كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
الْمَحَلِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ : فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَتِهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَدَاءُ الضَّمَانِ إلَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي طَرِيقِ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهُ ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي فَأَدَّى الْقِيمَةَ إلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الضَّمَانَ خَلَفٌ عَنْ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، ثُمَّ لَوْ رَدَّ الْعَيْنَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ ، فَكَذَا إذَا رَدَّ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وَهُوَ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ : أَبْرَأْتُكَ عَنْ الضَّمَانِ ، أَوْ أَسْقَطْتُهُ عَنْكَ ، أَوْ وَهَبْتُهُ مِنْكَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ فَيَسْقُطُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ فَيَبْرَأُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا إبْرَاءٌ لِلْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَبْرَأُ إمَّا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ، أَوْ بِشَرِيطَةِ رِضَا مَنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ ، أَوْ الْقَضَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا .
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ
اللَّهُ : لَا يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كَمَا كَانَتْ ، وَإِذَا هَلَكَتْ ضَمِنَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْعَيْنَ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ أَجَّلَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَدَلِ الْغَصْبِ صَحَّ التَّأْجِيلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالًا بِالْقَرْضِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِعَارَةِ لِمَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ ، وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَوَارِيّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَيَلْزَمُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ لُزُومُ التَّأْجِيلِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الدَّيْنُ ، إلَّا أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي بَابِ الْقَرْضِ لِضَرُورَةِ الْإِعَارَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَيَلْزَمُ عَلَى الْأَصْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُون فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ سَبَبٌ أَمْ لَا ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلثُّبُوتِ ابْتِدَاءً ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَثْبُتُ أَصْلًا ، حَتَّى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عَبْدًا وَاكْتَسَبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ مِلْكٌ لِلْمَالِكِ ، وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إلَى الْمَالِكِ ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْتَظِرْ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ ، وَلَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ نَفْسِهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَرَضِيَ بِهَا ، أَوْ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ ، أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ ، أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِعَيْنِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا يَعُودُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ ، وَالْغَصْبُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ ، وَالْمِلْكُ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِالْمَحْظُورِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْيَدَ الْفَائِتَةَ ، فَلَا تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ ، كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ يَزُولُ عَنْ الضَّمَانِ ، فَلَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْمَضْمُونِ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِدَاءُ بِالْمِثْلِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ وَأَنَّهُ بَدَلُ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ وَمَلَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ
لَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ الْمَغْصُوبِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْ الْمَغْصُوبِ فَالْغَاصِبُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لَلْمِلْكِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ ، فَيَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِمَا ، وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا حَظْرَ فِيهِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ التَّمَلُّكَ ابْتِدَاءً ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ وَبِيَمِينِهِ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْمَأْخُوذِ وَتَرَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَأْخُوذَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بَعْضُ بَدَلِ الْعَيْنِ لَا كُلُّهُ ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ بِكَمَالِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَبْدِ ، فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ ، حَتَّى يَأْخُذَ الْقِيمَةَ .
وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَبْلَ رَدِّ الْقِيمَةِ لَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ فَضْلَ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى مَا أَخَذَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى الْقِيمَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ مَا قَالَ الْغَاصِبُ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا فَصَّلَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِزَوَالِ
مِلْكِهِ بِهَذَا الْبَدَلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَثْبَتَ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ التَّضْمِينِ ، وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَهُ ، كَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ : أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَفْسَخُ الشَّكُّ .
( وَأَمَّا ) وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ : فَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الضَّمَانِ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْغَصْبِ .
فَكَذَا فِي الْمَضْمُونِ ، فَيَظْهَرُ فِي الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ وَالرِّبْحِ .
وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ فَمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الضَّمَانِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمَغْصُوبُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ عِنْدَهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ لَا يَخْتَارَ الضَّمَانَ ، حَتَّى يَهْلَكَ الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ هَلَاكِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَيُخَاصِمُ الْغَاصِبَ فِي الْقِيمَةِ لَهُ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فِي الضَّمَانِ وَالْمَضْمُونِ جَمِيعًا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الصُّلْحُ عَنْ الْمَغْصُوبِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ .
( وَوَجْهُ ) الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الْهَلَاكِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ مَالٌ مُقَدَّرٌ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ رِبًا ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ الْوُجُوبُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ عِنْدَهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الِاخْتِيَارُ ، كَانَ الصُّلْحُ تَقْدِيرًا لِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ هَذَا الْقَدْر ، وَتَمْلِيكًا لِلْمَغْصُوبِ بِهِ ، كَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ الْغَاصِبِ بِهِ ، فَجَازَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) صِفَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ : فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لَهُ
يَظْهَرُ فِي حَقِّ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ ، أَوْ وَهَبَهُ ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَنْفُذُ ، كَمَا تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ بِنَفْسِهِ ، أَوْ يُطْعِمَهُ غَيْرَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ فَضْلٌ هَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانٌ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَاصِبِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَتَوْقِيفِ الْحِلِّ عَلَى رِضَا غَيْرِ الْمَالِكِ ، كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ ، وَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا هُوَ مَضْمُونٌ وَمَمْلُوكٌ ، وَرِبْحُ مَا هُوَ مَضْمُونٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَطِيبُ لَهُ عِنْدَهُ لِمَا نَذْكُرُ ، فَرِبْحُ الْمَمْلُوكِ الْمَضْمُونِ أَوْلَى .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَضَافَهُ قَوْمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْضُغُهُ وَلَا يُسِيغُهُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَقَالُوا : هَذِهِ الشَّاةُ لِجَارٍ لَنَا ذَبَحْنَاهَا لِنُرْضِيَهُ بِثَمَنِهَا ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى ، أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يُطْعِمُوهَا الْأُسَارَى } ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا أَطْلَقَ لِأَصْحَابِهِ
الِانْتِفَاعَ بِهَا ، وَلَوْ كَانَ حَلَالًا طَيِّبًا لَأَطْلَقَ مَعَ خَصَاصَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَى الْأَكْلِ ، وَلِأَنَّ الطَّيِّبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ .
وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ، وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ مِنْ وَجْهٍ ، فَكَانَ فِي وُجُودِهِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَالطَّيِّبُ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ حَصَلَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ ، أَوْ وَقَعَ مَحْظُورًا بِابْتِدَائِهِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ خُبْثٍ ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ يُؤَدِّي إلَى تَسْلِيطِ السُّفَهَاءِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَفَتْحِ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الظَّلَمَةِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالدَّقِيقِ ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَلَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرْعَهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَظَاهِرُ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالطَّحْنِ فَقَالَ فِي الطَّحْنِ مِثْلَ قَوْلِهِمَا : أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَمْ تَهْلَكْ بِالطَّحْنِ ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا مِنْ التَّرْكِيبِ إلَى التَّفْرِيقِ ، فَكَأَنَّ عَيْنَ الْحِنْطَةِ قَائِمَةٌ ، فَكَانَ حَقُّ الْمَالِكِ فِيهَا قَائِمًا خِلَافَ الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلَكُ بِالزِّرَاعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَغِيبُ فِي الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَالِكِ فِيهِ حَقٌّ ، فَلَمْ يُكْرَهْ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ
قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ غَصَبَ نَوًى فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا زَرَعَهَا .
وَقَالَ فِي الْوَدِيِّ إذَا غَرَسَهُ فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ ؛ لِأَنَّ النَّوَى يَعْفَنُ وَيَهْلَكُ ، وَالْوَدِيُّ يَزِيدُ فِي نَفْسِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا فَشَوَاهَا أَنَّهُ لَا يَسَعُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَا يُطْعِمَ أَحَدًا ، حَتَّى يَضْمَنَ الْقِيمَةَ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا غَائِبًا ، أَوْ حَاضِرًا لَا يَرْضَى بِالضَّمَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهَا ، وَإِذَا دَفَعَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ كَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْحَاكِمُ ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ ، بَلْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِحِلِّهِ يَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَيَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ .
فَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مُفَسَّرٌ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ : حَتَّى يُرْضِيَهُ عَلَى الْإِرْضَاءِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ ، وَرِضَاهُ لَا عَلَى الْإِرْضَاءِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ ، وَيَحِلُّ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ لَا ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا ، وَهُوَ .
قِيَاسُ .
قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الشَّاةِ الْمَشْوِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَيَأْكُلُهَا وَيُطْعِمُهَا مَنْ شَاءَ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَمْ لَا ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُضَمِّنُهُ ، إلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ ، فَكَانَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلضَّمَانِ وَرِضًا بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ
الْغَلَّةُ أَنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَالْغَلَّةَ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ طَيِّبَةٌ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ وَقَعَ إتْلَافًا ، فَيَضْمَنُ قَدْرَ مَا أَتْلَفَ وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ الْمَضْمُونِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ بِرِبْحٍ وَالنَّهْيُ وَقَعَ عَنْ الرِّبْحِ .
( وَأَمَّا ) الْغَلَّةُ فَلِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمَالِكِ ، وَهِيَ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْمَنَافِعِ ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا .
( وَأَمَّا ) التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ الْأُجْرَةُ عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ لِحُصُولِهَا بِسَبَبٍ خَبِيثٍ ، فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَهَذَا رِبْحٌ مَضْمُونٌ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فَوْقَ الضَّمَانِ ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا كُرًّا فَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ ، وَأَخْرَجَتْ ثَلَاثَةَ أَكْرَارٍ ، يَغْرَمُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذُ رَأْسَ الْمَالِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ نَقَصَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ ، وَذَلِكَ إتْلَافٌ مِنْهُ ، وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ ، وَهِيَ الزِّرَاعَةُ فِي أَرْضِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِلْكًا لَهُ ، وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ النُّقْصَانِ وَقَدْرُ الْبَذْرِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الرِّبْحِ ، وَذَا لَيْسَ بِرِبْحٍ فَلَمْ يَحْرُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ
رِبْحٌ مَضْمُونٌ مَمْلُوكٌ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَمْلِكُهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَمُجَرَّدُ الضَّمَانِ يَكْفِي لِلطَّيِّبِ ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ الضَّمَانُ وَالْمِلْكُ وَهُمَا يَقُولَانِ الطَّيِّبَ ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا يُفِيدُ الطَّيِّبُ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا ، أَوْ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الرِّبْحُ ، وَلِأَنَّ الْخَبَثَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ ، وَالشُّبْهَةُ تُوجِبُ التَّصَدُّقَ أَمَا لَا تُوجِبُ التَّضْمِينَ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا خَلَطَ الْمُسْتَوْدِعُ إحْدَى الْوَدِيعَتَيْنِ بِالْأُخْرَى خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شَيْئًا هَلْ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ ؟ .
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ مِنْهَا ، وَإِذَا ثَبَتَ الطَّيِّبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالنَّقْدِ مِنْهَا ، وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَّارُ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي نَصْرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ
الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مُطَلَّقَةٌ ، وَالْمَنْقُودَةُ بَدَلٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ ، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِشَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ ، فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالْعَدَمِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً ، وَالدَّرَاهِمُ الْمَنْقُودَةُ بَدَلًا عَنْهَا ، فَلَا يَخْبُثُ الْمُشْتَرَى ، وَالْكَرْخِيُّ كَذَلِكَ يَقُولُ : إذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ الْإِشَارَةُ بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ النَّقْدُ مِنْهَا فَإِذَا تَأَكَّدَتْ بِالنَّقْدِ مِنْهَا تَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى ، فَكَانَ خَبِيثًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْحَرَامِ مِلْكًا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ ، أَوْ الشُّبْهَةِ فَيَثْبُتُ الْخَبَثُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ بِمَعْرِفَةِ جِنْسِ النَّقْدِ وَقَدْرِهِ ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى مِنْ وَجْهٍ نُقِدَ مِنْهَا ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا .
وَإِنْ لَمْ يُشِرْ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا ، فَقَدْ اسْتَفَادَ بِذَلِكَ سَلَامَةَ الْمُشْتَرَى فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فَيَخْبُثُ الرِّبْحُ ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اخْتَارَ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ لِازْدِحَامِ الْحَرَامِ ، وَجَوَابُ الْكُتُبِ أَقْرَبُ إلَى التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلِأَنَّ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ مُسْتَحَقَّةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ ، فَتُبَيِّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَى كَانَ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَلَمْ يَحِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ امْرَأَةً وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الشِّرَاءُ ،
وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأهَا ، وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ نُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ مَضْمُونًا مِنْ النُّقْصَانِ ، وَمَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا مِنْهُ وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إذَا عَرَضَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَا يُوجِبُ نُقْصَانَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ ، وَالْعَارِضُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ السِّعْرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ ، أَوْ فَوَاتَ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا ، أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ السِّعْرِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَيْسَ بِنُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ ، بَلْ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا .
وَإِنْ كَانَ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ ، أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا ، أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا يَكُونُ مَضْمُونًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا اخْتِيَارٌ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ ، فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، أَوْ لَحِقَهُ زَمَانَةٌ ، أَوْ عَرَجٌ ، أَوْ شَلَلٌ ، أَوْ عَمَى ، أَوْ عَوَرٌ ، أَوْ صَمَمٌ ، أَوْ بَكَمٌ ، أَوْ حُمَّى ، أَوْ مَرَضٌ آخَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ لِوُجُودِ فَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ ، أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا ، وَلَوْ زَالَ الْبَيَاضُ مِنْ عَيْنِهِ فِي يَدِ الْمُولَى ،
أَوْ أَقْلَعَ الْحُمَّى رَدَّ عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى طَرِيقِ الدَّوَامِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَقَ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ عَبْدٍ ، أَوْ أَمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ أَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ ، أَوْ زَنَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ ، أَوْ سَرَقَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ زَنَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِفَوَاتِ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ الصِّيَانَةُ عَنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُيُوبًا مُوجِبَةً لِلرَّدِّ فِي بَابِ الْبَيْعِ ، وَجُعْلُ الْآبِقِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُرْجَعُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُرْجَعُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجُعْلَ مِنْ ضَرُورَاتِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِعْطَاءِ الْجُعْلِ ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَجِبُ بِحَقِّ الْمَالِكِ ، وَالْمِلْكُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَيَكُونُ الْجُعْلُ عَلَيْهِ كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحَةِ .
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ ، أَوْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَتِيلًا ، أَوْ جَنَى عَلَى حُرٍّ ، أَوْ عَبْدٍ فِي نَفْسٍ ، أَوْ مَا دُونَهَا جِنَايَةً رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ ، وَيُقَالُ لَهُ ادْفَعْهُ بِجِنَايَتِهِ ، أَوْ افْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَيَرْجِعُ الْمُولَى عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ ، أَوْ الْفِدَاءِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِمَّا أَدَّاهُ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ بِالْغَصْبِ ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ هَدَرٌ فَصَارَ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ أَمَةً فَوَلَدَتْ ، ثُمَّ قَتَلَتْ وَلَدَهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَبِرَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ غَصَبَ عَبْدًا شَابًّا فَشَاخَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، أَوْ جَارِيَةً شَابَّةً فَصَارَتْ عَجُوزًا فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّ الْكِبَرَ يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ ، أَوْ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ نُهُودَ الثَّدْيَيْنِ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ لِلْأَمْرَدِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُقْصَانٍ ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الرِّجَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا قَارِئًا فَنَسَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، أَوْ مُحْتَرِفًا فَنَسَى الْحِرْفَةَ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ وَالْحِرْفَةِ مَعْنًى مَرْغُوبٌ فِيهِ .
