كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَهَا كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَفِي بَابِ الْهِبَةِ مُكْرَهًا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِاللِّسَانِ كَالْبَيْعِ حَتَّى تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِالسُّكُوتِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ كَالْبَيْعِ ، ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إبْرَاءٌ عَنْ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ الْمَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْبَيْعِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَعْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِنْشَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَنْبَةُ الْوُجُودِ عَلَى جَنْبَةِ الْعَدَمِ بِالصِّدْقِ ، وَحَالُ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَرَّجُ عَنْ الْكَذِبِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَا
يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ، وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } .
وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَيْسَ إلَّا الْإِقْرَارُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْمُكْرِهِ حِينَ مَا خَلَّى سَبِيلَهُ ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ حَتَّى بَعَثَ مَنْ أَخَذَهُ وَرَدَّهُ إلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا جَازَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّى سَبِيلَهُ حَتَّى تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ ، فَقَدْ زَالَ الْإِكْرَاهُ عَنْهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ فَقَدْ أَقَرَّ طَائِعًا فَصَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ بَعْدُ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ فَهُوَ عَلَى الْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَتَلَهُ حِينَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يُدْرَأْ عَنْهُ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهَا يَجِبْ الْقِصَاصُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ كَيْفَ مَا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ شَرْعًا صَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ
قَتَلَهُ ابْتِدَاءً ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ لِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةُ الصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ ، لِوُجُودِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَبَدَأَ لِلشُّبْهَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ فَإِقْرَارُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ فَيَجِبُ ، وَمِثَالُ هَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي مَنْزِلِهِ فَخَافَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ ذَاعِرٌ دَخَلَ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَبَادَرَهُ وَقَتَلَهُ ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْأَرْشُ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ أَيْضًا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْعُدُولُ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إلَى غَيْرِهِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ أَوْ بِالْفِعْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَمَّا حُكْمُ الْعُدُولِ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْعَقْدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَأَمَّا ) الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَنَقُولُ : إذَا عَدَلَ الْمُكْرَهُ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ جَازَ مَا فَعَلَ ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا عَدَلَ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ فَوَهَبَهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طُولِبَ بِمَالٍ وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ وَأُكْرِهَ عَلَى أَدَائِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَبَاعَ جَارِيَتَهُ جَازَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ طَائِعٌ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ صِنْفٍ آخَرَ غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا ، فَقَدْ اعْتَبَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَاعْتَبَرَهَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْإِنْشَاءِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا جُعِلَا جِنْسًا فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ بَلْ مُخَالَفَةُ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنًى هُوَ مُنْعَدِمٌ فِي الْإِقْرَارِ ، وَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ هُوَ الرِّضَا طَبْعًا .
وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَمَا يَعْدَمُ
الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ ، لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الثَّمَنِيَّةَ فَكَانَ انْعِدَامُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى انْعِدَامِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِالْآخَرِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ آخَرَ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَقْصُودُ مُخْتَلَفٌ فَلَمْ يَكُنْ كَرَاهَةُ الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا كَرَاهَةَ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ لِانْعِدَامِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي اخْتِيَارِهِ بِدَلَالَةِ الْإِكْرَاهِ فَيَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ ، فَكَانَ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّنَانِيرِ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ مِنْ الرُّجْحَانِ فِيهِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
( وَأَمَّا ) إذَا زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ جَازَ إقْرَارُهُ بِأَلْفٍ وَبَطَلَ بِأَلْفٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ طَائِعٌ فَصَحَّ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِفُلَانٍ فَأَقَرَّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَيْرُ فِي الشَّرِكَةِ لَمْ يَجُزْ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْغَيْرِ خَاصَّةً وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ عِنْدَ التَّصْدِيقِ هُوَ الشَّرِكَةُ فِي مَالٍ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِنِصْفِهِ شَائِعًا فَإِذَا كَذَّبَهُ لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلْغَيْرِ إذْ هُوَ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ طَائِعٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ أَلْفٌ مُشْتَرَكَةٌ فَلَوْ صَحَّ إقْرَارُهُ
لِغَيْرِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُنْ الْمُخْبَرُ بِهِ عَلَى وَصْفِ الشَّرِكَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إخْبَارُهُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ .
وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ إنْ صَدَّقَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى هِبَةِ عَبْدِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ فَوَهَبَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ فَسَدَتْ الْهِبَةُ فِي حِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَصَحَّتْ فِي حِصَّةِ زَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ فِي حِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ لِوُرُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى كُلِّ الْعَبْدِ ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى كُلِّ الشَّيْءِ إكْرَاهٌ عَلَى بَعْضِهِ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فِي حِصَّتِهِ طَائِعٌ فِي حِصَّةِ زَيْدٍ ، وَأَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَصَحَّتْ فِي حِصَّتِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَالْهِبَةُ فِي الْكُلِّ فَاسِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الطَّائِعِ مِنْ اثْنَيْنِ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فَهِبَةُ الْمُكْرَهِ أَوْلَى .
( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ لَمَّا وُهِبَ الْأَلْفُ مِنْهُمَا ، وَالْهِبَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ بِحُكْمِ الْإِكْرَاهِ كَانَ وَاهِبًا نِصْفَ الْأَلْفِ مِنْ الْآخَرِ ، وَهَذِهِ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ حَالَةِ الطَّوَاعِيَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ ، فَأَمَّا إذَا نَقَصَ عَنْهُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِخَمْسِمِائَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَلْفٍ إكْرَاهٌ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْأَلْفِ ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إكْرَاهٌ عَلَى بَعْضِهِ فَكَانَ مُكْرَهًا بِالْإِقْرَارِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ أُكْرِهَ
عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ بَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ هُوَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ فَإِذَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا آخَرَ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ فَجَازَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ هُوَ الْإِضْرَارُ بِالْبَائِعِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ .
وَإِنْ قَلَّ الثَّمَنُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَبَطَلَ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُكْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ فَجَازَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْمَأْذُونِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ الْمَأْذُونُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَمَا لَا يَمْلِكُ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ ، وَمَا لَا يَمْلِكُ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ وَيَصِيرُ مَحْجُورًا وَفِي بَيَانِ حُكْمِ تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - رُكْنُ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ ، وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ : خَاصٌّ وَعَامٌّ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ وَمُضَافٌ إلَى وَقْتٍ .
( أَمَّا ) الْخَاصُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِمَّا لَا يُؤْذَنُ فِي مِثْلِهِ لِلتِّجَارَةِ عَادَةً بِأَنْ يَقُولَ لَهُ اشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا أَوْ اشْتَرِ لِي طَعَامًا رِزْقًا لِي أَوْ لِأَهْلِي أَوْ لَكَ أَوْ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ لِأَهْلِي أَوْ لِأَهْلِكَ أَوْ اشْتَرِ ثَوْبًا اقْطَعْهُ قَمِيصًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ عَادَةً وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا يَجْزِي فَكَانَ الْإِذْنُ فِي تِجَارَةٍ إذْنًا فِي الْكُلِّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجَدُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ دُونَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْإِذْنَ بِمِثْلِهِ إذْنًا بِالتِّجَارَاتِ كُلِّهَا لَصَارَ الْمَأْذُونُ بِشِرَاءِ الْبَقْلِ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ اسْتِخْدَامِ
الْمَمَالِيكِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهِ فَاقْتُصِرَ عَلَى مَوْرِدِ الضَّرُورَةِ .
( وَأَمَّا ) الْعَامُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَاتِ أَوْ فِي التِّجَارَةِ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ .
( وَأَمَّا ) إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ بِأَنْ قَالَ : اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الدَّقِيقِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا فِي النَّوْعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ ظَاهِرُ الْإِذْنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ وَلَا تَتَّجِرْ فِي الْخُبْزِ لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ وَتَصَرُّفُهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي ضَرْبٍ مِنْ الصَّنَائِعِ بِأَنْ قَالَ لَهُ : اُقْعُدْ قَصَّارًا أَوْ صَبَّاغًا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ كُلِّهَا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ صَيْرَفِيًّا وَصَائِغًا ، وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ شَهْرًا أَوْ سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ مُتَصَرِّفٌ عَنْ إذْنٍ فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْرِدَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ لِمَوْلَاهُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِالنَّوْعِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيَلْغُو اسْتِدْلَالًا بِالْمُكَاتَبِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ تَمْكِينُ الْعَبْدِ مِنْ تَحْصِيلِ النَّفْعِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التِّجَارَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ ، وَهَذَا فِي النَّوْعَيْنِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَا الضَّرَرُ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْعَقْدِ عَسَى لَا يَتَفَاوَتُ فَكَانَ الرِّضَا بِالضَّرَرِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ رِضًا بِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ مُفِيدًا فَيَلْغُو ، وَيَبْقَى الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا مَعَ مَا أَنَّهُ وُجِدَ الْإِذْنُ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْإِذْنِ هُوَ حُصُولُ الرِّبْحِ ، وَالنَّوْعَانِ فِي احْتِمَالِ الرِّبْحِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ
بِأَحَدِهِمَا إذْنًا بِالْآخَرِ دَلَالَةً ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ قَبُولَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى صَرِيحًا لِوُجُودِهِ دَلَالَةً كَذَا هَهُنَا .
( وَأَمَّا ) الْخَاصُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَاشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ يَقُولَ : اشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا .
( وَأَمَّا ) الْعَامُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ أَذِنْت لَك بِالتِّجَارَةِ ، وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ يَقُولَ : أَذِنْت لَك بِالتِّجَارَةِ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَصِحُّ مُعَلَّقًا وَمُضَافًا كَمَا يَصِحُّ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْحَجْرِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ وَلَا إضَافَةٍ إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَأْذُونِ : إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتَ مَحْجُورٌ أَوْ فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِذْنَ تَصَرُّفُ إسْقَاطٍ ؛ لِأَنَّ انْحِجَارَ الْعَبْدِ ثَبَتَ حَقًّا لِمَوْلَاهُ وَبِالْإِذْنِ أَسْقَطَهُ وَالْإِسْقَاطَاتُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا ، فَأَمَّا الْحَجْرُ فَإِثْبَاتُ الْحَقِّ وَإِعَادَتُهُ ، وَالْإِثْبَاتُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالرَّجْعَةِ وَنَحْوِهَا ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ بِالتِّجَارَةِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُبْطِلُ لِلْإِذْنِ كَالْحَجْرِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُؤَقَّتَ الْإِذْنُ إلَى وَقْتِ إضَافَةِ الْحَجْرِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَضَى شَهْرٌ أَوْ سَنَةٌ فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك أَوْ حَجَرْت عَلَيْك رَأْسَ شَهْرِ كَذَا ، وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ وَبَقِيَ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مُطْلَقًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُبْطِلُ .
( وَأَمَّا ) الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَا يَنْهَاهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا إلَّا فِي الْبَيْعِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ .
وَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السُّخْطَ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الْإِذْنِ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا عَلَى جَانِبِ السُّخْطِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا لَنَهَاهُ إذْ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ ، فَكَانَ احْتِمَالُ السُّخْطِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَكَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا .
( وَأَمَّا ) التَّصَرُّفُ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ ، فَإِنْ كَانَ شِرَاءً يَنْفُذْ ، وَإِنْ كَانَ بَيْعًا قَائِمًا لَمْ يَنْفُذْ لِانْعِدَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَسَوَاءٌ رَآهُ يَبِيعُ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ السُّكُوتِ عَلَى الْإِذْنِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ الْمَوْلَى يَبِيعُ مَالَ أَجْنَبِيٍّ فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى حَاضِرٌ فَسَكَتَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْمَضَرَّةِ ، وَذَلِكَ بِاكْتِسَابِ مَا لَمْ يَكُنْ لَا بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ مَالٍ كَائِنٍ ، وَلَا يَنْجَبِرُ هَذَا الضَّرَرُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ رَغَائِبُ فِي الْأَعْيَانِ مَا لَيْسَ فِي أَبْدَالِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ شِرَاءً يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ ، ثُمَّ لَا حُكْمَ لِلسُّكُوتِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا سُكُوتُ الْمَوْلَى عِنْدَ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
(
وَمِنْهَا ) سُكُوتُ الْبَالِغَةِ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ يَكُونُ إجَازَةً .
( وَمِنْهَا ) سُكُوتُ الشَّفِيعِ إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ .
( وَمِنْهَا ) سُكُوتُ الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَصَدِّقِ عِنْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بِحَضْرَتِهِ أَنْ يَكُونَ إذْنًا بِالْقَبْضِ .
( وَمِنْهَا ) سُكُوتُ الْمَجْهُولِ النَّسَبِ إذَا بَاعَهُ إنْسَانٌ بِحَضْرَتِهِ ، وَقَالَ لَهُ : قُمْ فَاذْهَبْ مَعَ مَوْلَاك فَقَامَ وَسَكَتَ أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالرِّقِّ حَتَّى لَا تَسْمَعَ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) سُكُوتُ الْبَائِعِ بَيْعًا صَحِيحًا بِثَمَنٍ حَالٍّ عِنْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِحَضْرَتِهِ هَلْ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : أَدِّ إلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا أَوْ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا يَصِيرُ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْغَلَّةِ إلَّا بِالْكَسْبِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ : إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يَصِيرُ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ حَمْلُ الْعَبْدِ عَلَى الْعِتْقِ بِوَاسِطَةِ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ دَلِيلًا عَلَى الْإِذْنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ : أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْلِيقِ عُرْفًا وَعَادَةً وَلَوْ قَالَ لَهُ : أَدِّ وَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا وَيُعْتَقُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَنْجِيزٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا
كَاتَبَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالتِّجَارَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ لِمَنْ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لِمَنْ لَا يَعْقِلُ سَفَهٌ ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ فَيَصِحُّ الْإِذْنُ لِلْعَبْدِ بَالِغًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ لِيُجِيبَ دَعْوَةَ الْمَحْجُورِ وَيَأْكُلَ مِنْ كَسْبِهِ فَتَعَيَّنَ الْمَأْذُونُ ، وَكَذَا الْإِذْنُ لِلْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ أَنْ عَقَلُوا التِّجَارَةَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَمْلُوكِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ ، وَكَذَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ الْحُرِّ بِالتِّجَارَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ بِحَالٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، وَكَذَا سَلَامَةُ الْعَقْلِ عَنْ الْفَسَادِ أَصْلًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ الْإِذْنُ لِلْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالتِّجَارَةِ وَعِنْدَهُ شَرْطٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ بِالْعَقْدِ الْكَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَعَقْلُ الصَّبِيِّ نَاقِصٌ فَلَا يَكْفِي لِأَهْلِيَّةِ التِّجَارَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَذَا هَهُنَا .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَوْلِيَاءَ بِابْتِلَاءِ الْيَتَامَى ، وَالِابْتِلَاءُ هُوَ الْإِظْهَارُ فَابْتِلَاءُ الْيَتِيمِ إظْهَارُ عَقْلِهِ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ ؛ لِيَنْظُرَ
الْوَلِيُّ أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ يَعْقِلُ النَّافِعَ مِنْ الضَّارِّ فَيَخْتَارُ الْمَنْفَعَةَ عَلَى الْمَضَرَّةِ ظَاهِرًا فَكَانَ أَهْلًا لِلتِّجَارَةِ كَالْبَالِغِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ لِكَوْنِهَا إزَالَةَ مِلْكٍ لَا إلَى عِوَضٍ فَلَمْ يُجْعَلْ الصَّبِيُّ أَهْلًا لَهَا نَظَرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِذْنِ بِلَا خِلَافٍ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِضَافَةِ إلَى النَّاسِ ضَرْبَانِ : إذْنُ إسْرَارٍ وَإِذْنُ إعْلَانٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِي الْكِتَابِ ، فَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لِعَبْدِي فِي التِّجَارَةِ لَا عَلَى وَجْهٍ يُنَادِي أَهْلَ السُّوقِ فَيَقُولُ : بَايِعُوا عَبْدِي فُلَانًا فَإِنِّي قَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالْإِذْنِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ فِي هَذَا النَّوْعِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ إعْلَامٌ ، وَالْفِعْلُ لَا يُعْرَفُ إعْلَامًا إلَّا بَعْدَ تَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ ، وَلِأَنَّ إذْنَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ ثُمَّ حُكْمُ الْإِذْنِ مِنْ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ فَعَلَى ذَلِكَ إذْنُ الْعَبْدِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْعِلْمُ بِالْوَكَالَةِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ كَذَا هَذَا حَتَّى لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ .
وَأَمَّا فِي الْإِذْنِ الْعَامِّ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قَالَ : لِأَهْلِ السُّوقِ بَايِعُوا ابْنِي فُلَانًا فَبَايَعُوهُ وَالصَّبِيُّ لَا يَعْلَمُ بِالْإِذْنِ
أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا مَا لَمْ يَعْلَمْ بِإِذْنِ الْأَبِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ الْإِذْنِ الْقَائِمِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْعَبْدِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ الِاخْتِلَافَ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ فَجَعَلَ الْعِلْمَ شَرْطًا فِي الصَّبِيِّ دُونَ الْعَبْدِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْعَبْدِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ ، فَإِذَا أَذِنَ انْفَكَّ بِمُبَايَعَتِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَانْفَكَّ الْحَجْرُ فَصَارَ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ انْحِجَارَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ أَبِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُهُ دُونَ أَبِيهِ ، فَشَرْطُ عِلْمِهِ بِالْإِذْنِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ الْحَجْرِ لِيَكُونَ لُزُومُ الْعُهْدَةِ فِي التِّجَارَةِ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْإِذْنَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفَاضَةِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ دُونَ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى مُبَايَعَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ وَإِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ غَالِبًا فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْذُونٍ ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلْمِ حَقِيقَةً فَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُمْ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِهِمْ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ ؛ لِأَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ، وَالنَّاسُ أَيْضًا لَا يُعَامِلُونَ الصِّبْيَانَ عَادَةً ، وَلَوْ تَوَقَّفَ الْإِذْنُ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ لَا يَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَنَقُولُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ ، أَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ تَشْهِيرُهُ الْإِذْنَ وَإِشَاعَتُهُ بِأَنْ يُنَادِيَ أَهْلَ السُّوقِ : إنِّي قَدْ أَذِنْت لِعَبْدِي فُلَانًا بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِذْنِ الْعَامِّ .
وَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ إخْبَارُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى عَامًّا أَوْ قَدِمَ مِصْرًا لَمْ يَشْتَهِرْ فِيهِ إذْنُ الْمَوْلَى فَقَالَ : إنَّ مَوْلَايَ أَذِنَ لِي فِي التِّجَارَةِ ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ يَظْهَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِينَ بِحِسِّ السَّمْعِ مِنْ الْإِذْنِ وَلِغَيْرِ السَّامِعِينَ بِالنَّقْلِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ إلَى إنْسَانٍ فَقَالَ : هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَنِي بِهَا مَوْلَايَ إلَيْك جَازَ لَهُ الْقَبُولُ كَذَا هَذَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْعَادَاتِ يَتَعَاطَاهَا الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ ، وَالْفِسْقُ فِيهِمْ غَالِبٌ فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُمْ فِيهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ، وَإِذَا قُبِلَ خَبَرُهُ ظَهَرَ الْإِذْنُ فَيَسْعَ النَّاسُ أَنْ يُعَامِلُوهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ إنْ بَنَوْا مُعَامَلَاتِهِمْ عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ فَعَامَلُوهُ ، فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ فِيهِ كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ ، وَإِنْ عَامَلُوهُ بِنَاءً عَلَى إخْبَارِهِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ كَسْبُهُ بِالدَّيْنِ وَلَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَوْلَى فَيُقِرُّ بِإِذْنِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - كُلُّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ أَوْ تَوَابِعِهَا أَوْ ضَرُورَاتِهَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَمَا لَا فَلَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التِّجَارَةِ وَمِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ حَتَّى مَلَكَهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ، وَكَذَا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْمَرِيضُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشِرَاءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَكَانَ تِجَارَةً مُطْلَقَةً فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَأْذُونِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَكِيلِ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمَأْذُونَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِالْإِجْمَاعِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِلتُّهْمَةِ حَتَّى أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ كَانَ وَكَّلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكَّلِ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ
لِنَفْسِهِ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ .
وَهَلْ يَمْلِكُ الْمَأْذُونُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَوْلَاهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُتَصَوَّرُ الْبَيْعُ مِنْ الْمَوْلَى لِاسْتِحَالَةِ بَيْعِ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالشُّفْعَةُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّارُ الَّتِي فِي يَدِ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَأَخَذَهَا هُوَ فَكَيْفَ يَأْخُذُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ ، وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا حَاجَةَ لِلْمَوْلَى إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَالْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ ، وَهَذَا إذَا بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ ، فَإِنْ بَاعَ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ ، فَإِنْ بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ
أَوْ أَكْثَرَ وَاشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ كَأَنَّهُ نَائِبُهُ فِي التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْأَبُ شَيْئًا مِنْ مَالِ ابْنِهِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِنَفْسِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَانَ الْجَوَابُ فِيهِ هَكَذَا كَذَا هَذَا .
وَلَوْ بَاعَ مِنْ وَصِيِّهِ أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ ، فَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ وَيُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ مِنْ قِبَلِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَمِنْ قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ شِرَاءُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ تِجَارَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ ، أَوْ التَّاجِرُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ كُلَّهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ تَوْكِيلُهُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ يُنْظَرُ إنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَشْيَاءَ بِالنَّقْدِ جَازَ اسْتِحْسَانًا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَدْفَعْ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هَذِهِ الْوَكَالَةُ .
( وَوَجْهُهُ ) أَنَّهَا لَوْ جَازَتْ لَلَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ وَهِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى الْكَفِيلِ بِالثَّمَنِ ، وَلَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ فَلَا تَجُوزُ وَكَالَتُهُ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فِي
مَعْنَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لَا فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ ، وَلَوْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ نَسِيئَةً فَاشْتَرَى لَمْ يَجُزْ حَتَّى كَانَ الشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ نَسِيئَةً لَا يَمْلِكُ حَبْسَ الْمُشْتَرِي لِاسْتِيفَائِهِ بَلْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوَكَّلِ فَكَانَتْ وَكَالَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْتِزَامَ الثَّمَنِ فَكَانَتْ كَفَالَةً مَعْنًى فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ إنْسَانًا يَعْمَلُ مَعَهُ أَوْ مَكَانًا يَحْفَظُ فِيهِ أَمْوَالَهُ أَوْ دَوَابَّ يَحْمِلُ عَلَيْهَا أَمْتِعَتَهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّوَابَّ وَالرَّقِيقَ وَنَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ التِّجَارَةِ حَتَّى كَانَ الْإِذْنُ بِالْإِجَارَةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيَقْبَلَ الْوَدِيعَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ أَيْضًا ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ مُضَارَبَةٍ لِمَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ وَالدَّفْعَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ ، وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ لَهُ ، وَلَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْمُفَاوَضَةَ فَإِذَا فَاوَضَ تَنْقَلِبُ شَرِكَةَ عِنَانٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ فَسَادِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَلَوْ اشْتَرَكَ عَبْدَانِ مَأْذُونَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ جَازَ مَا اشْتَرَيَا بِالنَّقْدِ ، وَمَا اشْتَرَيَا بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ
الْمَأْذُونُ عَنْ غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ نَقْدًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ لَامْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ مُبَايَعَتِهِ خَوْفًا مِنْ تَوَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَيَصِحُّ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ بِشِرَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِظُرُوفِهَا فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ لَامْتَنَعُوا عَنْ تَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ إلَيْهِ فَلَا يَلْتَئِمُ أَمْرُ التِّجَارَةِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ وَلَا يُطَالَبُ بِهَا بَعْدَ الْعَتَاقِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ يَلْزَمُ الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى الْمَوْلَى لَا إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَصْلًا إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَيَجُوزُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْغُرَمَاءِ .
وَهَلْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِافْتِضَاضِ أَمَةٍ بِأُصْبُعِهِ غَصْبًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَصِحُّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا وَيَضْرِبُ مَوْلَى الْأَمَةِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ أَمْ بِالْمَالِ ، فَعِنْدَهُمَا هَذَا إقْرَارٌ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى ، وَعِنْدَهُ هَذَا إقْرَارٌ بِالْمَالِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ بِمَهْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالنِّكَاحِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ
وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ وَالْمَحْجُورِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَيُبَاعُ فِي دَيْنِ الْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفْ إلَى دَيْنِ الْمَرْأَةِ وَإِلَّا فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ يَمْلِكُ فَالْمَأْذُونُ أَوْلَى ، وَإِذَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى لِلِاسْتِيفَاءِ بِلَا خِلَافٍ .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهَلْ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ دَيْنٍ لَهُ وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ ، فَإِنْ وَجَبَ لَهُ وَحْدَهُ يَمْلِكُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَكَذَا هُوَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ، وَإِنْ وَجَبَ لَهُ وَلِرَجُلٍ آخَرَ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَأَخَّرَ الْمَأْذُونُ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَالتَّأْخِيرُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّ الدَّيْنِ لَهُ فَأَخَّرَهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّأْخِيرَ لَوْ صَحَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا وِلَايَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِيكَهُ لَوْ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَخْتَصُّ بِالْمَقْبُوضِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ ، وَمَعْنَى الْقِسْمَةِ هُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَقْسُومِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاجِبٍ وَهُوَ
فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ ، وَالْمَالُ حُكْمِيٌّ فِي الذِّمَّةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدَمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ لِحَاجَةِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَمْلِكُ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِقْرَاضِ وَالشِّرَاءِ بِثَمَنِ دَيْنٍ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى قِسْمَتِهِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ الْقِسْمَةِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ ، وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَإِذًا لَمْ يَصِحَّ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَوْ أَخَذَ شَرِيكُهُ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ كَمَا قَبْلَ التَّأْخِيرِ ، وَعِنْدَهُمَا كَانَ الْمَأْخُوذُ لَهُ خَاصَّةً وَلَا يُشَارِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَالْمُطَالَبَةَ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ الْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَلَّ بِحُلُولِ الْأَجَلِ ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ فِي الْأَصْلِ مِنْهُمَا جَمِيعًا مُؤَجَّلًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ عَنْ قَدْرِ الْمَقْبُوضِ وَصَارَ حَالًّا فَصَارَ الْمَقْبُوضُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَأَخَّرَهُ الْعَبْدُ سَنَةً أُخْرَى لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ أَخَذَ شَرِيكُهُ مِنْ الْغَرِيمِ شَيْئًا فِي السَّنَةِ الْأُولَى شَارَكَهُ فِيهِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشَارِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُ فَإِذَا حَلَّ فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْ الدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَهَلْ يَمْلِكُ
الْحَطَّ ، فَإِنْ كَانَ الْحَطُّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ لَا يَمْلِكُهُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ الْحَطُّ مِنْ عَيْبٍ بِأَنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ يُنْظَرُ إنْ حَطَّ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ حَطَّ مِثْلَ مَا يَحُطُّهُ التُّجَّارُ عَادَةً جَازَ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَطِّ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ كَانَ فَاحِشًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَبْلُ ، وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ بِأَنْ وَجَبَ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ ؟ .
فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَطَّ بَعْضَ الدَّيْنِ ، وَالْحَطُّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْخُصُومَةَ وَالْحَلِفَ ، وَالْمَالُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ فِي هَذَا الصُّلْحِ مَنْفَعَةٌ فَيَصِحُّ ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ كُلِّهِ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ، وَيَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا فَيَأْذَنُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ بَلْ هِيَ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُهَا وَيَمْلِكُ الِاسْتِقْرَاضَ ؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ حَقِيقَةٌ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الْأَجَلُ .
وَلَا يَكْفُلُ بِمَالٍ وَلَا بِنَفْسٍ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ
فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَهَبُ دِرْهَمًا تَامًّا لَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا بِعِوَضٍ ، وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَلَا يَكْسُو ثَوْبًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَيَجُوزُ تَبَرُّعُهُ بِالطَّعَامِ الْيَسِيرِ إذَا وَهَبَ أَوْ أَطْعَمَ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ } ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَادَةً فَكَانَ الْإِذْنُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَيَمْلِكُهُ وَلِهَذَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا لِكَوْنِهَا مَأْذُونَةً فِي ذَلِكَ دَلَالَةً كَذَا هَذَا ، وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى وَلَا يَتَسَرَّى جَارِيَةً مِنْ إكْسَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ حَقِيقَةً ، وَحِلُّ الْوَطْءِ بِدُونِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ مَنْفِيٌّ شَرْعًا .
وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالتَّسَرِّي أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَبِالْإِذْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَلَا تَنْدَفِعُ الِاسْتِحَالَةُ وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَفِيهِ أَيْضًا ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى وَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَمُحَمَّدٌ لَا يُزَوِّجُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُزَوِّجُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ أَنْفَعَ مِنْ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ هُوَ التِّجَارَةُ ، وَإِنْكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ ، وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يَمْلِكُهُ
وَلَا يَعْتِقُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ وَلَا يَمْلِكُ الْقَرْضَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَلَى مَالٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَمْلِكُ الْمَوْلَى إنْشَاءَ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْعَبْدِ لِمَا نَذْكُرُ ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ حَقٌّ فِي هَذَا الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْحُرِّ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ الْإِعْتَاقُ .
وَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعِوَضِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَكَانُ الْإِعْتَاقِ كِتَابَةً أَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَدَلِ ، وَهَهُنَا لَا يَتَعَلَّقُ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَسْبُ الْحُرِّ وَذَاكَ كَسْبُ الرَّقِيقِ وَحَقُّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الرَّقِيقِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْحُرِّ وَلَا يُكَاتِبُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ ، وَلِأَنَّهَا إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ ، فَإِنْ كَاتَبَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ ، فَالْإِجَازَةُ أَوْلَى .
فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَصَارَ مُكَاتِبًا لِلْمَوْلَى ، وَوِلَايَةُ قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلِ الْمَوْلَى فِي
الْكِتَابَةِ ، وَحُقُوقُ الْكِتَابَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى لَا إلَى الْوَكِيلِ لِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَأْذُونُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَلَكَهُ الْمَوْلَى ، وَلَوْ لَحِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ فِيمَا عَلَى الْمُكَاتِبِ حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى فَقَدْ صَارَ كَسْبًا مُنْتَزَعًا مِنْ يَدِ الْمَأْذُونِ فَلَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ .
وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَأْذُونِ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَنْفُذْ لِانْعِدَامِ شَرْطِ النَّفَاذِ وَهُوَ الْإِجَازَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ لَا تَصِحُّ إجَازَةُ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَا يُعْتَقَ إذَا أَدَّى الْبَدَلَ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ لَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ كَمَا يَصِحُّ إنْشَاءُ الْكِتَابَةِ مِنْهُ وَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ فَصَارَ مُتْلِفًا عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ ، وَمَا قَبَضَ الْمَأْذُونُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الدَّيْنُ عِنْدَهُمَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ لَهُمَا فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي الْمَعْنَى إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ أَنْشَأَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ عِنْدَهُمَا كَذَا هَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ جَازَتْ إجَازَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِإِتْلَافِ حَقِّهِمْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ ، وَمَا لَا يَمْلِكُ وَبَيَانُ حُكْمِ تَصَرُّفِهِ .
فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ تَقِفُ عَلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْمَوْلَى بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَأَتْلَفَ حَقَّ الْغَيْرِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءِ بِالرَّقَبَةِ فَيُرَاعَى جَانِبُ الْحَقِيقَةِ بِتَنْفِيذِ الْإِعْتَاقِ ، وَيُرَاعَى جَانِبُ الْحَقِّ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ مُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ غَرِمَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْهُ غَرِمَ قِيمَةَ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهُ غَرِمَ ذَلِكَ الْقَدْرَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ وَيَتْبَعُ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ بِالْبَاقِي ، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَيَسْتَسْعُوهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ الدَّيْنِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ إلَّا أَنَّ رَقَبَتَهُ تَعَيَّنَتْ لِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الدَّيْنِ مِنْهَا بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى أَوْ شَرْعًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ عَتَقَ فَيُطَالَبُ بِهِ ، وَأَيَّهُمَا اخْتَارُوا اتِّبَاعَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَتَضَمَّنُ الْمَغْصُوبَ ، وَالتَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ، فَأَمَّا اخْتِيَارُ اتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا هَهُنَا لَا يُوجِبُ
مِلْكَ الدَّيْنِ مِنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَكِنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا آخَرَ خَطَأً وَعَلِمَ الْمَوْلَى بِهِ فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ يَغْرَمُ الْمَوْلَى تَمَامَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ غَرِمَ عَشَرَةَ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَرَّقَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَهُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الدَّيْنِ بَلْ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ عَلِمَ بِالدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَهَهُنَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الْقِيمَةِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ ، وَوَجْهُ أَنَّ الْفَرْقَ مُوجِبٌ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الدَّفْعُ لَكِنْ جَعَلَ لَهُ سَبِيلَ الْخُرُوجِ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ مِنْهُ عَشَرَةً إذْ لَا مَزِيدَ لِدِيَةِ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ ، فَأَمَّا مُوجَبُ مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ الدَّيْنُ فَعَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا تُعَلَّقُ بِهَا وَبِالْإِعْتَاقِ مَا أَبْطَلَ عَلَيْهِمْ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُهُ ، وَالزِّيَادَةُ بَقِيَتْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَتَلَ حُرًّا خَطَأً فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ غَرِمَ الْمَوْلَى دِيَةَ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ .
