كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
وَيَجُوزُ شِرَاءُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ، وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هَذَا بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ ، وَشِرَاءُ مَالهِ بِمَالِهِ إذْ الْمَالَانِ جَمِيعًا لِرَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِلْكَ رَقَبَةٍ لَا مِلْكَ تَصَرُّفٍ ، وَمِلْكُهُ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَلِلْمُضَارِبِ فِيهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ لَا الرَّقَبَةِ ، فَكَانَ فِي حَقِّ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَمِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ ، فَكَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالِ الْأَجْنَبِيِّ ، لِذَلِكَ جَازَ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ دَارًا ، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى بِجَنْبِهَا ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُضَارِبِ ، وَلِهَذَا جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْ الْمُضَارِبِ .
وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ ، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ رِبْحٌ وَقْتَ الْبَيْعِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ ، وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ الدَّارِ إذَا بَاعَ لَا يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ هُوَ وَكِيلُ بَيْعِهَا .
وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الشُّفْعَةَ ، لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ ، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِي الْمَتْبُوعِ ، لَا تَجِبُ فِي
التَّابِعِ .
وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ ، وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ ، لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَوَقَعَ لِرَبِّ الْمَالِ وَالشُّفْعَةُ لَا تَجِبُ لَبَائِعِ الدَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ ، فَلَا شُفْعَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ ، فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي ذَلِكَ ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَى دَارًا إلَى جَانِبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ ، وَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَطَلَتْ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لِلْمُضَارَبَةِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ لِلْمُضَارِبِ ، فَإِذَا سَلَّمَ جَازَ بِتَسْلِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ .
فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِلْمُضَارِبِ وَلِرَبِّ الْمَالِ جَمِيعًا ، فَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا جَمِيعًا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ ، كَدَارٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَجِيرًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهُ وَيَبِيعَ ، ثُمَّ دَفَعَ الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الْأَجِيرِ دَرَاهِمَ مُضَارَبَةً ، فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ سِوَى الْأُجْرَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ مَشْغُولًا بِعَمَلِ الْمُضَارَبَةِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ إلَيْهِ الْمُضَارَبَةَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ الْإِجَارَةِ وَنَقْضِهَا ، فَمَا دَامَ يَعْمَلُ بِالْمُضَارَبَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ شَرِكَةٌ ، لِهَذَا لَا تَقْبَلُ التَّوْقِيتَ .
وَلَوْ شَارَكَهُ بَعْدَ مَا اسْتَأْجَرَهُ جَازَتْ الشَّرِكَةُ ، فَكَذَا الْمُضَارَبَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَأْجَرَهُ فَقَدْ مَلَكَ عَمَلَهُ ، فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَقَدْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا بِعَمَلٍ قَدْ مَلَكَهُ رَبُّ الْمَالِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الرِّبْحَ وَالْأَجْرَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ بِالْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَقْوَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ ، وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَالشَّيْءُ لَا يَنْتَقِضُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ شَرِكَةٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرِيكَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالْمَالِ ، وَالْمُضَارِبَ بِالْعَمَلِ ، وَرَبُّ الْمَالِ قَدْ مَلَكَ الْعَمَلَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ الرِّبْحَ ، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ ، فَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ عَمَلِ الْإِجَارَةِ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأُجْرَةُ بِحِصَّتِهِ ، وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَ عَمَلُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ أَلْفٌ ، عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ ، فَقُتِلَ عَمْدًا ، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ عَلَى الْخُصُوصِ لَا حَقَّ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ ، وَإِنْ
كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ ، وَإِنْ اجْتَمَعَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ هُوَ الْعَبْدُ ، وَإِنَّمَا هُوَ الدَّرَاهِمُ .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ رَأْسَ مَالِهِ فِي الْعَبْدِ ، كَانَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يَبِيعَ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ ، لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ الْمُضَارِبِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُمَا فِي الْعَبْدِ ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا ، وَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِنْ الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَشْتَرِي بِهِ الْمُضَارِبُ وَيَبِيعُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَالثَّمَنِ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ : إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَبْدَانِ ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ ، فَقَتَلَ رَجُلٌ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ عَمْدًا ، لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ قِصَاصٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَعَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ ، وَيَكُونُ فِي الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ بِالْقَتْلِ الْقِصَاصُ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ بِالْقَتْلِ مَالٌ فَالْمَالُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا اُسْتُوْفِيَ فَقَدْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، وَهَلَاكُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ ، وَالْقِيمَةُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَكَانَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَالثَّمَنِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِبَعْضِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ ، لَا لِرَبِّ الْمَالِ ،
وَلَا لِلْمُضَارِبِ ، وَلَا لَهُمَا إذَا اجْتَمَعَا أَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلِهَذَا لَوْ عَفَا الْمَرِيضُ عَنْ الْقِصَاصِ كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ بِهِ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ ، يَسْتَوْفِي رَأْسَ الْمَالِ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَالِ ، وَإِذَا اسْتَوْفَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ رِبْحًا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ .
( وَأَمَّا ) الْمُضَارِبُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا الْإِجْمَاعُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إذَا اُدُّعِيَ عَلَى عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ ، أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْوَلِيِّ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ : يُشْتَرَطُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُشْتَرَطُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَبْدَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عَلَى حُضُورِ الْمَوْلَى كَالْحُرِّ .
( وَلَهُمَا ) أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ رَقَبَةِ الْعَبْدِ ، فَلَا تُسْمَعُ مَعَ غَيْبَةِ الْمَوْلَى كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ ، وَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى جِنَايَةِ الْخَطَإِ وَقَدْ قَالُوا جَمِيعًا : لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلٍ عَمْدًا ، فَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَالْمُضَارِبُ ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقِصَاصِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ ، وَهُوَ مِمَّا يُمْلَكُ ، فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ كَالطَّلَاقِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ، فَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ انْقَلَبَ مَالًا وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْمَالِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَدَّقَهُ فِي إقْرَارِهِ ، وَكَذَّبَهُ الْمُضَارِبُ ، قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ : ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِكَ أَوْ : افْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ ، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ ، قِيلَ لِلْمُضَارِبِ : ادْفَعْ نَصِيبَكَ أَوْ : افْدِهِ وَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَقَرَّ فِي الْعَبْدِ بِجِنَايَةٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ .
( وَأَمَّا ) وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِ مُسْتَحِقِّ الدَّمِ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ ، فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلُ ، فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ ،
وَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ ، وَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ مُضَارِبِهِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ، أَوْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَكِنْ يَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ ، وَالْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ اشْتَرَى مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ ، وَالْمُضَارِبُ يَبِيعُ مَالَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ إذْ الْمَالَانِ مَالُهُ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُضَارِبِ بِالْمَالِ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ ، فَجُعِلَ ذَلِكَ بَيْعًا فِي حَقِّهِمَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا ، بَلْ جُعِلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ ، وَلِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ يُجْرِيهِ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَاسْتِخْلَافٍ ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَعَنْ شِبْهِ الْجِنَايَةِ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا ؛ لِجَوَازِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُضَارِبُ ؛ لِأَنَّ الْجُودَ بِمَالِ الْغَيْرِ أَمْرٌ سَهْلٌ ، فَكَانَ تُهْمَةُ الْجِنَايَةِ ثَابِتَةً ، وَالتُّهْمَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ ، فَلَا يَبِيعُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ : إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ، فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ، فَبَاعَهُ مِنْ
رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَنْقَسِمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ ، وَلَا شُبْهَةَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ، وَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ نَفْسِهِ ، فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، تُسَاوِي أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَبَاعَهَا مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ : سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ - وَهُوَ آخِرُ مَا قَالَ : إذَا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ عَلَى مِائَةٍ .
وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِمِائَةٍ يَبِيعُهُ أَبَدًا عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي الْأَقَلِّ ، وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِي الزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَيَسْقُطُ مَا فِيهِ تُهْمَةٌ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَلْفِ رِبْحٌ ، فَنِصْفُهَا لِلْمُضَارِبِ ، وَمَا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، فَيَضُمُّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ بِهِ ، وَيُسْقِطُ خَمْسَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهَا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ
، وَيَسْقُطُ خَمْسُونَ ؛ لِأَنَّهَا حَقُّ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَلَوْ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِسِتِّمِائَةٍ ، بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَيَسْقُطُ كُلُّ الرِّبْحِ وَيُبَاعُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَحْتَسِبُ شَيْئًا مِنْ حِصَّةِ نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ مَا نَقَدَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ ، فَيَجِبُ مِنْ حِصَّتِهِ نِصْفُ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَلْفٍ بِأَنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ وَلَهُ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ فِي الْمُشْتَرَى حَقٌّ ؛ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ ، فَلَا يُظْهِرُ لَهُ الرِّبْحَ كُلَّهُ ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا رِبْحَ فِي يَدِهِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تُجْرَى الْمَسَائِلُ ، فَمَتَى كَانَ شِرَاءُ الْمُضَارِبِ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةٌ ضَمَّهَا إلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ، وَإِذَا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ ، يَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ، وَيَضُمُّ إلَيْهِ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ .
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِأَلْفٍ خَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ الْمَالِ ، وَخَمْسُمِائَةٍ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ ، فَتَسْقُطُ الزِّيَادَةُ فِيهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَهُوَ أَلْفٌ ، وَيَبْقَى مِنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَرَبُّ الْمَالِ فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ رَأْسُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ ، وَخَمْسَمِائَةٍ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ ، وَرَبُّ الْمَالِ فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَخَمْسُمِائَةٍ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ
فَيَجِبُ إسْقَاطُهَا قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ ، وَرَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ - وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ : إنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِعَشْرَةِ آلَافٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ ، بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِعَشْرَةِ آلَافٍ ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ الْحَطُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لَهُ حَطُّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ ، فَإِذَا بَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَحَطَّ ، فَقَدْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ فَجَازَ .
( وَأَمَّا ) عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ سِمَاعَةَ ، فَهُوَ أَنَّ الْحَطَّ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا فَرَبِحَ فِيهِ أَلْفًا ، ثُمَّ اشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً ، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ حَطَّ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ ، نِصْفُهَا مِنْ نَصِيبِهِ وَنِصْفُهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحَطَّ فِي حَقِّ نَصِيبِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ حَطُّ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ فَلِذَلِكَ بَاعَ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا بَاعَ مُرَابَحَةً أَنْ يَقُولَ : قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا .
وَلَا يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَحِقَتْ بِالثَّمَنِ حُكْمًا ، وَالشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْحَطِّ فِي مَالِ
الْمُضَارَبَةِ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ ، فَإِذَا اشْتَرَى هُوَ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ ، فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهُ بِنُقْصَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ : لَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ ، وَيَبِيعُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَرِبْحُ الْمُضَارِبِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْبَيْعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ التُّهْمَةُ ، فَإِذَا بَيَّنَ فَقَدْ زَالَتْ التُّهْمَةُ ، فَيَجُوزُ الْبَيْعُ .
وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ ؛ أَلْفٌ مُضَارَبَةٌ وَأَلْفٌ رِبْحٌ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى مَا قِيمَتُهُ أَلْفُ ذَهَبٍ ، رَبِحَهُ ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الْمَالِ حِصَّةٌ ، وَصَارَ كَأَنَّهُ مَالُ رَبِّ الْمَالِ فَبَاعَهُ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ .
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةٌ ، فَصَارَ شِرَاءُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، فَيَبِيعُهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِأَلْفٍ وَلَا يَبِيعُهُ عَلَى
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفٌ ، فَلَيْسَ فِيهِ رِبْحٌ لِلْمُضَارِبِ يَبِيعُهُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ مَا يُسَاوِي أَلْفًا ، وَهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْعَقْدِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ أَلْفًا ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْبَيْعِ وَبَاعَهُ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ ، فَلَا يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ، بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَبْدِ رِبْحًا لِلْمُضَارِبِ ، وَنَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ هُوَ مَعَ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، فَيَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ مَعَ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ .
وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ فِي الْبُيُوعِ ، وَهِيَ مَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَرَبِحَ فِيهِ ثُمَّ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ آخَرَ ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ الرِّبْحُ ، وَيُعْتَبَرُ مَا مَضَى مِنْ الْعُقُودِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ رَبِحَ فِيهِ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ ، فَنِصْفُ ذَلِكَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ، فَلَمَّا بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ، فَقَدْ رَبِحَ فِيهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ إذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ رَبِحَ أَلْفَيْنِ ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ ، وَجَبَ أَنْ يَطْرَحَ الْأَلْفَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْأَخِيرُ خَاصَّةً فَالرِّبْحُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا يَحُطُّ عَنْ الثَّانِي فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، ثُمَّ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ، بَاعَهُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ رَبِحَ فِيهِ سِتَّمِائَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ بَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَنَصِيبُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَأْسَ الْمَالِ ، وَحِصَّةَ الْمُضَارِبِ ، فَلَمَّا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ ، فَقَدْ رَبِحَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، وَقَدْ كَانَ رَبِحَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بِرِبْحِ الْمُضَارِبِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحُطَّ ذَلِكَ الْمُضَارِبُ مِنْ الثَّمَنِ ، فَيَبْقَى أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ ، فَوَلَّاهُ رَبَّ الْمَالِ ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ مُرَابَحَةً بِأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا حَطَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثَلَاثَمِائَةٍ ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَحُطُّ مِنْ الْمُضَارِبِ أَرْبَعَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا حَطَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثَلَاثَمِائَةٍ ، اسْتَنَدَ ذَلِكَ الْحَطُّ إلَى الْعَقْدِ فَكَأَنَّ ذَلِكَ
الْمِقْدَارَ لَمْ يَكُنْ ، فَيُطْرَحُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَتُطْرَحُ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ ، وَقَدْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ رَبِحَ مِثْلَ ثُلُثِ الثَّمَنِ فَيَطْرَحُ مَعَ الثَّلَاثِمِائَةِ ثُلُثَهَا ، فَيَصِيرُ الْحَطُّ عَنْ الْمُضَارِبِ أَرْبَعَمِائَةٍ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ مُرَابَحَةً ، بَاعَهُ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَبِحَ أَرْبَعَمِائَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَرَبِحَ خَمْسَمِائَةٍ ، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ ثَلَاثَمِائَةٍ - وَهَذَا الْحَطُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جَمِيعًا - مِائَتَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمِائَةً مِنْ الرِّبْحِ ، فَلَمَّا سَقَطَ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةٌ ، يَبْقَى الرِّبْحُ أَرْبَعُمِائَةٍ ، فَلَمَّا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةٍ ، صَارَ شِرَاؤُهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَيَطْرَحُ عَنْهُ مِقْدَارَ مَا رَبِحَ فِيهِ رَبُّ الْمَالِ ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ ، فَيَبِيعُهُ عَلَى مَا بَقِيَ وَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ كَمَا تَجُوزُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، وَدَفَعَ إلَى رَجُلٍ آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، فَاشْتَرَى أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بِأَلْفٍ ، فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً ، بَاعَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ، وَهُوَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبَيْنِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَصَارَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ ، كَبَيْعِ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ بِمَالِهِ ، فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ .
وَلَوْ بَاعَهُ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْنِ ، أَلْفٌ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَأَلْفٌ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ الثَّانِي يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ اشْتَرَى نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَى ذَلِكَ النِّصْفَ
بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَبِيعُهُ الثَّانِي مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِرَاءِ صَاحِبِهِ فَصَارَا كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ ، فَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي اشْتَرَى الثَّانِي بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ ، فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ ، وَهُوَ مَالٌ وَاحِدٌ فَيَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْنِ لِلْمُضَارَبَةِ ، أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ ، فَإِنَّ الثَّانِيَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَعَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ وَأَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ أَلْفٌ ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ .
وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بَاعَهُ الثَّانِي عَلَى أَلْفٍ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الثَّمَنَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَحِصَّةٍ مِنْ الرِّبْحِ وَالرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالْعَمَلِ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئَانِ ، أَحَدُهُمَا : النَّفَقَةُ وَالْكَلَامُ فِي النَّفَقَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي وُجُوبِهَا ، وَفِي شَرْطِ الْوُجُوبِ ، وَفِيمَا فِيهِ النَّفَقَةُ ، وَفِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ وَفِي قَدْرِهَا وَفِيمَا تُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنْهُ .
( أَمَّا ) الْوُجُوبُ فَلِأَنَّ الرِّبْحَ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، وَالْعَاقِلُ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ غَيْرِهِ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، مَعَ تَعْجِيلِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْمُضَارَبَاتِ مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَكَانَ إقْدَامُهُمَا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ ، وَالْحَالُ مَا وَصَفْنَا إذْنًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ بِهِ نَصًّا ، وَلِأَنَّهُ يُسَافِرُ لِأَجْلِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ وَلَا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ لَهُ لَا مَحَالَةَ ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ بِخِلَافِ الْمُبْضِعِ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِبَدَلٍ لَازِمٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا مَحَالَة فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الشَّرِيكِ إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ ، أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ الْمَالِ كَالْمُضَارِبِ .
( وَأَمَّا ) شَرْطُ الْوُجُوبِ فَخُرُوجُ الْمُضَارِبِ بِالْمَالِ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ مُضَارَبَةً ، سَوَاءٌ كَانَ الْمِصْرُ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَمَا دَامَ يَعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ لَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَإِنْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ لَا تَثْبُتُ فِي الْمِصْرِ ، وَكَذَا إقَامَتُهُ فِي الْحَضَرِ لَا تَكُونُ لِأَجْلِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا
يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ ، سَوَاءٌ كَانَ خُرُوجُهُ بِالْمَالِ مُدَّةَ سَفَرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ مَكَانِ الْمُضَارَبَةِ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرُ نَفْسِهِ ، أَوْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَهْلٌ ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ حِينَ دَخَلَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ لَا لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِصْرَهُ ، وَلَا لَهُ فِيهِ أَهْلٌ ، لَكِنَّهُ أَقَامَ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ مَا أَقَامَ فِيهِ ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَتَّخِذْ ذَلِكَ الْمِصْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ دَارَ إقَامَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّخِذْهُ دَارَ إقَامَةٍ ، كَانَتْ إقَامَتُهُ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَإِنْ اتَّخَذَهُ وَطَنًا كَانَتْ إقَامَتُهُ لِلْوَطَنِ لَا لِلْمَالِ فَصَارَ كَالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ ، فَنَقُولُ : .
الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ نَفَقَةُ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ إلَّا بِالْإِقَامَةِ فِي مِصْرِهِ ، أَوْ فِي مِصْرٍ يَتَّخِذُهُ دَارَ إقَامَةٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي دَخَلَهُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ فِيهِ مُضَارَبَةً ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَدْخُلَهُ ، فَإِذَا دَخَلَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرَهُ ، أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا حَتَّى لَوْ أَخَذَ الْمُضَارِبُ مَالًا بِالْكُوفَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْكُوفَةَ مُسَافِرًا ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي الْمَالِ مَا دَامَ بِالْكُوفَةِ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا مُسَافِرًا فَلَهُ النَّفَقَةُ حَتَّى يَأْتِيَ الْبَصْرَةَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَلَا يُنْفِقُ مِنْ الْمَالِ مَا
دَامَ بِالْبَصْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَصْرَةَ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ لَهُ ، فَكَانَ إقَامَتُهُ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَطَنِ لَا لِأَجْلِ الْمَالِ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَأْتِيَ الْكُوفَةَ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ الْبَصْرَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ .
وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ أَيْضًا مَا أَقَامَ بِالْكُوفَةِ حَتَّى يَعُودَ إلَى الْبَصْرَةِ ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنَ إقَامَةٍ ، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالسَّفَرِ ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهَا وَلَيْسَ لَهُ وَطَنٌ ، فَكَانَ إقَامَتُهُ فِيهَا لِأَجْلِ الْمَالِ ، فَكَانَ نَفَقَتُهُ فِيهِ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ مِمَّنْ يُعِينُهُ عَلَى الْعَمَلِ ، فَنَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا ، أَوْ أَجِيرًا يَخْدُمُهُ أَوْ يَخْدُمُ دَابَّتَهُ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ السَّفَرُ إلَّا بِهِمْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ عَبِيدٌ لِرَبِّ الْمَالِ بَعَثَهُمْ لِيُعَاوِنُوهُ ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَنَفَقَتُهُمْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ إعَانَةَ عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ كَإِعَانَةِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ .
وَرَبُّ الْمَالِ لَوْ أَعَانَ الْمُضَارِبَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَمَلِ ، لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَذَا عَبِيدُهُ ، فَأَمَّا عَبْدُ الْمُضَارِبِ فَهُوَ كَالْمُضَارِبِ ، وَالْمُضَارِبُ إذَا عَمِلَ بِنَفْسِهِ فِي الْمَالِ ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ كَذَا عَبْدُهُ .
( وَأَمَّا ) مَا فِيهِ النَّفَقَةُ فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، مَا لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ دَيْنًا فِي الْمُضَارَبَةِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ الْمَالِ وَتَدْبِيرَهُ إلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ ، وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، كَالْوَصِيِّ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ لِمَا قُلْنَا ، كَذَا هَذَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا
أَنْفَقَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، لَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَالِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِشَيْءٍ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ كَالدَّيْنِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ، وَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ ، وَحُكْمِ الْجِنَايَةِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ الْجَانِي .
( وَأَمَّا ) تَفْسِيرُ النَّفَقَةِ الَّتِي فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَالْكِسْوَةُ وَالطَّعَامُ وَالْإِدَامُ ، وَالشَّرَابُ وَأَجْرُ الْأَجِيرِ ، وَفِرَاشٌ يَنَامُ عَلَيْهِ ، وَعَلَفُ دَابَّتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِي سَفَرِهِ ، وَيَتَصَرَّفُ عَلَيْهَا فِي حَوَائِجِهِ ، وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَدُهْنِ السِّرَاجِ وَالْحَطَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ دَلَالَةً .
( وَأَمَّا ) ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ ، وَالتَّنَوُّرِ وَالْأَدْهَانِ ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّدَاوِي ، وَصَلَاحِ الْبَدَنِ ، فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً لَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الدُّهْنِ خِلَافَ مُحَمَّدٍ : أَنَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُ ، وَذَكَرَ فِي الْحِجَامَةِ وَالْإِطْلَاءِ بِالنُّورَةِ ، وَالْخِضَابِ ، قَوْلَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : يَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ لِدَلَالَةِ الْإِذْنِ الثَّابِتِ عَادَةً ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ ، هَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ ، يَقْضِي بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ، وَلَا يَقْضِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
( وَأَمَّا ) الْفَاكِهَةُ فَالْمُعْتَادُ مِنْهَا يَجْرِي مَجْرَى الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ .
وَقَالَ بِشْرٌ فِي نَوَادِرِهِ : سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ اللَّحْمِ فَقَالَ : يَأْكُلُ كَمَا كَانَ يَأْكُلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَأْكُولِ الْمُعْتَادِ .
( وَأَمَّا ) قَدْرُ النَّفَقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ التُّجَّارِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ ، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ ضَمِنَ الْفَضْلَ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ بِالْعَادَةِ ، فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُعْتَادُ ، وَسَوَاءٌ سَافَرَ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِمَتَاعٍ عَنْ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ فِي الْحَالَيْنِ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ شِرَاءُ مَتَاعٍ مِنْ حَيْثُ قَصَدَ ، وَعَادَ بِالْمَالِ فَنَفَقَتُهُ مَا دَامَ مُسَافِرًا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا ، وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ الشِّرَاءُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَمَكَانٍ دُونَ مَكَان وَسَوَاءٌ سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَحْدَهُ ، أَوْ بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ لِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ ، فَلَهُ النَّفَقَةُ غَيْرَ أَنَّهُ سَافَرَ بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، أَوْ بِمَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ ، كَانَتْ النَّفَقَةُ مِنْ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لِأَجْلِ الْمَالَيْنِ ، فَتَكُونُ النَّفَقَةُ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْمَالَيْنِ مُضَارَبَةً لِرَجُلٍ ، وَالْآخَرُ بِضَاعَةً لِرَجُلٍ آخَرَ ، فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِهِ لَا لِأَجْلِ الْبِضَاعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ بِهَا ، إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِعَمَلِ الْبِضَاعَةِ ، فَيُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْعَمَلِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَبِّ الْبِضَاعَةِ شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَخْذِ الْبِضَاعَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالْمُودَعِ .
وَلَوْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَالنَّفَقَةُ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِ الْمَالَيْنِ .
( وَأَمَّا ) مَا تُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنْهُ فَالنَّفَقَةُ تُحْتَسَبُ مِنْ الرِّبْحِ أَوَّلًا إنْ كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْهَلَاكَ يَنْصَرِفُ إلَى الرِّبْحِ ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً ، أَوْ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لَازْدَادَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ عَلَى نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ ، فَإِذَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ إلَى مِصْرِهِ فَمَا فَضَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ رَدَّهُ إلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ كَانَ لِأَجْلِ السَّفَرِ ، فَإِذَا انْقَطَعَ السَّفَرُ لَمْ يَبْقَ الْإِذْنُ ، فَيَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ إلَى الْمُضَارَبَةِ .
وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ، فَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفَيْنِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَالنَّفَقَةُ تَكُونُ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمَالِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ ، فَإِنْ رَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، فَمَا أَنْفَقَ فَهُوَ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذِهِ قِسْمَةٌ مِنْ الْقَاضِي بَيْنَ الْمُضَارِبِ ، وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ إذَا قَضَى بِالنَّفَقَةِ ، وَإِنَّمَا صَارَتْ النَّفَقَةُ دَيْنًا بِأَمْرِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى الْغَائِبِ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ، فَيَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا صَارَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ قِسْمَةً لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ ، وَهُوَ التَّعْيِينُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا أَلْزَمَ الْمُضَارِبَ النَّفَقَةَ لِأَجْلِ نَصِيبِهِ ، فَقَدْ عَيَّنَ نَصِيبَهُ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ تَعْيِينُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ ،
وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمُضَارِبِ ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : النَّفَقَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَذَا حَقَّقَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مِلْكٌ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ، فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى حُكْمِ رَبِّ الْمَالِ ، فَكَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ ، وَيَحْتَسِبُ بِهَا فِي رَأْسِ مَالِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ يُقَالُ لِرَبِّ الْمَالِ : أَنْفِقْ إنْ شِئْتَ .
( وَلَهُمَا ) أَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ إعْتَاقَهُ يَنْفُذُ مِنْهُ ، فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ رَبِّ الْمَالِ الْإِنْفَاقَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَإِذَا قَضَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفَقَةِ نَصِيبِهِ ، فَقَدْ تَعَيَّنَ الرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ ، فَيَكُونُ قِسْمَةً ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، الْعَبْدُ الْآبِقُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ إذَا جَاءَ بِهِ رَجُلٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ الْعَبْدِ إنَّ الْجَعْلَ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَلَى مِلْكِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : الْجَعْلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ يُحْسَبُ فِي رَأْسِ مَالِهِ إذْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِذَا بِيعَ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَالْجَعْلَ ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اُشْتُرِطَ مِنْ الرِّبْحِ .
قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنَّ الْجَعْلَ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ فَالْجَعْلُ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَهُوَ وَضِيعَةٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْحَقْ الْجَعْلُ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ لِأَنَّ الَّذِي يَلْحَقُ رَأْسَ الْمَالِ فِي
الْمُرَابَحَةِ ، مَا جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ وَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِإِلْحَاقِ الْجَعْلِ ، وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ ، فَلَا يَلْحَقُ بِالْعَادَةِ مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ ، وَإِنَّمَا اُحْتُسِبَ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لَزِمَ لِأَجْلِ الْمَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْتَسَبَ بِالشَّيْءِ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَالثَّانِي ، مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ وَشَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ ، فَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، فَرَبِحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ الَّتِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ ، وَمَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ ، وَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ التَّاجِرِ ، لَا يَسْلَمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْلَمُ لَهُ نَوَافِلُهُ حَتَّى تَسْلَمَ لَهُ عَزَائِمُهُ } فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَصِحُّ ؛ وَلِأَنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا ، فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قَبْلَ الْأَصْلِ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ ، صَارَ الَّذِي اقْتَسَمَاهُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يُرَدَّ مِنْهُ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِنْ قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، رَأْسُ مَالِهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ رَدَّ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَهَا بِعَيْنِهَا إلَى
يَدِ الْمُضَارِبِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بِالنِّصْفِ ، فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا اسْتَوْفَى رَأْسَ الْمَالِ فَقَدْ انْتَهَتْ الْمُضَارَبَةُ ، وَصَحَّتْ الْقِسْمَةُ .
فَإِذَا رَدَّ الْمَالَ فَهَذَا عَقْدٌ آخَرُ ، فَهَلَاكُ الْمَالِ فِيهِ لَا يُبْطِلُ الْقِسْمَةَ فِي غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى أَلْفَيْنِ ، وَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ ، فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَالْمُضَارِبُ أَلْفًا ، ثُمَّ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ بَاطِلَةٌ ، وَمَا قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَرَدَّ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْأَلْفِ الَّذِي قَبَضَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ ، صَارَ مَا قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ ، وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ رَأْسَ الْمَالِ تَعَيَّنَ الرِّبْحُ فِيمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ بِالْقِسْمَةِ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ مَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الرِّبْحِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ ، فَصَارَ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَلَوْ هَلَكَ مَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَهْلَكُ فِي ضَمَانِ الْقَابِضِ ، فَبَقَاؤُهُ وَهَلَاكُهُ سَوَاءٌ .
قَالُوا : وَلَوْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْمُضَارِبُ : قَدْ كُنْتُ دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : لَمْ أَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ، وَيَرُدُّ الْمُضَارِبُ مَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ يَحْتَسِبُ عَلَى رَأْسِ رَبِّ الْمَالِ بِمَا قَبَضَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ، وَيُتِمُّ لَهُ رَأْسَ الْمَالِ بِمَا يَرُدُّهُ الْمُضَارِبُ ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا قَبَضَهُ
الْمُضَارِبُ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَنَّهَا رَأْسُ الْمَالِ ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَالْمُضَارِبُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا لَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، لَا فِي التَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي خُلُوصَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ وَالرِّبْحِ ، وَرَبُّ الْمَالِ يَجْحَدُ ذَلِكَ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ إيفَاءَ رَأْسِ الْمَالِ .
وَلَا يُقَالُ : الظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ إيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ ، إذْ الرِّبْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِيفَاءِ ، إذْ هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ قِسْمَةِ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِالْمُقَاسَمَةِ مَعَ بَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ ، فَلَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُضَارِبِ .
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً ، ثُمَّ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ الْخَمْسِينَ وَالْعِشْرِينَ لِنَفَقَتِهِ ، وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ بِالنَّفَقَةِ وَيَتَرَبَّحُ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ ، ثُمَّ احْتَسَبَا فَإِنَّهُمَا يَحْتَسِبَانِ بِرَأْسِ الْمَالِ ، أَلْفَ دِرْهَمٍ يَوْمَ يَحْتَسِبَانِ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَا يَكُونُ مَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ النَّفَقَةِ نُقْصَانًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُمَا يَحْتَسِبَا رَأْسَ الْمَالِ أَلْفًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمَقْبُوضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ؛ لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ ، وَهُمَا لَمْ يَقْصِدَا إبْطَالَهَا ، فَيُجْعَلُ رَأْسُ الْمَالِ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ ، هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ
الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا شَرَطَ ، وَهُوَ الرِّبْحُ وَلَمْ يُوجَدْ .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ ، فَالرِّبْحُ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ رِبْحٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ ، هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ .
( وَأَمَّا ) حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ ، فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ، وَلَا الرِّبْحَ الْمُسَمَّى ، وَإِنَّمَا لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَا الْمُسَمَّى فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا مِنْهُ بِالشَّرْطِ ، وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ فَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ وَالضَّيَاعُ وَالْهَلَاكُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ يَمِينِهِ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَ الْمَالَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا ، وَقَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ كَمَا فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ .
فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبَ الْفَسْخُ ، لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ ، وَهُوَ عِلْمُ صَاحِبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، حَتَّى لَوْ نَهَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ عُرُوضٌ وَقْتَ النَّهْيِ ، لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ ، فَكَانَ النَّهْيُ وَالْفَسْخُ إبْطَالًا لَحَقِّهِ فِي التَّصَرُّفِ ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ ، صَحَّ الْفَسْخُ وَالنَّهْيُ ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى الدَّنَانِيرِ ، وَالدَّنَانِيرَ إلَى الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِاتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ ، بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ ، أَوْ فِي عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ ، أَوْ مَعَ عُمُومٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَادَّعَى الْآخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَان ، وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِطْلَاقَ ، حَتَّى لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَتَّجِرَ فِي الْحِنْطَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا وَقَالَ الْمُضَارِبُ : مَا سَمَّيْتَ لِي تِجَارَةً بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَقِيلَ : إنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ .
( وَوَجْهُهُ ) أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومَ فِي دَعْوَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وَفِي دَعْوَى التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدَ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ ، وَبَيِّنَةُ الْإِطْلَاقِ سَاكِتَةٌ وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ ؛ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : دَفَعْتُ الْمَالَ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ وَقَالَ الْمُضَارِبُ : فِي الطَّعَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتُرَجَّحُ بِالْإِذْنِ ، وَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ بَيَّنْتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ نَافِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ ، وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى وَقَدْ قَالُوا فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ وَقَدْ وُقِّتَتَا : إنَّ الْوَقْتَ الْأَخِيرَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي يَنْقُضُ الْأَوَّلَ ، فَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ أَوْلَى .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : كَانَ رَأْسُ مَالِي أَلْفَيْنِ ، وَشَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ .
وَقَالَ الْمُضَارِبُ : رَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ ، وَشَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يُقِرُّ أَنَّهَا مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ أَنَّهُ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ .
وَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَفَادُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ ، وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ مُضَارَبَةٌ ، وَادَّعَى الْمُضَارِبُ اسْتِحْقَاقًا فِيهَا ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُضَارِبُ : بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَيْنِ خَلَطْتُهُ بِهَا ، أَوْ بِضَاعَةٌ فِي يَدِي ؛ لِأَنَّهُمَا مَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا ، وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ مِنْكَ شَيْئًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ، وَإِنَّمَا كَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّبْحِ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ قَوْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ رَأْسًا ، فَقَالَ لَمْ أَشْرُطْ لَكَ رِبْحًا ، وَإِنَّمَا دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ؟ ؟ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمْ : يَجْعَلُ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَيَجْعَلُ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي زِيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَيْنِ جَمِيعًا .
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى قَوْلِهِ الْأَخِيرِ ، وَاقْتَسَمَا مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ أَثْلَاثًا وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْأَلْفِ الْأُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَدْرَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَقَلَّ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى قَبُولِ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ ، فَإِنْ جَاءَ الْمُضَارِبُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ : أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ ، وَأَلْفٌ وَدِيعَةٌ لِآخَرَ ، أَوْ مُضَارَبَةٌ لِآخَرَ ، أَوْ بِضَاعَةٌ لِآخَرَ ، أَوْ شَرِكَةٌ لِآخَرَ ، أَوْ عَلَى أَلْفٌ دَيْنٌ ، فَالْقَوْلُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالدَّيْنِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ لِغَيْرِهِ ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ لِرَبِّ الْمَالِ بِهَذِهِ
الْأَلْفِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهَا .
وَكُلُّ مَنْ جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ مَعَ يَمِينِهِ ، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ فَضْلٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً ، فَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تُثْبِتُ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ تُثْبِتُ زِيَادَةً فِي الرِّبْحِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةً عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى شَرْطِ الثُّلُثِ ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ زِيَادَةً لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهَا إلَّا فَسَادُ الْعَقْدِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ شَرْطٍ .
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ إلَّا عَشَرَةً .
وَقَالَ الْمُضَارِبُ : بَلْ شَرَطْتَ لِي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِبَعْضِ الثُّلُثِ وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي تَمَامَ الثُّلُثِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ ، وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي فَسَادَهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ مُنْكِرٌ لِزِيَادَةٍ يَدَّعِيهَا الْمُضَارِبُ فَيُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ .
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ الْمُضَارِبُ : شَرَطْتَ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ : لَمْ تَشْتَرِطْ لِي شَيْئًا ، وَلِيَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَجْرًا وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَرْطِ النِّصْفِ ، وَأَقَامَ
الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ شَيْئًا ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ نَافِيَةٌ ، وَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى .
وَلَوْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ أَوْجَبَتْ حُكْمًا زَائِدًا ، وَهُوَ إيجَابُ الْأَجْرِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، فَكَانَتْ أَوْلَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ إلَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ خَاصَّةً ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَقَامَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ شَرَطَ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الْخَارِجِ ، وَقَالَ الْعَامِلُ : شَرَطْتَ لِي مِائَةَ قَفِيزٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الدَّافِعِ ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْعَامِلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَا بَذْرَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ ، لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِالتَّصْحِيحِ ، فَرَجَّحْنَا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَجْرُ .
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ : مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أَوْ : مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَالَ الْغَيْرِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ : أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ ، وَالرِّبْحُ لِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : دَفَعْتُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً ، أَوْ : بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ ، وَهُوَ
مُنْكِرٌ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ بِضَاعَةً ، أَوْ مُضَارَبَةً ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ : دَفَعْتَ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَقْرَضْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَصْلَ الضَّمَانِ .
وَلَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ أَصْلًا ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ : سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ - قَدْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ضَامِنٌ لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَالْأَمِينُ إذَا جَحَدَ الْأَمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ .
وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، فَإِذَا صَارَ ضِمْنِيًّا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، فَإِنْ
اشْتَرَى بِهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَالَ بِجُحُودِهِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَيَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَرْتَفِعْ مَعَ الْجُحُودِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَعَ الْجُحُودِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ شَيْئًا ، فَأَمَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِهِ صَحَّ الْأَمْرُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ .
وَإِذَا بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْجُحُودِ فَإِذَا اشْتَرَى بِمُوجَبِ الْأَمْرِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ ، وَلَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْتِفَاءِ الضَّمَانِ ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ بِأَمْرِ الْمَالِك وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا ، وَقَوْلُهُ : الْمَالُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ بِفِعْلِهِ قُلْنَا : الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ مِنْهَا بِفِعْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَمْرَ الْغَاصِبَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَغْصُوبَ فِي مَوْضِعِ كَذَا ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى فُلَانٍ ، إنَّهُ يَبْرَأُ بِذَلِكَ مِنْ الضَّمَانِ .
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا فَجَحَدَهُ الْأَلْفَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا ، ثُمَّ اشْتَرَى ، جَازَ الشِّرَاءُ ، وَيَكُونُ لِلْآمِرِ وَبَرِئَ الْجَاحِدُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ ، وَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُضَارِبِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ جَحَدَ الْأَلْفَ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا الْعَبْدَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالْأَلْفِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ
أَقَرَّ ثُمَّ اشْتَرَى بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الشِّرَاءِ لِرَبِّ الْمَالِ ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْمَالِ قَبْلَ الشِّرَاءِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمَأْمُورِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا جَحَدَهُ إيَّاهُ فَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ : إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَبْدًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَهَبَهُ لِفُلَانٍ فَجَحَدَهُ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَبَاعَهُ ، إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِعِتْقِهِ فَجَحَدَهُ ، وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْجُحُودِ قَائِمٌ ، فَإِذَا جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَيَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ : يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ ، إنَّهُ يَجُوزُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ .
وَقَالَ هِشَامٌ : سَمِعْتُ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ، فَجَاءَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَقَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ رَأْسُ الْمَالِ ، وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ رِبْحٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ : عَلَيَّ دَيْنٌ فِيهِ لِفُلَانٍ كَذَا كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَالِ ، وَأَنَّ فِي يَدِهِ عَشْرَةَ آلَافٍ ، وَعَلَيَّ فِيهَا دَيْنٌ أَلْفٌ ، أَوْ أَلْفَانِ فَقَالَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، يَدْفَعُ الدَّيْنَ مِنْهُ سَمَّى صَاحِبَهُ ، أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَسَمَّى صَاحِبَهُ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يُصَدَّقْ قَالَ : وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَسَنُ يُخَالِفُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ ( وَوَجْهُهُ ) أَنَّهُ قَالَ : فِي يَدِي عَشْرَةُ آلَافٍ وَسَكَتَ فَقَدْ أَقَرَّ بِالرِّبْحِ ، فَإِذَا قَالَ : عَلَيَّ دَيْنٌ أَلْفٌ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْإِقْرَارُ إذَا صَحَّ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَمْ يَسْتَقِرَّ بَعْدُ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فِي حَالٍ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ ، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَمَا إذَا قَالَ : هَذَا رِبْحٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ وَقَوْلُهُ : إنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ بَعْدَ مَا سَكَتَ ، يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ رَبِحَ ثُمَّ لَزِمَهُ الدَّيْنُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : قَدْ رَبِحْت وَلَزِمَنِي دَيْنٌ ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَحَّ ؟ وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ ، فَقَالَ : أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ ثُمَّ قَالَ : مَا أَرْبَحُ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَضْمَنُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي جَحَدَهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي بَاقِي الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا جَحَدَهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْجُحُودِ فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ : قَدْ دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ مَالِكَ ، وَاَلَّذِي بَقِيَ فِي يَدِي رِبْحٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْكَ ، وَلَكِنْ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَاحِدًا بِدَعْوَى الدَّفْعِ ، فَيَضْمَنُ بِالْجُحُودِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الرِّبْحِ ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ : لَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْكَ وَلَكِنَّهُ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الرِّبْحِ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ وَقَالَ
الْمُضَارِبُ : شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ السُّدُسَ مِنْ الرِّبْحِ ، يُؤَدِّيهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ فِي شَرْطِ الرِّبْحِ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ الثُّلُثُ ، وَقَدْ ادَّعَى النِّصْفَ ، وَمَنْ ادَّعَى أَمَانَةً فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا ، لِذَلِكَ يَضْمَنُ سُدُسَ الرِّبْحِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ يَبْطُلُ بِالْفَسْخِ ، وَبِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ ، لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ وَالنَّهْيِ ، وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ ، فَإِنْ كَانَ مَتَاعًا لَمْ يَصِحَّ ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَتَّى يَنِضَّ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا صَحَّ لَكِنْ لَهُ صَرْفُ الدَّرَاهِمِ إلَى الدَّنَانِيرِ ، وَالدَّنَانِيرِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِالْبَيْعِ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِتَجَانُسِهِمَا فِي مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ ، وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْمُضَارِبِ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ ، إلَّا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَتَاعًا ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَصِيرَ نَاضًّا لِمَا بَيَّنَّا ، وَتَبْطُلُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ مُطْبِقًا ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْأَمْرِ لِلْآمِرِ ، وَأَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ لِلْمَأْمُورِ ، وَكُلُّ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ تَفْصِيلُهُ .
وَلَوْ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ فَبَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى بِالْمَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ ، وَالْتَحَقَتْ رِدَّتُهُ بِالْعَدَمِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلًا ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ .
فَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ، أَوْ لَحِقَ فَحُكِمَ بِاللُّحُوقِ ، يَزُولُ مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَرَثَتِهِ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِهِ لَبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْآمِرِ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ قَائِمًا فِي يَدِهِ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ ، فَالْمُشْتَرَى وَرِبْحُهُ يَكُونُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ عَنْ الْمَالِ فَيَنْعَزِلُ الْمُضَارِبُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ ، فَصَارَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ مَتَاعًا فَبَيْعُ الْمُضَارِبِ فِيهِ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ ، حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ ، وَلَا بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَنَانِيرُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ ، أَوْ حَصَلَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مَعْنًى لِاتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَ الْمَالِ قَائِمٌ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا إنْ بَاعَ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْعُرُوضِ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَالرِّدَّةُ لَا تَقْدَحُ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ ، فَيَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ ، كَمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمَا ، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ قُتِلَ كَانَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْمُسْلِمِ فِي بُطْلَانِ عَقْدِ
الْمُضَارَبَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ ، فَبَطَلَ أَمْرُهُ فِي الْمَالِ ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَكِنْ الْمُضَارِبُ ارْتَدَّ ، فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ ، وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ ، بَلْ الْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الرِّدَّةُ ، فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا عُهْدَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ ، وَإِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُ بِسَبَبِ الْمَالِ فَتَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ .
وَإِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، وَكَذَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلُحُوقِهِ ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مَعَ اللَّحَاقِ ، وَالْحُكْمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ، فَإِنْ لَحِقَ الْمُضَارِبُ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى هُنَاكَ ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا ، فَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لَهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ إنْسَانٍ ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، إنَّهُ يَمْلِكُهُ ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ ، وَأَمَّا ارْتِدَادُ الْمَرْأَةِ أَوْ عَدَمُ ارْتِدَادِهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ لَهَا أَوْ كَانَتْ مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِهَا ، إلَّا أَنْ تَمُوتَ ، فَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَحُكِمَ
بِلِحَاقِهَا ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ ، وَتَبْطُلُ بِهَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ أَوْ أَنْفَقَهُ أَوْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَاسْتَهْلَكَهُ لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ بِهِ ، فَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهُ مِنْ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ رَأْسِ الْمَالِ ، فَكَانَ أَخْذُ عِوَضِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ ثَمَنِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ .
وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهَا الْمُضَارِبُ رَجُلًا ، فَإِنْ رَجَّعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا ، رَجَعَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى يَضْمَنُ لَكِنْ زَالَ التَّعَدِّي فَيَزُولُ الضَّمَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ .
وَلِهَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ ، هَذَا إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا ، فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفًا ، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ الْبَائِعَ حَتَّى هَلَكَتْ الْأَلْفُ ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِالْأَلْفِ ، فَيُسَلِّمُهَا إلَى الْبَائِعِ ، وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَتْ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَبَضَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يُسَلِّمَ إلَى الْبَائِعِ ، وَيَكُونَ مَا دَفَعَهُ أَوَّلًا رَبُّ الْمَالِ ، وَمَا غَرِمَ كُلُّهُ مِنْ
رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَيَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِتَصَرُّفِهِ كَالْوَكِيلِ .
غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَرَجَعَ بِمِثْلِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ ، ثُمَّ هَلَكَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْمُضَارِبُ يَرْجِعُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ اسْتِفَادَةُ مِلْكِ الْمَبِيعِ لَا الرِّبْحِ ، فَإِذَا اشْتَرَى فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَانْتَهَى عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِانْتِهَائِهِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ ، وَجَبَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ مَرَّةً فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، فَلَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّهَا لَا تَنْتَهِي بِالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الرِّبْحُ ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ ثَانِيًا وَثَالِثًا ، وَمَا غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مَعَ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كُلُّهُ رَأْسَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ لِرَبِّ الْمَالِ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ ، فَيَكُونُ كُلُّهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ فَلَوْ لَمْ يَصِرْ مَا غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَهْلَكُ مَجَّانًا ، يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَسِّرُ وَيُرَبِّحُ الْمُضَارِبَ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْأَلْفَ الْأُولَى فَتَصَرَّفَ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ ، ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ ، فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعُ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ مِنْ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ ، وَهِيَ حِصَّتُهُ
مِنْ الرِّبْحِ ، فَيَكُونُ رُبْعُ الْجَارِيَةِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْنِ فَقَدْ اشْتَرَاهَا أَرْبَاعًا ، رُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِلْكُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ - فَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ ، فَمَا اشْتَرَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَمَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ رِبْحُ الْجَارِيَةِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَلْزَمَهُ ضَمَانَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَقَدْ عَيَّنَهُ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، فَخَرَجَ الرِّبْحُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ ، فَصَارَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ ، فَصَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَإِنْ بِيعَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ ، مِنْهَا لِلْمُضَارِبِ أَلْفٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ ، فَكَانَ مِلْكُهُ ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفَانِ ، وَخَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ مَالِهِ ، يَبْقَى رِبْحٌ خَمْسُمِائَةٍ ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ ، وَالشِّرَاءُ بِأَلْفٍ ، وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، فَضَاعَتْ ، غَرِمَهَا رَبُّ الْمَالِ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَقَعَ بِأَلْفٍ فَقَدْ وَقَعَ بِثَمَنٍ ، كُلِّهِ رَأْسُ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي الثَّانِي ، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ الشِّرَاءَ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ فَظَهَرَ رِبْحُ الْمُضَارِبِ ، وَهَلَكَ رُبْعُ الْجَارِيَةِ ،
فَيَغْرَمُ حِصَّةَ ذَلِكَ الرُّبْعِ مِنْ الثَّمَنِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، أَلْفٌ رِبْحٌ ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ، فَضَاعَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعَ ، إنَّهُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ الرُّبْعَ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ ، وَهَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا .
قَالَ مُحَمَّدٌ : وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ ، بِأَمَةٍ تُسَاوِي أَلْفًا ، وَقَبَضَ الَّتِي اشْتَرَاهَا ، وَلَمْ يَدْفَعْ أَمَتَهُ حَتَّى مَاتَتَا جَمِيعًا فِي يَدِهِ ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ الَّتِي اشْتَرَى ، وَهِيَ أَلْفٌ ، يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا ، وَلَا فَضْلَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَجُوزُ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ ، إذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لَهُ : اشْتَرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَإِلَّا فَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي نَوَادِرِهِ ، فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ وَبَاعَ حَتَّى صَارَ الْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، فَاشْتَرَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ أَلْفٌ ، وَلَمْ يَنْقُدْ الْمَالَ حَتَّى ضَاعَ قَالَ : يَغْرَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مِلْكٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْعَبِيدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ ، لِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِمْ ، فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِمْ .
وَقَدْ عَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فَقَالَ مِنْ قَبْلُ : إنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبِيدِ ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُضَارِبِ الَّذِي
يَغْرَمُهُ دُونَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا قَبَضَ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى هَلَكَ ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، فَإِنْ كَانَ مَا يَضْمَنُهُ زَائِدًا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، كَانَ عَلَى الْمُضَارِب حِصَّةُ ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا الضَّمَانَ فَقَدْ ضَمِنَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ ، أَوْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِيمَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ ، وَهُنَا وَإِنْ ضَمِنَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهُ فِيهِ ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِعَدَمِ نَفَاذِ الْعِتْقِ فَلَا يَطَّرِدُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا ، يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ نُفُوذَ الْعِتْقِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِأَلْفَيْنِ ، وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ عَلَيْهِ ؛ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَمَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ ، يَكُونُ عَكْسَ الْعِلَّةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، فَفَقَدَ الْمَالَ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : اشْتَرَيْتُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ وَقَالَ الْمُضَارِبُ : اشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ مَا ضَاعَ ، وَأَنَا أَرَى أَنَّ الْمَالَ عِنْدِي فَإِذَا قَدْ ضَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ بِهِ أَيْضًا ، وَهُوَ هَلَاكُ الْمَالِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُضَارِبِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَفَا ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : ضَاعَ قَبْلَ أَنْ تَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ ، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتهَا لِنَفْسِكَ ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ : ضَاعَ الْمَالُ بَعْدَ مَا اشْتَرَيْتُهَا ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَكَ بِالثَّمَنِ
، وَلَا أَعْلَمُ مَتَى ضَاعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ الْبَيِّنَةُ ، أَنَّهُ اشْتَرَى وَالْمَالُ عِنْدَهُ إنَّمَا ضَاعَ بَعْدَ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ ؛ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُقُوعَ الْعَقْدِ لَهُ ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلِأَنَّ الْحَالَ وَهُوَ الْهَلَاكُ شَهِدَ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ فَكَانَتْ أَوْلَى .
وَإِذَا انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ ، وَامْتَنَعَ عَنْ التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِمَا ، وَقِيلَ لَهُ : أَحِلَّ رَبَّ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ كَانَ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ عَمَلَ الْأَجِيرِ ، وَالْأَجِيرُ مَجْبُورٌ عَلَى الْعَمَلِ فِيمَا الْتَزَمَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِبْحٌ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ مَنْفَعَةٌ ، فَكَانَ عَمَلُهُ عَمَلَ الْوُكَلَاءِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إتْمَامِ الْعَمَلِ ، كَمَا لَا يُجْبَرُ الْوَكِيلُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ الْمُضَارِبُ أَوْ الْوَكِيلُ أَنْ يُحِيلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَتَّى يُمْكِنَهُ قَبْضُهُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ ، فَلَا يُثْبِتُ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِلْآمِرِ إلَّا بِالْحَوَالَةِ مِنْ الْعَاقِدِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ حَتَّى لَا يُتْوَى حَقُّهُ .
وَلَوْ ضَمِنَ الْعَاقِدُ لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ قَدْ جَعَلَهُ أَمِينًا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ ضَمِينًا فِيمَا جَعَلَهُ الْعَاقِدُ أَمِينًا .
وَلَوْ مَاتَ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا خَلَفَ ، فَإِنَّهُ يَعُودُ دَيْنًا فِيمَا
خَلَفَ الْمُضَارِبُ ، وَكَذَا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً ، إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا تُعْرَفُ الْأَمَانَةُ بِعَيْنِهَا ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّجْهِيلِ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ ، وَلَا تُصَدَّقُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْهَلَاكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الْمَالِ .
وَلَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ الْمَالَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، أَوْ عُلِمَ ذَلِكَ ، يَكُونُ ذَلِكَ أَمَانَةً فِي وَصِيَّةٍ ، أَوْ فِي يَدِ وَارِثِهِ ، كَمَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَيُصَدِّقُونَ عَلَى الْهَلَاكِ وَالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِهِ ، كَمَا يُصَدِّقُ الْمَيِّتُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْهِبَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْهِبَةِ أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي قَوْلٍ قَالَ الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءِ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ تُقْبَلْ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وُجُودُهُ شَرْعًا بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ انْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ فَلَا يَكُونُ نَفْسُ الْإِيجَابِ هِبَةً شَرْعًا لِهَذَا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْقَبُولِ تَبَعًا كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ إيجَابِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ الْقَبُولِ وَإِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ حُكْمِهَا لَا لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِهَا فَإِذَا أَوْجَبَ فَقَدْ أَتَى بِالْهِبَةِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ هِبَةٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً
مَحُوزَةً } أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ وَرُوِيَ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ بِوَدَّانِ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ { لَوْلَا أَنَّا حَرَامٌ وَإِلَّا لَقَبِلْنَا } فَقَدْ أَطْلَقَ الرَّاوِي اسْمَ الْإِهْدَاءِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَالْإِهْدَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَى سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكَ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حَرَزْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ الْوَارِثِ أَطْلَقَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْمَ النِّحْلَى بِدُونِ الْقَبْضِ وَالنِّحْلَى مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ إيجَابِ الْمِلْكِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ لُغَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمُ الْإِيجَابِ مَعَ الْقَبُولِ فَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَيْعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَتَّسِمُ التَّصَرُّفُ بِسِمَةِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ هُوَ اكْتِسَابُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَكَذَا الْغَرَضُ مِنْ الْحَلِفِ هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيجَابُ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْوَاهِبِ فَيَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ .
( فَأَمَّا ) الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ فَفِعْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الْوَاهِبِ وَالْمِلْكُ مَحْكُومٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّ الْإِيجَابَ هُنَاكَ لَا
يَصِيرُ تَبَعًا بِدُونِ الْقَبُولِ فَشَرَطَ الْقَبُولَ لِيَصِيرَ تَبَعًا فَالْإِيجَابُ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْوَاهِبُ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ أَوْ مَلَّكْتُهُ مِنْكَ أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ أَوْ هُوَ لَكَ أَوْ أَعْطَيْتُهُ أَوْ نَحَلْتُهُ أَوْ أَهْدَيْتُهُ إلَيْكَ أَوْ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَوَى بِهِ الْهِبَةَ .
( أَمَّا ) قَوْلُهُ وَهَبْتُ لَكَ فَصَرِيحٌ فِي الْبَابِ وَقَوْلُهُ مَلَّكْتُكَ يُجْرَى مَجْرَى الصَّرِيحِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَفْسِيرُ الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ جَعَلْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ وَقَوْلُهُ هُوَ لَكَ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْعَيْنِ فِي عُرْفِ النَّاسِ هُوَ تَمْلِيكُهَا لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ الْإِعْطَاءُ اسْتِعْمَالَ الْهِبَةِ يُقَالُ أَعْطَاكَ اللَّهُ كَذَا وَوَهَبَكَ بِمَعْنَى وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ يُقَالُ فُلَانٌ نَحَلَ وَلَدَهُ نِحْلَى أَيْ أَعْطَاهُ عَطِيَّةً وَالْهِبَةُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ وَقَوْلُهُ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ فِي مَعْنَى أَعْطَيْتُكَ وَقَوْلُهُ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ رَجُلًا عَلَى دَابَّةٍ ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَرْجِعْ فِي صَدَقَتِكَ } فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ .
وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ قَالَ هَذَا الشَّيْءُ لَكَ مِنْحَةً فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ
اسْتِهْلَاكٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ كَالدَّارِ وَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ مِنْحَةً أَوْ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَنْ هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مَا لَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ مِنْ السُّكْنَى وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا فَكَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِعَارَةِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَرْضٍ بَيْضَاءَ هَذِهِ الْأَرْضُ لَكَ طُعْمَةً كَانَ عَارِيَّةً لِأَنَّ عَيْنَ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَكَانَ طُعْمَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتَهَا فَكَانَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ إعَارَةً وَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَرْعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَلْعِ كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَسَنَذْكُرُ وَجْهَيْهَا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ مَنَحَهُ شَاةً حَلُوبًا أَوْ نَاقَةً حَلُوبًا أَوْ بَقَرَةً حَلُوبًا وَقَالَ هَذِهِ الشَّاةُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذِهِ النَّاقَةُ أَوْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ كَانَ عَارِيَّةً وَجَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا لِأَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَقِيقَةً فَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً فَأَعْطَى لَهُ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ شُرْبَ اللَّبَنَ فَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ مَنَحَهُ جَدْيًا أَوْ عَنَاقًا كَانَ لَهُ عَارِيَّةً لِأَنَّ الْجَدْيَ بِعَرَضِ أَنْ يَصِيرَ فَحْلًا وَالْعَنَاقَ حَلُوبًا وَإِنْ عَنَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ عَلَى فَهُوَ مَا عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ
كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِأَنْ .
قَالَ هَذَا الطَّعَامُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذَا اللَّبَنُ أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ كَانَ هِبَةً لِأَنَّ الْمِنْحَةَ الْمُضَافَةَ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يُمْكِنُ حَمْلَهَا عَلَى هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى هِبَةِ الْعَيْنِ وَهِيَ تَمْلِيكُهَا وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَغْيِيرُ الْهِبَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا عَنْ الْقَرِينَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِقَرِينَةٍ فَالْقَرِينَةُ لَا تَخْلُو .
( إمَّا ) إنْ كَانَ وَقْتًا .
( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ شَرْطًا .
( وَإِمَّا ) إنْ كَانَ مَنْفَعَةً فَإِنْ كَانَ وَقْتًا بِأَنْ قَالَ أَعْمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا لَك عُمُرَكَ أَوْ قَالَ هِيَ لَك عُمُرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ فَإِذَا مِتَّ أَنْتَ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا عُمْرِي أَوْ حَيَاتِي فَإِذَا مِتَّ أَنَا فَهِيَ رَدٌّ عَلَى وَرَثَتِي فَهَذَا كُلُّهُ هِبَةٌ وَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالتَّوْقِيتُ بَاطِلٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا تَعْمُرُوهَا فَإِنَّ مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لِمَنْ أَعْمَرَهُ } وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ } .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى حَيَاتَهُ فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ بَعْدَهُ } فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ وَبُطْلَانِ التَّوْقِيتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ
أَوْ هِيَ لَك تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مُطْلَقًا ثُمَّ قَوْلُهُ عُمْرَى تَوْقِيتُ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَكَذَا تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ نَصًّا كَالْبَيْعِ فَكَانَ التَّوْقِيتُ تَصَرُّفًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالشَّرْعِ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ شَرْطًا نَظَرَ إلَى الشَّرْطِ الْمَقْرُونِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَمْنَعُ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْهِبَةُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ أَرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ رُقْبَى أَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ رُقْبَى وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهِيَ عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ مَتَى شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا هِبَةٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى بَاطِلٌ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَمَّا قَالَ رُقْبَى فَقَدْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ دَارِي لَكَ عُمْرَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْمُعَمَّرِ كَذَا هَذَا .
وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى } وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ رُقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى أَنَّهُ يَقُولُ إنْ مِتَّ أَنَا قَبْلَكَ فَهِيَ لَك وَإِنْ مِتَّ أَنْتَ قَبْلِي فَهِيَ لِي سَمَّى الرُّقْبَى مِنْ الرُّقُوبِ وَالِارْتِقَابِ وَالتَّرَقُّبُ وَهُوَ الِانْتِظَارُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَتْ الرُّقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِأَمْرٍ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ
وَالْعَدَمِ وَالتَّمْلِيكَاتُ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ فَلَمْ تَصِحَّ هِبَةً وَصَحَّتْ عَارِيَّةً لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ وَأَطْلَقَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُمْرَى لِأَنَّ هُنَاكَ وَقَعَ التَّصَرُّفُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ عُمْرَى وَقْتَ التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ الرُّقْبَى تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ الِانْتِظَارُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الرِّقَابِ وَهُوَ هِبَةُ الرَّقَبَةِ : .
فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَّلُ كَانَ حُجَّةً وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لِكَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّنَاقُضُ عَنْهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَة إنْ كَانَ الرُّقْبَى وَالْإِرْقَابُ مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي اللُّغَةِ فِي هِبَةِ الرَّقَبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ فَإِنْ عَنَى بِهِ هِبَةَ الرَّقَبَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ عَنَى بِهِ مُرَاقَبَةَ الْمَوْتِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ دَارِي لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَطْوَلُ حَيَاةً فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ وَلَوْ قَالَ دَارِي لَكَ حَبِيسٌ فَهَذَا عَارِيَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ هِبَةٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الرُّقْبَى .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ نَفَى الْمِلْكَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّفْيُ وَبَقِيَ التَّمْلِيكُ عَلَى حَالِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ حَبِيسٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالْحَبِيسِ فَقَالَ دَارِي حَبِيسٌ لَكَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ عَارِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ دَارِي رُقْبَى لَكَ كَانَ عَارِيَّةً إجْمَاعًا
ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ وَهَبَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلَانٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِمَّا لَمْ تَمْنَعْ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ شُرُوطِ الرُّقْبَى عَلَى مَا بَيَّنَّا وَبِخِلَافِ الْبَيْع فَإِنَّهُ تُبْطِلُهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِعَقْدٍ مَا مُفَسِّرًا لَهُ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الْعَقْد لَمْ يَصِحَّ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ وَلَا نَهْيَ فِي الْهِبَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ وَلِأَنَّ دَلَائِلَ شَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ فِي أَكْلِ الْمَهْرِ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَهَذَا نَدْبٌ إلَى التَّهَادِي وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ وَرَوَيْنَا عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ كَذَا وَكَذَا وَعَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهَا وَنَحْوِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِشَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَرَنَ بِهَا شَرْطًا فَاسِدًا أَوْ لَمْ يَقْرِنْ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُج مَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ وَهَبَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّ الْهِبَة جَائِزَةٌ فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدِ
جَمِيعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَالْكُلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا اسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ أَنَّهَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ قِسْمٌ مِنْهَا يَبْطُلُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا وَقِسْمٌ مِنْهَا يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَقِسْمٌ مِنْهَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
( وَأَمَّا ) الْقِسْمُ الثَّانِي فَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَدْخُلُ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فِي الْعَقْد لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا إذَا لَمْ يَصْلُحْ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ وَكَذَا الْعِتْقُ بِأَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الْعِتْقُ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَعْتِقَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا .
( وَأَمَّا ) الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَالْوَصِيَّةُ بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لِأَنَّهُ لَمَا جَعَلَ الْجَارِيَةَ وَصِيَّةً لَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ أَبْقَى مَا فِي بَطْنِهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْمِيرَاثُ يُجْرَى فِيمَا فِي الْبَطْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا وَغَلَّتَهَا لِوَرَثَتِهِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ وَالْخِدْمَةَ لَا يُجْرَى فِيهِمَا الْمِيرَاثُ بِانْفِرَادِهِمَا بِدُونِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِخِدْمَتِهَا وَغَلَّتِهَا لِإِنْسَانٍ وَمَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَا تَصِيرُ الْغَلَّةُ وَالْخِدْمَةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَلْ تَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْصَى بِمَا فِي
بَطْنِ جَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ مَنْفَعَةً بِأَنْ قَالَ دَارِي لَك سُكْنَى أَوْ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ صَدَقَةً سُكْنَى أَوْ هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً أَوْ هِيَ لَكَ عُمْرَى عَارِيَّةً وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى فِي قَوْلِهِ دَارِي لَكَ سُكْنَى أَوْ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ صَدَقَةً سُكْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَكَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ عُرْفًا وَشَرْعًا وَقَوْلُهُ سُكْنَى مَوْضُوعٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا لَهَا فَكَانَ مُحْكَمًا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْمُحْتَمِلِ وَبَيَانًا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ سُكْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الْهِبَةِ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْهِبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هِبَةٌ يَحْتَمِلُ هِبَةَ الْعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ هِبَةَ الْمَنَافِعِ .
فَإِذَا قَالَ سُكْنَى فَقَدْ عَيَّنَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ فَكَانَ بَيَانًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ وَهِبَةُ الْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَإِذَا قَالَ سُكْنَى هِبَةً فَمَعْنَاهَا أَنَّ سُكْنَى الدَّارِ هِبَةٌ لَكَ فَكَانَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ قَالَ هِيَ لَكَ عُمْرَى تَسْكُنُهَا أَوْ هِبَةً تَسْكُنُهَا أَوْ صَدَقَةً تَسْكُنُهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ هِبَةٌ لِأَنَّهُ مَا فَسَّرَ الْهِبَةَ بِالسُّكْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَعْتًا فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْمُحْتَمِلِ بَلْ وَهَبَ الدَّارَ مِنْهُ ثُمَّ شَاوَرَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بِمِلْكِهِ وَالْمَشُورَةُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلَةٌ فَتَعَلَّقَتْ الْهِبَةُ بِالْعَيْنِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِتَسْكُنَهَا كَمَا إذَا قَالَ وَهَبْتُهَا لَكَ لِتُؤَاجِرَهَا وَلَوْ قَالَ هِيَ لَكَ تَسْكُنُهَا كَانَتْ هِبَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِمَا لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ دُخُول زَيْدٍ وَقُدُومِ خَالِدٍ وَالرُّقْبَى وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ كَالْبَيْعِ .
( وَأَمَّا ) مَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهَا مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا مَحْضًا لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ فَلَا يَمْلِكُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكَذَا الْأَبُ لَا يَمْلِكُ هِبَةَ مَالِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِمَالِ الصَّغِيرِ قُرْبَانِ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنَهُ { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَابِلْهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ كَانَ التَّبَرُّعُ ضَرَرًا مَحْضًا وَتَرَكَ الْمَرْحَمَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَا يَرْحَمُ صَغِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقَ عَبْدِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ .
وَإِنْ شَرَطَ الْأَبُ الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فَإِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعِوَضَ كَانَتْ تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَلَفْظِ الْبَيْعِ مَعَ لَفْظَةِ
التَّمْلِيكِ .
( وَلَهُمَا ) أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَقَعُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً ثُمَّ تَصِيرُ بَيْعًا فِي الِانْتِهَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَقَعَتْ بَيْعًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا لَمَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُفِيدَ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ دَلَّ أَنَّهَا وَقَعَتْ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ حِينَ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ بَيْعًا بَعْدَ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ فَأَنْوَاعٌ : .
( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ وَمَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالْحَلْبِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَمْلِ وَقَدْ يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَطْنِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا انْتِفَاخُ الضَّرْعِ قَدْ يَكُونُ بِاللَّبَنِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَا سَبِيلَ لِتَصْحِيحِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ زَمَانِ الْحُدُوثِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْهِبَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَبَطَلَ .
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِ الْمَوْهُوبِ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِلْحَالِ مَقْدُورَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ زُبْدًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ أَوْ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْد حُدُوثِهِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ فَلَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ لِلْحَالِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ فَبَطَلَ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَجَزَّهُ وَسَلَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوز لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِمَانِعٍ
وَهُوَ كَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَإِذَا جَزَّهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الشُّغْلِ فَيَنْفُذُ عِنْدَ وُجُودِ الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ هَؤُلَاءِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُبَاحَاتِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مُحَالٌ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْوَاهِبِ وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَالْمَمْلُوكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ هِيَ الْمِلْكُ فَيَجُوزُ رَدُّ هَذَا الشَّرْطِ إلَى الْمَوْهُوبِ وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْوَاهِبِ فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَتَجُوزُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا .
( وَأَمَّا ) هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَجَائِزٌ أَيْضًا إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الْهِبَةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لِمَنْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ فِي قَبْضِهِ فَكَانَ الدَّيْنُ فِي قَبْضِهِ بِوَاسِطَةِ قَبْضِ الذِّمَّةِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ قَامَ قَبْضُهَا مَقَامَ قَبْضِ عَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ هِبَةِ الْعَيْنِ لِمَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ كَالْعَبْدِ وَالْحَمَّامِ وَالدِّنِّ وَنَحْوِهَا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هِبَة الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْحَطُّ مِنْ الزَّوْجَاتِ عَنْ النِّصْفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِي الْجُمْلَةِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ فِي الْغُلُولِ فِي الْغَنِيمَةِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى سَنَامِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ مِنْهُ وَبَرَةً ثُمَّ قَالَ { أَمَا إنِّي لَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنِيمَتِكُمْ وَلَوْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ أَخَذْتُهَا لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لَكَ وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِيَ } وَهَذَا هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَهُ بَيْنَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ فَاسْتَبَاعَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُمَا لِيَهَبَ الْكُلَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَيَا ذَلِكَ فَوَهَبَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَهَبَا أَيْضًا نَصِيبَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْهِبَةَ فِي نَصِيبِ أَسْعَدَ وَقَبِلَ فِي نَصِيبِ الرَّجُلَيْنِ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا قَبِلَ لِأَنَّ أَدْنَى حَالِ فِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ وَلِأَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَلَا شَرْطَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالشِّيَاعُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ وَكَذَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَشَرْطُهُ هُوَ الْقَبْضُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ الْقَبْضَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ قَابِضًا لِلنِّصْفِ الْمُشَاعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ وَلِهَذَا جَازَتْ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَذَا هَذَا .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا جَذَيْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ اعْتَبَرَ سَيِّدُنَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَبْضَ وَالْقِيمَةَ فِي الْهِبَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ الْمُفَرَّقِ فِي حَيِّزٍ وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الشَّائِعَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً وَالْقِسْمَةُ تَجْمَعُ كُلَّ نَصِيبٍ فِي حَيِّزٍ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَنْحَلُ وَلَدَهُ نُحْلًا لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا وَيَقُولُ إنْ مِتُّ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ مَاتَ رَجَعَتْ إلَيَّ وَأَيْمُ اللَّهِ لَا يَنْحَلُ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ نُحْلَى لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا فَيَمُوتُ إلَّا جَعَلْتُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْحِيَازَةِ الْقَبْضُ هُنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ أَخْرَجَ الْهِبَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ
مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ ثُلُثَ كَذَا أَوْ رُبْعَ كَذَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُقَاسِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ مِنْ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ وَالتَّصَرُّفُ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ سُكْنَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا وَلُبْسَ نِصْفِ الثَّوْبِ شَائِعًا مُحَالٌ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكُلَّ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يُقَسَّمُ أَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى هِبَةِ بَعْضِهِ وَلَا حُكْمَ لِلْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالشِّيَاعُ مَانِعٌ مِنْ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ لِلتَّصَرُّفِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْقِسْمَةِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْقِسْمَةِ فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِقَامَةِ صُورَةِ التَّخْلِيَةِ مَقَامَ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيُمْكِنُ إزَالَةَ الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْض الْمُمَكِّنِ بِالْقِسْمَةِ .
أَوْ نَقُولَ : الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شَرَطُوا الْقَبْضَ الْمُطْلَقَ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ قَبْضٌ قَاصِرٌ لِوُجُودِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ دُونَ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِالصُّورَةِ فِي الْمُشَاع الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي الْقَبْضِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْمُشَاعِ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَصَارَ عَقْدُ ضَمَانٍ لِأَنَّ
الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَاهِبِ بِالْقِسْمَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ عَلَى الْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ فِي عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ وَالْمَحِلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ .
( وَأَمَّا ) الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَفْرُوضِ الدَّيْنُ لَا الْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْمَهْرِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاعِ .
( وَأَمَّا ) حَدِيثُ الْكُبَّةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْهُ وَاسْتَوْهَبَ الْبَقِيَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ فَوَهَبُوا وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِي وَمَا كَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَخْلِفَ فِي وَعْدِهِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هِبَةٍ مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كُبَّةً وَاحِدَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ لَا يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ إلَّا نَزْرٌ حَقِيرٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ .
( وَأَمَّا ) حَدِيثُ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَحِكَايَةُ حَالٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهَبَ نَصِيبَهُ وَشَرِيكَاهُ وَهَبَا نَصِيبَهُمَا مِنْهُ وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَنْصِبَاءَ كَانَتْ
مَقْسُومَةً مُفْرَزَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا بَيْنَهُمْ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَقَرْيَةٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ أَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ مَقْسُومَةً وَاحْتَمَلَ بِخِلَافِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا عُمُومَ لَهُ وَلَوْ قَسَمَ مَا وَهَبَ وَأَفْرَزَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ لِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ هُوَ الصَّحِيحُ إذْ الشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ رُكْنَ الْعَقْدِ وَلَا حُكْمَهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا سَائِرِ الشَّرَائِطِ إلَّا الْقَبْضُ الْمُمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَإِذَا قَسَمَ وَقَبَضَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ .
وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ لَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي وَكَانَ ذَلِكَ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّ النَّحْلَ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِيَعْقِدَ عَقْدًا بَاطِلًا فَدَلَّ قَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي نَفْسِهِ وَتَوَقُّفِ حُكْمِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ إلَيْهِ جُمْلَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَهَبَ مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ بِنِحْلَةِ الْكُلِّ ثُمَّ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةُ الْمُشَاعِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْجَوَابُ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ كُلُّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشِّيَاعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ وُجِدَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ صَدَقَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا شَرْطَهُ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ كَالْمَفْرُوضِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ وَمَعْنَى الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّائِعِ أَوْ لَا يَتَكَامَلُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَتَصْحِيحُهُ فِي الْمُشَاعِ يُصَيِّرُهَا عَقْدَ ضَمَانٍ فَيَتَغَيَّرُ الْمَشْرُوعُ عَلَى مَا يُنَافِي الْهِبَةَ وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا يَنْقَسِمُ مِنْ رَجُلَيْنِ كَالدَّارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا وَقَبَضَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ وَاحِدٍ شَيْئًا يَنْقَسِمُ وَقَبَضَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الشُّيُوعَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا فَلَمْ يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ هِبَةَ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ لِوُجُودِ الشِّيَاعِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُمَا جَوَّزَاهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشِّيَاعُ فِي الْحَالَيْنِ بَلْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَجَوَّزُوا هِبَةَ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ .
( أَمَّا ) أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ الشُّيُوعِ فِي وَقْتِ الْقَبْضِ .
( وَأَمَّا ) هُمَا فَلِانْعِدَامِهِ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْقَبْضِ وَمَدَارُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ أَنَّ هِبَةَ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ تَمْلِيكُ كُلِّ الدَّارِ جُمْلَةً أَوْ تَمْلِيكٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفُ مِنْ الْآخَرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَمْلِيكُ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ
تَمْلِيكَ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَعِنْدَهُمَا هِيَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا إلَّا تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ هَذَا وَالنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الشَّائِعِ فَيَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ الصِّيغَةِ هُوَ الْأَصْلُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ كُلَّهَا هِبَةُ كُلِّ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا إلَّا هِبَةَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْزِيعٌ وَتَفْرِيقٌ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ مُوجَبِ اللَّفْظِ لُغَةً إلَّا لِضَرُورَةِ الصِّحَّةِ وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الصِّيغَةِ هَهُنَا فَسَادُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشُّيُوعِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الصِّيغَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا وَمُوجِبُ التَّمْلِيكِ مِنْهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي الْكُلِّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ عِنْدَ الِانْقِسَامِ ضَرُورَةُ الْمُزَاحِمَةِ وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ إذْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ لِدُخُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى السَّوَاءِ كَالْأَخَوَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْمَالِ .
وَإِذَا جَاءَتْ الْمُزَاحَمَةُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ يَثْبُتُ عِنْدَ انْقِسَامِ الْمِيرَاثِ فِي النِّصْفِ وَكَذَا الشَّفِيعَانِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ نِصْفِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِإِثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ الْكُلُّ لِلْآخَرِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلَ فَلَمْ يَكُنْ الِانْقِسَامُ عَلَى التَّنَاصُفِ مُوجِبَ الصِّيغَةِ بَلْ لَتَضَايُقِ الْمَحَلِّ لِهَذَا جَازَ
الرَّهْنُ مِنْ رَجُلٍ فَكَانَ ذَلِكَ رَهْنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ إذْ لَوْ كَانَ رَهَنَ النِّصْفَ مِنْ هَذَا وَالنِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ رَهَنَ الْمُشَاعِ لِهَذَا لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ حَبْسُ الْكُلِّ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ رَهْنُ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا إذَا مَلَكَ نِصْفَ الدَّارِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفَ مِنْ الْآخَرِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ أَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْكُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ كُلِّ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ فِي كُلِّ الدَّارِ بَلْ فِي نِصْفِهَا وَلَوْ كَانَ كُلُّ الدَّارِ مَمْلُوكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَلَكَ وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ صَاحِبِهِ بِالتَّهَايُؤِ أَوْ بِالْقِسْمَةِ وَهَذَا آيَةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي النِّصْفِ وَإِذَا كَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الدَّارِ لَهُمَا عَلَى التَّنَاصُفِ كَانَ تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى الشَّائِعِ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي النِّصْفِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُوجِبَ الصِّيغَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي كُلِّ الدَّارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مُحَالٌ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدُ بِعَقْدِهِ يَقْصِدُ
أَمْرًا مُحَالًا أَيْضًا فَكَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ التَّمْلِيكَ مِنْهُمَا عَلَى التَّنَاصُفِ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّارِ مِنْهُمَا فَكَانَ عَمَلًا بِمُوجِبِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ إحَالَةٍ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ تَصْلُحُ مَرْهُونَةً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرَّهْنَ هُوَ الْحَبْسُ وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحَبْسِ مُتَصَوَّرٌ بِأَنْ يَحْبِسَاهُ مَعًا أَوْ يَضَعَاهُ جَمِيعًا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَتَكُونَ الدَّارُ مَحْبُوسَةً كُلُّهَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي الْمِلْكِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَقَسَمَ ذَلِكَ وَسَلَّمَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّيُوعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ زَالَ هَذَا إذَا وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ وَهَبْتُ لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا جَازَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ إذْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ تَمْلِيكُ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ إشَاعَةً فِي الْعَقْدِ .
وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَك نِصْفَهَا وَلِهَذَا نِصْفَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الشُّيُوعَ دَخَلَ عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَمَنَعَ الْجَوَازَ وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ ثُلُثُهَا لِهَذَا وَثُلُثَاهَا لِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى جَازَ لِاثْنَيْنِ يَسْتَوِي فِيهِ التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوَازَ عِنْد التَّسَاوِي بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ شُيُوعًا فِي الْعَقْدِ وَلَمَّا فَضَّلَ أَحَدَ
النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّفَاضُلَ فَكَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ فِي مَعْنَى إفْرَادِ الْعَقْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ هِبَةَ الْمُشَاعِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْهِبَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ وَلَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخِرِ ثُلُثَاهُ أَوْ نِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَلِكَ عَلَى التَّفَاضُلِ وَالتَّنَاصُفِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْهَمَ بِأَنْ قَالَ وَهَبْتُ مِنْكُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَ مِنْ فَقِيرَيْنِ شَيْئًا يَنْقَسِمُ فَالْهِبَةُ مِنْ فَقِيرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ هِبَةَ الشَّجَرِ دُونَ الثَّمَرِ وَالثَّمَرِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ وَالزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ اتِّصَالَ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَكَانَ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ فُصِلَ وَسُلِّمَ جَازَ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ .
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى رَجُلَيْنِ فَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْهِبَةُ مِنْ اثْنَيْنِ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي كِتَاب الْهِبَةِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الشِّيَاعَ كَمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ فِي الْقَبْضِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى فَقِيرَيْنِ لِأَنَّ
الْمُتَصَدِّقَ يَتَقَرَّبُ بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ الْفَقِيرُ يَقْبِضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْفَقِيرِ } وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَكَّلَ بِقَبْضِهَا وَكِيلَيْنِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ عَلَى غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ فَكَانَتْ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ } وَالْهَدِيَّةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مَانِعُ الْجَوَازِ عِنْدَهُ .
( وَمِنْهَا ) الْقَبْضُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَإِنْ شِئْت رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ الْقَابِضَ وَالْمَقْبُوضَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَتَأَمَّلْ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْقَبْضِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي بَيَان شَرَائِطِ صِحَّةِ الْقَبْضِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ شَرْطٌ وَالْمَوْهُوبُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ .
( وَلَنَا ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اعْتَبَرَا الْقِسْمَةَ وَالْقَبْضَ لِجَوَازِ النُّحْلَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْمِلْكِ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضِعهَا إذْ لَا مُطَالَبَةَ قِبَلَ الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ الْمُوصِي لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الصَّدَقَةُ إذَا أُعْلِمَتْ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَلَا النَّحْلَى إلَّا مَقْبُوضَةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا إذَا عُلِمَتْ الصَّدَقَةُ جَازَتْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا ابْنَ آدَمَ تَقُولُ مَالِي وَلَيْسَ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ } اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ دَلَّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدنَا عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِهِ نَقُولُ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إلَى الْقَبْضِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ .
( وَالثَّانِي ) شَرَائِطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ فَأَنْوَاعٌ .
( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْهِبَةُ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَمَّا كَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ شَرْطًا لَصِحَّتِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَرِضَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَبْضُ مِنْ غَيْرِ إذْن الْوَاهِبِ أَيْضًا وَالْإِذْنُ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ .
أَمَّا الصَّرِيحُ فَنَحْوِ أَنْ يَقُولَ اقْبِضْ أَوْ أَذِنْتُ لَكَ بِالْقَبْضِ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يُجْرَى هَذَا الْمَجْرَى فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ قَبْضُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ عِنْدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ كَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمِلَ إلَيْهِ سِتُّ بَدَنَاتٍ فَجَعَلْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَحَرَهُنَّ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ مَنْ شَاءَ فَلِيَقْطَعَ وَانْصَرَفَ فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقَطْعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَبْضِ
وَاعْتِبَارُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِقَبْضِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ يَعْمَلُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هَذَا .
( وَأَمَّا ) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَيْنَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا يَنْهَاهُ الْوَاهِبُ فَيَجُوزُ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا جَائِزًا بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يُسْتَرَدَّ وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ ( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ وُجِدَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى إيجَابِ الْهِبَةِ إذْنٌ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَلَا ثُبُوتَ لِلْمِلْكِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا بِالْقَبْضِ دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ لِلْقَبْضِ فِي بَابِ الْهِبَةِ شَبَهًا بِالرُّكْنِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَكَذَا إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ .
وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْهِبَةُ كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ دُونَ الشَّجَرِ أَوْ الشَّجَرِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ حِلْيَةِ السَّيْفِ دُونَ السَّيْفِ أَوْ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ أَوْ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا
لَا جَوَازَ لِلْهِبَةِ فِيهِ إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ فَفَصَلَ وَقَبَضَ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَبْضُ سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْوَاهِبِ لِلْإِذْنِ الثَّابِتِ دَلَالَةَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا حِينَ وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَإِنْ قَبَضَ بِإِذْنِهِ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ بِحَالٍ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ جَائِزًا وَعِنْدَنَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِإِسْقَاطِ الْمُفْسِدِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ أَوْ مِنْ حِينِ وُجُودِ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْبَيْعِ .
وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لِآخَرَ أَنَّهُ إنَّ قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا جَازَ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَرَّقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي هِبَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لِكَوْنِ الْإِيجَابِ فِيهَا دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ قَصْدِهِ تَمْلِيكُ مَا هُوَ مِلْكَهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِيجَابُ الْهِبَةِ فِي الدَّيْنِ لِغَيْرِ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَصِحُّ دَلَالَةُ الْإِذْنِ إلَّا بِقَبْضِهِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا قَامَ قَبْضُهُ مَقَامَ قَبْضِ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ
قَابِضًا لِلْوَاهِبِ أَوَّلًا وَيَصِيرُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ الْوَاهِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَاهِبًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ قَابِضًا مِلْكَ الْوَاهِبِ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْمَالِ الْعَيْن عَلَى مِلْكِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ .
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّغْلِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعَ الْوَاهِبِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِ أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ قِيلَ الْحِيلَةُ فِي صِحَّةِ التَّسْلِيمِ أَنْ يُودِعَ الْوَاهِبُ الْمَتَاعَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوَّلًا وَيُخْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ ثُمَّ يُسَلِّمُ الدَّارَ إلَيْهِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهَا لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هُوَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَفِي هَذِهِ الْحِيلَةِ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ يَدَ الْمُودِع يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَتْ يَدُهُ قَائِمَةً عَلَى الْمَتَاعِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ .
وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ سَلَّمَ فَارِغًا جَازَ وَيَنْظُرُ إلَى حَالِ الْقَبْضِ لَا إلَى حَالِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ قَدْ زَالَ فَيَنْفُذُ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ وَهَبَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ وَالدَّارُ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَتَاعِ لِهَذَا افْتَرَقَا فَيَصِحُّ تَسْلِيمُ الْمَتَاعِ وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَلَوْ جَمَعَ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْمَتَاعِ وَبَيْنَ الدَّارِ الَّذِي فِيهَا فَوَهَبَهُمَا جَمِيعًا
صَفْقَةً وَاحِدَةً وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَأَمَّا إنْ فَرَّقَ فَإِنْ جَمَعَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَرُوعِيَ فِيهِ التَّرْتِيبُ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ فَالْهِبَةُ فِي الدَّارِ لَمْ تَجُزْ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ فَلَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَجَازَتْ فِي الْمَتَاعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَلَوْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا أَمَّا فِي الْمَتَاعِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَأَمَّا فِي الدَّارِ فَلِأَنَّهَا وَقْتَ التَّسْلِيمِ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعٍ هُوَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ ذَلِكَ هِبَةَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ وَكَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِغَيْرِهِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْأُمَّ يَجُوزُ وَذَكَرَ فِي الْعَتَاقِ أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَأَشْبَهَ هِبَةَ دَارٍ فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْجَنِينِ تَجْعَلُهُ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَقْدِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَعَ تَنَاوُلِهِ إيَّاهُ ظَاهِرًا وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءُ وَلَوْ
اسْتَثْنَاهُ لَفْظًا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ فَكَذَا إذَا كَانَ مُسْتَثْنَى فِي الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالُ الْمَوْلَى فَإِذَا وَهَبَ الْأُمَّ فَقَدْ وَهَبَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِمَالِ الْوَاهِبِ فَلَمْ يَجُزْ كَهِبَةِ دَارٍ فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ وَأَمَّا الْحُرُّ فَلَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا حُرٌّ جَالِسٌ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ كَذَا هَذَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مُتَّصِلًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْهُوبِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاعِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ شَجَرًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ دُونَ الثَّمَرِ أَوْ وَهَبَ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الثَّمَرَ دُونَ الشَّجَرِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَمَنَعَ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ جَذَّ الثَّمَرَ وَحَصَدَ الزَّرْعَ ثُمَّ سَلَّمَهُ فَارِغًا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ قَدْ زَالَ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ فَوَهَبَهُمَا جَمِيعًا وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا جَازَ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ فَوَهَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ وَهَبَ الْأَرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ أَوْ الزَّرْعَ ثُمَّ الْأَرْضَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ فَرَّقَ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ سَوَاءٌ .
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ هُنَا الِاتِّصَالُ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَالْمَانِعُ هُنَاكَ الشَّغْلُ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ نَظِيرَ هَذَا مَا إذَا وَهَبَ نِصْفَ الدَّارِ مُشَاعًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ حَتَّى وَهَبَ النِّصْفَ الْبَاقِي مِنْهُ وَسَلَّمَ
الْكُلَّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْبَاقِي وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ دَابَّةً وَعَلَيْهَا حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ لَا تَجُوزُ وَلَوْ رَفَعَ الْحَمْلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا فَارِغًا جَازَ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ هِبَةِ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا أَوْ هِبَةِ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنٍ فِي سِمْسِمٍ أَوْ زَيْتٍ فِي زَيْتُونٍ أَوْ دَقِيقٍ فِي حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوُلَاةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ هُنَاكَ لَيْسَ مَحَلَّ الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا لِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهَا وَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ اسْتِحْسَانًا فَيَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مَا وَهَبَ لَهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ الْمَحْضَةِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ كَمَا يَمْلِكُ وَلِيُّهُ وَمَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إذَا عَقَلَتْ جَازَ قَبْضُهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ وَلَا يَجُوز قَبْضُ الْمَوْلَى عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوَّلًا فَالْقَبْضُ إلَى الْعَبْدِ
وَالْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وَقَعَ لِلْعَبْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ لِعَارِضٍ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِمْ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لَهُمْ وَالِانْحِجَارَ لِعَارِضِ الرِّقِّ عَنْ التَّصَرُّفِ يَتَضَمَّنُ الضَّرَرَ بِالْمَوْلَى وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَقْبُوضُ كَسْبُ الْعَبْدِ وَكَسْبُ الْعَبْدِ الْقِنِّ لِلْمَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْلَى عَنْهُ لِمَا قُلْنَا فِي الْقِنِّ فَإِذَا قَبَضَ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْهِبَةَ كَسْبُهُ وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِاكْتِسَابِهِ وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَقَبْضٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ .
( أَمَّا ) الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْعَقْلَ فَقَطْ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( وَأَمَّا ) الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَالنِّيَابَةُ فِي الْقَبْضِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ فَهُوَ الْقَبْضُ لِلصَّبِيِّ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْوِلَايَةِ بِالْحَجْرِ وَالْعَيْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِلَايَةِ فَيَقْبِضُ لِلصَّبِيِّ وَلِيُّهُ أَوْ مَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ فَيَقْبِضُ لَهُ أَبُوهُ ثُمَّ وَصِيُّ أَبِيهِ بَعْدَهُ ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ أَبِيهِ وَوَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ جَدِّهِ بَعْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ هَؤُلَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ حَالَ حَضْرَتِهِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِمْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ لَهُ .
وَإِذَا غَابَ أَحَدُهُمْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ قَبْضُ الَّذِي يَتْلُوهُ فِي الْوِلَايَةِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ تَفْوِيتُ
الْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّغِيرِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَى مَنْ يَتْلُوهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ وُجُودِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَقِيَامُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ تَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لِغَيْرِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ قَبْضُ مِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ أَجْنَبِيًّا كَانَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي فِي عِيَالِهِ لَهُ عَلَيْهِ ضَرْبُ وِلَايَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ الَّتِي لِلصَّبِيِّ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَلِلصَّبِيِّ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِتَصَرُّفٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ لِلصَّبِيِّ .
( وَأَمَّا ) مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْقَبْضُ لِلصَّبِيَّةِ إذَا عَقَلَتْ وَلَهَا زَوْجٌ قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا فِي عِيَالِهِ لَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الزَّوْجِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ فِي الْهِبَةِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِثْلَ قَبْضِ الْهِبَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلُهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقَ التَّنَاوُبِ إذْ الْمُتَمَاثِلَانِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَقَامَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ فَتُثْبِتُ الْمُنَاوَبَةُ مُقْتَضَى الْمُمَاثَلَةِ وَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ يُوجَدُ فِيهِ الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَ مِنْهُ جَازَتْ الْهِبَةُ وَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَوَقَعَ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ مَعًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قَابِضًا مَا لَمْ يُجَدِّدْ الْقَبْضَ وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ إنْ كَانَتْ يَدُهُ صُورَةً فَهِيَ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَهَبَ مَا فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ بِالتَّخْلِيَةِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَبْضَيْنِ مُتَمَاثِلَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ إذْ الْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَكَذَا عَقْدُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ فَتَمَاثَلَ الْقَابِضَانِ فَيَتَنَاوَبَانِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ مِنْ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ قَبَضَهُمَا لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ أَمَانَةٌ وَقَبْضَ الْبَيْعِ قَبْضُ ضَمَانٍ فَلَمْ يَتَمَاثَلْ الْقَبْضَانِ بَلْ الْمَوْجُودُ أَدْنَى مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَمْ يَتَنَاوَبَا وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ مَقْبُوضًا بِبَيْعِ فَاسِدٍ أَوْ مَقْبُوضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَكَذَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ لِوُجُودِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ أَصْلُ الْقَبْضِ وَزِيَادَةُ ضَمَانٍ .
وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا وَيَنُوبُ قَبْضُ الرَّهْنِ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضَ الرَّهْنِ فِي حَقّ الْعَيْنِ قَبْضُ أَمَانَةٍ أَيْضًا فَيَتَمَاثَلَانِ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَئِنْ كَانَ قَبْضُ الرَّهْنِ قَبْضَ ضَمَانٍ فَقَبْضُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ قَبْضِ
الْأَمَانَةِ وَالْأَقْوَى يَنُوبُ عَنْ الْأَدْنَى لِوُجُودِ الْأَدْنَى فِيهِ وَزِيَادَةٌ وَإِذَا صَحَّتْ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا حَتَّى يُجَدِّدَ الْقَبْضَ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ قَبْضُ ضَمَانٍ لَكِنْ هَذَا ضَمَانٌ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبْرَاءَ بِالْهِبَةِ لِيَصِيرَ قَبْضَ أَمَانَةٍ فَيَتَجَانَسُ الْقَبْضَانِ فَيَبْقَى قَبْضُ ضَمَانٍ فَاخْتَلَفَ الْقَبْضَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمَانَ مِمَّا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ فَيَبْرَأُ عَنْهُ بِالْهِبَةِ وَيَبْقَى قَبْضٌ بِغَيْرِ ضَمَانٍ فَتَمَاثَلَ الْقَابِضَانِ فَيَتَنَاوَبَانِ وَلَوْ كَانَ مَبِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَوَهَبَ مِنْ الْبَائِعِ جَازَ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ هِبَةً بَلْ يَكُونُ إقَالَةً حَتَّى لَا تَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْبَائِعِ وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُجْعَلُ إقَالَةً بَلْ يَبْطُلُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَوْ نَحَلَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ شَيْئًا جَازَ وَيَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مَعَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ عَقِيبَ الْبَيْعِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الِابْنِ لِصَيْرُورَتِهِ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ مَعَ الْعَقْدِ وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي النَّحْلَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } .
( وَأَمَّا ) كَيْفِيَّةُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ الْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَا يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَوَارِيثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّإِ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ
يُسَوِّيَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي النُّحْلِ وَلَا يُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَشِيرًا أَبَا النُّعْمَانِ أَتَى بِالنُّعْمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَا فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَرْجِعهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النِّحْلَةِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَالتَّفْضِيلُ يُورِثُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ التَّسْوِيَةُ أَوْلَى وَلَوْ نَحَلَ بَعْضًا وَحَرَمَ بَعْضًا جَازَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرُومُ فَقِيهًا تَقِيًّا أَوْ جَاهِلًا فَاسِقًا عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَأَدِّبِينَ وَالْمُتَفَقِّهِينَ دُونَ الْفَسَقَةِ الْفَجَرَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ الْحُكْمَ .
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ حُكْمُهَا مِلْكَ الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا قَالَ أَصْحَابُنَا هِيَ ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ فِي الْأَصْلِ وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ اللُّزُومُ وَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الثَّابِتُ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ لَازِمٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إلَّا فِي هِبَةِ الْوَلَدِ خَاصَّةً وَهِيَ هِبَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَنَقُولُ يَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَفِي بَيَانِ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرُّجُوعِ وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الرُّجُوعِ وَحُكْمِهِ شَرْعًا .
أَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ فَحَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ثَابِتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ } وَهَذَا نَصٌّ فِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَالْوَالِدِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } وَالْعَوْدُ فِي الْقَيْءِ حَرَامٌ كَذَا فِي الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ خَلَلٍ فِي الْمَقْصُودِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ اكْتِسَابُ الصِّيتِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ لَا طَلَبُ الْعِوَضِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُمَا الْعِوَضَ فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ
أَصْلًا .
( وَلَنَا ) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَمَّا الْكِتَابُ الْعُزَيْرُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وَالتَّحِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ مِنْ السَّلَامِ وَالثَّنَاءِ وَالْهَدِيَّةِ بِالْمَالِ .
( قَالَ الْقَائِلُ ) تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَاءِ بِدِينِهِمْ لَكِنْ الثَّالِثُ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ بِقَرِينَةٍ مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ رُدُّوهَا } لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَعْرَاضِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إعَادَةِ الشَّيْءِ وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْمُشْتَرَكِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ وُجُوهِهِ بِالدَّلِيلِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا } أَيْ بِعِوَضٍ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدنَا عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ هِبَةِ الْأَجَانِبِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَهَبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إحْسَانًا إلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ وَقَدْ يَهَبُ لَهُ طَمَعًا فِي الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً فَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اصْطَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّكُمْ قَدْ
كَافَأْتُمُوهُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَالتَّهَادِي تَفَاعُلٌ مِنْ الْهَدِيَّةِ فَيَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ اثْنَيْنِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنْ عَقْدٍ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ يُمْنَعُ لُزُومُهُ كَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطُ اللُّزُومِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ كَذَا هَذَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّجُوعِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْحِلِّ مِنْ حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فِي رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } قِيلَ فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَحِلُّ لَكَ مِنْ حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ مَا اخْتَرْنَ إيَّاكَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ الزِّينَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ إذَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِنَّ وَهَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرِ الْقُبْحِ مُرُوءَةً وَطَبِيعَةً لَا شَرِيعَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } وَفِعْلُ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ الطَّبِيعِيِّ كَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ فِيمَا
يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَخْذِهِ مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوعِ مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمَانِعَةُ مِنْ الرُّجُوعِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا .
وَمِنْهَا خُرُوجُ الْمَوْهُوبِ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إمَّا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَا بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ غَيْرُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْمِلْكَ عَرَضٌ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَّا أَنَّهُ مَعَ تَجَدُّدِهِ حَقِيقَةً جُعِلَ مُتَجَدِّدًا تَقْدِيرًا فِي حَقِّ الْمَحَلِّ حَتَّى يَرُدَّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدَّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ فَاخْتَلَفَ الْمِلْكَانِ وَاخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنَيْنِ ثُمَّ لَوْ وَهَبَ عَيْنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنٍ أُخْرَى فَكَذَا إذَا أَوْجَبَهُ مِلْكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ مِلْكًا آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لِعَبْدِ رَجُلٍ هِبَةً فَقَبَضَهَا الْعَبْدُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لَمْ يَخْتَلِفْ لِأَنَّ الْهِبَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَة لِلْمِلْكِ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاء فَلَمْ يَخْتَلِف الْمِلْك .
وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا وَهَبَ لَهُ هِبَةً وَقَبَضَهَا فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ لِأَنَّ الْمِلْك الَّذِي أَوْجَبَهُ بِالْهِبَةِ قَدْ اسْتَقَرَّ بِالْعِتْقِ فَكَأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ بَعْد الْعِتْق فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقّ فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع عِنْد أَبِي يُوسُفَ وَعِنْد مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع وَهَذَا بِنَاء عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاء بَدَل الْكِتَابَة فَالْمَوْلَى يَمْلِك أَكْسَابه بِحُكْمِ الْمِلْك الْأَوَّل أَوْ يَمْلِكهَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَعِنْد أَبِي يُوسُفَ يَمْلِكهَا بِحُكْمِ الْمِلْك الْأَوَّل فَلَمْ يَخْتَلِف الْمِلْك فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِع وَعِنْد مُحَمَّدٍ يَمْلِكهَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَاخْتَلَفَ الْمِلْكُ فَمَنَعَ الرُّجُوع .
( وَجْه ) قَوْل مُحَمَّدٍ أَنَّ مِلْك الْكَسْب لِلْمَوْلَى قَدْ بَطَلَ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ أَحَقّ بِأَكْسَابِهِ
بِالْكِتَابَةِ فَبَطَلَ مِلْك الْمَوْلَى بِالْكَسْبِ وَالْبَاطِل لَا يَحْتَمِل الْعَوْد فَكَانَ هَذَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَيُمْنَع الرُّجُوع كَمِلْكِ الْوَارِث .
( وَجْه ) قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَنَّ سَبَب ثُبُوت مِلْك الْكَسْب هُوَ مِلْك الرَّقَبَة وَمِلْك الرَّقَبَة قَائِم بَعْد الْكِتَابَة إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُ مِلْك الْكَسْب لِلْمَوْلَى لِضَرُورَةِ التَّوَصُّل إلَى الْمَقْصُود مِنْ الْكِتَابَة فِي جَانِب الْمُكَاتَبِ وَهُوَ شَرَف الْحُرِّيَّة بِأَدَاءِ بَدَل الْكِتَابَة فَإِذَا عَجَزَ زَالَتْ الضَّرُورَة وَظَهَرَ مِلْك الْكَسْب تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَة فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِلْكًا مُبْتَدَأ أَوْ مِنْهَا مَوْت الْوَاهِب لِأَنَّ الْوَارِث لَمْ يُوجِب الْمِلْك لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَكَيْفَ يَرْجِع فِي مِلْك لَمْ يُوجِبهُ .
وَمِنْهَا الزِّيَادَة فِي الْمَوْهُوب زِيَادَة مُتَّصِلَة فَنَقُول جُمْلَة الْكَلَام فِي زِيَادَة الْهِبَة إنَّهَا لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْأَصْلِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَة عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَع الرُّجُوع سَوَاء كَانَتْ الزِّيَادَة بِفِعْلِ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ لَا بِفِعْلِهِ وَسَوَاء كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً أَوْ غَيْر مُتَوَلِّدَةٍ نَحْو مَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوب جَارِيَة هَزِيلَة فَسَمِنَتْ أَوْ دَارًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا غَرْسًا أَوْ نَصَبَ دُولَابًا وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَقَى بِهِ وَهُوَ مُثَبَّت فِي الْأَرْضِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا عَلَى وَجْه يَدْخُل فِي بَيْعِ الْأَرْض مِنْ غَيْر تَسْمِيَة قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَوْ كَانَ الْمَوْهُوب ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ أَوْ زَعْفَرَان أَوْ قَطَّعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ أَوْ جُبَّةً وَحَشَاهُ أَوْ قَبَاءً لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إلَى الرُّجُوع فِي الْأَصْل مَعَ زِيَادَة لِأَنَّ الزِّيَادَة لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ إذَا لَمْ يَرِد عَلَيْهَا الْعَقْد فَلَا يَجُوز أَنْ يَرِد عَلَيْهَا الْفَسْخ وَلَا سَبِيل إلَى الرُّجُوع فِي الْأَصْل بِدُونِ الزِّيَادَة لِأَنَّهُ غَيْر مُمْكِن فَامْتَنَعَ الرُّجُوع أَصْلًا .
وَإِنْ صَبَغَ الثَّوْب بِصِبْغٍ لَا يَزِيد فِيهِ أَوْ يَنْقُصهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ الْمَانِع مِنْ الرُّجُوع هُوَ الزِّيَادَة فَإِذَا لَمْ يَزِدْهُ الصِّبْغ فِي الْقِيمَة اُلْتُحِقَتْ الزِّيَادَة بِالْعَدَمِ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَة مُنْفَصِلَة فَإِنَّهَا لَا تَمْنَع الرُّجُوع سَوَاء كَانَتْ مُتَوَلِّدَة مِنْ الْأَصْل كَالْوَلَدِ وَاللَّبَن وَالثَّمَر أَوْ غَيْر مُتَوَلِّدَة كَالْأَرْشِ وَالْعُقْر وَالْكَسْب وَالْغَلَّة لِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَائِد لَمْ يَرِد عَلَيْهَا الْعَقْد فَلَا يَرِد عَلَيْهَا الْفَسْخ وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى الْأَصْل وَيُمْكِن فَسْخ الْعَقْد فِي الْأَصْل دُون الزِّيَادَة بِخِلَافِ الْمُتَّصِلَة وَبِخِلَافِ وَلَد الْمَبِيع أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْمَانِع هُنَاكَ وَهُوَ الرِّبَا لِأَنَّهُ يَبْقَى الْوَلَد بَعْد رَدَّ الْأُمّ بِكُلِّ الثَّمَن مَبِيعًا مَقْصُودًا لَا
يُقَابِلهُ عِوَض وَهَذَا تَفْسِير الرِّبَا وَمَعْنَى الرِّبَا لَا يُتَصَوَّر فِي الْهِبَة لِأَنَّ جَرَيَان الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمُعَاوَضَاتِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْوَلَد مَوْهُوبًا مَقْصُودًا بِلَا عِوَض بِخِلَافِ الْمَبِيع وَكَذَا الزِّيَادَة فِي سِعْر لَا تَمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَوْهُوبِ وَإِنَّمَا هِيَ رَغْبَة يُحْدِثُهَا اللَّه تَعَالَى فِي الْقُلُوب فَلَا تَمْنَع الرُّجُوع وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَر هَذِهِ الزِّيَادَة فِي أُصُول الشَّرْع فَلَا تُغَيِّر ضَمَان الرَّهْن وَلَا الْغَصْب وَلَا تَمْنَع الرَّدّ بِالْعَيْبِ .
وَأَمَّا نُقْصَان الْمَوْهُوب فَلَا يَمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّ ذَلِكَ رُجُوع فِي بَعْض الْمَوْهُوب وَلَهُ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْض الْمَوْهُوب مَعَ بَقَائِهِ بِكَمَالِهِ فَكَذَا إذَا نَقَصَ وَلَا يَضْمَن الْمَوْهُوب لَهُ النُّقْصَان لِأَنَّ قَبْض الْهِبَة لَيْسَ بِقَبْضٍ مَضْمُون .
وَمِنْهَا الْعِوَض لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا } أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّض وَلِأَنَّ التَّعْوِيض دَلِيل عَلَى أَنَّ مَقْصُود الْوَاهِب هُوَ الْوُصُول إلَى الْعِوَض فَإِذَا وَصَلَ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُوده فَيُمْنَع الرُّجُوع وَسَوَاء قَلَّ الْعِوَض أَوْ كَثُرَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيث مِنْ غَيْر فَصْل فَنَقُول الْعِوَض نَوْعَانِ مُتَأَخِّر عَنْ الْعَقْد وَمَشْرُوط فِي الْعَقْد .
أَمَّا الْعِوَض الْمُتَأَخِّر عَنْ الْعَقْد فَالْكَلَام فِيهِ يَقَع فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدهمَا فِي بَيَان شَرْط جَوَاز هَذَا التَّعْوِيض وَصَيْرُورَة الثَّانِي عِوَضًا وَالثَّانِي فِي بَيَان مَاهِيَّة هَذَا التَّعْوِيض أَمَّا الْأَوَّل فَلَهُ شَرَائِط ثَلَاثَة الْأَوَّل مُقَابَلَة الْعِوَض بِالْهِبَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّعْوِيض بِلَفْظٍ يَدُلّ عَلَى الْمُقَابَلَة نَحْو أَنْ يَقُولَ هَذَا عِوَض مِنْ هِبَتك أَوْ بَدَل عَنْ هِبَتك أَوْ مَكَان هِبَتك أَوْ نَحَلْتُكَ هَذَا عَنْ هِبَتك أَوْ تَصَدَّقْت بِهَذَا بَدَلًا عَنْ هِبَتك أَوْ كَافَأْتُك أَوْ جَازَيْتُك أَوْ أَتَيْتُك وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِأَنَّ الْعِوَض اسْم لِمَا يُقَابِل الْمُعَوَّضَ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظ يَدُلّ عَلَى الْمُقَابَلَة .
حَتَّى لَوْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوب لَهُ ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوب لَهُ أَيْضًا وَهَبَ شَيْئًا لِلْوَاهِبِ وَلَمْ يَقُلْ هَذَا عِوَض مِنْ هِبَتك وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا بَلْ كَانَ هِبَة مُبْتَدَأَة وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا حَقّ الرُّجُوع لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَل الْبَاقِيَ مُقَابَلًا بِالْأَوَّلِ لِانْعِدَامِ مَا يَدُلّ عَلَى الْمُقَابَلَة فَكَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة فَيَثْبُت فِيهَا الرُّجُوع وَالثَّانِي لَا يَكُون الْعِوَض فِي الْعَقْد مَمْلُوكًا بِذَلِكَ الْعَقْد حَتَّى لَوْ عَوَّضَ الْمَوْهُوب لَهُ الْوَاهِبَ بِالْمَوْهُوبِ لَا يَصِحّ وَلَا يَكُون عِوَضًا وَإِنْ عَوَّضَهُ بِبَعْضِ الْمَوْهُوب عَنْ بَاقِيه فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوب عَلَى حَالِهِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْد لَمْ يَكُنْ عِوَضًا لِأَنَّ التَّعْوِيض بِبَعْضِ
الْمَوْهُوب لَا يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب عَادَة إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُوده لَأَمْسَكَهُ وَلَمْ يَهَبهُ فَلَمْ يَحْصُل مَقْصُوده بِتَعْوِيضِ بَعْض مَا دَخَلَ تَحْت الْعَقْد فَلَا يَبْطُل حَقّ الرُّجُوع ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوب قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ حَاله تَغَيُّرًا يَمْنَع الرُّجُوع فَإِنَّ بَعْض الْمَوْهُوب يَكُون عِوَضًا عَنْ الْبَاقِي لِأَنَّهُ بِالتَّغَيُّرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ أُخْرَى فَصَلُحَ عِوَضًا ، هَذَا إذَا وَهَبَ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ شَيْئَيْنِ فِي عَقْد وَاحِد فَأَمَّا إذَا وَهَبَ شَيْئَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ فَعَوَّضَ أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَة عِوَضًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَكُون عِوَضًا .
( وَجْه ) قَوْل أَبِي يُوسُفَ إنْ حَقّ الرُّجُوع ثَابِت فِي غَيْر مَا عُوِّضَ لِأَنَّهُ مَوْهُوب وَحَقّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة ثَابِت شَرْعًا فَإِذَا عُوِّضَ يَقَع عَنْ الْحَقّ الْمُسْتَحَقّ شَرْعًا فَلَا يَقَع مَوْقِع الْعِوَض بِخِلَافِ مَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَوْهُوب فَجَعَلَ بَعْضه عِوَضًا عَنْ الْبَاقِي أَنَّهُ يَجُوز وَكَانَ مِلْكًا عِوَضًا لِأَنَّ حَقّ الرُّجُوع قَدْ بَطَلَ بِالتَّغَيُّرِ فَجَازَ أَنْ يَقَع مَوْقِع الْعِوَض .
( وَجْه ) قَوْلهمَا إنَّهُمَا مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ فَجَازَ أَنْ يُجْعَل أَحَدهمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَر وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب مِنْ هِبَته الثَّانِيَة عَوْدَ الْهِبَة الْأُولَى لِأَنَّ الْإِنْسَان قَدْ يَهَب شَيْئًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ الرُّجُوع فَصَارَ الْمَوْهُوب بِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ عَيْن أُخْرَى بِخِلَافِ مَا إذَا عُوِّضَ بَعْض الْمَوْهُوب عَنْ الْبَاقِي وَهُوَ عَلَى حَاله الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْد لِأَنَّ بَعْض الْمَوْهُوب لَا يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب فَإِنَّ الْإِنْسَان لَا يَهَب شَيْئًا لِيُسَلَّمَ لَهُ بَعْضه عِوَضًا عَنْ بَاقِيهِ وَقَوْله حَقّ الرُّجُوع ثَابِت شَرْعًا نَعَمْ لَكِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَة لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يَمْتَنِع وُقُوعه عَنْ جِهَة أُخْرَى كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْهُ وَلَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءِ فَعَوَّضَهُ الصَّدَقَة مِنْ الْهِبَة كَانَتْ
عِوَضًا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ .
( أَمَّا ) عَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يُشْكِل لِأَنَّهُمَا لَوْ مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدهمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَر فَعِنْد اخْتِلَاف الْعَقْدَيْنِ أَوْلَى .
( وَأَمَّا ) عَلَى أَصْل أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ الصَّدَقَة لَا يَثْبُت فِيهَا حَقّ الرُّجُوع فَوَقَعَتْ مَوْقِع الْعِوَض ، وَالثَّالِث سَلَامَة الْعِوَض لِلْوَاهِبِ فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ بِأَنْ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَده لَمْ يَكُنْ عِوَضًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِع فِي الْهِبَة لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيض لَمْ يَصِحّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعَوَّض أَصْلًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِع إنْ كَانَ الْمَوْهُوب قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَهْلِك وَلَمْ يَزْدَدْ خَيْرًا وَلَمْ يَحْدُث فِيهِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوع فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوب لَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَمَا لَوْ هَلَكَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ التَّعْوِيض وَكَذَا إذَا ازْدَادَ خَيْرًا لَمْ يَضْمَن كَمَا قَبْلَ التَّعْوِيض وَإِنْ اُسْتُحِقَّ بَعْض الْعِوَض وَبَقِيَ الْبَعْض فَالْبَاقِي عِوَض عَنْ كُلّ الْمَوْهُوب وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَض وَيَرْجِع فِي كُلّ الْمَوْهُوب إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَده وَلَمْ يَحْدُثْ فِيهِ مَا يَمْنَع الرُّجُوع وَهَذَا قَوْل أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة وَقَالَ زُفَرُ يَرْجِع فِي الْهِبَة بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقّ مِنْ الْعِوَض .
( وَجْه ) قَوْله إنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَة ثَبَتَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا فَكَمَا أَنَّ الثَّانِيَ عِوَض عَنْ الْأَوَّل فَالْأَوَّل يَصِير عِوَضًا عَنْ الثَّانِي ثُمَّ لَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْض الْهِبَة الْأُولَى كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْض الْعِوَض فَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْض الْعِوَض كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْض الْهِبَة تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْبَاقِيَ يَصْلُح عِوَضًا عَنْ كُلّ الْهِبَة أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَوِّضهُ إلَّا بِهِ فِي الِابْتِدَاء كَانَ عِوَضًا مَانِعًا عَنْ الرُّجُوع فَكَذَا فِي الِانْتِهَاء بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاء أَسْهَلُ
إلَّا أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِع فِي الْهِبَة لِأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ غَرَّهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ لِإِسْقَاطِ الرُّجُوع بِشَيْءٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَار .
( وَأَمَّا ) سَلَامَة الْمُعَوَّض وَهُوَ الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَشَرْطه لُزُوم التَّعْوِيض حَتَّى لَوْ اُسْتُحِقَّ الْمَوْهُوب كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِيمَا عُوِّضَ لِأَنَّهُ إنَّمَا عُوِّضَ لِيُسْقِط حَقّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة فَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَوْهُوب تَبَيَّنَ أَنَّ حَقّ الرُّجُوع لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَصَارَ كَمَنْ صَالَحَ عَنْ دَيْن ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْن عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْف الْمَوْهُوب فَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي نِصْف الْعِوَض إنْ كَانَ الْمَوْهُوب مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَة لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ حَقِّ الرُّجُوع فِي جَمِيع الْهِبَة فَإِذَا لَمْ يَسْلَم لَهُ بَعْضه يَرْجِع فِي الْعِوَض بِقَدْرِهِ سَوَاء زَادَ الْعِوَض أَوْ نَقَصَ فِي السِّعْر أَوْ زَادَ فِي الْبَدَن أَوْ نَقَصَ فِي الْبَدَن كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذ نِصْفه وَنِصْف النُّقْصَان كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاء وَإِنَّمَا لَمْ تَمْنَع الزِّيَادَةُ عَنْ الرُّجُوع فِي الْعِوَض لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقّ فَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِد فَيَثْبُت الْفَسْخ فِي الزَّوَائِد .
وَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوب لَهُ أَرُدّ مَا بَقِيَ مِنْ الْهِبَة وَأَرْجِع فِي الْعِوَض كُلّه لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِوَض لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْد بَلْ هُوَ مُتَأَخِّر عَنْهُ وَالْعِوَض الْمُتَأَخِّر لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْعَيْن حَقِيقَة بَلْ هُوَ لِإِسْقَاطِ الرُّجُوع وَقَدْ حَصَلَ لَهُ سُقُوط الرُّجُوع فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْهِبَة فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي الْعِوَض فَإِنْ كَانَ الْعِوَض مُسْتَهْلَكًا ضَمِنَ قَابِض الْعِوَض بِقَدْرِ مَا وَجَبَ الرُّجُوع لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهِ مِنْ الْعِوَض وَإِنْ اُسْتُحِقَّ كُلُّ الْهِبَة ، وَالْعِوَضُ مُسْتَهْلَك يَضْمَن كُلّ قِيمَة الْعِوَض كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْل مِنْ غَيْر خِلَاف وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَوَى بِشْرٌ رِوَايَة أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَن شَيْئًا وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْه ) رِوَايَة الْأَصْل أَنَّ الْقَبْض فِي الْعِوَض مَا وَقَعَ مَجَّانًا وَإِنَّمَا وَقَعَ مُبْطِلًا حَقّ الرُّجُوع فِي الْأَوَّل فَإِنْ لَمْ يَسْلَم الْمَقْصُود مِنْهُ بَقِيَ الْقَبْض مَضْمُونًا فَكَمَا يَرْجِع بِعَيْنِهِ لَوْ كَانَ قَائِمًا يَرْجِع بِقِيمَتِهِ إذَا هَلَكَ .
( وَجْه ) الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّ الْعِوَض الْمُتَأَخِّر عَنْ الْعَقْدِ فِي حُكْم الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة حَتَّى يُشْتَرَط فِيهِ شَرَائِط الْهِبَة مِنْ الْقَبْض وَالْحِيَازَة ، وَالْمَوْهُوب غَيْر مَضْمُون بِالْهَلَاكِ هَذَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوب أَوْ الْعِوَض شَيْئًا لَا يَحْتَمِل الْقِسْمَة فَاسْتَحَقَّ بَعْضه .
( فَأَمَّا ) إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَة فَاسْتَحَقَّ بَعْض أَحَدهمَا بَطَلَ الْعِوَض إنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحَقّ وَكَذَا تَبْطُل الْهِبَة إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَحَقَّة فَإِذَا بَطَلَ الْعِوَض رَجَعَ فِي الْهِبَة وَإِذَا بَطَلَتْ الْهِبَة يَرْجِع فِي الْعِوَض لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَة وَالتَّعْوِيض وَقَعَ فِي مَشَاعٍ يَحْتَمِل الْقِسْمَة وَذَلِكَ بَاطِل الثَّانِي : بَيَان مَاهِيَّته فَالتَّعْوِيض الْمُتَأَخِّر عَنْ الْهِبَة هِبَة مُبْتَدَأَة بِلَا خِلَاف مِنْ أَصْحَابنَا يَصِحّ بِمَا تَصِحّ بِهِ الْهِبَة وَيَبْطُل بِمَا تَبْطُل بِهِ الْهِبَة لَا يُخَالِفهَا إلَّا فِي إسْقَاط الرُّجُوع ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُت حَقّ الرُّجُوع فِي الْأُولَى وَلَا يَثْبُت فِي الثَّانِيَة .
( فَأَمَّا ) فِيمَا وَرَاء ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْم هِبَةٍ مُبْتَدَأَة لِأَنَّهُ تَبَرُّع بِتَمْلِيكِ الْعَيْن لِلْحَالِّ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَة إلَّا أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ لِيُسْقِط حَقّ الرُّجُوع عَنْ نَفْسه فِي الْهِبَة الْأُولَى فَكَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة مُسْقِطَة لِحَقِّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة الْأُولَى وَلَوْ وَجَدَ الْمَوْهُوب لَهُ بِالْمَوْهُوبِ عَيْبًا فَاحِشًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدّهُ وَيَرْجِع فِي الْعِوَض وَكَذَلِكَ الْوَاهِب إذَا وَجَدَ بِالْعِوَضِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدّ
الْعِوَض وَيَرْجِع فِي الْهِبَة لِأَنَّ الرَّدّ بِالْعَيْبِ مِنْ خَوَاصّ الْمُعَاوَضَات وَالْعِوَض إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْد لَمْ يَكُنْ عِوَضًا عَلَى الْحَقِيقَة بَلْ كَانَ هِبَة مُبْتَدَأَة وَلَا يَظْهَر مَعْنَى الْعِوَض فِيهِ إلَّا فِي إسْقَاط الرُّجُوع خَاصَّة فَإِذَا قَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ فَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبه فِيمَا مَلَّكَهُ .