وَأَمَّا حَبَلُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً
فَحَبَلَتْ فِي يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَوْلَى ، فَلَا يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ ، أَوْ حَدَثَ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زِنًا أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْحَبَلِ ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَّصَهَا الْحَبَلُ وَإِلَى أَرْشِ عَيْبِ الزِّنَا فَيَضْمَنُ الْأَكْثَرَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَبَلَ وَالزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَكَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُقْصَانًا عَلَى حِدَةٍ ، فَيُفْرَدُ بِضَمَانٍ عَلَى حِدَةٍ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ إنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الزِّنَا ، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ ، حَتَّى يُفْرَدَ بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ أَحَدِهِمَا فَأَوْجَبْنَا الْأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَكْثَرِ فِي الْأَقَلِّ ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغَاصِبُ حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى مِنْ الْوِلَادَةِ فَبَقِيَ وَلَدُهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ الْحَبَلِ خَاصَّةً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّدَّ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ الْغَاصِبِ فِي الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْفَائِتِ بِالْحَبَلِ ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ
الْوِلَادَةُ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ نِفَاسِهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ أَوْ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَى إلَى الْوِلَادَةِ ، وَالْوِلَادَةُ أَفْضَتْ إلَى الْمَوْتِ ، فَكَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ ، وَإِذَا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِثْلَ الْأَخْذِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ هُوَ التَّسْلِيمُ ابْتِدَاءً لَا الرَّدُّ ، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ .
وَبِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَا بِهَا مُكْرَهَةً فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْأَخْذِ لِيَلْزَمَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ زَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَحَدَثَ فِي يَدِهِ ، وَنَقَّصَهَا الضَّرْبُ ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْأَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِمَّا نَقَّصَهَا الزِّنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نُقْصَانُ الزِّنَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيُضَافُ إلَى حِينِ وُجُودِ السَّبَبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الضَّرْبُ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ ، كَمَا لَوْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُمَا نَظَرَا إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ النُّقْصَانُ .
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُبَاحَ الدَّمِ فَقُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي : أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ وَيُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ سَارِقًا فَقُطِعَ فِي يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ السَّابِقِ ، وَعِنْدَهُمَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِ ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُضَافُ النُّقْصَانُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فَكَيْفَ يُضَافُ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهِ .
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شُهُودِ الزِّنَا : إذَا رَجَعُوا بَعْدَ إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ بِنُقْصَانِ الْجُرْحِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا ، فَلَمْ يُضَفْ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهَا كَذَا هَذَا ، قِيلَ لَهُ : إنَّ النُّقْصَانَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ هَهُنَا ، كَمَا لَا يُضَافُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ هُنَاكَ ، إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ عَلَى
الْفِعْلِ فَيَسْتَنِدُ الضَّرْبُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَلَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ أَثَرُهُ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا ضُرِبَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَانْجَرَحَتْ عِنْدَ الضَّرْبِ لَا بِالضَّرْبِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَضَمِنَ الْغَاصِبُ ، كَذَا هَذَا ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِنْ نُقْصَانِ الزِّنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَيْنِ جَمِيعًا حَصَلَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ ، فَيَجِبُ الْأَكْثَرُ ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ سَرَقَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَقُطِعَتْ عِنْدَهُ ، يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نِصْفَ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ السَّرِقَةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ نُقْصَانَ الْقَطْعِ هَهُنَا ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ نُقْصَانَ عَيْبِ السَّرِقَةِ ، وَاعْتَبَرَ نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَطْعِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ السَّرِقَةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، فَدَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ نُقْصَانِ عَيْبِ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ ؛ لِذَلِكَ اخْتَلَفَ اعْتِبَارُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَلَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَوْلَى فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ الْحُمَّى الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ ، إلَّا مَا نَقَّصَهَا الْحُمَّى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِالْآلَامِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَإِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ يَتَنَاهَى ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، فَلَا يَضْمَنُ إلَّا قَدْرَ نُقْصَانِ الْحُمَّى ، وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً مَحْمُومَةً أَوْ حُبْلَى ،
أَوْ بِهَا جِرَاحَةٌ ، أَوْ مَرَضٌ آخَرُ سِوَى الْحُمَّى فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا وَبِهَا ذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى بِحَبَلٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، حَيْثُ جُعِلَ هُنَالِكَ مَوْتُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ كَمَوْتِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ هَهُنَا مَوْتُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَمَوْتِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْهَلَاكَ هُنَاكَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ شَرْطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالْهَلَاكُ هَهُنَا إنْ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
فَإِذَا غَصَبَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الْهَلَاكِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ لَكِنْ مَنْقُوصًا بِمَا بِهَا مِنْ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ إلَّا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَنَّ عَلَيْهِ نُقْصَانَ الْهُزَالِ ، وَلَوْ عَادَتْ سَمِينَةً فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْهُزَالِ انْجَبَرَ بِالسِّمَنِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا ، وَكَذَا إذَا قُلِعَتْ سِنُّهَا فِي يَدِهِ فَنَبَتَتْ فَرَدَّهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا نَبَتَتْ ثَانِيًا جُعِلَ كَأَنَّهَا لَمْ تُقْلَعْ ، وَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهَا فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا مَعَ الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ بِالْوِلَادَةِ ، إلَّا إذَا كَانَ لَهُ
جَابِرٌ فَيَنْعَدِمُ الْفَوَاتُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْأُمُّ أَوْ الْوَلَدُ جَمِيعًا قَائِمَيْنِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِهِ ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ ، فَإِنْ كَانَا قَائِمَيْنِ رَدَّهُمَا عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ لِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ انْجَبَرَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ انْجَبَرَ بِقَدْرِهِ وَضَمِنَ الْبَاقِيَ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ وَقْتَ الرَّدِّ ، ثُمَّ حَصَلَ بِهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الرَّدِّ ، لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ ، فَلَا تَصْلُحُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ ، وَقَالُوا : إنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً حَائِلًا فَحَمَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ، وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ .
وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ شَيْئًا ، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بِيعَتْ بَيْعًا فَاسِدًا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءً فَرَدُّ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ مَعَ الْوَلَدِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَوَلَدَتْ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ أَنَّهُ يَبْقَى الْوَاجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ وَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْقَى فِيمَا وَرَاءَ النُّقْصَانِ وَيَسْقُطُ
بِقَدْرِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ النُّقْصَانُ ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ جَبْرًا لَهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ ، وَقَدْ حَصَلَ الْفَوَاتُ ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَابِرٍ وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا لَهُ ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْوَلَدُ مِلْكُهُ أَيْضًا ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْإِنْسَانِ جَابِرًا لِمِلْكِهِ فَلَزِمَ جَبْرُهُ بِالضَّمَانِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ صُورَةً لَا مَعْنًى ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَنُقْصَانِ السِّنِّ وَالسِّمَنِ وَالْقَطْعِ ، وَقَدْ مَرَّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ نُقْصَانًا مَعْنًى : أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، وَاتِّحَادُ سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِثْلُ الْفَائِتِ ، فَالسَّبَبُ الَّذِي فَوَّتَ أَفَادَ لَهُ مِثْلَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، فَلَمْ يَحْصُلْ الْفَوَاتُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، وَالصُّورَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ .
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّ جَبْرَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفَوَاتِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَابِرِ ، وَإِنْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَ ؛ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهَا ، وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْصُوبٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْغَصْبِ فِيهِ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَتَلَ الْوَلَدَ ، أَوْ بَاعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَعَ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا فَالْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فِيهَا ، وَقَدْ وُجِدَ عَلَى مَا بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْوَلَدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَضَمِنَ مِنْ الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، يَدْخُلُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِي قِيمَةِ الْأُمِّ ، وَإِنْ شِئْت ضَمَّنْته قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ وَلَدَتْ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إذَا انْجَبَرَ بِالْوَلَدِ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْحَاصِلِ أَلْفًا وَمِائَةً ، فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ تَامَّةً بَقِيَ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ تِسْعَمِائَةٍ بَقِيَ كُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ ، فَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ رَدَّ الْأُمَّ وَضَمِنَ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْوَلَدِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً فَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَ وَرَدَّ الْوَلَدَ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ .
وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ ، وَلَمْ تُوجَدْ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَلَيْسَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا ، فَلَمْ يَتَّحِدْ السَّبَبُ فَيَتَعَذَّرُ الْجَبْرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ غَيْرَ أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ يَسِيرًا لَا خِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ ، إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَتَعْيِيبٌ فَيُوجِبُ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا بِأَنْ قَطَعَهُ قَبَاءً ، أَوْ قَمِيصًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ مَقْطُوعًا وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ
الْقَطْعُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ الْفَاحِشَ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الثَّوْبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ ، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا ، وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الذَّبْحِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَسَوَاءٌ سَلَخَهَا الْغَاصِبُ وَأَرَّبَهَا أَوْ لَا ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَوَاهَا وَلَا طَبَخَهَا ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ .
( وَجْهُ ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ إنْ كَانَ نُقْصَانًا صُورَةً فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّاةِ اللَّحْمُ ، وَالذَّبْحُ وَسِيلَةٌ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ ، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا ، بَلْ كَانَ زِيَادَةً حَيْثُ رَفَعَ عَنْهُ مُؤْنَةَ الْوَسِيلَةِ ، فَكَانَ الْغَاصِبُ مُحْسِنًا فِي الذَّبْحِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ اللَّحْمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ ، إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ عَلَيْهِ ، وَيُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ لِفَوَاتِ مَقْصُودِ مَا فِي الْجُمْلَةِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الشَّاةَ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهَا اللَّحْمُ يُطْلَبُ مِنْهَا مَقَاصِدُ أُخَرُ مِنْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتِّجَارَةِ ، فَكَانَ الذَّبْحُ تَفْوِيتًا لِبَعْضِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا ، فَكَانَ تَنْقِيصًا لَهَا وَاسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ ، فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ وَخِيَارُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ عَيْنًا مِنْ ذَوَاتِ
الْقِيَمِ ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَنَقَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَالْتَقَيَا وَالْعَيْنُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَقِيمَتُهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقِيمَتِهَا الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهَا قِيَمُ أَعْيَانٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، فَإِذَا نَقَلَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقِيمَتُهَا فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ فَقَدْ نَقَصَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالنَّقْلِ ، فَلَوْ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ لَتَضَرَّرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ الْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ .
وَقَدْ انْتَقَصَ السِّعْرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ مَا حَصَلَ بِصُنْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ وَلَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْنِي مَصْنُوعَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَيْنِ فِي الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ، أَوْ أَكْثَرَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ ، فَلَا يَمْلِكُ الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السِّعْرُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جُعِلَتْ أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ ، وَمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ عَادَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لِعِزَّتِهَا وَقِلَّتِهَا عَادَةً ، فَلَمْ يَكُنْ النَّقْلُ نُقْصَانًا
لَهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَدِّ عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْغَصْبِ .
وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِعَارِضِ الْعَجْزِ أَوْ الضَّرَرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَالْتَقَيَا ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَخَذَ قِيمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ وَقْتَ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْغَصْبَ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ وُجُودِ سَبَبِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ سِعْرُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي الْتَقَيَا فِيهِ أَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ الَّتِي لِلْعَيْنِ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْمِثْلِ فِي هَذَا الْمَكَانِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَيْنَ بِالنَّقْلِ إلَى هَذَا الْمَكَانِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ قِيمَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لِمَكَانِ الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ ، فَالْجَبْرُ عَلَى الْأَخْذِ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَكُونُ إضْرَارًا بِهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً ، وَقِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَقَلُّ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ، فَالْغَاصِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْمِثْلَ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْقِيمَةَ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ فِي مَكَانِ
الْخُصُومَةِ ضَرَرًا بِالْغَاصِبِ ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ ضَرَرًا بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَيُسَلِّمُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقِيمَةَ الَّتِي لَهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالتَّأْخِيرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ، فَانْتَقَصَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِصُنْعِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، أَوْ ابْتَلَّتْ ، أَوْ صَبَّ الْغَاصِبُ فِيهَا مَاءً فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَنَّ صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ .
إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غُصِبَتْ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَهَا قِيمَةٌ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ ، وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً تُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَلَوْ غَصَبَ دِرْهَمًا صَحِيحًا ، أَوْ دِينَارًا صَحِيحًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ ، أَوْ كَسَرَهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ الصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ فِي الْقِيمَةِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَفَاوَتُ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي
ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ إنَاءَ فِضَّةٍ ، أَوْ ذَهَبٍ فَانْهَشَمَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، أَوْ هَشَّمَهُ ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا بِانْفِرَادِهَا ، فَأَمَّا مَعَ الْأَصْلِ فَمُتَقَوِّمَةٌ ، خُصُوصًا إذَا حَصَلَتْ بِصُنْعِ الْعِبَادِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّضْمِينِ ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَوَجَبَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ بِجِنْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَلَزِمَ تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إيجَابُ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ ، وَكَذَلِكَ آنِيَةُ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالشَّبَّةِ وَالرَّصَاصِ إنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا فَهِيَ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَمْ تَخْرُجْ بِالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ ، فَكَانَتْ مَوْزُونَةً ، فَكَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فَإِذَا انْهَشَمَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَحَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ فَاحِشٌ أَوْ يَسِيرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا يَكُونُ التَّقَابُضُ فِيهِ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إذَا نَقَصَ مِنْ وَصْفِهِ لَا مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَانْكَسَرَتْ أَوْ كُسِّرَتْ إنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يُورِثْ فِيهِ عَيْبًا فَاحِشًا
، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ خِيَارُ التَّرْكِ ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَيُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَوْرَثَ عَيْبًا فَاحِشًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ .
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا صَحِيحًا ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَلًّا فِي يَدِهِ ، أَوْ لَبَنًا حَلِيبًا فَصَارَ مَخِيضًا ، أَوْ عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا ، أَوْ رُطَبًا فَصَارَ تَمْرًا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ الشَّيْء بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْء لَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَلَمْ تَكُنْ الْجَوْدَةُ فِيهَا بِانْفِرَادِهَا مُتَقَوِّمَةً ، فَلَا تَكُونُ مُتَقَوِّمَةً ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غَصَبَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ ، فَيَجِبُ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ ، إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ زِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ : فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : إذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ فِي الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَغْصُوبِ ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ أَصْلًا كَالْكَسْبِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ ، فَكَانَ مِلْكَهُ ، وَمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ بَدَلُ جُزْءٍ مَمْلُوكٍ ، أَوْ بَدَلُ مَا لَهُ حُكْمُ الْجُزْءِ ، فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدِ كَسْبٌ مَلَكَهُ ، فَكَانَ مِلْكَهُ .