وَدِيَةُ الْحُرِّ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَغْرَمُهَا الْمَوْلَى هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَغْرَمُ قِيمَةَ عَبْدِهِ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ
عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لَمْ يَكُنْ إعْتَاقُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عَلَى الْمَوْلَى هُوَ دَفْعُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْفِدَاءِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ قَبْلَ الْعِلْمِ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ بَقِيَ الدَّفْعُ وَاجِبًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ دَفْعُ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ مَالِيَّتِهِ إذْ هُوَ دَفْعُ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ .
وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَجَنَى جِنَايَاتٍ تُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ قِيمَتَهُ كَامِلَةً وَيَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قِيمَةً أُخْرَى إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ مِنْهَا عَشَرَةً ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ ، وَحَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ ، وَالْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ أَبْطَلَ الْحَقَّيْنِ جَمْعًا فَيَضْمَنُهَا وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ يَضْمَنُ قِيمَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافِ النَّفْسِ ، وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَعَدَّدُ ضَمَانُهَا ، فَأَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِالْإِعْتَاقِ فَضَمَانُ إبْطَالِ الْحَقِّ فَيَتَعَدَّدُ ضَمَانُهُ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَصْحَابَ الْجِنَايَةِ فَالْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْحَقَّيْنِ فَالدَّفْعُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ، وَالدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَهُمَا مَحَلَّانِ مُخْتَلِفَانِ فَتَعَذَّرَتْ الْمُشَارَكَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إعْتَاقَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونَيْنِ فِي التِّجَارَةِ
لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ الدَّيْنِ وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ التِّجَارَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا فَخُرُوجُهُمَا عَنْ احْتِمَالِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَضْمَنُ ، وَهَلْ يَمْلِكُ إعْتَاقَ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَصْلًا يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ ، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ أَوْ تُبْرِئَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْغُرَمَاءِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِيهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ عِنْدَهُ لَا يُمْلَكُ ، وَعِنْدَهُمَا يُمْلَكُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَلَكَ إعْتَاقَهُ ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ عِلَّةُ مِلْكِ الْكَسْبِ فَيَمْلِكُ الْكَسْبَ كَمَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ فَرَاغُهُ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطٌ أَنَّ
الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِكَسْبِهِ حَقِيقَةً ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } .
وَهَذَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ لَهُ بِظَاهِرِ النَّصِّ إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ الْفَارِغَ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ خُصَّ عَنْ عُمُومِ النَّصِّ وَجُعِلَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى فَبَقِيَ الْكَسْبُ الْمَشْغُولُ بِحَاجَتِهِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهِمَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُحِيطَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ فَغَيْرُ الْمُحِيطِ أَوْلَى .
( وَأَمَّا ) أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَمْنَعُ حَتَّى لَا يَصِحَّ إعْتَاقُهُ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا يَمْنَعُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ، فَالشُّغْلُ وَإِنْ قَلَّ يَكُونُ مَانِعًا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى كَوْنُ الْكَسْبِ مَشْغُولًا لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَبَعْضُهُ مَشْغُولٌ وَبَعْضُهُ فَارِغٌ .
( فَإِمَّا ) أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الشُّغْلِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي كُلِّهِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الْفَرَاغِ فِي إيجَابِ الْمِلْكِ لَهُ فِي كُلِّهِ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْفَرَاغِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الْفَرَاغِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ الْمِلْكِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْك لَهُ وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُمْ فَإِذَا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الشُّغْلِ فَقَدْ رَاعَيْنَا جَانِبَ الْغُرَمَاءِ وَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمَالِكِ أَصْلًا فَقَضَيْنَا حَقَّ الْمَالِكِ بِتَنْفِيذِ إعْتَاقِهِ ، وَقَضَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالضَّمَانِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ عَنْ الْإِبْطَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَلِهَذَا أُثْبِتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِهَا كَذَا هَذَا ، وَلَوْ
أَعْتَقَهُ ثُمَّ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَ الْغُرَمَاءِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ أَوْ أَبْرَأهُ الْغُرَمَاءُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْفُذُ وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ كَسْبًا مَشْغُولًا بِحَاجَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَيُمْنَعُ النَّفَاذُ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَ مُكَاتَبِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ النَّفَاذَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَظَهَرَ النَّفَاذُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهِ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ وَبِالْعَجْزِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُ الْمَوْلَى ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ، ثُمَّ قَضَى الْوَارِثُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ مِنْ الدَّيْنِ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ خِلَافًا لِلْحَسَنِ ، وَلَوْ وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغَرِمَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ ، وَلَا يَغْرَمُ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ عُقْرِهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا أَمَّا صِحَّةُ الدَّعْوَةِ فَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْكَسْبِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَهُ فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ .
( وَأَمَّا ) لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ فَلِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ .
( وَأَمَّا ) عَدَمُ وُجُوبِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِ مِلْكِهِ فِي الْكَسْبِ حَقُّ
الْغُرَمَاءِ ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ مِنْ حِينِ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ ثُمَّ وَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ لِمَا قُلْنَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ مِنْهُ لَمْ يُحْكَمْ بِنَفَاذِهِ لِلْحَالِ فَكَانَ حَقُّ الْمِلْكِ ثَابِتًا لَهُ إلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ هَهُنَا تَصِيرُ حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ ، وَعَلَى الْمَوْلَى الْعُقْرُ لِلْجَارِيَةِ أَمَّا صَيْرُورَتُهَا حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ كَانَ نَفَاذُهُ مَوْقُوفًا عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَقَدْ سَقَطَ بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى فَنَفَذَ فَصَارَتْ حُرَّةً بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ .
( وَأَمَّا ) لُزُومُ الْعُقْرِ لِلْجَارِيَةِ فَلِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ الْحُرَّةَ مِنْ وَجْهٍ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَيَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حَقِّ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَيَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ فَارِغٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَكَانَ خَالِصَ مِلْكِهِ ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْمَأْخُوذُ سَالِمٌ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ شَرْطَ خُلُوصِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ كَوْنُهُ فَارِغًا عِنْدَ الْأَخْذِ ، وَقَدْ وُجِدَ .
وَلَوْ كَانَ الْكَسْبُ فِي يَدِ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْخُذْ الْمَوْلَى حَتَّى لَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ
الْفَرَاغُ عِنْدَ الْأَخْذِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ كَسْبٌ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ ، وَلَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوهُ مِنْهُ إنْ كَانَ قَائِمًا وَقِيمَتَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمَأْخُوذِ فَعَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ أَوْ بَدَلِهِ ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ آخَرُ بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى اشْتَرَكَ الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ فِي الْمَأْخُوذِ وَأَخَذُوا عَيْنَهُ أَوْ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الْإِذْنِ مَعَ تَعَدُّدِهِ حَقِيقَةٌ فِي حُكْمِ زَمَانٍ وَاحِدٍ كَزَمَانِ الْمَرَضِ فَكَانَ زَمَانُ تَعَلُّقِ الدُّيُونِ كُلِّهَا وَاحِدًا لِذَلِكَ اشْتَرَكُوا فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْغَلَّةَ مِنْ الْعَبْدِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الْغَلَّةِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ مِثْلَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَّةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَلَوْ مَنَعَ الْمَوْلَى عَنْ أَخْذِ غَلَّةِ الْمِثْلِ لِحَجْرِهِ عَنْ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَسْبِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ فَكَانَ إطْلَاقُ هَذَا الْقَدْرِ وَسِيلَةً إلَى غَرَضِهِمْ فَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْغَلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ غَلَّةِ الْمِثْلِ ، وَلَوْ أَخَذَ رَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ظُهُورِ حَقِّهِمْ فِي غَلَّةِ الْمِثْلِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَيَظْهَرُ حَقُّهُمْ فِيهَا مَعَ مَا أَنَّ فِي إطْلَاقِ ذَلِكَ إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُوَظَّفُ عَلَيْهِ غَلَّةٌ تَسْتَغْرِقُ كَسْبَ الشَّهْرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ مَالٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْعَبْدِ وَيَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ فِي يَدِهِ وَالْمَأْذُونُ فِي إكْسَابِهِ الَّتِي فِي يَدِهِ كَالْحُرِّ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ .
وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ ثَالِثٌ فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى وَأَجْنَبِيٌّ فَهُوَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا عِبْرَةَ لِيَدِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَاخْتَلَفَا ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِنْ تِجَارَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي ظَاهِرِ الْيَدِ وَتُرَجَّحُ يَدُ الْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ تِجَارَتِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لَابِسًا ثَوْبًا فَهُوَ لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ تِجَارَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ تُرَجَّحُ يَدُهُ بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَتْ أَوْلَى مِنْ يَدِ الْمَوْلَى ، وَلَوْ تَنَازَعَ الْمَأْذُونُ وَأَجْنَبِيٌّ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السَّيِّدِ كَالْحُرِّ .
، وَلَوْ آجَرَ الْحُرُّ أَوْ الْمَأْذُونُ نَفْسَهُ مِنْ خَيَّاطٍ يَخِيطُ مَعَهُ أَوْ مِنْ تَاجِرٍ يَعْمَلُ مَعَهُ ، وَفِي يَدِ الْأَجِيرِ ثَوْبٌ وَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : هُوَ لِي ، وَقَالَ الْأَجِيرُ : هُوَ لِي ، فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ فِي حَانُوتِ التَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ فَهُوَ لِلتَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ وَكَانَ فِي السِّكَّةِ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْخَيَّاطِ ، وَدَارُ الْخَيَّاطِ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ كَانَ الْأَجِيرُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ ضَرُورَةً ، وَإِذَا كَانَ فِي السِّكَّةِ لَمْ
يَكُنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَكَذَا مَا فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَجِيرِ أَجْنَبِيٌّ ، وَلَوْ آجَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَحْجُورَ مِنْ رَجُلٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَالْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمَوْلَى ، وَقَدْ صَارَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ بِالْإِجَارَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ ، فَأَمَّا يَدُ الْأَجِيرِ فَيَدُ أَصَالَةٍ إذْ هُوَ فِي حَقِّ الْيَدِ كَالْحُرِّ فَلَا يَصِيرُ بِنَفْسِ الْإِجَارَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْجُورُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى كَانَ فِي يَدِهِ لِكَوْنِ مَنْزِلِهِ فِي يَدِهِ فَتَزُولُ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إذَا جَاءَ رَجُلٌ بِعَبْدٍ إلَى السُّوقِ وَقَالَ : هَذَا عَبْدِي أَذِنْت لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَهُ أَهْلُ السُّوقِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ تُبُيِّنَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ كَانَ الرَّجُلُ حُرًّا وَإِمَّا إنْ كَانَ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ أَمَّا وُجُوبُ أَصْلِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ غَرَّهُمْ بِقَوْلِهِ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ حَيْثُ أَضَافَ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ إخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ كَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، وَإِضَافَةُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ إخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لَهُ ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مَعَ عَبْدِ الْإِذْنِ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مَعَ الْإِضَافَةِ دَلِيلًا عَلَى الْكَفَالَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( وَأَمَّا ) وُجُوبُ الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ هَذَا الْقَدْرُ ، وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الَّذِي وُلِّيَ مُبَايَعَتَهُمْ إنْ كَانَ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَ الْوُجُوبِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ رِقَابَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ قَبْلَ الْعَتَاقِ وَسَوَاءٌ قَالَ : أَذِنْت لَهُ بِالتِّجَارَةِ أَوْ لَمْ يَقُلْ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَايَعَةِ يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ ، وَسَوَاءٌ أَمَرَ بِتِجَارَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَغْوٌ عِنْدَنَا
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : مَا بَايَعْتُ فُلَانًا مِنْ الْبَزِّ فَهُوَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَفِيلًا بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّخْصِيصَ صَحِيحٌ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ فِي كَفَالَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَالْكَفَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ ، فَأَمَّا هَهُنَا فَالْكَفَالَةُ لَهُ مَا ثَبَتَتْ مَقْصُودَةً ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ ، وَالْأَمْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَا الْكَفَالَةُ هَذَا إذَا أَضَافَ الْعَبْدَ نَفْسَهُ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ ، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا .
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِمُبَايَعَتِهِ مِلْكًا لِلْآمِرِ فَدَبَّرَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْلَى شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُمْ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ ، وَكَذَا لَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ بِالتَّدْبِيرِ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ بَايَعُوهُ لِمَا قُلْنَا هَذَا إذَا كَانَ الْآمِرُ حُرًّا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْتَقَ ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ كَفَالَةٍ وَكَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لَا تَنْفُذُ لِلْحَالِّ ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا وَكَانَ الْمَأْذُونُ حُرًّا لَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ فِي شَيْءٍ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ لَا تَنْفُذُ كَفَالَتُهُمَا لِلْحَالِّ ، وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ فَيُؤَاخَذُنَّ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالصَّبِيُّ لَا تَنْعَقِدُ كَفَالَتُهُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - حُكْمُهُ تَعَلُّقُهُ بِمَحَلٍّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ حُكْمِ التَّعَلُّقِ أَمَّا بَيَانُ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَلِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَسْبَابٌ مِنْهَا : التِّجَارَةُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِدَانَةِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ كَالْغَصْبِ وَجُحُودِ الْأَمَانَاتِ مِنْ الْوَدَائِعِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ وَجُحُودَ الْأَمَانَةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَجْحُودِ فَكَانَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ ، وَكَذَا الِاسْتِهْلَاكُ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا بِأَنْ عَقَرَ دَابَّةً أَوْ خَرَقَ ثَوْبًا خَرْقًا فَاحِشًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ الْهَلَاكِ فَكَانَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ عُقْرُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ، وَإِنْ كَانَ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ لَكِنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ فَتُلْحَقُ بِالْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ فِي حُكْمِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَمِنْهَا : النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِدُونِ الْمَهْرِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ فَسَبَبُ ظُهُورِهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَبِكُلِّ مَا هُوَ سَبَبٌ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَحَلٍّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ ، وَالثَّانِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْمَوْلَى بَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْمَأْذُونِ قَامَتْ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ يَدَ التَّصَرُّفِ لَهُ لَا لِلْمَوْلَى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى فَلَا مَعْنَى لِشَرْطِ حُضُورِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى الْمَوْلَى فَشُرِطَ حُضُورُهُ لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَدِيعَةً مُسْتَهْلَكَةً أَوْ بِضَاعَةً أَوْ شَيْئًا كَانَ أَصْلُهُ أَمَانَةً لَا يُقْضَى بِهَا لِلْحَالِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهَا لِلْحَالِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْحَالِّ عِنْدَهُمَا ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ إلَيْهِ ، وَعِنْدَهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ قُضِيَ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْمَحْجُورِ بِالْغَصْبِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمَا نَفَذَ عَلَى
مَوْلَاهُ لِلْحَالِّ كَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَحْجُورِ عَلَى سَبَبِ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ لَمْ يُقْضَ بِهَا حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى بِهَا ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهَا تُقَامُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَبْدَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْلَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً قَائِمَةً عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ الْمَوْلَى فِي الْإِقْرَارِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مَالُ الْمَوْلَى ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إتْلَافُ مَالِهِ عَلَيْهِ فَيُصَانُ حَقُّهُ عَنْ الْإِتْلَافِ مَا أَمْكَنَ ، وَفِي شَرْطِ الْحُضُورِ صِيَانَةُ حَقِّهِ عَنْ الْإِتْلَافِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا عَسَى يَدَّعِي شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْإِقَامَةِ ، وَحَقُّ الْمُسْلِمِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْبُطْلَانِ مَا أَمْكَنَ وَمِثْلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِمَّا لَا يُعَدُّ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَبْدٍ أَنَّهُ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَلَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى لَا تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ وَمَتَى وَجَبَ الضَّمَانُ امْتَنَعَ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّهُمَا
لَا يَجْتَمِعَانِ وَعَلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ هَذَا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ ، وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ وَالْقَطْعُ يَمْنَعُ الضَّمَانَ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى السَّرِقَةِ فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِقَطْعٍ وَلَا ضَمَانٍ عِنْدَهُمَا .
( أَمَّا ) الْقَطْعُ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ ( وَأَمَّا ) الضَّمَانُ فَلِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ وَلَا يُضْمَنُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَ الْقَطْعِ سَوَاءٌ حَضَرَ الْمَوْلَى أَوْ غَابَ ؛ لِأَنَّ سَرِقَةَ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ فَبَقِيَ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَدَعْوَى الضَّمَانِ عَلَى الْمَأْذُونِ وَحَضْرَةُ الْمَوْلَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمَأْذُونِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ أَصْلًا .
