِبْهَامُ فَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فَيَصْدُقُ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَحَدُ حَقَّيْنِ لَا يَصْدُقُ الْقَوْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ أَوْجَبُ ( وَأَمَّا ) التَّعْيِينُ فَلِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ بِضَرُورَةِ النَّصِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ عَيْنَ حَقِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ حَقِّهِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ إلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَمَنْ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، كَذَا هَذَا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى نَحْوِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ ؛ وَلِأَنَّ ضَمَان الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ ، وَالْقِصَاصُ وَهُوَ الْقَتْلُ الثَّانِي مِثْلُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَ الْأَوَّلِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ الَّذِي يَنُوبُ مَنَابَهُ ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقَتْلِ ، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ ، فَلَا يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فَلَا يَصْلُحُ ضَمَانًا
لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ثَبَتَ شَرْعًا تَخْفِيفًا عَلَى الْخَاطِئِ نَظَرًا لَهُ إظْهَارًا لِخَطَرِ الدَّمِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْهَدَرِ ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ ، وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْقِصَاصِ ، فَبَقِيَ ضَمَانًا أَصْلِيًّا فِي الْبَابِ .
( وَأَمَّا ) الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } هُوَ الْوَلِيُّ لَا الْقَاتِلُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } ، وَالْقَاتِلُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَا مَعْفُوٌّ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى اسْمُهُ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } فَلْيَتَّبِعْ ، وَإِنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا بَلْ هُوَ الْمُتَّبَعُ ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ هُوَ الْوَلِيُّ ، فَكَانَ هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمَنْ بُذِلَ لَهُ ، وَأُعْطِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءُ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ ، وَالسُّهُولَةِ فَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعَفْوِ بِمَعْنَى الْفَضْلِ لُغَةً قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } أَيْ الْفَضْلَ ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ خُذْ مَا أَتَاكَ عَفْوًا أَيْ فَضْلًا ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ : إنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ الْقَاتِلِ بِرِضَاهُ ، وَقِيلَ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْن نَفَرٍ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عَنْ الْقَاتِلِ فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا بِالْمَعْرُوفِ فِي نَصِيبِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ : أُوقِعَ الِاحْتِمَالُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَقَوْلُهُ : فِي دَفْعِ الدِّيَةِ صِيَانَةُ نَفْسِ الْقَاتِلِ عَنْ الْهَلَاكِ ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ ، قُلْنَا : نَعَمْ
لَكِنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ يَصِيرَ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ لَا أَنْ يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ ، وَعِنْدَ صَاحِبِهِ طَعَامٌ يَبِيعُهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الشِّرَاءِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَدْفَعَ الطَّعَامَ إلَيْهِ ، وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، كَذَا هَذَا ، وَقَوْلُهُ الْمَقْتُولُ : لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ ، قُلْنَا : مَمْنُوعٌ ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَهُ بِإِكْفَاءِ وَرَثَتِهِ أَحْيَاءً ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ - : الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُون حُرًّا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ الْوَارِثُ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ ، وَالْوَارِثُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لَهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا اسْتَحَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي تَمْهِيدِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ ، وَأَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى الْمَقْتُولِ فَكَانَ مُوجَبُهَا حَقًّا لَهُ إلَّا أَنَّهُ بِالْمَوْتِ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَتَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنْهُ ، وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ ، وَلِهَذَا تَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مِنْ النِّصْفِ ، وَالثُّلُثِ ، وَالسُّدُسِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، كَمَا تَجْرِي فِي الْمَالِ وَهَذَا آيَةُ الشَّرِكَةِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ، وَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ حَقًّا لَهُمْ ابْتِدَاءً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَالشَّرِكَةُ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ مُحَالٌ ، إذْ الشَّرِكَةُ الْمَعْقُولَةُ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لِهَذَا ، وَالْبَعْضُ لِذَلِكَ ، كَشَرِيكِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ مُحَالٌ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْحُقُوقِ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ ، وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ ، وَوِلَايَةِ الْأَمَانِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُتِلَ
إنْسَانٌ عَمْدًا ، وَلَهُ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعِيدُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ خَطَأً لَا يُعِيدُ ، وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ بِأَنْ كَانَ لِأَبِيهِمَا دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيًّا عَنْ صَاحِبِهِ ، فَيَقَعُ إثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ لَهُ لَا لِلْمَيِّتِ ، فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي الْإِثْبَاتِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَمَّا كَانَ حَقًّا مَوْرُوثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُمَا ، وَالْوَرَثَةُ خُلَفَاؤُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ يَقَعُ الْإِثْبَاتُ لِلْمَيِّتِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي حُقُوقِهِ كَمَا فِي الدِّيَةِ وَالدَّيْنِ ، فَيَصِحُّ مِنْهُ إثْبَاتُ الْكُلِّ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَخْلُفُونَهُ كَمَا فِي الْمَالِ .
وَلَوْ قُتِلَ إنْسَانٌ ، وَلَهُ وَلِيَّانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ ، وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَاضِرِ عَنْ الْقِصَاصِ ، فَكَانَ الْقَاتِلُ مُدَّعِيًا عَلَى الْحَاضِرِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فَكَانَ خَصْمًا لَهُ ، وَيَقْضِي عَلَيْهِ ، وَمَتَى قَضَى عَلَيْهِ يَصِيرُ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ غَيْرِهِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، أَمَّا لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الْيَمِينِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَنَّ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَيُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ ، وَوَجْهُ
الْبِنَاءِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لِاسْتِقْلَالِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ فِي نَفْسِهِ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى بُلُوغِ الصَّغِيرِ .
وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْن الْكُلِّ فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَرَكٍ بِدُونِ رِضَا شَرِيكِهِ إظْهَارًا لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ ، وَتَحَرُّزًا عَنْ الضَّرَرِ ، وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ ، وَالشَّرِكَةُ فِي غَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ مُحَالٌ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ إذَا انْقَلَبَ مَالًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنْ سَلَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْكَبِيرِ فِي نَصِيبِهِ بِطُرُقِ الْأَصَالَةِ ، وَفِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا ، كَالْقِصَاصِ إذَا كَانَ بَيْنَ إنْسَانٍ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا حَاجَتُهُمَا إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ ، وَعَجْزُ الصَّغِيرِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ ، وَقُدْرَةُ الْكَبِيرِ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَوْنُ تَصَرُّفِهِ فِي النَّظَرِ ، وَالشَّفَقَةُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مِثْلُ تَصَرُّفِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ أَهْلًا ؛ وَلِهَذَا يَلِي الْأَبُ وَالْجَدُّ اسْتِيفَاءَ قِصَاصٍ وَجَبَ كُلُّهُ لِلصَّغِيرِ فَهَذَا أَوْلَى ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَحَ ابْنُ مُلْجِمٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - سَيِّدَنَا عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ فَقَالَ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ ، وَإِنْ
شِئْت فَاعْفُ عَنْهُ وَأَنْ تَعْفُوَ خَيْرٌ لَك ، فَقَتَلَهُ سَيِّدُنَا الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ فِي وَرَثَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَغَارٌ ، وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّانِي بِفِعْلِ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَيَّرَ سَيِّدَنَا الْحَسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : " إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ " مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ التَّقْيِيدِ بِبُلُوغِ الصِّغَارِ .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي : فَلِأَنَّ الْحَسَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ ابْنَ مُلْجَمٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الصِّغَارِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ، وَكَانَ لَهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ ، وَهُوَ الْمُعْتَقُ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ثُمَّ إنْ كَانَ وَاحِدًا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا فَلَا قِصَاصَ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُشْتَبَهٌ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ ، فَالسَّبَبُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ هُوَ الْقَرَابَةُ ، وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى الْوَلَاءُ ، وَهُمَا سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَاشْتِبَاهُ الْوَلِيِّ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِلْقِصَاصِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ ، وَلَهُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقِصَاصَ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ، وَلَا لَهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ ، وَلَا مَوْلَى الْمُوَالَاةِ كَاللَّقِيطِ وَغَيْرِهِ فَالْمُسْتَحِقُّ هُوَ السُّلْطَانُ فِي قَوْلِهِمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْحُجَجُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْمُسْتَحِقُّ
هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ مَوْلَاهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْلَى ، وَاحِدًا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ ، وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ فَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ تَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ : مِنْهَا : الْوِرَاثَةُ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ وَاحِدًا ( وَإِمَّا ) إنْ كَانُوا جَمَاعَةً ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ كَبِيرًا ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ صَغِيرًا ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } ، وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْكَمَالِ ، وَهُوَ الْوِرَاثَةُ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمَةٍ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ كِبَارًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ صَارَ الْقِصَاصُ مُسْتَوْفًى ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنْ كَانَ حَقَّ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ كَمَا فِي الْمَالِ وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، إلَّا أَنَّ حُضُورَ الْكُلِّ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مَعَ غَيْبَةِ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالُ اسْتِيفَاءِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ : لَا أَدْرِي لَعَلَّ الْغَائِبَ عَفَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ حُضُورًا لَا يَجُوزُ لَهُمْ ، وَلَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُوَكِّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ رَجَاءَ الْعَفْوِ مِنْهُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ حُلُولِ
الْعُقُوبَةِ بِالْقَاتِلِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ، وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ( فَأَمَّا ) الِاسْتِيفَاءُ بِالْوَكِيلِ فَجَائِزٌ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ ، فَإِنْ كَانَ الْكَبِيرَ هُوَ الْأَبُ بِأَنْ كَانَ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَمْ يُقَاصِصْ كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَهَهُنَا أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ غَيْرَ الْأَبِ بِأَنْ كَانَ أَخًا فَلِلْكَبِيرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْهَا : الْأُبُوَّةُ فَلِلْأَبِ ، وَالْجَدِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِصَاصًا وَجَبَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ ، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ ، فَتَثْبُتَ لِمَنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِكَمَالِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ .
( وَأَمَّا ) الْوَصِيُّ فَلَا يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ بِأَنْ قَتَلَ شَخْصٌ عَبْدَ الْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ لَا يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِقُصُورٍ فِي الشَّفَقَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَبِ ، وَالْجَدِّ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ .
( وَمِنْهَا ) الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَقْتَ الْقَتْلِ ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إذَا قُتِلَ مَمْلُوكُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ لَهُ ، وَهُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ ، وَكَذَا إذَا
قُتِلَ مُدَبَّرُهُ ، وَمُدَبَّرَتُهُ ، وَأُمُّ وَلَدِهِ ، وَوَلَدُهَا ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ ، وَالِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا ، فَكَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمًا وَقْتَ الْقَتْلِ ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا قُتِلَ عَاجِزًا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ مَوْت الْمُكَاتَبِ عَاجِزًا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْكِتَابَةِ ، وَجَعْلَهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ وَهُوَ قِنٌّ ، وَمَوْتُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعِتْقِ إذْ الْإِعْتَاقُ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ ، وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي كُلِّهِ ، وَلَوْ قُتِلَ الْمُكَاتَبُ ، وَتَرَكَ وَفَاءً ، وَوَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى لَا قِصَاصَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِيه الْمَوْلَى لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي قِيَامِ الْمَوْلَى وَقْتَ الْقَتْلِ ، وَلَا الْوَارِثُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إجَازَةَ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهُ وَقْتُ الْقَتْلِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْإِجَازَةِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ، وَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِلْبَائِعِ الْقِيمَةُ ، وَلَا قِصَاصَ لَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْفَسْخِ ، وَالسَّبَبُ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا
الْحُكْمَ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِمَعْنًى وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَدَّ الْبَيْعِ فَسْخٌ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَجَعْلُ إيَّاهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ ، وَرَدَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيُوجَبُ الْقِصَاصُ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى ، إنْ بِالْفَسْخِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الصَّدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ ، أَوْ بَدَلُ الْخُلْعِ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ ، أَوْ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي يَدَيْ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إنْ اخْتَارَ إتْبَاعَ الْقَاتِلِ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ ، وَإِنْ طَالَبَ بِالْقِيمَةِ فَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ قَدْ انْفَسَخَ ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْآخَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ قُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَالْقِصَاصُ لَلْمُشْتَرِي قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَن أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ ، وَانْبَرَمَ الْبَيْعُ ، وَتَقَرَّرَ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي فَوَجَبَ الْقِصَاصُ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ ، كَمَا إذَا قُتِلَ فِي يَدِهِ ، وَلَا خِيَارَ فِي الْبَيْعِ أَصْلًا ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْقَاتِلَ فَقَتَلَهُ قِصَاصًا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ ( وَأَمَّا ) اخْتِيَارُ إتْبَاعِ الْقَاتِلِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ كَانَ مِلْكًا لَهُ .
( وَأَمَّا ) اخْتِيَارُ تَضَمُّنِ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا فِي يَدِهِ الْقِيمَةُ ، أَلَا تَرَى لَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؟ وَلَا قِصَاصَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ بِالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ بِطَرِيقِ
الِاسْتِنَادِ ، وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ ، وَيَقْتَصِرُ مِنْ وَجْهٍ فَشِبْهُ الظُّهُورِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ لَهُ ، وَشِبْهُ الِاسْتِنَادِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ ، فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْوُجُوبِ لَهُ فَلَا يَجِبُ ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا قُتِلَ فِي يَدَيْ الْغَاصِبِ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ الْقِصَاصُ ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قُتِلَ عَبْدٌ مُوصًى بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ ، وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الرَّقَبَةِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ مَلَكَ الرَّقَبَةَ لَكِنْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا إلَى بَدَلٍ هُوَ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِذَا اجْتَمَعَا فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلِاسْتِيفَاءِ مَوْجُودٌ ، وَهُوَ قِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَإِذَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ .
وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ( أَمَّا ) الْمُرْتَهِنُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِ ( وَأَمَّا ) الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنُ يَصِيرُ هَالِكًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كَانَ رَهْنًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ ، وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرَ الرَّهْنُ هَالِكًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَيَسْقُطَ دَيْنُهُ فَكَانَ فِي اسْتِيفَائِهِ الْقِصَاصَ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ اجْتَمَعَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ، وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ .
( وَمِنْهَا ) الْوَلَاءُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَارِثٌ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يُزَوِّجُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يُزَوِّجُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ .
( وَمِنْهَا ) السَّلْطَنَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ ، وَالْمِلْكِ ، وَالْوَلَاءِ كَاللَّقِيطِ ، وَنَحْوِهِ إذَا قُتِلَ ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ وَلِيٍّ لَهُ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يُعْرَفُ ، وَقِيَامُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ تَمْنَعُ وِلَايَةَ السُّلْطَانِ ، وَبِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَلَيٌّ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَ وَلِيُّهُ السُّلْطَانَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { السُّلْطَانُ وَلَيُّ مِنْ لَا وَلَيَّ لَهُ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَا قُتِلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ الْهُرْمُزَانُ ، وَالْخِنْجَرُ فِي يَدِهِ فَظَنَّ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَتَلَ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ اُقْتُلْ عُبَيْدَ اللَّهِ فَامْتَنَعَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا قُتِلَ أَبُوهُ أَمْسِ ؟ لَا أَفْعَلُ ، وَلَكِنْ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَأَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ ، وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْفُو عَنْهُ ، وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ الصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى الدِّيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ أَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي الْإِقَامَةِ ، وَفِي الْعَفْوِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ ، وَالْجَدُّ ، وَإِنْ كَانَا يَمْلِكَانِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ بِالصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِيفَاءِ فَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ ، فَإِنْ مَاتَ ، وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يَقْتُلُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ تُقْطَعُ يَدُهُ ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَاتَ الْأَوَّلُ فِيهَا ، وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا ، وَهُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ هُوَ ، وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ الْقَطْعُ فَيَجِبُ أَنْ يُجَازَى بِالْقَطْعِ ، وَالظَّاهِرُ فِي الْقَطْعِ عَدَمُ السِّرَايَةِ ، فَإِنْ اتَّفَقَتْ السِّرَايَةُ ، وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ ، وَيَكُونُ الْحَزُّ تَتْمِيمًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ لَا حَزًّا مُبْتَدَأً .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } وَالْقَوَدُ هُوَ الْقِصَاصُ ، وَالْقِصَاصُ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ ، فَكَانَ هَذَا نَفْيُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يُجَازَى إلَّا بِالْقَتْلِ فَلَوْ قُطِعَ ثُمَّ اُحْتِيجَ إلَى الْحَزِّ كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْحَزِّ فَلَمْ يَكُنْ مُجَازَاةً بِالْمِثْلِ ، وَقَوْلُهُ : " الْحَزُّ يَقَعُ تَتْمِيمًا لِلْقَطْعِ " فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمُتَمِّمَ لِلشَّيْءِ مِنْ تَوَابِعِهِ ، وَالْحَزُّ قَتْلٌ ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَطْعِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ تَمَامِهِ ؟ وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَا يُمَكَّنُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ فَعَلَ يُعَزَّرُ لَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ السَّطْحِ أَوْ أَلْقَاهُ
فِي الْبِئْرِ أَوْ سَاقَ عَلَيْهِ دَابَّةً حَتَّى مَاتَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقُّهُ ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ، إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ إمَّا لِضَعْفِ بَدَنِهِ أَوْ لِضَعْفِ قَلْبِهِ أَوْ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ إلَيْهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنَابَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ الْمَأْمُورُ ، وَالْآمِرُ حَاضِرٌ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ وَالْآمِرُ غَيْرُ حَاضِرٍ ، وَأَنْكَرَ وَلَيُّ هَذَا الْقَتِيلِ الْأَمْرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْأَمْرِ ، وَقَدْ كَذَّبَهُ وَلَيُّ هَذَا الْقَتِيلِ فِي الْأَمْرِ ، وَتَصْدِيقُ وَلَيِّ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ بَعْدَ مَا بَطَلَ حَقُّهُ عَنْ الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَمْرُ فَبَقِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُوجِبًا الْقِصَاصَ ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ إنْسَانٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ، وَمَاتَ فَادَّعَى ، وَلَيُّ الْقَتِيلِ الدِّيَةَ فَقَالَ الْحَافِرُ : حَفَرْتُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ ، وَصَدَّقَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ ، وَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي فِعْلٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمْرِ بِهِ لِلْحَالِ ، وَهُوَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَصْدِيقًا بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ فَاعْتُبِرَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشَّيْءِ فِي غَيْر مَحَلِّهِ ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْمَوْتِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَنَا ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا فَقُتِلَ بِهِ قِصَاصًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ ، وَلَا يَجِبُ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا فَاتَ ذَلِكَ الْعُضْوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ قُطِعَ بِحَقٍّ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَقُطِعَ بِهِ أَوْ سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ فَقُطِعَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ أَيْضًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ ، لَكِنْ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ بِحَقٍّ .
وَالثَّانِي بَيْنَ الْقَطْعِ بِغَيْرِ حَقٍ ، وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِحَقٍّ ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ بِحَقٍّ فَقَدْ قَضَى بِهِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ فَجُعِلَ كَالْقَائِمِ ، وَجُعِلَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ تَقْدِيرًا كَأَنَّهُ أَمْسَكَهُ حَقِيقَةً ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهُنَاكَ يَجِبُ الْأَرْشُ ، كَذَا هَذَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِيمَا إذَا قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَفِي الْقَتْلِ إنْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْعَلَ مُمْسِكًا لِلنَّفْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الطَّرَفِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا الْعَفْوُ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ :
أَحَدُهَا : فِي بَيَانِ رُكْنِهِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَافِي عَفَوْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ أَبْرَأْتُ أَوْ وَهَبْتُ ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى .
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَلَا حَقَّ مُحَالٌ فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِعَدَمِ الْحَقِّ ، وَلَا مِنْ الْأَبِ ، وَالْجَدِّ فِي قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلصَّغِيرِ لَا لَهُمَا ، وَإِنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ ، وَالْعَفْوُ ضَرَرٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ أَصْلًا ، وَرَأْسًا فَلَا يَمْلِكَانِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ السُّلْطَانُ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَافِي عَاقِلًا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا ، فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْعَفْوِ فَالْعَفْوُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَلِيِّ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَجْرُوحِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَلِيِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْجُرْحِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ وَاحِدًا فَعَفَا عَنْ الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْعَفْوِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَفَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الثَّأْرَ بَعْدَ الْعَفْوِ ، فَلَا يَقْصِدُ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ
قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ ، فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِدُونِهِ ، وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } أَيْ مَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أَنَّ ذَلِكَ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ الْقَتْلُ لَا غَيْرُ ، وَحُكْمُ الْإِنْجِيلِ الْعَفْوُ بِغَيْرِ بَدَلٍ لَا غَيْرُ ، فَخَفَّفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَشَرَعَ الْعَفْوَ بِلَا بَدَلٍ أَصْلًا ، وَالصُّلْحَ بِبَدَلٍ سَوَاءٌ عَفَا عَنْ الْكُلِّ أَوْ عَنْ الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرُ الْكُلِّ كَالطَّلَاقِ ، وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ لَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ فِي الْقِصَاصِ عَيْنًا ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ لَا إلَى بَدَلٍ ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ ، وَالْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ يَسْقُطُ مُطْلَقًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا ، فَإِذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ انْصَرَفَ الْوَاجِبُ تَصْحِيحًا لَتَصَرُّفِهِ كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَلَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ ، فَأَبْرَأَهُ الْمَدْيُونُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْآخَرِ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا ، وَلَوْ عَفَا عَنْهُ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ الْعَفْوِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : لَا يَجِبُ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جَعَلَ جَزَاءَ الْمُعْتَدِي ، وَهُوَ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ، وَهُوَ
عَذَابُ الْآخِرَةِ - نَسْتَجِيرُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ هَوْلِهِ - فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا لَصَارَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الدُّنْيَا يَرْفَعُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ } ، وَفِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ .
( وَلَنَا ) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ ، وَحَالٍ وَحَالٍ ، إلَّا شَخْصًا أَوْ حَالًا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ، وَكَذَا الْحِكْمَةُ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ : إنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هَهُنَا هُوَ الْقِصَاصُ فَإِنَّ الْقَتْلَ غَايَةُ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ فِي الْإِيلَامِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ، وَتَحْتَمِلُ هَذَا وَتَحْتَمِلُ مَا قَالُوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ أَكْثَرَ بِأَنْ قَتَلَ رَجُلَانِ وَاحِدًا ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصًا كَامِلًا ، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ الْآخَرِ ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا عَلَى الِانْفِرَادِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، إذْ الْقَتْلُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَيُجْعَلُ قَتْلُ صَاحِبِهِ عَدَمًا فِي حَقِّهِ ، فَإِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَاتِلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخَرِ عَدَمًا تَقْدِيرًا فَيُورِثُ شُبْهَةً ، وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛
لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا لَيْسَ مَا ذُكِرَ ، وَلَيْسَ الْقَتْلُ اسْمًا لِتَفْوِيتِ الْحَيَاةِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَهَذَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ ، فَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إذْ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنٍ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَقِيلَ : إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْنَ شُرَكَاءَ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عَنْ الْقَاتِلِ فَلِلْآخَرَيْنِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي نَصِيبِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } ، وَهَذَا الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ ، وَيَكُونُ نَصِيبُ الْآخَرِ ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ فِي سَنَتَيْنِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُؤْخَذُ فِي سَنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي سَنَتَيْنِ ، كَذَا هَهُنَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِمَّا يُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَحُكْمُ الْجُزْءِ حُكْمَ الْكُلِّ بِخِلَافِ الْقَطْعِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ كُلٌّ لَا جُزْءٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
دِيَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ هَذَا الْقَدْرُ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ دِيَتِهَا بِنِصْفِ دِيَةِ النَّفْسِ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ دِيَةِ الطَّرَفِ .
وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَفْوِ أَوْ عَلِمَ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ عَادَتْ بِالْعَفْوِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَرَّمَ قَتْلَهُ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِصَاصِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ ؟ فَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ ، وَمُطْلَقُ الظَّنِّ لَا يُورِثُ شُبْهَةً كَمَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا .
وَقَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَاتِلُ أَبِي .
( وَلَنَا ) أَنَّ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ لَهُ ، وَهُوَ ظَنٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى نَوْعِ دَلِيلٍ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلْمَقْتُولِ ، فَالْعَفْوُ مِنْ أَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي حَقِّ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ وُجِدَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ هَذَا الدَّلِيلُ عَنْ الْعَمَلِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْعِصْمَةِ ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ فَتَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا تَعَذَّرَ إيجَابُهُ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ، كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ ، فَصَارَ النِّصْفُ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ فَيُوجَبُ عَلَيْهِ النِّصْفُ الْآخَرُ ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْقَتْلِ ، وَهُوَ عَمْدٌ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ .
وَإِنْ عِلْمَ بِالْعَفْوِ وَالْحُرْمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوُجُوبِ الشُّبْهَةُ ، وَإِنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ الظَّنِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَزَالَ الْمَانِعُ ، وَلَهُ عَلَى الْمَقْتُولِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا بِعَفْوِ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْتُولِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ الْوَاحِدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ ، فَأَمَّا إذَا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصٌ كَامِلٌ قِبَلَ الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْقَاتِلِ لَا يَسْقُطُ قِصَاصُ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قِصَاصًا كَامِلًا ، وَلَا اسْتِحَالَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ تَفْوِيتَ الْحَيَاةِ لِيُقَالَ : إنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُهَا مِنْ اثْنَيْنِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَهَذَا يُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ ، فَعَفْوُ أَحَدِهِمَا عَنْ حَقِّهِ ، وَهُوَ الْقِصَاصُ ، لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ الْقَاتِلِ بَعْدَ مَوْتِ وَلِيِّهِ .
( فَأَمَّا ) إذَا عَفَا عَنْهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَفْوُهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ ، وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إلَّا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنْ الْمَحَلِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ ، فَيَصِحُّ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْجُرْحُ خَطَأً فَكَفَّرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ مَاتَ جَازَ التَّكْفِيرُ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَتْلَ إنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ ، وَهُوَ
الْجُرْحُ الْمُفْضِي إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ ، وَالنِّكَاحِ مَعَ الْوَطْءِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ سَبَبُ ، وُجُودِ الْقَتْلِ كَانَ الْعَفْوُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ ، كَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ مِنْ الْمَوْلَى وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ ، وَالْعَفْوُ مِنْ الْوَارِثِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إلَّا أَنَّ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَهَهُنَا مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي دَمِ الْعَمْدِ كَالدِّيَةِ فِي دَمِ الْحُرِّ .
( فَأَمَّا ) فِيمَا وَرَاءَ ذَاكَ فَلَا يَخْتَلِفَانِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ الْوَلِيِّ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ الْمَجْرُوحُ عَفَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى لَا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا ، فَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ ثُمَّ مَاتَ صَحَّ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحُّ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ ، وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ الشَّجَّةِ أَوْ الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ أَوَّلًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجُرْحَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْمَجْرُوحُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقُول : عَفَوْتُ عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ الشَّجَّةِ أَوْ الضَّرْبَةِ ، وَهَذَا كُلَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَقُولَ : عَفَوْتُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ ذَكَر مَعَهُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا .
( وَإِمَّا ) إنْ لَمْ يَذْكُرْ ، وَحَالُ الْمَجْرُوحِ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ بَرِئَ وَصَحَّ .
( وَإِمَّا ) إنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ ، وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا ، وَهُوَ الْأَرْشُ فَيَصِحُّ ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ ، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ .
وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُث مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ ، وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّيْءِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ أَثَرِهِ كَمَا إذَا قَالَ عَفَوْتُ عَنْ الْجِرَاحَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عَفَا عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي مُوجَبِ الْجِنَايَةِ لَا فِي عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَفْوُ عَنْهَا ، وَلِأَنَّ عَيْنَهَا جِنَايَةٌ وُجِدَتْ مِنْ الْخَارِجِ ،
وَالْجِنَايَةُ لَا تَكُونُ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَكَانَ هَذَا عَفْوًا عَنْ مُوجَبِ الْجِرَاحَةِ .
وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ بِهَذِهِ الْجِرَاحَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ يَجِبُ مُوجَبُ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا ، وَالدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً ، وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ وَقَطْعُ الْيَدِ مَعَ مُوجَبِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَالثَّانِي : إنْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ صَحِيحًا لَكِنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ ، وَالْقَتْلَ غَيْرُ فَالْقَطْعُ إبَانَةُ الطَّرَفِ ، وَالْقَتْلُ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَمُوجَبُ أَحَدِهِمَا الْقَطْعُ وَالْأَرْشُ ، وَمُوجَبُ الْآخَرِ الْقَتْلُ وَالدِّيَةُ ، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْغَيْرَيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْآخَرِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ لِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَعَدَمِ مَا يُسْقِطُهُ ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ ، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِرَاحَةِ ، وَذَكَرَ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِرَاحَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنْ الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ
الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنْ الْعَاقِلَةِ ، وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ ، وَهَذَا وَقَوْلُهُ عَفَوْتُ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَعَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا سَوَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَفْوِ صُلْحٌ بِأَنْ صَالَحَ مِنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ عَلَى مَالٍ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ بَرِئَ الْمَجْرُوحُ فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ ، وَهُوَ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ ، وَيُؤْخَذُ جَمِيعُ الدِّيَةِ مِنْ مَالِهِ فِي الْعَمْدِ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرَدُّ بَدَلُ الصُّلْحِ ، وَيَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الصُّلْحِ نِكَاحٌ بِأَنْ قَطَعَتْ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ أَوْ جَرَحَتْهُ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفَاصِيلِ أَنَّهُ إنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ النِّكَاحُ ، وَصَارَ أَرْشُ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مُوجَبُ ذَلِكَ الْأَرْشُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَالَ ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَقَدْ سَمَّى الْمَالَ فَكَانَ مَهْرًا لَهَا ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا
وَكَانَ الْقَطْعُ خَطَأً جَازَ النِّكَاحُ ، وَصَارَ دَمُ الزَّوْجِ مَهْرًا لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مُوجِبًا لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَكَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى مُوجَبِ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَسَقَطَتْ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِصَيْرُورَتِهَا مَهْرًا لَهَا ، وَهَذَا إذَا كَانَ وَقْتَ النِّكَاحِ صَحِيحًا ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَبِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ يَسْقُطُ عَنْ الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَبَرِّعٍ فِي هَذَا الْقَدْرِ .
( وَأَمَّا ) الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يَسْقُطُ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ الثُّلُثِ يَسْقُطُ أَيْضًا ، وَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلزَّوْجِ تَرْجِعُ إلَى وَرَثَتِهِ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ ، وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ ، هَذَا فِي الْخَطَأِ .
( وَأَمَّا ) فِي الْعَمْدِ جَازَ النِّكَاحُ ، وَصَارَ عَفْوًا .
( وَأَمَّا ) جَوَازُ النِّكَاحِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ عَلَى تَسْمِيَةِ مَا هُوَ مَالٌ .
( وَأَمَّا ) صَيْرُورَةُ النِّكَاحِ عَلَى الْقِصَاصِ عَفْوًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقِصَاصِ فَقَدْ أَزَالَ حَقَّهُ عَنْهُ ، وَأَسْقَطَهُ وَهَذَا مَعْنَى الْعَفْوِ ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَهْرِ ، وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، فَيَجِبُ لَهَا الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَطَلَ الْعَفْوُ إذَا كَانَ عَمْدًا ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهَا ، فَيَتَنَاقَصَانِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَتَضْمَنُ الْمَرْأَةُ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَلَهَا مَهْرُ
الْمِثْلِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ ، وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَ مَكَانَ النِّكَاحِ خُلْعٌ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ امْرَأَتِهِ أَوْ جَرَحَهَا جِرَاحَةً فَخَلَعَهَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا إنْ بَرِئَتْ جَازَ الْخُلْعُ ، وَكَانَ بَائِنًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَعَهَا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ ، فَصَحَّ الْخُلْعُ ، وَصَارَ أَرْشُ الْيَدِ بَدَلَ الْخُلْعِ ، وَالْخُلْعُ عَلَى مَالٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ ، وَالْخَطَأُ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ ، وَكَانَ خَطَأً ، فَإِنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا جَازَ الْخُلْعُ ، وَيَكُونُ بَائِنًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ ، فَكَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا عَلَى مَالِهِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، فَيَصِحُّ ، وَيَكُونُ بَائِنًا ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَحِيحَةً وَقْتَ الْخُلْعِ جَازَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَرِيضَةً صَارَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ الْخُلْعِ ، وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ جَمِيعِ الدِّيَةِ مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ هُنَاكَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ دُخُولِ الْبُضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ ، وَهَذِهِ حَالَةُ الْخُرُوجِ ، وَالْبُضْعُ يُعَدُّ مَالًا حَالَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ ، وَلَا يُعَدُّ مَالًا حَالَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ يَسْقُطُ ، وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ هَذَا فِي الْخَطَأِ ، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ جَازَ الْعَفْوُ ، وَلَا يَكُونُ مَالًا ، وَخُلْعُهَا بِغَيْرِ مَالٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا ، وَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَعِنْدَهُمَا : كَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ ، وَتَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ ، وَفِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَيَكُونُ الْخُلْعُ بِغَيْرِ مَالٍ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَوْلَى ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ ، يَحْصُلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عَنْ صُلْحٍ ، وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلَا يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْلَ الْقَاتِلِ ، فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلَ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ ، وَقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمِنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ وَسَوَاءٌ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا ، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا ، بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ ، وَالدِّيَاسِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُنَاكَ تَمَكُّنُ الرِّبَا .
وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَرَائِطَ جَوَازِ الصُّلْحِ ، وَمَنْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ، وَلَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ عَلَى مَالٍ ثُمَّ قَتَلَهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْعَفْوِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ اثْنَيْنِ ، وَالْقِصَاصُ وَاحِدٌ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَفْوِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْآخَرُ بَعْد عَفْوِ صَاحِبِهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَفْوِ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ أَكْثَرَ
فَصَالَحَ وَلَيُّ أَحَدِ الْقَتِيلَيْنِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مَعَ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ لِلْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَفْوِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَوْلَى فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا وَمِنْهَا إرْثُ الْقِصَاصِ بِأَنْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ، فَوَرِثَ الْقَاتِلُ الْقِصَاصَ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لَهُ وَعَلَيْهِ ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً ، وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنُ الْآخَرِ عَمْدًا ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَارِثُ الْآخَرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُوَكِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فَيَقْتُلُهُمَا الْوَكِيلَانِ مَعًا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُقَالُ لِلْقَاضِي : ابْتَدِئْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ ، وَسَلِّمْهُ إلَى الْآخَرِ حَتَّى يَقْتُلَهُ ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْآخَرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُوْفِيَ أَحَدُهُمَا يَسْقُطُ الْآخَرُ لِصَيْرُورَةِ الْقِصَاصِ مِيرَاثًا لِلْقَاتِلِ الْآخَرِ ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي يَبْتَدِئُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيُسَلِّمُهُ إلَى الْآخَرِ حَتَّى يَقْتُلَهُ ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْآخَرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يَتَوَارَثَانِ ، كَمَا فِي الْغَرْقَى ، وَالْحَرْقَى .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى سِوَاهُ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُوْفِيَ
أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْآخَرُ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَصْلًا ؛ وَلِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ أَحَدِ الْقَصَاصَيْنِ بَقَاءُ حَقِّ أَحَدِهِمَا ، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْآخَرِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَالْقَوْلُ بِاسْتِيفَائِهِمَا بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ قَلَّمَا يَتَّفِقَانِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَادَةً ، وَكَذَا أَثَرُهُمَا الثَّابِتُ عَادَةً ، وَهُوَ فَوَاتُ الْحَيَاةِ ، وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الْقِصَاصِ عَنْ الْآخَرِ ، وَقَالُوا فِي رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ عَمْدًا ، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مِنْ الْقَطْعِ إنَّ عَلَى الْقَاطِعِ الْقِصَاصَ ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِوَلِيِّ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ ، وَهُوَ الْقَطْعُ السَّابِقُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَطْعَ صَارَ بِالسِّرَايَةِ قَتْلًا ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَبِالْعَمْدِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الذَّنْبِ ، وَمَحْوِ الْإِثْمِ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ، وَالذَّنْبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَعْظَمُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ أَشَدُّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ التَّحْرِيرَ أَوْ الصَّوْمَ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ سَلِمَ لَهُ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ الْحَيَاةُ ، مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْقِصَاصِ ، وَكَذَا ارْتَفَعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَمْدِ ، فَيُقَدَّرُ الْإِيجَابُ شُكْرًا أُوجِبَ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عَنْ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ ، وَأُلْحِقَ بِالتَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ ، وَالذَّنْبُ هَهُنَا أَعْظَمُ فَلَا يَصْلُحُ لِتَحْرِيرِ تَوْبَةٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ امْتَنَعَ وُجُوبُهُ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ .
وَأَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ فَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْكَيْفِيَّةِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ .
وَأَمَّا الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا تَعْقِلُ الْخَطَأَ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ نَظَرًا لَهُ لِوُقُوعِهِ فِيهِ لَا عَنْ قَصْدٍ ، وَفِي هَذَا الْقَتْلِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ لِحُصُولِهِ بِآلَةٍ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقَتْلُ عَادَةً ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّخْفِيفِ ، وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ، وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي هَذَا الْقَتْلِ ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ ، وَأَلْحَقَهُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : لَا تَجِبُ ، وَأَلْحَقَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ .
( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْخَطَأِ إمَّا لِحَقِّ الشُّكْرِ أَوْ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالدَّاعِي إلَى الشُّكْرِ ، وَالتَّوْبَةِ هَهُنَا مَوْجُودٌ ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ ، وَكَوْنُ الْفِعْلِ جِنَايَةً فِيهَا نَوْعُ خِفَّةٍ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْدِ ، فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ التَّحْرِيرُ فِيهِ تَوْبَةً .
( وَجْهُ ) الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ مُغَلَّظَةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ ، بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَلَا يَصْلُحُ التَّحْرِيرُ تَوْبَةً بِهَا كَمَا فِي الْعَمْدِ ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فَنُفَصِّلُ الْكَلَامَ فِيهِ فَنَقُولُ : الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ إمَّا أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا حُرَّيْنِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا ، وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا ، وَالْمَقْتُولُ حُرًّا ، وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا عَبْدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَهِيَ نَوْعَانِ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ ، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْتُولِ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَالْإِسْلَامُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْكَافِرِ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَالصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ ، وَالصَّبِيُّ ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُخَاطَبَانِ بِالشَّرَائِعِ أَصْلًا .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ ، وَالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ سَلِمَ لَهُ الْحَيَاةُ فِي الدُّنْيَا ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ ، وَرُفِعَتْ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْحِكْمَةِ لِمَا فِي وُسْعِ الْخَاطِئِ فِي الْجُمْلَةِ حِفْظُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ ، وَهَذَا أَيْضًا نِعْمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الشُّكْرِ لِهَذِهِ
النِّعْمَةِ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْدِرَ الْعَبْدُ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الشُّكْرِ بِتَعْظِيمِهِ الْعَقْلَ ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ ، وَلِلَّهِ تَعَالَى الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ .
وَإِذَا كَانَ جِنَايَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ ، فَجُعِلَ التَّحْرِيرُ مِنْ الْعَبْدِ بِحَقِّ التَّوْبَةِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ ، إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ التَّحْرِيرُ أَوْ الصَّوْمُ تَوْبَةً لَهُ دُونَ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ ، إذْ الْخَطَأُ مَعْفُوٌّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَجَائِزٌ الْعَفْوُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ فَخَفَّتْ تَوْبَتُهُ لِخِفَّةٍ فِي الْجِنَايَةِ ، فَكَانَ التَّحْرِيرُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ ، أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا .
وَأَمَّا الْخَطَرُ وَالْحُرْمَةُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ جَائِزٌ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهَا عَقْلًا لِمَا بَيَّنَّا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمَهُ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ لَكَانَ مَعْنَى الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا ، وَهَذَا مُحَالٌ ، وَإِنَّمَا رُفِعَ حُكْمُهَا شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } مَعَ بَقَاءِ وَصْفِ الْفِعْلِ عَلَى حَالِهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ جِنَايَةً .
وَمِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّيَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ ، وَفِي بَيَانِ مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ مِنْ الْأَجْنَاسِ ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ .
أَمَّا الشَّرَائِطُ فَبَعْضُهَا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ كَمَالِ الْوَاجِبِ ، أَمَّا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْعِصْمَةُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا دِيَةَ فِي قَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لَا مِنْ جَانِبِ الْقَاتِلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ الْمَقْتُولِ ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا .
وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } ، وَالثَّانِي : التَّقَوُّمُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُتَقَوِّمًا ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ .
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ : ابْتِدَاءً احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيرَ جَزَاءَ الْقَتْلِ ، وَالْجَزَاءُ يَقْتَضِي الْكِفَايَةَ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ مَعَهُ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالتَّحْرِيرِ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِقَتْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ الدِّيَةَ لَصَارَ بَعْضَ الْوَاجِبِ ، وَهَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ النَّصِّ .
وَأَمَّا صَدْرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُؤْمِنَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ دِينًا ، وَدَارًا ، وَهَذَا مُسْتَأْمَنٌ دِينًا لَا دَارًا ؛ لِأَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ ، وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَفْرَدَ هَذَا الْمُؤْمِنَ بِالذَّكَرِ وَالْحُكْمِ ، وَلَوْ تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَعَرَّفَ حُكْمَهُ بِهِ ، فَكَانَ الثَّانِي تَكْرَارًا ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى ، أَوْ يُحْتَمَلْ مَا ذَكَرْنَا ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلِينَ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا ، ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَقْتُولِ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَمْ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا ؟ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الرَّمْيِ إذَا رَمَى
مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَمَاتَ ، فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ خَطَأً تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَكُونُ فِي مَالِهِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ ، وَإِنْ رَمَى مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ ، وَمَاتَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ ، وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ ، وَلَا عِصْمَةَ لِلْمَقْتُولِ وَقْتَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ ، فَكَانَ دَمُهُ هَدْرًا ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ فَمَاتَ ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ ، لَهُمَا أَنَّ لِلْقَتْلِ تَعَلُّقًا بِالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَاتِلِ ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْمَقْتُولِ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ ، وَلَا فِعْلَ مِنْهُ سِوَى الرَّمْيِ السَّابِقِ فَكَانَ الرَّمْيُ السَّابِقُ عِنْدَ وُجُودِ زُهُوقِ الرُّوحِ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَالْمَحِلُّ كَانَ مَعْصُومًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ .
وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِمَا فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الرَّمْيِ لَا غَيْرُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَابِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّامِي مُسْلِمًا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ ، يُؤْكَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ بَابَ الِاحْتِيَاطِ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ كَانَ
مَجُوسِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ لَا يُؤْكَلُ ، وَكَذَلِكَ حَلَالٌ رَمَى صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ رَمَى وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ حَلَّ فَأَصَابَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَجُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِلَا خِلَافٍ ، وَمَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَحِلِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَنَّهُ يُهْدَرُ دَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ انْقَلَبَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ ، وَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَحِلُّ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ ، فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ السِّرَايَةِ عَنْ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ كَتَبَدُّلِ الْمَحِلِّ حَقِيقَةً ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَتِنَا .
وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَمَاتَ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الرَّامِي لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَمَى إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ نَاقِصًا بِالرَّمْيِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِتَوَجُّهِ السَّهْمِ إلَيْهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ ، وَلَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ ، وَلَا الْقِيمَةَ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ كَذَا هَذَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَهُوَ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِالرَّمْيِ السَّابِقِ ، وَهُوَ
كَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى حِينَئِذٍ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الَّذِي تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةَ وَتُقْضَى مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ : الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَعِنْدَهُمَا سِتَّةُ أَجْنَاسٍ : الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْحُلَلُ ، وَاحْتَجَّا بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاس بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَاجِبَ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مِنْهَا عَلَى التَّعْيِينِ ، إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ ، فَمَنْ ادَّعَى الْوُجُوبَ مِنْ الْأَصْنَافِ الْأُخَرِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ حِينَ كَانَتْ الدِّيَاتُ عَلَى الْعَوَاقِلِ ، فَلَمَّا نَقَلَهَا إلَى الدِّيوَانِ قَضَى بِهَا مِنْ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يُدَلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ لَجَازَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ ، وَبَيَانُ صِفَتِهِ فَقَدْرُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ يَخْتَلِفُ بِذُكُورَةِ الْمَقْتُولِ وَأُنُوثَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَا خِلَافَ ، فِي أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِهِ مِنْ الْإِبِلِ مِائَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ لِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ { دِيَةَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ } ، وَالتَّقْدِيرُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ يَكُونُ تَقْدِيرًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَأَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ الْفِضَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : عَشَرَةُ آلَافٍ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنُ سَبْعَةٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الدِّيَةُ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَيَكُونَ إجْمَاعًا مَعَ مَا أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْرُ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَقَرِ عِنْدَهُمَا مِائَتَا بَقَرَةٍ ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ ، ثُمَّ دِيَةُ الْخَطَأِ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ بِلَا خِلَافٍ ، عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ ، وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ ، وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ ، وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ } ، وَعِنْدَهُمَا قَدْرُ كُلِّ بَقَرَةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَقَدْرُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ ، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ .
وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَرْبَاعٌ ، عِنْدَهُمَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَثْلَاثٌ ، ثَلَاثُونَ حِقَّةً ،
وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً .
وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلِ عَامِهَا كُلِّهِ خِلْفَةٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَيِّدِنَا عُمَرَ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خِلْفَةً ، وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَتَى اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَجِبُ تَرْجِيحُ قَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ ، وَالتَّرْجِيحُ هَهُنَا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْقَبُولِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } ، وَفِي إيجَابِ الْحَوَامِلِ إيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَالثَّانِي : أَنَّ مَا قَالَهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَعْنًى مَوْهُومٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَإِنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَمْلِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلدَّاءِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ ، وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ : إنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مِيرَاثِهَا ، وَشَهَادَتِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ فِي دِيَتِهَا وَهَلْ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ ، وَالْكُفْرِ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : لَا يَخْتَلِفُ وَدِيَةُ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ
وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَالزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَخْتَلِفُ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ } وَلِأَنَّ الْأُنُوثَةَ لَمَّا أَثَّرَتْ فِي نُقْصَانِ الْبَدَلِ فَالْكُفْرُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ نَقِيصَةَ الْكُفْرِ فَوْقَ كُلِّ نَقِيصَةٍ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَوْلَ بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ ( وَرَوَيْنَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ { دِيَةَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ } ( وَرُوِيَ ) " أَنَّ { عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ } ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : قَضَى سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ كَمَالَ حَالِ الْقَتِيلِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَهِيَ الذُّكُورَةُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْعِصْمَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ ، وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ يُؤَثِّرُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ ، وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْقَاتِلِ ، ثُمَّ ( الدِّيَةُ ) الْوَاجِبَةُ عَلَى الْقَاتِلِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، وَنَوْعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كُلِّهِ ، وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ ، بَعْضَهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ إذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ ، وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَمَا لَا فَلَا ، فَلَا تَعْقِلُ الصُّلْحَ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ مَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ بَلْ بِعَقْدِ الصُّلْحِ ، وَلَا الْإِقْرَارَ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا بِالْقَتْلِ ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ ، حَتَّى لَوْ صَدَقُوا عَقَلُوا ، وَلَا الْعَبْدَ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الدَّفْعُ لَا الْفِدَاءُ .
وَالْفِدَاءُ يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ ، وَلَا الْعَمْدَ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فَلَمْ تَجِبْ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى طَرِيقِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " وَلَا عَبْدًا " أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مَوْلَاهُ ، وَهُوَ مَأْذُونٌ مَدْيُونٌ ، أَوْ الْمُكَاتَبُ لَا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةَ عَنْ عَبْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : عَقَلْتُ عَنْ فُلَانٍ إذَا كَانَ فُلَانٌ قَاتِلًا ، وَعَقَلْتُ فُلَانًا إذَا
كَانَ فُلَانٌ مَقْتُولًا .
كَذَا فَرَّقَ الْأَصْمَعِيُّ ثُمَّ الْوُجُوبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُّ الدِّيَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ تَجِبُ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً ، الْقَاتِلُ وَالْعَاقِلَةُ جَمِيعًا وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } ، وَمَعْنَاهُ فَلْيَتَحَرَّرْ ، وَلْيُودِ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ لَا لِلْعَاقِلَةِ دَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ .
وَأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْقَاتِلِ لَا مِنْ الْعَاقِلَةِ فَكَانَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ دِيَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ ، ثُمَّ دُخُولُ الْقَاتِلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ مَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَاتِلُ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ بَلْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ الْكُلَّ دُونَ الْقَاتِلِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ يَتَحَمَّلُ الْقَاتِلُ دُونَ الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا } وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَلِهَذَا لَمْ تَتَحَمَّلْ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ ، وَلَا مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ } ، وَكَذَا قَضَى سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَخْذٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ؟ ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا ، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا
يَقْتُلُ بِظَهْرِ عَشِيرَتِهِ فَكَانُوا كَالْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الْقَتْلِ ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ كَثِيرٌ فَإِلْزَامُ الْكُلَّ الْقَاتِلَ إجْحَافٌ بِهِ فَيُشَارَكُهُ الْعَاقِلَةُ فِي التَّحَمُّلِ تَخْفِيفًا ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ التَّخْفِيفَ ؛ لِأَنَّهُ خَاطِئٌ ، وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يَكْثُرُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ ، وَمَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ } فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْقَاتِلُ ، وَإِنَّا نَقُولُ نَعَمْ ، لَكِنْ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْجَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ .
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْعَاقِلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَفْسِيرِ الْعَاقِلَةِ مَنْ هُمْ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَةِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ ، وَإِمَّا إنْ كَانَ مُعْتَقًا ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ ، فَإِنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنْ النَّسَبِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَتْ الدِّيَاتُ عَلَى الْقَبَائِلِ فَلَمَّا وَضَعَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّوَاوِينَ جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الدَّوَاوِينِ ، فَإِنْ قِيلَ : { قَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ النَّسَبِ إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ } فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُخَالِفَتِهِ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَالْجَوَابُ لَوْ كَانَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَكَانَ يَجِبُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ وَكَانَ فِعْلُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَا يُظَنُّ مِنْ عُمُومِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُخَالَفَةُ فِعْلِهِ ؟ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ كَانَ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ ، وَإِذَا صَارَتْ النُّصْرَةُ فِي زَمَانِهِمْ الدِّيوَانَ نَقَلُوا الْعَقْلَ إلَى الدِّيوَانِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةَ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لِلتَّنَاصُرِ ، وَقَبْلَ وَضْعِ الدِّيوَانِ كَانَ التَّنَاصُرُ بِالْقَبِيلَةِ ، وَبَعْدَ الْوَضْعِ صَارَ
التَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ ، فَصَارَ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ دِيوَانِهِ .
وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالصَّبِيَّانِ ، وَالْمَجَانِينِ ، وَالرَّقِيقِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ صِلَةٌ ، وَتَبَرُّعٌ بِالْإِعَانَةِ ، وَالصِّبْيَانُ ، وَالْمَجَانِينُ ، وَالْمَمَالِيكُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُعْتَقًا أَوْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ ، وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ } ثُمَّ عَاقِلَةُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى قَبِيلَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ ، فَكَذَا عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ ، وَلِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِمَوْلَاهُ وَقَبِيلَتِهِ فَكَانُوا عَاقِلَتَهُ ، هَذَا إذَا كَانَ لِلْقَاتِلِ عَاقِلَةٌ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَاللَّقِيطِ ، وَالْحَرْبِيِّ أَوْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ الْمَالِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا الْأَخْذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ يُرَدُّ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَكَانِ التَّنَاصُرِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَانَ اسْتِنْصَارُهُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُهُمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ عَاقِلَتُهُ ( وَأَمَّا ) بَيَانُ مِقْدَارِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ ، فَلَا يَجُوزُ
التَّغْلِيظُ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ إذَا كَانَ فِي الْعَاقِلَةِ كَثْرَةٌ ، فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حَتَّى أَصَابَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ مِنْ النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ أَوْ لَا ، وَلَا يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ ، وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ جِنَايَةً وُجِدَتْ مِنْهُ ، وَضَمَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
وَتُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِ عَطَايَا إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَطِيَّةً ، فَإِنْ تَعَجَّلَ الْعَطَايَا الثَّلَاثَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ الْكُلُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ قَبِيلَتِهِ مِنْ النَّسَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الدِّيَةَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا مُؤَجَّلًا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَجِبُ مُؤَجَّلًا فِي مَالِهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَالْعَمْدِ الَّذِي دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ ، وَهُوَ الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا ، قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إلَّا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَدِيَةُ الْعَمْدِ فِي مَالِ الْأَبِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : دِيَةُ الدَّمِ كَدِيَةِ الْعَمْدِ تَجِبُ حَالًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ حَالًا فَتَجِبُ الدِّيَةَ حَالًا ، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ هُوَ الْأَصْلُ ، إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ يَثْبُتُ مَعْلُولًا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ حَتَّى تَحْمِلَ عَنْهُ الْعَاقِلَة .
وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ .
(
وَلَنَا ) أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَطَأِ لَكِنَّ غَيْرَهُ مُلْحَقٌ بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ ، وَالْوَصْفِ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْرَ الدِّيَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَبَيَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ الْأَجَلُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ فَصَارَ الْأَجَلُ وَصْفًا لِكُلِّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ ، وَقَوْلُهُ : دِيَةُ الْخَطَأِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ ، قُلْنَا : وَقَدْ غَلَّظْنَا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِإِيجَابِ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ ، وَالثَّانِي : بِالْإِيجَابِ فِي مَالِهِ ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الدِّيَةِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ أَوْ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ فَذَلِكَ الْجُزْءُ تَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، كَالْعَشَرَةِ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَعَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَتَحَمَّلُ عُشْرَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا وَأَحَدُهُمْ أَبُوهُ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي مَالِهِمْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْ دِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَكَانَ تَأْجِيلُ الدِّيَةِ تَأْجِيلًا لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا إذْ الْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ فِي وَصْفِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ يَجِبُ فِي مَالِهِ حَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَأَجَّلُ إلَّا
بِالشَّرْطِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَجِبُ الْفِدَاءُ حَالًا ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ لَمْ يَجِبْ بِالْقَتْلِ بَدَلًا مِنْ الْقَتِيلِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ دَفْعِ الْعَبْدِ ، وَالْعَبْدُ لَوْ دَفَعَ يَدْفَعُ حَالًا ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا ، وَالْمَقْتُولُ حُرًّا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْعَبْدُ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ ( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَ عَبْدًا لِقَاتِلٍ ، فَإِنْ كَانَ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ فَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْقَتْلِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ الْقِيمَةِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَتَحَمَّلُهُ ، وَفِي بَيَان كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْعَبْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ .
( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ ، فَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجِبُ عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا .
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ وَمَالٌ ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِيهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ ، وَبِالْقَتْلِ فَوْتُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا ، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا وَإِهْدَارِ الْآخَرِ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ ، فَادَّعَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّرْجِيحَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْوَاجِبَ مَالٌ ، وَمُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنْ مُقَابَلَةِ الْمَالِ
بِالْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَالِ وَالْآدَمِيِّ ، فَكَانَ إيجَابُهُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ ، فَكَانَ أَوْلَى .
وَالثَّانِي : أَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لِلْعَبْدِ ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ .
وَفِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ جَبْرُ حَقِّ الْمُفَوَّتِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
( وَلَنَا ) النَّصُّ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولُ ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ ، وَالدِّيَةُ ضَمَانُ الدَّمِ ، وَضَمَانُ الدَّمِ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَأَمَّا ) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ يَصِحُّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى ، لَوْلَا أَنَّ التَّرْجِيحَ لِمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ لَمَا صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارُهُ إهْدَارًا لِمَالِ الْمَوْلَى قَصْدًا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْآدَمِيَّةَ فِيهِ أَصْلٌ ، وَالْمَالِيَّةَ عَارِضٌ ، وَتَبَعٌ ، وَالْعَارِضُ لَا يُعَارِضُ وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ ، وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ الْمَتْبُوعَ ، وَدَلِيلُ أَصَالَةِ الْآدَمِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَانَ خُلِقَ خَلْقًا آدَمِيًّا ثُمَّ ثَبَتَ فِيهِ وَصْفُ الْمَالِيَّةِ بِعَارِضِ الرِّقِّ ، وَالثَّانِي : أَنَّ قِيَامَ الْمَالِيَّةِ فِيهِ بِالْآدَمِيَّةِ وُجُودًا وَبَقَاءً لَا عَلَى الْقَلْبِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ الْمَالَ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ ، وَالنَّفْسُ مَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْمَالِ ، فَكَانَتْ الْآدَمِيَّةُ فِيهِ أَصْلًا وُجُودًا وَبَقَاءً وَعَرَضًا ، وَالثَّانِي : أَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ لِغَيْرِهِ ، وَحُرْمَةَ
الْآدَمِيِّ لِعَيْنِهِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ النَّفْسِيَّةِ ، وَإِهْدَارُ الْمَالِيَّةِ أَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ ، إلَّا أَنَّهُ نَقَصَتْ دِيَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ لِكَوْنِ الْكُفْرِ مُنْقِصًا فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، وَتَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْعَشَرَةِ ثَبَتَ تَوْفِيقًا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُنْقَصُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ ، أَوْ لِأَنَّ هَذَا أَدْنَى مَالٍ لَهُ فِي خَطَرِ الشَّرْعِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ قَوْلُهُ : " الْمَالُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْآدَمِيِّ " قُلْنَا : نَعَمْ ، لَكِنْ لِشَرَفِ الْآدَمِيِّ وَجْهُ الْمَالِ لَمْ يُجْعَلْ مِثْلًا لَهُ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ مَا هُوَ مِثْلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهُوَ النَّفْسُ ، فَأَمَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ الْإِهْدَارِ ، وَقَوْلُهُ : " الْجَبْرُ فِي الْمَالِ أَبْلَغُ " قُلْنَا : بَلَى ، لَكِنَّ فِيهِ إهْدَارَ الْآدَمِيِّ ، وَمُقَابَلَةُ الْجَابِرِ بِالْآدَمِيِّ الْفَائِتِ أَوْلَى مِنْ الْمُقَابَلَةِ بِالْمَالِ الْهَالِكِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَبْرُ ثَمَّةَ أَكْثَرَ لَكِنْ فِيهِ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ لِغَيْرِهِ ، وَفِيمَا قُلْنَا الْجَبْرُ أَقَلُّ لَكِنَّ فِيهِ اعْتِبَارُ جَانِبِ نَفْسِ الْآدَمِيِّ ، وَهُوَ الْعَبْدُ ، وَحُرْمَةُ الْآدَمِيِّ لَعَيْنِهِ ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى .
وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَمَةً فَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةُ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ ، فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَبْلُغُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ .
وَالْكَلَامُ فِي الْأَمَةِ كَالْكَلَامِ فِي الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ كَمَا نَقَصَتْ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ دِيَةُ الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الْأَمَةِ فَيَنْقُصُ فِي الْعَبْدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ تَزِيدُ نِصْفُ قِيمَتُهُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ أَنَّهُ تَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ لَيْسَ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ ، بَلْ هُوَ بَعْضُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْهُ نِصْفٌ ، فَيَجِبُ نِصْفُ مَا يَجِبُ فِي الْكُلِّ ، وَالْوَاجِبُ فِي الْأُنْثَى لَيْسَ بَعْضَ دِيَةِ الذَّكَرِ بَلْ هُوَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي نَفْسِهَا ، لَكِنَّهَا دِيَةُ الْأُنْثَى .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَتَحَمَّلُهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُ ، وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا : أَنَّ عِنْدَهُمَا ضَمَانَ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ ، وَضَمَانَ النَّفْسِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ .
وَكَدِيَةِ الْحُرِّ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَضَمَانَ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ بَلْ يَكُونُ فِي مَالِ الْمُتْلِفِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ أَنْ يُقَدَّرَ عَشَرَةَ آلَافٍ تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِيَّةِ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَا تَعْقِلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ .
( وَأَمَّا ) كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا ، وَقَدْرُ مَا يَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ذَكَرْنَا فِي دِيَةِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُدَبَّرَ إنْسَانٍ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَ الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ هَدْرٌ .
وَكَذَا لَوْ كَانَ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبَهُ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لَازِمَةٌ ، وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ حُرٌّ فَكَانَ كَسْبُهُ ، وَأَرْشُهُ لَهُ فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ ، وَلَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ بَلْ تَكُونُ عَلَى مَالِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا } ، وَالْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ؛ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ جِنَايَتَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ .
وَالْعَقْدُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ ، وَلِهَذَا لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الِاعْتِرَافَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَى رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ ، وَعَلَى مَالِهِ لَازِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى ، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِيهِ .
وَكَذَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِرَقَبَتِهِ ، وَبِالْقَتْلِ أَبْطَلَ مَحَلَّ حَقِّهِمْ فَتَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ بِالنَّصِّ ، وَتَكُونُ حَالَّةً ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافِ الْمَالِ .
هَذَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا فَالْحُرُّ الْمَقْتُولُ لَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ يَكُونَ وَلِيَ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا ، فَإِنْ كَانَ قُلْنَا : يَدْفَعُ إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ ، وَبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ ، وَبَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ ، وَبَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَشَرْطِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ ، وَبَيَانِ صِفَةِ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهَذِهِ الْجِنَايَةُ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَعِلْمِ الْقَاضِي ، وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مَا كَانَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ إقْرَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَوْلَاهُ ، فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى صَحَّ إقْرَارَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْعَتَاقِ أَنَّهُ كَانَ جَنَى فِي حَالِ الرِّقِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى ، أَلَّا يُرَى لَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ دَفْعُ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُهَا تَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَيُسْتَوْفَى الْأَرْشُ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْفَضْلُ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْأَرْشِ يُتْبَعُ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعَتَاقِ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ ،
وَيُؤَدِّيَ الْأَرْشَ مِنْ مَالٍ آخَرَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ أَوْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ ، وَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ ، وَلَا عَاقِلَةَ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ ، فَتَجِبُ فِي رَقَبَتِهِ ، يُبَاعُ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الْأَمْوَالِ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِنَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ ، وَدَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ فَصَيْرُورَةُ الْعَبْدِ وَاجِبُ الدَّفْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ ، كَثُرَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوْ قَلَّتْ ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا دَفَعَ إلَيْهِ ، وَيَصِيرُ كُلُّهُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ، وَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ .
إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ دَفْعُ الْعَبْدِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : " حُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ تَخَيُّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ ، وَالْفِدَاءِ " لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَعَيَّنَ الْفِدَاءُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ ، وَلَمْ
يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَصْلًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُخَيَّرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْآخَرُ ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلُّ مِنْ الدِّيَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا الدَّفْعُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ حُكْمُهُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَثِيرِهَا فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَهُ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ التَّعَلُّقَ فَالْحَقُّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ ، وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ قَدْرَ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ ، فَإِنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ ، وَغُرِّمَ الْجِنَايَاتِ بِكَمَالِ أُرُوشِهَا ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ مِنْ الْعَبْدِ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ وَيَفْدِي بَعْضَ الْجِنَايَاتِ لَهُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَتِيلُ وَاحِدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَأَرَادَ الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا ، وَالْفِدَاءَ إلَى الْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ وَاحِدَةٌ ، وَلَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وُجُوبُ الْفِدَاءِ عَلَى التَّعْيِين ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ مُتَعَدِّدَةٌ ، وَلَهُ خِيَارُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالدَّفْعُ فِي الْبَعْضِ وَالْفِدَاءُ فِي الْبَعْضِ لَا يَكُونُ جَمَعَا بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا ، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَثَلَاثًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِالْعَبْدِ أَثْلَاثًا ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ جِنَايَةٍ بِأَرْشِهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا شَجَّ إنْسَانًا شِجَاجًا مُخْتَلِفَةً أَنَّهُ إنْ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِمْ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ الْكُلِّ بِأَرْشِهَا .
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا ، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ ، وَالْفِدَاءِ ، وَلَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الدَّفْعِ إلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُهُ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ ، فَإِنْ فَدَى بِالدِّيَةِ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهُرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيُبَاعُ ، إلَّا أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ ، وَيَقْضِيَ دَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ يُبَاعُ لِأَجْلِ الْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ ، وَإِنَّمَا بُدِئَ بِالدَّفْعِ لَا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ : حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ ، وَحَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِالْبَيْعِ لَهُمْ .
وَلَوْ بُدِئَ بِالدَّيْنِ فَبَيْعَ بِهِ لَبَطُلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِي الدَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ يَصِيرُ مِلْكًا لَلْمُشْتَرِي ، لِذَلِكَ بُدِئَ بِالدَّفْعِ ، وَفَائِدَةُ الدَّفْعِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ هِيَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ حَقُّ اسْتِخْلَاصِ الْعَبْدِ بِالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا فِي الْأَعْيَانِ ، ثُمَّ إذَا بِيعَ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ كَانَ الْفَضْلُ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ عَلَى مِلْكِهِمْ لِصَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لَهُمْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالدِّينِ يَتَأَخَّرُ مَا بَقِيَ إلَى مَا بَعْدِ الْعَتَاقِ ، كَمَا لَوْ بِيعَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ ، وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَفْعِ الْعَبْدِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شَيْئًا اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ تَمْلِيكٌ مِنْهُمْ بَعْدَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْهُمْ لَضَمِنَ ، كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا
فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ الْحَقَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَمَنْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ ، وَلَوْ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ أَوَّلًا فَبَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَلَزِمَهُ الْأَرْشُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالَمٍ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالَمًا بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ الْعَبْدَ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَبَاعَهُ بِالدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ أَوْ بِعِلْمِهِ ثُمَّ حَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ وَلَا فَضْلَ فِي الثَّمَنِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ، وَسَقَطَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى بِغَيْرِ رِضَاهُ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَصْنَعُهُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى فَسْخِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ لَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْبَيْعِ ثَانِيًا ، فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْفَسْخِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ ، وَلَوْ مَاتَ لَبَطَلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ أَصْلًا ، كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْجَانِيَ قَبْلَ الدَّفْعِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا يَأْخُذُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ ، وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إنْ كَانَ وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْعَبْدِ فَتَقُومُ مَقَامَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمَوْلَى بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالْفِدَاءِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْأَرْشِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الْأَرْشِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ فَلِلنَّاسِ رَغَائِبُ فِي الْأَعْيَانِ ، وَكَذَلِكَ قَتَلَهُ عَبْدُ أَجْنَبِيٍّ فَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، وَفَدَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ أَنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ دَفَعَ الْقَاتِلَ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ قَامَ مَقَامَ الْمَقْتُولِ لَحْمًا وَدَمًا ، فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ آخَرُ لِمَوْلَاهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي شَيْئَيْنِ فِي الْعَبْدِ الْقَاتِلِ : بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ جَعَلَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ ، فَصَارَ كَأَنَّ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ ، وَهُنَاكَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ ، كَذَا هَهُنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ رَجُلًا خَطَأً ، وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ هَذَا الْعَبْدَ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ دَفْعِهَا وَفِدَائِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْأَمَةَ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى بِالدِّيَةِ وَقِيمَةِ الْأَمَةِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ فِيهِ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأَمَةِ بِقِيمَةِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهَا كَالْجِنَايَةِ عَلَى أَمَةِ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَمَةِ أَلْفًا كَانَ
الْعَبْدُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا : سَهْمٌ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأَمَةِ ، وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْعَبْدِ ، فَإِنْ قَطَعَ عَبْدٌ لِأَجْنَبِيٍّ يَدَ الْعَبْدِ الْجَانِي أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أَوْ الْفَاقِئِ أَوْ الْجَارِحِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ أَوْ فَدَاهُ بِالْأَرْشِ فَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ ، وَالْفِدَاءِ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ الْمَقْطُوعَ مَعَ الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أَوْ مَعَ أَرْشِ يَدِ عَبْدِهِ الْمَقْطُوعِ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَى عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَقْطُوعَ كَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَأَرْشُ يَدِهِ بَدَلُ جُزْئِهِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ قَائِمٌ مَقَامَ يَدِهِ ، فَكَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ ، إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ فَيُنْقَلُ الْحَقُّ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْأَرْشِ ، وَلَوْ كَسَبَ الْعَبْدُ الْجَانِي كَسْبًا أَوْ كَانَ الْجَانِي أَمَةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ لَمْ يَدْفَعْ الْكَسْبَ وَلَا الْوَلَدَ ، بِخِلَافِ الْأَرْشِ أَنَّهُ يُدْفَعُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ كَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ وَالْوَلَدِ ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ قَبْلَ جِنَايَتِهِ .
وَأَنَّ الْأَرْشَ سَالِمٌ لَهُ ، وَادَّعَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا ، وَأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الدَّفْعِ مَعَ الْعَبْدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مِلْكُ الْمَوْلَى كَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ ، فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ تَمْلِيكِ مَالٍ هُوَ مِلْكُهُ مِنْهُ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ عَبْدٍ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ ، وَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى
اخْتَارَ الْفِدَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ نَاقِصًا ، وَسَلَّمَ لَهُ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ كَانَ عِنْدَ الْجِنَايَةِ نَاقِصًا بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ مَعَ أَرْشِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ مَعَ الْعَبْدِ .
وَلَوْ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا آخَرَ خَطَأً فَأَرْشُ يَدِهِ يُسَلَّمُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَيَسْلَمُ لَهُ ، فَأَمَّا حَقُّ الثَّانِي فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْجُزْءِ لِانْعِدَامِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يُدْفَعُ الْعَبْدُ فَيَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ ، وَثَمَانِينَ جُزْءًا ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقُولُ : حَقُّ وَلِيِّ كُلِّ جِنَايَةٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ ، وَقَدْ اسْتَوْفَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ سَهْمًا ، حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عِشْرِينَ ، وَقَدْ أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ ، أَوْ بَقِيَ حَقُّهُ فِي تِسْعَةِ عَشَرَ سَهْمًا وَلَمْ يَأْخُذْ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا ، فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ .
وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْشُهَا .
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ بِأَرْشِهَا ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا : سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْمُوضِحَةِ ، وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ ، وَصَاحِبُ الْمُوضِحَةِ حَقُّهُ فِي خَمْسِمِائَةٍ .
وَحَقُّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ ، وَمَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّرِكَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ الْأَصْلِ ،
وَإِذَا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَتْ فِي الصِّفَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً ، وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَانِ ثُمَّ عَمِّي بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ الشَّجَّةِ ثُمَّ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ .
وَمَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ النُّقْصَانِ فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً فَفَدَاهُ الْمَوْلَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ ، وَالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهَّرَ الْعَبْدَ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ ، فَإِذَا جَنَى بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذِهِ جِنَايَةٌ مُبْتَدَأَةٌ ، فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا ، وَهُوَ الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَوْ يَفْدِي ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْدِ لِلْأُولَى حَتَّى جَنَى ثَانِيًا فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا أَوْ يَفْدِي ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِهِمَا فَقَتَلَ عَبْدُهُ رَجُلًا آخَرَ ثُمَّ حَضَرُوا ، يُقَالُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ .
وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الَّذِي لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ .
( أَمَّا ) وُجُوبُ دَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِيَ أَوْ الْفِدَاءِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ ، فَيُخَيَّرُ فِي جِنَايَتِهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ .
( وَأَمَّا ) وُجُوبُ رَدِّ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي النِّصْفِ بَيْنَ الدَّفْعِ
إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كَانَ كُلُّ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَوَقْتَ وُجُودِ الثَّانِيَةِ كَانَ نِصْفُهُ عَلَى مِلْكِهِ فَيُوجَبُ الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ دَفَعَ دَفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ ، وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِنِصْفٍ ، فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَقَدْ كَانَ ، وَصَلَ النِّصْفُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، وَوَصَلَ إلَيْهِ بِالدَّفْعِ مِنْ الْمَوْلَى الرُّبْعُ فَسَلِمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ ، وَسَلِمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الَّذِي لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ الرُّبْعُ ، فَصَارَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا : ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ الرُّبْعُ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ كُلَّ الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ كَانَ هُوَ مُضْطَرًّا فِي الدَّفْعِ فَلَا يَضْمَنُ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا يَصْنَعُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ ، وَيُضَمَّنُ الْقَابِضُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْقَبْضُ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الضَّمَانِ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَ الْعَبْدَ فَارِغًا ، وَرَدَّهُ مَشْغُولًا ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الَّذِي لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ ؛ لِيَسْلَمَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ ، رُبْعُهُ لَحْمٌ وَدَمٌ ،
وَرُبْعُهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : الدَّفْعُ مِنْ الْمَوْلَى ، وَالْقَبْضُ مِنْ الْقَابِضِ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقَابِضِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلَيْنِ خَطَأً فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِ وَلِيَّيْ الْقَتِيلَيْنِ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ وَاجْتَمَعُوا .
فَإِنَّ الْقَابِضَ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِي نِصْفَ الْجِنَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى : ادْفَعْ النِّصْفَ الْبَاقِي إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ ، أَوْ افْدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ ، وَبَقِيَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ ، وَيَفْدِي لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِكَمَالِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا .
فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِمَا كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا ، فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ، وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ ، فَيَصِيرُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَثُلُثَهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ ، وَبَقِيَ مِنْ حَقِّ الثَّانِي السُّدْسُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ثُلُثَا النِّصْفِ ، وَهُوَ ثُلُثُ كُلِّ الْعَبْدِ ، فَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ السُّدُسُ ، فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ضَمَّنَ الْقَابِضُ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ .
فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْقَابِضُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ إنْسَانًا ، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَدَفَعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ إلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فَقَتَلَ فِي يَدِهِ قَتِيلًا يُقَالُ لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ ادْفَعْ ثُلُثَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَوْ افْدِهِ بِالثُّلُثِ ، وَرُدَّ الثُّلُثَيْنِ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الثُّلُثَ بِحَقِّ مِلْكِهِ ، وَأَخَذَ الثُّلُثَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى ، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى
لِلْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ ، وَلِلثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ إلَيْهِمَا مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا فَيَتَضَارَبَانِ ، يَضْرِبُ الْأَوَّلُ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ ، وَالثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ سِتَّةِ آلَافٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ ، فَاجْعَلْ كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا وَسِتَّمِائَةٍ ، فَيَصِيرُ ثُلُثَا الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةِ عَشَرَ سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ ، فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا ، وَقَدْ أَخَذَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي مِنْهُ ثُلُثَهُ ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ ، وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ ، وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي سِتَّةٌ ، وَثُلُثَانِ ، ثُمَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ وَهُوَ الْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ بِسِتَّةِ أَجْزَاءٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ جُزْءًا ، وَثُلُثَيْ جُزْءٍ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ حَقَّهُ ، وَقَدْ فَاتَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْقَابِضِ ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ فَيَضْمَنُهُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ ، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي الْحِسَابِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا ، وَضَرَبَ أَحَدَهُمَا بِالدِّيَةِ ، وَالْآخَرَ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ يُجْعَلُ كُلُّ ثُلُثٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ كُلُّ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، وَثُلُثَا الدِّيَةِ سَهْمَيْنِ ، فَيَصِيرُ ثُلُثَا الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ ، وَيَصِيرُ الثُّلُثُ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ وَنِصْفَ ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْعَبْدِ عَلَى سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ ، فَوَقَعَ فِيهِ كَسْرٌ فَيُضَعَّفُ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ ، فَالثُّلُثُ مِنْهُ خَمْسَةٌ ، وَقَدْ دُفِعَ إلَى الْآخَرِ ، وَثُلُثَا الْعَبْدِ عَشَرَةٌ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا فَيُضْرَبُ الْأَوَّلُ بِثَلَاثَةِ
أَخْمَاسِهِ ، وَهُوَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ، وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الْقَابِضِ بِخُمُسِ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَتَلَتْ أَمَةٌ رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا فَقَتَلَتْ الْبِنْتُ رَجُلًا ثُمَّ إنَّ الْبِنْتَ قَتَلَتْ أُمَّهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ دَفْعِ الْبِنْتِ إلَى وَلِيَّيْ الْجِنَايَتَيْنِ ، وَبَيْنَ الْفِدَاءِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى ، لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ ، وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ حَقُّ الدَّفْعِ أُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْأَجْنَبِيِّ ، فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا جَنَتْ عَلَى جَارِيَةٍ أُخْرَى لِأَجْنَبِيٍّ ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا ، كُلُّ أَلْفِ دِرْهَمٍ سَهْمٌ ، سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ ، وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ فَقَأَتْ عَيْنَ الْأُمِّ وَلَمْ تَقْتُلْهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ يَخْتَارَ دَفْعَهُمَا جَمِيعًا .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَهُمَا جَمِيعًا .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ الْبِنْتِ وَدَفْعَ الْأُمِّ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ الْأُمِّ وَدَفْعَ الْبِنْتِ ، فَإِنْ اخْتَارَ دَفَعَهُمَا جَمِيعًا يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَيَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ وَإِلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ .
وَكَانَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا ، يَضْرِبُ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ فِيهَا بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ الْبِنْتِ ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا فَقَأَتْ إحْدَى عَيْنَيْهَا ، وَالْعَيْنُ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ ، فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُمَا جَمِيعًا فَدَى الْكُلَّ فَرِيقٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْشُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ ، وَسَقَطَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَقَدْ طَهُرَتَا عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ ، وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهِمَا ، فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهِمَا جِنَايَةُ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى مِلْكِهِ ، فَتَكُونُ هَدْرًا ، وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْأُمِّ وَفِدَاءَ الْبِنْتِ دَفَعَ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ ، ثُمَّ يَفْدِيَ الْبِنْتَ ، يَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ ، وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْبِنْتِ وَفِدَاءَ الْأُمِّ يَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ ، وَيَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ ، وَبَطَلَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ طَهُرَتْ بِالْفِدَاءِ ، وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهَا فَصَارَ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى أُمِّهَا جِنَايَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى مِلْكِهِ ، فَتَكُونُ هَدْرًا ، وَلَوْ أَنَّ الْأُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَأَتْ عَيْنَ الْبِنْتِ قَبْلَ أَنْ تُدْفَعَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يُخَيَّرُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَيَبْدَأُ بِالْبِنْتِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَدَأَتْ بِالْجِنَايَةِ ، فَيَدْفَعُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ ، فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا ، فَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
ثُمَّ يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَيْهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا ، فَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَرْشِ الْبِنْتِ ، وَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنْتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنَتْ جِنَايَتَيْنِ فَتُدْفَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِجِنَايَتِهَا طُعِنَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ، وَقِيلَ يَنْبَغِي إذَا دَفَعَ الْبِنْتَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَضْرِبَ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ ، وَأَوْلِيَاءُ
قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ بَعْضُ الْأُمِّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْرِبُوا بِتَمَامِ الدِّيَةِ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ حِينَ دُفِعَتْ كَانَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ فِي تَمَامِ الدِّيَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَضْرِبُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ لَا عِبْرَةَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ صَحَّتْ وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَمَا قَالُوا فِي رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ وَلِآخَرَ أَلْفَانِ ، وَتَرَك أَلْفًا فَاقْتَسَمَاهَا أَثْلَاثًا ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَ الْمَيِّتَ عَنْ أَلْفٍ : إنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَا تُنْتَقَضُ ، كَذَا هَذَا ، وَلَوْ جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً ثُمَّ ، وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَطَعَ وَلَدُهَا يَدَهَا يَدْفَعُ الْوَلَدَ مَعَ الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ كَأَنَّ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَطَعَ يَدَهَا ، وَدُفِعَ بِالْجِنَايَةِ ، وَهُنَاكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ مَعَ الْجَارِيَةِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَام يَدِ الْجَارِيَةِ ، كَذَا هَذَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَبَيَانُ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ ، فَنَقُولُ : مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ نَوْعَانِ : نَصٌّ وَدَلَالَةٌ .
( أَمَّا ) النَّصُّ فَهُوَ الصَّرِيحُ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : اخْتَرْتُ الْفِدَاءَ ، أَوْ آثَرْتُهُ ، أَوْ رَضِيتُ بِهِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَسَارُ الْمَوْلَى لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ عِنْدَهُ ، حَتَّى لَوْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فَقِيرٌ مُعْسِرٌ صَحَّ اخْتِيَارُهُ ، وَصَارَتْ الدِّيَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ ( وَعِنْدَهُمَا ) يَسَارُ الْمَوْلَى شَرْطُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ ، وَلَا يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا إلَّا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ ، وَيُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَدْفَعَ أَوْ تَفْدِيَ حَالًا ، كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الِاخْتِيَارِ .
وَقَالَ : إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الدِّيَةُ تَكُونُ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ يَبِيعُهُ فِيهَا الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هُوَ لُزُومُ الدَّفْعِ ، وَعِنْدَ الِاخْتِيَارِ يَنْتَقِلُ إلَى الذِّمَّةِ فَيَتَقَيَّدُ الِاخْتِيَارُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَلَا سَلَامَةَ مَعَ الْإِعْسَارِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهَا فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا قَالَا ، وَهُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ لَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لَهُ الْفِدَاءَ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ ، وَالْإِعْسَارُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ الِاخْتِيَارُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ السَّلَامَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
( وَأَمَّا ) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمَوْلَى فِي