وَأَمَّا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ بِأَنْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ عِنْدَنَا ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا ، حَتَّى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَعِنْدَهُ هِيَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِهَا أَخَذَهَا الْمَالِكُ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ يُنْظَرُ ، إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِي الْمَغْصُوبِ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَغْصُوبِ ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِلْمَغْصُوبِ ، بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا ، تَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ لِلضَّمَانِ ، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ ، أَوْ أَصْفَرَ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْوَانِ سِوَى السَّوَادِ ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ مِنْ الْغَاصِبِ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، أَمَّا وِلَايَةُ أَخْذِ الثَّوْبِ ؛ فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُهُ لِبَقَاءِ اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ .
وَأَمَّا ضَمَانُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ؛ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ ، فَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِضَمَانٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ يَوْمَ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى أَخْذِ الثَّوْبِ ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ إلَّا بِضَمَانٍ وَهُوَ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ .
وَلَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ وَقِيلَ لَهُ خِيَارٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ لَهُ تَرْكَ الثَّوْبِ عَلَى حَالِهِ ، وَكَانَ الصِّبْغُ فِيهِ لِلْغَاصِبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا ، كَمَا إذَا انْصَبَغَ لَا بِفِعْلِ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالصِّبْغُ مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذَّرٌ ، فَصَارَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَا لِلْغَاصِبِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ مِلْكٌ أَيْضًا وَهُوَ الصِّبْغُ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغَ تَابِعٌ لَهُ ، فَتَخْيِيرُ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ أَنْ
يُخَيَّرَ صَاحِبُ التَّبَعِ ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ بِالْعُصْفُرِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ تَبَعٍ ، وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ، بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : السَّوَادُ وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ سَوَاءٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِقُ الثَّوْبَ فَيُنْقِصُهُ ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَسَائِرِ الْأَلْوَانِ .
وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سَوَادٍ يَنْقُصُ وَجَوَابُهُمَا فِي سَوَادٍ يَزِيدُ ، وَقِيلَ كَانَ السَّوَادُ يُعَدُّ نُقْصَانًا فِي زَمَنِهِ ، وَزَمَنَهُمَا كَانَ يُعَدُّ زِيَادَةً ، فَكَانَ اخْتِلَافُ زَمَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْعُصْفُرُ إذَا نَقَصَ الثَّوْبَ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ ثَلَاثِينَ فَعَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى قَدْرِ مَا يَزِيدُ هَذَا الصَّبْغُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبٍ يُزِيدُ هَذَا الصَّبْغُ قِيمَتَهُ وَلَا يُنْقِصُ ، فَإِنْ كَانَ يُزِيدُهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَخَذَ مِنْ الْغَاصِبِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ نَقَّصَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ خَمْسَةً فِيهِ صِبْغٌ فَانْجَبَرَ نُقْصَانُ الْخَمْسَةِ بِهِ ، أَوْ صَارَتْ الْخَمْسَتَانِ قِصَاصًا وَبَقِيَ نُقْصَانُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةٍ ، وَكَذَلِكَ السَّوَادُ عَلَى هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ وَبَاعَهُ
وَغَابَ ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الثَّوْبِ يَقْضِي لَهُ بِالثَّوْبِ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ أَمَّا الْقَضَاءُ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ، فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغُ تَابِعٌ لَهُ ، فَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبَ أَصْلٍ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ جَانِبِهِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الِاسْتِيثَاقُ بِكَفِيلٍ ؛ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ ، وَلَوْ وَقَعَ الثَّوْبُ الْمَغْصُوبُ فِي صِبْغِ إنْسَانٍ فَصُبِغَ بِهِ ، أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ شَاءَ امْتَنَعَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى الضَّمَانِ ؛ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ ، فَيُبَاعُ الثَّوْبُ ، فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ .
وَصَاحِبُ الصِّبْغِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ قِيمَةُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الصِّبْغِ الْقَائِمِ فِي الثَّوْبِ لَا فِي الصِّبْغِ الْمُنْفَصِلِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لَا لِلْغَاصِبِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَ سَوَادًا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الصَّبْغِ ، بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ غَاصِبًا ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَلْوَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يُخْلَطُ بِالسَّوِيقِ الْمَغْصُوبِ ، أَوْ يُخْلَطُ بِهِ ، فَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ أَصْلٌ وَالسَّمْنَ كَالتَّابِعِ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ ، وَلَا يُقَالُ : سَمْنٌ مَلْتُوتٌ .
وَأَمَّا الْعَسَلُ
إذَا خُلِطَ بِالسَّمْنِ ، أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ فَكُلَاهُمَا أَصْلٌ .
وَإِذَا خُلِطَ الْمِسْكُ بِالدُّهْنِ أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَزِيدُ الدُّهْنَ وَيُصْلِحُهُ كَانَ الْمِسْكُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ ، وَإِنْ كَانَ دُهْنًا لَا يَصْلُحُ بِالْخَلْطِ وَلَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ كَالْأَدْهَانِ الْمُنْتِنَةِ فَهُوَ هَالِكٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ إنْسَانٍ صِبْغًا فَصَبَغَهُ بِهِ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ صِبْغًا مِثْلَ صِبْغِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ صِبْغَهُ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَبَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الصِّبْغَ بِالضَّمَانِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ آخَرَ صِبْغًا فَصَبَغَهُ فِيهِ ، ثُمَّ غَابَ ، وَلَمْ يُعْرَفْ فَهَذَا وَمَا إذَا انْصَبَغَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ سَبِيلٌ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ ، فَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَزَالَ عَنْهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا غَابَ الْغَاصِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي إدَارَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَا بِصِبْغِ أَحَدٍ ، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَعُصْفُرًا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَأْخُذُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا وَيُبْرِئُ الْغَاصِبَ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْعُصْفُرِ وَالثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ صَبَغَ ثَوْبَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ، فَهَذَا رَجُلٌ صَبَغَ ثَوْبًا بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ
أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَالْغَاصِبُ خَلَطَ مَالَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمَالِهِ ، وَخَلْطُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ لَا يُعَدُّ اسْتِهْلَاكًا لَهُ بَلْ يَكُونُ نُقْصَانًا ، فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ النُّقْصَانِ ، وَلَوْ كَانَ الْعُصْفُرُ لِرَجُلٍ وَالثَّوْبُ لِآخَرَ فَرَضِيَا أَنْ يَأْخُذَاهُ ، كَمَا يَأْخُذُ الْوَاحِدُ أَنْ لَوْ كَانَا لَهُ فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَهُنَا اخْتَلَفَ ، فَكَانَ الْخَلْطُ اسْتِهْلَاكًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ عُصْفُرًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَ نَفْسِهِ ضَمِنَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالْعُصْفُرَ تَبَعٌ لَهُ وَالسَّوَادُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا قِيلَ لِصَاحِبِهَا : أَعْطِهِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا ، إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبُ جِصَّهُ ؛ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهَا عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَهُوَ الْجِصُّ ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَغَرِمَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ جِصَّهُ ، وَلَوْ غَصَبَ مُصْحَفًا فَنَقَطَهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَخْذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مَا زَادَ النَّقْطُ فِيهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوطٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْطَ زِيَادَةٌ فِي الْمُصْحَفِ ، فَأَشْبَهَ الصِّبْغَ فِي الثَّوْبِ .
( وَجْهُ ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
أَنَّ النَّقْطَ أَعْيَانٌ لَا قِيمَةَ لَهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ بَقِيَ مُجَرَّدُ عَمَلِهِ وَهُوَ النَّقْطُ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّقْطَ فِي الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { جَرِّدُوا الْقُرْآنَ } ، وَإِذَا كَانَ التَّجْرِيدُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَ النَّقْطُ مَكْرُوهًا ، فَلَمْ يَكُنْ زِيَادَةً ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُصْحَفِ أَخْذُهُ ، وَلَوْ غَصَبَ حَيَوَانًا فَكَبِرَ فِي يَدِهِ أَوْ سَمِنَ ، أَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ ، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ نَمَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جَرِيحًا ، أَوْ مَرِيضًا فَدَاوَاهُ حَتَّى بَرَأَ وَصَحَّ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فَسَقَاهُ الْغَاصِبُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ ، حَتَّى انْتَهَى بُلُوغُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَخْلًا أَطْلَعَ فَأَبَّرَهُ وَلَقَّحَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا أَنْفَقَ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ كَانَ حَصَدَ الزَّرْعَ فَاسْتَهْلَكَهُ ، أَوْ جَذَّ مِنْ الثَّمَرِ شَيْئًا ، أَوْ جَزَّ الصُّوفَ ، أَوْ حَلَبَ كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَن ، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَفَتَلَهُ ، أَوْ غَسَلَهُ ، أَوْ قَصَّرَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ ، أَمَّا الْفَتْلُ فَإِنَّهُ تَغْيِيرُ الثَّوْبِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ .
( وَأَمَّا ) الْغَسْلُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ وَإِعَادَةٌ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ، وَالصَّابُونُ أَوْ الْحُرُضُ فِيهِ يَتْلَفُ وَلَا يَبْقَى .
وَأَمَّا الْقُصَارَةُ
فَإِنَّهَا تَسْوِيَةُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْمَغْصُوبِ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِلْكُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِي الْخَمْرِ ، وَإِذَا صَارَ خَلًّا حَدَثَ الْخَلُّ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ الْمُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتْلَفُ فِيهَا ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا فِي يَدِهِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ كَذَا هَذَا وَقِيلَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ لَا بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ وَدَبَغَهُ أَنَّهُ إنْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ كَانَ مِلْكَهُ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ .
وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ إنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ فِعْلِ الدِّبَاغِ ، وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ ، إلَّا بِالْعَقْدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَدَبَغَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ مُلْقَاةً عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَ جِلْدَهَا فَدَبَغَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْجِلْدِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي الطَّرِيقِ إبَاحَةٌ لِلْأَخْذِ كَإِلْقَاءِ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ ، وَلَوْ هَلَكَ الْجِلْدُ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ مَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ
كَانَ مِلْكَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَلَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَغْرَمَ لَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مِلْكٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ لَضَمَّنَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا دَبَغَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ، كَمَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَاسْتَهْلَكَهُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ، أَمَّا الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فَلِأَنَّ الْجِلْدَ بِالدَّبَّاغِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا .
( وَأَمَّا ) الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَبَعْدَهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ التَّقَوُّمَ حَدَثَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَادِثَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ حَقًّا لَهُ ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَالْتُحِقَ هَذَا الْوَصْفُ بِالْعَدَمِ ، فَكَانَ هَذَا إتْلَافُ مَالٍ لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ
حَيْثُ الْمَعْنَى ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْجِلْدِ تَابِعٌ لِمَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالدِّبَاغِ وَمَا زَادَ الدِّبَاغُ مَضْمُونٌ فِيهِ فَكَذَا مَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ يَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ ، وَالْمَضْمُونُ بِبَدَلٍ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ فَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ قَائِمٌ لَمْ يُنْتَقَصْ ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ أَصْفَرَ ، أَوْ أَحْمَرَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ جَعَلَ هَذَا الْجِلْدَ أَدِيمًا ، أَوْ زِقًّا ، أَوْ دَفْتَرًا ، أَوْ جِرَابًا ، أَوْ فَرْوًا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ حَيْثُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى ، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهُ مَعْنًى ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَلَهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً فَلَا شَيْءَ ، وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرَ الْمُسْلِمِ فَصَارَ خَمْرًا فِي يَدِهِ ، أَوْ خَلًّا ضَمِنَ عَصِيرًا مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا ، أَوْ خَلًّا ، وَالْعَصِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا قَالَ الْغَاصِبُ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِي ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْغَاصِبِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُ الْغَاصِبَ مُدَّةً لَوْ كَانَ قَائِمًا لَأَظْهَرَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ ، وَالْقِيمَةُ خَلَفٌ عَنْهُ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَجْزُ عَنْ الْأَصْلِ لَا يَقْضِي بِالْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ خَلْفٌ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْغَصْبِ ، أَوْ فِي جِنْسِ الْمَغْصُوبِ وَنَوْعِهِ ، أَوْ قَدْرِهِ ، أَوْ صِفَتِهِ ، أَوْ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ ، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إذْ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِمَا يَدَّعِي الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَادَّعَى الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُودِ الضَّمَانِ مِنْهُ فَهُوَ بِقَوْلِهِ : رَدَدْت عَلَيْك يَدَّعِي انْفِسَاخَ السَّبَبِ ، فَلَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَيْبَ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْغَصْبِ مِنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُودِ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ فَهُوَ يَدَّعِي إحْدَاثَ الْعَيْبِ مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَيَدَّعِي خُرُوجَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْ ضَمَانِهِ ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا
بِالْغَصْبِ وَمَا عَلِمُوا بِالرَّدِّ ، فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَهُوَ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الرَّدِّ أَوْلَى ، كَمَا فِي شُهُودِ الْجُرْحِ مَعَ شُهُودِ التَّزْكِيَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَمَاتَ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ ، فَلَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ ، وَهُوَ حَالُ الْيَدِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنَّهُمْ عَلِمُوهَا ثَابِتَةً ، وَلَمْ يَعْلَمُوهَا بِالْغَصْبِ وَظَنُّوا تِلْكَ الْيَدَ قَائِمَةً فَاسْتُصْحِبُوهَا وَشُهُودُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ .
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ هُوَ وَالْعَبْدُ ، فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ ، فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِلَا مُعَارِضٍ فَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْإِمْلَاءِ : إذَا أَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الرَّدُّ ، وَبَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَامَتْ عَلَى إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الْغَصْبُ ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّابَّةَ نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ رُكُوبِهِ ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا تَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ رَدَّهَا ، ثُمَّ غَصَبَهَا ثَانِيًا وَرَكِبَهَا فَنَفَقَ فِي يَدِهِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا ، وَشَهِدَ شُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ غَصَبْنَا مِنْكَ أَلْفًا ، ثُمَّ قَالَ : كُنَّا عَشَرَةً ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُصَدَّقُ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُصَدَّقُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ : غَصَبْنَا مِنْكَ حَقِيقَةٌ لِلْجَمْعِ ، وَالْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْوَاحِدِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْنَا إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْغَصْبِ مِنْ جَمَاعَةٍ مَجْهُولِينَ ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهِ لَأَلْغَيْنَا كَلَامَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَحُكْمُهُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَفِي بَيَانِ شُرُوطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً ، وَهَذَا اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَقَدْ تَعَذَّرَ نَفْيُ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، فَيَجِبُ نَفْيُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالضَّمَانِ لِيَقُومَ الضَّمَانُ مَقَامَ الْمُتْلَفِ فَيَنْتَفِي الضَّرَرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَوْقَ الْغَصْبِ ، فَلَمَّا وَجَبَ بِالْغَصْبِ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ أَوْلَى ، سَوَاءٌ وَقَعَ إتْلَافًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ ، أَوْ مَعْنًى بِإِحْدَاثِ مَعْنًى فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ قِيَامِهِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ سَوَاءٌ كَانَ الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً بِإِيصَالِ الْآلَةِ بِمَحِلِّ التَّلَفِ ، أَوْ تَسْبِيبًا بِالْفِعْلِ فِي مَحِلٍّ يُفْضِي إلَى تَلَفٍ غَيْرِهِ عَادَةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا قَتَلَ دَابَّةَ إنْسَانٍ ، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبَهُ ، أَوْ قَطَعَ شَجَرَةَ إنْسَانٍ ، أَوْ أَرَاقَ عَصِيرَهُ ، أَوْ هَدَمَ بِنَاءَهُ ضَمِنَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلَفُ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لِتَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ فِي الْحَالَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ كَانَ مَنْقُولًا وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى
الْمُتْلِفِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِتْلَافَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ضَمِنَ الْمُتْلِفُ وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجَوَابُ فِيهِ ، وَفِي الْمَنْقُولِ سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ ، كَمَا فِي الْمَنْقُولِ .
وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ مَالُ إنْسَانٍ بِمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ضَمِنَ النُّقْصَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهُ وَتَضْمِينُهُ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ ، غَيْرَ أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ بِفِعْلِ غَيْرِ الْغَاصِبِ ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَيَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الَّذِي نَقَصَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي نَقَصَ وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَازْدَادَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَا وُجُوبِ الضَّمَانِ الْغَصْبَ وَالْقَتْلَ .
وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقَتْلِ ؛ لِذَلِكَ ضَمِنَ الْغَاصِبُ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ أَلْفَيْنِ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْنِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَلْفِ .
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِأَلْفَيْنِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ وَرَدَ
عَلَى عَبْدِ الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَلْفِ فَلِتَمَكُّنِ الْخَبَثِ فِيهِ لِاخْتِلَالِ الْمِلْكِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَظْهَرَ ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْفَضْلُ طَيِّبٌ لَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ خَطَأً ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَتَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَتْلِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ حَيَوَانًا سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ ، إلَّا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفًا ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ يُهْدَرُ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَذَا هَذَا ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَتْ وَلَدهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا وَلَدَهَا هَدَرٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلَكَ أَمَانَةً وَبَقِيَتْ الْأُمُّ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ ، وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَخَلَطَ الْمُسْتَوْدَعُ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ بِالْآخَرِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا ، وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ وَقَعَ إتْلَافًا مَعْنًى ، وَعِنْدَهُمَا هُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَا ذَلِكَ وَيَقْتَسِمَاهُ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَاهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ .
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَسَعُ الْمُودَعُ أَكْلَ هَذِهِ الدَّرَاهِم حَتَّى يُؤَدِّيَ مِثْلَهَا إلَى أَصْحَابِهَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ انْقَطَعَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَوْدَعِ لَكِنْ فِيهِ خَبَثٌ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّرْفِ فِيهِ ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ كُرَّانِ اغْتَصَبَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا ، أَوْ سَرَقَهُ ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ أَوْدَعَ الْغَاصِبَ ، أَوْ السَّارِقَ ذَلِكَ الْآخَرَ فَخَلَطَهُ بِكُرِّ الْغَصْبِ ثُمَّ ضَاعَ ذَلِكَ كُلُّهُ ضَمِنَ كُرَّ الْغَصْبِ ، وَلَمْ يَضْمَنْ كُرَّ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكِ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ وَبَقِيَ الْكُرُّ الْمَضْمُونُ وَكُرُّ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِمَا فَصَارَ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَلَوْ خَلَطَ الْغَاصِبُ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ مِثْلَهَا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِالْخَلْطِ .
وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا وَصَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، فَلَا يَضْمَنُ وَهُوَ شَرِيكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ هَلَاكٌ ، وَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَا شَرِيكَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ صَبَّ مَاءً فِي طَعَامٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَهُ وَزَادَ فِي كَيْلِهِ فَلِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَصُبَّ فِيهِ الْمَاءَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ طَعَامًا مِثْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِهِ قَبْلَ صَبِّ
الْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَبَّ مَاءً فِي دُهْنٍ ، أَوْ زَيْتٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْمَبْلُولِ وَالدُّهْنِ الْمَصْبُوبِ فِيهِ الْمَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ غَصْبٌ مُتَقَدِّمٌ ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ ثُمَّ صَبَّ ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ مِنْهُ وَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْمَنُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ طَارَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ ضَمِنَ ، وَإِنْ مَكَثَ سَاعَةً ، ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَقَعَ إتْلَافًا لِلطَّيْرِ تَسْبِيبًا ؛ لِأَنَّ الطَّيَرَانَ لِلطَّيْرِ طَبْعٌ لَهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطِيرُ إذَا وَجَدَ الْمُخَلِّصَ ، فَكَانَ الْفَتْحُ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ، كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ فَسَالَ وَهَلَكَ ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : إذَا مَكَثَ سَاعَةً لَمْ يَكُنْ الطَّيَرَانُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ ، بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا ( أَمَّا ) الْمُبَاشَرَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ .
( وَأَمَّا ) التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الطَّيْرَ مُخْتَارٌ فِي الطَّيَرَانِ ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَكُلُّ حَيٍّ لَهُ اخْتِيَارٌ ، فَكَانَ الطَّيَرَانُ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِهِ وَالْفَتْحُ سَبَبًا مَحْضًا ، فَلَا حُكْمَ لَهُ كَمَا إذَا حَلَّ الْقَيْدَ عَنْ عَبْدِ إنْسَانٍ ، حَتَّى آبِقَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ شَقِّ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ ؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ سَيَّالٌ بِطَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الِاسْتِمْسَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ ، إلَّا عَلَى نَقْضِ الْعَادَةِ ، فَكَانَ الْفَتْحُ تَسَبُّبًا لِلتَّلَفِ فَيَجِبُ
الضَّمَانُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَلَّ رِبَاطَ الدَّابَّةِ ، أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ ، حَتَّى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ ، وَقَالُوا إذَا حَلَّ رِبَاطَ الزَّيْتِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَائِبًا فَسَالَ مِنْهُ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَزَالَ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَائِعَ يَسِيلُ بِطَبْعِهِ إذَا وَجَدَ مَنْفَذًا بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْسَاكُهُ عَادَةً ، فَكَانَ حَلُّ الرِّبَاطِ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْجَامِدِ ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ طَبْعُ الْمَائِعِ لَا طَبْعُ الْجَامِدِ ، وَهُوَ وَإِنْ صَارَ مَائِعًا لَكِنْ لَا بِصُنْعِهِ ، بَلْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ ، فَلَمْ يَكُنْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا ، فَلَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ صَبِيًّا صَغِيرًا حُرًّا مِنْ أَهْلِهِ فَعَقَرَهُ سَبْعٌ ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ ، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ ، أَوْ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْ الْغَاصِبِ تَسْبِيبًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْفُوظًا بِيَدِ وَلِيِّهِ ، إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا فَوَّتَ حِفْظَ الْأَهْلِ عَنْهُ وَلَمْ يَحْفَظْهُ بِنَفْسِهِ ، حَتَّى أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَقَدْ ضَيَّعَهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إتْلَافًا تَسْبِيبًا ، وَالْحُرُّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً كَانَ أَوْ تَسْبِيبًا ، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهمَا شَاءُوا الْغَاصِبَ أَوْ الْقَاتِلَ .
( أَمَّا ) الْقَاتِلُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً .
( وَأَمَّا ) الْغَاصِبُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَالتَّسَبُّبُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا فَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ بِالْمَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَى
أَحَدٍ ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامَ مَقَامَ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ مِلْكِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَضْمُونِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِهِ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطُ إنْسَانٍ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إنْ كَانَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَمْدًا فَأَوْلِيَاؤُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ .
وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ عَمْدًا ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْقِصَاصُ .
( أَمَّا ) وِلَايَةُ الْقِصَاصِ مِنْ الْقَاتِلِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْخَالِي عَنْ الْمَوَانِعِ .
( وَأَمَّا ) وِلَايَةُ اتِّبَاعِ الْغَاصِبِ بِالدِّيَةِ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ قَتَلُوا الْقَاتِلَ بَرِئَ الْغَاصِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي قَتْلٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ عَلَى مَالِ الْقَاتِلِ ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ، إذْ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ، فَلَمْ يَقُمْ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْقِصَاصِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْمَالِ .
وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ إنْسَانًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ
ضَمَانِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لَا بِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ ، أَوْ أَتَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، أَوْ أَرْكَبَهُ الْغَاصِبُ دَابَّةً فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْهَا فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ، أَوْ سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِالْغَصْبِ وَالْحُرُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ كَذَا هَذَا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسْبِيبًا ، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْبِيبُ مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ تَرَكَ حِفْظَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، فَكَانَ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ بِمَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعِهَا ، وَلَوْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَم قِيمَتَهَا حَالَّةً فِي مَالِهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا ، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي
الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ مَالًا ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ وَجِلْدِ الْمَيِّتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْبُيُوعِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا ، أَوْ ذِمِّيًّا لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ ، أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا يَضْمَنُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالدَّلَائِلُ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا ، ثُمَّ أَسْلَمَا ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمَّا فِي الْخِنْزِيرِ ، فَلَا يَبْرَأُ الْمُتْلِفُ عَنْ الضَّمَانِ الَّذِي لَزِمَهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ الطَّالِبُ ، أَوْ الْمَطْلُوبُ ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِإِتْلَافِ الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ وَإِنَّهَا دَرَاهِمُ ، أَوْ دَنَانِيرُ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
( وَأَمَّا ) فِي الْخَمْرِ فَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الطَّالِبُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُتْلِفُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا ، ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ ، أَوْ لَمْ يُسْلِمْ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْخَمْرِ وَلَا يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعَافِيَةَ بْنِ زَيْدٍ الْقَاضِي وَهُوَ رِوَايَتُهُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ وَيَتَحَوَّلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى الْقِيمَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِتْلَافُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلذِّمِّيِّ ، فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ،
وَلَوْ كَسَرَ عَلَى إنْسَانٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ خَشَبًا مَنْحُوتًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى خَشَبًا أَلْوَاحًا .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا آلَةُ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَالْفَسَادِ يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَاقَ لِإِنْسَانٍ مُسْكِرًا ، أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عَلَيْهِ تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوشٍ بِتَمَاثِيلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِنَقْشِ التَّمَاثِيلِ ؛ لِأَنَّ نَقْشَهَا مَحْظُورٌ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ قَطَعَ رُءُوسَ التَّمَاثِيلِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تِمْثَالًا بِلَا رَأْسٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ ، فَكَانَ النَّقْشُ مَنْقُوشًا وَلَوْ أَحْرَقَ بِسَاطًا فِيهِ تَمَاثِيلُ رِجَالٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مُصَوَّرًا ؛ لِأَنَّ التِّمْثَالَ عَلَى الْبِسَاطِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ ؛ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ ، فَكَانَ النَّقْشُ مُتَقَوِّمًا ، وَلَوْ هَدَمَ بَيْتًا مُصَوَّرًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْبَيْتِ ، وَالصُّوَرُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ؛ لِأَنَّ الصُّوَرَ عَلَى الْبَيْتِ لَا قِيمَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَأَمَّا الصِّبْغُ فَمُتَقَوِّمٌ ، وَلَوْ قَتَلَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ضَمِنَ قِيمَتَهَا غَيْرَ مُغَنِّيَةٍ ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ ، هَذَا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ زِيَادَةً فِي الْجَارِيَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ نُقْصَانًا فِيهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ قِيمَتِهَا ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا إذْ التَّقَوُّمُ يُبْنَى عَلَى الْعِزَّةِ وَالْحَظْرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ، إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ .
( وَأَمَّا )
الْمُبَاحُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ شِئْت قُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى شَرْطِ التَّقَوُّمِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا ، أَرْضٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ زَرْعَهَا أَحَدُهُمَا وَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ نِصْفَ الْبَذْرِ ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا لَا يَخْلُو ( إمَّا ) أَنْ كَانَ الزَّرْعُ نَبَتَ ( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ نَبَتَ جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَشِيشِ بِالْحِنْطَةِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ .
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا بَقِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِمَّا تَلِفَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَطَلَبَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ الْقِسْمَةَ قَسَمَ ، وَأَمَرَ الَّذِي زَرَعَ أَنْ يَقْلَعَ مَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مَشْغُولٌ بِمِلْكِهِ فَيُجْبَرُ عَلَى تَفْرِيغِهِ وَتَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الزِّرَاعَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَتْ مَالَ إنْسَانٍ بَهِيمَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَى مَالِكِهَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ ، فَكَانَ هَدَرًا وَلَا إتْلَافَ مِنْ مَالِكِهَا ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِتْلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا عَلَى الْحَرْبِيِّ بِإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْعَادِلِ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْبَاغِي ، وَلَا عَلَى الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ
لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ ، فَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ ، إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْخُوذٌ بِضَمَانِ الْإِتْلَافِ ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَةُ الْمُتْلَفِ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مَعَ إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ ، وَكَذَا كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مُبَاحٌ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ بِإِذْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ ، فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا مَرَّ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ يَضْمَنُ وَيَأْثَمُ ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ : فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا ، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ ، فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ ، كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
كِتَابُ الْحَجْرِ ) وَالْحَبْسِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَصْلَانِ : فَصْلٌ فِي الْحَجْرِ ، وَفَصْلٌ فِي الْحَبْسِ ، أَمَّا الْحَجْرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا : فِي بَيَانِ أَسْبَابِ الْحَجْرِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَجْرِ ، وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ مَا لَهَا رَابِعٌ : الْجُنُونُ ، وَالصِّبَا ، وَالرِّقُّ ، وَهُوَ قَوْلُ : زُفَرَ ، وَقَالَ : أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّفَهُ ، وَالتَّبْذِيرُ ، وَمَطْلُ الْغَنِيِّ ، وَرُكُوبُ الدَّيْنِ ، وَخَوْفُ ضَيَاعِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ ، وَالتَّلْجِئَةُ .
وَالْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا فَيَجْرِي عِنْدَهُمْ فِي السَّفِيهِ الْمُفْسِدِ لِلْمَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْوُجُوهِ الْبَاطِلَةِ ، وَفِي الْمُبَذِّرِ الَّذِي يُسْرِفُ فِي النَّفَقَةِ ، وَيَغْبِنُ فِي التِّجَارَاتِ ، وَفِيمَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي ، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ ، وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَفِيمَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ وَلَهُ مَالٌ فَخَافَ الْغُرَمَاءُ ضَيَاعَ أَمْوَالِهِ بِالتِّجَارَةِ فَرَفَعُوا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ ، أَوْ خَافُوا أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ فَطَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا لِلْغُرَمَاءِ فَيَجْرِي الْحَجْرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَهُمْ ، وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُجْرِي الْحَجْرَ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ : الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةَ الْحَجْرِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ
الْحَجْرِ ، وَأَصَابَ فِي الْفَتْوَى جَازَ ، وَلَوْ أَفْتَى قَبْلَ الْحَجْرِ وَأَخْطَأَ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ بَيْعُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْحَجْرَ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ أَيْ : يُمْنَعُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَنْ عَمَلِهِمْ حِسًّا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَاجِنَ يُفْسِدُ أَدْيَانَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالطَّبِيبَ الْجَاهِلَ يُفْسِدُ أَبْدَانَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسَ يُفْسِدُ أَمْوَالَ النَّاسِ فِي الْمَفَازَةِ ، فَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، لَا مِنْ بَابِ الْحَجْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَلَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى السَّفِيهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَنْفُذْ حَجْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ هَهُنَا مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْقَاضِي قَضَاءٌ مِنْهُ ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ ، وَيَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الَّتِي لَا يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي السَّفِيهِ أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ السَّفَهِ أَمْ يَقِفُ الِانْحِجَارُ عَلَى حَجْرِ الْقَاضِي قَالَ أَبُو يُوسُفَ : " لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا إلَّا بِحَجْرِ الْقَاضِي " ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَنْحَجِرُ بِنَفْسِ السَّفَهِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي ، وَحُجَّةُ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ وَلِيًّا ، مِنْهُمْ السَّفِيهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا وَلِيَّ لِلسَّفِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيٌّ دَلَّ أَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } نَهَى عَنْ إعْطَاءِ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءَ ، وَعِنْدَهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ بِسَبَبِ دُيُونٍ رَكِبَتْهُ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرِّضَا ؛ وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ .
وَالْمَصْلَحَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْإِطْلَاقِ مَرَّةً وَبِالْحَجْرِ أُخْرَى ، وَالْمَصْلَحَةُ هَهُنَا ؛ فِي الْحَجْرِ وَلِهَذَا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِلَا خِلَافٍ ، وَلِهَذَا حُجِرَ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ لِكَوْنِ الْحَجْرِ مَصْلَحَةً فِي حَقِّهِمَا ، كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمُومَاتُ الْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْإِقْرَارِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْيَمِينِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَدَلَيْنِ حَيْثُ نَدَبَ إلَى الْكِتَابَةِ وَأَثْبَتَ الْحَقَّ حَيْثُ أَمَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَاءِ ، وَنَهَى عَنْ الْبَخْسِ عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } .
وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ تِجَارَةً لَا
عَنْ تَرَاضٍ فَلَا يَجُوزُ وَبَيْعُ السَّفِيهِ مَالَهُ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ فَيَجُوزُ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } عَامًّا وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَآيَةِ الظِّهَارِ وَآيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَامًّا وَالْحَجْرُ عَنْ الْمَشْرُوعِ مُتَنَاقِضٌ ، وَكَذَا نَصُّ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ يَقْتَضِيَانِ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ عَلَى الْمُظَاهِرِ وَالْحَالِفِ الْحَانِثِ وَجَوَازَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَامًّا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ التَّحْرِيرُ عَلَى السَّفِيهِ وَلَوْ حَرَّرَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ ، فَلَا يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا فَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا ، وَلِأَنَّ بَيْعَ السَّفِيهِ مَالَ نَفْسِهِ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ بِرُكْنِهِ فِي مَحِلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الرَّشِيدِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ ، وَوُجُودَهُ شَرْعًا بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحِلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ كَالْفُضُولِيِّ .
( وَأَمَّا ) الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : السَّفِيهُ هُوَ الصَّغِيرُ وَبِهِ نَقُولُ وَقِيلَ : إنَّ الْوَلِيَّ هَهُنَا هُوَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ يُمْلِي بِالْعَدْلِ عِنْدَ حَضْرَةَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى مَا عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَلَوْ زَادَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمُرَادُ مِنْ السُّفَهَاءِ النَّسَاءُ ، وَالْأَوْلَادُ
الصِّغَارُ يُؤَيِّدُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَوْلُهُ { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } وَرِزْقُ النَّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ لَا رِزْقُ السَّفِيهِ وَكِسْوَتُهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْ لَا تُؤْتُوهُمْ مَالَ أَنْفُسِكُمْ ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْمُعْطِي لَا إلَى الْمُعْطَى لَهُ وَبِهِ نَقُولُ .
( وَأَمَّا ) بَيْعُ مَالِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ بِرِضَاهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ بَيْعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دُيُونًا فَطَلَبَ جَابِرٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَبِيعَ أَمْوَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ بِذَلِكَ مَقْضِيًّا } وَكَانَ كَمَا ظَنَّ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَنْعِ الْمَالِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ ، وَالْحَجْرُ تَصَرُّفٌ عَلَى النَّفْسِ وَالنَّفْسُ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْمَالِ ، فَثُبُوتُ أَدْنَى الْوِلَايَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ أَعْلَاهُمَا ، ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا يُمْنَعُ عَنْ مَالِهِ نَظَرًا لَهُ تَقْلِيلًا لِلسَّفَهِ لِمَا أَنَّ السَّفَهَ غَالِبًا يَجْرِي فِي الْهِبَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ يَنْسَدُّ بَابُ السَّفَهِ فَيَقِلُّ السَّفَهُ .
( فَأَمَّا ) الْمُعَاوَضَاتُ فَلَا يَغْلِبُ فِيهَا السَّفَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَجْرِ لِتَقْلِيلِ السَّفَهِ ، وَأَنَّهُ يَقِلُّ بِدُونِهِ فَيَتَمَحَّضُ الْحَجْرُ ضَرَرًا بِإِبْطَالِ أَهْلِيَّتِهِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فَلَمْ
يَتَضَمَّنْ الْحَجْرُ إبْطَالَ الْأَهْلِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ فَحُكْمُهُ يَظْهَرُ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ ، وَفِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ( أَمَّا ) حُكْمُ الْمَالِ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ مَادَامَ مَجْنُونًا ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَالِ فِي يَدِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ إتْلَافُ الْمَالِ .
( وَأَمَّا ) الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَيُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ وَلَا بَأْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ ، وَيَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ لِلِاخْتِبَارِ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتَامَى ، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ ، وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ ، وَإِذَا اخْتَبَرَهُ فَإِنْ آنَسَ مِنْهُ رُشْدًا دَفَعَ الْبَاقِيَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } وَالرُّشْدُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالِاهْتِدَاءُ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ مَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ لَمْ يَأْنَسْ مِنْهُ رُشْدًا مَنَعَهُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ ، فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا دَفَعَ إلَيْهِ ، وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا فَإِنَّهُ يَمْنَعُ عَنْهُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَلَمْ يُؤْنِسْ رُشْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا .
( وَأَمَّا ) الرَّقِيقُ فَلَا مَالَ لَهُ يُمْنَعُ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ فِي الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، هَذَا حُكْمُ الْحَجْرِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُهُ فِي تَصَرُّفِهِ
فَالتَّصَرُّفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَفْعَالِ .
( أَمَّا ) التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : نَافِعٍ مَحْضٍ ، وَضَارٍّ مَحْضٍ وَدَائِرٍ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ .
( أَمَّا ) الْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ كُلُّهَا فَلَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ وَكِتَابَتُهُ وَإِقْرَارُهُ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَانْعِقَادِهِ وَلَا أَهْلِيَّةَ بِدُونِ الْعَقْلِ .
( وَأَمَّا ) الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَتَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ بِالْإِجْمَاعِ ( وَأَمَّا ) الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَيَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا .
( وَأَمَّا ) الرَّقِيقُ فَيَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَكَذَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
( وَأَمَّا ) إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ، وَيَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ .
( وَأَمَّا ) الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا يَنْفُذُ بَلْ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا ( وَأَمَّا ) التَّصَرُّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ الْغُصُوبُ وَالْإِتْلَافَاتُ فَهَذِهِ الْعَوَارِضُ وَهِيَ : الصِّبَا ، وَالْجُنُونُ ، وَالرِّقُّ لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ فِيهَا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شَيْئًا ،
فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِمَا ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لَكِنْ بَعْدَ الْعَتَاقِ .
( وَأَمَّا ) السَّفِيهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ أَصْلًا وَحَالُهُ وَحَالُ الرَّشِيدِ فِي التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَإِذَا بَلَغَ رَشِيدًا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ .
( فَأَمَّا ) فِي التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَخْتَلِفَانِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ مَا بَلَغَ سَفِيهًا وَمُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، كَمَا يَنْفُذُ بَعْدَ أَنْ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ عِنْدَهُ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَهُمَا فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْبَالِغِ الْمَعْتُوهِ سَوَاءٌ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ ، وَشِرَاؤُهُ ، وَإِجَارَتُهُ وَهِبَتُهُ ، وَصَدَقَتُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ .
( وَأَمَّا ) فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ سَوَاءٌ ، فَيَجُوزُ طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ ، وَحِجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَاتِهِ ، وَأَقَارِبِهِ ، وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا مِنْ الْعُمْرَةِ ، وَلَا مِنْ الْقَرَابِينِ ، وَسُوقِ الْبَدَنَةِ لَكِنْ يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَالْكِرَاءَ وَالْهَدْيَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَوَصِيِّهِمَا ، وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَتَجُوزُ وَصَايَاهُ بِالْقُرْبِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ
يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَخْتَلِفَانِ ، وَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ أَوْ اشْتَرَى نَظَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَمَا كَانَ خَيْرًا أَجَازَ وَمَا كَانَ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَدَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ ( أَمَّا ) الصَّبِيُّ فَاَلَّذِي يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : إذْنُ الْوَلِيِّ إيَّاهُ بِالتِّجَارَةِ ، وَالثَّانِي : بُلُوغُهُ إلَّا أَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يُزِيلُ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ .
( وَأَمَّا ) التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهَا إلَّا بِالْبُلُوغِ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْ الصَّبِيِّ إلَّا بِالْبُلُوغِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ ثَمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ بَلَغَ رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْحَجِرُ بِحَجْرِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْحَجِرُ الصَّبِيُّ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحَجْرِ الْقَاضِي لَكِنْ يَمْنَعُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَالشَّافِعِيِّ لَا يَزُولُ إلَّا بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا ، ثُمَّ الْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ يُعْرَفُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ ، وَفِي الْجَارِيَةِ يُعْرَفُ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ بِالسِّنِّ .
( أَمَّا ) مَعْرِفَةُ الْبُلُوغِ بِالِاحْتِلَامِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا الصَّبِيُّ حَتَّى يَحْتَلِمَ } جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاحْتِلَامَ غَايَةً لِارْتِفَاعِ الْخِطَابِ ، وَالْخِطَابُ بِالْبُلُوغِ دَلَّ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ ؛ وَلِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالْإِدْرَاكَ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْمَرْءِ كَمَالَ الْحَالِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ ، وَالْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ هِيَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا عِنْدَ الِاحْتِلَامِ ، فَإِنْ
قِيلَ الْإِدْرَاكُ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ إنْ كَانَ ثَابِتًا ، فَأَمَّا إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْآلَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ ؛ لِأَنَّ كَمَالَهَا بِالْإِنْزَالِ وَالِاحْتِلَامِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَلَى الْأَغْلَبِ فَجُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وَالتَّكْلِيفُ بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي وَقْتٍ لَوْ ابْتَغَى الْوَلَدَ لَوُجِدَ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي خُرُوجِ الْمَاءِ لِلشَّهْوَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ فِي الْمُتَعَارَفِ ، وَلِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ عَنْ حَيِّزِ الْأَوْلَادِ وَيَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْآبَاءِ حَتَّى يُسَمَّى أَبَا فُلَانٍ لَا وَلَدَ فُلَانٍ فِي الْمُتَعَارَفِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعَلُوقِ فَكَانَ الِاحْتِلَامُ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ يَثْبُتُ بِالْإِنْزَالِ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي يَتَعَلَّقُ بِالنُّزُولِ لَا بِنَفْسِ الِاحْتِلَامِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِلَامَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَادَةً فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ ، وَكَذَا الْإِحْبَالُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ عَادَةً فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَدْنَى السِّنِّ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُلُوغُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْغُلَامِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ فِي الْجَارِيَةِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِهِمْ : أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْعَقْلُ ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَحْكَامِ ، وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ جُعِلَ حَدًّا فِي الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ
، وَالِاحْتِلَامُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِآفَةٍ فِي خِلْقَتِهِ ، وَالْآفَةُ فِي الْخِلْقَةِ لَا تُوجِبُ آفَةً فِي الْعَقْلِ فَكَانَ الْعَقْلُ قَائِمًا بِلَا آفَةٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي لُزُومِ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ وَعُرِضَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ } فَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَمْسَ عَشْرَةَ حَدًّا لِلْبُلُوغِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ وَالْخِطَابَ بِالِاحْتِلَامِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِعَدَمِهِ ، وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ وُجُودِهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالِاحْتِلَامِ عَنْهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، عَلَى هَذَا أُصُولُ الشَّرْعِ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ لَمَّا كَانَ لَازِمًا فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ لَا يَزُولُ بِامْتِدَادِ الطُّهْرِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْيَأْسُ ، وَيَجِبُ الِانْتِظَارُ لِمُدَّةِ الْيَأْسِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْحَيْضِ ، وَكَذَا التَّفْرِيقُ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَا يَثْبُتُ مَا دَامَ طَمَعُ الْوُصُولِ ثَابِتًا ، بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِاحْتِمَالِ الْوُصُولِ فِي فُصُولِ السَّنَةِ ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ الْآنَ يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ ، وَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ قَبُولِهِمْ ، فَمَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ لَا يُبَاحُ لَنَا الْقِتَالُ ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا مَادَامَ الِاحْتِلَامُ يُرْجَى يَجِبُ الِانْتِظَارُ وَلَا يَأْسَ بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ ، بَلْ هُوَ
مَرْجُوٌّ فَلَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاحْتِلَامِ عَنْهُ مَعَ رَجَاءِ وُجُودِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ بَعْدَهَا فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ فِي زَمَانِ الْيَأْسِ عَنْ وُجُودِهِ .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا رَآهُ صَالِحًا لِلْحَرْبِ مُحْتَمِلًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ لِلْجِهَادِ ، كَمَا أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ سَائِرِ الْقُرَبِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ لَهَا ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَإِذَا أَشْكَلَ أَمْرُ الْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ : قَدْ بَلَغْتُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبُلُوغِ هُوَ الِاحْتِلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَأَلْزَمَتْ الضَّرُورَةُ قَبُولَ قَوْلِهِ ، كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْمَجْنُونُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهُ إلَّا بِالْإِفَاقَةِ فَإِذَا أَفَاقَ رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الصَّبِيِّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
( وَأَمَّا ) الرَّقِيقُ فَالْحَجْرُ يَزُولُ عَنْهُ بِالْإِعْتَاقِ مَرَّةً وَبِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُزِيلُ الْحَجْرَ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ إلَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ .
( وَأَمَّا ) السَّفِيهُ فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الزَّوَالُ .
( وَأَمَّا ) عَلَى مَذْهَبِهِمْ فَزَوَالُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِحَجْرِهِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا بِإِطْلَاقِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
زَوَالُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِظُهُورِ رُشْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْحِجَارَةَ كَانَ بِسَفَهِهِ ، فَانْطِلَاقُهُ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ رُشْدُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ فَصْلُ الْحَبْسِ فَالْحَبْسُ عَلَى نَوْعَيْنِ : حَبْسُ الْمَدْيُونِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ، وَحَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَبْسِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُمْنَعُ ، عَنْهُ الْمَحْبُوسُ وَمَا لَا يُمْنَعُ أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْحَبْسِ فَهُوَ الدَّيْنُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ .
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فَلَا يُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ الْمُتَحَقِّقِ بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَدْيُونِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ ؛ وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أَوْ قَرُبَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ فِي سَفَرِهِ إلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يُحْبَسُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَلَوْ ظُلِمَ فِيهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْحَبْسُ مُفِيدًا ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ شُرِعَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا لِعَيْنِهِ ، وَمِنْهَا الْمَطْلُ وَهُوَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْمَطْلُ لَا يُحْبَسُ لِانْعِدَامِ الْمَطْلِ وَاللَّيُّ مِنْهُ وَمِنْهَا ، أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَا يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وقَوْله تَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ لَكِنْ تَعْزِيرًا لَا حَبْسًا بِالدَّيْنِ .
( وَأَمَّا ) الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحَبْسِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، وَيَسْتَوِي فِي الْحَبْسِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا فَيُحْبَسُ
لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ فَطَلَبُ الْحَبْسِ مِنْ الْقَاضِي فَمَا لَمْ يَطْلُبْ لَا يُحْبَسْ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ ، وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْمَرْءِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ ، وَإِذَا عُرِفَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ .
فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي السَّبَبُ مَعَ شَرَائِطِهِ بِالْحُجَّةِ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهُ ، وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي حَالُهُ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيَتَعَرَّفَ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَبَسَهُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْخِيرِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ فَيُطْلِقُهُ ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْغُرَمَاءَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْإِنْظَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَالًا ، إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُلَازِمُونَهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } ذَكَرَ النَّظِرَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي .
( وَلَنَا ) أَنَّ النَّظِرَةَ هِيَ التَّأْخِيرُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُؤَخَّرَ وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْقَاضِي أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ ، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَلَا مِنْ السَّفَرِ فَإِذَا اكْتَسَبَ يَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ، وَإِذَا مَضَى عَلَى حَبْسِهِ شَهْرٌ ، أَوْ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَنْكَشِفْ حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ خَلَّى سَبِيلَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ كَانَ لِاسْتِبْرَاءِ
حَالِهِ وَإِبْلَاءِ عُذْرِهِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِاشْتِهَارِ الْحَالِ وَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ فَيُطْلِقُهُ ، لَكِنْ الْغُرَمَاءُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَيُلَازِمُونَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَقَالَ الطَّالِبُ : هُوَ مُوسِرٌ وَقَالَ الْمَطْلُوبُ : أَنَا مُعْسَرٌ فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وَهِيَ الْيَسَارُ .
وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَفَالَةِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَالْكَفَالَةِ ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْمَالِ وَالْخُلْعِ ، أَوْ ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هُوَ مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ ، وَكَذَا فِي الْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ ، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ ، أَوْ الْقَتْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَيُوجِبُ الْمَالَ فِي مَالِ الْجَانِي ، وَفِي الْخَطَأِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي نَحْوَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي سَلِمَ لَهُ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ وَالْغَصْبُ وَالسَّلَمُ الَّذِي أَخَذَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ ، وَكُلُّ دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ أَصْلًا كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ ، أَوْ لَهُ عِوَضٌ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَا يُحْبَسُ ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ ، وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ
يَمِينِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُحَكَّمُ زِيُّهُ إذَا كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَإِنْ كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُحَكَّمُ زِيُّهُ فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، إلَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، أَوْ الْعَلَوِيَّةِ ، أَوْ الْأَشْرَافِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَاتِهِمْ التَّكَلُّفَ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّلَ بِدُونِ الْغِنَى فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ ( وَجْهُ ) مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْقَوْلَ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، وَإِذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ سَلِمَ لَهُ ، كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ بِسَلَامَةِ الْمَالِ ، وَكَذَا فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ : أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ إقْدَامُهُ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّزَوُّجِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَزَوَّجُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَهْرِ ، وَكَذَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْخُلْعِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُخَالِعُ عَادَةً حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهَا شَيْءٌ ، وَكَذَا الصُّلْحُ لَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ عَنْهُ وَمَا لَا يُمْنَعُ فَالْمَحْبُوسُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ ، وَإِلَى الْجُمَعِ ، وَالْجَمَاعَاتِ ، وَالْأَعْيَادِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى ، وَالزِّيَارَةِ وَالضِّيَافَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِذَا مُنِعَ عَنْ أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ تَضَجَّرَ فَيُسَارِعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَقَارِبِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِمَا وَضَعَ لَهُ الْحَبْسُ بَلْ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَيْهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ : مِنْ الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْغُرَمَاءِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَوْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ الَّذِينَ حُبِسَ لِأَجْلِهِمْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمَحْبُوسِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدُهُمَا لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ مَالِهِ عَلَيْهِ مِمَّا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ ، لَكِنْ إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَهُ دَنَانِيرُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّرَاهِمِ وَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ .
وَكَذَا إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ وَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ ، فَرْقٌ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ ،
وَلَا يَبِيعُ سَائِرَ الْأَمْوَالِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ : أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ ، وَالْمُؤَدَّى عَنْ أَحَدِهِمَا كَانَ مُؤَدًّى عَنْ الْآخَرِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَعَيْنِ الْآخَرِ حُكْمًا ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُجَانَسَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِبَيْعِهِمَا بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْعُرُوضَ إذَا بِيعَتْ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْتَرَى مِثْلَ مَا تُشْتَرَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، بَلْ دُونَ ذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ ، وَلَا ضَرَرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا ؛ لَا تَتَفَاوَتُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ جَمِيعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ ؛ بَيْعَ الْقَاضِي لَيْسَ تَصَرُّفًا عَلَى الْمَيِّتِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ ؛ وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدُّيُونِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الدَّيْنِ عِنْدَمَا سَدَّهُ عَنْ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَيُنْفِقُ الْمَحْبُوسُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَقَارِبِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ : مَحْبُوسٌ هُوَ مَضْمُونٌ وَمَحْبُوسٌ هُوَ أَمَانَةٌ ، وَالْمَضْمُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا مَضْمُونٍ بِالثَّمَنِ وَمَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَالْمَضْمُونُ بِالثَّمَنِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِإِزَاءِ تَمْلِيكٍ ، وَتَسْلِيمٌ بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ بِالثَّمَنِ ، فَيُسْقِطُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ ، فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَهَذَا بِالثَّمَنِ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ هَهُنَا ، وَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَصْلًا .
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَحَبَسَ السِّلْعَةَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَهَلَكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا ، لَكِنْ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الرَّهْنِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَمَّا الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ فَكَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إذَا فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَبَسَهُ لِيَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ ، وَكَذَا الْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا ، لَكِنْ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ
الدَّيْنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ فَنَحْوُ نَمَاءِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً إجَارَةً فَاسِدَةً إذَا كَانَ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَحَبَسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ حَتَّى هَلَكَتْ فِي يَدِهِ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْإِكْرَاهِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْإِكْرَاهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إذَا أَتَى بِهِ الْمُكْرَهُ وَفِي بَيَانِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْكُرْهِ ، وَالْكُرْهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْمُكْرَهِ يُنَافِي الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا ؛ وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلَ الْآخَرِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ : إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ ، أَيْ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَى بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّعَاءِ إلَى الْفِعْلِ بِالْإِيعَادِ وَالتَّهْدِيدِ مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا الَّتِي نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى لِصُورَةِ الْعَدَدِ ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا ، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ وَالضَّرْبَ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا .
فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : إنَّ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ إلَّا إيعَادٌ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُسَلَّطٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : غَيْرُ السُّلْطَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ فَيُغِيثُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ السُّلْطَانُ فَلَا يَجِدُ غَوْثًا ، وَقِيلَ : إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ خِلَافُ زَمَانٍ فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ قُدْرَةُ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ فِي زَمَانِهِمَا فَغَيَّرَ الْفَتْوَى عَلَى حَسَبِ الْحَالِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا ، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ الْمُطْلَقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْبَالِغِ الْمُخْتَلَطِ الْعَقْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ وَأَكْثَرِ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ تَحَقَّقَ مَا أُوعِدَ بِهِ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّعَيُّنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا ، وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْإِيعَادِ ؛
لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ ، وَمِثْلُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِفِعْلٍ وَلَمْ يُوعِدْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ تَحَقَّقَ مَا أَوْعَدَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الْجُوعُ الْمُهْلِكُ لَأُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِتَنَاوُلِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ ، وَإِنْ صَبَرَ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا أُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ يُبَاحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لِلْحَالِ دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ دُونَ صُورَةِ الْإِيعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : حِسِّيٌّ وَشَرْعِيٌّ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ فِيهِ ، أَمَّا الْحِسِّيُّ الْمُعَيَّنُ فِي كَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالشَّتْمُ وَالْكُفْرُ وَالْإِتْلَافُ وَالْقَطْعُ عَيْنًا .
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْحُقُوقِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ وَتَرْكُ طَلَبِهَا وَنَحْوُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - .
التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ هُوَ مُبَاحٌ ، وَنَوْعٌ هُوَ مُرَخَّصٌ ، وَنَوْعٌ هُوَ حَرَامٌ لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَلَا مُرَخَّصٍ .
( أَمَّا ) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } ، أَيْ دَعَتْكُمْ شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ إلَى أَكْلِهَا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَخَّصُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ ، فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِحُكْمِهَا قَائِمَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْإِجَاعَةِ بِأَنْ قَالَ : لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَإِلَّا لَأُجِيعَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى يَجِيئَهُ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ ، فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُؤَاخَذَةُ ؛ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْكَلَامِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا ؛ لِأَنَّهُ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ بِالنَّفْسِ هُنَا ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ مُجْبَرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَكَذَلِكَ التَّكَلُّمُ بِشَتْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : مَا وَرَاءَك يَا عَمَّارُ فَقَالَ : شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ عَادُوا فَعُدْ } فَقَدْ رَخَّصَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إتْيَانِ الْكَلِمَةِ بِشَرِيطَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ أَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْعَوْدِ إلَى مَا وُجِدَ مِنْهُ ، لَكِنْ الِامْتِنَاعُ
عَنْهُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ شَتْمُ الْمُسْلِمِ ، لِأَنَّ عِرْضَ الْمُسْلِمِ حَرَامُ التَّعَرُّضِ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ النَّبِيُّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ } إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ ، لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ .
وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَإِيثَارًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ : إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةُ دَمِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ قَضَى حَقَّ الْحُرْمَةِ فَكَانَ مَأْجُورًا لَا مَأْزُورًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ مَالِ نَفْسِهِ مُرَخَّصٌ بِالْإِكْرَاهِ لَكِنْ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الدَّفْعُ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَكَذَا مَنْ أَصَابَتْهُ الْمَخْمَصَةُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ الطَّعَامَ فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ } لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ رَاعَى حَقَّ الْحُرْمَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا ، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا مِنْ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَصْلًا ، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ .
وَإِنْ قَالَ : كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَيَأْثَمُ بِشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَلَكِنْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ
أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْفِعْلُ أَصْلًا ، وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الَّذِي لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْإِكْرَاهِ أَصْلًا فَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } ، وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَالضَّرْبُ الْمُهْلِكُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } ، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } ، وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً بِحُكْمِهَا فَلَا يُرَخَّصُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَقْدَمَ يَأْثَمُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) ضَرْبُ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ كَضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيُرْجَى أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ ، وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْمُكْرَهِ بِكَثِيرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الضَّرَرِ لِإِحْيَاءِ أَخِيهِ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ أَوْ قَطَعَهُ أَوْ ضَرَبَهُ ، فَقَالَ لِلْمُكْرَهِ : افْعَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَوْ فَعَلَ فَهُوَ آثِمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ أَثِمَ فَبِغَيْرِهِ أَوْلَى ، وَكَذَا الزِّنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا ثَابِتَةٌ فِي الْعُقُولِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ لَا يُبَاحُ أَيْضًا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُرَخَّصُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَدْفُوعَةٌ إلَيْهِ ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا كَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً إلَّا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ ، وَزِنَاهَا بِالتَّمْكِينِ وَالتَّمْكِينُ فِعْلٌ مِنْهَا لَكِنَّهُ فِعْلُ سُكُوتٍ فَاحْتَمَلَ الْوَصْفَ بِالْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَا يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ كَمَا لَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ : أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُكْرَهُ عَلَى الشُّرْبِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا عَنْ الْجِنَايَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالشُّرْبُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً بِالْإِكْرَاهِ ، وَصَارَ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا كَانَ نَاقِصًا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَمْ يُوجِبْ تَغَيُّرَ الْفِعْلِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ بِوَجْهٍ مَا ، فَلَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيمَانِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِيمَانِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الْحَقِيقَةِ تَصْدِيقٌ وَالْكُفْرَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْذِيبٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَمَلُ الْقَلْبِ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كَانَ مُؤْمِنًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ ، وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ إلَّا أَنَّ عِبَارَةَ اللِّسَانِ جُعِلَتْ دَلِيلًا عَلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ظَاهِرًا حَالَةَ الطَّوْعِ ، وَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ بِالْإِكْرَاهِ فَبَقِيَ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَالْكُفْرُ مُحْتَمَلًا ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْإِسْلَامِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِالْكُفْرِ فِيهَا بِالِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّهُ حُكِمَ بِذَلِكَ ؛ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا ظَاهِرَ إيمَانِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ لَا قَطْعًا وَلَا غَالِبًا .