( أَمَّا ) عَلَى الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى الْمَالِ فَلِأَنَّ حُضُورَ الْمَوْلَى شَرْطُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ أَوْ الْحَدِّ لَزِمَهُ الْقَوَدُ وَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَضَرَ الْمَوْلَى أَوْ غَابَ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْحُدُودِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ ، وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ ، وَسَائِرُ الْحُدُودِ حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا فَالْبَيِّنَةُ ، وَإِنْ أَظْهَرَتْ الْإِقْرَارَ فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ مَا سِوَاهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا
سَوَاءٌ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْ حَضَرَ الْمَوْلَى أَوْ غَابَ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ لِلرُّجُوعِ ، وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَمْ يَصِحَّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمَالِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِ الْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ أَمَّا الْقَطْعُ فَلِمَكَانِ الرُّجُوعِ .
وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ غَيْرُ نَافِذٍ فِي الْحَالِّ فَلَا تَصِحُّ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَعْتُوهِ الْمَأْذُونِ عَلَى قَتْلٍ أَوْ سَبَبِ حَدٍّ قُبِلَتْ عَلَى الْقَتْلِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا تُقْبَلُ عَلَى الْحَدِّ لِتَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الدِّيَةِ مِنْهُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْخَطَأُ ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ ، وَانْعِدَامُ تَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْهُ مِنْ الزِّنَا وَغَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ عَلَى السَّرِقَةِ قُبِلَتْ عَلَى الْمَالِ وَضَمَّنَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ عَيَّنَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ أَوْ تَعَيَّنَ شَرْعًا نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ كَسْبَ التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِكَسْبِ التِّجَارَةِ وَتَكُونُ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا لِلْمَوْلَى .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ التَّعَلُّقَ حُكْمُ الْإِذْنِ ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا لِغَيْرِهَا ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ .
( وَلَنَا ) أَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ أَيَّ كَسْبٍ كَانَ فَرَاغُهُ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُوجَدْ الْفَرَاغُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ ، وَسَوَاءٌ حَصَلَ الْكَسْبُ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ إلَّا الْوَلَدَ وَالْأَرْشَ فَإِنَّ مَا وَلَدَتْ الْمَأْذُونَةُ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَمَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى ، وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ بِأَنْ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَوَجَبَ الْأَرْشُ عَلَى الْفَاقِئِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْوَلَدِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ مِنْ الْأُمِّ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ وَمَعْنَى السِّرَايَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَادِثِ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ لَا قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْأُمِّ فَلَمَّا حَدَثَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ فِي حُكْمِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ مِنْ الْأَصْلِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ الْأَصْلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِمَا فَلَيْسَ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ بَلْ الشُّغْلُ بِحَاجَةِ الْعَبْدِ
فَإِذَا لَمْ يَنْزِعْهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ حَتَّى لَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَقَدْ صَارَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ فَلَا يَظْهَرُ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ، وَهَهُنَا فَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ يَدْخُلُ فِي الدَّيْنِ وَوَلَدُ الْجِنَايَةِ لَا يَدْخُلُ فِي الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي الدَّيْنِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْأُمِّ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ فَحَدَثَ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ فَلَا تَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَعْمَلَ بِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى وَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ ، وَذَا لَيْسَ كَسْبَهُ أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ .
وَأَمَّا رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهَا اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - : يَتَعَلَّقُ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ دَيْنَ الْعَبْدِ فَالرَّقَبَةُ مِلْكُ الْمَوْلَى ، وَدَيْنُ الْإِنْسَانِ لَا يُقْضَى مِنْ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنَ الْمَوْلَى فَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالٌ دُونَ مَالٍ كَسَائِرِ دُيُونِ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يُقْضَى مِنْ الْكَسْبِ لِوُجُودِ التَّعْيِينِ فَالْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءُ دَيْنِ التِّجَارَةِ مِنْ كَسْبِ التِّجَارَةِ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً ، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ التِّجَارَةِ .
( وَلَنَا ) أَنْ نَقُولَ هَذَا دَيْنُ الْعَبْدِ لَكِنْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْلَى ، وَدَيْنُ الْعَبْدِ إذَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْلَى يُقْضَى مِنْ رَقَبَتِهِ الَّتِي
هِيَ مَالُ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ نَقُولُ هَذَا دَيْنُ الْمَوْلَى فَيُقْضَى مِنْ الْمَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ مِنْهُ كَالرَّهْنِ وَالْمَوْلَى بِالْإِذْنِ عَيَّنَ الرَّقَبَةَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - وَإِذَا كَانَتْ الرَّقَبَةُ وَالْكَسْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْكَسْبُ وَالرَّقَبَةُ يُبْدَأُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ مَحَلٌّ لِلتَّعَلُّقِ قَطْعًا ، وَمَحَلِّيَّةُ الرَّقَبَةِ لِتَعَلُّقِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بِالْكَسْبِ أَوْلَى فَإِذَا قُضِيَ الدَّيْنُ مِنْهُ ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْكَسْبِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ فَارِغٌ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ عِنْدَنَا ، فَإِنْ فَضَلَ عَلَى الثَّمَنِ يُتْبَعْ الْعَبْدُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - إنَّ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَحْكَامًا مِنْهَا وِلَايَةُ طَلَبِ الْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ مِنْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَعَلُّقِ الدَّيْنِ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا تَعَيُّنُهُ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعَيُّنُ مَالِيَّتِهِ لِلِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِهِ يَكُونُ ، وَذَلِكَ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ وَذَلِكَ بَيْعُهُ وَأَخْذُ ثَمَنِهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دُيُونَهُمْ فَتَخْلُصُ لَهُ الرَّقَبَةُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ ، وَقَدْ قَضَى حَقَّهُمْ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ كَانَ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمُبْدَلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْحِصَصِ فَكَذَا الثَّمَنُ كَثَمَنِ التَّرِكَةِ إذَا بِيعَتْ ثُمَّ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ لَا يُطَالَبُ الْمَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى الْمَوْلَى وَيَتْبَعُ الْعَبْدَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ صَارَ مَقْضِيًّا فَبَقِيَ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ إذَا كَانَ حَالًّا ، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يُبَاعُ إلَى حِلِّ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتْبَعُ التَّعَلُّقَ ، وَالتَّعَلُّقَ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ ، وَالْوُجُوبَ عَلَى التَّضْيِيقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حَلّ الْأَجَلِ فَكَذَا التَّعَلُّقُ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْحَالِّ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى أَصْحَابَ الْحَالِّ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى التَّضْيِيقِ ثَبَتَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْحَالِّ لَا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَجَلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُرَمَاءُ بَعْضُهُمْ حُضُورًا وَبَعْضُهُمْ غُيَّبًا
فَطَلَبَ الْحُضُورُ الْبَيْعَ مِنْ الْقَاضِي بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى الْحُضُورَ حِصَّتَهُمْ ، وَوَقَفَ حِصَّةَ الْغُيَّبِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ ، وَذَا يُوجِبُ التَّحْوِيجَ إلَى الْبَيْعِ فَغَيْبَةُ الْبَعْضِ لَا تَكُونُ مَانِعَةً ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَعْضُ الدُّيُونِ ظَاهِرًا ، وَالْبَعْضُ لَا يَظْهَرُ لَكِنْ ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِهِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَفَرَ بِئْرًا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبَ الْغَرِيمُ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ وَأَعْطَاهُ دَيْنَهُ .
وَإِنْ كَانَ لَا يُفْضِلُ الثَّمَنُ عَنْ دَيْنِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ دَيْنِهِ أَوْجَبَ التَّعَلُّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ بِمَا لَمْ يَظْهَرْ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ فَعَطِبَتْ رَجَعَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْغَرِيمِ فَيَتَضَارَبَانِ ، فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِقِيمَتِهَا وَيَضْرِبُ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَهُ فِي الرَّقَبَةِ فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَيَتَشَارَكَانِ فِي بَدَلِهَا بِالْحِصَصِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ لِغَائِبٍ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ أَوْ كَذَّبُوهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِذَا بِيعَ وَقَفَ الْقَاضِي مِنْ ثَمَنِهِ حِصَّةَ الْغَائِبِ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِغَائِبٍ بَعْدَ مَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا بِيعَ فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى ، فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الدَّيْنِ أَتْبَعَ الْغُرَمَاءَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ظَهَرَ إنْ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الرَّقَبَةِ فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَشَارَكَهُمْ فِي بَدَلِهَا وَلَا سَبِيلَ
لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ ، وَمَحَلُّ تَعَلُّقِهِ الرَّقَبَةُ لَا غَيْرُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أَوْ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ ، وَلَوْ بَاعَ لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ فَلَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ إلَّا أَنْ يَصِلَ ثَمَنُهُ إلَيْهِمْ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ فَيَنْفُذُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمْ فِي مَعْنَى الرَّقَبَةِ لَا فِي صُورَتِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَضَى الْمَوْلَى الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ ، وَدَلَّ إطْلَاقُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ حَالَ قِيَامِ الْكَسْبِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ جَوَازُ بَيْعِ الْمَوْلَى مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ عَدَمِ الْكَسْبِ ، وَلَوْ كَانَ قِيَامُ الْكَسْبِ مَانِعًا مِنْ التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ لَجَازَ ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ إذْ ذَاكَ تَكُونُ خَالِصَ مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ نَافِذٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْكَسْبِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْبَاقُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ ثُمَّ فَرْقٌ بَيْنَ بَيْعِ الْمَوْلَى وَبَيْنَ بَيْعِ الْوَصِيِّ التَّرِكَةَ فِي الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ أَنَّهُ يَنْفُذُ هُنَاكَ ، وَهُنَا لَا يَنْفُذُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ اسْتِسْعَاءِ الْمَأْذُونِ ، وَهَذَا الْحَقُّ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَكَانَ امْتِنَاعُ النَّفَاذِ مُفِيدًا ، وَلَيْسَ
لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ التَّرِكَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ فَكَانَ عَدَمُ النَّفَاذِ لِلْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ خَاصَّةً ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِبَيْعِ الْوَصِيِّ فَلَمْ يَكُنْ التَّوَقُّفُ مُفِيدًا فَلَا يَتَوَقَّفُ هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا ، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا نَفَذَ الْبَيْعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ هُوَ التَّعَلُّقُ عَنْ التَّضْيِيقِ وَلَمْ يُوجَدْ ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ ، فَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مِثْلَ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ أَخَذُوا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ ضَمَّنُوا الْمَوْلَى إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمَوْلَى لِوُجُودِ أَصْلِ التَّعْلِيقِ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا ، فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى .
وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ لِحَقِّهِمْ فَكَانَ لَهُمْ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءُوا ، فَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمَوْلَى نَفَذَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَلَصَ مِلْكُهُ فِيهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَكَأَنَّهُمْ بَاعُوهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ هُوَ قَدْرُ قِيمَتِهِ وَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ بِهِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ فَبَطَلَ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ ، وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ غَابَ الْمَوْلَى ، فَإِنْ وَجَدُوهُ ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوهُ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا وَمَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالرَّقَبَةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، فَأَمَّا حُكْمُ تَعَلُّقِهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِأَنْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إذَا اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ رَجُلًا خَطَأً - وَعَلَيْهِ دَيْنٌ - لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَلَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الدَّيْنَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ مُتَعَلِّقًا رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ ، وَكَذَا لَا يُنَافِيهِ الْفِدَاءُ لَا شَكَّ فِيهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ مَعًا وَإِمَّا إنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدِّينِ ، فَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ ، فَإِنَّا إذَا دَفَعْنَاهُ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَرَاعَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ بِدَيْنِهِمْ وَإِذَا دَفَعْنَاهُ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَبْطَلْنَا حَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْبَيْعِ إذْ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ جَدِيدٌ خَالٍ عَنْ الْجِنَايَةِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْجِنَايَةِ مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى ثُمَّ فِي الدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ فَائِدَةٌ وَهِيَ الِاسْتِخْلَاصُ بِالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي أَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ رَغَائِبُ مَا لَيْسَ فِي إبْدَالِهَا ، وَإِذَا دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ بِالدَّفْعِ فَكَانَ الدَّفْعُ مِنْهُ تَمْلِيكًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَضْمَنُ ؛
لِأَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَتَنَاقَضُ ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ فَبِيعَ لِلْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ دَيْنِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ صُرِفَ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مِلْكًا لَهُمْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا بِيعَ عَلَى مِلْكِهِمْ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الدَّيْنِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ دَيْنِهِمْ فَبَقِيَ الْفَاضِلُ مِنْ دَيْنِهِمْ عَلَى مِلْكِ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِنَايَةٌ فَبَاعَهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ وَفَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ أَنَّ الْفَاضِلَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَذَا هَذَا .
وَلَوْ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِمْ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ دَفْعُ عَيْنِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا الْفِدَاءُ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَبَقِيَ دَفْعُ الْعَيْنِ وَاجِبًا ، وَقَدْ تَعَدَّدَ دَفْعُ عَيْنِهِ بِالدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ دَفْعُ قِيمَتِهِ إذْ هُوَ دَفْعُ الْعَيْنِ مَعْنًى ، وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ أَوَّلًا فَكَذَلِكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَيْهِمْ وَلَا يَنْتَظِرُ حُضُورَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا حُضُورًا لَكَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَلَا مَعْنَى لِلِانْتِظَارِ ، وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَوَّلًا ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَا يَبِيعُهُ فِي دُيُونِهِمْ ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا فَبَاعَهُ بَطَلَ حَقُّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ حَضَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي وَلَا عَلَى الْمَوْلَى أَمَّا الْقَاضِي فَلِأَنَّهُ لَا عُهْدَةَ تَلْزَمُ الْقَاضِي فِيمَا يَفْعَلُهُ لِكَوْنِهِ أَمِينًا .
وَأَمَّا
الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ، فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَرْشُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ إنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يَبْطُلُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَجْرُ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ مَحْجُورًا وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى وَبَعْضُهَا إلَى الْعَبْدِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ ، وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ : خَاصٌّ وَعَامٌّ أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ الْحَجْرُ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْإِشْهَارِ وَالْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَحْجُرَهُ فِي أَهْلِ سُوقِهِ بِالنِّدَاءِ بِالْحَجْرِ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَجْرِ يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبُطْلَانِ وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ فَوْقَهُ .
وَأَمَّا الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَلَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْعَامُّ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْطُلُ بِمَا هُوَ دُونَهُ ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ ثُمَّ يَظْهَرُ الْحَجْرُ فَيَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وَهُوَ إتْلَافُ دُيُونِهِمْ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ .
وَمَعْنَى التَّغْرِيرِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِذْنِ الْعَامِّ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَلَا يَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمَا حَسَبَ صِحَّةِ الْإِذْنِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِمِثْلِهِ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عِلْمُ الْعَبْدِ بِهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مَنْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ ، وَحُكْمُ الْمَنْعِ فِي الشَّرَائِعِ لَا يَلْزَمُ الْمَمْنُوعَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِالْحَجْرِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَدْلًا كَانَ
أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ صَارَ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ عَدْلٌ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ وَصَدَّقَهُ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ إذَا صَدَّقَهُ فِيهِ .
وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مَحْجُورًا صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَحَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْأَسْفَلِ لَمْ يَصِحَّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْأَعْلَى دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْأَعْلَى لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، وَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْأَعْلَى يُنْظَرْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِيرُ الْأَسْفَلُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُمَا عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُمَا ثُمَّ حَجَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَنْحَجِرُ أَحَدُهُمَا بِحَجْرِ الْآخَرِ كَذَا هَذَا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَعْلَى دَيْنٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ .
( وَوَجْهُ ) الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ عَبْدَهُ ، وَقَدْ اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ جِهَةِ الْأَعْلَى لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى صَارَ حَجْرُ الْأَعْلَى كَمَوْتِهِ ، وَلَوْ مَاتَ لَصَارَ الثَّانِي مَحْجُورًا كَذَا هَذَا ، وَلَمَّا مَلَكَ عِنْدَهُمَا صَارَ الْجَوَابُ فِي هَذَا وَفِي الْأَوَّلِ سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا الْبَيْعُ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ الْمَوْلَى
وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَحَدَثَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ مِلْكٌ جَدِيدٌ فَيَزُولُ إذْنُ الْبَائِعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ مَحْجُورًا وَمِنْهَا الِاسْتِيلَادُ بِأَنْ كَانَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَوْلَى اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ ؛ لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التِّجَارَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ ، وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ مَمْنُوعَاتٌ عَنْ الْخُرُوجِ فِي الْعَادَاتِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ حَجْرًا دَلَالَةً .
وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَا يَكُونُ حَجْرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْإِذْنَ إذْ الْإِذْنُ إطْلَاقٌ وَالتَّدْبِيرُ لَا يُنَافِيهِ ، وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللُّحُوقِ تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَذَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِذْنِ فَكَانَ حَجْرًا دَلَالَةً ، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا : مِنْهَا مَوْتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْإِذْنِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْإِذْنِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ مُبْطِلٌ لِلْأَهْلِيَّةِ فَصَارَ مَحْجُورًا .
