كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
الشَّافِعِيِّ يُكْمَلُ النِّصَابُ بِمَا عُجِّلَ وَيَقَعُ زَكَاةً ، وَصُورَتُهُ إذَا عَجَّلَ خَمْسَةً عَنْ مِائَتَيْنِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ ، أَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ جَائِزٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَجَّلَ وَقَعَ زَكَاةً عَنْ كُلِّ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي إتْمَامِ النِّصَابِ وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى مَالٌ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ كَمَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْإِمَامِ .
وَلَوْ اسْتَفَادَ خَمْسَةً فِي آخِرِ الْحَوْلِ جَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةً فَانْتَقَصَ النِّصَابُ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكَمِّلُ بِهِ النِّصَابَ بَعْدَ الْحَوْلِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ الثَّانِي وَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الثَّانِي وَمَا عُجِّلَ يَكُونُ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّهُ عُجِّلَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ خَمْسَةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ وَدَخَلَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ نَاقِصٌ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ كَامِلٌ لَا تُجْزِي الْخَمْسَةُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى وَلَا عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى كَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي آخِرِهَا وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي أَوَّلِهَا فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي السَّنَتَيْنِ فَلَا يَقَعُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً عَنْهُمَا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا حَتَّى انْتَقَصَ مِنْهَا خَمْسَةً ثُمَّ إنَّهُ عَجَّلَ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَةً حَتَّى انْتَقَصَ مِنْهَا خَمْسَةً أُخْرَى فَصَارَ الْمَالُ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَقَدْ
اسْتَفَادَ عَشْرَةً حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْخَمْسَةَ الَّتِي عَجَّلَ لِلْحَوْلِ الثَّانِي جَائِزَةٌ طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْزِئَهُ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا تَمَّ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَصَارَتْ خَمْسَةٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَاجِبَةً وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَانْعَقَدَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ فَكَانَ تَعْجِيلُ الْخَمْسَةِ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَعْجِيلًا حَالَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى وَتَمَامُ السَّنَةِ الْأُولَى يَتَعَقَّبُهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالْوُجُوبُ ثَبَتَ مُقَارِنًا لِذَلِكَ الْجُزْءِ ، وَالنِّصَابُ كَانَ كَامِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ انْتَقَصَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْكَمَالِ فِي طَرَفَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَجَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ حَالِ كَمَالِ النِّصَابِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي صِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إلَى يَدِ الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلُ فِي يَدِ الْإِمَامِ قَائِمًا لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ لَمْ يَتِمَّ الصَّرْفُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُصَدِّقِ فِي الصَّدَقَةِ الْمُعَجَّلَةِ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي دَفْعِ الْمُعَجَّلِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَدَ الْفَقِيرِ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْبِضُ لَهُ فَلَمْ يَتِمَّ الصَّرْفُ فَلَمْ تَقَعْ صَدَقَةً أَصْلًا .
وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ اسْتَسْلَفَ الْإِمَامُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا أَهْلِ السُّهْمَانِ يُضْمَنُ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ الْأَخْذُ وَأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي مَصْنُوعَهُ .
وَلَوْ دَفَعَ الْإِمَامُ الْمُعَجَّلَ إلَى فَقِيرٍ فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَسْتَرِدُّهُ الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَوْنَ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَهُوَ لَيْسَ مَحَلَّ الصَّرْفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَقَعُ زَكَاةً إلَّا إذَا كَانَ يَسَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَصْلًا فَلَا يُقْطَعُ التَّبَعُ عَنْ أَصْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْغِنَى الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا إذَا دَفَعَهَا إلَى
الْفَقِيرِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ ثُمَّ أَيْسَرَ .
وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْفَقِيرِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَالَ لَهُ إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْفَقِيرُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَمَا إذَا لَمْ يَقُلْ إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَلَوْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَعَجَّلَ زَكَاةَ جِنْسٍ مِنْهَا ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ جَازَ الْمُعَجَّلُ عَنْ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ مَالٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضُمُّ الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي التَّعْجِيلِ لَغْوًا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ السَّوَائِمِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ شَاةً عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْإِبِلُ أَنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يَجُوزُ عَنْ زَكَاةِ الْغَنَمِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ صَحِيحَةً فَالتَّعْجِيلُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَقَعُ عَنْ الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ : مِنْهَا هَلَاكُ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ .
وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الرِّدَّةُ لَا تُسْقِطُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَإِذَا أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ أَنَّهُمَا قَادِرَانِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْأَدَاءُ كَذَا هَذَا ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا فَتَسْقُطُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ كَلَامٌ فَاسِدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا لِتَبَعِهِ وَجَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا مَوْتُ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ ، أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُوصِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُوصِ تَسْقُطُ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، أَوْ النَّذْرُ ، أَوْ الْكَفَّارَاتُ ، أَوْ الصَّوْمُ ، أَوْ الصَّلَاةُ ، أَوْ النَّفَقَاتُ ، أَوْ الْخَرَاجُ ، أَوْ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ .
وَإِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ حَتَّى صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ ، أَوْصَى بِالْأَدَاءِ لَا يَسْقُطُ وَيُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِاخْتِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ إمَّا بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِأَمْرِهِ ، أَوْ إنَابَتِهِ غَيْرَهُ فَيَقُومُ النَّائِبُ مَقَامَهُ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا بِيَدِ النَّائِبِ ، وَإِذَا ، أَوْصَى فَقَدْ أَنَابَ وَإِذَا لَمْ يُوصِ فَلَمْ يُنِبْ ، فَلَوْ جَعَلَ الْوَارِثُ نَائِبًا عَنْهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ إنَابَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ إنَابَةً جَبْرِيَّةً وَالْجَبْرُ يُنَافِي الْعِبَادَةَ إذْ الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ جَبْرًا ، وَلَوْ أَخَذَ لَا
تَسْقُط عَنْهُ الزَّكَاةُ ، وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ ، وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَكَمَا ثَبَتَ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ جَمِيعًا فَإِذَا ثَبَتَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَعِنْدَهُ الزَّكَاةُ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفَقِيرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ وَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا .
وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَيْهِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ أَدَّى الزَّكَاةَ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْمُؤَدِّي وَهُوَ الْمَالِكُ وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ فَيَنْقَطِعُ حَوْلُهُ ، وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ بَلْ هِيَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ نَفْسِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ إذْ الْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُورَثَ فِي عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمُورَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي .
بَيَانِ فَرْضِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْفَرْضِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ : إنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعُشْرُ ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَإِنْ قِيلَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَكَاةَ الْحُبُوبِ لَا تُخْرَجُ يَوْمَ الْحَصَادِ بَلْ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ وَالْكَيْلِ لِيَظْهَرَ مِقْدَارُهَا فَيُخْرَجُ عُشْرُهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْعُشْرِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَآتُوا حَقَّهُ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ يَوْمَ حَصَادِهِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ فَكَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْحَقِّ لَا لِلْإِيتَاءِ .
عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْخَضْرَاوَاتِ وَإِنَّمَا يُخْرَجُ الْحَقُّ مِنْهَا يَوْمَ الْحَصَادِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَلَا يُنْتَظَرُ شَيْءٌ آخَرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ هَذَا الْحَقِّ غَيْرُ مُبَيَّنٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ ثُمَّ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ فَبَيَّنَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ } فَصَارَ مُفَسَّرًا كَذَا هَذَا .
وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ لِلْأَغْنِيَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعُشْرِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ عُرِفَ مِقْدَارُ الْحَقِّ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُشْرِ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْعُشْرِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْفَرَائِضِ وَمِنْ بَابِ تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ الذُّنُوبِ وَتَزْكِيَتِهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ فَعَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهِ فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً ، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ لِلْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً ، أَوْ تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ أَصَابَ الْخَارِجَ آفَةٌ فَهَلَكَ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَا الْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا .
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَتَمَكَّنَ مِنْ زِرَاعَتِهَا فَلَمْ تُزْرَعْ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ لِعَدَمِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ يَجِبُ الْخَرَاجُ لِوُجُودِ الْخَارِجِ تَقْدِيرًا وَلَوْ كَانَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ نَزَّةً ، أَوْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الزِّرَاعَةُ ، أَوْ سَبْخَةً ، أَوْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا الْمَاءُ فَلَا خَرَاجَ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ فِيهِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ وَإِنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ ، أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ ، وَفِي وَجْهٍ فِيهِ خِلَافٌ أَمَّا الَّذِي يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجَّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ وَبَعْدَ النَّبَاتِ ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَصَلَهُ هَكَذَا يَجِبُ الْعُشْرُ ؟ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَأَمَّا الَّذِي فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ النَّبَاتِ ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ لَا الْخَارِجُ فَكَانَ تَعْجِيلًا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ سَبَبَ الْخُرُوجِ مَوْجُودٌ وَهُوَ
الزِّرَاعَةُ فَكَانَ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَيَجُوزُ .
وَأَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الثِّمَارِ فَإِنْ عَجَّلَ بَعْدَ طُلُوعِهَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ عَجَّلَ قَبْلَ الطُّلُوعِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجَعَلَ الْأَشْجَارَ لِلثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِ لِلْحُبُوبِ وَهُنَاكَ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَذَا هَهُنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّجَرَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّهُ حَطَبٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ ؟ فَأَمَّا سَاقُ الزَّرْعِ فَمَحَلٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ السَّاقَ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ يَجِبُ الْعُشْرُ .
وَيَجُوز تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ لَا تَحْقِيقًا وَقَدْ وُجِدَ التَّمَكُّنُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ كَوْنُهُ ذِمِّيًّا وَقَدْ وُجِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَبَعْضُهَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ أَمَّا .
شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ فَنَوْعَانِ : .
أَحَدُهُمَا الْإِسْلَامُ وَأَنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ هَذَا الْحَقِّ فَلَا يُبْتَدَأُ بِهَذَا الْحَقِّ إلَّا عَلَى مُسْلِمٍ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا ابْتِدَاءً فَلَا يُبْتَدَأُ بِهِ عَلَيْهِ .
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَحَوَّلَ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ حَتَّى إنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ عُشْرَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَتَبَدَّلَ الْحَقُّ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : لَمَّا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْكَافِرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ يَكُونُ مُضَاعَفًا كَالْوَاجِبِ عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ الذِّمِّيُّ بِأَرْضِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يُضْرَبُ عَلَيْهَا فَضَرَبْنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَالْخَرَاجُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ كَمَا لَوْ جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ كَمَا اشْتَرَى
صَارَتْ خَرَاجِيَّةً وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا سَوَاءٌ زَرَعَ ، أَوْ لَمْ يَزْرَعْ كَذَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ رَجُلٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي عَلَى زَرْعِهَا فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْبَائِعِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعِ هَذَا الْعُشْرِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْوَاجِبِ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ أَيْضًا .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَةِ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَالًا مَأْخُوذًا مِنْ الْكَافِرِ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ .
وَلَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَلَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ إذَا اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّغْيِيرِ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ .
وَلَوْ بَاعَ الْمُسْلِمُ مِنْ ذِمِّيٍّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَأَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ فَفِيهَا الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ فَكَانَ انْتِقَالًا مِنْ مُسْلِمٍ إلَى مُسْلِمٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَاسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ مِنْهُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ عَادَتْ إلَى الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ إذَا فُسِخَ يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَصْلِ وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَرْتَفِعُ بِأَحْكَامِهِ وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَعَلَى رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا
بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَحَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ زَائِدٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا فَمُنِعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ لِعَدَمِ حُدُوثِ الْعَيْبِ فَإِنْ رَدَّهَا بِرِضَا الْبَائِعِ لَا تَعُودُ عُشْرِيَّةً بَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِرِضَا الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ ، وَالْأَرْضُ إذَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً لَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ .
وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ مُؤْنَةٍ ضُرِبَتْ عَلَى أَرْضٍ أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِ الْمَالِكِ ، وَفِقْهُهُ مَا ذَكَرْنَا وَهُمَا يَقُولَانِ الْأَصْلُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ إذَا وُجِدَ الْمُغَيِّرُ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا وَهُوَ قَضِيَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ ، أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْعُشْرَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَغَيَّرُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا لِكَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا تَغْلِبِيًّا إذْ التَّضْعِيفُ يَخْتَصُّ بِهِمْ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ التَّضْعِيفُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا خَرَاجًا عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَتَفَرَّعُ التَّغَيُّرُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْبَيْعِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيَجِبُ عُشْرٌ وَاحِدٌ كَمَا كَانَ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَشْرٌ وَاحِدٌ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي التَّغْلِبِيِّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ مِنْ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرَانِ فِي قَوْلِهِمْ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضَ عُشْرٍ فَبَاعَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ عَلَى التَّغْلِبِيِّ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ يَخْتَصُّ بِالتَّغْلَبِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالثَّانِي الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَفْرُوضًا وَنَعْنِي بِهِ سَبَبَ الْعِلْمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى يَجِبَ الْعُشْرُ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ؛ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ جَبْرًا وَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا لَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ يَقَعُ عِبَادَةً فَيَنَالُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ .
وَإِذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ فِعْلِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَوَابُ ذَهَابِ مَالِهِ فِي وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ ثَوَابِ الْمَصَائِبِ كُرْهًا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ جَبْرًا وَإِنْ أُخِذَ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَالطَّعَامُ قَائِمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا مِلْكُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مِلْكُ الْخَارِجِ فَيَجِبُ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا وَهِيَ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ؛ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ لَا فِي الْأَرْضِ فَكَانَ مِلْكُ الْأَرْضِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَيَجِبُ فِي أَرْضِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ آجَرَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ فَعُشْرُ الْخَارِجِ عَلَى الْمُؤَاجَرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ .
وَجْهُ
قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخَارِجَ لِلْمُؤَاجِرِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ بَدَلَهُ وَهُوَ الْأُجْرَةُ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ بِنَفْسِهِ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ قَابِلٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا الْخَارِجِ ، وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُمَا وَالْخَارِجُ يُسَلَّمُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَارِجَ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ إنْ كَانَ عَيْنًا حَقِيقِيَّةً فَلَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ فَيُقَابِلُهُ الْأَجْرُ فَكَانَ الْخَارِجُ لِلْآجِرِ مَعْنًى فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ هَلَكَ الْخَارِجُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَصَادِ فَلَا عُشْرَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ وَيَجِبُ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُؤَاجِرِ عُشْرُ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعُشْرُ بِهَلَاكِهِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَجْرُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ الْخَارِجُ وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ ، أَوْ قَبْلَهُ هَلَكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُشْرِ .
وَلَوْ أَعَارَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَالْعَشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَى الْمُعِيرِ وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُعِيرِ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَ هِبَةَ الزَّرْعِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ صُورَةً وَمَعْنًى إذْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُعِيرِ فِي مُقَابِلَتِهَا عِوَضٌ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ .
وَلَوْ
أَعَارَهَا مِنْ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُمَا فِي الْخَارِجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ دَفَعَهَا مُزَارِعَةً فَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَالْمُزَارِعَةُ جَائِزَةٌ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعُشْرُ عَلَيْهِمَا .
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ وَلَوْ كَانَ يُجِيزُهَا كَانَ يَجِبُ عَلَى مَذْهَبِهِ جَمِيعُ الْعُشْرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ فِي حِصَّتِهِ جَمِيعَ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي عَيْنِهِ وَفِي حِصَّةِ الْمُزَارِعِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ .
وَلَوْ غَصَبَ غَاصِبٌ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْعُشْرُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْخَارِجِ لَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ مَنْفَعَةٌ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ وَإِنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنْهُ وَعُشْرُ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا فِي الْخَارِجِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَخَرَاجُهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا فِي الْغَصْبِ إذَا لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِب وَإِنْ نَقَصَتْهَا فَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : اُنْظُرْ إلَى نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ فَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى الْغَاصِبِ وَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ .
وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ وَفِيهَا زَرْعٌ قَدْ أَدْرَكَ مَعَ زَرْعِهَا أَوْ بَاعَ الزَّرْعَ خَاصَّةً فَعُشْرُهُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْإِدْرَاكِ .
وَلَوْ بَاعَهَا
وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَإِنْ قَصَلَهُ الْمُشْتَرِي لِلْحَالِ فَعُشْرُهُ عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فِي الْبَقْلِ بِالْقَصْلِ .
وَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى أَدْرَكَ فَعُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِتَحَوُّلِ الْوُجُوبِ مِنْ السَّاقِ إلَى الْحَبِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : عُشْرُ قَدْرِ الْبَقْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَعُشْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الثِّمَارِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
وَكَذَا عَدَمُ الدَّيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا الْعُشْرُ فَالْعُشْرُ مَعَ الْخَرَاجِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجْتَمِعَانِ فَيَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ حَتَّى قَالَ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَلَا يَتَدَافَعَانِ أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلَا شَكَّ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ .
وَأَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْخَارِجُ حَتَّى لَا يَجِبُ بِدُونِهِ وَالْخَرَاجُ يَجِبُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ } ؛ وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَوُلَاةِ الْجَوْرِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ بَاطِلًا ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَهِيَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا الْأَرْضُ النَّامِيَةُ أَنَّهُمَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ ، يُقَالُ : خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِيهِمَا هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا وَعَطَّلَهَا يَجِبُ الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ النَّمَاءِ كَانَ لِتَقْصِيرٍ مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ مَوْجُودًا
تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَوَاتُ لَا بِتَقْصِيرِهِ بِأَنْ هَلَكَ لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْعُشْرُ بِدُونِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ ، أَوْ الْخَرَاجَ وَلَا تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ ، أَوْ الْخَرَاجُ وَالزَّكَاةُ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْحَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُضَافُ الْكُلُّ إلَيْهَا ؟ يُقَالُ : عُشْرِ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَزَكَاةُ الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ لَا يَجِبُ فِيهَا حَقَّانِ مِنْهَا بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ مَعَ التِّجَارَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ فَإِيجَابُ الْعُشْرِ ، أَوْ الْخَرَاجِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمَا أَعَمُّ وُجُوبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِعُذْرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ ، وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهِ فَكَانَ إيجَابُهُمَا أَوْلَى .
وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ عُشْرِيَّةً مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعُشْرِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ .
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ نَوْعَانِ : عُشْرِيَّةٌ وَخَرَاجِيَّةٌ ، أَمَّا الْعُشْرِيَّةُ فَمِنْهَا أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَرْضُ الْعَرَبِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَعَدَنَ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حِجْرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ
وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْبَرِّيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَرْضَ عُشْرٍ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ خَرَاجًا فَدَلَّ أَنَّهَا عُشْرِيَّةٌ إذْ الْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ إحْدَى الْمُؤْنَتَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يُشْبِهُ الْفَيْءَ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي رِقَابِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ لَا تَخْلُوَ عَنْ مُؤْنَةٍ إمَّا الْعُشْرُ وَإِمَّا الْخَرَاجُ ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْعُشْرِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ وَمِنْهَا دَارُ الْمُسْلِمِ إذَا اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْعُشْرِ فَإِنْ كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهُوَ خَرَاجِيٌّ .
وَأَمَّا مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عَشْرِيَّة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ ، أَوْ بِبِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا ، أَوْ بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ ، وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْأَعَاجِمِ مِثْلَ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخَرَاجَ لَا يُبْتَدَأُ بِأَرْضِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الصَّغَارِ كَالْفَيْءِ إلَّا إذَا الْتَزَمَهُ فَإِذَا اسْتَنْبَطَ عَيْنًا ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا ، أَوْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَلَمْ يَلْتَزِمْ الْخَرَاجَ فَلَا يُوضَعُ عَلَيْهِ وَإِذَا أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْخَرَاجَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَيْءِ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ الْخَرَاجِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ كَحَرِيمِ الدَّارِ مِنْ تَوَابِعِ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا فِي حَيِّزِ الْقَرْيَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْقَرْيَةِ فَكَانَ حَقًّا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْبَصْرَةُ خَرَاجِيَّةً ؛
لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَيْثُ وَضَعُوا عَلَيْهِ الْعُشْرَ .
وَأَمَّا الْخَرَاجِيَّةُ فَمِنْهَا الْأَرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَمَنَّ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهَا فِي يَدِ أَرْبَابِهَا فَإِنَّهُ يَضَعُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ أَسْلَمُوا ، أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا ، وَأَرْضُ السَّوَادِ كُلُّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ وَاحِدٍ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانِ وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا فَتَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَنْفَذَ عَلَيْهَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَمَسَحَاهَا وَوَضَعَا عَلَيْهِ الْخَرَاجَ ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الْكَافِرِ ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْخَرَاجِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنْ الْعُشْرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ خَرَاجِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَتُرِكَتْ عَلَى أَهْلِهَا وَلَمْ تُقْسَمْ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ لَمْ يَضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَصَارَتْ مَكَّةُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ .
وَكَذَا إذَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ مِنْ جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ عَلَى وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، أَوْ الدَّنَانِيرِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ نَصَارَى بَنِي نَجْرَانَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرَاضِيِهِمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ } وَفِي رِوَايَةِ { عَلَى أَلْفَيْ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ } تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي وَقْتَيْنِ لِكُلِّ سَنَةٍ نِصْفُهَا فِي رَجَبَ وَنِصْفُهَا فِي الْمُحَرَّمِ .
وَكَذَا إذَا أَجْلَاهُمْ
وَنَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِينَ .
وَمِنْهَا أَرْضُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا وَذَلِكَ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغْيِيرِ حَالِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِيِّ وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الَّتِي أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُ وَهِيَ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَمَاءُ الْخَرَاجِ هُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ الَّتِي حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي ، وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْقَنَوَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَاءُ الْعُشْرِ هُوَ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي كَسَيْحُونٍ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِيَاهَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ خَرَاجِيَّةٌ لَإِمْكَانِ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَدِّ السُّفُنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ شِبْهَ الْقَنْطَرَةِ .
وَمِنْهَا أَرْضُ الْمَوَاتِ الَّتِي أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ وَأَرْضُ الْغَنِيمَةِ الَّتِي رَضَخَهَا الْإِمَامُ لِذِمِّيٍّ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَدَارُ الذِّمِّيِّ الَّتِي اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا ، أَوْ كَرْمًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ابْتِدَاءِ ضَرْبِ الْمُؤْنَةِ عَلَى أَرْضِ الْكَافِرِ الْخَرَاجُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا .
وَمِنْهَا أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْمَحَلِّيَّةِ وُجُودُ الْخَارِجِ حَتَّى أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَلَا خَارِجَ مُحَالٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ وَتُسْتَغَلُّ الْأَرْضُ بِهِ عَادَةً فَلَا عُشْرَ فِي الْحَطَبِ
وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسْتَنْمَى بِهَا الْأَرْضِ وَلَا تُسْتَغَلُّ بِهَا عَادَةً ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْمُو بِهَا بَلْ تَفْسُدُ فَلَمْ تَكُنْ نَمَاءَ الْأَرْضِ حَتَّى قَالُوا فِي الْأَرْضِ : إذَا اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً وَفِي شَجَرِهِ الْخِلَافُ ، الَّتِي تُقْطَعُ فِي كُلِّ ثَلَاثِ سِنِينَ ، أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَّةٌ وَافِرَةٌ وَيَجِبُ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَقَصَبِ الذَّرِيرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بِهِمَا نَمَاءُ الْأَرْضِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ فَأَمَّا كَوْنُ الْخَارِجِ مِمَّا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ ، أَوْ لَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْخَضْرَاوَاتُ كَالْبُقُولِ وَالرِّطَابِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَنَحْوِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْحُبُوبِ وَمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } .
وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَأَحَقُّ مَا تَتَنَاوَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْخَضْرَاوَاتِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْرَجَةُ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُخْرَجَةٍ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } أَيْ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي أَخْرَجْنَا لَكُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } أَيْ أَنْزَلْنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ وَهُوَ الْمَاءُ لَا عَيْنَ اللِّبَاسِ إذْ اللِّبَاسُ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أَيْ خَلَقَ
أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا هَذَا ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ قَامَ دَلِيلُ الْعُدُولِ هُنَاكَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْأَرْضِ وَالْإِنْبَاتَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } ؟ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبَاتِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحُبُوبِ وقَوْله تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَالْحَصَادُ الْقَطْعُ وَأَحَقُّ مَا يُحْمَلُ الْحَقُّ عَلَيْهِ الْخَضْرَاوَاتُ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَجِبُ إيتَاءُ الْحَقِّ مِنْهَا يَوْمَ الْقَطْعِ .
وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيَتَأَخَّرُ الْإِيتَاءُ فِيهَا إلَى وَقْتِ التَّنْقِيَةِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ وَالنَّمَاءُ بِالْخُضَرِ أَبْلَغُ ؛ لِأَنَّ رِيعَهَا ، أَوْفَرُ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَغَرِيبٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِمِثْلِهِ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ بَلْ أَرْبَابُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَ هَذَا نَفْيَ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَا النِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كَثِيرِ
الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ ، أَوْسُقٍ إذَا كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ جُمْلَتُهَا نِصْفُ مَنٍّ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْنَانٍ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ مَنٍّ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَاحْتَجَّا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ ، أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَإِنْ قِيلَ مَا تَلَوْتُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْتُمْ مِنْ السُّنَّةِ يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمِقْدَارِ الْمُوجَبِ مِنْهُ وَمَا رَوَيْنَا يَقْتَضِي الْمِقْدَارَ فَكَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ ، وَالْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَمَا لَا يَدْخُلُ وَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ خَبَرِ الْمِقْدَارِ
خَاصٌّ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَلَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِلْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِي الْبَيَانُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْبَيَانِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الصَّدَقَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَنَّ مَا دُونَ خَمْسَةِ ، أَوْسُقٍ مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ تَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَحْتَمِلُ الزَّكَاةَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، ثُمَّ نَذْكُرُ فُرُوعَ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي فَصْلَيْ الْخِلَافِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَالْوِفَاقِ فَنَقُولُ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعِنَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُجَفَّفَ مِنْهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ وَهُوَ الزَّبِيبُ فَيُخْرَصُ الْعِنَبُ جَافًّا ، فَإِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ مَا يَجِيءُ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ ، أَوْسُقٍ يَجِبُ فِي عِنَبِهِ الْعُشْرُ ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِنَبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا يَصْلُحُ لِلْمَاءِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْجَفَافِ .
وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ إذَا كَانَ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بِالتَّجْفِيفِ أَنَّهُ يُخْرَصُ ذَلِكَ جَافًّا فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا كَالتِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُفِّفَتْ تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَكَانَتْ كَالزَّبِيبِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا عُشْرَ فِي التِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالْخَرُّوبِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْضُهَا بِالتَّجْفِيفِ وَبَعْضُهَا بِالتَّشْقِيقِ
وَالتَّجْفِيفِ فَالِانْتِفَاعُ بِهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً وَيَجِبُ الْعُشْرَ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ وَيَغْلِبُ الِانْتِفَاعُ بِالْجَافِّ مِنْهَا فَأَشْبَهَتْ الزَّبِيبَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْبَصَلِ الْعُشْرَ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى السَّنَةِ وَيَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ وَلَا عُشْرَ فِي الْآسِ وَالْوَرْدِ وَالْوَسْمَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرَّيَاحِينِ وَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا .
وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : فِيهِ الْعُشْرُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا عُشْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ فَأَشْبَهَ الْآسَ وَالْوَرْدَ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً بِخِلَافِ الْآسِ وَالْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ إذَا بَلَغَ الْقُرْطُمُ وَالْحَبُّ خَمْسَةَ ، أَوْسُقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ زِرَاعَتِهَا الْحَبُّ ، وَالْحَبُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ الْعُشْرُ ، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَقَالَا فِي بِزْرِ الْقُنْبِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُقْصَدُ بِالزِّرَاعَةِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ عَامٌّ وَلَا شَيْءَ فِي الْقُنْبِ ؛ لِأَنَّهُ لِحَاءُ الشَّجَرِ فَأَشْبَهَ لِحَاءَ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا عُشْرَ فِيهِ فَكَذَا فِيهِ .