وَهَذَا جَائِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَبَاكَ وَتَعَالَى أَمَرَنَا فِي النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ بِامْتِحَانِهِنَّ بَعْدَ وُجُودِ ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } لِيَظْهَرَ لَنَا إيمَانُهُنَّ بِالدَّلِيلِ الْغَالِبِ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } كَذَا هَهُنَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي أَنَّ اعْتِبَارَ الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ فِي بَابِ الْإِسْلَامِ يَرْجِعُ إلَى إعْلَاءِ الدِّينِ الْحَقِّ ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ يَرْجِعُ إلَى ضِدِّهِ ، وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ قَالَ النَّبِيُّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْغَالِبِ إعْلَاءً لِدِينِ الْحَقِّ ، وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِإِيمَانِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْحُكْمِ بِعَدَمِ كُفْرِ الْمُكْرَهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُحْبَسُ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَلَ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِسْلَامِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ظَاهِرًا طَمَعًا لِلْحَقِيقَةِ ، لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَنْجَعَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا رَجَعَ تُبُيِّنَ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِ ، وَأَنَّهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ إظْهَارًا لِمَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّكْذِيبِ فَلَا يُقْتَلُ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ فَبَلَغُوا كُفَّارًا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَمْسِ فَأَقَرَّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ بِإِجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ حَتَّى لَا تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَثْبُتَ الْبَيْنُونَةُ ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ أَوْ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ حُكْمُ تِلْكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ فَكَذَا حُكْمُ هَذِهِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الرِّدَّةُ دُونَ نَفْسِ الْكَلِمَةِ ،
وَإِنَّمَا الْكَلِمَةُ دَلَالَةٌ عَلَيْهَا حَالَةَ الطَّوْعِ ، وَلَمْ يَبْقَ دَلِيلًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الرِّدَّةُ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ ، وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ خَطَرَ بِبَالِي فِي قَوْلِي : كَفَرْت بِاَللَّهِ أَنْ أُخْبِرَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا ، وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى إنْشَاءِ الْكُفْرِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى بِالْإِخْبَارِ وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْإِخْبَارِ بَلْ هُوَ طَائِعٌ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ طَائِعًا : كَفَرْت بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِخْبَارِ فِيمَا مَضَى ثُمَّ قَالَ مَا أَرَدْت بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْقَضَاءِ ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَا دَعَاهُ إلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْشَأَ الْكُفْرَ طَوْعًا وَلَوْ قَالَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي شَيْءٌ آخَرُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُرِدْ شَيْئًا يُحْمَلُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ فَقَامَ يُصَلِّي فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا ، وَالطَّائِعُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ : نَوَيْت بِهِ ذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ فِعْلُهُ ، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ فِي الْقَضَاءِ ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى لِلصَّلِيبِ طَائِعًا مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الصَّلِيبِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ ظَاهِرًا ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ مَعَ سُكُونِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَبَّهُ ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ ، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَهَذَا طَائِعٌ فِي سَبِّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ : عَنَيْت بِهِ غَيْرَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِالسَّبِّ رَجُلًا آخَرَ ، فَسَبَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَى جِهَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ تَامًّا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَوْ قَالَ : كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَالطَّائِعِ إذَا أَجْرَى الْكَلِمَةَ ثُمَّ قَالَ : كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَأَمَّا ) الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ إذَا أَتْلَفَهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا ؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ هُوَ الْمُكْرَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَسْلُوبُ الِاخْتِيَارِ إيثَارًا وَارْتِضَاءً ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْفِعْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ فَيَضْرِبَهُ عَلَى الْمَالِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ آلَةَ الْمُكْرِهِ ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِإِكْرَاهِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْلَبُ الِاخْتِيَارُ أَصْلًا ، فَكَانَ الْإِتْلَافُ مِنْ الْمُكْرَهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْلُ مِمَّا لَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَأَكَلَ أَوْ عَلَى أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ نَفْسِهِ فَلَبِسَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فَعَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ أَكْلَ مَالِ نَفْسِهِ وَلُبْسَ ثَوْبِ نَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ بَلْ هُوَ صَرْفُ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَةِ بَقَائِهِ ، وَمَنْ صَرَفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَتِهِ لَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ .
وَلَوْ أَذِنَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُكْرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِتْلَافِ يَعْمَلُ فِي الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الثَّالِثُ فَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِمَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَادَةً ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْمُكْرَهِ مُبَاشَرَةً وَمِنْ الْمُكْرِهِ تَسْبِيبًا ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً حِسًّا وَمُشَاهَدَةً ، وَإِنْكَارُ الْمَحْسُوسِ مُكَابَرَةٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مِنْهُ دُونَ الْمُكْرِهِ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُكْرِهَ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مُسَبِّبٌ لِلْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ هُوَ الْمُكْرَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْلَى ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَفَوْتُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } ، وَعَفْوُ الشَّيْءِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ فَكَانَ مُوجَبُ الْمُسْتَكْرَهِ عَلَيْهِ مَعْفُوًّا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الْآلَةَ إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ كَإِتْلَافِ الْمَالِ ، ثُمَّ الْمُتْلِفُ هُوَ الْمُكْرِهُ حَتَّى
كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، فَكَذَا الْقَاتِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَاطِعُ حَقِيقَةً لَمَا اقْتَصَّ ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } وَمَعْنَى الْحَيَاةِ شَرْعًا وَاسْتِيفَاءً لَا يَحْصُلُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ وَاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ الْمُكْرَهُ يَعْقِلُ وَهُوَ مُطَاعٌ أَوْ بَالِغٌ مُخْتَلَطُ الْعَقْلِ - وَهُوَ مُسَلَّطٌ - لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ .
وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ الْمُكْرَهَ : اُقْتُلْنِي مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا أَوْلَى ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا ، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الدِّيَاتِ ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى قَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ لَا حَقِيقَتُهُ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْآلَةِ ، فَكَانَ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرَهِ ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَلَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ
الْمِيرَاثِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ .
( وَأَمَّا ) الْمُكْرِهُ فَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يُحْرَمُ لِانْعِدَامِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهُوَ وَارِثُ الْمَقْتُولِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْقَتْلِ جَازِمًا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ ، وَلِهَذَا إذَا قَتَلَهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لَا يُحْرَمُ فَإِذَا قَتَلَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ إذَا قَطَعَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْقَتْلِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا كَانَ أَذِنَ لِلْمُكْرَهِ بِقَطْعِ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَطَعَ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ، وَفِي بَابِ الْقَتْلِ إذَا أَذِنَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ لِلْمُكْرَهِ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ فَهُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَحْضِ مُبِيحٌ ، فَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ حُكْمُ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِخِلَافِ النَّفْسِ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ : لَتَقْطَعَنَّ يَدَك وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ كَانَ فِي سِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْمُكْرَهُ عَلَى الزِّنَا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الزِّنَا فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ ، وَلَا يَجِدُ غَوْثًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْهُ .
( وَأَمَّا ) قَوْلُهُ إنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ يَفْعَلُ ، فَكَانَ فِعْلُهُ بِنَاءً عَلَى إكْرَاهِهِ فَيَعْمَلُ فِيهِ لِضَرُورَتِهِ مَدْفُوعًا إلَيْهِ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَمَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِكْرَاهِ صَارَتْ مَحْمُولَةً عَلَى التَّمْكِينِ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ السَّيْفِ ، فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا كَمَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ ثُمَّ الْإِكْرَاهُ لَمَّا أَثَّرَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي جَانِبِهَا
أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ إكْرَاهُ الرَّجُلِ تَامًّا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ ضَرْبٍ لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مَدْفُوعًا إلَى فِعْلِ مَا أُكْرِهَ فَبَقِيَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فَيُؤَاخَذُ بِحُكْمِ فِعْلِهِ .
( وَأَمَّا ) فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ وَالنَّاقِصِ وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهَا فِي نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا بَلْ الْمَوْجُودُ هُوَ التَّمْكِينُ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ فَيُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا .
، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِ فِعْلَيْنِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالرُّخْصَةِ وَالْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمُرَخَّصِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الرُّخْصَةِ أَعْنِي بِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُبَاحُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُبَاحُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ ، وَكُلُّ مَا لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ ، وَكُلُّ مَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ إلَّا إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَبَيْنَ الْمُرَخَّصِ ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ أَكْلِ مَا لَا يُبَاحُ ، وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ وَشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَالزِّنَا يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُرَخَّصُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى قُتِلَ يَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُمَا لَا يَأْثَمُ إذَا قُتِلَ بَلْ يُثَابُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْإِتْلَافِ لِمَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَهُمَا حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ وَإِتْلَافِ مَالِ نَفْسِهِ يُرَخَّصُ لَهُ الْإِتْلَافُ دُونَ الْقَتْلِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ ، وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْكُفْرِ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَلَا
يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ الْكُفْرِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْفَصْلُ فِي الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرَخَّصَ لَهُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ أَصْلًا كَمَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي إجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِالْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْأَكْلُ فَكَانَ إجْرَاءُ الْكَلِمَةِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُرَخَّصُ لَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَقَدْ يَخْتَلِفُ بِالتَّخْيِيرِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحِ فَكَانَ الْقَتْلُ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُؤَاخَذُ بِالْقِصَاصِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْكُفْرِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ وَقَتَلَ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْقَتْلِ حَيْثُ آثَرَ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُرَخَّصِ فِيهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ مُرَخَّصٌ لَهُ مِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَجِبُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَمْرَ هَذَا الرَّجُلِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الرُّخْصَةِ فِي الْقَتْلِ ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ؛ لِانْعِدَامِ الظَّنِّ الْمُورِثِ
لِلشُّبْهَةِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ بِالرُّخْصَةِ فَقَدْ اسْتَعْظَمَ حَرْفَ الْكُفْرِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَجُعِلَ اسْتِعْظَامُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ .
( وَقَالَ ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا } وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا فَزَنَا الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُدْرَأُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ قَتَلَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ بِالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ وَيُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرِهِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - التَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : إنْشَاءٌ وَإِقْرَارٌ ، وَالْإِنْشَاءُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُهُ أَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَفَوْت عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ كُلِّ مَا اُسْتُكْرِهَ عَلَيْهِ عَفْوًا ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ التَّصَرُّفُ شَرْطُ جَوَازِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَفُوتُ بِالْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَا وُضِعَ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ مَضَرَّةِ السَّيْفِ عَنْ نَفْسِهِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ وَإِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ .
( أَمَّا ) الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ لَيْسَ إلَّا الرِّضَا طَبْعًا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَإِنَّ طَلَاقَ الْهَازِلِ وَاقِعٌ وَلَيْسَ بِرَاضٍ بِهِ طَبْعًا ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْفَائِقَةَ حُسْنًا وَجَمَالًا الرَّائِقَةَ تَغَنُّجًا وَدَلَالًا لِخَلَلٍ فِي دِينِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهِ طَبْعًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا
حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ ، وَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ ظَاهِرًا يَوْمَئِذٍ وَكَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَاتُ الْكُفْرِ خَطَأً وَسَهْوًا ، فَعَفَا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مُسْتَكْرَهٍ عَلَيْهِ مَعْفُوٌّ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَكُلَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ مُسْتَكْرَهٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ كَمَا يَعْمَلُ عَلَى الِاعْتِقَادَاتِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ لِسَانِ غَيْرِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ جَبْرًا فَكَانَ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَكْرَهًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ .
وَقَوْلُهُ الْقَصْدُ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِشَرْطِ اعْتِبَارِ التَّصَرُّفِ قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ بِطَلَاقِ الْهَازِلِ ثُمَّ إنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ فَكَانَ قَاصِدًا إلَيْهِ ضَرُورَةً ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أُكْرِهَ عَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ ، وَحُكْمُ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَوْعَيْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ يَتَّفِقُ مَرَّةً وَيَخْتَلِفُ أُخْرَى ، وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَاهُنَا حُكْمَ جَوَازِ التَّطْلِيقِ الْمُنَجَّزِ فَنَقُولُ إذَا جَازَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَفْرُوضِ إنْ كَانَ الْمَهْرُ مَفْرُوضًا وَالْمُتْعَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى
مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجْبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَهُوَ الَّذِي اسْتَوْفَى الْمُبْدَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا سَبِيلَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِاخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الطَّلَاقِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ فَفَعَلَهُ الْوَكِيلُ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَأَمَّا الْعَتَاقُ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ : عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ : اعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَقَالَ : أَوَلَيْسَا وَاحِدًا ؟ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا ، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا } ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا النَّدْبُ إلَى الْإِعْتَاقِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَا يَخْلُو .
إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِهِ أَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ ، أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ هُوَ مَالٌ ، وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ ، وَالْأَمْوَالُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَيَسْتَوِي فِيهِ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا مَعْنَى لِلرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ وَالْوَلَاءُ لَلْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَقْوَالِ فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُسْتَسْعَى إمَّا لِتَخْرِيجِهِ إلَى الْعِتْقِ تَكْمِيلًا لَهُ ، وَإِمَّا لِتَعْلِيقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ ، وَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْمِيلِ ، وَكَذَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى شِرَاءِ ذِي
رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِالنَّصِّ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ هَهُنَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضٌ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى إعْتَاقِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ يُعْتَقُ نِصْفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ .
وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ الْمُكْرَهُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ نَصِيبَهُ ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ نَصِيبَ الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إتْلَافُ الْمَالِ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ الْمُتْلِفُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ الْمُكْرِهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا وَهَهُنَا يَضْمَنُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكْرَهِ ضَمَانُ إتْلَافٍ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، فَالْوَاجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ لَيْسَ بِضَمَانِ إتْلَافٍ ؛ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَإِنْ عَتَقَ لَكِنْ لَا بِإِعْتَاقِهِ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ عَتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ لَا بِتَصَرُّفِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا غَيْرُهُ أَوْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَفَسَدَتْ أَرْضُ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ
إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ عُرِفَ شَرْعًا .
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عَلَى الْمُوسِرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ ، وَشَرِيكُ الْمُكْرَهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كَانَ الْمُكْرَهُ أَوْ مُوسِرًا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ طَرِيقِ الضَّمَانِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ أَوْ السِّعَايَةَ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا فَلِشَرِيكِ الْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا غَيْرُ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ لَا غَيْرُ كَمَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا يَخْتَصُّ بِالْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
( وَأَمَّا ) التَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَحْرِيرٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ } وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهُ لِلْحَالِ تَحْرِيرٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ مِنْ وَجْهٍ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ بِمَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِبَقِيَّةِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْحَالِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّدْبِيرِ إتْلَافًا لِمَالِ الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ مِنْ وَجْهٍ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِهِ مِنْ النُّقْصَانِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ الْإِتْلَافُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَكَامَلُ الضَّمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا مَاتَ الْمُكْرَهُ صَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ .
، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ ، أَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي النَّوْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ ، فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَا بُدَّ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ أَوْ يَخَافُ مِنْ تَرْكِهِ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَفَعَلَهُ حَتَّى عَتَقَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ إكْرَاهٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَتَقَاضِي دَيْنِ الْغَرِيمِ أَوْ تَنَاوُلِ شَيْءٍ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فَفَعَلَ حَتَّى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى تَحْصِيلِهِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ إكْرَاهًا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ الْمَالِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ مَلَكَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَقْطَعُ إضَافَةَ إكْرَاهِ الْإِتْلَافِ إلَى الْمُكْرِهِ ، وَإِنْ مَلَكَ بِإِرْثٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُكْرَهِ فِي الْإِرْثِ فَبَقِيَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ : إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ : شِئْت حَتَّى عَتَقَ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ الْعِتْقَ تُوجَدُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ مِنْهُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إكْرَاهًا عَلَيْهِ هَذَا إذَا أُكْرِهَ
عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ .
، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ عَنْ طَوْعٍ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدٍ : إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ حَتَّى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَثْبُتْ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الشِّرَاءُ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ طَائِعٌ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ عَلَى الدُّخُولِ حَتَّى عَتَقَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ الْإِضَافَةَ عَنْ الْمُكْرَهِ بِوَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ الْمُطْلَقِ عَيْنًا .
، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ أَوْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا غَرِمَ الْمُكْرِهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ ، أَمَّا إذَا فَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَمَانًا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِأَقَلِّ الْفِعْلَيْنِ ضَمَانًا فَإِذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا كَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّيَادَةِ ؛ لِانْعِدَامِ الِاضْطِرَارِ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ هَذَا الْقَدْرِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ أَمَّا إذَا طَلَّقَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ ضَمَانٌ أَصْلًا وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ مُخْتَارًا فِي الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا .
وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ نَاقِصٌ فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فِيهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكْرِهُ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ؛ وَلِهَذَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ كَالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ
الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْهَزْلَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا لَا يَعْمَلُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً ، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي ، وَإِنَّمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَالَةَ الطَّوْعِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرِهِ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ لَا عَلَى الْإِعْتَاقِ ، وَإِنَّمَا الْإِعْتَاقُ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ كَشُهُودِ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إذَا رَجَعُوا لَا يَضْمَنُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْوَكَالَةِ بِالْإِعْتَاقِ كَذَا هَهُنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إكْرَاهٌ عَلَى الْإِعْتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ بِالْإِعْتَاقِ مَلَكَ الْوَكِيلُ إعْتَاقَهُ عَقِيبَ التَّوْكِيلِ بِلَا فَصْلٍ فَيَعْتِقُهُ فَيَتْلَفُ مَالُهُ ، فَكَانَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِأَمْرِهِ أَمْرًا صَحِيحًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } وَغَيْرِهِ مِنْ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ إذَا جَازَ النِّكَاحُ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَرْأَةُ ، فَإِنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ جُعِلَتْ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا عِنْدَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَصِيَانَةً لَهُ عَنْ الِابْتِذَالِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ .
وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَبَطَلَتْ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ إلَّا قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى إيجَابِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ وَيُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْمَالِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ أَصْلًا إلَّا أَنَّهَا صَحَّتْ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَوْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَدْرَ لَأَثْبَتَهُ ثَانِيًا فَلَمْ يَكُنْ الْإِبْطَالُ مُفِيدًا فَلَمْ يَبْطُلْ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْإِبْطَالُ مَخْرَجَ الْعَيْبِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا هَذَا إذَا أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَى النِّكَاحِ ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ ، فَإِنْ
كَانَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ وَلَزِمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِأَنْ أُكْرِهَتْ عَلَى النِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشْرَةُ آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا وَهُمْ مُكْرَهُونَ جَازَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهَا مَالًا ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً بِالْعَقْدِ .
وَالْعَقْدُ قَوَّمَهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرِهِ إتْلَافُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَلَيْهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الشُّهُودِ أَوْلَى ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا فَقَالَ لِلزَّوْجِ : إنْ شِئْت فَكَمِّلْ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَإِلَّا فَنُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَ النِّكَاحُ ، وَإِنْ أَبَى تَكْمِيلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ تَرْضَ بِالنُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ لَهَا فِي كَمَالِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَقًّا ؛ لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَلْحَقُهَا ضَرَرُ الْعَارِ ، وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ دَخَلَ بِهَا عَنْ طَوْعٍ مِنْهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى وَبَطَلَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ لَكِنْ بَقِيَ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ التَّفْرِيقِ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
وَلَوْ دَخَلَ بِهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا لَزِمَهُ تَكْمِيلُ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ كُفْئًا فَلِلْمَرْأَةِ خِيَارُ التَّفْرِيقِ
لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَيْضًا ، وَكَذَا الْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَهُمْ خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ إمَّا لَا خِيَارَ لَهُمْ لِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَإِنْ سَقَطَ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ عَنْهَا يَبْقَى لَهَا حَقُّ التَّفْرِيقِ لِبَقَاءِ الْخِيَارِ الْآخَرِ ، وَإِنْ سَقَطَ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا فَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي خِيَارِ نُقْصَانِ الْمَهْرِ خِلَافٌ عَلَى مَا عُرِفَ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا دَخَلَ بِهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا حَتَّى لَزِمَهُ التَّكْمِيلُ بَطَلَ خِيَارُ النُّقْصَانِ وَبَقِيَ لَهَا عَدَمُ خِيَارِ الْكَفَاءَةِ .
وَلَوْ رَضِيَتْ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَيْضًا صَرِيحًا وَدَلَالَةً بِأَنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ عَلَى طَوْعٍ مِنْهَا سَقَطَ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا وَبَطَلَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ أَصْلًا لَكِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا ، وَعِنْدَهُمَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ بَلْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ وَاللَّمْسُ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى النَّوْعَيْنِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْيَمِينُ وَالنَّذْرُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً أَوْ حَجًّا أَوْ شَيْئًا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ فَلِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الطَّبَائِعِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَقَالَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ بِالْعُهُودِ ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وَلِأَنَّ هَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ قَوْلِيَّةٌ .
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ بِالْجِمَاعِ وَفِي حَقِّ الْعَاجِزِ بِالْقَوْلِ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ طَائِعًا فِي الْفَيْءِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالْقُرْبَةِ الْمَنْذُورِ بِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ ، وَكَذَا الْمَنْذُورُ بِهِ ؛
لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ وَهُمَا مِمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِمَا أَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ لَكَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ الْمُكْرِهَ شَيْئًا فَلَا مَعْنًى لِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا جَعْلُ الْمُوَسَّعِ مُضَيَّقًا ، وَالثَّانِي جَعْلُ مَا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ ؟ وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ إذَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ تَرْكُ الْقُرْبَانِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي تَرْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى لَا تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا لَمْ يَقْرَبْ كَانَ تَرْكُ الْقُرْبَانِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِفِعْلِهِ .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَبْدٍ وَسَطٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ وَلَا تَجْزِيهِ عَنْ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ دَخَلَهُ عِوَضٌ وَالْإِعْتَاقُ بِعِوَضٍ ، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجْزِي عَنْ التَّكْفِيرِ .
وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَلِعُمُومَاتِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ } وَلِقَوْلِهِ بِهِ أَيْ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْقِصَاصِ هُوَ الْعَفْوُ وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ { ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فَقَدْ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْعَفْوِ عَامًّا ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْعَفْوِ إذَا رَجَعُوا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ بُطْلَانَهَا أَصْلًا ( وَوَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِكْرَاهُ يَسْلُبُ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ يَجُوزُ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
( وَلَنَا ) ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْبَيْعِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ ، وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ صَدَرَ مُطْلَقًا مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ مَالُ مَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ أَوْ الرِّبَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُنَا الْفَاسِدُ لِعَدَمِ الرِّضَا طَبْعًا فَكَانَ الرِّضَا طَبْعًا شَرْطَ الصِّحَّةِ لَا شَرْطَ الْحُكْمِ ، وَانْعِدَامُ شَرْطِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ إلَّا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ لَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ ؛ لِأَنَّ فَسَادَهَا لَحِقَ الشَّرْعَ مِنْ حُرْمَةِ الرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ بِرِضَا الْعَبْدِ ، وَهُنَا الْفَسَادُ لَحِقَ الْعَبْدَ وَهُوَ عَدَمُ رِضَاهُ فَيَزُولُ بِإِجَازَتِهِ وَرِضَاهُ ، وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِالْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
إمَّا إنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ وَإِمَّا أَنْ كَانَ هُوَ
الْمُشْتَرِيَ .
وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ وَإِمَّا إنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَمِيعًا ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ فَإِذَا سَلَّمَ طَائِعًا فَقَدْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي ، فَكَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ بِالْإِكْرَاهِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْهُ طَائِعًا إجَازَةً لِذَلِكَ الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ هَذَا بَيْعًا مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ التَّعَاطِي .
وَالثَّانِي : أَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْهُ إجَازَةٌ لِذَلِكَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ إكْرَاهًا عَلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِهِ إذْ الْبَيْعُ يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا سَلَّمَ طَائِعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ إجَازَةً ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِمَا إكْرَاهًا عَلَى الْقَبْضِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ هَذَا إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ هُوَ الْمُبَادَلَةُ ، وَالْإِكْرَاهُ يُؤَثِّرُ فِيهَا بِالْفَسَادِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ تَعَذَّرَ
عَلَيْهِ الْفَسْخُ إذْ الْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَقَرَّرَ الْهَلَاكُ فَتَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ .
وَالْمُكْرَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ الْمُكْرِهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ كَالْغَاصِبِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ .
وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَالِكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ كَذَا هَذَا ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ نَفَذَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَنْفُذْ الْإِعْتَاقُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي حُكْمِ الْإِنْشَاءِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ مُقْتَصِرٌ مِنْ وَجْهٍ ظَاهِرٌ مِنْ وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِي حَقِّ الْمُعَلَّقِ بَلْ يُقْتَصَرَ ، وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ .
وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ .
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛
لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الشِّرَاءِ فَكَانَ لَازِمًا فِي جَانِبِهِ لَكِنْ إنَّمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ فَسْخَ هَذَا الْعَقْدِ إذَا كَانَ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ ، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْفَسْخِ أَيَّ تَصَرُّفٍ كَانَ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَمْلُوكِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِزَوَالِ الْمَمْلُوكِ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ ، فَلَمَّا ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ وَهُوَ كَرَاهَتُهُ وَفَوَاتُ رِضَاهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ ، فَكَانَ حَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعُقُودَ كُلَّهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَا إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ إلَّا إذَا كَانَ بِمَحَلِّ الْإِجَازَةِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ حَتَّى لَا يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ يُسْتَنَدُ ، وَالْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ ، وَالْمَحَلُّ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ وَتَقَرَّرَ هَلَاكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ ، وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي .
وَإِذَا أَجَازَ وَاحِدًا مِنْ الْعُقُودِ
جَازَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا مَا بَعْدَ هَذَا الْعَقْدِ ، وَمَا قَبْلَهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي هَكَذَا حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَتَوَقَّفَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا ، فَأَجَازَ الْمَالِكُ وَاحِدًا مِنْهَا إنَّمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُودِ ، وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَجُوزُ مَا بَعْدَ عَقْدِهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ بَلْ تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْكُلِّ عَلَى الْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ شَرْطَ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ مَا لَحِقَهُ الشَّرْطُ دُونَ غَيْرِهِ أَمَّا هَهُنَا فَالْعُقُودُ مَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهَا عَلَى الْإِجَازَةِ لِوُقُوعِهَا نَافِذَةً قَبْلَ الْإِجَازَةِ إذْ الْفَسَادُ لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إزَالَةَ الْإِكْرَاهِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَمَتَى جَازَ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْأَصْلِ جَازَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فَتَجُوزُ الْعُقُودُ كُلُّهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ضَمِنَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَدَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ أَخْذِ الضَّمَانِ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ جِنَايَتِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ إمَّا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ الْعُقُودِ ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ : أَجَزْت جَازَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْإِكْرَاهُ ، وَالْإِجَازَةُ إزَالَةُ الْإِكْرَاهِ ، وَكَذَا إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَبَضَ الْمَالِكُ الثَّمَنَ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَلَكِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ نَفَذَ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَبَضَ الْعَبْدَ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ صَحِيحٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ
قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْقَبْضِ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْأَخِيرُ ثُمَّ أَجَازَ الْبَائِعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ تَجُزْ إجَازَتُهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَالْمُكْرِهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ .
وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا كَانَ ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ مَعْنًى فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ، وَلِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ ، وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَكَذَا لَهُ وَيَصِحُّ كُلُّ عَقْدٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بَرِئَ الْمُكْرِهُ وَصَحَّتْ الْبِيَاعَاتِ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَتُبُيِّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ ، فَيَصِحُّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ صَحَّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ فَقَدْ خَصَّهُ بِمِلْكِ الْمَضْمُونِ فَتُبُيِّنَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ كَانَ بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَبَطَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ .
، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ حَقُّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي إكْرَاهِ الْبَائِعِ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ هَذَا الْعَقْدَ كَمَا لِلْبَائِعِ إذَا كَانَ مُكْرَهًا ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرَى عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَذَلِكَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا الْتِزَامًا لِلْمَالِكِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى أَمَةً فَوَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُقِضَ الْبَيْعُ لَتُبُيِّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْحَرَامِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .
وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْفُذَ وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُهُ { وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ } عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إجَازَةَ هَذَا الْبَيْعِ ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إجَازَةٌ لَهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَلَى الْإِلْغَاءِ مَا أَمْكَنَ ، وَلَا صِحَّةَ لِتَصَرُّفِهِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا بِالْإِجَازَةِ فَيَقْتَضِي الْإِعْتَاقُ إجَازَةَ هَذَا الْعَقْدِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَلِهَذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي
بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَا هَذَا .
هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، وَلَوْ أَعْتَقَاهُ جَمِيعًا مَعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِعْتَاقُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ مَقْصُودٌ ، وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْإِجَازَةِ الثَّابِتَةِ ضِمْنًا لِلْإِعْتَاقِ فَكَانَ تَنْفِيذُ إعْتَاقِ الْبَائِعِ أَوْلَى ، وَالثَّانِي أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ فِي الثَّانِي فَاعْتِبَارُ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي حَقِّهِمَا .
وَالثَّابِتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ ، فَإِنْ أَجَازَا جَمِيعًا جَازَ ، وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ فِي جَانِبِهِ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَصْلًا نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ فِي جَانِبِهِ وَلَا تَجُوزُ إجَازَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ بِالْإِعْتَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ ، وَقَدْ هَلَكَ بِالْإِعْتَاقِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَاهُ مَعًا نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ الْبَائِعِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَعْمَلْ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ فَإِذَا أَعْتَقَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ
خِيَارَهُ بِالْإِجَازَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْبَائِعِ فَتَنْفِيذُ إعْتَاقِهِ أَوْلَى أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي إكْرَاهِ الْمُشْتَرِي .
وَلَوْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَ الْبَائِعُ بَعْدَهُ نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ ، وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فَلِبَقَاءِ الْخِيَارِ لَهُ .
وَأَمَّا عَدَمُ نُفُوذِ إعْتَاقِ الْبَائِعِ فَلِسُقُوطِ خِيَارِهِ بِالْإِجَازَةِ .
( وَأَمَّا ) لُزُومُ الثَّمَنِ الْمُشْتَرِيَ فَلِلُزُومِ الْبَيْعِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَيَسْتَوِي أَيْضًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ وَالنَّاقِصُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الرِّضَا وَيَسْتَوِي فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَائِعِ تَسْمِيَةُ الْمُشْتَرِي وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ حَتَّى يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَاحِدٌ وَهُوَ إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ مِنْ أَيِّ إنْسَانٍ كَانَ ، وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ الْحَبْسِ يَوْمًا أَوْ الْقَيْدِ يَوْمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْإِكْرَاهِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ حَالَ الْمُكْرَهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ هَذَا إذَا وَرَدَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ .
فَأَمَّا إذَا وَرَدَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَسَلَّمَ وَهُوَ طَائِعٌ ، وَالْمَبِيعُ عَبْدُهُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، أَمَّا وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ إكْرَاهٌ عَلَى الْبَيْعِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ تَسْبِيبٌ إلَى إزَالَةِ الْيَدِ وَأَنَّهُ إتْلَافٌ مَعْنًى ، فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ
الْوَاسِطَةِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ .
وَأَمَّا تَضْمِينُ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي ، وَقَبْضُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ .
فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى الضَّمَانَ فَقَدْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فَيَمْلِكُ تَضْمِينَهُ كَالْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ فَيَقِفُ نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَالِكُ لَا عَلَى فِعْلٍ يُوجَدُ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاءُ الضَّمَانِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَجَازَ وُقُوفُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الضَّمَانِ ، وَجَازَ وُقُوفُهُ عَلَى فِعْلِ مَالِكِهِ أَيْضًا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِذَلِكَ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَبِيعِ ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الْمُبْدَلَ ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا شَيْءَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا ، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ أَوْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