فَإِنْ أَفَاقَ يُعَدُّ مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْإِذْنِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِ الْعَوْدِ فَإِذَا أَفَاقَ عَادَتْ الْأَهْلِيَّةُ فَعَادَ مَأْذُونًا ، وَصَارَ كَالْمُوَكَّلِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ جُنُونِهِ أَنَّهُ تَعُودُ الْوَكَالَةُ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا
الْإِغْمَاءُ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا : مِنْهَا إبَاقُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاقِ تَنْقَطِعُ مَنَافِعُ تَصَرُّفِهِ عَنْ الْمَوْلَى فَلَا يَرْضَى بِهِ الْمَوْلَى وَهَذَا يُنَافِي الْإِذْنَ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ بِرِضَا الْمَوْلَى ، وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لِزَوَالِ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَقْلُ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْإِذْنِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ ، وَلَوْ أَفَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعُودُ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الْمُوَكَّلِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْجُنُونُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُطْبِقٍ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُطْبَقِ مِنْهُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْإِغْمَاءِ وَمِنْهَا رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ بِنَاءً عَلَى وُقُوفِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ وَنُفُوذِهَا عِنْدَهُمَا ، وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ؛ لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْأَهْلِيَّةِ فَيَصِيرُ مَحْجُورًا لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ وَقْتِ اللُّحُوقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْحَجْرِ فَهُوَ انْحِجَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ كَانَ يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لِصُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ فِيمَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَصِحَّ الْحَجْرُ فِي حَقِّ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَبَادَرَ الْمَوَالِي إلَى حَجْرِ عَبِيدِهِمْ الْمَأْذُونِينَ فِي التِّجَارَةِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ دَيْنًا لِتَسْلَمَ لَهُمْ أَكْسَابُهُمْ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ .
وَقَدْ لَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ لِتَعَلُّقِ دُيُونِهِمْ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ إقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَأَشْبَهَ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْمَوْلَى لِلْوُصُولِ إلَى الْكَسْبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ فَلَا يَحْجُرُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْمُعَايَنَةِ وَفِي يَدِهِ كَسْبٌ فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى لَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
فَاسْتَوَى فِيهِ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي إقَامَتِهَا إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِيمَا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ قَامَ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ وَالْمَحْجُورُ فِي الْجِنَايَةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَالْمَأْذُونُ سَوَاءٌ ، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ حُكْمِ جِنَايَتِهِمَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( كِتَابُ الْإِقْرَارِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِقْرَارِ وَفِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الَّتِي يَصِيرُ الرُّكْنُ بِهَا إقْرَارًا شَرْعًا وَفِي بَيَانِ مَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ .
أَمَّا رُكْنُ الْإِقْرَارِ فَنَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ ، فَالصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ كَلِمَةُ إيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَكَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الرَّجُلُ نَعَمْ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ خَرَجَتْ جَوَابًا لِكَلَامِهِ ، وَجَوَابُ الْكَلَامِ إعَادَةٌ لَهُ لُغَةً كَأَنَّهُ قَالَ : لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ هُوَ الدَّيْنُ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقَبَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ كَفِيلًا وَالْكَفَالَةُ هِيَ الضَّمَانُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ أَيْ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِأَمْرِهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَبَالَةَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمَانَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ : لَا حَقَّ لِي عَلَى فُلَانٍ يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ ، وَمَنْ قَالَ : لَا حَقَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ أَوْ مَعَهُ يَبْرَأُ
عَنْ الْأَمَانَةِ .
وَلَوْ قَالَ : لَا حَقَّ لِي قِبَلَهُ يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا فَكَانَتْ الْقَبَالَةُ مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ ، وَالضَّمَانُ لَمْ يُعْرَفْ وُجُوبُهُ فَلَا يَجِبُ بِالِاحْتِمَالِ وَلَوْ قَالَ لَهُ : فِي دَرَاهِمِي هَذِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ وَلَوْ قَالَ لَهُ : فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مَضْمُونٌ أَوْ أَمَانَةٌ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ لَهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِلْمُقَرِّ بِهِ وَهُوَ الْأَلْفُ فَيَقْتَضِي الْخَلْطَ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَيْفَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الظَّرْفِ فِي مِثْلِ هَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُوبِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَلَوْ قَالَ : لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ هِبَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى أَهْلِ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ ، وَالتَّمْلِيكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ هِبَةٌ وَإِذَا كَانَ هِبَةً فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا لَا تَكُونُ دَيْنًا ، إذْ لَوْ كَانَتْ هِبَةً لَكَانَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ وَدِيعَةٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ بَلْ هِيَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَقُرْبٍ وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِالْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُثْبِتُ
الْوُجُوبُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ مَعِي أَوْ فِي مَنْزِلِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ صُنْدُوقِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ وَدِيعَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى قِيَامِ الْيَدِ عَلَى الْمَذْكُورِ ، وَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ وَدِيعَةً ؛ لِأَنَّهَا فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَدَائِعِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةً ، فَهُوَ قَرْضٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَقَدْ فَسَّرَ بِالْعَارِيَّةِ ، وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تَكُونُ قَرْضًا إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا ، وَإِعَارَةُ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ يَكُونُ قَرْضًا فِي الْمُتَعَارَفِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِدُونِ الِاسْتِهْلَاكِ ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِإِعَارَتِهَا إقْرَارًا بِالْقَرْضِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُ رَجُلٌ : لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ ، فَيَقُولُ : قَدْ قَضَيْتُهَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْلِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ فَيَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَضَاءِ إقْرَارًا بِالْوُجُوبِ ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عَنْهُ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ رَجُلٌ : لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ : اتَّزِنْهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاتِّزَانَ إلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْمَرُ الْمُدَّعِي بِاتِّزَانِ الْمُدَّعَى إلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّزَانِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ دَلَالَةً .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ انْتَقِدْهَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ : أَتَّزِنُ أَوْ أَنْتَقِدُ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُدَّعَى فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرُ بِاتِّزَانِ شَيْءٍ آخَرَ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَا إذَا قَالَ : أَجِّلْنِي بِهَا ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : حَقًّا ، يَكُونُ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقَّقْتَ فِيمَا قُلْتَ لِأَنَّ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إظْهَارِ صَدْرِهِ وَهُوَ الْفِعْلُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : قُلْ حَقًّا أَوْ الْزَمْ حَقًّا ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : الْحَقَّ ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الْمَصْدَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ حَقًّا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : صِدْقًا ، أَوْ الصِّدْقَ ، أَوْ يَقِينًا ، أَوْ الْيَقِينَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ : بِرًّا ، أَوْ الْبِرَّ لَا يَكُونُ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبِرِّ مُشْتَرَكٌ ، تُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الصِّدْقِ وَتُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ التَّقْوَى وَتُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الْخَيْرِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : صَلَاحًا أَوْ الصَّلَاحَ ، لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ لَفْظَةَ
الصَّلَاحِ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ لَهُ : صَلَحْتَ ، لَا يَكُونُ تَصْدِيقًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَذِبِ هَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظَةً مُفْرَدَةً مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ لَفْظَتَيْنِ مُتَجَانِسَتَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُ يُعْرَفُ فِي إقْرَارِ الْجَامِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ رُكْنُ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِقَرِينَةٍ فَالْمُطْلَقُ هُوَ قَوْلُهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ خَالِيًا عَنْ الْقَرَائِنِ ( وَأَمَّا ) الْمُلْحَقُ بِالْقَرِينَةِ فَبَيَانُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلِ بَيَانِ مَا يُصَدَّقُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا ، فَنَقُولُ : الْقَرِينَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَقَرِينَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
أَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهِيَ الْمُسْقِطَةُ لِاسْمِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ بِهَا الِاسْمُ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً تَبْيِينًا مَعْنًى ( وَأَمَّا ) الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ فَتَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يَدْخُلُ فِي أَصْلِ الْإِقْرَارِ ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا وَقَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا ( أَمَّا ) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْإِقْرَارِ فَنَحْوُ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكَوْنِ الْأَلْفِ فِي الذِّمَّةِ أَمْرًا لَا يُعْرَفُ فَإِنْ شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ ، وَالْكَائِنُ لَا يَحْتَمِلُ تَعْلِيقَ كَوْنِهِ بِالْمَشِيئَةِ فَإِنَّ الْفَاعِلَ إذَا قَالَ : أَنَا فَاعِلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، يَسْتَحِقُّ ؛ وَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْإِقْرَارُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ ، وَالْإِقْرَارُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ ( وَأَمَّا ) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ، يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا الْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ بِأَنْ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ : عَنَيْتُ بِهِ الْوَدِيعَةَ لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُغَيِّرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إخْبَارٌ عَنْ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ لَكَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَنَ بِهِ قَوْلَهُ وَدِيعَةً ، وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ ، فَقَدْ غَيَّرَ حُكْمَ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوبِ الْعَيْنِ إلَى وُجُوبِ الْحِفْظِ فَكَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ .
وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْحِفْظِ أَيْ عَلَيَّ حِفْظُ أَلْفٍ دِرْهَم ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً قَرْضًا أَوْ مُضَارَبَةً قَرْضًا أَوْ بِضَاعَةً قَرْضًا أَوْ قَالَ دَيْنًا مَكَانَ قَوْلِهِ قَرْضًا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يَصِيرُ مَضْمُونًا فِي الِانْتِهَاءِ إذْ الضَّمَانُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْأَمَانَةِ كَالْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَحْوِهَا ، سَوَاءٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْإِقْرَارِ بِالضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الِاسْتِثْنَاءُ وَالثَّانِي الِاسْتِدْرَاكُ .
أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَانِ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَيَلْزَمُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا كَأَنَّهُ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَنَّ لِلسَّبْعَةِ اسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا سَبْعَةٌ ، وَالْآخَرُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً ؛ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ سِوَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ سِوَى مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ : غَيْرَ ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ بِالنَّصْبِ لِلِاسْتِثْنَاءِ ، فَإِنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرَ دَانِقٍ ، يَلْزَمُهُ خَمْسَةُ دَوَانِقَ وَلَوْ قَالَ : غَيْرُ دَانِقٍ بِالرَّفْعِ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ تَامٌّ ( وَأَمَّا ) اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةً فَجَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ
الثِّنْيَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا وَضَعُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ ( وَأَمَّا ) اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ بِأَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَبَاطِلٌ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ إذْ هُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثِّنْيَا ، وَلَا حَاصِلَ هَهُنَا بَعْدَ الثِّنْيَا فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً بَلْ يَكُونُ إبْطَالًا لِلْكَلَامِ وَرُجُوعًا عَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ فَبَطَلَ الرُّجُوعُ وَبَقِيَ الْإِقْرَارُ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا زَائِفًا ، لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَعَلَى الْمُقَرِّ لَهُ دِرْهَمٌ زَائِفٌ لِلْمُقِرِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقِفُ عَلَى صِفَةِ الْجَوْدَةِ بَلْ تَقِفُ عَلَى الْوَزْنِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُقَاصَّةُ إلَّا بِهِمَا جَمِيعًا وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لَوَجَبَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ دِرْهَمٌ زَائِفٌ وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لَا تَمْنَعُ الْمُقَاصَّةَ عِنْدَهُ ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ يَصِيرُ الْمُسْتَثْنَى دِرْهَمًا جَيِّدًا لَا زَائِفًا وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ تَصَرُّفِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ اتِّحَادُهُمَا فِي
صِفَةِ الْجَوْدَةِ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْمُقَاصَّةِ - وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا - لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَإِذَا لَمْ تَقَعْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَاءَ مَا عَلَيْهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ .
وَلَوْ انْعَدَمَتْ حَقِيقَةً لَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ ، كَذَا إذَا انْعَدَمَتْ شَرْعًا وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمَ سَتُّوق فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا قِيمَةَ دِرْهَمٍ سَتُّوقٍ وَقِيَاسُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجَانَسَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ شَرْطٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ : عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا قَلِيلًا فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ ، وَالْقَوْلُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ أَسْمَاء الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يُقَابِلُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ لِيَكُونَ هُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ قَلِيلًا فَإِذَا اسْتَثْنَى الْقَلِيلَ مِنْ الْأَلْفِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } إنَّ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ مِنْ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ عَلَى نِصْفِ الْأَلْفِ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ الْمُجْمَلُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إلَّا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِلَفْظَةِ شَيْءٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْقَلِيلِ هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ .
فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا لَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا كَالثَّوْبِ ، لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَنَا بِأَنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَوْبًا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ قَدْرُ قِيمَةِ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ أَوْ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ إلَّا مِائَةَ جَوْزَةٍ ، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَيَطْرَحُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا ( أَمَّا ) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا عَلَى حِدَةٍ كَمَا لِنَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ لُغَةً ، فَقَوْلُهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا مَعْنَاهُ إلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ ، فَيَصِيرُ دَلِيلُ النَّفْيِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْإِثْبَاتِ فِي قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى ، وَلِهَذَا قَالَ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَصَارَ قَوْلُهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا أَيْ إلَّا ثَوْبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْ الْأَلِفِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ مِنْ الْأَلْفِ لَيْسَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُرَادُ قَدْرَ قِيمَتِهِ أَيْ مِقْدَارَ قِيمَةِ الثَّوْبِ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْ الْأَلْفِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا بَيَانُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ
الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي إذَا كَانَ ثَابِتًا فَكَانَ انْعِدَامُ حُكْمِ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْمُسْتَثْنَى لِانْعِدَامِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ إيَّاهُ لَا لِلْمُعَارَضَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ فَاسِدٌ ؛ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُقَارِنٌ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ مُنَاقِضَةً .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِدَلِيلٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ ، وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ بِنَصٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا إلَّا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إلَّا كَذَا فَإِنَّهُ كَذَا ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ كَانَ أَوْلَى وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَإِذَا كَانَ بَيَانًا فَمَعْنَى الْبَيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إمَّا فِي الِاسْمِ أَوْ فِي احْتِمَالِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُمْ : الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ - مَحْمُولٌ عَلَى الظَّاهِرِ إذْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَذَلِكَ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَجْهَ إحَالَتِهِ فَيَكُونُ بَيَانًا حَقِيقَةً نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( وَأَمَّا ) الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ،
وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْجِنْسِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ قَوْلِهِ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، عَشَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا مُسَمَّاةٌ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ فِي اسْمِ الدَّرَاهِمِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهَا فِي الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ فِي احْتِمَالِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ حَالًّا بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا تَجِبُ سَلَمًا وَثَمَنًا حَالًّا كَالدَّرَاهِمِ .
( فَأَمَّا ) الثَّوْبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ سَلَمًا أَوْ ثَمَنًا مُؤَجَّلًا ( فَأَمَّا ) مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اسْتِقْرَاضًا وَاسْتِهْلَاكًا وَثَمَنًا حَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلِ فَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا فِي وَصْفِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي اسْمِ الدَّرَاهِمِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْبَيَانُ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ لَا فِي الِاسْمِ وَلَا فِي احْتِمَالِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعَرْصَةِ فِي اللُّغَةِ ، وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَكُونُ الدَّارُ مَعَ الْبِنَاءِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ اسْمًا عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ كَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ كَانَ لَهُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ لَا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَكَذَا مَنْ أَقَرَّ بِسَيْفٍ لِغَيْرِهِ كَانَ لَهُ النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا مَنْ أَقَرَّ بِحَجْلَةٍ كَانَ لَهُ الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى رُبُعَ الدَّارِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ .
وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ صَحَّ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبِنَاءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا وَرَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ ، فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الدَّاخِلَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي إلَيْهِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ وَعَلَى هَذَا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَإِنْ كَثُرَ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى مَا يَلِيهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُبْدَأُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَخِيرِ فَيُسْتَثْنَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي هَكَذَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِنْهُ فَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَمَا بَقِيَ مِنْهَا فَهُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ .
بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّا صَرْفنَا الِاسْتِثْنَاءَ الْأَخِيرَ إلَى مَا يَلِيهِ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا مِنْ الْعَشَرَةِ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ الْمَلَائِكَة { قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ } اسْتَثْنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى آلَ لُوطٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لَا مِنْ الْمُجْرِمِينَ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ وَآلُ لُوطٍ لَمْ يَكُونُوا مُجْرِمِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ مِنْ آلِهِ فَبَقِيَتْ فِي الْغَابِرِينَ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسَبْعَةٍ لِأَنَّا جَعَلْنَا الدِّرْهَمَ
مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ اسْتَثْنَاهُمَا مِنْ خَمْسَةٍ فَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ اسْتَثْنَاهَا مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَبَقِيَ سَبْعَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسِتَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا الْأَصْلُ لَا يُخْطِئُ فِي إيرَادِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَثُرَ هَذَا إذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ إلَّا دِرْهَمًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَصِحُّ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالتَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ عِنْدَنَا .