( أَمَّا ) الْوَاهِبُ فَلِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ الْعِوَض عَنْ الْهِبَة وَإِنَّهُ يَمْنَع الرُّجُوع .
( وَأَمَّا ) الْمَوْهُوب لَهُ فَلِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَض فِي حَقّه وَهُوَ سُقُوط حَقّ الرُّجُوع فَيَمْنَعهُ مِنْ الرُّجُوع لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا } وَسَوَاء عَوَّضَهُ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ أَجْنَبِيّ بِأَمْرِ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي هِبَته وَلَا لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِع فِي الْعِوَض عَلَى الْوَاهِب وَلَا عَلَى الْمَوْهُوب لَهُ .
( أَمَّا ) الْوَاهِب فَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِع فِي هِبَته لِأَنَّ الْأَجْنَبِيّ إنَّمَا عَوَّضَ بِأَمْرِ الْمَوْهُوب لَهُ قَامَ تَعْوِيضه مَقَام تَعْوِيضه بِنَفْسِهِ وَلَوْ عَوَّضَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَرْجِع فَكَذَا إذَا عَوَّضَ الْأَجْنَبِيّ بِأَمْرِهِ وَإِنْ عَوَّضَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ تَبَرَّعَ بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عَنْهُ وَالتَّبَرُّع بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عَنْ الْغَيْر جَائِز كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَة مِنْ زَوْجهَا .
( وَأَمَّا ) الْمُعَوِّضُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِع عَلَى الْوَاهِب لِأَنَّ مَقْصُوده مِنْ التَّعْوِيض سَلَامَة الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِسْقَاط حَقّ التَّبَرُّع وَقَدْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِع عَلَى الْمَوْهُوب لَهُ .
( أَمَّا ) إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِأَنَّهُ تَبَرُّع بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عَنْهُ فَلَا يَمْلِك أَنْ يَجْعَل ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
( وَأَمَّا ) إذَا عَوَّضَ بِأَمْرِهِ لَا يَرْجِع عَلَيْهِ أَيْضًا إلَّا إذَا قَالَ لَهُ عَوِّضْ عَنِّي عَلَى أَنِّي ضَامِن لِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالتَّعْوِيضِ وَلَمْ
يَضْمَن لَهُ فَقَدْ أَمَرَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُتَبَرِّع بِهِ فَلَمْ يُوجَب ذَلِكَ الضَّمَان عَلَى الْآمِر إلَّا بِشَرْطِ الضَّمَان وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَطْعِمْ عَنْ كَفَّارَة يَمِينِي أَوْ أَدِّ زَكَاتِي فَفَعَلَ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْآمِر إلَّا أَنْ يَقُول لَهُ عَلَى أَنِّي ضَامِن لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ غَيْره بِقَضَاءِ الدَّيْن فَقَضَاهُ أَنَّهُ يَرْجِع عَلَى الْآمِر وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى يَاسِرٍ أَنِّي ضَامِن نَصًّا لِأَنَّ قَضَاء الدَّيْن مَضْمُون عَلَى الْآمِر فَإِذَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ ضَمِنَ لَهُ وَلَوْ عَوَّضَ الْمَوْهُوب لَهُ الْوَاهِب عَنْ نِصْف الْهِبَة كَانَ عِوَضًا عَنْ نِصْفهَا وَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي النِّصْف الْآخَر وَلَا يَرْجِع فِيمَا عُوِّضَ عَنْهُ لِأَنَّ حَقّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة مِمَّا يَتَجَزَّأ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ فِي نِصْف الْهِبَة ابْتِدَاء دُون النِّصْف جَازَ فَجَازَ أَنْ يَثْبُت حَقّ الرُّجُوع فِي النِّصْف بِدُونِ النِّصْف بِخِلَافِ الْعَفْو عَنْ الْقِصَاص وَالطَّلَاق لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأ فَكَانَ إسْقَاط الْحَقّ عَنْ الْبَعْض إسْقَاطًا عَنْ الْكُلّ .
( وَأَمَّا ) الْعِوَض الْمَشْرُوط فِي الْعَقْد فَإِنْ قَالَ وَهَبْتُ لَك هَذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنْ تُعَوِّضَنِي هَذَا الثَّوْبَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّة هَذَا الْعَقْد قَالَ أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ عَقْده عَقْد هِبَة وَجَوَازه جَوَاز بَيْعِ وَرُبَّمَا عَبَّرُوا أَنَّهُ هِبَة ابْتِدَاء بَيْعٌ انْتِهَاء حَتَّى لَا يَجُوز فِي الْمَشَاع الَّذِي يَنْقَسِم وَلَا يَثْبُت الْمِلْك فِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَا قَبْلَ الْقَبْض وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِع فِي سِلْعَته مَا لَمْ يَقْبِضَا وَكَذَا إذَا قَبَضَ أَحَدهمَا وَلَمْ يَقْبِض الْآخَر فَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِع الْقَابِض وَغَيْرُ الْقَابِضِ فِيهِ سَوَاء حَتَّى يَتَقَابَضَا جَمِيعًا وَلَوْ تَقَابَضَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْع يَرُدُّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَعَدَم الرُّؤْيَة وَيَرْجِع فِي الِاسْتِحْقَاق وَتَجِب الشُّفْعَة إذَا كَانَ غَيْر مَنْقُول وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقْده عَقْد بَيْعٍ وَجَوَازه جَوَاز بَيْعٍ ابْتِدَاء وَانْتِهَاء وَتَثْبُت فِيهِ أَحْكَام الْبَيْع فَلَا يَبْطُل بِالشُّيُوعِ وَيُفِيد الْمِلْك بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْر شَرِيطَة الْقَبْض وَلَا يَمْلِكَانِ الرُّجُوع .
( وَجْه ) قَوْله إنَّ مَعْنَى الْبَيْع مَوْجُود فِي هَذَا الْعَقْد ؛ لِأَنَّ الْبَيْع تَمْلِيك الْعَيْن بِعِوَضٍ وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَة وَاخْتِلَافهَا لَا يُوجِب اخْتِلَاف الْحُكْم كَلَفْظِ الْبَيْع مَعَ لَفْظ التَّمْلِيك .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ وُجِدَ فِي هَذَا الْعَقْد لَفْظ الْهِبَة وَمَعْنَى الْبَيْع ، فَيُعْطَى شَبَهَ الْعَقْدَيْنِ فَيُعْتَبَر فِيهِ الْقَبْض وَالْحِيَازَة عَمَلًا يُشْبِه الْهِبَة وَيَثْبُت فِيهِ حَقّ الرَّدّ بِالْعَيْبِ وَعَدَم الرُّؤْيَة فِي حَقّ الشُّفْعَة عَمَلًا يُشْبِه الْبَيْع عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَان ، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم .
( وَمِنْهَا ) مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَض ، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع : الْأَوَّل : صِلَة الرَّحِم الْمَحْرَم فَلَا رُجُوع فِي الْهِبَة لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِع الْوَالِد فِيمَا يَهَب لِوَلَدِهِ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ وَلَدَهُ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَاب .
( وَلَنَا ) مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا } أَيْ لَمْ يُعَوَّض ، وَصِلَةُ الرَّحِم عِوَض مَعْنًى ؛ لِأَنَّ التَّوَاصُل سَبَب التَّنَاصُر وَالتَّعَاوُن فِي الدُّنْيَا فَيَكُون وَسِيلَة إلَى اسْتِيفَاء النُّصْرَة وَسَبَب الثَّوَاب فِي الدَّار الْآخِرَة فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْمَال ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { اتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ فَإِنَّهُ أَبْقَى لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ } فَدَخَلَ تَحْت النَّصّ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَهَبَ هِبَة لِصِلَةِ رَحِم أَوْ عَلَى وَجْه صَدَقَة فَإِنَّهُ لَا يَرْجِع فِيهَا وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَاب وَالْحَدِيث مَحْمُول عَلَى النَّهْيِ عَنْ شِرَاء الْمَوْهُوب لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا مَجَازًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوع كَمَا هُنَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ لَهُ عَلَى رَجُل ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاع فِي السُّوق فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَسَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ { لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ } وَسَيِّدنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصَدَ الشِّرَاء لَا الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَة لَكِنْ سَمَّاهُ عَوْدًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْعَوْدِ ، وَهُوَ نَهْيُ نَدْبٍ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ يَسْتَحِي فَيُسَامِحهُ فِي ثَمَنه فَيَصِير كَالرَّاجِعِ فِي بَعْضه وَالرُّجُوع مَكْرُوه .
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَد فِي
هِبَة الْوَالِد لِوَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَد لَا يَسْتَحِي عَنْ الْمُضَايَقَة فِي الثَّمَن لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَن لِمُبَاسَطَةٍ بَيْنَهُمَا عَادَةً فَلَمْ يُكْرَه الشِّرَاءُ ، حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَة لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُض وَلَوْ وَهَبَ لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِقُصُورِ مَعْنَى الصِّلَة فِي هَذِهِ الْقَرَابَة فَلَا يَكُون فِي مَعْنَى الْعِوَض وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِذِي مَحْرَمٍ لَا رَحِم لَهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصِّلَة أَصْلًا وَلَوْ وَهَبَ لِعَبْدٍ ذِي رَحِم وَمَوْلَاهُ أَجْنَبِيًّا .
( فَإِمَّا ) أَنْ كَانَ الْمَوْلَى ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب وَالْعَبْد أَجْنَبِيًّا .
( وَإِمَّا ) أَنْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ جَمِيعًا ذَوِي رَحِمٍ مِنْ الْوَاهِبِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِبِ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيًّا فَلَهُ أَنْ يَرْجِع بِلَا خِلَاف بَيْنَ أَصْحَابنَا ؛ لِأَنَّ حُكْم الْعَقْد يَقَع لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا ؛ الْوَاقِع لِلْعَبْدِ صُورَة الْعَقْد بِلَا حُكْم وَأَنَّهُ لَا يُفِيد مَعْنَى الْعِلَّةِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الْعِوَض أَصْلًا وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب وَالْعَبْد أَجْنَبِيًّا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْجِع وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْجِع .
( وَجْه ) قَوْلهمَا أَنَّ بُطْلَانَ حَقّ الرُّجُوع بِحُصُولِ الصِّلَة ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعِوَض عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمَعْنَى الصِّلَة إنَّمَا يَتَحَقَّق لِوُقُوعِ الْحُكْم لِلْقَرِيبِ ، وَالْحُكْم وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّ الْوَاهِب أَوْجَبَ الْهِبَة لَهُ ابْتِدَاء وَأَنَّهُ يَمْنَع الرُّجُوع كَذَا هَذَا .
( وَجْه ) قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمِلْك لَمْ يَثْبُت لِلْمَوْلَى بِالْهِبَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِلْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْض إلَيْهِ لَا إلَى الْمَوْلَى وَإِنَّمَا ثَبَتَ ضَرُورَة تَعَدُّد الْإِثْبَات لِلْعَبْدِ فَأُقِيم مُقَامه وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْك لَهُ بِالْهِبَةِ لَمْ يَحْصُل مَعْنَى الصِّلَة بِالْعَقْدِ فَلَا يَمْنَع الرُّجُوع مَعَ مَا أَنَّ الْمِلْك
يَثْبُت لَهُ بِالْهِبَةِ ، لَكِنَّ الْهِبَةَ وَقَعَتْ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ ، وَلِلْعَبْدِ مِنْ وَجْه ؛ لِأَنَّ الْإِيجَاب أُضِيف إلَى الْعَبْد ، وَالْمِلْك وَقَعَ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ دَيْن فَلَمْ يَتَكَامَل مَعْنَى الصِّلَة فِي الْهِبَة فَصَارَتْ كَالْهِبَةِ لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ فَإِنْ كَانَا جَمِيعًا ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ قِيَاس قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَرْجِع ؛ لِأَنَّ قَرَابَة الْعَبْد لَا تُؤَثِّرُ فِي إسْقَاط الرُّجُوع ؛ لِأَنَّ الْمِلْك لَمْ يَقَع لَهُ وَقَرَابَة الْمَوْلَى أَيْضًا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَاب لَمْ يَقَع لَهُ وَحَقّ الرُّجُوع هُوَ الْأَصْل فِي الْهِبَة ، وَالِامْتِنَاع مُعَارِضُ الْمُسْقِطِ وَلَمْ يُوجَد فَلَا يَسْقُط وَذَكَرَ الْفَقِيه أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي قَوْلهمْ : لِأَنَّ الْهِبَة إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا حَالَ الْعَبْد أَوْ حَالَ الْمَوْلَى ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَرَحْمَة كَامِلَة ، وَالصِّلَة الْكَامِلَة تَمْنَع الرُّجُوع .
وَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا يُعْتَبَر هَهُنَا حَالَ الْعَبْد وَحْدَهُ وَلَا حَالَ الْمَوْلَى وَحْدَهُ بَلْ يُعْتَبَر حَالهمَا جَمِيعًا وَاعْتِبَار حَالهمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوع وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم وَعَلَى هَذَا التَّفْرِيع إذَا وَهَبَ لِمُكَاتَبٍ شَيْئًا وَهُوَ ذُو رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب أَوْ مَوْلَاهُ ذُو رَحِم مَحْرَم مِنْ الْوَاهِب أَنَّهُ إنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ فَعَتَقَ يُعْتَبَر حَاله فِي الْقَرَابَة وَعَدَمهَا إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَرْجِع وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يَرْجِع ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى فَعَتَقَ اسْتَقَرَّ مِلْكه فَصَارَ كَأَنَّ الْهِبَة وَقَعَتْ لَهُ وَهُوَ حُرّ .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَرْجِع إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يَرْجِع كَذَا هَذَا وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقّ فَقِيَاس قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ يُعْتَبَر حَالَ الْمَوْلَى فِي الْقَرَابَة وَعَدَمهَا إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنَاء عَلَى أَنَّ
الْهِبَة عِنْده أَوْجَبَتْ مِلْكًا مَوْقُوفًا عَلَى الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَوْلَاهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى فَعَتَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْك وَقَعَ لَهُ مِنْ حِين وُجُوده ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقّ يَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ لِلْمَوْلَى مِنْ وَقْت وُجُوده كَأَنَّ الْهِبَة وَقَعَتْ لَهُ مِنْ الِابْتِدَاء وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ لَا يَرْجِع فِي الْأَحْوَال كُلّهَا ؛ لِأَنَّ عِنْده كَسْب الْمُكَاتَبِ يَكُون لِلْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْر تَوَقُّف ثُمَّ يَنْتَقِل إلَى الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ كَأَنَّهُ وَهَبَ لِحَيٍّ فَمَاتَ وَانْتَقَلَ الْمَوْهُوب إلَى وَرَثَته الثَّانِي الزَّوْجِيَّة فَلَا يَرْجِع كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَهُ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ صِلَة الزَّوْجِيَّة تَجْرِي مَجْرَى صِلَة الْقَرَابَة الْكَامِلَة بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّق بِهَا التَّوَارُث فِي جَمِيع الْأَحْوَال فَلَا يَدْخُلهَا حَجْبُ الْحِرْمَان ، وَالْقَرَابَة الْكَامِلَة مَانِعَة مِنْ الرُّجُوع فَكَذَا مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا .
الثَّالِثُ : التَّوَارُث فَلَا رُجُوع فِي الْهِبَة مِنْ الْفَقِير بَعْد قَبْضِهَا ؛ لِأَنَّ الْهِبَة مِنْ الْفَقِير صَدَقَة ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُب بِهَا الثَّوَاب كَالصَّدَقَةِ وَلَا رُجُوع فِي الصَّدَقَة عَلَى الْفَقِير بَعْد قَبْضِهَا لِحُصُولِ الثَّوَاب الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَض بِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِوَضًا فِي الْحَقِيقَة إذْ الْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقّ عَلَى مَوْلَاهُ عِوَضًا وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَالْقِيَاس أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقّ الرُّجُوع ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّق عَلَى الْغَنِيِّ يَطْلُب مِنْهُ الْعِوَض عَادَة فَكَانَ هِبَة فِي الْحَقِيقَة فَيُوجِب الرُّجُوع إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ الثَّوَاب قَدْ يُطْلَبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَغْنِيَاء أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ نِصَابٌ تَجِب فِيهِ الزَّكَاة وَلَهُ عِيَال لَا يَكْفِيه مَا فِي يَده فَفِي الصَّدَقَة عَلَيْهِ ثَوَاب وَإِذَا كَانَ الثَّوَاب مَطْلُوبًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَة فَإِذَا أَتَى بِلَفْظَةِ الصَّدَقَة دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الثَّوَاب وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوع لِمَا بَيَّنَّا .
( وَأَمَّا ) الشُّيُوع فَنَقُول لَا يَمْنَعُ الرُّجُوع فِي الْهِبَة فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي نِصْف الْهِبَة مَشَاعًا ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ بِأَنْ وَهَبَ دَارًا فَبَاعَ الْمَوْهُوب لَهُ نِصْفهَا مَشَاعًا كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَاقِي وَكَذَا لَوْ لَمْ يَبِعْ نِصْفهَا وَهِيَ قَائِمَة فِي يَد الْمَوْهُوب لَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْضهَا دُونَ الْبَعْض بِخِلَافِ الْهِبَة الْمُسْتَقْبَلَة أَنَّهَا لَا تَجُوز فِي الْمَشَاع الَّذِي يَحْتَمِل الْقِسْمَة ؛ لِأَنَّ الْقَبْض شَرْط جَوَاز الْعَقْد ، وَالشِّيَاع يُخِلُّ فِي الْقَبْض الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّف ، وَالرُّجُوع فَسْخ ، وَالْقَبْض لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْفَسْخِ فَلَا يَكُون الشُّيُوع مَانِعًا مِنْ الرُّجُوع .
( وَأَمَّا ) بَيَان مَاهِيَّة الرُّجُوع وَحُكْمه شَرْعًا فَنَقُول وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق لَا خِلَاف فِي أَنَّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخ ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّجُوع فِيهَا بِالتَّرَاضِي فَمَسَائِل أَصْحَابنَا تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ فَسْخ أَيْضًا كَالرُّجُوعِ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يَصِحّ الرُّجُوع فِي الْمَشَاع الَّذِي يَحْتَمِل الْقِسْمَة .
وَلَوْ كَانَ هِبَة مُبْتَدَأَة لَمْ يَصِحّ مَعَ الشِّيَاع وَكَذَا لَا تَقِف صِحَّته عَلَى الْقَبْض وَلَوْ كَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة لَوَقَفَ صِحَّته عَلَى الْقَبْض وَكَذَا لَوْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَوَهَبَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِآخَرَ ثُمَّ رَجَعَ الثَّانِي فِي هِبَتِهِ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَوْ كَانَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقّ الرُّجُوع ، فَهَذِهِ الْمَسَائِل تَدُلّ عَلَى أَنَّ الرُّجُوع بِغَيْرِ قَضَاء فَسْخ وَقَالَ زُفَرُ أَنَّهُ هِبَة مُبْتَدَأَة .
( وَجْه ) قَوْله إنَّ مِلْك الْمَوْهُوب عَادَ إلَى الْوَاهِب بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدّ بِالْعَيْبِ فَيُعْتَبَر عَقْدًا جَدِيدًا فِي حَقّ ثَالِث كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْد الْقَبْض ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ هِبَة مُبْتَدَأَة مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَاب الْهِبَة أَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ إذَا زَادَ الْهِبَة فِي مَرَض مَوْته أَنَّهَا تَكُون مِنْ الثُّلُث وَهَذَا حُكْم الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْوَاهِب بِالْفَسْخِ يَسْتَوْفِي حَقّ نَفْسه وَاسْتِيفَاء الْحَقّ لَا يَتَوَقَّف عَلَى قَضَاء الْقَاضِي ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ مُسْتَوْفٍ حَقّ نَفْسه بِالْفَسْخِ أَنَّ الْهِبَة عَقْد جَائِز مُوجَب حَقّ الْفَسْخ فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا ثَابِتًا لَهُ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقّ ثَالِثٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي صِفَة السَّلَامَة فَإِذَا لَمْ يَسْلَم اخْتَلَّ رِضَاهُ فَيَثْبُت حَقّ الْفَسْخ ضَرُورَة فَتَوَقَّفَ لُزُوم مُوجَب الْفَسْخ فِي حَقّ ثَالِث عَلَى قَضَاء الْقَاضِي .
( وَأَمَّا ) مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فَمِنْ
أَصْحَابنَا مَنْ الْتَزَمَ وَقَالَ : هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الرُّجُوع بِغَيْرِ قَضَاء هِبَة مُبْتَدَأَة وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِل يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا فَسْخ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَتَانِ .
( وَمِنْهُمْ ) مِنْ قَالَ هَذَا لَا يَدُلّ عَلَى اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ الرَّدّ مِنْ الثُّلُث لِكَوْنِ الْمَرِيض مُتَّهَمًا فِي الرَّدّ فِي حَقّ وَرَثَته فَكَانَ فَسْخًا فِيمَا بَيْنَ الْوَاهِب وَالْمَوْهُوب لَهُ هِبَة مُبْتَدَأَة فِي حَقّ الْوَرَثَة وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُون لِلْعَقْدِ الْوَاحِد حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالْإِقَالَةِ فَإِنَّهَا فَسْخ فِي حَقّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيد فِي حَقّ غَيْرهمَا وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْد بِالرُّجُوعِ عَادَ الْمَوْهُوب إلَى قَدِيم مِلْك الْوَاهِب وَيَمْلِكهُ الْوَاهِب وَإِنْ لَمْ يَقْبِضهُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْض إنَّمَا يُعْتَبَر فِي انْتِقَال الْمِلْك لَا فِي عَوْدِ قَدِيم الْمِلْك كَالْفَسْخِ فِي بَاب الْبَيْع ، وَالْمَوْهُوبُ بَعْد الرُّجُوع يَكُون أَمَانَة فِي يَد الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَده لَا يَضْمَن ؛ لِأَنَّ قَبْض الْهِبَة قَبْض غَيْر مَضْمُون فَإِذَا انْفَسَخَ عِنْدهَا بَقِيَ الْقَبْض عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ أَمَانَة غَيْر مُوجِب لِلضَّمَانِ فَلَا يَصِير مَضْمُونًا عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّعَدِّي كَسَائِرِ الْأَمَانَات وَلَوْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى الرُّجُوع وَلَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ وَلَكِنْ الْمَوْهُوب لَهُ وَهَبَ ، وَالْمَوْهُوب لِلْوَاهِبِ وَقَبِلَهُ الْوَاهِب الْأَوَّل لَا يَمْلِكهُ حَتَّى يَقْبِضهُ وَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوع بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَيْسَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَكَذَا الصَّدَقَة .
( أَمَّا ) وُقُوف الْمِلْك فِيهِ عَلَى الْقَبْض ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْجُود لَفْظ الْهِبَة لَا لَفْظ الْفَسْخ وَمِلْك الْوَاهِب لَا يَزُول إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الرُّجُوع أَنَّ الْوَاهِب يَمْلِكُهُ بِدُونِ الْقَبْض ؛ لِأَنَّ اتِّفَاقهمَا عَلَى الرُّجُوع اتِّفَاق عَلَى الْفَسْخ وَلَا يُشْتَرَط لِلْفَسْخِ مَا يُشْتَرَط لِلْعَقْدِ ثُمَّ إذَا قَبَضَهُ الْوَاهِب
قَامَ ذَلِكَ مَقَام الرُّجُوع ؛ لِأَنَّ الرُّجُوع مُسْتَحَقّ فَتَقَع الْهِبَة عَنْ الرُّجُوع الْمُسْتَحَقّ وَلَا تَقَع مَوْقِع الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة فَلَا يَصِحّ الرُّجُوع فِيهَا .
( فَصْل ) وَأَمَّا بَيَان مَا يَرْفَع عَقْد الْهِبَة فَاَلَّذِي يَرْفَعهُ هُوَ الْفَسْخ إمَّا بِالْإِقَالَةِ أَوْ الرُّجُوع بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْد يَعُود الْمَوْهُوب إلَى قَدِيم مِلْكِ الْوَاهِب بِنَفْسِ الْفَسْخ مِنْ غَيْر الْحَاجَة إلَى الْقَبْض لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
كِتَابُ الرَّهْنِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الرَّهْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الرَّهْنُ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُونًا ، وَمَا يَبْطُلُ بِهِ الرُّكْنُ وَمَا لَا يَبْطُلُ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ .
أَمَّا رُكْنُ عَقْدِ الرَّهْنِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ : رَهَنْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ بِمَا لَكَ عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ يَقُولَ : هَذَا الشَّيْءُ رَهْنٌ بِدَيْنِكَ ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى ، وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ : ارْتَهَنْتُ أَوْ قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، فَأَمَّا لَفْظُ الرَّهْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ وَدَفَعَ إلَى الْبَائِعِ ثَوْبًا وَقَالَ لَهُ : امْسِكْ هَذَا الثَّوْبَ حَتَّى أُعْطِيَكَ الثَّمَنَ فَالثَّوْبُ رَهْنٌ ؛ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْعَقْدِ ، وَالْعِبْرَةُ فِي بَابِ الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرَّهْنِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ بِهِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرَّهْنِ فَهُوَ : أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ ؛ لِأَنَّ فِي الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ مَعْنَى الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ ، فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ كَذَا هَذَا .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَقْلُهُمَا ؛ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ .
( فَأَمَّا ) الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ حَتَّى يَجُوزَ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ؛ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ وَكَذَا السَّفَرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّهْنِ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ جَمِيعًا ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْرَضَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ رَهْنًا فِي الْحَضَرِ ؛ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الرَّهْنُ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ يُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ الرَّهْنُ عَنْ تَوَاءِ الْحَقِّ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَتَذَكُّرُهُ عِنْدَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى السَّفَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِتَخْصِيصِ الْجَوَازِ بَلْ هُوَ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } .
( وَأَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ .
فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْبَيْعِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَالًا مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا رَهْنُ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، كَمَا إذَا رَهْنَ مَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ أَوْ مَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا رَهْنُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِانْعِدَامِ مَالِيَّتِهِمَا ، وَلَا رَهْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ ، وَلَا رَهْنُ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا ، وَلَا رَهْنُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُونَ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً ، وَلَا رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ .
سَوَاءٌ كَانَ الْعَاقِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ ؛ لِانْعِدَامِ مَالِيَّةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ؛ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءُ الدَّيْنِ وَالِارْتِهَانَ اسْتِيفَاؤُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْخَمْرِ وَاسْتِيفَاؤُهُ ؛ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا ، كَانَتْ الْخَمْرُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَتْ الْخَمْرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَخَمْرُ الذِّمِّيِّ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْغَصْبِ ، وَإِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا وَالْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا ، لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى أَحَدٍ .
( وَأَمَّا ) فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَارْتِهَانُهُمَا مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاةِ عِنْدَنَا ، وَلَا رَهْنُ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ فِي أَنْفُسِهَا .
( فَأَمَّا ) كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
لِجَوَازِ الرَّهْنِ حَتَّى يَجُوزَ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ يَرْهَنُ مَالَ الصَّبِيِّ بِدَيْنِهِ وَبِدَيْنِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَخْلُو .
( إمَّا ) أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْإِيدَاعِ .
( وَإِمَّا ) أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمُبَادَلَةِ ، وَالْأَبُ يَلِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّهُ يَبِيعُ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنِ نَفْسِهِ ، وَيُودِعُ مَالَ الصَّغِيرِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهُ الْأَبُ ، هَلَكَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا رَهَنَ بِهِ ؛ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ صَحِيحًا وَهَذَا حُكْمُ الرَّهْنِ الصَّحِيحِ وَضَمِنَ الْأَبُ قَدْرَ مَا سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ وَلَدِهِ فَيَضْمَنُ ، فَلَوْ أَدْرَكَ الْوَلَدُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ صَحِيحًا لِوُقُوعِهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، فَلَا يَمْلِكُ الْوَلَدُ نَقْضَهُ ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَرَدِّ الرَّهْنِ عَلَى وَلَدِهِ ؛ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِ بِالْبُلُوغِ .
وَلَوْ قَضَى الْوَلَدُ دَيْنَ أَبِيهِ وَافْتَكَّ الرَّهْنَ ، لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا ، وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا قَضَى عَلَى أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مِلْكِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ ، فَكَانَ مُضْطَرًّا فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بَلْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ دَلَالَةً ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا قَضَى ، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ إنْسَانٍ عَبْدَهُ ؛ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِ نَفْسِهِ فَرَهْنَ ، ثُمَّ إنَّ الْمُعِيرَ قَضَى دَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ وَافْتَكَّ الرَّهْنَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا قَضَى عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوَصِيِّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَبِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي فَصْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ
لِلْأَبِ أَنْ يَرْتَهِنَ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ ثَبَتَ عَلَى الصَّغِيرِ ، وَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْوَلَدُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ إذَا كَانَ الْأَبُ يَشْهَدُ عَلَى الِارْتِهَانِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ ، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْوَلَدِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ عِنْدَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِلصَّغِيرِ عَلَيْهِ وَيَحْبِسَهُ لَأَجْلِ الْوَلَدِ ، وَإِذَا هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ؛ إذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَلَاكِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَلَاكِ ، لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَلَدُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ ، وَالْوَصِيُّ لَوْ فَعَلَ هَذَا مِنْ الْيَتِيمِ ، لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلَا ارْتِهَانُهُ ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا يُشْكِلُ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا شِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا ، فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا ؛ إنْ كَانَ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ ، لَكِنْ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ وَلَا خَيْرَ لَهُ فِي الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ أَبَدًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ فَلَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ .
كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا ؛ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ : إيفَاءُ الدَّيْنِ وَقَضَاؤُهُ ، وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ ، ثُمَّ إذَا أَذِنَ الْمَالِكُ بِالرَّهْنِ فَإِذْنُهُ بِالرَّهْنِ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُطْلَقًا ، وَإِمَّا إنْ كَانَ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ شَاءَ ، وَفِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَمِنْ أَيِّ إنْسَانٍ أَرَادَ ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ أَصْلٌ ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِأَنْ سَمَّى قَدْرًا أَوْ
جِنْسًا أَوْ مَكَانًا أَوْ إنْسَانًا يَتَقَيَّدُ بِهِ ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِعَشْرَةٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا بِأَقَلَّ ؛ ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِإِذْنٍ يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِقَدْرِ الْإِذْنِ ، وَالْإِذْنُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الزِّيَادَةَ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ بِالْأَكْثَرِ وَلَا بِالْأَقَلِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ وَالْمَالِكَ إنَّمَا جَعَلَهُ مَضْمُونًا بِالْقَدْرِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِهِ مُفِيدًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِجِنْسٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ قَدْ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ بَعْضٍ ، فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْجِنْسِ مُفِيدًا .
وَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْكُوفَةِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْبَصْرَةِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان مُفِيدٌ ، فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ ، وَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا ، فَإِنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ إذَا هَلَكَ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ غَاصِبًا ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَصِحَّ ، فَبَقِيَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ لَا قَبْلَ الرَّهْنِ وَلَا بَعْدَ الِانْفِكَاكِ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ ؛ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ إلَّا بِالرَّهْنِ ، فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ ، ثُمَّ رَهَنَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ، بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ حِينَ رَهَنَ ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ ، ثُمَّ لَمَّا رَهَنَهُ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ،
كَالْمُودِعِ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بَعْدَ مَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَعَارَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا فَخَالَفَ ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ إنَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلِانْتِفَاعِ لَيْسَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ يَدَ نَفْسِهِ ، حَيْثُ تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ إلَيْهِ فَلَمْ تَكُنْ بِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ رَادًّا لِلْمَالِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ ، فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ .
( فَأَمَّا ) الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فَيَدُهُ قَبْلَ الرَّهْنِ يَدُ الْمَالِكِ ، فَإِذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ ، فَقَدْ رَدَّ الْمَالَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي قَبْضِ الْعَارِيَّةِ لَا فِي قَبْضِ الرَّهْنِ ، وَقَبْضُ الْعَارِيَّةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ لَا قَبْضُ ضَمَانٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا افْتَكَّهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِافْتِكَاكِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَادَ عَارِيَّةً فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي قَبْضِ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ وَكَّلَ الرَّاهِنُ يَعْنِي الْمُسْتَعِيرُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَحَدًا فَقَبَضَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْقَابِضِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ فِي عِيَالِهِ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ ، وَالْمَالِكُ رَضِيَ بِيَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ كَيَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِيَدِهِ ، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ رَهَنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ ، ضَمِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُعِيرِ قَدْرَ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ بِالرَّهْنِ ، إذْ الرَّهْنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ فَسَقَطَ بَعْضُ الدَّيْنِ ، ضَمِنَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ الْقَدْرَ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ الْقَدْرَ ، فَكَانَ
الْمُسْتَعِيرُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِإِنْسَانٍ فَقَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا ، فَمَا قَضَى يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَقْبِضْ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ الرَّاهِنُ عَنْ الِافْتِكَاكِ فَافْتَكَّهُ الْمَالِكُ ، لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا قَضَى عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَمْلِكُ الدَّيْنَ بِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهَا ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ رَهَنَ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفٌ فَقَضَى الْمَالِكُ أَلْفَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِأَلْفَيْنِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ قَدْرُ الدَّيْنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْهَلَاكِ إلَّا قَدْرَ الدَّيْنِ ، فَإِذَا قَضَى الْمَالِكُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُقَدَّرِ ، كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهَا .
( وَجْهُ ) الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَالِكَ مُضْطَرٌّ إلَى قَضَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ الَّذِي رَهْنَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالَهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِحَيْثُ لَا فِكَاكَ لَهُ إلَّا بِقَضَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ ، فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي قَضَاءِ الْكُلِّ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ دَلَالَةً ، كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَضَاهُ الْمُعِيرُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ ، لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا قَضَى كَذَا هَذَا ، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمُعِيرِ ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ وَيُسَلِّمُ الرَّهْنَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِتَخَلُّصِ مِلْكِهِ وَإِزَالَةِ الْعَلَقِ عَنْهُ ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُعِيرُ وَقَدْ هَلَكَ الرَّهْنُ فَقَالَ الْمُعِيرُ : هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ : هَلَكَ قَبْلَ أَنْ أَرْهَنَهُ أَوْ بَعْدَ مَا افْتَكَّيْتُهُ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِكَوْنِهِ قَاضِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ الْقَضَاءَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ .
وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمَجْهُولِ وَلَا يَجُوزُ التَّسْلِيمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْكَلَامُ فِي الْقَبْضِ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقَبْضِ وَمَاهِيَّتِهِ ، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ شَرْطٌ ، وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْهِبَةِ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالْقَبُولِ حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُرْهِنُ فُلَانًا شَيْئًا فَرَهَنَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ يَحْنَثُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ لَا يَحْنَثُ كَمَا فِي الْهِبَةِ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ رُكْنًا ، لَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الرَّهْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ { مَقْبُوضَةٌ } مَعْنًى ، فَدَلَّ ذِكْرُ الْقَبْضِ مَقْرُونًا بِذَكَرِ الرَّهْنِ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا شَرْطٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرَّهْنَ بِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهِ شَرْطًا ؛ صِيَانَةً لِخَبَرِهِ تَعَالَى عَنْ الْخُلْفِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِلْحَالِ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ .
وَلَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ، لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ .
وَلَوْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ يَدِهِ لِيَحْبِسَهُ رَهْنًا ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ أَدْخَلَاهُ فِي الرَّهْنِ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ ، وَلَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْعَدْلِ وَقَبَضَهُ الْعَدْلُ ، جَازَ وَيَكُونُ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ ؛ وَلِأَنَّ قَبْضَ الْعَدْلِ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ مَعْنًى وَلَوْ قَبْضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ عَدْلٍ آخَرَ وَوَضَعَاهُ فِي يَدِهِ جَازَ ؛ ؛ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعُهُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ لِتَرَاضِيهِمَا ، فَيَجُوزُ وَضَعْهُ فِي يَدِ الثَّانِي بِتَرَاضِيهِمَا ، وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَوَضَعَا فِي يَدِهِ جَازَ ؛ ؛ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعه فِي يَدِ الْأَوَّلِ لِتُرَاضِيهِمَا ، فَيَجُوزُ وَضْعُهُ فِي يَدِ الثَّانِي بِتَرَاضِيهِمَا ، وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَوَضَعَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعُهُ فِي يَدِهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ .
وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ وَوَضَعَهُ فِي يَدِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ لِلْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ ، وَقَدْ خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ يَدِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَدُهُ وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ .
وَلَوْ رَهَنَ رَهْنًا وَسَلَّطَ عَدْلًا عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَقْبِضْ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِالْقَبْضِ ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ فَصَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ مُشَاعًا وَسَلَّطَهُ عَلَى بَيْعِهِ ، فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ جَعَلَ عَدْلًا فِي الْإِمْسَاكِ وَعَدْلًا فِي الْبَيْعِ ، جَازَ ؛ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَقْصُودٌ فَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالتَّوْكِيلِ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ فَأَنْوَاعٌ .
( مِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْهِبَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِيمَا لَهُ صِحَّةٌ بِدُونِ الْقَبْضِ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَأَنْ يَكُونَ شَرْطٌ فِيمَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْقَبْضِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْبَابِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ كَمَا فِي الْهِبَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ ، وَذَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ كَذَا هَذَا ، ثُمَّ نَقُولُ : الْإِذْنُ نَوَعَانِ : نَصٌّ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى النَّصِّ دَلَالَةً فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : أَذِنْتُ لَهُ بِالْقَبْضِ أَوْ رَضِيت بِهِ أَوْ اقْبِضْ ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى ، فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ اسْتِحْسَانًا ، وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَالثَّانِي نَحْوُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَيَسْكُتُ وَلَا يَنْهَاهُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا ، وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَصِحَّ ، كَمَا لَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَصِحَّتِهِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ .
( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ وَجَدَ الْإِذْنَ هَهُنَا دَلَالَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى إيجَابِ الرَّهْنِ ؛ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الْقَصْدِ إلَى إيجَابِ حُكْمِهِ ، وَلَا ثُبُوتَ لِحُكْمِهِ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ بِدُونِ الْإِذْنِ ، فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ ، وَالْإِقْدَامُ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، فَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ هُنَاكَ نَصًّا وَدَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِقْدَامُ عَلَى إيجَابِهِ دَلِيلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِذْنِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ رَهْنَ شَيْئًا
مُتَّصِلًا بِمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الرَّهْنُ ، كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِيهِ إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ ، فَفُصِلَ وَقُبِضَ فَإِنْ قُبِضَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ هَهُنَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ قُبِضَ بِإِذْنِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِي الْهِبَةِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( وَمِنْهَا ) الْحِيَازَةُ عِنْدَنَا فَلَا يَصِحُّ قَبْضُ الْمُشَاعِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقَبْضُ الْمُشَاعِ صَحِيحٌ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَقْدَحُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ وَلَا فِي شَرْطِهِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ عِنْدَهُ : كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَدَلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ وَشَرْطُهُ هُوَ الْقَبْضُ ، وَإِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ قَبْضَ النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ فَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ قَبْضِ الشَّائِعِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الشُّيُوعَ فِيهَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَأَنَّهُ يَخُصُّ الْمَقْسُومَ ، وَسَوَاءٌ رَهَنَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ عَلَى الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ ، صُورَتُهُ : إذَا رَهَنَ شَيْئًا وَسَلَّطَ الْمُرْتَهِنَ أَوْ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِهِ كَيْفَ شَاءَ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا ، فَبَاعَ نِصْفَهُ شَائِعًا ، أَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الرَّهْنِ شَائِعًا .
( وَجْهُ ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَالَ الْبَقَاءِ لَا يُقَاسُ عَلَى حَالِ الِابْتِدَاءِ ؛ ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ ؛ لِهَذَا فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَ الطَّارِئِ وَالْمُقَارَنِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ ، كَالْعِدَّةِ الطَّارِئَةِ وَالْإِبَاقِ الطَّارِئِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَكَوْنُ الْحِيَازَةِ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا يَدُلُّ