وَقَالَا فِي حَبِّ الصَّنَوْبَرِ إذَا بَلَغَ الْأَوْسُقَ فَفِيهِ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الِادِّخَارَ وَلَا شَيْءَ فِي خَشَبِهِ كَمَا لَا شَيْءَ فِي خَشَبِ سَائِرِ الشَّجَرِ ، وَيَجِبُ فِي الْكَرَوْيَا وَالْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْخَرْدَلِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجِبُ فِي السَّعْتَرِ وَالشُّونِيزِ وَالْحُلْبَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ فَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا ، وَقَصَبُ السُّكَّرِ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ فَإِذَا بَلَغَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : لِأَنَّهُ
يَبْقَى وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا ، وَلَا شَيْءَ فِي الْبَلُّوطِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ بِهِ ، وَلَا عُشْرَ فِي بِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالرُّطَبَةِ وَكُلِّ بِزْرٍ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهَا نَفْسُهَا بَلْ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَذَا لَا عُشْرَ فِيهِ عِنْدَهُمَا .
وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِهِمَا مَا إذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ حُكْمَ نَفْسِهِ ، أَوْ يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ جِنْسٍ بِانْفِرَادِهِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مَا إذَا أَخْرَجَتْ نَوْعَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ نَوْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَالْحَمْرَاءِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخِرِ سَوَاءٌ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ أَرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَيُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ ، وَإِنْ كَانَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ ، وَإِنْ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَتَعَيَّنَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ الْغَلَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تُضَمُّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُمَا ، وَإِنْ كَانَتَا لَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تُضَمُّ وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْإِدْرَاكِ أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي مَكَان وَاحِدٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُمَا وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْخَارِجِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي بَابِ
الزَّكَاةِ .
وَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُمَا فِي ، أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَنْفَعَتُهُمَا فَكَانَا كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا كَالدَّرَاهِمِ السُّودِ وَالْبِيضِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ النَّوْعُ مُخْتَلِفًا .
فَأَمَّا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّفَاضُلُ فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الضَّمِّ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُوسُف إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ فِي رَسَاتِيقَ مُخْتَلِفَةٍ وَالْعَامِلُ وَاحِدٌ ضَمَّ الْخَارِجَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَكَمَّلَ الْأَوْسُقَ بِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْعَامِلِينَ مُطَالَبَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي فِي عَمَلِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إذَا اتَّفَقَ الْمَالِكُ ضُمَّ الْخَارِجُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَرْضُونَ وَالْعُمَّالُ وَهَذَا لَا يُحَقِّقُ الْخِلَافَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَابَ فِي غَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْمَالِكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى الْمَالِكِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُخَاطَبٌ بِالْأَدَاءِ لِاجْتِمَاعِ النِّصَابِ فِي مِلْكِهِ وَإِنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُطَالَبَةِ الْعَامِلِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِهِمَا الْأَرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا أَخْرَجَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَأَرْضِ الْمَأْذُونِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَمَالُ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَقَدْ وُجِدَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْأَوْسُقِ عِنْدَهُمَا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ
وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةُ الْخَارِجِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَالْقُطْنُ يُعْتَبَرُ بِالْأَحْمَالِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَحْمَالٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَيُعْتَبَرُ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَثَمِائَةِ مَنٍّ فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ مَنٍّ ، وَالزَّعْفَرَانُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْنَانِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَمْنَانٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا ، وَكَذَلِكَ فِي السُّكَّرِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ فِي الْمَوْسُوقَاتِ لِكَوْنِ الْوَسْقِ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي بَابِهِ وَأَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْسُوقِ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اعْتِبَارُ الْوَسْقِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ صُورَةً وَمَعْنًى يُعْتَبَرُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَعْنًى وَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْسُوقِ .
وَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأَوْسُقِ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قَدْرَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ؛ لِأَنَّ الْعَسَلَ لَا يُكَالُ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِعَشْرَةِ أَرْطَالٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ خَمْسَ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسُونَ مَنًّا ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرْقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنًّا فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ تِسْعِينَ مَنًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ خَمْسَةِ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ
الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ فِي نِصَابِ الْعَسَلِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَ قِرَبٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَةَ أَمْنَانٍ فِي رِوَايَةٍ ، ثُمَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا عُشْرَ فِيهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ لَمْ يَثْبُتْ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ فَلَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ نَامِيَةً بِهَا ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ لِي نَحْلًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَدِّ عُشْرَهَا فَقَالَ أَبُو سَيَّارَةَ احْمِهَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَاهَا لَهُ ؟ } وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ بَطْنًا مِنْ فِهْرٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَخْلٍ لَهُمْ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يُحْمَى لَهُمْ وَادِيَيْنِ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا : إنَّمَا كَانَ شَيْئًا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ ذَلِكَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا النَّخْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَأَدَّوْا إلَيْهِ } ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ } ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فَنَقُولُ هُوَ مُلْحَقٌ بِنَمَائِهَا لِاعْتِبَارِ النَّاسِ إعْدَادَ الْأَرْضِ لَهَا وَلِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ أَنْوَارِ الشَّجَرِ فَكَانَ كَالثَّمَرِ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ أَزْهَارِ الشَّجَرِ وَلَا شَيْءَ فِي ثِمَارِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَلِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ فَلَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ لَاجْتَمَعَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا ، وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنَّمَاءِ وَيَجْرِي مَجْرَى الثِّمَارِ ، وَالنِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ الْعُشْرَ ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومَاتُ الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْخَارِجِ شَرْطٌ وَلَمَّا أَخَذَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَرْضِهِ .
وَالْحَوْلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ الْعُشْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ
حَقِيقَةً فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ .
وَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَارِجِ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ بَلْ فِي الذِّمَّةِ عُرِفَ ذَلِكَ بِتَوْظِيفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَظَّفَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْعُشْرِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ ، أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ عُشْرٌ كَامِلٌ ، وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ ، أَوْ الْعَيْنُ ، أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتِهَا وَلَوْ سُقِيَ الزَّرْعُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ سَيْحًا وَفِي بَعْضِهَا بِآلَةٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي السَّوْمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْغَلَّةِ مِنْ سَقْيٍ ، أَوْ عِمَارَةٍ ، أَوْ أَجْرِ الْحَافِظِ ، أَوْ أَجْرِ الْعُمَّالِ ، أَوْ نَفَقَةِ الْبَقَرِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ ، أَوْ دَالِيَةٍ ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ، أَوْجَبَ الْعُشْرَ وَنِصْفَ الْعُشْرِ مُطْلَقًا عَنْ احْتِسَابِ هَذِهِ الْمُؤَنِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ الْحَقَّ عَلَى التَّفَاوُتِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤَنِ وَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤَنُ لَارْتَفَعَ التَّفَاوُتُ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ نَوْعَانِ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ أَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَمَا وَظَّفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِي كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا وَدِرْهَمُ الْقَفِيزِ صَاعٌ وَالدِّرْهَمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ ، وَالْجَرِيبُ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ كِسْرَى يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَصَبَةٍ وَفِي جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ هَكَذَا وَظَّفَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا .
وَأَمَّا جَرِيبُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ النَّخِيلُ مُلْتَفَّةً جَعَلْت عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْأَرْضِ الَّتِي يُتَّخَذُ فِيهَا الزَّعْفَرَانُ قَدْرُ مَا تُطِيقُ فَيُنْظَرُ إلَى غَلَّتِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الرُّطَبَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ هَكَذَا ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا مَسَحَا سَوَادَ الْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَضَعَا عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا : بَلْ حَمَّلْنَا مَا تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ ؟ فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ
فَيُقَدَّرُ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ فَيُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَقَالُوا : نِهَايَةُ الطَّاقَةِ قَدْرُ نِصْفِ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ أَرْضُ زَعْفَرَانٍ فَزَرَعَ مَكَانَهُ الْحُبُوبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ : إنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَ حَيْثُ لَمْ يَزْرَعْ الزَّعْفَرَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطَّلَ الْأَرْضَ فَلَمْ يَزْرَعْ فِيهَا شَيْئًا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ كَذَا هَذَا .
وَكَذَا إذَا قَطَعَ كَرْمَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَزَرَعَ فِيهِ الْحُبُوبَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الْكَرْمِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ قَدْرَ الْخَرَاجِ لَا غَيْرَ يُؤْخَذُ نِصْفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَخْرَجَتْ مِثْلَيْ الْخَرَاجِ فَصَاعِدًا يُؤْخَذُ جَمِيعُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُطِيقُ قَدْرَ خَرَاجِهَا الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا يَنْقُضُ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا تُطِيقُ بِلَا خِلَافٍ .
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَوْضُوعِ أَنَّهُ هَلْ تُزَادُ أَمْ لَا ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تُزَادُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تُزَادُ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُوَظَّفِ إذَا كَانَتْ تُطِيقُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الطَّاقَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، وَالْقَدْرُ الْمَوْضُوعُ مِنْ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ مَنْصُوصٌ وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ .
وَأَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَفْتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً فَيَمُنَّ عَلَى أَهْلِهَا وَيَجْعَلَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْخَارِجِ ، أَوْ ثُلُثُهُ ، أَوْ رُبُعُهُ وَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَكَذَا فَعَلَ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْخَرَاجِ حُكْمَ الْعُشْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ إلَّا أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَالْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ عُشْرُ الْخَارِجِ ، أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ وَذَلِكَ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ قِيمَتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْجُزْءِ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَفْعِ الْقِيَمِ وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَوَقْتُ الْوُجُوبِ وَقْتُ خُرُوجِ الزَّرْعِ وَظُهُورِ الثَّمَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتُ الْإِدْرَاكِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتُ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ الثَّمَرُ قَدْ حُصِدَ فِي الْحَظِيرَةِ وَذُرِّيَ الْبُرُّ وَكَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ثُمَّ ذَهَبَ بَعْضُهُ كَانَ فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ الْعُشْرُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ هُوَ وَقْتُ التَّصْفِيَةِ فِي الزَّرْعِ وَوَقْتُ الْجُذَاذِ فِي الثَّمَرِ ، هُوَ يَقُولُ : تِلْكَ الْحَالُ هِيَ حَالُ تَنَاهِي عِظَمِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهَا فَكَانَتْ هِيَ حَالَ الْوُجُوبِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَيَوْمُ حَصَادِهِ هُوَ يَوْمُ إدْرَاكِهِ فَكَانَ هُوَ وَقْتَ الْوُجُوبِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهُ كَمَا خَرَجَ حُصِّلَ مُشْتَرَكًا كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } جَعَلَ الْخَارِجَ لِلْكُلِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَإِذَا عَرَفْتَ وَقْتَ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ فَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُضْمَنُ عُشْرُهُ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُضْمَنُ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ وَفِي الْهَلَاكِ أَيْضًا فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِالْهَالِكِ فَمَا هَلَكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَمَا هَلَكَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُعْتَبَرُ .
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ الزَّرْعَ أَوْ الثَّمَرَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ حَتَّى ضُمِّنَ أَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ
الْمُتْلِفِ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ وَأَدَّى عُشْرَهُ ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَدَّى قَدْرَ عُشْرِ الْمُتْلَفِ مِنْ ضَمَانِهِ وَمَا بَقِيَ فَعُشْرُهُ فِي الْخَارِجِ ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ صَاحِبُهُ ، أَوْ أَكَلَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ قُدِّرَ عُشْرُ مَا أَتْلَفَ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ الْبَاقِي يَكُونُ فِي الْخَارِجِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ وَالظُّهُورِ فَكَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ عُشْرَ الْمُتْلَفِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَلَا عُشْرَ فِي الْهَالِكِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ هَلَكَ كُلُّهُ ، أَوْ بَعْضُهُ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ لَا يُضْمَنُ بِالْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ قَلَّ ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا لَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي عِنْدَهُمَا بَلْ إنْ بَلَغَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا هَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ ، أَوْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ ، فَإِنْ هَلَكَ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَبَقِيَ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ ، قَلِيلًا كَانَ ، أَوْ كَثِيرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ نِصَابُ الْبَاقِي بِالْهَالِكِ ،
وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِي تَمَامِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ بَلْ يُعْتَبَرُ التَّمَامُ فِي الْبَاقِي ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَا فَلَا ، وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ : فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَقَدْرُ عُشْرِ الْمُسْتَهْلَكِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَعُشْرُ الْبَاقِي فِي الْخَارِجِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أُخِذَ الضَّمَانُ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أُخِذَ ضَمَانُهُ وَأَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ وَعُشْرَ الْبَاقِي مِنْهُ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَكَلَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الثَّمَرِ ، أَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَعُشْرُ مَا بَقِيَ يَكُونُ فِيهِ .
وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا أَكَلَ ، أَوْ أَطْعَمَ بِالْمَعْرُوفِ لَا يَضْمَنُ عُشْرَهُ لَكِنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ الْكُلُّ نِصَابًا أَدَّى عُشْرَ مَا بَقِيَ ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبُعَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ أَبَا خَيْثَمَةَ خَارِصًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ زَادَ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ زِدْتَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَمَا يُصِيبُ الرِّيحُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ } وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَرِيَّةِ الصَّدَقَةُ أَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْخَرْصِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِي الْمَالِ عَرِيَّةً وَوَصِيَّةً فَلَوْ ضَمِنَ عُشْرَ مَا تَصَدَّقَ ، أَوْ أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّخْفِيفُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ الْعُشْرِ وَفِيهِ حَرَجٌ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَفِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ ضَرَرٌ بِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي كُلِّ خَارِجٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي .
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَأْكُولِ أَفْضَلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُؤْكَلُ وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَازِمَةٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الْقَطْعُ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ وَأُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مَأْكُولًا أَوَبَاقِيًا عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ إيتَاءُ حَقِّهِ يَوْمَ حَصَادِهِ لَكِنْ مَا حَقُّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ عَنْ الْبَاقِي فَحَسْبُ أَمْ عَنْ الْبَاقِي وَالْمَأْكُولِ ؟ وَالْآيَةُ لَا تَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إذَا أَثْمَرَ } فَائِدَةٌ ، فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى مَا قُلْتُمْ وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ الْكَفَرَةِ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِجَعْلِهَا لِلْأَصْنَامِ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } أَيْ انْتَفِعُوا بِهَا وَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالصَّرْفِ إلَى الْأَصْنَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ { وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهَا وَرَدَتْ قَبْلَ حَدِيثِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ هَذَا النَّوْعِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ ، أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } فَلَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ رَأْسًا مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَإِنَّنَا ذَكَرْنَاهَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَلَا مَعْنًى لِلْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا هَلَاكُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِمَا فِيهِ كَهَلَاكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ ، وَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَيُؤَدَّى عُشْرُ الْبَاقِي قَلَّ الْبَاقِي ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ قَدْرِ النِّصَابِ إنْ بَلَغَ نِصَابًا يُؤَدَّى وَإِلَّا فَلَا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ قَدْرِ الْهَالِكِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أَخَذَ الضَّمَانَ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الضَّمَانِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ الْبَعْضُ بِأَنْ أَكَلَهُ ضِمْنَ عُشْرِ الْهَالِكِ وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ .
وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهَا مَوْتُ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ إذَا كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤَدَّى الْعُشْرُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي .
بَيَانِ مَا فِيهِ الْخُمُسُ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا لَا خُمُسَ فِيهِ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ أَخْذِ الْخُمُسِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا يُسَمَّى كَنْزًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الْأَرْضِ ، وَالثَّانِي يُسَمَّى مَعْدِنًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلْمَعْدِنِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِلْكَنْزِ مَجَازًا .
أَمَّا الْكَنْزُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ دَارِ الْحَرْبِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، أَوْ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَالْمُصْحَفِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ عَلَامَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهَا الصَّنَمُ ، أَوْ الصَّلِيبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، أَوْ لَا عَلَامَةَ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ كَالْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُغْنَمُ إلَّا أَنَّهُ مَالٌ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ كَالْمَعْدِنِ عَلَى مَا بُيِّنَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا
عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ فِي زَمَانِنَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ مَالِ الْكَفَرَةِ بَلْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ ، وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا بِوَضْعِ الْكَفَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَنْزِ فَقَالَ : فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَهُوَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا ، أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا ، أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا ، أَوْ صَغِيرًا ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَاجِدٍ وَوَاجِدٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ ؟ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَاَلَّذِي مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } وَلِأَنَّهُ إذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَإِنْ وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مَالُ الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ فَيُخَمَّسُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هِيَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ إنْ كَانَ حَيًّا وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إنْ عُرِفُوا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ وَلَا وَرَثَتُهُ تَكُون
لِأَقْصَى مَالِكٍ لِلْأَرْضِ ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ مَا وَصَلَتْ إلَيْهَا يَدُ الْغَانِمِينَ وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُ الْوَاجِدِ لَا غَيْرُ فَيَكُونُ غَنِيمَةً يُوجِبُ الْخُمُسَ ، وَاخْتِصَاصُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ ، وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ إنَّمَا مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا وُجِدَ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْغَانِمِينَ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ كَمَا وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَرَدَ عَلَى مَا فِيهَا فَمَلَكَ مَا فِيهَا وَبِالْبَيْعِ لَا يَزُولُ مَا فِيهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ زَوَالَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ ، وَالْبَيْعُ وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ لَا عَلَى مَا فِيهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا تَبَعًا لَهَا فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْخُطَّةِ وَكَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ وَصَارَ هَذَا كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً كَانَتْ ابْتَلَعَتْ لُؤْلُؤَةً ، أَوْ اصْطَادَ طَائِرًا كَانَ قَدْ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً أَنَّهُ يَمْلِكُ الْكُلَّ ، وَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ ، أَوْ الطَّائِرَ لَا تَزُولُ اللُّؤْلُؤَةُ وَالْجَوْهَرَةُ عَنْ مِلْكِهِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى السَّمَكَةِ وَالطَّيْرِ دُونَ اللُّؤْلُؤَةِ وَالْجَوْهَرَةِ كَذَا هَذَا فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ إيَّاهُ الْأَرْضَ ؟ وَالْإِمَامُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ جَوْرًا فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ الْجَوْرَ فِي الْقِسْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا الْأَرْضَ فَبَقِيَ الْكَنْزُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا رَقَبَةَ الْأَرْضِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْأَرْضَ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ خَرَجَ
الْجَوَابُ عَنْ وُجُوبِ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ حَتَّى يَسْقُطَ الْخُمُسُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ ، وَالثَّانِي أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُسَاوَاةِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْقِسْمَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ هَذَا إذَا وَجَدَ الْكَنْزَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلَا خُمُسَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَخَذَهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِانْعِدَامِ غَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ الْكُلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ ، أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ يَظْهَرُ فِي الْمَمْلُوكِ لَا فِي الْمُبَاحِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِبَعْضِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ لِتَمَكُّنِ خُبْثِ الْخِيَانَةِ فِيهِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ ، فَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ .
أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ .
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا يَجِبُ
فِيهِ الْخُمُسُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْ كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَلِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُولِ الْأَخْذِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ ، أَوْ فِي دَارِ نَفْسِهِ فَفِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ وَجَدَ فِيهِ الْمُؤْنَةَ وَهُوَ الْخُمُسُ لَمْ يَصِرْ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ .
وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْوَاجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ إلَيْهِ يَدُ الْخُصُوصِ وَهِيَ يَدُ الْمُخْتَطِّ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ كَالْمَعْدِنِ إلَّا أَنَّ الْمَعْدِنَ انْتَقَلَ بِالْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَالْكَنْزُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَالدُّرَّةَ لِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا فَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ الدُّرَّةُ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَالْمُخْتَطُّ لَهُ مَنْ خَصَّهُ الْإِمَامُ بِتَمْلِيكِ الْبُقْعَةِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ لَهُ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا إذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا الْمَعْدِنُ فَالْخَارِجُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : مُسْتَجْسِدٌ وَمَائِعٌ ، وَالْمُسْتَجْسِدُ مِنْهُ نَوْعَانِ أَيْضًا : نَوْعٌ يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ
وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَنَوْعٌ لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْكُحْلِ وَالْمَغْرَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهَا ، وَالْمَائِعُ نَوْعٌ آخَرُ كَالنَّفْطِ وَالْقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَالْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا ، أَوْ كَثِيرًا فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إلَّا الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فَإِنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ الْكُلُّ إلَّا إذَا قَاطَعَهُ الْإِمَامُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ حَتَّى شَرَطَ فِيهِ النِّصَابَ فَلَمْ يُوجِبْ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ ، وَشَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْحَوْلَ أَيْضًا .
وَأَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ .
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوَاجِبُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ فِي الْكُلِّ لَا يُشْتَرَطُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَرَائِطُ الزَّكَاةِ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ ، وَالْمَوْلُودِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا فِي الْغَنَائِمِ .
وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَلَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَلِيلَةَ وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا رُبُعَ الْعُشْرِ } وَلِأَنَّهَا مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا الْعُشْرُ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِرُبُعِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْكَنْزِ مَجَازًا لِدَلَائِلَ : أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَمَا فِي الْمَعْدِنِ هُوَ الْمُثَبَّتُ فِي الْأَرْضِ لَا الْكَنْزُ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مُجَاوِرًا لِلْأَرْضِ ، وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ الْكَنْزِ الْعَادِيِّ ، فَقَالَ : فِيهِ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } عَطَفَ الرِّكَازَ عَلَى الْكَنْزِ ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَعْدِنُ ، وَالثَّالِثُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ { الْمَعْدِنُ جُبَارٌ ، وَالْقَلِيبُ جُبَارٌ ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قِيلَ : وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : هُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً فَقَدْ ، أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْخُمُسُ فِي الْكُلِّ ؛ وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ زَالَتْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْجِبَالِ ، وَالْمَفَاوِزِ فَبَقِيَ مَا تِحَتَهَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ كَمَا فِي الْكَنْزِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى رُبُعِ الْعُشْرِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَاجَتِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ .
وَأَمَّا مَا لَا يَذُوبُ
بِالْإِذَابَةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ ؛ لِأَنَّ الزِّرْنِيخَ ، وَالْجِصَّ ، وَالنُّورَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَكَانَ كَالتُّرَابِ ، وَالْيَاقُوتَ ، وَالْفُصُوصَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهَا أَحْجَارٌ مُضِيئَةٌ وَلَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ .
وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ ، وَالنَّفْطِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيَكُونُ لِلْوَاجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ .
وَأَمَّا الزِّئْبَقُ فَفِيهِ الْخُمُسُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا خُمُسَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : فِيهِ الْخُمُسُ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الزِّئْبَقِ فَقَالَ : لَا خُمُسَ فِيهِ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ : فِيهِ الْخُمُسُ وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ مِثْلُ الرَّصَاصِ ، وَالْحَدِيدِ ثُمَّ بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِيرِ ، وَالنَّفْطِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْمَاءَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ إنْ كَانَ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْفِضَّةَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ بِنَفْسِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ تَنْطَبِعُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ يُخَالِطُهَا مِنْ نُحَاسٍ ، أَوْ آنُكِ وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَذَا هَذَا إذَا وُجِدَ الْمَعْدِنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، أَوْ دَارٍ ، أَوْ مَنْزِلٍ ، أَوْ حَانُوتٍ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ وَحْدَهُ ، أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ تَوَابِعِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ فِيهَا وَمِنْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ؟ فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُخْتَطُّ لَهُ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ مَلَكَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَتَنْتَقِلُ عَنْهُ
إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِتَوَابِعِهَا أَيْضًا بِخِلَافِ الْكَنْزِ عَلَى مَا مَرَّ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا خُمُسَ فِيهِ فِي الدَّارِ وَفِي الْأَرْضِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ وَذَكَرَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ فِي الْأَرْضِ ، وَالدَّارِ جَمِيعًا إذَا كَانَ الْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَلَكَ الْأَرْضَ مِنْ مِلْكِهِ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَعْدِنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ ، وَالْإِمَامُ مَلَكَهُ مُطْلَقًا عَنْ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ كَذَلِكَ وَلِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ الْكُلُّ لِلْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ مَعَ الْخُمُسِ إذَا عُلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْدَفِعُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ جَازَ ؟ وَإِذَا مَلَكَهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ مُطْلَقًا عَنْ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ .
وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّارِ ، وَالْأَرْضِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ تَمْلِيكَ الْإِمَامِ الدَّارَ جُعِلَ مُطْلَقًا عَنْ الْحُقُوقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَلَا الْخَرَاجُ ؟ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ تَمْلِيكَهَا وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِهَا الْعُشْرُ ، أَوْ الْخَرَاجُ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْخُمُسُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ ، هَذَا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ لِمَا مَرَّ ، وَإِنْ
وَجَدَهُ فِي مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ رُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ كَمَا فِي الْكَنْزِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ .
فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُلِّ حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ لِلْوَاجِدِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ وُجِدَتْ ، مَا فِيهَا قَالَ : فِيهَا الْخُمُسُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعْدِنِ فَكَذَا فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِجَمْعِهِمَا وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ مَالًا مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ إذْ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ انْتَزَعْنَاهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ : هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لَا خُمُسَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ ، وَالْعَنْبَرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ إنْ اسْتَخْرَجَ مِنْ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا .
وَقِيلَ فِي الْعَنْبَرِ : إنَّهُ مَائِعٌ نَبَعَ فَأَشْبَهَ الْقِيرَ ، وَقِيلَ : إنَّهُ رَوْثٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَرْوَاثِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي اللُّؤْلُؤِ ، وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ مَالًا مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ ، وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ ، وَبَيَانُ مَصَارِفِ الْخُمُسِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ السِّيَرِ وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ ، وَالْمَوْلُودِينَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ، وَالْعُشْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ بِأَنْ كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ الْخُمُسِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْخُمُسَ لِلْوَاجِدِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا .
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ جَازَ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَانِيًا بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ ، وَالْعُشْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا زَكَاةُ السَّوَائِمِ ، وَالْعُشُورِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِمْ ، وَالثَّانِي خُمُسُ الْغَنَائِمِ ، وَالْمَعَادِنِ ، وَالرِّكَازِ ، وَالثَّالِثِ خَرَاجُ الْأَرَاضِي وَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ وَمَا صُولِحَ عَلَيْهِ بَنُو نَجْرَانَ مِنْ الْحُلَلِ وَبَنُو تَغْلِبَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَالرَّابِعُ مَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلًا ، أَوْ تَرَكَ زَوْجًا ، أَوْ زَوْجَةً .
وَأَمَّا مَصَارِفُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ، فَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ خُمُسُ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ فَنَذْكُرُ مَصْرِفَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ ، وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَالْمُقَاتِلَةِ ، وَرَصْدُ الطُّرُقِ ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ ، وَالرِّبَاطَاتِ ، وَالْقَنَاطِرِ ، وَالْجُسُورِ ، وَسَدُّ الثُّغُورِ ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا .
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَيُصْرَفُ إلَى دَوَاءِ الْفُقَرَاءِ ، وَالْمَرْضَى وَعِلَاجِهِمْ ، وَإِلَى أَكْفَانِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ ، وَإِلَى نَفَقَةِ اللَّقِيطِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ ، وَإِلَى نَفَقَةِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الْإِمَامِ صَرْفُ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَهِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي .
بَيَانِ وُجُوبِهَا ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَنْهُ ، وَفِي بَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْأَدَاءِ ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَهِيَ شَرَائِطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا مَا رُوِيَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : فِي خُطْبَتِهِ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } أَمَرَ بِالْأَدَاءِ وَمُطْلَقِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا سَمَّيْنَا هَذَا النَّوْعَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، وَلُزُومُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا رُوِيَ فِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرِّ ، وَالْعَبْدِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَرَضَ أَيْ قَدَّرَ أَدَاءَ الْفِطْرِ ، وَالْفَرْضُ فِي اللُّغَة التَّقْدِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أَيْ قَدَّرْتُمْ ، وَيُقَالُ : فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِمَعْنَى قَدَّرَهَا فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِالْمَذْكُورِ لَا الْإِيجَابِ قَطْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا يَجِبُ وُجُوبًا مُضَيَّقًا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي الْعُمُرِ كَالزَّكَاةِ ، وَالنُّذُورِ ، وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَلَا يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَإِنَّهَا أَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَلَا تَجِبُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى أَدَائِهِ فِي الْحَالِ ، وَفِي الثَّانِي تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ .
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهَا الْمُوَلَّى عَنْهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْأَدَاءِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُكَلَّفُ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا سَبِيلَ إلَى أَدَائِهِ رَأْسًا مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْغَنِيِّ إذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلِيُّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ ؟ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ .
وَمِنْهَا الْغِنَى فَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا الْغِنَى وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ مَطْهَرَةً لِلصَّائِمِ وَمَعْنَى الْمَطْهَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى ، وَالْفَقْرِ ، وَلَنَا قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } .
وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْغِنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ ، ثُمَّ الْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ بَقَاءِ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْمَالِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ بَقَاءُ الْمَالِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَجِبَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ إذَا كَانَ لَهُمَا مَالٌ وَيُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى لَوْ أَدَّى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِمَا لَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَضْمَنَانِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّهَا عِبَادَةٌ ، وَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ ، وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتْ الْعُشْرَ ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفِطْرَةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ سَفَرٍ يَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الصَّوْمُ وَهُوَ الصَّغِيرُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ ، وَبَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ أَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَأَمَّا السَّبَبُ فَرَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً تَكُونُ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فِي الذَّبِّ ، وَالنُّصْرَةِ فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ هُمْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ لُزُومُ الْمُؤْنَةِ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } وَسَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، أَوْ كُفَّارًا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُؤَدَّى إلَّا عَنْ مُسْلِمٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِالْأَدَاءِ عَنْ الْعَبْدِ ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى ، وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ الْأَدَاءُ عَنْهُ ، وَقَوْلُهُ : " الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّحَمُّلُ ، وَقَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْأَدَاءُ عَنْهُ بِالنَّصِّ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِالْأَدَاءِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ رَأْسُهُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَمَّنْ يُؤَدِّي عَنْهُ لَا الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ وُجِدَتْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ ، أَوْ كَبِيرٍ يَهُودِيٍّ ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ ، أَوْ مَجُوسِيٍّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ شَعِيرٍ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ ، وَيُخْرِجُ عَنْ مُدَبَّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ ، أَوْلَادِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } وَهَؤُلَاءِ عَبِيدٌ لِقِيَامِ الرِّقِّ ، وَالْمِلْكِ فِيهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؟ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُكَاتَبِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِ مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَفِي وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ قُصُورٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَهُ فَكَانَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَتَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَلَنَا أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا
ضَرُورَةً .
وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَضْلًا عَنْ دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ وَإِلَّا فَلَا .
وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤَاجَرِ ، الْوَدِيعَةِ ، وَالْعَارِيَّةِ ، وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ ، وَعَبْدِهِ الَّذِي فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ لِعُمُومِ النَّصِّ وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِ الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ وَفَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَوْلَى .
وَأَمَّا عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَلَا يُخْرِجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَخْرُجُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُ التِّجَارَةِ وَلَا فِطْرَةَ فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا ، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْآبِقِ وَلَا عَنْ الْمَغْصُوبِ الْمَجْحُودِ وَلَا عَنْ عَبْدِهِ الْمَأْسُورِ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَيْسَ فِي رَقِيقِ الْأَخْمَاسِ وَرَقِيقِ الْقُوَّامِ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى مَرَافِقِ الْعَوَامّ مِثْلِ زَمْزَمَ وَمَا أَشْبَهَهَا ، وَرَقِيقِ الْفَيْءِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ إذْ هُمْ لَيْسَ لَهُمْ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَكَذَلِكَ السَّبْيُ وَرَقِيقُ الْغَنِيمَةِ ، وَالْأَسْرَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى أَصْلِهِ لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } ، وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَأَنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنَافِعِ فَكَانَ كَالْمُسْتَعِيرِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبِيدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخْرِجُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ وَلَنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الرَّأْسِ يَكُونُ ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ } ، وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَيْهِمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِالْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ ؟ وَإِنْ كَانَ عَدَدٌ مِنْ الْعَبِيدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ قَسَمُوا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ كَامِلٌ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا كَامِلًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا تَامًّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا
وَإِنْ كَانَ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ بَعْضُ أَوْصَافِ السَّبَبِ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمَا فَلَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْجَارِيَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ تَامَّةً ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَجِبُ عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا تَجِبُ عَنْهُ إلَّا فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْأَشْخَاصِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنٌ تَامٌّ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ .
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَوْقُوفَةٌ إنْ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، أَوْ بِالْإِجَازَةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا ، أَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الْبَائِعِ تَمَّ الْبَيْعُ ، أَوْ انْفَسَخَ ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ ، أَوْ انْفَسَخَ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ ثَانٍ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَقِّدْ تَقَرَّرَ بِالْقَبْضِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ
الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا جَانِبُ الْبَائِعِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ .
وَوَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي .
وَأَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْفَسَخَ قَبْلَ تَمَامِهِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْلِ .
وَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ ، أَوْ عَيْبٍ إنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ رَدَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ كَانَ مَرَّ وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَمَرَّ عَلَيْهِ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ صَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ مَوْقُوفَةٌ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ فَإِنْ رَدَّهُ فَعَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ .
وَيُخْرِجُ عَنْ ، أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَإِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَبِ وَوِلَايَةُ الْأَبِ عَلَيْهِمْ تَامَّةٌ ، وَهَلْ يُخْرِجُ الْجَدُّ عَنْ ابْنِ ابْنِهِ الْفَقِيرِ الصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا ؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُخْرِجُ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ لَيْسَتْ
بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ قَاصِرَةٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَبِ ؟ فَأَشْبَهَتْ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ ، وَالْوَصِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ فَكَذَا الْجَدُّ .
وَأَمَّا الْكِبَارُ الْعُقَلَاءُ فَلَا يُخْرَجُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ بِأَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ ، أَوْ كَبِيرٍ مِمَّنْ تُمَوِّنُونَ } فَإِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُمَوِّنُهُمْ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ .
وَلَنَا أَنَّ أَحَدَ شَطْرَيْ السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُنْعَدِمٌ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ الْأَدَاءِ عَنْهُمْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ الْحَمْلِ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْوِلَايَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ صَدَقَةُ فِطْرِ زَوْجَتِهِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الزَّوْجِ وَوِلَايَتُهُ فَوُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ شَرْطَ تَمَامِ السَّبَبِ كَمَالُ الْوِلَايَةِ وَوِلَايَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ سِوَى الرَّقِيقِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ إمَّا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عَنْ الرَّفَثِ وَمَعْنَى الطُّهْرَةِ لَا يَتَقَرَّرُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَا تَجِبُ عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ أَمَّا جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مِنْ الْحِنْطَةِ صَاعٌ .
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ بُرٍّ ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ عَشْرَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَاحْتَجَّ بِرِوَايَتِهِمْ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ بَلْ هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نِصْفَ صَاعٍ وَمَا زَادَ يَكُونُ تَطَوُّعًا عَلَى أَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ لَفْظِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : كُنْت أُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبُرِّ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ { صَاعًا مِنْ طَعَامٍ } ، وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقُهَا كَالْحِنْطَةِ ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ كَالشَّعِيرِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَنَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا نَذْكُرُ وَذِكْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِلتَّيْسِيرِ ؛
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَدُّوا قَبْلَ الْخُرُوجِ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ ، أَوْ دَقِيقٍ } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : الدَّقِيقُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْحِنْطَةِ ، وَالدَّرَاهِمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدَّقِيقِ ، وَالْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نِصْفُ صَاعٍ وَرَوَى الْحَسَنُ وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرُ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي التَّغَذِّي بَلْ يَكُونُ أَنْقَصَ مِنْهَا كَالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالصَّاعِ كَمَا فِي الشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ فِي الْعَادَةِ ثُمَّ اُكْتُفِيَ مِنْ الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فَمِنْ الزَّبِيبِ أَوْلَى .
وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ فِي عَصْرِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَفِي عَصْرِهِمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا الْأَقِطُ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ
عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ وَجَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أُحِبُّ أَنْ يُخْرِجَ الْأَقِطَ فَإِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ صَاعَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ } وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ هَذَا صَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَنَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا مِنْ فُقَهَائِهِمْ يَقُولُ : صَاعُ الْمَدِينَةِ ثَبَتَ بِتَحَرِّي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ صَاعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فَالْعَمَلُ بِصَاعِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِصَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَزْنًا وَكَيْلًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزْنًا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ كَيْلًا حَتَّى لَوْ وَزَنَ وَأَدَّى جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ : الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِيمَا يَسْتَوِي كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وَهُوَ الْعَدَسُ ، وَالْمَاشُّ ، وَالزَّبِيبُ ، وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ الْعَدَسِ ، وَالْمَاشُ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ ، وَالتَّمْرُ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ كَيْلُهُ
وَوَزْنُهُ كَالْعَدَسِ ، وَالْمَاشِّ وَمَا سِوَاهُمَا يَخْتَلِفُ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُهُ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِهِ كَالشَّعِيرِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كَيْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ كَالْمِلْحِ فَيَجِبُ تَقْدِيرُ الْمَكَايِيلِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ وَكَيْلُهُ كَالْعَدَسِ ، وَالْمَاشِّ فَإِذَا كَانَ الْمِكْيَالُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ ، وَالتَّمْرُ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الصَّاعِ وَأَنَّهُ مِكْيَالٌ لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ خِفَّةً وَثِقَلًا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ النَّاسَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي صَاعٍ يُقَدِّرُونَهُ بِالْوَزْنِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَزْنُ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، أَوْ فُلُوسًا ، أَوْ عُرُوضًا ، أَوْ مَا شَاءَ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ ، وَفِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ } ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ بَلْ أَتَمَّ وَأَوْفَرَ ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْإِغْنَاءِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَدَّى عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ
إخْرَاجُ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَطٍ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ غَيْرِ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بَلْ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْبَاقِي وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِعَيْنِ النَّصِّ لَا بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ وَأَمَّا فِي الْجِنْسِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجِنْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَهِيَ الْجَوْدَةُ ، وَالْجَوْدَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْجَوْدَةِ ، ، وَالسَّاقِطُ شَرْعًا مُلْحَقٌ بِالسَّاقِطِ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا فِي خِلَافِ الْجِنْسِ فَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِمَّا الْقِيمَةُ وَمَنْ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْعَيْنَ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَلِأَيِّهِمَا اخْتَارَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ وَاجِبًا مِنْ الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهُ وَهَذَا التَّخْرِيجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَهُنَا فِي الذِّمَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِي النِّصَابِ ؛ لِأَنَّهُ رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ النِّصَابِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، قَالَ أَصْحَابُنَا : هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا فَاسْتَغْنَى إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل غُرُوب الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ وَكَذَا إنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ تَجِبْ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ هُوَ الْفِطْرُ ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إلَى ، أَوْقَاتِهَا وَإِضَافَةِ الصَّوْمِ إلَى الشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ وَقْتُ الْفِطْرِ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ } .
أَيْ وَقْتُ فِطْرِكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ خَصَّ وَقْتَ الْفِطْرِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَى الْيَوْمِ ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْوَقْتِ بِالْفِطْرِ يَظْهَرُ بِالْيَوْمِ وَإِلَّا فَاللَّيَالِي كُلُّهَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ سَوَاءٌ فَلَا يَظْهَرُ الِاخْتِصَاصُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ أَيْ صَدَقَةُ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُضَافَةً إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا .
وَلَوْ عَجَّلَ الصَّدَقَةَ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَن عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا
إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِيَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وَقْتَ وُجُوبِ هَذَا الْحَقِّ هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ كَتَعْجِيلِ الْأُضْحِيَّةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَجْهُ قَوْلِ خَلَفٍ هَذِهِ فِطْرَةٌ عَنْ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّوْمِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْيَوْمِ ، أَوْ الْيَوْمَيْنِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَوَجْهُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّعْجِيلِ بِيَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ يَبْقَى إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَيَحْصُلُ الْإِغْنَاءُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَبْقَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا وَذِكْرُ السَّنَةَ ، وَالسَّنَتَيْنِ ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِكْثَارِ الْمُدَّةِ أَيْ يَجُوزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْمُدَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ ، وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ ، وَالْعُشُورِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ .
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ إنَّ هَذَا حَقٌّ مَعْرُوفٌ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ .
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَيَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا ، أَوْ بِآخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ ، وَالْعُشْرِ ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ } فَإِذَا أَخْرَجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فَارِغَ الْقَلْبِ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالتَّمْلِيكُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدَّوْا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } الْحَدِيثَ ، وَالْأَدَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ فَلَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ أَصْلًا وَلَا بِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مُطْلَقٍ ، وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هَهُنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْر عَنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ جَمَاعَةً مَسَاكِينَ وَيُعْطَى مَا يَجِبُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِسْكِينًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةٌ فَجَازَ جَمْعُهَا وَتَفْرِيقُهَا كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلَا يَبْعَثُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا سَاعِيًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْعَثْ وَلَنَا فِيهِ قُدْوَةٌ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا مَكَانُ الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ حَيْثُ هُوَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ عَبِيدِهِ حَيْثُ هُمْ حَكَى الْحَاكِمُ رُجُوعَهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةِ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَحَيْثُ الْمَالِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهَا إلَى أَهْلِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى قَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَيَبْعَثَهَا إلَيْهِمْ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ ثُمَّ زَكَاةُ الْمَالِ تُؤَدَّى حَيْثُ الْمَالُ فَكَذَا زَكَاةُ الرَّأْسِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي لَا بِمَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مَالُهُ لَا تَسْقُطُ الصَّدَقَةُ .
وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ تَسْقُطُ ؟ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ الصَّدَقَةُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمُؤَدِّي وَلَمَّا تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْمَالِ اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمَالِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يُؤَدَّى عَنْ الْعَبْدِ الْحَيِّ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ الْمَيِّتِ حَيْثُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَبْدِ الْحَيِّ عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُهُ وَفِي الْمَيِّتِ لَا فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمَوْلَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَا يُسْقِطُ زَكَاةَ الْمَالِ يُسْقِطُهَا إلَّا هَلَاكُ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهِ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ قَائِمَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَائِمًا ، وَالزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الصَّوْمِ ) .
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ ، وَصِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا ، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهَا ، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَا يُفْسِدُهَا وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالصَّوْمُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى وَيَنْقَسِمُ إلَى : لُغَوِيٍّ ، وَشَرْعِيٍّ ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ : فَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمُطْلَقُ ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَيُسَمَّى الْمُمْسِكُ عَنْ الْكَلَامِ وَهُوَ الصَّامِتُ صَائِمًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } أَيْ صَمْتًا وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْمُمْسِكُ عَنْ الْعَلَفِ صَائِمًا قَالَ الشَّاعِرُ : خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ : مُمْسِكَةٌ عَنْ الْعَلَفِ ، وَغَيْرُ مُمْسِكَةٍ .
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ : فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ : الْأَكْلُ ، وَالشُّرْبُ ، وَالْجِمَاعُ ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى : فَرْضٍ ، وَوَاجِبٍ ، وَتَطَوُّعٍ ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إلَى : عَيْنٍ ، وَدَيْنٍ ، فَالْعَيْنُ : مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، إمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ ، لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا ، وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْمَعْقُولُ ، أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَقَوْلُهُ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أَيْ : فُرِضَ ، وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { أَيّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ } وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، لَا يَجْحَدُهَا إلَّا كَافِرٌ .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْجِمَاعِ ، وَإِنَّهَا مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا ، إذْ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلًا ، وَشَرْعًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّقْوَى لِأَنَّهُ إذَا انْقَادَتْ نَفْسُهُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَلَالِ طَمَعًا فِي مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَرَامِ ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِلِاتِّقَاءِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّهُ فَرْضٌ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ ، وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ ، لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتْ الشَّهَوَاتِ ، وَإِذَا جَاعَتْ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى ، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ خَشِيَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ } فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمَعَاصِي وَإِنَّهُ فَرْضٌ .
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ : فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْيَمِينِ ، وَالْإِفْطَارِ ، وَصَوْمِ الْمُتْعَةِ ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا ، ثُمَّ بَعْضُ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالدَّيْنِ مُتَتَابِعٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَتَابِعٍ ، بَلْ صَاحِبُهَا فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ : فَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْإِفْطَارِ ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا ، أَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ : فَلِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } .
وَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : فَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : التَّتَابُعُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
وَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ : فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ ، يَكُونُ مُتَتَابِعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ : فَصَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ ، وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ ، وَصَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَصَوْمُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، وَصَوْمُ الْيَمِينِ ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أَيْ : فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ .
وَكَذَا النَّاذِرُ ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ ، وَالْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ ، ذُكِرَ الصَّوْمُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ : إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ ، لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَتَابِعًا ، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَةَ " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ " فَيُزَادُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَصْفُ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا زِيدَ وَصْفُ التَّتَابُعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا فَكَذَا الْقَضَاءُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ غَيْرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّهُ يُتَابِعُ لَكِنَّهُ إنْ فَرَّقَ جَازَ وَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّتَابُعَ أَفْضَلُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لَمَا احْتَمَلَ الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمَا احْتَمَلَ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ لَوْ عَرَفُوهُ .
وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لَوْ ثَبَتَتْ فَهِيَ عَلَى النَّدْبِ ، وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ ، إذْ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً وَصَارَتْ كَالْمَتْلُوِّ وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الِاشْتِرَاطَ لَمَا احْتَمَلَ الْخِلَافَ مِنْ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، بِخِلَافِ ذِكْرِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ ، فَصَارَ كَالْمَتْلُوِّ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا ، فَنَقُولُ : التَّتَابُعُ فِي الْأَدَاءِ مَا وَجَبَ لِمَكَانِ الصَّوْمِ ، لِيُقَالَ : أَيْنَمَا كَانَ الصَّوْمُ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ صَوْمُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ إلَّا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ ، فَكَانَ لُزُومُ التَّتَابُعِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ .
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ : أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْفِعْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَيَكُونُ التَّتَابُعُ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ دَارَ الْفِعْلُ ، وَكُلُّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَفَوْتُ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُسْقِطُ التَّتَابُعَ وَإِنْ بَقِيَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَعْبَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا ، لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْهُ
يَقْضِي إنْ شَاءَ مُتَتَابِعًا ، وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقًا ، لِأَنَّ التَّتَابُعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْوَقْتِ ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ مُتَتَابِعًا ، لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إلَّا بِهِ ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ ذُكِرَ لِلصَّوْمِ فَكَانَ الشَّرْطُ هُوَ وَصْلَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا ، وَعَلَى هَذَا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا إلَّا بِالْأَدَاءِ مُتَتَابِعًا ، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّتَابُعُ لِأَجْلِ نَفْسِ الصَّوْمِ فَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى وَصْفِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَإِذَا وَجَبَ لِضَرُورَةِ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ ، أَوْ شَرْطِ التَّتَابُعِ لَوَجَبَ الِاسْتِقْبَالُ ، فَيَقَعُ جَمِيعُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ فِيهِ ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَوَقَعَ عَامَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ ، وَبَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ : أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لِلصَّوْمِ لَوَجَبَ كَمَا فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ ، وَكَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَالْيَمِينِ ، وَالْقَتْلِ ، وَكَذَا لَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ بَرِئَ فِي الشَّهْرِ وَصَامَ الْبَاقِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَصْلُ الْبَاقِي بِشَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا بِيَوْمِ الْفِطْرِ ، كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالْإِفْطَارِ ، إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ شَهْرٍ عَنْهُ ، إنَّهَا كَمَا
طَهُرَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَصِلَ ، وَتُتَابِعَ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ ، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَوَّالًا مُتَّصِلًا وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا آخَرَ .
فَدَلَّ أَنَّ التَّتَابُعَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِأَجْلِ الصَّوْمِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ ، فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ : فَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ ، وَصَوْمُ قَضَائِهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ ، وَصَوْمُ الِاعْتِكَافِ عِنْدَنَا ، أَمَّا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِالشُّرُوعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ : فَقَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا وُجُوبُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ : فَنَذْكُرُهُ فِي الِاعْتِكَافِ ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ : فَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَقْسَامِ الصِّيَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا : وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ ، وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ : وَهُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ وَهُوَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ : وَهُوَ شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ ، وَالْعُمُومِ ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ : فَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْجِمَاعَ ، وَالْأَكْلَ ، وَالشُّرْبَ فِي اللَّيَالِي إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } أَيْ : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ .
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ، وَالْأَسْوَدُ هُمَا : بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ ، } ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَكَانَ هَذَا تَعْيِينًا : لِلَّيَالِيِ الْفِطْرُ ، وَالنَّهَارُ لِلصَّوْمِ ، فَكَانَ مَحَلُّ الصَّوْمِ هُوَ الْيَوْمُ لَا اللَّيْلُ ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الصَّوْمُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا : مِنْ التَّقْوَى ، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعَمِ ، الْحَامِلُ عَلَى شُكْرِهَا لَا يَحْصُلُ بِالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ لَانَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ شَاقٍّ عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِمْسَاكِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ فَلَا يَكُونُ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ
.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ ، وَالْعُمُومِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ : فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ : الثَّالِثَ عَشَرَ ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ ، فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا } فَقَدْ جَعَلَ السَّنَةَ كُلَّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَلَى الْعُمُومِ .
وَقَوْلُهُ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ } جَعَلَ الدَّهْرَ كُلَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقَوْلُهُ { : الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ ، إنْ شَاءَ صَامَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ ، } وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَهَا كَانَ الصَّوْمُ حَسَنًا وَعِبَادَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي بَعْضِهَا ، وَيُسْتَحَبُّ فِي الْبَعْضِ .
أَمَّا الصِّيَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهَةِ فَمِنْهَا : صَوْمُ يَوْمَيْ الْعِيدِ ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاحْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } .
وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ عَيَّنَ هَذِهِ الْأَيَّامَ لِأَضْدَادِ الصَّوْمِ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلصَّوْمِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ ، وَالْمَعْقُولِ يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَيُحْمَلُ التَّعْيِينُ عَلَى النَّدْبِ ، وَالِاسْتِحْبَابِ ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، وَعِنْدَنَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْإِفْطَارُ .
وَمِنْهَا إتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِيَّةِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ رَمَضَانُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ ، وَالْعِلْمِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ ، وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَالْإِتْبَاعُ الْمَكْرُوهُ هُوَ : أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ .
فَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ : فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ .
وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ ، أَمَّا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي رَمَضَانَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مَنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ : بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَكُونُ تَطَوُّعًا فَلِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَرَدِّدَةَ لَا تَكُونُ نِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْيِينٌ لِلْعَمَلِ ، وَالتَّرَدُّدُ يَمْنَعُ التَّعْيِينَ .
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ : فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا } ، اسْتَثْنَى التَّطَوُّعَ ، وَالْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ : فَالْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ وَقَالَ : مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } أَيْ : صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا ، أَوْ يُفْطِرَ ، أَوْ يَنْتَظِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا
كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَيَقُولَانِ لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ، فَقَدْ صَامَا وَنَبَّهَا عَلَى الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ ، فَلَوْ صَامَ لَدَارَ الصَّوْمُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ ، وَلَوْ أَفْطَرَ لَدَارَ الْفِطْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي شَعْبَانَ ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الصَّوْمِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَكَانَ يَضَعُ كُوزًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الشَّكِّ ، فَإِذَا جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَفْتَاهُ بِالْإِفْطَارِ وَشَرِبَ مِنْ الْكُوزِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُسْتَفْتِي ، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْتَى بِالصَّوْمِ لَاعْتَادَهُ النَّاسُ فَيَخَافُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْفَرِيضَةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُصَامُ سِرًّا وَلَا يُفْتَى بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلَّا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ .
هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَأَفْتَى بِالْفِطْرِ ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْتَفْتِي : تَعَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخْبَرَهُ سِرًّا فَقَالَ : إنِّي صَائِمٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْتَظِرُ فَلَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَفْطَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَصْبِحُوا يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرِينَ مُتَلَوِّمِينَ أَيْ : غَيْرَ آكِلِينَ وَلَا عَازِمِينَ عَلَى الصَّوْمِ ، إلَّا إذَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ } فَوَصَلَ يَوْمَ الشَّكِّ بِهِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَتَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } .
وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ ، أَوْ بِيَوْمَيْنِ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الشَّهْرَ وَلَيْسَ فِيهِ وَهْمُ الزِّيَادَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ } .
وَمِنْهَا صَوْمُ الْوِصَالِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ ، } فَسَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوِصَالَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ لَا يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا ، لِأَنَّ الْفِطْرَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ زَمَانِ الْفِطْرِ ، وَهُوَ اللَّيْلُ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ } وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْوِصَالِ : أَنْ يَصُومَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ دُونَ لَيْلَتِهِ ، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِيهِ : أَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ وَقِيلَ لَهُ : إنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ ، إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } أَشَارَ إلَى الْمُخَصِّصِ وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ بِفَضْلِ قُوَّةِ النُّبُوَّةِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : مَنْ صَامَ سَائِرَ الْأَيَّامِ وَأَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ ، وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا عِنْدِي ، كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا قَدْ صَامَ الدَّهْرَ كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ لَيْسَ لِمَكَانِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بَلْ لِمَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْفَرَائِضِ ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ وَيُؤَدِّي إلَى التَّبَتُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ : فَفِي حَقِّ غَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ ، لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّدْبِ إلَى صَوْمِهِ ، وَلِأَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إنْ كَانَ لَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ ، وَالدُّعَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ فَضِيلَةَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ ، وَيُسْتَدْرَكُ عَادَةً ، فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ ، وَالدُّعَاءِ فِيهِ لَا يُسْتَدْرَكُ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ عَادَةً إلَّا فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى
وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِانْفِرَادِهِ ، وَكَذَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ، وَالْخَمِيسِ ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ : إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ فَكَانَ تَعْظِيمُهَا بِالصَّوْمِ مُسْتَحَبًّا ، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ بِانْفِرَادِهِ ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ ، وَالْمِهْرَجَانِ ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ ، وَكَذَا صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ الطَّعَامِ ، وَالْكَلَامِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ } وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحْدَهُ لِمَكَانِ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ عَامَّتُهُمْ ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ ، فَيُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَتِهَا بِالصَّوْمِ .
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ : فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ ، وَهُوَ صَوْمُ سَيِّدِنَا دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ ، إذْ الطَّبْعُ أَلُوفٌ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا } أَيْ : أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ ، وَكَذَا صَوْمُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ ، مِنْهَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الثَّالِثَ عَشَرَ ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا } .
" وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ : فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ إلَّا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَوْمَيْ الْفِطْرِ ، وَالْأَضْحَى ، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ، وَيَوْمَ الشَّكِّ " أَمَّا مَا سِوَى صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَلِوُرُدِ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يُوجَدُ بِوُجُودِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ كَامِلٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ ، إنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عَنْهُ .
وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يَكُونُ قَضَاءً ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ قَضَاءً ، فَلَا يَكُونُ قَضَاءً مَعَ الشَّكِّ وَهَلْ يَصِحُّ النَّذْرُ بِصَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؟ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا وَيَصُومَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَكُونُ مُسِيئًا ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ النَّذْرُ لِأَنَّهُ ، أَوْجَبَ نَاقِصًا وَأَدَّاهُ نَاقِصًا ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ ، وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنَّ الشُّرُوعَ فِي
التَّطَوُّعِ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَضْعًا ، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ يَثْبُتُ ضَرُورَةً صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ ، وَالْمُؤَدَّى هَهُنَا لَا يَجِبُ صِيَانَتُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ ، فَلَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ ، فَلَا يُضْمَنُ بِالْإِفْسَادِ ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَكْرُوهَةٍ فَأَفْسَدَهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ الْفَرْقِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، .
وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ : فَوَقْتُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرُهُ ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا : فِي بَيَانِ وَقْتِ صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ ، أَمَّا الْأُوَلُ : فَوَقْتُ صَوْمِ رَمَضَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أَيْ : فَلْيَصُمْ فِي الشَّهْرِ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَصُومُوا شَهْرَكُمْ } أَيْ : فِي شَهْرِكُمْ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُصَامُ وَإِنَّمَا يُصَامُ فِيهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً يُعْرَفُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً يُعْرَفُ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا } .
وَكَذَلِكَ إنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ أَكْمَلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ وَكَمَالُهُ ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا بِيَقِينٍ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ ، أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَرَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ صَامُوا وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ جَمَاعَةٌ يَقَعُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَدَدَ الْجَمَاعَةِ بِعَدَدِ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ رَجُلًا ، وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ : خَمْسُمِائَةٍ ، بِبَلْخٍ قَلِيلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ ، أَوْ اثْنَانِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ : تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا قُبِلَ ، لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِذَا كَانَ إخْبَارًا لَا شَهَادَةً فَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فَقَطْ ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ
الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ وَهَهُنَا الظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ جَمَاعَةٍ لَا يُحْصَوْنَ إيَّاهُ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ دَلِيلُ كَذِبِهِ ، أَوْ غَلَطِهِ فِي الرُّؤْيَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ التَّسَاوِيَ فِي الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ قِطْعَةً مِنْ الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهْرَ الْهِلَالُ فَرَآهُ وَاحِدٌ ثُمَّ اسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ الْمِصْرِ ، أَوْ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَطَالِعَ تَخْتَلِفُ بِالْمِصْرِ وَخَارِجَ الْمِصْرِ فِي الظُّهُورِ ، وَالْخَفَاءِ لِصَفَاءِ الْهَوَاءِ خَارِجَ الْمِصْرِ فَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَة أَنَّ الْمَطَالِعَ لَا تَخْتَلِفُ إلَّا عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الْفَاحِشَةِ ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنْ يَصُومَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ شَهِدَ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ يَقْضِي لِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي زَعْمِهِ فَيُعَامَلُ بِمَا عِنْدَهُ ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا تَلْزَمُهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَلْزَمُهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : تَجِبُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَجِبُ ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِهِ
لَا يَقْدَحُ فِي عِلْمِهِ فَيُؤَاخَذُ بِعِلْمِهِ ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ، وَلِهَذَا ، أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمَ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالرُّؤْيَةِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ تَثْبُتْ رُؤْيَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا : أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ عَامَّةِ النَّاسِ إيَّاهُ فِي التَّفَقُّدِ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ دَلِيلُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَيَبْقَى مِنْ شَعْبَانَ ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا : لَا رِوَايَةَ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ يَصُومُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ احْتِيَاطًا ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ ، وَلَوْ صَامَ هَذَا الرَّجُلُ وَأَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يُرَ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ ، وَإِنْ زَادَ صَوْمُهُ عَلَى ثَلَاثِينَ لِأَنَّا إنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ احْتِيَاطًا ، ، وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا أَنْ لَا يُفْطِرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَا رَآهُ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا بَلْ كَانَ خَيَالًا فَلَا يُفْطِرُ مَعَ الشَّكِّ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ لَلَحِقَهُ التُّهْمَةُ لِمُخَالِفَتِهِ الْجَمَاعَةَ ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُفْطِرَ وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا ، أَوْ عَبْدًا ، رَجُلًا ، أَوْ امْرَأَةً ، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ ، أَوْ مَحْدُودًا تَائِبًا ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا عَدْلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ .
( وَلَنَا )
مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا } ، فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ وَهُوَ الصَّوْمُ وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ ، إلَّا أَنَّهُ إخْبَارٌ فِي بَابِ الدِّينِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْعَدَالَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ ، فَيَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْعَبْدُ ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَحَّتْ رِوَايَتُهُمَا ؟ .
وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلُوا إخْبَارَ أَبِي بَكْرَةَ وَكَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ ، ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ ، وَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَدْلٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ
الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ رَجُلَانِ ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ ، وَيَجُوزُ إخْبَارُ رَجُلٍ عَدْلٍ عَنْ رَجُلٍ عَدْلٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ ، وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ ، وَلَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ ، حُرَّيْنِ ، عَاقِلَيْنِ ، بَالِغَيْنِ ، غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ ، فِي قَذْفٍ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ ، وَالْأَمْوَالِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ الْإِفْطَارَ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، } وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ شَيْءٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَكَانَ مُتَّهَمًا ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ
بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ هُنَاكَ لَا تُهْمَةَ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الصَّوْمِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ صَامُوا رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَفْطَرُوا بِتَمَامِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِلَا خِلَافٍ ، لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْفِطْرِ يُقْبَلُ وَإِنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ بِشَهَادَتِهِ فَثَبَتَتْ الرَّمَضَانِيَّةُ بِشَهَادَتِهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ ، لَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ ، لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْفِطْرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَحْدَهُ مَقْصُودًا لَا تُقْبَلُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا شَهَادَةً عَلَى الصَّوْمِ ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا .
أَلَا تَرَى لَوْ شَهِدَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ ، ، وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا فِي أَنْ لَا يُفْطِرُوا بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُطْلَقٍ ، فَيَظْهَرُ فِي الصَّوْمِ ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الْعَدَدِ ، فَأَوْرَدَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ إشْكَالًا فَقَالَ : إذَا قَبِلْتَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ تُفْطِرُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَمَتَى أَفْطَرْتَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى شَهَادَتِهِ فَقَدْ أَفْطَرْتَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ ؟ فَأَجَابَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَتَعَجَّلَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي شَهَادَتِهِ فَالصَّوْمُ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَيُخْتَمُ بِكَمَالِ الْعَدَدِ ، وَقِيلَ فِيهِ بِجَوَابٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ جِوَازَ الْفِطْرِ
عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِ مَقْصُودًا بَلْ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ .
وَقَدْ يَثْبُتُ بِمُقْتَضَى الشَّيْءِ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ مَقْصُودًا كَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَتِهَا مَقْصُودًا ، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُ .
( وَأَمَّا ) هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا مَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ، وَهِلَالُ شَوَّالٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى النَّاسِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ ، وَالصَّحِيحُ : هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ بَلْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ .
وَلَوْ رَأَوْا يَوْمَ الشَّكِّ الْهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ هِلَالُ شَوَّالٍ إذَا رَأَوْهُ يَوْمَ الشَّكِّ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَهُمَا ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ ، وَعِنْدَهُ إنْ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ يَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ يَوْمَ الْفِطْرِ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ عَادَةً ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ ، وَلَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } أَمَرَ بِالصَّوْمِ ، وَالْفِطْرِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ ، وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ يَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ ، وَالْفِطْرِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ فَأَكْمَلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ عَشِيَّةَ التَّاسِعِ ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ تِسْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَصَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَهْلُ الْمِصْرِ قَدْ أَصَابُوا وَأَحْسَنُوا وَأَسَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَخْطَأَ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَامَ رَمَضَانُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً ، أَوْ بَعْدَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ .
وَقَدْ عَمِلَ أَهْلُ الْمِصْرِ بِذَلِكَ وَخَالَفَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَصَابَ أَهْلُ الْمِصْرِ وَأَخْطَأَ الرَّجُلُ وَلَا قَضَاءَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ إلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثًا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ } فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَلَوْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ قَاضِيهمْ ، أَوْ عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا رَمَضَانَ فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَعَدَمُ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا يَقْدَحُ فِي رُؤْيَةِ أُولَئِكَ ، إذْ الْعَدَمُ لَا يُعَارِضُ الْوُجُودَ ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ قَاضِيهمْ وَلَا عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَدْ أَسَاءُوا حَيْثُ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ .
وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ
يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَطَالِعُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْبَلَدَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ لِأَنَّ مَطَالِعَ الْبِلَادِ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْفَاحِشَةِ تَخْتَلِفُ فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَطَالِعُ بَلَدِهِمْ دُونَ الْبَلَدِ الْآخَرِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ فِي أَهْلِ إسْكَنْدَرِيَّةَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بِهَا وَمَنْ عَلَى مَنَارَتِهَا يَرَى الشَّمْسَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ .
فَقَالَ : يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الْفِطْرُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلَى رَأْسِ الْمَنَارَةِ إذَا كَانَ يَرَى غُرُوبَ الشَّمْسِ لِأَنَّ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ مَطْلَعُهَا فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ مَوْضِعٍ مَغْرِبُهُ وَلَوْ صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَفْطَرُوا لِلرُّؤْيَةِ وَفِيهِمْ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنْ عَلِمَ مَا صَامَ أَهْلُ مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ ، وَالْفَائِتُ هَذَا الْقَدْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الرَّجُلُ مَا صَنَعَ أَهْلُ مِصْرِهِ ، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَالنُّقْصَانُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ ، وَقَالُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ شَهْرًا لِعُذْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَضَى شَهْرًا بِالْهِلَالِ فَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، إنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا دُونَ الْهِلَالِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ ، وَالْفَائِتُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَيَقْضِي يَوْمًا آخَرَ تَكْمِلَةَ الثَّلَاثِينَ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ فَمِنْهَا : الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ بِلَا خِلَافٍ ، وَفِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ : فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ فَيَصِحُّ أَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ .
وَكَذَا الْعَقْلُ ، وَالْإِفَاقَةُ لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ فِي النَّهَارِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، لَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ لِعَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الْمَجْنُونِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا تُتَصَوَّرُ ، وَفِي كَوْنِهِمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَمِنْهَا النِّيَّةُ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا : فِي بَيَانِ أَصْلِهِ ، وَالثَّانِي : فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ ، وَالثَّالِثُ : فِي بَيَانِ وَقْتِهِ .
أَمَّا الْأُوَلُ : فَأَصْلُ النِّيَّةِ شَرْطُ جَوَازِ الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ زُفَرُ : صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ جَائِزٌ بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ ، وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ .
وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلتَّعْيِينِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ ، وَلَا مُزَاحَمَةَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا صَوْمًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ } وَقَوْلُهُ { الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ ، وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ ، وَالِاخْتِيَارُ ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَتَحَقَّقَانِ بِدُونِ النِّيَّةِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ : فَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَالْإِمْسَاكُ لَا يَصِيرُ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ ، لِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ وَزَمَانُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ ، فَنَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْوَصْفِ ، لَكِنْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْأَصْلِ ، بَيَانُهُ أَنَّ أَصْلَ الْإِمْسَاكِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَادَةً ، أَوْ حَمِيَّةً ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى ، بَلْ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ فَاعِلٍ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إذَا صَارَ أَصْلُ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ بِأَصْلِ النِّيَّةِ ، وَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِفَرْضِهِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ : فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ ، وَصَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ ، وَالْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : صَوْمُ النَّفْلِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ ، فَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ : فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهَا زِيَادَةُ الثَّوَابِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ شُرِطَتْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ إمَّا لِيَصِيرَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِمَّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ ، وَلَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ كَانَ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ يَكْفِي لِقَطْعِ التَّرَدُّدِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } وَقَدْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ مَا نَوَى ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ لَا يَتَنَوَّعُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْيِيزِ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ الْقَضَاءِ ، وَالنَّذْرِ ، وَالْكَفَّارَةِ ، لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَهُوَ خَارِجُ رَمَضَانَ مُتَنَوِّعٌ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَقَوْلُهُ : هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ لَا تَتَأَدَّى نِيَّةُ الْفَرْضِ بِدُونِ نِيَّةِ الْفَرْضِ ، وَقَوْلُهُ : " الْفَرْضِيَّةُ صِفَةٌ لِلصَّوْمِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ فَتَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ زَائِدَةٍ " مَمْنُوعٌ أَنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ
الصَّوْمَ صِفَةٌ ، وَالصِّفَةُ لَا تَحْتَمِلُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَيْهَا قَائِمَةً بِهَا بَلْ هُوَ وَصْفٌ إضَافِيٌّ فَيُسَمَّى الصَّوْمُ مَفْرُوضًا وَفَرِيضَةً لِدُخُولِهِ تَحْتَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِفَرْضِيَّةٍ قَامَتْ بِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صِفَةً قَائِمَةً بِالصَّوْمِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَزِيَادَةُ الثَّوَابِ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ لَا لِزِيَادَةِ صِفَةِ الْعَمَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ صَامَ الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَعَنْ الْمَنْذُورِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَقَعُ وَكَذَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالنُّذُورِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ هُوَ يَقُولُ : لَمَّا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْفَرْضِ ، وَالْمُعْرِضُ عَنْ فِعْلٍ لَا يَكُونُ آتِيًا بِهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ نَوَى الْأَصْلَ ، وَالْوَصْفَ ، وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَصْفِ فَبَطَلَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ ، وَإِنَّهَا كَافِيَةٌ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ تَعَيَّنَ لِصَوْمِهِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُعَيَّنٌ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ التَّعْيِينُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ فَسْخِ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ ، وَالْآخَرُ تَعَيَّنَ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ وَهُوَ الْعَبْدُ فَيَظْهَرُ تَعْيِينُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ لَهُ وَهُوَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، فَبَقِيَتْ الْأَوْقَاتُ مَحَلًّا لَهَا فَإِذَا نَوَاهَا صَحَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُ : فَإِنْ صَامَ
رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعْ عَمَّا نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ : أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ ، قَالَ الْقُدُورِيُّ : الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ ، وَالْإِفْطَارُ لَهُ رُخْصَةٌ فَإِذَا اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ صَارَ هُوَ ، وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ كَالْمُقِيمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ نَظَرًا لَهُ ، فَلَأَنْ يُرَخَّصَ لَهُ إسْقَاطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِيهِ أَكْثَرُ أَوْلَى .