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا انْفَصَلَتْ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لَا تَكُونُ كَلَامَ اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ أَصْلًا ، وَلَوْ اشْتَغَلَ بِهِ أَحَدٌ يُضْحَكُ عَلَيْهِ كَمَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا ، ثُمَّ قَالَ : بَعْدَ شَهْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعَدُّ ذَلِكَ تَعْلِيقًا بِالْمَشِيئَةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ ، كَذَا هَذَا وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَكَادُ تَصِحُّ ، بِخِلَافِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ صِيغَةِ التَّحْرِيرِ لَغْوٌ فَكَانَ فِي مَعْنَى السَّكْتَةِ وَلَوْ قَالَ :
لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ ، لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِانْصِرَافِ كُرِّ الْحِنْطَةِ إلَى جِنْسِهِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِلْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ ، وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْقَفِيزِ مِنْ الشَّعِيرِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ فَقَدْ لَغَا فَكَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَثْنَى قَفِيزَ شَعِيرٍ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ أَصْلًا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الِاسْتِدْرَاكُ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقَدْرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّفَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْقَدْرِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ ، فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَقَوْلُهُ لَا رُجُوعَ وَقَوْلُهُ بَلْ اسْتِدْرَاكٌ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ وَكَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مِمَّا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ فِيهِ فَيُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ فَتُقْبَلُ مِنْهُ بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَقَعُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ .
وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ حَتَّى لَوْ كَانَ إخْبَارًا بِأَنْ قَالَ لَهَا : كُنْتُ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا طَلَاقَانِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرَّانِ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي النُّقْصَانِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ مَعَ مَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْغَلَطِ نَادِرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لِالْتِحَاقِهِ بِالْعَدَمِ .
(
وَأَمَّا ) فِي خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرُّ شَعِيرٍ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْغَلَطِ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ هَذَا إذَا وَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ ( فَأَمَّا ) إذَا وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ لَا بَلْ سُودٌ يُنْظَرُ فِيهِ إلَى أَرْفَعِ الصِّفَتَيْنِ ، وَعَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي زِيَادَةِ الصِّفَةِ مُتَّهَمٌ فِي النُّقْصَانِ فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الْأَوَّلِ رَاجِعًا فِي الثَّانِي فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كَمَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا رَجَعَ الِاسْتِدْرَاكُ إلَى الْمُقَرّ بِهِ فَأَمَّا إذَا رَجَعَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِأَنْ قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهَا لِلْأَوَّلِ صَحَّ إقْرَارُهُ لَهُ فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ ، فَقَوْلُهُ : لَا بَلْ لِفُلَانٍ - رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، وَإِذَا صَحَّ صَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَإِذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ بِالدَّفْعِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَضْمَنَ بِالْإِقْرَارِ ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ فِي الدَّفْعِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَيَكُونُ كَالْمُكْرَهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَيْرِ بِمِلْكِ
الْغَيْرِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ ، يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي ، سَوَاءٌ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَقِيمَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا التَّلَفُ فِي تَسْلِيمِ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى وَجْهٍ يَعْجِزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ فَلَا جَرَمَ إذَا وُجِدَ يَجِبُ الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ ، أَخَذْتُهَا مِنْ فُلَانٍ ، أَوْ أَقْرَضَنِيهَا فُلَانٌ ، وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ أَقْرَضَهُ أَلْفًا مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْقَرْضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِمَا إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَرُدُّ الْأَلْفَ الْقَائِمَةَ إلَى الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهَا لَهُ ، وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي أَلْفًا أُخْرَى ضَمَانًا لِلْأَخْذِ وَالْقَرْضِ وَلَوْ قَالَ : أَوْدَعَنِي فُلَانٌ هَذِهِ الْأَلْفَ لَا بَلْ فُلَانٌ ، يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِيدَاعِ مِنْ الثَّانِي صَحِيحٌ فِي حَقِّ الثَّانِي فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَقَدْ فَوَّتَهُ بِالْإِقْرَارِ
لِلْأَوَّلِ بَلْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فَوَاتَ الْحِفْظِ وَالْهَلَاكَ حَصَلَ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِالْإِقْرَارِ ، وَالدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ فَهِيَ لِلدَّافِعِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِدَفْعِ فُلَانٍ قَدْ صَحَّ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنْ يَصِحُّ فِي حَقِّ الثَّانِي وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ ، دَفَعَهَا إلَيَّ فُلَانٌ فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ ، وَلَا يَكُونُ لِلدَّافِعِ شَيْءٌ ، فَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا لِلْأَوَّلِ يُوجِبُ الرَّدَّ إلَيْهِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ يَصِحُّ فِي حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ ، وَالْحُجَجُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَرْسِلْ بِهَا إلَى فُلَانٍ ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا قُلْنَا ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَبَضْتَهَا مِنْ فُلَانٍ ، فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ هُنَاكَ أَلْفٌ فِي الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ لَهُ ، وَلَزِمَهُ أَلْفٌ أُخْرَى لِفُلَانٍ بِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهَا مِنْهُ إذْ الْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
فَلَزِمَهُ أَلْفَانِ ، وَهَهُنَا الْمُقَرُّ بِهِ عَيْنٌ مُشَارٌ إلَيْهَا فَمَتَى صَحَّ إقْرَارُهُ بِهَا لَمْ يَصِحَّ لِلثَّانِي وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي بِحَالٍ بِانْتِهَاءِ الرِّسَالَةِ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ ، وَفِي الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ فَإِنْ قَالَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ : إنَّهَا مِلْكُهُ لَيْسَتْ الْأَلْف لِي ، وَادَّعَاهَا الرَّسُولُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَوَّلِ قَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلرَّسُولِ ، فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَنَّهَا مِلْكُهُ غَائِبًا وَأَرَادَ الرَّسُولُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يَأْخُذْهَا ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قَدْ انْتَهَتْ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ وَلَوْ أَقَرَّ إلَى خَيَّاطٍ فَقَالَ : هَذَا الثَّوْبُ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ لِأَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَهُوَ لِفُلَانٍ ، فَهُوَ لِلَّذِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْمُرْسِلِ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ الثَّانِي ، كَمَا إذَا قَالَ : دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ الْخَيَّاطُ : هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِي لِفُلَانٍ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شَيْئًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ عِنْدَهُ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْعَلِيمُ .
( فَصْلٌ ) : ( وَأَمَّا ) الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِأَنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ هَذَا وَذَاكَ قَبْلَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ يَتَعَيَّنُ الْبَعْضُ مُرَادًا بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَصْلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا .
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ضَرْبُ رُجْحَانٍ فَإِنْ كَانَ الْإِفْهَامُ إلَيْهِ أَسْبَقَ عِنْد الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الرُّجُوعَ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الرُّجُوعِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَرِينَةِ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ ( أَمَّا ) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الذَّاتِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالْأَرْشِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ إخْبَارًا عَنْ الْمُخْبِرِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَهُوَ حَدُّ الصِّدْقِ .
بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ وَيُقَالُ لَهُ بَيِّنْ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَيَصِحُّ
بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا لِأَنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْلُ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكَ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ إذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً وَإِمَّا إنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ .
فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا بَيَّنَ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَيْهَا إنْ أَرَادَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَالٍ آخَرَ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ إقْرَارَهُ لَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِمَا قُلْنَا ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يَتَمَانَعُ فِي الْعَادَةِ وَيُقْصَدُ بِالْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَانَعُ عَادَةً وَلَا يُقْصَدُ غَصْبُهُ نَحْوُ كَفٍّ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ الْغَصْبِ ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ : لَا يُشْتَرَطُ ، وَقَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا أَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ أَوْ خَمْرَ مُسْلِمٍ يُصَدَّقُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حَتَّى يُبَيِّنَ شَيْئًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ ، وَهَذَا لَا يَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمَغْصُوبِ مَالًا مُتَقَوِّمًا ( وَجْهُ ) قَوْلِ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَهُ ضَمَانَانِ :
أَحَدُهُمَا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، وَالثَّانِي وُجُوبُ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِغَصْبِ شَيْءٍ إقْرَارًا بِغَصْبِ مَا يَحْتَمِلُ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ وَلَوْ بَيَّنَ غَصْبَ الْعَقَارِ ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُصَدَّقُ ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مَضْمُونُ الْقِيمَةِ أَيْضًا فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِنَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ ( وَأَمَّا ) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ يُصَدَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمُ مَا يُتَمَوَّلُ وَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فَالْبَيَانُ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الْأَصْلِ مَجْهُولَ الْوَصْفِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ ثَوْبًا مِنْ الْعُرُوضِ فَيُصَدَّقُ فِي الْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ ، سَلِيمًا كَانَ أَوْ مَعِيبًا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَادَةً ، وَقَدْ بَيَّنَ الْأَصْلَ ، وَأَجْمَلَ الْوَصْفَ فَيَرْجِعُ فِي بَيَانِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا ، وَمَتَى صَحَّ بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ دَارًا ، وَقَالَ : هِيَ بِالْبَصْرَةِ ، يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الْمَكَانَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْمَكَانِ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ بِأَنْ خُرِّبَتْ أَوْ قَالَ : هِيَ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي فِي يَدَيْ زَيْدٍ وَزَيْدٌ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَر وَلَا يَضْمَنُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَةَ الدَّارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ : هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْجِهَةِ وَإِمَّا إنْ بَيَّنَ الْجِهَةَ .
فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ جِهَةً أَصْلًا وَقَالَ : هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ ، فَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ ، وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ فَكَانَ قَوْلُهُ زُيُوفٌ بَيَانًا لِلنَّوْعِ إلَّا
أَنَّهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ فَصْلُ الْبَيَانِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ : هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ ، وَصَلَ أَوْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ ، الْوَدِيعَةُ مَالٌ مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْمُودَعِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جَيِّدًا وَقَدْ يَكُونُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً عَلَى حَسَبِ مَا يُودَعُ فَيُقْبَلُ بَيَانُهُ هَذَا إذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ أَمَّا إذَا بَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ وَعَلَيْهِ الْجِيَادُ إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْجِيَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَقَعُ عَلَى الزُّيُوفِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَادِ إذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فِيهَا ، وَاسْمُ كُلِّ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْجِنْسِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مَوْصُولًا لِوُقُوعِهِ تَعْيِينَا لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلهُ اللَّفْظُ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا لِكَوْنِهِ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ بَعْدَ النِّسْبَةِ إلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ بَيَانُهُ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْبَدَلَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَرْضَى إلَّا بِالْبَدَلِ السَّلِيمِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِكَوْنِ الدَّرَاهِمِ ثَمَنًا إقْرَارًا بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِخْبَارُهُ عَنْ الزِّيَافَةِ يَكُونُ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ ، كَمَا إذَا قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ ، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ
: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا ، وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَيْعِ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْقَرْضَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ فَكَانَ فِي اسْتِدْعَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ كَالْبَيْعِ ( وَجْهُ ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْغَصْبَ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ ثُمَّ بَيَانُ الزِّيَافَةِ مَقْبُولٌ فِي الْغَصْبِ ، كَذَا فِي الْقَرْضِ وَيُشْبِهُ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْغَصْبِ احْتَمَلَ الْبَيَانَ فِي الْجُمْلَةِ وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ شَرَطْنَا الْوَصْلَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ قَالَ : غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ سَوَاءٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْأَجْوَدِ لَا يَسْتَدْعِي صِفَةَ السَّلَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَرِدُ عَلَى السَّلِيمِ يَرِدُ عَلَى الْمَعِيبِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيَانِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ غَصْبُ عَبْدٍ بِأَنْ قَالَ : غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ عَبْدًا ثُمَّ قَالَ : غَصَبْتُهُ وَهُوَ مَعِيبٌ ، يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ ، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ : أَوْدَعَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ يُصَدَّقُ بِلَا خِلَافٍ فَصَلَ أَوْ وَصَلَ ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ اسْتِحْفَاظُ الْمَالِ ، وَكَمَا يُسْتَحْفَظُ السَّلِيمُ يُسْتَحْفَظُ الْمَعِيبُ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ الزِّيَافَةِ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْوَصْلُ لِانْعِدَامِ تَضَمُّنِ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْغَصْب حَيْثُ صَدَّقَهُ فِي الْوَدِيعَةِ مَوْصُولًا كَانَ الْبَيَانُ أَوْ مَفْصُولًا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ فِي الْغَصْبِ إلَّا
مَوْصُولًا ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ مُبَادَلَةٌ إذَا الْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْمَبِيعِ وَهُوَ الثَّمَنُ ، وَفِي بَابِ الْبَيْعِ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ عِنْدَهُ كَذَا فِي الْغَصْبِ ( فَأَمَّا ) الْوَاجِبُ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْحِفْظُ ، وَالْمَعِيبُ فِي احْتِمَالِ الْحِفْظِ كَالسَّلِيمِ فَهُوَ الْفَرْقُ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ هَذَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهَا وَقَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ فَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى بِهَا مَجَازًا فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ ( وَأَمَّا ) فِي الْبَيْعِ إذَا قَالَ : ابْتَعْتُ بِأَلْفِ سَتُّوقَةٍ أَوْ رَصَاصٍ فَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَصَلَ أَوْ وَصَلَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : ابْتَعْتُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُ ، وَصَلَ أَوْ فَصَلَ ، فَهَهُنَا أَوْلَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُصَدَّقُ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ أَمَّا التَّصْدِيقُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ خَرَجَ بَيَانًا لِوَصْفِ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ ، كَمَا إذَا قَالَ بِأَلْفٍ بِيضٍ أَوْ بِأَلْفٍ سُودٍ ( وَأَمَّا ) فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ السَّتُّوقَةِ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كَتَسْمِيَةِ الْعُرُوضِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ زُيُوفٌ أَوْ وَضَحٌ زُيُوفٌ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ زُيُوفٌ أَوْ نَقْدُ بَيْتِ الْمَالِ زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَحْتَمِلُ الْجُودَةَ وَالزِّيَافَةَ إذْ الْبِيضُ قَدْ تَكُونُ جِيَادًا وَقَدْ تَكُونُ زُيُوفًا فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جِيَادٌ ؛ لِأَنَّ الْجُودَةَ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَافَةَ
لِتَضَادٍّ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ ذَكَرَ عَبْدًا مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ بِأَنْ قَالَ : ثَمَنُ هَذَا الْعَبْدِ وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ عَبْدًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ فَإِنْ ذَكَرَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْبَيْعِ يُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ الْأَلْفَ فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَكَ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ وَقَدْ ثَبَتَ الْبَيْعُ بِتَصَادُقِهِمَا وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَالَ : مَا بِعْتُ مِنْكَ شَيْئًا وَالْعَبْدُ عَبْدِي وَلِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ بِسَبَبٍ آخَرَ ، فَالْعَبْدُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْبَيْعَ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُقَرِّ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْبَيْعُ فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ، صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ كَذَّبَهُ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا يَقُولُ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ الْجِهَةِ فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيهَا لَكِنْ كَذَّبَهُ فِي الْقَبْضِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ ، سَوَاءٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ وَادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ ، وَالْمَبِيعُ قَدْ يَكُونُ مَقْبُوضًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْقَبْضُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ بَيَانًا فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيُصَدَّقُ بِشَرْطِ الْوَصْلِ
كَالِاسْتِثْنَاءِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْجِهَةِ بِتَصَادُقِهِمَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ تَعْيِينًا لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَكَانَ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْوَصْلُ لِبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ ، وَإِذَا كَذَّبَهُ يُشْتَرَطُ الْوَصْلُ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لِلْمَالِ ، فَإِذَا قَالَ : ثَمَنُ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ فَكَانَ بَيَانًا فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ ( وَوَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَقْبِضْهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ ، بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْأَلْفِ وَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ إلَّا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ ، فَقَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَقَوْلُهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ إبْطَالٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلَانٍ عَبْدًا
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ يُصَدَّقُ ، وَصَلَ أَوْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ قَدْ يَتَّصِلُ بِهِ الْقَبْضُ وَقَدْ لَا يَتَّصِلُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ بَيَانًا مَحْضًا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَلَوْ قَالَ : أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ أَقْبِضْ إنَّمَا طَلَبْتُ إلَيْهِ الْقَبْضَ فَأَقْرَضَنِي وَلَمْ أَقْبِضْ ، إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ هُوَ الْقَرْضُ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ كَمَا لَا يَكُونُ الْإِقْرَار بِالْبَيْعِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ تَمَامَ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ ظَاهِرًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ فِي الْحُكْمِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ بَيَانًا مَعْنًى فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِدْرَاكِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَوْدَعْتَنِي أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَوْ أَسْلَمْتَ إلَيَّ وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ لَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ ، وَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْإِيدَاعَ وَالْإِسْلَافَ يَسْتَدْعِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً خُصُوصًا عِنْدَ الْإِضَافَةِ فَلَا يَصِحُّ مُنْفَصِلًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْعَدَمَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَلَوْ قَالَ بِعْتَنِي دَارَكَ أَوْ آجَرْتَنِي أَوْ أَعَرْتَنِي أَوْ وَهَبْتَنِي أَوْ تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ أَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَإِنَّمَا الْقَبْضُ فِيهِمَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبِضْ
الْمَوْهُوبُ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ : نَقَدْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ ، إنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ وَصَلَ لَا يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْدَ وَالدَّفْعَ يَقْتَضِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ بِشَرِيطَةِ الْوَصْلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ لَوَازِمَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ أَعْنِي النَّقْدَ وَالدَّفْعَ خُصُوصًا عِنْدَ صَرِيحِ الْإِضَافَةِ ، وَالْإِقْرَارُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إقْرَارٌ بِالْآخَرِ فَقَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي فَقَالَ الرَّجُلُ : لَا بَلْ أَخَذْتَهَا غَصْبًا ، لَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُقِرُّ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : لَا بَلْ أَقْرَضْتُكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْأَخْذِ إقْرَارًا بِسَبَبِ الْوُجُوبِ فَدَعْوَى الْإِذْنِ تَكُونُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الضَّمَانِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَقْرَضْتُكَ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ إقْرَارٌ بِالْأَخْذِ بِالْإِذْنِ فَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنٍ وَالْأَخْذُ بِإِذْنٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِقْرَاضِ دَعْوَى الْأَخْذِ بِجِهَةِ الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ قَالَ : أَوْدَعْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً أَوْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : لَا بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إذْ الْمُقَرُّ بِهِ هُوَ الْإِيدَاعُ وَالْإِعْطَاءُ وَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَلَوْ قَالَ لَهُ : أَعَرْتَنِي ثَوْبَك أَوْ دَابَّتَك فَهَلَكَتْ عِنْدِي ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ غَصَبْتَ مِنِّي نُظِرَ فِي ذَلِكَ : إنْ هَلَكَ قَبْلَ اللُّبْسِ أَوْ الرُّكُوبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْإِعَارَةُ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ وَرُكُوبَ دَابَّةِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِذْنِ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ : دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي أَنَّهُ إنْ هَلَكَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا فِي الْإِعَارَةِ وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : لَا بَلْ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَدَعْوَى الْأَجَلِ عَلَى الْغَيْرِ فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَيَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْأَجَلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْأَجَلِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ وَقَالَ : كَفَلْتُ لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ كَفَلْتَ بِهَا حَالَّةً أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَادَةً بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْ
فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَقَالَ هُوَ مَالِي قَبَضْتَهُ مِنِّي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاقْتِضَاءِ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ ، وَالْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ فَهُوَ بِدَعْوَةِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الِاقْتِضَاءِ يَدَّعِي بَرَاءَتَهُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةً وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ : أَسْكَنْتُ فُلَانًا بَيْتِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَادَّعَى السَّاكِنُ أَنَّهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ قَالَ : أَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ ، وَقَالَ صَاحِبُهُ : هِيَ لِي فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَسْكَنْتُهُ دَارِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَأَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْيَدِ لَهُمَا ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْهُمَا فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَلِهَذَا لَوْ غَايَبَاهُ سَكَنَ الدَّارَ فَزَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّهُ أَعَارَهُمَا ( 1 ) مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ هُوَ الْيَدُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْيَدُ بِجِهَةِ الْإِعَارَةِ وَالسُّكْنَى ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا مَا عُرِفَتْ إلَّا بِإِقْرَارِهِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْيَدِ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا الْخَيَّاطَ خَاطَ قَمِيصِي بِدِرْهَمٍ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الْقَمِيصَ وَادَّعَى الْخَيَّاطُ أَنَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ : خَاطَ لِي هَذَا الْقَمِيصَ وَلَمْ يَقُلْ قَبَضَهُ مِنْهُ لَمْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبَلْ قَبْضَهُ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْيَدِ لِلْخَيَّاطِ لِجَوَازِ أَنَّهُ خَاطَهُ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَيْهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّارُ وَالثَّوْبُ مَعْرُوفًا لَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لَهُ كَانَ قَوْلُ صَاحِبِهِ هُوَ لِي مِنْهُ دَعْوَى التَّمَلُّكِ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا سَاكِنٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ لِي وَادَّعَى ذَلِكَ الرَّجُلُ
الْبَيْتَ فَهُوَ لَهُ وَعَلَى الْمُقِرِّ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالسُّكْنَى إقْرَارٌ بِالْيَدِ فَصَارَ هُوَ صَاحِبَ يَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ وَذَلِكَ فِي يَدَيْ الْمُقِرِّ وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْيَدِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا فِي يَدِ الْغَيْرِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ هَذَا الشَّيْءَ فِي حَالِ الرِّقِّ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ وَقَالَ الْعَبْدُ : لَا بَلْ أَخَذْتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّدِّ وَقَوْلَ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَلْ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الرَّدِّ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِتْلَافِ بِأَنْ قَالَ : أَتْلَفْتُ عَلَيْكَ مَالًا وَأَنْتَ عَبْدِي ، وَقَالَ الْعَبْدُ : لَا بَلْ أَتْلَفْتَهُ وَأَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا قَالَ الْمَوْلَى : قَطَعْتُ يَدَك قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَقَالَ الْعَبْدُ : لَا بَلْ قَطَعْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ تَنَازَعَا فِي الضَّرِيبَةِ فَقَالَ الْمَوْلَى : أَخَذْتُ مِنْكَ ضَرِيبَةَ كُلِّ شَهْرٍ كَذَا ، وَهِيَ ضَرِيبَةُ مِثْلِهِ ، وَقَالَ الْعَبْدُ : لَا بَلْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى وَطْءَ الْأَمَةِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَادَّعَتْ الْأَمَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى
بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْمَوْلَى يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى حَالِ الرِّقِّ حَيْثُ قَالَ : أَتْلَفْتُ وَهُوَ رَقِيقٌ وَالرِّقُّ يُنَافِي الضَّمَانَ ، إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِعَبْدِهِ ضَمَانٌ فَكَانَ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ ، وَالْعَبْدُ بِقَوْلِهِ أَتْلَفْتَ بَعْدَ الْعِتْقِ يَدَّعِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْغَلَّةِ وَالْوَطْءِ ، كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اعْتِبَارَ قَوْلِ الْعَبْدِ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْحُرِّ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَاعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَالْأَخْذُ فِي الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فَإِنَّ إتْلَافَ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِلرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُوجِبُ وَانْعَدَمَ الْمَانِعُ بَقِيَ خَبَرُهُ وَاجِبَ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الرَّقِيقَةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانِ أَصْلًا ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ الْغَلَّةُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ ضَرِيبَةَ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ الْمَوْلَى بِقَوْلِهِ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ مَا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَطْءِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ فَتَرَجَّحَ خَبَرُ الْمَوْلَى بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَهُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا
فِي الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ فَأَمَّا الْأَصْلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْعَبْدِ وَكَذَلِكَ الْغَلَّةُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمَنَافِعُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَم وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ : أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَقَالَ لَهُ الْمُقِرُّ : لَا بَلْ أَخَذْتَهُ وَأَنَا مُسْتَأْمَنٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْأَلْفُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهِمَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفًا فَاسْتَهْلَكْتَهَا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَالَ قَطَعْت يَدَك وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ فَعَلْت وَأَنَا مُسْتَأْمَنٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَيَضْمَنُ لَهُ الْمُقِرُّ مَا قَطَعَ وَأَتْلَفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْوُجُوبِ وَهِيَ حَالَةُ الْحِرَابِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْعَبْدِ إذْ الْعِصْمَةُ أَصْلٌ فِي النُّفُوسِ ، وَالسُّقُوطُ بِعَارِضِ الْمُسْقِطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْأَصْلُ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَزْنَ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْأَصْلِ مَوْزُونَةٌ إلَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي بَلْدَةٍ دَرَاهِمُهَا عَدَدِيَّةٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْعَدَدِ الْمُتَعَارَفِ إذَا ذَكَرَ الْعَدَدَ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَدَدًا يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَيَلْغُو ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيَقَعُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ
أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْوَزْنِ وَهُوَ فِي دِيَارِنَا وَخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَزْنُ سَبْعَةٍ ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْوَزْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ فِيهِ بِدَرَاهِمَ وَزْنُهَا يَنْقُصُ عَنْ وَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ يَقَعُ إقْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى وَزْنًا أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ بَلَدِهِ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا .
وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ كَمَا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ اسْتَوَتْ يُحْمَلْ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا وَالْوُجُوبُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالْوُجُوبُ فِي أَقَلِّهِ لَمْ يَكُنْ فَمَتَى وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ وَلَوْ سَمَّى زِيَادَةً عَلَى وَزْنِ الْبَلَدِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ ، إنْ كَانَ مَوْصُولًا يُقْبَلْ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ الْمَوْصُولَ ، وَلَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ لِانْصِرَافِ الْأَفْهَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى وَزْنِ الْبَلَدِ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ غَيْرِهِ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْوَزْنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّيَادَةِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَلَوْ أَقَرَّ وَهُوَ بِبَغْدَادَ فَقَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ لَكِنْ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَبَرِيَّةٍ خَرَجَ وَصْفًا لِلدَّرَاهِمِ أَيْ دَرَاهِمَ مَنْسُوبَةٍ إلَى طَبَرِسْتَانَ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ وَزْنِ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ ، وَالْمُقِرُّ بِبَغْدَادَ
يَلْزَمُهُ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ لَكِنْ بِكَيْلِ بَغْدَادَ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ شَامِيٌّ أَوْ كُوفِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ دِينَارًا وَاحِدًا وَزْنُهُ مِثْقَالٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ دِينَارَيْنِ وَزْنُهُمَا جَمِيعًا مِثْقَالٌ ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ صَغِيرَيْنِ مَكَانَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَانَ فِي عُرْفِهِمْ أَنَّ الدِّينَارَ إذَا كَانَ نَاقِصَ الْوَزْنِ يَكُونُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ فَكَانَ نُقْصَانُ الْوَزْنِ فِيهِ وَضِيعَةً ، كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْوَزْنُ وَالْعَدَدُ جَمِيعًا وَفِي الدَّرَاهِمِ بِخِلَافٍ فَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْعِبْرَةُ لِلْوَزْنِ ، فَسَوَاءٌ أَعْطَاهُ دِينَارًا وَاحِدًا أَوْ دِينَارَيْنِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُمَا مِثْقَالًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فَهُوَ بِقَفِيزِ الْبَلَدِ ، وَكَذَلِكَ الْأَوْقَارُ وَالْأَمْنَانُ لِمَا قُلْنَا فِي الدَّرَاهِمِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَكَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا شَكٌّ وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ لَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ أَوْ دُنَيْنِيرٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ تَامٌّ وَدِينَارٌ كَامِلٌ لِأَنَّ التَّصْغِيرَ لَهُ قَدْ يُذْكَرُ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِاسْتِحْقَارِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِقْلَالِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِنُقْصَانِ الْوَزْنِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْوَزْنِ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الشَّيْءَ وَفَسَّرَهُ بِدَرَاهِمَ أَيْ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ دَرَاهِمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } أَيْ الرِّجْسِ الَّتِي هِيَ أَوْثَانٌ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ لِلدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ ، وَأَقَلُّ التَّضْعِيفِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا ضَعَّفْنَا الثَّلَاثَةَ مَرَّةً تَصِيرُ سِتَّةً وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُضَاعَفَةَ سِتَّةٌ ، وَأَقَلُّ أَضْعَافِ السِّتَّةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَضَاعَفَ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا مُضَاعَفَةً ، وَأَقَلُّ أَضْعَافِ الْعَشَرَةِ
ثَلَاثُونَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ، وَأَقَلُّ تَضْعِيفِ الْأَرْبَعِينَ مَرَّةٌ فَذَلِكَ ثَمَانُونَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَلَوْ قَالَ : غَيْرُ أَلْفَيْنِ ، عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي مَا يُغَايِرُهُ لِاسْتِحَالَةِ مُغَايَرَةِ الشَّيْءِ نَفْسَهُ فَاقْتَضَى أَلْفًا تُغَايِرُ الْأَلْفَ الَّذِي عَلَيْهِ فَصَارَ مَعْنَاهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ غَيْرُ هَذَا الْأَلْفِ أَلْفٌ آخَرُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ ، وَكَذَا هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ مِثْلُ أَلْفٍ ؛ لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْمُمَاثَلَةِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُمَاثِلًا لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّهَا : غَيْرَ أَنْ يَنُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ طَرِيقُ الْكِتَابَةِ فَصَحَّتْ الْكِتَابَةُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُغَايَرَةِ ، فَإِذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ مِثْلُ أَلْفٍ وَمِثْلُ الْأَلْفِ أَلْفٌ مِثْلُهُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ ، وَكَذَا هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ .
وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ زُهَاءُ أَلْفٍ أَوْ عِظَمُ أَلْفٍ أَوْ جُلُّ أَلْفٍ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَشَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ أَكْثَرِ هَذَا الْقَدْرِ فِي الْعُرْفِ وَكَذَا إذَا قَالَ : قَرِيبٌ مِنْ أَلْفٍ ؛ لِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ وَشَيْئًا أَقْرَبُ إلَى الْأَلْفِ مِنْ خَمْسِمِائَةِ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ وَمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَا دُونَهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَثْرَةَ صِفَةً لِلدَّرَاهِمِ ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ الْعَشَرَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ : أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا هَكَذَا ، وَلَا يُقَالُ دَرَاهِمُ فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ أَوْ كَثِيرٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الْمَشْهُورِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ عَشَرَةً ( وَجْهُ ) مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ وَصَفَ الْمَالَ بِالْعِظَمِ ، وَالْعَشَرَةُ لَهَا عِظَمٌ فِي الشَّرْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَّقَ قَطْعَ الْيَدِ بِهَا فِي بَابِ السَّرِقَةِ ، وَقَدَّرَ بِهَا بَدَلَ الْبُضْعِ وَهُوَ الْمَهْرُ فِي بَابِ النِّكَاحِ .
( وَجْهُ ) الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُسْتَعْظَمُ فِي الْعُرْفِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْظَمُ النِّصَابُ وَلِهَذَا اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ عَلَّقَ وُجُوبَ الْمُعْظَمِ وَهُوَ الزَّكَاةُ بِهِ فَكَانَ هَذَا أَقَلَّ مَا اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ عُرْفًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ غَنِيَّا يَقَعُ عَلَى مَا يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَقَعُ عَلَى مَا يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ الْفُقَرَاءِ وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَعَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ " عِظَامٌ " جَمْعُ عَظِيمٍ ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَاتِ فَأَمَّا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَلَوْ قَالَ : غَصَبْت فُلَانًا إبِلًا كَثِيرَةً فَهُوَ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِالْكَثْرَةِ وَلَا تَكْثُرُ إلَّا إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا فِي جِنْسِهَا ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ حِنْطَةٌ كَثِيرَةٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيَانُ إلَيْهِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُصَدَّقُ
فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّصَابَ فِي بَابِ الْعَشْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَا بَيْنَ مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ أَوْ مِنْ مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِائَتَانِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ فَعَلَيْهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ عَشَرَةٌ ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ وَلَوْ قَالَ : مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لِفُلَانٍ ، لَمْ يَدْخُلْ الْحَائِطَانِ فِي إقْرَارِهِ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَشَرَةً مُرَتَّبَةً فَقَالَ : مَا بَيْنَ هَذَا الدِّرْهَمِ إلَى هَذَا الدِّرْهَمِ وَأَشَارَ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ لِفُلَانٍ لَمْ يَدْخُلْ الدِّرْهَمَانِ تَحْتَ إقْرَارِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلَانِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ الْأَوَّلُ دُونَ الْآخَرِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مَا ضُرِبَتْ بِهِ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَهُنَا لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْبَيْعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمَا غَايَتَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهِمَا لُزُومُهُمَا ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْغَايَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ : سِنُّ فُلَانٍ مَا بَيْنَ تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ دُخُولُ الْمِائَةِ ، كَذَا هَهُنَا وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَا بَيْنَ كُرِّ شَعِيرٍ إلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ حِنْطَةٍ إلَّا قَفِيزًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ كُرَّانِ وَلَوْ
قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ مِنْ دِينَارٍ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ تُجْعَلُ الْغَايَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ أَفْضَلِهِمَا ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَرْبَعَةٌ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْكُلُّ وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالطَّلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ ، وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ عَلَى طَرِيقِ الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَكَثَّرُ فِي نَفْسِهِ بِالضَّرْبِ وَإِنَّمَا يَتَكَثَّرُ بِأَجْزَائِهِ فَخَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ لَهُ خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ نَوَى بِهِ خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ ؛ لِأَنَّ " فِي " تَحْتَمِلُ " مَعَ " لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى الِاتِّصَالِ وَلَوْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ فَعَلَيْهِ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ يَلْزَمُهُ الثَّوْبُ وَالْمِنْدِيلُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ الظَّرْفُ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَا يَلْزَمُهُ الْإِصْطَبْلُ بِالْإِجْمَاعِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِقْرَارِ التَّمْرُ وَالثَّوْبُ لَا الْقَوْصَرَّةُ وَالْمِنْدِيلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ ظَرْفًا فَالْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ فِي ظَرْفِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا
بِهِ وَبِظَرْفِهِ كَالْإِقْرَارِ بِدَابَّةٍ فِي الْإِصْطَبْلِ وَبِنَخْلَةٍ فِي الْبُسْتَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِصْطَبْلِ وَالْبُسْتَانِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالتَّمْرِ فِي قَوْصَرَّةٍ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ فِي مِنْدِيلٍ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُغْصَبُ مَعَ الْمِنْدِيلِ الْمَلْفُوفِ فِيهِ عَادَةً ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مَعَ الْقَوْصَرَّةِ .
وَأَمَّا غَصْبُ الدَّابَّةِ مَعَ الْإِصْطَبْلِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ مَعَ مَا أَنَّ الْعَقَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْغَصْبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ ، فَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ : ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَعَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ ظَرْفًا لِثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ بِأَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْعَشَرَةِ فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ فِي ثَوْبٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ لِلْمُعْتَادِ هَذَا إذَا ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مُجْمَلًا فَإِنْ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مَعْلُومًا لَكِنْ أَضَافَهُ إلَى صِنْفَيْنِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَوْ كُرَّا حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ فَلَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَجْنَاسًا ثَلَاثَةً فَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ الثُّلُثُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَأَضَافَهُ إلَى عَدَدَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَكُونُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا إذَا أَضَافَهُ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِرَجُلَيْنِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ ، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ : اسْتَوْدَعَنِي ثَلَاثَةَ
أَثْوَابٍ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنْ شَاءَ جَعَلَ زُطِّيَّيْنِ وَيَهُودِيًّا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ يَهُودِيَّيْنِ وَزُطِّيًّا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَثْوَابَ الثَّلَاثَةَ مِنْ جِنْسِ الزُّطِّيِّ وَالْيَهُودِيِّ فَيَكُونُ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ مُرَادًا بِيَقِينٍ فَكَانَ الْبَيَانُ فِي الْآخَرِ إلَيْهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ .
وَلَوْ قَالَ : اسْتَوْدَعَنِي عَشَرَةَ أَثْوَابٍ هَرَوِيَّةٍ وَمَرْوِيَّةٍ كَانَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا مُمْكِنٌ وَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ وَإِمَّا إنْ أَجْمَلَ أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ بِأَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا ، لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَيْ عَشَرَ هَكَذَا إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ إلَّا أَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَحَدَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ وَيَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ فَسَّرَ هَذَا الْعَدَدَ بِالدَّرَاهِمِ لَا بِغَيْرِهَا وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ إحْدَى وَعِشْرُونَ وَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنَيِّفٌ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي النَّيِّفِ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ بِضْعٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ فِي بَيَانِ الْبِضْعِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الْعَدَدِ ، وَفِي
عُرْفِ اللُّغَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ إلَى التِّسْعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْمُتَعَارَفِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَدَانِقٌ أَوْ قِيرَاطًا فَالدَّانِقُ وَالْقِيرَاطُ مِنْ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَسُدُسٌ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَالْمِائَةُ دَرَاهِمُ وَلَوْ قَالَ : مِائَةٌ وَدِينَارٌ فَالْمِائَةُ دَنَانِيرُ وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمِائَةِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْمِائَةَ وَعَطَفَ الدِّرْهَمَ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفُهُ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَهُ فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ فِي الْمُبْهَمِ قَوْلُهُ ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَيْ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ ، هَذَا مَعْنَى هَذَا فِي عُرْفِ النَّاسِ ، إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الدِّرْهَمَ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ فِي الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَشَاةٌ فَالْمِائَةُ مِنْ الشِّيَاهِ عَلَيْهِ النَّاسِ وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ فَعَلَيْهِ ثَوْبٌ ، وَالْقَوْلُ فِي الْمِائَةِ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ مُجْمَلَةً فَكَانَ الْبَيَانُ فِيمَا أَجْمَلَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : مِائَةٌ وَثَوْبَانِ وَلَوْ قَالَ : مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ ثِيَابٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْمَلٌ ، وَقَوْلُهُ أَثْوَابٌ يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لَهُمَا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَعَبْدٌ أَنَّ عَلَيْهِ عَبْدًا ، وَالْبَيَانُ فِي الْعَشَرَةِ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَوَصِيفَةٌ أَنَّ عَلَيْهِ وَصِيفَةً ، وَالْبَيَانُ فِي الْعَشَرَةِ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ فِي مَجْلِسٍ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ أُخْرَى نُظِرَ فِي ذَلِكَ : فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا .
وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَهُمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا وَاحِدًا وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ذُكِرَ عَنْ الْكَرْخِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَذُكِرَ عَنْ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا وَاحِدًا وَهُوَ الصَّحِيحُ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَادَةَ بَيْنَ النَّاسِ بِتَكْرَارِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِتَكْثِيرِ الشُّهُودِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِيَفْهَمَ الشُّهُودُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى إنْشَاءِ الْإِقْرَارِ مَعَ الشَّكِّ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَلْفَ الْمَذْكُورَ فِي الْإِقْرَارِ الثَّانِي غَيْرُ الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ مُنَكَّرًا ، وَالْأَصْلُ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا كُرِّرَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ لِلْعَادَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا يَعُمُّ الْأَقَارِيرَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ وَلَمْ يُوجَدْ .
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ حَتَّى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ إنَّمَا صَحَّ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَالْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ .
وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْمَرَضُ لَيْسَ بِمَانِعٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الصَّحِيحِ
بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ ، وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ فَكَانَ إقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ دَلَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ وَأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ .
وَفُرُوعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَأْتِي فِي خِلَالِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمُكْرَهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ قَالَ : رَجُلَانِ لِفُلَانٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا : غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : وَاحِدٌ مِنَّا زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ .
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الْأَقَارِيرِ دُونَ الْبَعْضِ فَمَعْرِفَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى - إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - وَالثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ أَمَّا حَقُّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَنَوْعَانِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ ، وَلِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا شَرَائِطُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَالُ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدَدِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْعِبَارَةِ حَتَّى إنَّ الْأَخْرَسَ إذَا كَتَبَ الْإِقْرَارَ بِيَدِهِ أَوْ أَوْمَأَ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ بِخِلَافِ الَّذِي اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لِأَنَّ لِلْأَخْرَسِ إشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ، وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ أَصْلِيٌّ ( فَأَمَّا ) اعْتِقَالُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْحُدُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيِّ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّعَمُّدِ بِذِكْرِ آلَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ ، وَهِيَ السَّيْفُ وَنَحْوُهُ يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ صَاحٍ أَوْ لِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَقْلُهُ قَائِمًا فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيُلْحَقُ فِيهَا بِالصَّاحِي مَعَ زَوَالِهِ حَقِيقَةً عُقُوبَةً عَلَيْهِ ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .
لَكِنْ الشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَاد نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ ( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَوْجُودًا كَانَ أَوْ حَمْلًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ عَلَيَّ أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ حَتَّى لَوْ عَيَّنَ وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ : عَنَيْت بِهِ فُلَانًا يَصِحُّ ، وَلَوْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَيَّنَ جِهَةً يَصِحُّ وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْحَمْلِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ : أَوْصَى بِهَا فُلَانٌ لَهُ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ .
وَإِنْ أَجْمَلَ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ إقْرَارَ الْعَاقِلِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لَهُ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُبْهَمَ لَهُ جِهَةُ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَصِحُّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْوَصِيَّةِ ، وَالْإِرْثُ يَفْسُدُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ مَعَ مَا أَنَّ الْحَمْلَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، وَالشَّكُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا أَقَرَّ لِلْحَمْلِ ( أَمَّا ) إذَا أَقَرَّ بِالْحَمْلِ بِأَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ بِحَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ فَأَقَرَّ بِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
- أَعْلَمُ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَشَرْطُ صِحَّةِ الْفَرَاغِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ ( أَمَّا ) وَقْتُ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ ، فَمَا دَامَ الْمَدْيُونُ صَحِيحًا فَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ أَيْ يَتَعَيَّنُ فِيهَا وَيَتَحَوَّلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَضَ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَلُّقَ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِبَيَانِ حُكْمِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَمَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَمَا يَسْتَوِيَانِ فِيهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِهِ ( فَأَمَّا ) إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ( أَمَّا ) إنْ أَقَرَّ بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثٍ : فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِوَارِثٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ ( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ جِهَةَ الصِّحَّةِ لِلْإِقْرَارِ هِيَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ ، وَهَذَا فِي الْوَارِثِ مِثْلُ مَا فِي الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْأَجْنَبِيِّ كَذَا الْوَارِثِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِهِ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَيَكُونُ
إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِجَوَازِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ بِمَيْلِ الطَّبْعِ أَوْ بِقَضَاءِ حَقٍّ مُوجِبٍ لِلْبَعْثِ عَلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ فَأَرَادَ تَنْفِيذَ غَرَضِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوَارِثِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَيُرَدُّ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ مَعَ مَا أَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَجْنَبِيٍّ فِيهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْبَعْضِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجُزْ لِوَارِثٍ فَالْإِقْرَارُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْإِقْرَارُ لَارْتَفَعَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى الْإِقْرَارِ اخْتِيَارًا لِلْإِيثَارِ بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِالْوَصِيَّةِ إلَّا الثُّلُثُ ، وَبِالْإِقْرَارِ يَذْهَبُ جَمِيعُ الْمَالِ فَكَانَ إبْطَالُ الْإِقْرَارِ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِوَارِثٍ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَانِعِ مُنْعَدِمَةٌ فِي إقْرَارِهِ هَذَا إذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا فِي الثُّلُثِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مُتَعَلِّقٌ وَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ التَّبَرُّعَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ فِي
الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَصِحُّ ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَلْ الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ حَالَةَ الْمَرَضِ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ الصَّحِيحُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَيْهِ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ حَالَ الصِّحَّةِ حَالُ الْإِطْلَاقِ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِلْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَوْ لِلتُّهْمَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ هَهُنَا مُنْعَدِمٌ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ لِحُصُولِ الْكُلِّ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَاسْتَوَى فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ اسْتِوَاءَ الْكُلِّ فِي التَّعَلُّقِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي زَمَانِ التَّعَلُّقِ وَهُوَ زَمَانُ الْمَرَضِ إذْ زَمَنُ الْمَرَضِ مَعَ امْتِدَادِهِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَلَوْ أَقَرَّ وَهُوَ مَرِيضٌ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهُمَا دَيْنَانِ وَلَا تُقَدَّمُ الْوَدِيعَةُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ قَدْ صَحَّ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ ، وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ لَا يُبْطِلُ التَّعَلُّقَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يُصَانُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا صَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ كَانَا دَيْنَيْنِ وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى
لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ لَمَّا صَحَّ خَرَجَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّعَلُّقِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَلُّقُ بِالْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَرِيضِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَا بِغَيْرِهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الظَّاهِرَةُ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي الْقَضَاءِ فَتُقْضَى دُيُونُهُمْ أَوَّلًا مِنْ التَّرِكَةِ فَمَا فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَوِيَانِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ غَرِيمَ الْمَرَضِ مَعَ غَرِيمِ الصِّحَّةِ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ ، وَحَالَةُ الْمَرَضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَدَارَكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا مَا فَرَّطَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا أَغْلَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ لَمْ يُوجَدْ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فَرَاغُ الْمَالِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لَنَفَذَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا مِنْ الْأَصْلِ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ
مِلْكِهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ النَّفَاذُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ عَلَى تَعَلُّقِ النَّفَاذِ ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْفَرَاغُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ سِوَى إقْرَارِهِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضَرْبُ عِنَايَةٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أَوْ بَيْنَهُمَا حُقُوقٌ تَبْعَثُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَةِ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيُرِيدُ بِهِ تَحْصِيلَ مُرَادِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ بِالتُّهْمَةِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِعَبْدِهِ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَكَانُوا أَحَقَّ بِالْغُرَمَاءِ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْعَبْدِ لِفُلَانٍ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ .
( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ بِأَنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ مَلَكَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَلًا عَنْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَيُقَدَّمَانِ جَمِيعًا عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَحْتَمِلْ الرَّدَّ فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ وَكَذَا إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَرَضِهِ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى غُرَمَاءِ الصِّحَّة وَالْمَرْأَةُ تُخَاصِمُهُمْ بِمَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ - وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ - كَانَ وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا لِظُهُورِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ ضَرُورَةً يُحَقِّقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا لَمْ يَجُزْ بِدُونِ وُجُوبِ الْمَهْرِ ، وَالنِّكَاحُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ شَرْعًا وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ ، وَلِلصَّحِيحِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْبَاقُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ الْمَقْبُوضُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ عَلَى بَعْضٍ ، سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الْمَرَضِ أَوْ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ شَارَكَهُ الْبَاقُونَ فِي الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالتَّرِكَةِ ، وَحُقُوقُهُمْ فِي التَّعَلُّقِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَدَلَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَرْضَ وَيَنْقُدَ الثَّمَنَ وَلَا يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ وَالْمَنْقُودِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ ؛
لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ لَا بِصُورَتِهَا وَالتَّرِكَةُ قَائِمَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِيَامِ بَدَلِهَا لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مُقَامَةَ كَأَنَّهُ هُوَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْطَالًا مَعْنًى وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَنَقَدَهُمَا الْمَهْرَ وَالْأُجْرَةَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمَا الْمَنْقُودَ بَلْ الْغُرَمَاءُ يَتْبَعُونَهُمَا وَيُخَاصِمُونَهُمَا بِدُيُونِهِمْ وَكَانُوا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَعْنِي جَعْلَ الْمَنْقُودِ سَالِمًا لَهُمَا إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَهِيَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِهِ لِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْقِسْمَةِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَقٌّ وُضِعَ فِي الْمَالِ الْفَارِغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ ، فَإِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ وَالتَّرِكَةُ مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَقَدْ قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَيْنَ الصِّحَّةِ أَوْ دَيْنَ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَا بَيَّنَّا ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ وَلَوْ تَوَى شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَلُ التَّاوِي كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فَمَحَلُّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ هُوَ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِنْ الْمَالِ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ مَتْرُوكٍ وَهُوَ مَالٌ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالدَّيْنُ ، وَدِيَةُ الْمَدْيُونِ ، وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ الْوَاجِبَةُ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا حَتَّى لَا يَصِحَّ عَفْوُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ الْقِصَاصِ حَتَّى انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ حَقَّهُ فَيُصْرَفُ إلَى دُيُونِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَمَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَقَارِيرِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي إقْرَارِ الْحُرِّ فَهُوَ الْحُكْمُ فِي إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ هُوَ فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ وَالْحُرُّ سَوَاءً وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِهِ جَازَتْ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَمُحَابَاةُ الْحُرِّ الْمَرِيضِ لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ ( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْحُرِّ عَنْ الْمُحَابَاةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ ، وَالْعَبْدُ لَا وَارِثَ لَهُ وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَابَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَجَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي
يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَأَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْمَبِيعَ ، كَالْحُرِّ الْمَرِيضِ إذَا حَابَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ ، وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ : فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَبْرَأَ الْغَرِيمُ عَنْ الدَّيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ نَحْوَ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ بَدَلِ صُلْحٍ عَنْ عَمْدٍ أَوْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ نَحْوَ بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ ، وَسَوَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ .
أَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالُ فُلَانٍ الْمَرِيضِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ اسْتَحَقَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الدَّيْنِ بِالْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حَالَةَ الصِّحَّةِ كَمَا اسْتَحَقَّهَا بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَالْعَارِضُ هُوَ الْمَرَضُ وَأَثَرُهُ فِي حَجْرِ الْمَرِيضِ عَمَّا كَانَ لَهُ لَا فِي حَجْرِهِ عَمَّا كَانَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ ثَبَتَ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَجْرَ الْعَبْدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَالْمَرِيضُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ أَثَرُ الْحَجْرِ هُنَاكَ ظَهَرَ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ فَهَهُنَا أَوْلَى ( وَأَمَّا ) إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