وَأَمَّا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ خَارِجَ رَمَضَانَ وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ خَارِجَ رَمَضَانَ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ كُلِّهِ كَذَا فِي رَمَضَانَ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ نِيَّةِ الْمُتَطَوِّعِ بَلْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ كَافِيَةٌ فَتَلْغُو نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ فَيَصِيرُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ فَمَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ يُتَرَخَّصُ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يُتَرَخَّصْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ : فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ
يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا : إنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ صَارَ كَالصَّحِيحِ ، وَالْكَرْخِيُّ سَوَّى بَيْنَ الْمَرِيضِ ، وَالْمُسَافِرِ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ صَوْمُ الشَّهْرِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ الْوَاجِبَ صَوْمُ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَالصَّلَاةِ ، وَالْحَجِّ ، فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَنَا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ ، فَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ .
وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا مَحَلٌّ لِلصَّوْمِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُ وَهُوَ اللَّيَالِي ، فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُمَا فَصَارَ صَوْمُ كُلِّ يَوْمَيْنِ عِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَصَلَاتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ الْقَضَاءِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ صَامَ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لَا يَقَعُ عَمَّا عَلَيْهِ لِأَنَّ زَمَانَ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَعَيَّنَ لَهُ الْوَقْتُ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ وَقْتٌ لِلصِّيَامَاتِ كُلِّهَا عَلَى الْإِبْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلْبَعْضِ بِالنِّيَّةِ لِتَتَعَيَّنَ لَهُ ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى ، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ
بِهِ فَيَقَعُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى بِصَوْمِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ ، وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ عَيَّنَ الْوَقْتَ لِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ فَسَقَطَتَا لِلتَّعَارُضِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَيَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي التَّطَوُّعِ لَغْوٌ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ ، وَالصَّوْمُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَكُونُ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا ، ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَنْ التَّطَوُّعِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ جِهَتَيْ التَّعْيِينِ تَعَارَضَتَا لِلتَّنَافِي فَسَقَطَتَا بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْقَضَاءِ ، لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَخَلَفُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى الصِّيَامَاتِ حَتَّى تَنْدَفِعَ بِهِ نِيَّةُ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ صَوْمٍ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَبَ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ ، فَكَانَ الْقَضَاءُ أَقْوَى فَلَا يُزَاحِمُهُ الْأَضْعَفُ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَصَامَهُ يَنْوِي النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ : فَهُوَ عَنْ النَّذْرِ لِتَعَارُضِ النِّيَّتَيْنِ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ نِيَّةُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَيَقَعُ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ وَقْتُ النِّيَّةِ : فَالْأَفْضَلُ فِي الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا أَنْ يَنْوِيَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، أَوْ مِنْ اللَّيْلِ ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُقَارِنُ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ حَقِيقَةً وَمِنْ اللَّيْلِ تُقَارِنُهُ تَقْدِيرًا ، وَإِنْ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ ، وَالْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يَجُوزُ ، وَقَالَ زُفَرُ : إنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إلَّا التَّطَوُّعُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّطَوُّعَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ ، فَكَذَا التَّطَوُّعُ ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، } وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي طَلْحَةَ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ : فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ كَصَوْمِ الْفَرْضِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مُتَجَزِّئٌ حَتَّى قَالَ : يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ .
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ فَرْضًا كَانَ ، أَوْ نَفْلًا وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ لِمَا نَذْكُرُ ، فَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الرُّكْنِ عَنْ الشَّرْطِ ، فَلَا يَصِيرُ صَائِمًا شَرْعًا ، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ } ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ رُكْنٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ انْعَدَمَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَمْ يَقَعْ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِلَّهِ تَعَالَى لِفَقْدِ شَرْطِهِ ، فَكَذَا الْبَاقِي لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْقَضَاءِ ، وَالْكَفَّارَاتِ ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ .
وَكَذَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } إلَى قَوْله { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ ، وَالشُّرْبَ ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالصَّوْمِ مُتَرَاخِيًا عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ أَمْرٌ بِالنِّيَّةِ إذْ لَا صِحَّةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ ، فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَقَعُ صَوْمًا وُجِدَتْ فِيهِ
النِّيَّةُ ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ لِأَنَّ إتْمَامَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ بَعْضٍ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ شَرْعًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ مَعَ شَرَائِطِهِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ ، وَالْمَحَلِّيَّةِ ، وَلَا كَلَامَ فِي سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ وَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ الرُّكْنِ ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الْعِبَادَةِ مَا يَكُونُ شَاقًّا عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ ، فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ : فَمُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا بَلْ يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسِيلَةً لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَنْوِيَ وَقْتَ الرُّكْنِ فَإِذَا نَوَى ظَهَرَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ ، وَالنِّيَّةُ تُشْتَرَطُ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ عِبَادَةٍ لَا لِمَا يَصِيرُ عِبَادَةً بِطَرِيقِ الْوَسِيلَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ : فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
وَأَمَّا صِيَامُ الْقَضَاءِ ، وَالنُّذُورِ ، وَالْكَفَّارَاتِ : فَمَا صَامَهَا فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ لَهَا شَرْعًا لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ مَوْضُوعٌ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ صَوْمًا آخَرَ بَقِيَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِلتَّطَوُّعِ شَرْعًا ، فَلَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ ، فَأَمَّا هَهُنَا فَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَقَدْ صَامَهُ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَشَرَائِطِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فِي
الْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ حَتْمًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ ، وَالْوَقْتُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فَأَشْبَه صَوْمَ الْقَضَاءِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَذَا لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ كَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُتَرَخَّصَ بِالْإِفْطَارِ ، وَلَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ، وَالتَّيْسِيرِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَالْمُقِيمِ سَوَاءٌ .
وَيَتَّصِلُ بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَهُمَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ وَوَقْتِ النِّيَّةِ مَسْأَلَةُ الْأَسِيرِ فِي يَدِ الْعَدُوِّ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ : أَنَّهُ إذَا صَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَافَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ بِأَنْ تَقَدَّمَ ، أَوْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ جَازَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ شَوَّالٌ يَجُوزُ لَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ مُوَافَقَةُ الشَّهْرَيْنِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ .
وَأَمَّا مُوَافَقَةُ الْعَدَدِ فَلِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً ، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ ، وَالشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَا بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ : أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّهُ نَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعْيِينُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرَ شَوَّالٍ يَنْظُرُ إنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ كَامِلًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمَيْنِ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَشَوَّالُ
كَامِلًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ أَكْمَلَ عَدَدَ الْفَائِتِ ، وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ نَاقِصًا قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِلنُّقْصَانِ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا آخَرَ سِوَى هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الشَّهْرَانِ كَامِلَيْنِ ، أَوْ نَاقِصَيْنِ ، أَوْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا ، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ كَامِلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا ، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْفَائِتَ يَوْمٌ وَاحِدٌ ، وَلَوْ صَامَ بِالتَّحَرِّي سِنِينَ كَثِيرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَفِي الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّابِعَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثَةِ ، وَالرَّابِعَةِ صَامَ صَوْمَ رَمَضَانَ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ فَيَقَعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ لِأَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ رَمَضَانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ ، وَفَصَّلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ : إنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجُوزُ .
وَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ ، وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ صَامَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ
عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَا قَضَاهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ، وَإِنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الرَّابِعَةِ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ كُلِّهَا ، أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَا نَوَى عَنْهُ ، وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّهُ صَامَ قَبْلَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ .
وَكَذَا الثَّالِثُ ، وَالرَّابِعُ ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا : وَهُوَ رَجُلٌ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ ، وَلَوْ اقْتَدَى بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ زَيْدٌ فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ ، فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِالْإِمَامِ ، وَفِي الثَّانِي نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِأَحَدٍ كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا نَوَى فِي صَوْمِ كُلِّ سَنَةٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ نِيَّتُهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا بِالْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ الثَّانِي فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ فَيَقَعُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا عَمَّا ظَنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الصِّيَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ : شَرَائِطُ الْوُجُوبِ .
فَمِنْهَا : الْإِسْلَامُ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يُخَاطَبُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ : فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا مَضَى فَلَمْ يُتَصَوَّرْ قَضَاءُ الْوَاجِبِ ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ سَابِقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مِنْ مَشَايِخِنَا .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِمَكَانِ الْحَرَجِ إذْ لَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَلَزِمَهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا مَضَى مِنْ الرَّمَضَانَاتِ فِي حَالِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ ، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى .
وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ، أَوْ لِمَا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ : فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ ، وَاللَّعِبِ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَهُّمُ الْخِطَابِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتِ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي حَالِ الصِّبَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَكَانِ الْحَرَجِ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ فَكَانَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَرَجٌ .
وَكَذَا إذَا بَلَغَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُجْزِئُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ نَوَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِيهِ ، وَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَجَوَازًا وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا أَدْرَكَا وَقْتَ النِّيَّةِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا أَدْرَكَا مِنْ اللَّيْلِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا الْبَعْضُ لَمْ يَجِبْ الْبَاقِي ، أَوْ لِمَا فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الْإِفَاقَةُ ، وَالْيَقَظَةُ ؟ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا : إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ ، وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ لَكِنْ أَصْلُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ الْوُجُوبُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَسْبَابِ لَا بِالْخِطَابِ ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ لِثُبُوتِهِ بَلْ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ ، أَوْ أَبَى ، وَالثَّانِي : وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَهُوَ إسْقَاطُ مَا فِي الذِّمَّةِ وَتَفْرِيغُهَا مِنْ الْوَاجِبِ ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَتُشْتَرَطُ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَلَى أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى الْعَاجِزِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَا إلَى الْعَاجِز عَنْ فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ ، وَالْمَجْنُونُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ ، أَوْ لِاسْتِتَارِهِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَالنَّائِمُ لِعَجْزِهِمَا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِمَا عَاجِزُونَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَنْ أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِمْ وَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ بَلْ يَثْبُتُ جَبْرًا .
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ : إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أُسْتَاذِي الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدِّينِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمَعْقُولَ هُوَ وُجُوبُ الْفِعْلِ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ ، وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ
الْقَادِرُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ ، وَالْقَادِرُ عَلَى فِعْلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ضَرُورَةً ، وَالْمَجْنُونُ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَالنَّائِمُ عَاجِزُونَ عَنْ فِعْلِ الْخِطَابِ بِالصَّوْمِ وَعَنْ أَدَائِهِ إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ، وَاَلَّذِي دَعَا الْأَوَّلِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَالنَّائِمِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ ، وَالِانْتِبَاهِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ ، أَوْ كُلِّهِ ، وَمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ ، فَقَالُوا : إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي فَوَاتَ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ فَوَاتِهِ حَتَّى يُمْكِنَ إيجَابُ الْقَضَاءِ فَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ ، وَالْإِغْمَاءِ ، وَالنَّوْمِ ، وَقَالَ الْآخَرُونَ : إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي فَوْتَ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا ، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُسْتَوْعِبًا بِأَنْ جُنَّ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْضِي ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَضَاءَ
هُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَتَيْنِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فِي الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ شَهْرًا ، وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا .
أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ : فَاتَهُ الْوَاجِبُ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ لَهُمْ وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الشَّهْرُ إذْ الصَّوْمُ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا ، يُقَالُ صَوْمُ الشَّهْرِ ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ .
وَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ حَرَجٌ .
وَأَمَّا مَنْ أَبَى الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ : هَذَا شَخْصٌ فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْ : لَمْ يَصُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ ، وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَرَج فِي قَضَاءِ نِصْفِ الشَّهْرِ ، وَتَأْثِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ السَّنَةِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ فَبَقِيَ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْهُ وَقْتًا لَهُ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ فَاتَهُ الثَّوَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالصَّوْمِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَقُومَ الصَّوْمُ فِيهَا مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَالنَّائِمِ بِخِلَافِ
الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُسْتَوْعِبَ قَلَّمَا يَزُولُ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ ، وَالنَّوْمِ إذَا اسْتَوْعَبَ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهُ نَادِرٌ ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ اسْتِيعَابَهُ لَيْسَ بِنَادِرٍ ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ مَا مَضَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ مَا إذَا أَفَاقَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ ، وَلَوْ جُنَّ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بُعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ كُلِّ الشَّهْرِ إلَّا قَضَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي جُنَّ فِيهِ إنْ كَانَ نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ قَضَى جَمِيعَ الشَّهْرِ ، وَلَوْ جُنَّ فِي طَرَفَيْ الشَّهْرِ وَأَفَاقَ فِي وَسَطِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الطَّرَفَيْنِ .
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : لَا يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا ، وَقَالَ : يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صَبِيٍّ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ جُنَّ فَلَمْ يَزَلْ مَجْنُونًا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، أَوْ أَكْثَرُ ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى فِي هَذَا الشَّهْرِ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَمَانَ الْإِفَاقَةِ فِي حَيِّزِ زَمَانِ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْعَارِضِ فَإِنَّ هُنَاكَ زَمَانَ التَّكْلِيفِ سَبَقَ الْجُنُونَ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ .
وَجْهُ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا عَارِضًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ ، وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَيَجُوزُ فِي الْإِغْمَاءِ ، وَالنَّوْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا .
وَعَلَى هَذَا الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ إنَّهَا شَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَائِضِ ، وَالنُّفَسَاءِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَائِضَ فِي السُّنَّةِ إلَّا قَضَاءُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَأَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلسَّائِلَةِ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ هَكَذَا كُنَّ النِّسَاءُ يَفْعَلْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
أَشَارَتْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ تَعَبُّدًا مَحْضًا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَتَوَاهَا بَلَغَتْ الصَّحَابَةَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا عَنْ فَرْضٍ وَلَا عَنْ نَفْلٍ ، لِعَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا ، وَوُجُودِهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُوجَدُ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي ، وَعَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ مَعَ الْأَيَّامِ الْأُخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ طَهُرَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْحَيْضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَالنِّفَاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَيَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا