كتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
المؤلف : أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني علاء الدين
فَصْلٌ ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ : دَفَعْتُ إلَيْكَ هَذِهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً بِكَذَا ، وَيَقُولَ الْعَامِلُ : قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ فَإِذَا وُجِدَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : شَرَائِطُ مُصَحِّحَةٌ لِلْعَقْدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ ، وَشَرَائِطُ مُفْسِدَةٌ لَهُ .
( أَمَّا ) الْمُصَحِّحَةُ فَأَنْوَاعٌ : بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآلَةِ لِلْمُزَارَعَةِ وَبَعْضُهَا إلَى الْخَارِجِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فِيهِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ .
( أَمَّا ) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ فَنَوْعَانِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ مُزَارَعَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ الْمُزَارَعَةَ دَفْعًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ .
( وَأَمَّا ) الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى تَجُوزَ مُزَارَعَةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ دَفْعًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ ؛ لِأَنَّهَا تِجَارَةٌ فَيَمْلِكُ الْمُزَارَعَةَ ، وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَفْعًا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ ، فَلَا تَنْفُذُ مُزَارَعَتُهُ لِلْحَالِ ، بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ وَعِنْدَهُمَا هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ ، وَمُزَارَعَةُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ لِلْحَالِ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الْمُرْتَدُّ أَرْضًا إلَى رَجُلٍ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ أَوْ بِالرُّبُعِ فَعَمِلَ الرَّجُلُ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ جَمِيعًا مُزَارَعَةً أَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ
دُونَ الْبَذْرِ ، فَإِنْ دَفَعَهُمَا جَمِيعًا مُزَارَعَةً فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعِ ، وَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّ مُزَارَعَتَهُ كَانَتْ مَوْقُوفَةً فَإِذَا مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا ، فَصَارَ كَأَنَّ الْعَامِلَ زَرَعَ أَرْضَهُ بِبَذْرٍ ، مَغْصُوبٍ وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حَبًّا وَبَذَرَ بِهِ أَرْضَهُ فَأَخْرَجَتْ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْبَذْرِ ، وَعَلَى الْعَامِلِ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَذْرِ ؛ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ اسْتَهْلَكَهُ ، وَلَهُ مِثْلُهُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ نَقَصَتْهَا الْمُزَارَعَةُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، وَيَتَصَدَّقُ بِمَا وَرَاءَ قَدْرِ الْبَذْرِ وَنُقْصَانِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْقُصْهَا الْمُزَارَعَةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ أَوْ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ كَيْفَ مَا كَانَ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِ ، فَتَكُونُ حِصَّتُهُ لَهُ فَإِنْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ ، وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَالْخَارِجُ لَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ صَارَ كَأَنَّهُ غَصَبَ أَرْضًا وَبَذَرَهَا بِبَذْرِ نَفْسِهِ ، فَأَخْرَجَتْ .
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ بَذْرِهِ وَنَفَقَتِهِ وَضَمَانِ النُّقْصَانِ إنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ نَقَصَتْهَا وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْقُصْهَا ، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ ، وَلَا يَلْزَمَهُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ وَلَا غَيْرُهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : الْخَارِجُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الشَّرْطِ .
( وَجْهُ ) الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ، وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا بِبَذْرِ نَفْسِهِ ، وَلَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَذَا هَذَا ( وَجْهُ ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ انْعِدَامَ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاللَّحَاقِ لَيْسَ لِمَكَانِ انْعِدَامِ أَهْلِيَّتِهِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُنَافِي انْعِدَامَ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ لِوُجُودِ أَمَارَةِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ بَلْ يُقْتَلُ أَوْ يَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيَسْتَغْنِي عَنْ مَالِهِ فَيَثْبُتُ التَّعَلُّقُ نَظَرًا لَهُمْ ، وَنَظَرُهُمْ هُنَا فِي تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ لَا فِي إبْطَالِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ ، إذَا آجَرَ نَفْسَهُ ، وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ بَلْ يُصَحَّحُ حَتَّى تَجِبَ الْأُجْرَةُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ لِنَظَرِ الْمَوْلَى ، وَنَظَرُهُ هَهُنَا فِي التَّصْحِيحِ دُونَ الْإِبْطَالِ كَذَا هَذَا ، وَإِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا نَقَصَتْ الزِّرَاعَةُ الْأَرْضَ أَوْ لَمْ تَنْقُصْهَا ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا : الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ كَيْفَ مَا كَانَ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِ هَذَا إذَا دَفَعَ مُرْتَدٌّ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً إلَى مُسْلِمٍ أَمَّا إذَا دَفَعَ مُسْلِمٌ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً إلَى مُرْتَدٍّ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَيْضًا : إمَّا أَنْ دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ جَمِيعًا أَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ ، فَإِنْ
دَفَعَهُمَا جَمِيعًا مُزَارَعَةً فَعَمِلَ الْمُرْتَدُّ فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ لَا لِعَيْنِ رِدَّتِهِ بَلْ لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَعَمَلُ الْمُرْتَدِّ هَهُنَا لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي مَالِهِ بَلْ عَلَى نَفْسِهِ بِإِيفَاءِ الْمَانِعِ ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي نَفْسِهِ فَصَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَكَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنْ دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَعَمِلَ الْمُرْتَدُّ بِبَذْرِهِ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا .
فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ ، وَلَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ لِلْحَالِ فَلَمْ تَنْفُذْ مُزَارَعَتُهُ فَكَانَ الْخَارِجُ حَادِثًا عَلَى مِلْكِهِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَارِجَ مِنْ أَكْسَابِ رِدَّتِهِ ، وَكَسْبُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ ؟ ( وَالْجَوَابُ ) : أَنَّهُ حِينَ بَذَرَ كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْبَذْرِ ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، فَالْحَاصِلُ مِنْهُ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِمْ فَلَا يَكُونُ كَسْبَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ يَعْتَمِدُ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ إذْ الْمُزَارَعَةُ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا إذَا كَانَ مُسْلِمًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ أَوْ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ بَيْنَ مُرْتَدٍّ
وَمُسْلِمٍ ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ صَحَّ التَّصَرُّفُ فَاعْتِرَاضُ الرِّدَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُهُ .
( وَأَمَّا ) الْمُرْتَدَّةُ فَتَصِحُّ مُزَارَعَتُهَا دَفْعًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمَةِ فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ مِنْهَا دَفْعًا وَاحِدًا بِمَنْزِلَةِ مُزَارَعَةِ الْمُسْلِمَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ بَيَّنَ مَا يَزْرَعُ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمَزْرُوعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَرُبَّ زَرْعٍ يَزِيدُ فِي الْأَرْضِ ، وَرُبَّ زَرْعٍ يَنْقُصُهَا ، وَقَدْ يَقِلُّ النُّقْصَانُ ، وَقَدْ يَكْثُرُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ ؛ لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ : ازْرَعْ فِيهَا مَا شِئْتَ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْغَرْسَ ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الزَّرْعُ دُونَ الْغَرْسِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ قَدْ اسْتَحْصَدَ مُزَارَعَةً لَمْ يَجُزْ كَذَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ إذَا اسْتَحْصَدَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ بِالزِّيَادَةِ ، فَلَا يَكُونُ قَابِلًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْخَارِجِ مِنْ الزَّرْعِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْهُ فَسَدَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْأُجْرَةِ يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَتَّى لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لِأَحَدِهِمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ ، وَكُلُّ شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لِلشَّرِكَةِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُزَارِعَيْنِ بَعْضَ الْخَارِجِ حَتَّى لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ بِهِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْخَارِجِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مِنْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقْدِيرِ يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ وَلِهَذَا شُرِطَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ كَذَا هَذَا ( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ الْجُمْلَةِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مَعْلُومَةً لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، وَالشَّرِكَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً .
( أَمَّا ) مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ ، وَالْمُزَارَعَةُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ ، فَالْعَامِلُ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ بِعِوَضٍ ، وَهُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَرَبُّ الْأَرْضِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ مِنْ الْعَامِلِ بِعِوَضٍ هُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ ، فَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ اسْتِئْجَارًا ، إمَّا لِلْعَامِلِ ، وَإِمَّا لِلْأَرْضِ ، لَكِنْ بِبَعْضِ الْخَارِجِ .
وَأَمَّا مَعْنَى الشَّرِكَةِ فَلِأَنَّ الْخَارِجَ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ
مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ فَاشْتِرَاطُ قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ يَنْفِي لُزُومَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تُخْرِجُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ ؛ وَلِهَذَا إذَا شُرِطَ فِي الْمُضَارَبَةِ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ الرِّبْحِ لَا يَصِحُّ كَذَا هَذَا ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ جُزْءًا شَائِعًا ، وَشَرَطَ مَعَهُ زِيَادَةَ أَقْفِزَةٍ مَعْلُومَةٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْبَذْرَ لِنَفْسِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا تُخْرِجَ الْأَرْضُ إلَّا قَدْرَ الْبَذْرِ ، فَيَكُونَ كُلُّ الْخَارِجِ لَهُ فَلَا يُوجَدُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شَرَطَ قَدْرَ الْبَذْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ لَا عَيْنُ الْبَذْرِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ تَهْلِكُ فِي التُّرَابِ ، وَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ يُرْفَعُ ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ لَا فِي غَيْرِهِ ، وَدَفْعُ رَأْسِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ ( فَأَمَّا ) الْمُزَارَعَةُ فَتَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي كُلِّ الْخَارِجِ ، وَاشْتِرَاطُ قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الشَّرِكَةِ فِي كُلِّهِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي مَعْلُومٌ ، فَشَرْطُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الشَّرِكَةِ فِي الْعَقْدِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ لِأَحَدِهِمَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - أَبْطَلَهُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فِيهِ ، وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ سَبِخَةً أَوْ نَزَّةً لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ اسْتِئْجَارٍ لَكِنْ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَالْأَرْضُ السَّبِخَةُ وَالنَّزَّةُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا ، فَلَا تَجُوزُ مُزَارَعَتُهَا ( فَأَمَّا ) إذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي الْمُدَّةِ لَكِنْ لَا تُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ لِعَارِضٍ مِنْ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَزَمَانِ الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي هِيَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فِي الْمُدَّةِ تَجُوزُ مُزَارَعَتُهَا ، كَمَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ مَا يَزْرَعُ فِيهَا حِنْطَةً فَكَذَا ، وَمَا يَزْرَعُ فِيهَا شَعِيرًا فَكَذَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمَزْرُوعَ فِيهِ مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَيَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْأَرْضِ ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً وَبَعْضَهَا شَعِيرًا ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى التَّبْعِيضِ تَنْصِيصٌ عَلَى التَّجْهِيلِ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ مَا زَرَعْتَ فِيهَا حِنْطَةً فَكَذَا ، وَمَا زَرَعْتَ فِيهَا شَعِيرًا فَكَذَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ كُلَّهَا ظَرْفًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ أَوْ لِزَرْعِ الشَّعِيرِ ؛ فَانْعَدَمَ التَّجْهِيلُ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ أَزْرَعَ فِيهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَزْرُوعَ فِيهِ مِنْ الْأَرْضِ مَجْهُولٌ فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَالَ : مَا زَرَعَ فِيهَا حِنْطَةً فَكَذَا وَمَا زَرَعَ فِيهَا شَعِيرًا فَكَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِتَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَتَّضِحْ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَ حِنْطَةً فَكَذَا ، وَإِنْ زَرَعَ شَعِيرًا فَكَذَا ، وَإِنْ
زَرَعَ سِمْسِمًا فَكَذَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِانْعِدَامِ جَهَالَةِ الْمَزْرُوعِ فِيهِ ، وَجَهَالَةُ الزَّرْعِ لِلْحَالِ لَيْسَ بِضَائِرٍ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إلَيْهِ فَأَيُّ ذَلِكَ اخْتَارَهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ .
وَلَوْ زَرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً وَبَعْضَهَا شَعِيرًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَرَعَ الْكُلَّ حِنْطَةً أَوْ الْكُلَّ شَعِيرًا لَجَازَ ، فَإِذَا زَرَعَ الْبَعْضَ حِنْطَةً وَالْبَعْضَ شَعِيرًا أَوْلَى ( وَمِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسَلَّمَةً إلَى الْعَامِلِ مُخَلَّاةً ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْأَرْضِ ، وَبَيْنَ الْعَامِلِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ ، فَكَذَا إذَا اشْتَرَطَ فِيهِ عَمَلَهُمَا فَيَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ جَمِيعًا ؛ لِمَا قُلْنَا ؛ وَلِهَذَا لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الْعَمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ وُجُودَ مَا هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَذَا هَذَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ أَرْضًا وَبَذْرًا وَبَقَرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَ الْعَامِلُ وَعَبْدُ رَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثُ وَلِعَبْدِهِ الثُّلُثُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ صَارَ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، فَصَحَّ وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى عَبْدِهِ لَا يَكُونُ شَرْطًا عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ يَدُ نَفْسِهِ عَلَى كَسْبِهِ لَا يَدُ النِّيَابَةِ عَنْ مَوْلَاهُ ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يَمْنَعُ تَحْقِيقَ التَّخْلِيَةِ ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ ، وَيَكُونُ نَصِيبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبْدِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَذَا لَا يَصِحُّ ،
عَلَى مَا نَذْكُرُ وَيَكُونُ الْخَارِجُ لَهُ ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَيْضًا أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا إجَارَةُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ بِأَنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَإِمَّا مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ بِأَنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ ، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الِاسْتِئْجَارِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ، فَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ فَإِنْ حَصَلَتْ تَابِعَةً صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَقْصُودَةً فَسَدَتْ .
( فَصْلٌ ) : وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُزَارَعَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : الْمُزَارَعَةُ أَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْآلَةُ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ لَا غَيْرُ لِيَعْمَلَ لَهُ فِي أَرْضِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنْ جَانِبٍ ، وَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ لَا غَيْرُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ وَالْبَقَرُ وَالْآلَةُ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ لَا غَيْرُ مَقْصُودًا فَأَمَّا الْبَذْرُ فَغَيْرُ مُسْتَأْجَرٍ مَقْصُودًا ، وَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ بَلْ هِيَ تَوَابِعُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ لِلْعَمَلِ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَمَلِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا فَخَاطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ جَازَ وَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ لِلْعَمَلِ كَانَ الْعَقْدُ عَقْدًا عَلَى عَمَلٍ جَيِّدٍ ، وَالْأَوْصَافُ لَا قِسْطَ لَهَا مِنْ الْعِوَضِ فَأَمْكَنَ أَنْ تَنْعَقِدَ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمَّ شَرِكَةً بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ ، وَجُعِلَتْ مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ فَكَذَا ، إذَا كَانَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ ، وَيُجْعَلَ مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ
تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ .
( وَجْهُ ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَامِلَ هُنَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ جَمِيعًا مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ هُنَا ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ ، فَبَقِيَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا ، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارَ الْبَقَرِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَصْلًا وَمَقْصُودًا ، وَاسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً ، وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ وَالثَّانِي : أَنَّ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَعْدُومَةٌ ، وَهِيَ مَعَ انْعِدَامِهَا مَجْهُولَةٌ فَيَقْتَصِرُ جَوَازُهَا عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْآلَةُ تَابِعَةً ، فَإِذَا جُعِلَتْ مَقْصُودَةً يُرَدُّ إلَى الْقِيَاسِ ( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْأَرْضُ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْعَامِلِ جَمِيعًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنْ جَانِبٍ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ( وَالْجَوَابُ ) : مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَوَازَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَتَبْقَى حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَطَرِيقُ
الْجَوَازِ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الْبَذْرِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثُمَّ يَسْتَعِيرَ مِنْ صَاحِبِهَا لِيَعْمَلَ لَهُ فَيَجُوزَ ، وَالْخَارِجُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَحَدِهِمْ الْأَرْضُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَقَرُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَذْرُ وَمِنْ الرَّابِعِ الْعَمَلُ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ أَيْضًا لِمَا مَرَّ ، وَفِي عَيْنِ هَذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِالْفَسَادِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ اشْتَرَكُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهَ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُزَارَعَتَهُمْ ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يُشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَذْرِ مِنْ قِبَلِ أَحَدِهِمَا ، وَالْبَعْضُ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا صَاحِبَهُ فِي قَدْرِ بَذْرِهِ ، فَيَجْتَمِعُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ دَفَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَرْضَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ ، وَثُلُثُهُ لِذَلِكَ الْعَامِلِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الْعَامِلِ الثَّانِي ، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الْمُزَارَعَةُ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ ، وَهُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ ، وَالْعَامِلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِكَوْنِهِ خِلَافَ مَوْرِدِ الشَّرْعِ بِالْمُزَارَعَةِ ، وَمَعَ
ذَلِكَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَقَعَ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ لَا غَيْرُ وَإِنَّهُ صَحِيحٌ ، وَفِيمَا بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ وَقَعَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ جَمِيعًا وَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ لَهُ جِهَتَانِ : جِهَةُ الصِّحَّةِ وَجِهَةُ الْفَسَادِ خُصُوصًا فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ ، فَيَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَاسِدًا فِي حَقِّ الْآخَرِ .
وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلَيْنِ جَمِيعًا ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْعَامِلَيْنِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ فِي الْعَقْدِ تَابِعًا ، فَإِنْ جُعِلَ مَقْصُودًا فِي الْعَقْدِ تَفْسُدُ الْمُزَارَعَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً ، فَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعَامَلَةِ أَنْ لَا تَصِحَّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، فَكَانَتْ إجَارَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُزَارَعَةِ إلَّا أَنَّهَا جَازَتْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَتَقَعُ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ يَخْرُجُ مِنْ الثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الْمُعَامَلَةِ مَعْلُومٌ ( فَأَمَّا ) وَقْتُ ابْتِدَاءِ الْمُزَارَعَةِ فَمُتَفَاوِتٌ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَهُوَ عَلَى أَوَّلِ زَرْعٍ يَخْرُجُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ فِي دِيَارِنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، كَمَا فِي الْمُعَامَلَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ فَأَنْوَاعٌ : وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُهَا فِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ ( مِنْهَا ) : شَرْطُ كَوْنِ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ ( وَمِنْهَا ) : شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ ، وَهُوَ التَّخْلِيَةُ .
( وَمِنْهَا ) : شَرْطُ الْبَقَرِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا مَقْصُودَةً فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
( وَمِنْهَا ) شَرْطُ الْعَمَلِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَوْرِدِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
( وَمِنْهَا ) : شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُزَارِعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ .
( وَمِنْهَا ) : شَرْطُ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسُ وَالتَّذْرِيَةُ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَاحُهُ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الزَّرْعُ قَبْلَ تَنَاهِيهِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِهِ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَتَسْوِيَةِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِهَا فَعَلَى الْمُزَارِعِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الزَّرْعِ ، وَهُوَ النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ عَادَةً ، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ تَنَاهِي الزَّرْعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ قَبْلَ قِسْمَةِ الْحَبِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِخُلُوصِ الْحَبِّ وَتَنْقِيَتِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ دَفَعَ أَرْضًا مُزَارَعَةً ، وَفِيهَا زَرْعٌ قَدْ اسْتَحْصَدَ لَا يَجُوزُ لِانْقِضَاءِ وَقْتِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ ؛ إذْ الْعَمَلُ فِيهِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ ،
وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنْ الْحَمْلِ إلَى الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِحْرَازِ الْمَقْسُومِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَجَازَ شَرْطَ الْحَصَادِ وَرَفْعِ الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَى الْمُزَارِعِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُفْتُونَ بِهِ أَيْضًا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَالْجُذَاذُ فِي بَابِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِلَا خِلَافٍ ( أَمَّا ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يُشْكِلُ .
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَلِانْعِدَامِ التَّعَامُلِ فِيهِ .
وَلَوْ بَاعَ الزَّرْعَ قَصِيلًا فَاجْتَمَعَا عَلَى أَنْ يَقْصِلَاهُ كَانَ الْقَصْلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَدْرِ شَرْطِ الْحَبِّ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْحَصَادِ ( وَمِنْهَا ) : شَرْطُ التِّبْنِ لِمَنْ لَا يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ التِّبْنُ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا أَنْ سَكَتَا عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُقَرَّرٌ ، وَمُقْتَضَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ مَعَانِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : لَا يَفْسُدُ ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْهُمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ لَا بِالشَّرْطِ فَكَانَ شَرْطُ التِّبْنِ ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَعْنِي الْحَبَّ وَالتِّبْنَ - مَقْصُودٌ مِنْ الْعَقْدِ فَكَانَ السُّكُوتُ عَنْ
التِّبْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عَنْ الْحَبِّ ، وَذَا مُفْسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هَذَا ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَإِنْ شَرْطَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ جَازَ ، وَيَكُونُ لَهُ ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ؛ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا ، وَإِنْ شَرَطَاهُ لِمَنْ لَا بَذْرَ لَهُ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ التِّبْنَ بِالْبَذْرِ لَا بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، وَنَمَاءُ مِلْكِ الْإِنْسَانِ مِلْكُهُ فَصَارَ شَرْطُ كَوْنِ التِّبْنِ لِمَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْحَبِّ لَهُ ، وَذَا مُفْسِدٌ كَذَا هَذَا .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ عَمَلًا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ ، فَالْمُزَارَعَةُ كَبِنَاءِ الْحَائِطِ والسرقند وَاسْتِحْدَاثِ حَفْرِ النَّهْرِ وَرَفْعِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ .
وَأَمَّا الْكِرَابُ فَلَا يَخْلُو فِي الْأَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَمَّا إنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ وَأَمَّا إنْ سَكَتَا عَنْهُ ، فَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمُزَارِعُ عَلَيْهِ لَوْ امْتَنَعَ أَوْ لَا ؟ فَسَنَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - ، وَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ شَرَطَاهُ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّثْنِيَةِ ، وَإِمَّا أَنْ شَرَطَاهُ مُقَيَّدًا بِهَا ، فَإِنْ شَرَطَاهُ مُطْلَقًا عَنْ الصِّفَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ يَبْقَى إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ : لَا يُفْسِدُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْكِرَابَ بِدُونِ التَّثْنِيَةِ مِمَّا يُبْطِلُ السَّقْيَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَمَنْفَعَةٌ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ ، وَإِنْ شَرَطَاهُ مَعَ
التَّثْنِيَةِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً لِلزِّرَاعَةِ وَمَرَّةً بَعْدَ الْحَصَادِ ؛ لِيَرُدَّ الْأَرْضَ عَلَى صَاحِبِهَا مَكْرُوبَةً ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ عَمَلٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْكِرَابَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ ، وَإِنَّهُ عَمَلٌ يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ ، فَكَانَ مُفْسِدًا حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى لَا يُفْسِدُ كَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا .
وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَلِلْمُزَارِعِ الرُّبُعُ ، وَإِنْ زَرَعَهَا بِكِرَابٍ فَلَهُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ كَرَبَهَا وَثَنَّاهَا فَلَهُ النِّصْفُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَا كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ فِي شَرْطِ الْكِرَابِ مَعَ التَّثْنِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَهَا هَذَا الشَّرْطُ ، وَإِذَا عَمِلَ يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، فَأَمَّا شَرْطُ الْكِرَابِ وَعَدَمُهُ فَصَحِيحٌ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ ، وَبَعْضُهُمْ صَحَّحُوا جَوَابَ الْكِتَابِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَبَيْنَ شَرْطِ التَّثْنِيَةِ بِفَرْقٍ لَمْ يَتَّضِحْ ، وَفَرَّعَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ : وَلَوْ زَرَعَ بَعْضَ الْأَرْضِ بِكِرَابٍ وَبَعْضَهَا بِغَيْرِ كَرَابٍ وَبَعْضَهَا بِثُنْيَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالشَّرْطُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ الْأَرْضِ نَافِذٌ عَلَى مَا شَرَطَا كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ شَرَطَ التَّثْنِيَةَ فِي كُلِّ الْأَرْضِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْبَعْضِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لِلْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ أَحْكَامٌ : مِنْهَا ) : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِصْلَاحِهِ فَعَلَى الْمُزَارِعِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ السِّرْقِينِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا ، وَكَذَلِكَ الْحَصَادُ وَالْحَمْلُ إلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسُ وَتَذْرِيَتُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهِ الْمُزَارِعُ .
( وَمِنْهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّهَا إذَا لَمْ تُخْرِجُ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَجْرُ الْعَمَلِ وَلَا أَجْرُ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ هُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ بَعْضُ الْخَارِجِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْخَارِجُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَالْوَاجِبُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ مِثْلِ الْعَمَلِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْخَارِجِ ، فَانْعِدَامُ الْخَارِجِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ ( وَمِنْهَا ) : أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَازِمٌ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ .
وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْدَمَا عَقَدَ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَقَالَ : لَا أُرِيدُ زِرَاعَةَ الْأَرْضِ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَلَوْ امْتَنَعَ صَاحِبُهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ لَازِمٌ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ
يَمْتَنِعَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ ، وَهُوَ الْبَذْرُ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلِكُ فِي التُّرَابِ فَلَا يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهِ مُلْزِمًا فِي حَقِّهِ ؛ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إتْلَافِ مِلْكِهِ وَلَا كَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَالْمُعَامَلَاتُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ الْمَعْنَى إيَّاهُمْ إتْلَافُ مِلْكِهِمْ ، فَكَانَ الشُّرُوعُ فِي حَقِّهِمْ مُلْزِمًا ، وَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُزَارِعُ كَرَبَ الْأَرْضَ أَوْ لَمْ يَكْرُبْهَا ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِ الْكِرَابِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَمِنْهَا : وِلَايَةُ جَبْرِ الْمُزَارِعِ عَلَى الْكِرَابِ وَعَدَمُهَا ، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ شَرَطَا الْكِرَابَ فِي الْعَقْدِ وَإِمَّا أَنْ سَكَتَا عَنْ شَرْطِهِ فَإِنْ شَرْطَاهُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ صَحِيحٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مِمَّا يُخْرِجُ الزَّرْعَ بِدُونِ الْكِرَابِ زَرْعًا مُعْتَادًا يُقْصَدُ مِثْلُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يُجْبَرُ الْمُزَارِعُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُخْرِجُ أَصْلًا أَوْ يُخْرِجُ ، وَلَكِنْ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يُقْصَدُ مِثْلُهُ بِالْعَمَلِ يُجْبَرُ عَلَى الْكِرَابِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ عَلَى الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا امْتَنَعَ الْمُزَارِعُ عَنْ السَّقْيِ ، وَقَالَ : اُدْعُهَا حَتَّى تَسْقِيَهَا السَّمَاءُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يَكْتَفِي بِمَاءِ السَّمَاءِ ، وَيُخْرِجُ زَرْعًا مُعْتَادًا بِدُونِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى السَّقْيِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ السَّقْيِ أَجْوَدَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكْتَفِي بِهِ يُجْبَرُ عَلَى السَّقْيِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
( وَمِنْهَا ) : جَوَازُ
الزِّيَادَةِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْخَارِجِ وَالْحَطِّ عَنْهُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَمَلَ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ ، وَمَا لَا فَلَا ، وَالْحَطُّ جَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا كَمَا فِي الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ : الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُزَارِعِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمَزَارِعِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَحْصَدَ ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ ، وَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَى النِّصْفِ مَثَلًا فَزَادَ الْمَزَارِعُ صَاحِبَ الْأَرْضِ السُّدُسَ فِي حِصَّتِهِ ، وَجَعَلَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ ، وَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ نِصْفَانِ ، وَإِنْ زَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمَزَارِعَ السُّدُسَ فِي حِصَّتِهِ وَتَرَاضَيَا فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ زِيَادَةٌ عَلَى الْأُجْرَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ الْعَقْدَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ - ، وَالثَّانِيَ حَطٌّ مِنْ الْأُجْرَةِ وَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ زَادَ الْمُزَارِعُ جَازَ ؛ لِمَا قُلْنَا ، هَذَا إذَا زَادَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ فَإِنْ زَادَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ جَازَ أَيُّهُمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ فَيَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ أَيْضًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُزَارِعِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَصِحَّ وَ ( مِنْهَا ) : أَنَّ الْخَارِجَ يَكُونُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ سَوَاءٌ كَانَ رَبَّ الْأَرْضِ أَوْ الْمُزَارِعَ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ الْخَارِجَ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ لَا بِالشَّرْطِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْمِلْكِ عَنْ الشَّرْطِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَانَ لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَانَ هُوَ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ فَإِذَا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ كَانَ عَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ يَكُونُ هُوَ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ وَغَرِمَ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ طَيِّبٌ ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ الْأَرْضُ ، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ وَغَرِمَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ بَلْ يَأْخُذُ مِنْ الزَّرْعِ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ وَيَطِيبُ ذَلِكَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ بَذْرِهِ لَكِنْ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ
لَا يَجِبُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدْ اسْتِعْمَالُ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ إجَارَةٍ وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لَا تَجِبُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَا تَجِبُ بِالتَّخْلِيَةِ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فِيهَا حَقِيقَةً ؛ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَوَانِعِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْإِجَارَاتِ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ اسْتَعْمَلَهَا الْمُزَارِعُ ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ إذَا لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
( وَمِنْهَا ) : أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : يَجِبُ تَامًّا ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ وَهُوَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِالْإِجْمَاعِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجَارَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ ، وَذَلِكَ فِي وُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ فِي الْبَابِ ؛ إذْ هُوَ قَدْرُ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ جَهَالَةٍ ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَوَجَبَ الْمُسَمَّى عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ أَيْضًا ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ الْأَصْلِيِّ لِلْمَنَافِعِ وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ وَلِهَذَا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْبَدَلَ أَصْلًا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
( وَجْهُ )
قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْأَصْلَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ : وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا عَنْ الْمَنَافِعِ قِيمَةً لَهَا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمِثْلُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لَكِنْ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَدَلِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِالْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى ، وَالْآجِرُ مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمُسَمَّى فِي تَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى أَصْلًا لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ الدَّيْنُ الْفَادِحُ الَّذِي لَا قَضَاءَ لَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الْأَرْضِ تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ بِهَذَا الْعُذْرِ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخَ بِأَنْ كَانَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا إذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ ، وَبَلَغَ مَبْلَغَ الْحَصَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ الضَّرَرِ فَيَبِيعُ الْقَاضِي الْأَرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَفْسَخُ الْمُزَارَعَةَ وَلَا تَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْعُذْرِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْفَسْخُ بِأَنْ كَانَ الزَّرْعُ لَمْ يُدْرِكْ وَلَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْحَصَادِ لَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُفْسَخُ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْعَامِلِ ، وَفِي الِانْتِظَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ تَأْخِيرَ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَفِيهِ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ - فَكَانَ أَوْلَى وَيُطْلَقُ مِنْ الْحَبْسِ إنْ كَانَ مَحْبُوسًا إلَى غَايَةِ الْإِدْرَاكِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُ وَإِنَّهُ غَيْرُ مُمَاطِلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ؛ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا عَنْ بَيْعِ الْأَرْضِ شَرْعًا ، وَالْمَمْنُوعُ مَعْذُورٌ فَإِذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ يُرَدُّ إلَى الْحَبْسِ ثَانِيًا ؛ لِيَبِيعَ أَرْضَهُ وَيُؤَدِّيَ دَيْنَهُ بِنَفْسِهِ ، وَإِلَّا فَيَبِيعُ الْقَاضِي عَلَيْهِ .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ فَنَحْوُ الْمَرَضِ - لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ - ، وَالسَّفَرِ - لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ - ، وَتَرْكِ حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ - لِأَنَّ مِنْ الْحِرَفِ مَا لَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ - ، وَمَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ وُجُودِهِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) : الْفَسْخُ وَهُوَ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ ، وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ : أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَوْعَانِ : الْأَوَّلُ : امْتِنَاعُ صَاحِبِ الْبَذْرِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ بِأَنْ قَالَ : لَا أُرِيدُ مُزَارَعَةَ الْأَرْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُضِيِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْهُ دَلَالَةً .
وَالثَّانِي : حَجْرُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ مَا دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً ، وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْمُزَارَعَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ حَتَّى يَمْلِكَ مَنْعَ الْمُزَارِعِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ بَذْرٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى مَنْعَهُ عَنْ الزِّرَاعَةِ بِالْحَجْرِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْعَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ .
وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جِهَةِ الْمُزَارِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى وَلَا الْعَبْدُ مَنْعَ الْمُزَارِعِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْعَهُ عَنْ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ الْحَجْرِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مَنْعَهُ بِالْحَجْرِ أَيْضًا هَذَا إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ، فَأَمَّا إذَا أَخَذَهَا مُزَارَعَةً ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْعَمَلِ ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْأَرْضُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالْحَجْرِ ؛
لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ لَمْ يَعْجَزْ عَنْ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى مَنْعَهُ عَنْ الْعَمَلِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ مَا لَا يَنْفَسِخَ بِالْحَجْرِ هَذَا إذَا حَجَرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ نَهَاهُ عَنْ الزِّرَاعَةِ أَوْ فَسَخَ الْعَقْدَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ أَوْ نَهَى قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ فَالنَّهْيُ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ نَهْيُ الْأَبِ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ قَبْلَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الزِّرَاعَةِ وَالْفَسْخَ بَعْدَهَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ .
( وَمِنْهَا ) : انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا انْقَضَتْ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْنَى الِانْفِسَاخِ ( وَمِنْهَا ) : مَوْتُ صَاحِبِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ الزَّرْعُ أَوْ وَهُوَ بَقْلٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَفَادَ الْحُكْمَ لَهُ دُونَ وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ( وَمِنْهَا ) : مَوْتُ الْمُزَارِعِ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا بَلَغَ الزَّرْعُ حَدَّ الْحَصَادِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ لِمَا ذَكَرْنَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ فَنَقُولُ : وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ انْفَسَخَتْ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا ، فَإِنْ انْفَسَخَتْ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ لَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ ، وَإِنْ كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ وَسَوَّى الْمُسَنَّيَاتِ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْفَسَخَ سَوَاءٌ انْفَسَخَ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ أَوْ بِدَلِيلِهِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ لَا فِي الْمَاضِي فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ، وَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى وَهُوَ بَعْضُ الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا شَيْءَ ، وَقِيلَ : هَذَا جَوَابُ الْحُكْمِ ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ الْعَامِلَ فِيمَا إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِامْتِنَاعُ شَرْعًا فَإِنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْرِيرَ وَإِنَّهُ حَرَامٌ ، وَإِنْ انْفَسَخَتْ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ وَبَلَغَ الْحَصَادَ فَالْحَصَادُ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُدْرِكْ فَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَرِيحِ الْفَسْخِ وَدَلِيلِهِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، وَالْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ .
( أَمَّا ) الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فَلِمَا مَرَّ أَنَّ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي فَبَقِيَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ .
( وَأَمَّا ) الْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ ، وَفِي
الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ ، وَفِي التَّرْكِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ التَّرْكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ صَاحِبُ الْأَرْضِ ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِ الْفَسْخِ وَهُوَ الْمَوْتُ إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُزَارِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ حَقُّ الْقَلْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ فَجُعِلَ هَذَا عُذْرًا فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا ، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَهَذَا لَا يَتَّضِحُ فَإِنْ اتَّفَقَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ .
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُزَارِعِ .
وَلَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا فَصَاحِبُ الْأَرْضِ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ : إنْ شَاءَ قَلَعَ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْمُزَارِعَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَ هُوَ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُزَارِعِ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ .
( وَأَمَّا ) فِي مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَمَّا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثَلَاثَ سِنِينَ وَنَبَتَ الزَّرْعُ وَصَارَ بَقْلًا تُتْرَكُ الْأَرْضُ فِي يَدَيْ الْمُزَارِعِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ، وَيُقْسَمُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ فِي التَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَفِي الْقَلْعِ إضْرَارًا بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُزَارِعُ ، وَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً لِبَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي هَذَا الزَّرْعِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَقَالَ وَرَثَتُهُ : نَحْنُ نَعْمَلُ عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ وَأَبَى ذَلِكَ
صَاحِبُ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ إلَى وَرَثَةِ الْمُزَارِعِ ؛ لِأَنَّ فِي الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْوَرَثَةِ وَلَا ضَرَرَ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي التَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ ، وَإِذَا تَرَكَ لَا أَجْرَ لِلْوَرَثَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى حُكْمِ عَقْدِ أَبِيهِمْ تَقْدِيرًا فَكَأَنَّهُ يَعْمَلُ أَبُوهُمْ ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ ، فَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا ، فَإِمَّا أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ أَوْ يُعْطِيَهُمْ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ مِنْ الزَّرْعِ الْبَقْلِ أَوْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِمْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ ) وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْمُسَاقَاةِ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُزَارَعَةِ ، أَمَّا مَعْنَى الْمُعَامَلَةِ لُغَةً : فَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْعَمَلِ ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ .
وَأَمَّا شَرْعِيَّتُهَا : فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - : إنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَشْرُوعَةٌ ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ خَيْبَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ نَخِيلَهُمْ مُعَامَلَةً ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ خَيْبَرَ فَلَا نُعِيدُهُ .
( وَأَمَّا ) رُكْنُهَا : فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ .
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لَهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدَانِ عَاقِلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُ مَنْ لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ : فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَا مُرْتَدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُعَامَلَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُرْتَدًّا وُقِفَتْ الْمُعَامَلَةُ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الدَّافِعَ فَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ الْمِثْلِ إذَا عَمِلَ ، وَعِنْدَهُمَا الْخَارِجُ بَيْنَ الْعَامِلِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الدَّافِعِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْحَالَيْنِ كَمَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْعَامِلَ فَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ .
وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ فَالْخَارِجُ بَيْنَ الدَّافِعِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْعَامِلِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُرْتَدٍّ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ ، وَيَجُوزُ مُعَامَلَةُ الْمُرْتَدَّةِ دَفْعًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ ثَمَرَةُ مُعَامَلَةٍ فِيمَا يَزِيدُ ثَمَرُهُ بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ نَخْلًا فِيهِ طَلْعٌ أَوْ بُسْرٌ قَدْ احْمَرَّ أَوْ اخْضَرَّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرْطُبْ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَنَاهَى عِظَمُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً فَلَمْ يُوجَدْ الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ
فَلَا يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ ( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُمَا ، فَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَتْ لِمَا عُلِمَ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَعْضِ الْخَارِجِ مُشَاعًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِمَا عُلِمَ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَمَلِ وَهُوَ الشَّجَرُ مَعْلُومًا ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ ( وَمِنْهَا ) التَّسْلِيمُ إلَى الْعَامِلِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ حَتَّى لَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا فَسَدَتْ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُعَامَلَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَيَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ كَمَا فِي الْمُزَارَعَةِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ وُجِدَ التَّعَامُلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ ، وَلَوْ دَفَعَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا الرِّطَابَ أَوْ دَفَعَ أَرْضًا فِيهَا أُصُولٌ رَطْبَةٌ نَابِتَةٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُدَّةَ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَيْسَ لِابْتِدَاءِ نَبَاتِهِ وَلَا لِانْتِهَاءِ جَذِّهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ جَذِّهِ مَعْلُومًا يَجُوزُ وَيَقَعُ عَلَى الْجَذَّةِ الْأُولَى كَمَا فِي الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُعَامَلَةِ فَأَنْوَاعٌ : دَخَلَ بَعْضُهَا فِي الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ كَانَ انْعِدَامُهُ شَرْطًا لِلْإِفْسَادِ .
( مِنْهَا ) شَرْطُ كَوْنِ الْخَارِجِ كُلِّهِ لِأَحَدِهِمَا ( وَمِنْهَا ) شَرْطُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانٌ مُسَمَّاةٌ ( وَمِنْهَا ) شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ .
( وَمِنْهَا ) شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ .
( وَمِنْهَا ) شَرْطُ الْجِذَاذِ وَالْقِطَافِ عَلَى الْعَامِلِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ فِي شَيْءٍ وَلِانْعِدَامِ التَّعَامُلِ بِهِ أَيْضًا فَكَانَ مِنْ بَابِ مُؤْنَةِ الْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا .
( وَمِنْهَا ) شَرْط عَمَلٍ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ نَحْوُ السَّرْقَنَةِ وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَتَقْلِيبِ الْأَرْضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ وَلَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَقَاصِدِهِ .
( وَمِنْهَا ) شَرِكَةُ الْعَامِلِ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرُ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَاسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَجُوزُ حَتَّى إنَّ النَّخْلَ لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُعَامَلَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثٌ ثُلُثَاهُ لِلشَّرِيكِ الْعَامِلِ وَثُلُثُهُ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ عَلَى شَرِيكِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلٍ فِيهِ الْأَجِيرُ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِذَا عَمِلَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى شَرِيكِهِ لِمَا عُرِفَ فِي الْإِجَارَاتِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمُزَارَعَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ دَفَعَهَا أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ .
وَلَهُ ثُلُثَا الْخَارِجِ أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِئْجَارُ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ الْأَجِيرُ فِيهِ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ فِي الْبَذْرِ وَهُنَا تَحَقَّقَ لِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي النَّخْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مَالِهِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ ، وَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ لَا بِالْعَمَلِ بَلْ الْعَامِلُ مِنْهُمَا مُعِينٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِئْجَارُ .
وَلَوْ أَمَرَ الشَّرِيكُ السَّاكِتُ الشَّرِيكَ الْعَامِلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يُلَقِّحُ بِهِ النَّخْلَ فَاشْتَرَاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الشَّرِكَةِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ فِي عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ نَخْلَهُ إلَى رَجُلَيْنِ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ جَازَ وَسَوَاءٌ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجِيرُ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرْطِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الشَّرْطِ .
وَلَوْ شُرِطَ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالْآخَرِ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَانِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَيَجِبُ عَلَى حَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْطُ وَلَوْ شَرَطَا لِصَاحِبِ النَّخْلِ الثُّلُثَ وَلِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الثُّلُثَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمُزَارَعَةَ إنَّ مَنْ
دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ وَلِلزَّارِعِ الثُّلُثَانِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فُلَانٌ مَعَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةٌ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ فَاسِدَةٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ ، وَالْأُجْرَةُ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ .
وَالْعَمَلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ فَإِذَا اشْتَرَطَهَا عَلَى الْأَجِيرِ فَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَعْمَلَ لَهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ فَفَسَدَ الْعَقْدُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ لَا أَنَّهُ صَحَّ فِيمَا بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ فَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْآخَرِ وَهَذَا مَعَ هَذَا التَّكَلُّفِ غَيْرُ وَاضِحٍ وَيَتَّضِحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُجِيزِهَا فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُعَامَلَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّجَرُ وَالْكَرْمُ وَالرِّطَابُ وَأُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ مِنْ السَّقْيِ وَإِصْلَاحِ النَّهْرِ وَالْحِفْظِ وَالتَّلْقِيحِ لِلنَّخْلِ فَعَلَى الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ ، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالْأَرْضِ مِنْ السِّرْقِينِ وَتَقْلِيبِ الْأَرْضِ - الَّتِي فِيهَا الْكَرْمُ وَالشَّجَرُ وَالرِّطَابُ - وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَا مَقْصُودًا وَلَا ضَرُورَةً .
وَكَذَلِكَ الْجِذَاذُ وَالْقِطَافُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ مِنْ حُكْمِ عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ ( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ إذَا لَمْ يُخْرِجْ الشَّجَرُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْفَرْقِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعَ وَالْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ .
( وَمِنْهَا ) وِلَايَةُ جَبْرِ الْعَامِلِ عَلَى الْعَمَلِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
( وَمِنْهَا ) جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْحَطِّ عَنْهُ وَانْعِدَامُ الْجَوَازِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ احْتَمَلَ إنْشَاءَ الْعَقْدِ احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَإِلَّا فَلَا ، وَالْحَطُّ جَائِزٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَصْلُهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ، فَإِذَا دَفَعَ نَخْلًا بِالنِّصْفِ مُعَامَلَةً فَخَرَجَ الثَّمَرُ فَإِنْ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ
الْإِنْشَاءَ لِلْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَائِزٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ جَائِزَةً .
وَلَوْ تَنَاهَى عِظَمُ الْبُسْرِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْعَامِلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْأُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ وَالْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ ، وَالْأَوَّلُ حَطٌّ مِنْ الْأُجْرَةِ وَاحْتِمَالُ الْإِنْشَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى غَيْرِهِ مُعَامَلَةً إلَّا إذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْأَرْضِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَصِحُّ ، وَإِذَا قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَقَدْ أَذِنَ لَهُ فَصَحَّ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فِيهِ فَدَفَعَ الْعَامِلُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ مُعَامَلَةً فَعَمِلَ فِيهِ فَأَخْرَجَ فَهُوَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالشَّرْطِ - وَهُوَ شَرْطُ الْعَمَلِ - وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعَمَلُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ مَعَهُ لَمْ يَصِحَّ فَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ وَلَهُ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ يَوْمَ عَمِلَ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ بِأَمْرِهِ فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ .
وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَرُ فِي يَدِ الْعَامِلِ الْأَخِيرِ مِنَّا غَيْرِ عَمَلِهِ وَهُوَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْعِدَامِ الْغَصْبِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ .
وَلَوْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ فِي أَمْرٍ خَالَفَ فِيهِ أَمْرَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَطَعَ نِسْبَةَ عَمَلِهِ إلَيْهِ فَبَقِيَ مُتْلِفًا عَلَى الْمَالِكِ مَالَهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي أَمْرٍ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَمْرَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ
فَلِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بِخِلَافٍ بَقِيَ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى غَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْأَوَّلِ فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ هُوَ عَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْآخَرِ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ وَهُوَ ضَمَانُ السَّلَامَةِ هَذَا إذَا لَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَأَمَّا إذَا قَالَ وَشَرَطَ النِّصْفَ فَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ الْخَارِجِ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَمَا خَرَجَ مِنْ الثَّمَرِ فَنِصْفُهُ لِرَبِّ النَّخْلِ وَالسُّدُسُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الثُّلُثِ يَرْجِعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَبَقِيَ لَهُ السُّدُسُ ضَرُورَةً وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَشَرَطَ لَهُ شَيْئًا مَعْلُومًا وَشَرَطَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي مِثْلَ ذَلِكَ فَهُمَا فَاسِدَانِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ فَأَنْوَاعٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُزَارَعَةِ مِنْهَا : أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَصِحَّ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخَارِجِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَاسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ بِالشَّرْطِ وَلَمْ يَصِحَّ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ عَنْ خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْعَمَلُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُزَارَعَةِ ، وَمِنْهَا أَنَّ وُجُوبَ أَجْرِ الْمِثْلِ فِيهَا لَا يَقِفُ عَلَى الْخَارِجِ بَلْ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ الشَّجَرُ شَيْئًا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِيهَا يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى لَا يَتَجَاوَزُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ تَامًّا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِلَا خِلَافٍ ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ ، وَمِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي فِي جَانِبِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ سَارِقًا مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ فَيُخَافُ الثَّمَرَ وَالسَّعَفَ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الَّذِي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا صَرِيحُ الْفَسْخِ ، وَمِنْهَا الْإِقَالَةُ ، وَمِنْهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ ، وَمِنْهَا مَوْتُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الْمُنْفَسِخَةِ فَعَلَى نَحْوِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - .
( كِتَابُ الشِّرْبِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الشِّرْبِ لُغَةً وَشَرْعًا وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالشِّرْبُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - قَالَ { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الشِّرْبِ بِالْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ - أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالْفَسْخِ فَصَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً ، وَبِهَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الشِّرْبِ لِجَوَازِ قِسْمَةِ الشِّرْبِ بِالْأَيَّامِ وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ وَأَمَّا بَيَانُ .
أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ فَنَقُولُ : الْمِيَاهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : الْأَوَّلُ : الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَالثَّانِي الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ وَالثَّالِثُ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ الَّتِي تَكُونُ لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ وَالرَّابِعُ : مَاءُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيَحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا عَلَى الْقِسْمَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
وَكَذَا السَّقَّاءُونَ يَبِيعُونَ الْمِيَاهَ الْمَحْرُوزَةَ فِي الظُّرُوفِ ، بِهِ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَيَشْرَبَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ .
وَلَوْ خَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ فَسَأَلَهُ فَمَنَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ هَذَا دَفَعَ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ غَيْرِهِ لَا بِقَصْدِ إهْلَاكِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ مَاءٍ عَنْ حَاجَتِهِ فَلِلْمَمْنُوعِ أَنْ يُقَاتِلَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْفَضْلَ لَكِنْ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ ، كَمَا إذَا أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَعِنْدَ صَاحِبِهِ فَضْلُ طَعَامٍ فَسَأَلَهُ فَمَنَعَهُ وَهُوَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي : الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَكِنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهِ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْأَصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ } وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ
تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا جُعِلَ فِي إنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمُسْتَوْلِي كَمَا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الْغَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ الْمَمْلُوكُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الشَّفَةِ - وَهُوَ الشُّرْبُ بِأَنْفُسِهِمْ - وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَنْعِ نَبْعِ الْبِئْرِ وَهُوَ فَضْلُ مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَلَهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْهَا لِشِفَاهِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ فَأَمَّا لِزُرُوعِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ لِمَا فِي الْإِطْلَاقِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ أَصْلًا إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَهُمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ إذَا لَمْ يُضْطَرُّوا إلَيْهِ بِأَنْ وَجَدُوا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ إضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ وَاضْطُرُّوا وَخَافُوا الْهَلَاكَ يُقَالُ لَهُ : إمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُولِ ، وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْ الدُّخُولِ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ عَنْهُمْ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا فَقَالُوا لَهُمْ : إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ : هَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحْرَزِ فِي الْأَوَانِي وَالطَّعَامِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ هُنَاكَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ وَكَذَا الطَّعَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ
الْمِلْكِ لِحُرْمَةِ الْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ ، وَلَا مِلْكَ هُنَاكَ بَلْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَإِذَا مَنَعَهُ أَحَدٌ مَا لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ كَمَا إذَا مَنَعَهُ مَالَهُ الْمَمْلُوكَ وَأَمَّا الثَّالِثُ : الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَاءِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الشِّرْبِ ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى النَّهْرِ .
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ مُبَاحَ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْمِلْكِ بِالْإِحْرَازِ بِالْأَوَانِي فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ .
وَلَوْ قَالَ : اسْقِنِي يَوْمًا مِنْ نَهْرِك عَلَى أَنْ أَسْقِيَك يَوْمًا مِنْ نَهْرِ كَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَادَلَةُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ فَيَكُونُ بَيْعًا أَوْ إجَارَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِمَنَافِعِهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَوْضًا أَوْ بِئْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهُ مَاءً لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْمَاءِ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ النَّهْرَ لِيَصِيدَ مِنْهُ السَّمَكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارُ السَّمَكِ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجَمَةً لِيَحْتَطِبَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِحَطَبٍ وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ .
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ الشَّفَةِ وَهُوَ شُرْبُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا خَاصًّا وَفِي إطْلَاقِ السَّقْيِ إبْطَالُ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَتَبَادَرُ إلَيْهِ فَيَسْقِي مِنْهُ زَرْعَهُ وَأَشْجَارَهُ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا .
وَلَوْ أَذِنَ بِالسَّقْيِ وَالنَّهْرُ خَاصٌّ لَهُ جَازَ ، لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الشِّرْبِ : فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا بِأَنْ بَاعَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالْحُقُوقُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ دَارًا وَعَبْدًا وَقَبَضَهُمَا لَزِمَهُ رَدُّ الدَّارِ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ الشِّرْبِ .
وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ مَعَ الشِّرْبِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجْعَلُهُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ ، وَلَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ صَرِيحًا أَوْ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ : بِعْتُهَا بِحُقُوقِهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا أَوْ كُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ عَنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْضِ بِصِيغَتِهِ وَحُرُوفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشِّرْبِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ مُفْرَدًا ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَكَذَا لَوْ جَعَلَهُ أُجْرَةً فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ .
وَلَوْ انْتَفَعَ بِالدَّارِ وَالْعَبْدِ لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا فَاسِدًا فَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مَعَ الشِّرْبِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَمَا فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ وَالْمَسِيلَ أَصْلًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ الشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ كَانَا لَهُ وَيَدْخُلَا تَحْتَ إجَارَةِ الْأَرْضِ مِنْ
غَيْرِ تَسْمِيَةٍ نَصًّا لِوُجُودِهَا دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَصِيرُ الشِّرْبُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَرْضِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ بِدُونِهِ ، وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ وَالْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بِأَنْ صَالَحَ مِنْ دَعْوَى عَلَى شِرْبٍ سَوَاءٌ كَانَ دَعْوَى الْمَالِ أَوْ الْحَقِّ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ وَيَكُونُ الصُّلْحُ كَأَنَّهُ عَلَى الْعَفْوِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ، وَلِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ وَتَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ .
وَلَا تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ فِي بَابِ النِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَيْهِ وَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ يَجِبُ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي الْخُلْعِ بِأَنْ اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا رَدُّ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ فِي مَعْرِضِ التَّمْلِيكِ إنْ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ مَالٌ لِكَوْنِهِ مَرْغُوبًا فِيهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ التَّمْلِيكَ لَمْ يَصْلُحْ بَدَلَ الْخُلْعِ ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ أَصْلًا فَيَظْهَرُ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمَأْخُوذِ ، وَهَذَا أَصْلِيٌّ فِي بَابِ الْخُلْعِ مَحْفُوظٌ أَنَّهُ شَيْءٌ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَالٌ مَرْغُوبٌ فِي نَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَهْرِ وَمُوَرَّثِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَا يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ لَا مَحَالَةَ بَلْ يَثْبُتُ فِي
حَقِّ الْمَالِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَيُوصِي بِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً مِنْ شِرْبِهِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا لَكِنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوصَى بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ فَإِذَا احْتَمَلَ الْإِرْثَ احْتَمَلَ الْوَصِيَّةَ الَّتِي هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، وَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ حَتَّى لَا تَصِيرَ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ بَلْ هُوَ حَقٌّ مَالِيٌّ وَشِبْهُ الْخِدْمَةِ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ وَلَا تَصِيرُ مِيرَاثًا ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالشِّرْبِ .
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالشِّرْبِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّمْلِيكَ بِالتَّصَدُّقِ اسْتَوَى فِيهِ الْحَالُ وَالْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْوَصِيَّةِ وَيَسْقِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ عَلَى قَدْرِ شِرْبِهِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الشِّرْبِ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمْ تُحَكَّمُ الْأَرَاضِي فَيَكُونُ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الرُّءُوسِ بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا تُحَكَّمُ فِيهِ بُقْعَةُ الدَّارِ بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَدُ الرُّءُوسِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الشِّرْبِ السَّقْيُ ، وَالسَّقْيُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرَاضِي ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الطَّرِيقِ هُوَ الْمُرُورُ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدُّورِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ مَا لَمْ يَسْكُرْ النَّهْرَ عَنْ الْأَسْفَلِ بِأَنْ كَانَتْ أَرْضُهُ رَبْوَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي سَكْرِ النَّهْرِ حَتَّى يَشْرَبَ الْأَعْلَى مَنْعَ الْأَسْفَلِ مِنْ الشِّرْبِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، إلَّا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ فَيَجُوزُ .
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالشِّرْبِ وَالنَّهْرِ وَكَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ أَرْضَ صَاحِبِهِ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ وَمَوْضِعَ الْبِنَاءِ مِلْكٌ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَحَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى النَّهْرِ : فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّهْرَ الْخَاصَّ لِجَمَاعَةٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِمْ التَّصَرُّفُ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ ، وَحُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ لَا تَقِفُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا صَغِيرًا مِنْ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَسُوقُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ أَحْيَاهَا لَيْسَ لَهَا مِنْهُ شِرْبٌ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُمْ لِأَنَّ الْحَفْرَ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ عَلَى الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ فَيُمْنَعُ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَأَرَادَ وَاحِدٌ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا كُوَّةً مِنْ غَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفُهُمْ فِي النَّهْرِ بِإِجْرَاءِ زِيَادَةِ مَاءٍ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ فَيُمْنَعَ عَنْهُ .
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى فَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ مَمْلُوكًا لَهُ وَالْمَاءُ يُدِيرُ الرَّحَى عَلَى سَيْبِهِ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ مُشْتَرَكًا أَوْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى تَعْرِيجِ الْمَاءِ ثُمَّ الْإِعَادَةِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالشُّرَكَاءِ بِتَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ بِالتَّعْرِيجِ ، كَمَا إذَا حَفَرَ نَهْرًا
فِي أَرْضِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّجَ الْمَاءَ إلَيْهِ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى النَّهْرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْصِبَ دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَضَعَ قَنْطَرَةً عَلَى هَذَا النَّهْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقَنْطَرَةَ تَصَرُّفٌ فِي حَافَّتَيْ النَّهْرِ وَفِي هَوَاهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ وَلَوْ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَهُ خَمْسُ كُوًى مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَرْضٌ فِي أَعْلَى النَّهْرِ وَلِلْآخَرِ أَرْضٌ فِي أَسْفَلِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَنْ يَسُدَّ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُوَى لِمَا يُدْخِلُ مِنْ الضَّرَرِ فِي أَرْضِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ شَرِيكُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِضْرَارِ غَيْرِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَهَايَآ حَتَّى يَسُدَّ فِي حِصَّتِهِ مَا شَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكِ لَمَا قُلْنَا ، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ بَدَا لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَاضَاةَ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ تَكُونُ مُهَايَأَةً وَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَوْ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ كُوًى فَأَضَافَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ إلَيْهَا كُوَّةً وَحَفَرَ نَهْرًا مِنْهُ إلَى أَرْضِهِ بِرِضًا مِنْهُمَا وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ زَمَانٌ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِمَا أَنْ يَنْقُضُوا ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ جَمَاعَةٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَلِكُلِّ رَجُلٍ نَهْرٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ كُوَّتَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثُ كُوًى فَقَالَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى : إنَّكُمْ تَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِكُمْ ؛ لِأَنَّ دَفْعَةَ الْمَاءِ وَكَثْرَتَهُ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ وَلَا يَأْتِينَا إلَّا وَهُوَ قَلِيلٌ فَأَرَادُوا الْمُهَايَأَةَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً فَلَيْسَ لَهُمْ
ذَلِكَ ، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ وَالنَّهْرُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ لَا فِي نَفْسِ الْمَاءِ .
وَلَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُوَسِّعَ كُوَّةَ نَهْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُدْخِلُ فِيهَا الْمَاءَ زَائِدًا عَلَى حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .
وَلَوْ حَفَرَ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ جَازَ .
وَلَوْ زَادَ فِي عَرْضِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْكُوَى مِنْ حُقُوقِ النَّهْرِ فَيَمْلِكُهُ بِمِلْكِ النَّهْرِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَرْضِ ، وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ قَوْمٍ فَخَافُوا أَنْ يَنْبَثِقَ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ضَرَرًا عَامًّا يُجْبَرُونَ عَلَى أَنْ يُحَصِّنُوهُ بِالْحِصَصِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَعَذَّرٌ عِنْدَ عُمُومِ الضَّرَرِ ، فَكَانَ الْجَبْرُ عَلَى التَّحْصِيصِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَجَازَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الضَّرَرُ عَامًّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالنَّهْرِ فَكَانَ الْجَبْرُ بِالتَّحْصِيصِ جَبْرًا عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّهْرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ مُلَاصِقٌ لِأَرْضِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالنَّهْرِ فِي مُسَنَّاةٍ فَالْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا طِينَهُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهَا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِنَهْرِهِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا وَيُلْقِيَ طِينَهُ وَيَجْتَازَ فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَاصِقًا بَلْ كَانَ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ حَائِلٌ مِنْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بَنَوْا هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى أَنَّ النَّهْرَ هَلْ لَهُ حَرِيمٌ أَمْ لَا ؟ بِأَنْ حَفَرَ رَجُلٌ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا حَرِيمَ لَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ حَرِيمٌ .
( وَوَجْهُ ) الْبِنَاءِ عَلَيْهِ
أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَمَّا كَانَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَهُمَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُصَحِّحُوا الْبِنَاءَ .
وَقَالُوا : لَا خِلَافَ أَنَّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ ؛ لِأَنَّ لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ حَرِيمًا بِمَا فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَقَدْ رَوَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمَا حَرِيمًا لِحَاجَتِهِمَا إلَى الْحَفْرِ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِدُونِ الْحَفْرِ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّهْرِ إلَى الْحَرِيمِ كَحَاجَةِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بَلْ أَشَدَّ فَكَانَ جَعْلُ الشَّرْعِ لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ حَرِيمًا جَعْلًا لِلنَّهْرِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، دَلَّ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَانَ هَذَا خِلَافًا مُبْتَدَأً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ كَذَا هَذَا ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسَنَّاةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً بِالْأَرْضِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ ، إذْ لَوْ كَانَتْ حَرِيمًا لِلنَّهْرِ لَكَانَتْ مُرْتَفِعَةً لِكَوْنِهَا مَلْقَى طِينِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَدْمَهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ بِهَا ، وَفِي الْهَدْمِ إبْطَالُهُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ كَحَائِطٍ لِإِنْسَانٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ يُمْنَعُ مِنْهُ كَذَا هَذَا ، ثُمَّ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ وَلَيْسَ عَلَى أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي الْكَرْيِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِأَهْلِ الشَّفَةِ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ بَلْ لَهُمْ حَقُّ
شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْكَرْيِ عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِمْ أَنْ يَكْرُوا مِنْ أَعْلَاهُ وَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ دَفَعَ عَنْهُ وَكَانَ الْكَرْيُ عَلَى مَنْ بَقِيَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْكَرْيُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرَاضِي حَتَّى إنَّ النَّهْرَ لَوْ كَانَ بَيْنَ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ أَرَاضِيهِمْ عَلَيْهِ لَأُخِّرَ كَرْيُ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ شِرْبَ أَوَّلِهِمْ بَيْنَهُمْ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعُشْرُ فَإِذَا جَاوَزُوا شِرْبَ الْأَوَّلِ سَقَطَ عَنْهُ الْكَرْيُ .
وَكَانَ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ فَإِذَا جَاوَزُوا شِرْبَ الثَّانِي سَقَطَ عَنْهُ الْكَرْيُ وَكَانَ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ هَكَذَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
( وَأَمَّا ) عِنْدَهُمَا فَالْكَرْيُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَعْلَى النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكَ فِي الْأَعْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إلَى شِرْبِ أَوَّلِهِمْ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْكُلِّ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مِلْكَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فِيهِ إنَّمَا لَهُ حَقٌّ وَهُوَ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لَا عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِأَصْحَابِ النَّهْرِ وَلِأَهْلِ الشَّفَةِ حَقُّ الشُّرْبِ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ وَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ مَيْلٌ عَلَى سَطْحٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ فَكَانَتْ غَرَامَتُهُ عَلَى صَاحِبِ السَّطْحِ لَا عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا .
( وَأَمَّا ) الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ وَكَذَا لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهَا وَلَا فِي الشِّرْبِ بَلْ هُوَ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ بِالشَّفَةِ وَالسَّقْيِ وَشَقِّ النَّهْرِ مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ بِأَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَهُ أَنْ يَشُقَّ إلَيْهَا نَهْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِأَحَدٍ مَنْعُهُ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى وَدَالِيَةً وَسَانِيَةً إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بِهَا لِأَحَدٍ فَكَانَ النَّاسُ فِيهَا كُلُّهُمْ عَلَى السَّوَاءِ ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ بِسَبِيلٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَكِنْ بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ وَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ أَحْيَا رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا فَحَفَرَ لَهَا نَهْرًا فَوْقَ مَرْوَ مِنْ مَوْضِعٍ لَيْسَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ مَرْوَ ضَرَرٌ فِي مَائِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ لِمَا قُلْنَا وَسُئِلَ أَيْضًا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ كُوًى مَعْرُوفَةٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا ؟ فَقَالَ : إنْ زَادَ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ فَلَهُ ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ خَاصٌّ لِقَوْمٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَأَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تَصَرُّفٌ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْعَامَّةِ ، وَحُرْمَةُ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرِيطَةِ الضَّرَرِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي تَصَرُّفٌ فِي
مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَا تَقِفُ حُرْمَتُهُ عَلَى الضَّرَرِ بِالْمَالِكِ هُوَ الْفَرْقُ .
وَلَوْ جَزَرَ مَاءُ هَذِهِ الْأَنْهَارِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إلَى أَرْضِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إلَى مَكَانِهِ وَلَا يَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيُحْمَلُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَمْلِكُهُ إذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ .
وَلَوْ احْتَاجَتْ هَذِهِ الْأَنْهَارُ إلَى الْكَرْيِ فَعَلَى السُّلْطَانِ كِرَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَكَذَا لَوْ خِيفَ مِنْهَا الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إصْلَاحُ مُسَنَّاتِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - .
( كِتَابُ الْأَرَاضِي ) الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَرَاضِي وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْأَرَاضِي فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ : أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ ، وَأَرْضٌ مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ ، وَالْمَمْلُوكَةُ نَوْعَانِ : عَامِرَةٌ وَخَرَابٌ ، وَالْمُبَاحَةُ نَوْعَانِ أَيْضًا : نَوْعٌ هُوَ مِنْ مَرَافِقِ الْبَلْدَةِ مُحْتَطَبًا لَهُمْ وَمَرْعًى لِمَوَاشِيهِمْ وَنَوْعٌ لَيْسَ مِنْ مَرَافِقِهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَوَاتِ .
( أَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا .
( أَمَّا ) الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ الْعَامِرَةُ : فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمِلْكِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْخَرَابُ الَّذِي انْقَطَعَ مَاؤُهَا وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ سُنُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَصِيرَ مِيرَاثًا إذَا مَاتَ صَاحِبُهَا إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ خَرَابًا فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهَا إذْ لَيْسَ عَلَى الْخَرَابِ خَرَاجٌ إلَّا إذَا عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَهَذَا إذَا عُرِفَ صَاحِبُهَا فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ يُعْرَفُ فِي كِتَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا الْكَلَأُ الَّذِي يَنْبُتُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ إلَّا إذَا قَطَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ فَيَمْلِكُهُ ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : أَنَّهُ إذَا سَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ مَلَكَهُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأُ } اسْمٌ لِحَشِيشٍ يَنْبُتُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ ، وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ إلَّا إذَا قَطَعَهُ وَأَحْرَزَهُ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى
عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَمْلِكُهُ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ فِي الْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِجَوْهَرٍ مُضِيءٍ دَائِمِ الْحَرَكَةِ عُلُوًّا فَلَيْسَ لِمَنْ أَوْقَدَهَا أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الِاصْطِلَاءِ بِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ فِيهَا فَأَمَّا الْجَمْرُ : فَلَيْسَ بِنَارٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ فَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ .
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ لِاحْتِشَاشِ الْكَلَإِ فَإِذَا كَانَ يَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُهُ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ : إمَّا أَنْ تَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُولِ وَإِمَّا أَنْ تَحُشَّ بِنَفْسِك فَتَدْفَعَهُ إلَيْهِ كَالْمَاءِ الَّذِي فِي الْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ .
وَلَوْ دَخَلَ إنْسَانٌ أَرْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَاحْتَشَّ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ مَالٌ مَمْلُوكٌ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى مِلْكِ أَحَدٍ ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ ، وَالْجَوَابُ فِي الْكَلَإِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْوَصِيَّةِ كَالْجَوَابِ فِي الشِّرْبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشِّرْبِ .
وَكَذَلِكَ الْمُرُوجُ الْمَمْلُوكَةُ فِي حُكْمِ الْكَلَإِ عَلَى هَذَا ، وَكَذَلِكَ الْآجَامُ الْمَمْلُوكَةُ فِي حُكْمِ السَّمَكِ ، لِأَنَّ السَّمَكَ أَيْضًا مُبَاحُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } الْحَدِيثَ فَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا إلَّا بِالْأَخْذِ
وَالِاسْتِيلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ حُظِرَ السَّمَكُ فِي حَظِيرَةٍ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ صَيْدٍ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْحَظْرِ لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ جَازَ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِصَيْدٍ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ إلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْمُبَاحَاتِ كَالطَّيْرِ إذَا بَاضَتْ أَوْ فَرَّخَتْ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا وَيَكُونُ لِلْآخِذِ لَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ اتَّخَذَ لَهُ وَكْرًا أَمْ لَا .
وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : إنَّهُ إنْ كَانَ اتَّخَذَ لَهُ مِلْكًا لَهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ الْآخِذِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَخَذَهُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُبَاحِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ وَالْآخِذُ هُوَ الْمُسْتَوْلِي دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَإِنْ اتَّخَذَ لَهُ وَكْرًا ، وَكَذَلِكَ صَيْدٌ الْتَجَأَ إلَى أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلْآخِذِ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ رَدَّ صَاحِبُ الدَّارِ بَابَ الدَّارِ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَمْلِكُهُ إنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ صَيْدٍ لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ تَعَقُّلًا لَا خَلَاصَ لَهُ فَهُوَ لِنَاصِبِ الشَّبَكَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّبَكَةُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ، كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَأَخَذَ صَيْدًا أَوْ أَغْرَى كَلْبًا لِإِنْسَانٍ عَلَى صَيْدٍ فَأَخَذَهُ فَكَانَ لِلْمُرْسِلِ وَالْمُغْرِي لَا لِصَاحِبِهِ ، وَلَوْ نَصَبَ فُسْطَاطًا فَجَاءَ صَيْدٌ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَهُوَ لِلْآخِذِ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ أَنَّ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وُضِعَ لِتَعَقُّلِ الصَّيْدِ وَمُبَاشِرُ السَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ اكْتِسَابٌ لَهُ .
( فَأَمَّا ) نَصْبُ الْفُسْطَاطِ : فَمَا وُضِعَ لِذَلِكَ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى
الِاسْتِيلَاءِ وَالْأَخْذِ حَقِيقَةً وَلَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَإِنْ كَانَ حَفَرَهَا لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِيهَا فَهُوَ لِلْآخِذِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَإِنْ كَانَ حَفَرَهَا لِلِاصْطِيَادِ بِهَا فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّبَكَةِ .
( وَأَمَّا ) الْآجَامُ الْمَمْلُوكَةُ فِي حُكْمِ الْقَصَبِ وَالْحَطَبِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَطِبَ مِنْ أَجَمَةِ رَجُلٍ إلَّا بِإِذْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ مَمْلُوكَانِ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ يَنْبُتَانِ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِنْبَاتُ أَصْلًا ، بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمُرُوجِ الْمَمْلُوكَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَجَمَةِ هِيَ الْقَصَبُ وَالْحَطَبُ فَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا مِنْ مِلْكِ الْأَجَمَةِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِهَا .
( فَأَمَّا ) الْكَلَأُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ الْمَرْجِ الْمَمْلُوكِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الزِّرَاعَةُ .
وَلَوْ أَنَّ بَقَّارًا رَعَى بَقَرًا فِي أَجَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِإِنْسَانٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا رَعَى وَأَفْسَدَ مِنْ الْقَصَبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَجَمَةِ الْقَصَبُ وَالْحَطَبُ وَهُمَا مَمْلُوكَانِ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمُرُوجِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْمِلْكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الْقَصَبِ مُعَامَلَةً وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَلَإِ مُعَامَلَةً ، وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ فِيهِ أَنَّ الْقَصَبَ وَالْحَطَبَ يُمْلَكَانِ بِمِلْكِ الْأَرْضِ وَالْكَلَأُ لَا .
( وَأَمَّا ) مَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إلَّا بِصُنْعِ الْعَبْدِ كَالْقَتَّةِ وَالْقَصِيلِ وَمَا بَقِيَ مِنْ حَصَادِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ مَمْلُوكًا وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ يُعَدُّ اكْتِسَابًا لَهُ فَيَمْلِكُهُ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكًا إلَّا أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تَثْبُتُ عَلَى مُخَالَفَةِ
الْأَصْلِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهَا فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا .
( وَأَمَّا ) أَرْضُ الْمَوَاتِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَوَاتِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَوَاتِ ، وَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ فِيهِ دُونَ الْمِلْكِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا مُلِكَ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْأَرْضُ الْمَوَاتُ هِيَ أَرْضٌ خَارِجَ الْبَلَدِ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا حَقًّا لَهُ خَاصًّا فَلَا يَكُونُ دَاخِلَ الْبَلَدِ مَوَاتٌ أَصْلًا ، وَكَذَا مَا كَانَ خَارِجَ الْبَلْدَةِ مِنْ مَرَافِقِهَا مُحْتَطَبًا بِهَا لِأَهْلِهَا أَوْ مَرْعًى لَهُمْ لَا يَكُونُ مَوَاتًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِمَامُ إقْطَاعَهَا ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَرَافِقِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْبَلْدَةِ كَفِنَاءِ دَارِهِمْ وَفِي الْإِقْطَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ .
وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِّ وَالنِّفْطِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْمُسْلِمُونَ لَا تَكُونُ أَرْضَ مَوَاتٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِأَحَدٍ ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْإِقْطَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ الْعُمْرَانِ ؟ شَرَطَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ : وَمَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ فَلَيْسَ بِمَوَاتٍ .
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ بُقْعَةٌ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنْ الْعَامِرِ رَجُلٌ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الْعَامِرِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى إنَّ بَحْرًا مِنْ الْبَلْدَةِ جَزَرَ مَاؤُهُ أَوْ أَجَمَةً عَظِيمَةً لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ تَكُونُ أَرْضَ مَوَاتٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلِ الطَّحَاوِيِّ لَا تَكُونُ ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ اسْمٌ لِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا حَقًّا خَاصًّا لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ قَرِيبًا
مِنْهَا .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَوَاتِ : فَالْإِمَامُ يَمْلِكُ إقْطَاعَ الْمَوَاتِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى عِمَارَةِ الْبِلَادِ ، التَّصَرُّفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِمَامِ كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ وَإِصْلَاحِ قَنَاطِرِهَا وَنَحْوِهِ .
وَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْمَوَاتَ إنْسَانًا فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَعْمُرْهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِذَا مَضَى ثَلَاثُ سِنِينَ فَقَدْ ظَلَّ مَوَاتًا كَمَا كَانَ وَلَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِمُحْتَجِرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ } وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ سِنِينَ مُدَّةٌ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْمُرْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عِمَارَتَهَا بَلْ تَعْطِيلَهَا فَبَطَلَ حَقُّهُ وَتَعُودُ إلَى حَالِهَا مَوَاتًا ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا غَيْرَهُ .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَوَاتِ وَمَا لَا يَثْبُتُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ فَالْمِلْكُ فِي الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ وَإِذْنُ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ } أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِلْمُحْيِي مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا لَوْ أَخَذَ صَيْدًا أَوْ حَشَّ كَلَأً ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ رُوِيَ مُنَوَّنًا وَمُضَافًا ، فَالْمُنَوَّنُ هُوَ أَنْ تَنْبُتَ عُرُوقُ أَشْجَارِ إنْسَانٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُهَا حَشِيشًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ } وَلِأَنَّ الْمَوَاتَ غَنِيمَةٌ فَلَا بُدَّ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ غَنِيمَةً اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ ، وَالْمَوَاتُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَكَانَتْ كُلُّهَا غَنَائِمَ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَجَازَ أَنْ تُمْلَكَ بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا .
( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَرْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ جَمَاعَةً بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِذَلِكَ النَّظْمِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } حَتَّى لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ ، أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَالِ الْإِذْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ ، وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ .
وَلَوْ حَجَرَ الْأَرْضَ الْمَوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ أَحْجَارٍ أَوْ خَطٍّ حَوْلَهَا يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ غَيْرَهُ عَنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ فَلَا يَمْلِكُهَا وَلَكِنْ صَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزْعِجَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِنِّي : مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ } وَعَلَى هَذَا الْمُسَافِرُ إذَا
نَزَلَ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ رِبَاطٍ صَارَ أَحَقَّ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ أَنْ يُزْعِجَهُ عَنْهَا .
وَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِهَا فَلَا يُقْطِعُهَا الْإِمَامُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا عَطَّلَهَا الْمُتَحَجِّرُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْمُرْهَا .
( وَأَمَّا ) بَيَانُ حُكْمِ أَرْضِ الْمَوَاتِ إذَا مُلِكَتْ فَيَخْتَصُّ بِهَا حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا : حُكْمُ الْحَرِيمِ ، وَالثَّانِي : الْوَظِيفَةُ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ، أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا : فِي أَصْلِ الْحَرِيمِ ، وَالثَّانِي : فِي قَدْرِهِ .
( أَمَّا ) أَصْلُهُ : فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ لَهَا حَرِيمٌ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ لَهَا حَرِيمٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِكُلِّ أَرْضٍ حَرِيمًا .
( وَأَمَّا ) النَّهْرُ : فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ .
( وَأَمَّا ) تَقْدِيرُهُ : فَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ وَبِهِ نَطَقَتْ السُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِالْإِجْمَاعِ نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَأَمَّا حَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَعِنْدَهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا ، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ قَالَ وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } .
( وَجْهُ ) قَوْلِ : أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إحْيَاءُ الْحَرِيمِ ، وَكَذَا إذْنُ الْإِمَامِ يَتَنَاوَلُ الْحَرِيمَ مَقْصُودًا إلَّا أَنَّ دُخُولَ الْحَرِيمِ لِحَاجَةِ الْبِئْرِ إلَيْهِ ،
وَحَاجَةُ النَّاضِحِ تَنْدَفِعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَحَاجَةِ الْعَطَنِ فَبَقِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْمَوَاتِ ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ فِي بِئْرٍ خَاصٍّ ، وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ ذَلِكَ .
( وَأَمَّا ) حَرِيمُ النَّهْرِ : فَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قَدْرُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ النِّصْفُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَالنِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قَدْرُ جَمِيعِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَدْرُ جَمِيعِهِ .
( وَأَمَّا ) النَّهْرُ إذَا حُفِرَ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَرِيمًا بِلَا خِلَافٍ لِمَا قُلْنَا .
( وَأَمَّا ) الثَّانِي : حُكْمُ الْوَظِيفَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ، وَإِنْ أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ كَيْفَ مَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ - .
كِتَابُ الْمَفْقُودِ ) الْكَلَامُ فِي الْمَفْقُودِ يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ ، فِي تَفْسِيرِ الْمَفْقُودِ ، وَفِي بَيَانِ حَالِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِمَالِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَالِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالْمَفْقُودُ اسْمٌ لِشَخْصٍ غَابَ عَنْ بَلَدِهِ وَلَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ أَنَّهُ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ ( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حَالُ الْمَفْقُودِ : فَعِبَارَةُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَيًّا وَمَيِّتًا حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ وَلَكِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ ( تَجْرِي ) عَلَيْهِ أَحْكَامُ ( الْأَحْيَاءِ ) فِيمَا كَانَ لَهُ فَلَا يُورَثُ مَالُهُ وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً ( وَتَجْرِي ) عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَمْوَاتِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَلَا يَرِثُ أَحَدًا كَأَنَّهُ مَيِّتٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَلَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَمِلْكُهُ فِي أَحْكَامِ أَمْوَالِهِ وَنِسَائِهِ أَمْرٌ قَدْ كَانَ وَاسْتَصْحَبْنَا حَالَ الْحَيَاةِ لِإِبْقَائِهِ وَأَمَّا مِلْكُهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ : فَأَمْرٌ لَمْ يَكُنْ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِثْبَاتِ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ، وَتَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ عَنْ حَالِهِ أَنَّ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَيٌّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَيِّتٌ ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ وَالْبَيْنُونَةَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَيًّا يَرِثُ أَقَارِبَهُ وَلَا يَرِثُونَهُ وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَا يَرِثُ أَقَارِبَهُ وَيَرِثُونَهُ وَالْإِرْثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْنُونَةُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي " الثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ " فَإِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ يُوقَفُ
نَصِيبُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ أَنَّهُ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ لِاحْتِمَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِلْحَالِ حَتَّى إنَّ مَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا مَفْقُودًا وَابْنَتَيْنِ وَابْنَ ابْنٍ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُمَا بِالنِّصْفِ وَيُوقِفُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَيًّا كَانَ لَهُ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ لِلِابْنَتَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الِابْنِ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَانَ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ لِلِابْنَتَيْنِ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَيُدْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِمَا وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي يُعْرَفُ فِيهَا مَوْتُهُ يُدْفَعُ الثُّلُثَانِ إلَيْهِمَا وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ يُوقَفُ ، وَكَذَا إذَا فُقِدَ الْمُرْتَدُّ وَلَا يُدْرَى أَنَّهُ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا تُوقَفُ تَرِكَتُهُ كَالْمُسْلِمِ .
( فَصْلٌ ) : : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِمَالِهِ فَاَلَّذِي يُصْنَعُ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْفَظُ مَالَهُ يُقِيمُ مَنْ يُنَصِّبُهُ لِلْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا حَافِظَ لَهُ لِعَجْزِ صَاحِبِهِ عَنْ الْحِفْظِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ الْقَاضِي نَظَرًا لَهُ كَمَا يَحْفَظُ مَالَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمَا ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَيَحْفَظُ ثَمَنَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِفْظٌ لَهُ مَعْنًى وَلَا يَأْخُذُ مَالَهُ الَّذِي فِي يَدِ مُودَعِهِ وَمُضَارِبِهِ لِيَحْفَظَهُ ؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ نِيَابَةٍ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ فَكَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ مَعْنًى فَلَا حَاجَةَ إلَى حِفْظِ الْقَاضِي وَمِنْهَا أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا إحْيَاءٌ لَهَا فَكَانَ مِنْ بَابِ حِفْظِ مِلْكِ الْغَائِبِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ حِفْظَ مَالِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ الْفُقَرَاءِ الزَّمْنَى مِنْ الذُّكُورِ وَالْفَقِيرَاتِ مِنْ الْإِنَاثِ سَوَاءٌ كُنَّ زَمْنَى أَوْ لَا ، وَعَلَى وَالِدَيْهِ الْمُحْتَاجَيْنِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّسَبِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ أَوْلَادِهِ إنَّمَا تَجِبُ بِحُكْمِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ إحْيَاءً لَهُمْ ، وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ فَكَذَا إحْيَاءُ جُزْئِهِ وَكُلِّهِ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ إحْيَاءً لَهُمْ مَعْنًى وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَقُومُ بِهِ الْقَاضِي ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ فَأَحْضَرُوا رَجُلًا فِي يَدِهِ مَالٌ وَدِيعَةً لِلْمَفْقُودِ أَوْ مُضَارَبَةً أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فَأَقَرَّ الرَّجُلُ بِذَلِكَ وَبِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إذَا ظَفِرَتْ بِهِ قَدْرَ مَا يَكْفِيهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِامْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ } فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ هَذَا مَالَهُ وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْأَخْذِ ، وَكَذَا فِي الْأَوْلَادِ يَأْخُذُ الْبَعْضُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ وَالْمَالِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَنَحْنُ نَقُولُ : لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ لِمَا عُلِمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ .
وَلَوْ أَخَذَ الْقَاضِي مِنْهُمْ كَفِيلًا كَانَ حَسَنًا لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الْمَفْقُودُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ كَانَ أَعْطَاهُمْ النَّفَقَةَ مُعَجَّلَةً هَذَا إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِهِمَا فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَهُمَا جَمِيعًا أَوْ أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ وَلَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ وَالْمُضَارِبَ وَالْغَرِيمَ لَيْسُوا خُصَمَاءَ عَنْ الْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا الْأَوْلَادُ وَالْوَالِدُونَ وَالْمَرْأَةُ لَيْسُوا خُصَمَاءَ لِلْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ لَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَعْطَوْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَطَوِّعُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ لَيْسَتْ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِعَدَمِهَا بَلْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ فَيَأْخُذُوا مِنْ مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْمَوْلُودِينَ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ ثَبَتَ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ ، وَمَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءٍ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ .
ثُمَّ الْقَاضِي إنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمَفْقُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْمَالُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا هِيَ مِنْ جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُنْفِقُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِنْفَاقُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَالْعُرُوضَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إنْ جَازَ عَلَى الْحَاضِرِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ عَلَى الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى الْحَاضِرِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ ثَمَنِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ مِنْهُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِنْفَاقِ فَافْتَرَقَ الْحَالَانِ ، وَإِنَّمَا مَلَكَ بَيْعَ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَيْعًا صُورَةً فَهُوَ حِفْظٌ وَإِمْسَاكٌ لَهُ مَعْنًى ، وَالْقَاضِي يَمْلِك حِفْظَ مَالِ الْمَفْقُودِ .
وَأَمَّا الْأَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ فِي نَفَقَةِ الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَعِنْدَهُمَا لَا يَبِيعُ الْمَنْقُولَ كَمَا لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا حُكْمُ مَالِهِ : فَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ إلَيْهَا عَادَةً يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَيُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُهُ وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ وَيَصِيرُ مَالُهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ وَقْتَ الْحُكْمِ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرًا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ فُقِدَ رَجُلٌ بِصِفِّينَ أَوْ بِالْجَمَلِ ثُمَّ اخْتَصَمَ وَرَثَتُهُ فِي مَالِهِ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَقِيلَ : كَانَتْ وَفَاةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَوَفَاةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَنَةِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِمِائَةِ سَنَةٍ فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَتَثْبُتُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُدَّةِ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - .
( كِتَابُ اللَّقِيطِ ) الْكَلَامُ فِي اللَّقِيطِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ اللَّقِيطِ لُغَةً وَعُرْفًا ، وَفِي بَيَانِ حَالِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ .
أَمَّا فِي اللُّغَةِ : فَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ اللَّقْطِ وَهُوَ اللِّقَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ، وَهُوَ الْمَلْقُوطُ وَهُوَ الْمُلْقَى أَوْ الْأَخْذُ وَالرَّفْعُ بِمَعْنَى الْمَلْقُوطِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَرْفُوعُ عَادَةً لِمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ فَيُرْفَعُ وَأَمَّا فِي الْعُرْفِ فَنَقُولُ هُوَ اسْمٌ لِلطِّفْلِ الْمَفْقُودِ وَهُوَ الْمُلْقَى أَوْ الطِّفْلِ الْمَأْخُوذِ وَالْمَرْفُوعِ عَادَةً فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ لَقِيطًا بِاسْمِ الْعَاقِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَطُ عَادَةً أَيْ : يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ عَاقِبَتِهِ أَمْرٌ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } سَمَّى الْعِنَبَ خَمْرًا وَالْحَيَّ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْمَوْتَ مَيِّتًا بِاسْمِ الْعَاقِبَةِ كَذَا هَذَا .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حَالِهِ فَلَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّفِ عَنْهَا حَالُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ ، وَحَالُهُ فِي النَّسَبِ .
أَمَّا حَالُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ : فَهُوَ أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِكَوْنِ اللَّقِيطِ حُرًّا ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي بَنِي آدَمَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلَادُ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحَوَّاءَ وَهُمَا كَانَا حُرَّيْنِ وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا وَإِنَّمَا حَدَثَ الرِّقُّ فِي الْبَعْضِ شَرْعًا بِعَارِضِ الِاسْتِيلَاءِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ وَهُوَ الْكُفْرُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحِرَابِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَحْرَارِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ أَمَةٍ ، لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ انْعِقَادِ عِلَّةٍ تُوجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَمْ يُعْرَفْ إحْصَانُهَا لِانْعِقَادِ الْقَذْفِ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ هَذَا الظَّاهِرِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَلَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ بَعْدُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَضَرْبِ قَاذِفِهِ الْحَدَّ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُ إلَّا بِظَاهِرِ الْحَالِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ كَاذِبًا فَصَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْهِبَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ حَتَّى لَا تَنْفَسِخَ ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَنْفَسِخُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِقِّهِ ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ فَإِذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّهِ حَقَّ الْغَيْرِ كَانَ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَيُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ ، كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛
لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَّا الْمُقِرُّ فِي إقْرَارِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَمُتَّهَمٌ فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً فَظَهَرَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ وَأَمَّا حَالُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ مَاتَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ يَكُونُ ذِمِّيًّا تَحْكِيمًا لِلظَّاهِرِ كَمَا إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ يَكُونُ ذِمِّيًّا .
وَلَوْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْفِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنْ الْأَصْلِ وَاعْتَبَرَ الْمَكَانَ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى اعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ إلَى أَيِّهِمَا نُسِبَ إلَى الْوَاجِدِ أَوْ إلَى الْمَكَانِ ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي مَكَان هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ مُسْلِمًا ظَاهِرًا ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ ذِمِّيًّا ظَاهِرًا ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ أَوْلَى فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ
إسْلَامُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا حُكِمَ بِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ رِدَّتُهُ فَلَا يُقْتَلُ وَأَمَّا حَالُهُ فِي النَّسَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ نِسْبَةَ الْمُلْتَقَطِ أَوْ عِتْقَهُ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنَّ الْتِقَاطَهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَقِيطٍ فَقَالَ : هُوَ حُرٌّ وَلَأَنْ أَكُونَ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتَ أَنْتَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا ، عَدَّ جُمْلَةً مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَقَدْ رَغَّبَ فِي الِالْتِقَاطِ وَبَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ حَيْثُ فَضَّلَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّدْبِ إلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ نَفْسٌ لَا حَافِظَ لَهَا بَلْ هِيَ فِي مَضْيَعَةٍ فَكَانَ الْتِقَاطُهَا إحْيَاءً لَهَا مَعْنًى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } وَمِنْهَا أَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِالْتِقَاطِهِ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَخْذِ سَبَقَتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ إلَيْهِ وَالْمُبَاحُ مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَالُهُ فَيَكُونُ لَهُ كَثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ .
وَكَذَا إذَا وُجِدَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ فَالدَّابَّةُ لَهُ لِمَا قُلْنَا وَتَكُونُ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ
وَمِنْهَا أَنَّ عَقْلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ بَيْتُ الْمَالِ فَيَكُونُ عَقْلُهُ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إذَا بَلَغَ إلَّا إذَا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ بِالْعَقْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا عُلِمَ فِي الْوَلَاءِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلِيَّهُ السُّلْطَانُ ، لَهُ الْوِلَايَةُ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَالسُّلْطَانُ نَائِبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَيُزَوِّجُ اللَّقِيطَ وَيَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَالسَّلْطَنَةُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْهِبَةَ لَهُ وَيُسَلِّمَهُ فِي صِنَاعَةٍ وَيُؤَاجِرَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ بَلْ مِنْ بَابِ إصْلَاحِ حَالِهِ وَإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ الْمَحْضَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ إطْعَامَهُ وَغَسْلَ ثِيَابِهِ وَمِنْهَا أَنَّ نَسَبَهُ مِنْ الْمُدَّعِي يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ ابْنُهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَبَيِّنَتُهُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُسْمَعَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ تُوجَدْ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ عَامِلٌ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلِ
الثُّبُوتِ وَكُلُّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ وَالْمَخْبَرُ بِهِ مُحْتَمَلُ الثُّبُوتِ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُخْبِرِ ، هُوَ الْأَصْلُ إلَّا إذَا كَانَ فِي تَصْدِيقِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ وَهَهُنَا فِي التَّصْدِيقِ وَإِثْبَاتِ النَّسَبِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ اللَّقِيطِ بِشَرَفِ النَّسَبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَجَانِبِ الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، وَتَصْدِيقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ لَا يَقِفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا حَتَّى لَوْ ادَّعَى نَسَبَهُ ذِمِّيٌّ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَكَوْنُهُ كَافِرًا وَيُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ نَفْعًا لِلَّقِيطِ وَهُوَ كَوْنُهُ ابْنًا لَهُ وَلَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي الْآخَرِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَبِإِسْلَامِ أُمِّهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا هَذَا إذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيَكُونُ عَلَى دِينِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ إقْرَارُهُ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ عَلَى دِينِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الشَّهَادَةِ لِمَا مَرَّ .
وَلَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حُرًّا لِمَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيِّ ؛
لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا نَفْعُ اللَّقِيطِ وَالْآخَرُ مَضَرَّةٌ - وَهُوَ الرِّقُّ - فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيّ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ فَإِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَالْوَاصِفُ أَوْلَى بِهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرْجَعُ إلَى الْقَائِفِ فَيُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَتَيْنِ مَتَى تَعَارَضَتَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِالْعَلَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَضِيَ الْعَلَامَةَ وَلَمْ يَصِفْ الْآخَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ سَابِقَةٌ فَلَا بُدَّ لِزَوَالِهَا مِنْ دَلِيلٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْعَلَامَةِ قَوْله تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ خَبَرًا عَنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ { إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِمْ ، وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ فَصَارَ الْحُكْمُ بِالْعَلَامَةِ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً ، وَكَذَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يُمَيَّزُ ذَلِكَ بِالْعَلَامَةِ كَذَا هَهُنَا ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا الْعَلَامَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلثَّانِي مِنْهُمَا فَإِنْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تُسْمَعُ مِنْ خَمْسَةٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ اثْنَيْنِ وَلَا تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تُسْمَعُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَا تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلًا فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَادَّعَتْهُ أَنَّهُ ابْنُهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ شَهِدَتْ لَهَا الْقَابِلَةُ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ صَحَّتْ دَعْوَتُهَا وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ .
وَلَوْ ادَّعَاهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ إحْدَاهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَقَامَتَا جَمِيعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ يُجْعَلُ ابْنَهُمَا ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا يُجْعَلُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - .
( كِتَابُ اللُّقَطَةِ ) الْكَلَامُ فِي اللُّقَطَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا ، وَفِي بَيَانِ أَحْوَالِهَا ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ : مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الْمَالُ السَّاقِطُ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ ، وَنَوْعٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الضَّالَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ الْبَهَائِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى لُقَطَةً مِنْ اللَّقْطِ وَهُوَ الْأَخْذُ وَالرَّفْعُ ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَطُ عَادَةً أَيْ يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَحْوَالِهَا مِنْهَا فِي الْأَصْلِ حَالَانِ : حَالُ مَا قَبْلَ الْأَخْذِ ، وَحَالُ مَا بَعْدَهُ أَمَّا قَبْلَ الْأَخْذِ : فَلَهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبَ الْأَخْذِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحَ الْأَخْذِ ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامَ الْأَخْذِ أَمَّا حَالَةُ النَّدْبِ : فَهُوَ أَنْ يُخَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةُ لَوْ تَرَكَهَا فَأَخْذُهَا لِصَاحِبِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةَ كَانَ أَخْذُهَا لِصَاحِبِهَا إحْيَاءً لِمَالِ الْمُسْلِمِ مَعْنًى فَكَانَ مُسْتَحَبًّا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَأَمَّا حَالَةُ الْإِبَاحَةِ : فَهُوَ أَنْ لَا يَخَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةَ فَيَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا خَافَ عَلَيْهَا يَجِبُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَخَفْ يُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا ، وَزَعَمَ أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهَا وَالتَّضْيِيعُ حَرَامٌ فَكَانَ الْأَخْذُ وَاجِبًا ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا كَالِامْتِنَاعِ عَنْ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ .
وَأَمَّا حَالَةُ الْحُرْمَةِ : فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ } وَالْمُرَادُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لَا لِأَجْلِ صَاحِبِهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَّ إلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ صَاحِبِهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغَصْبِ ، وَكَذَا لُقَطَةُ الْبَهِيمَةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا أَصْلًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ فَقَالَ { مَا لَك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا
وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ دَعْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا } نَهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لَهَا وَأَمَرَ بِتَرْكِ الْأَخْذِ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْأَخْذِ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا بِالْحَرَّةِ فَعَرَّفَهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ قَدْ شَغَلَنِي عَنْ ضَيْعَتِي فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ حَالَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ إحْيَاءٌ لِمَالِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَحَالَ عَدَمِ الْخَوْفِ ضَرْبُ إحْرَازٍ فَيَكُونُ مُبَاحًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَرِيبًا مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا } وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ رَجَاءُ اللِّقَاءِ ثَابِتًا ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ قَالَ { خُذْهَا فَإِنَّهَا لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } دَعَاهُ إلَى الْأَخْذِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ خَوْفُ الضَّيْعَةِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْإِبِلِ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِيهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَارِدًا فِي الْإِبِلِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لِهُجُومِ الذِّئْبِ عَلَى الْغَنَمِ إذَا لَمْ يَلْقَهَا رَبُّهَا عَادَةً بَعِيدًا كَانَ أَوْ قَرِيبًا وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ ؛ لِأَنَّهَا تَذُبُّ عَنْ نَفْسِهَا عَادَةً هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حَالَ مَا قَبْلَ الْأَخْذِ وَأَمَّا حَالُ مَا بَعْدَهُ فَلَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ حَالَانِ فِي حَالٍ هِيَ أَمَانَةٌ وَفِي حَالٍ هِيَ مَضْمُونَةٌ .
أَمَّا حَالَةُ الْأَمَانَةِ : فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ وَأَمَّا حَالَةُ الضَّمَانِ : فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا
لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ لِنَفْسِهِ مَغْصُوبٌ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ الضَّمَانِ إمَّا بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْيَمِينِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَصَدَّقَهُ فِي الْأَخْذِ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ قَدْ ثَبَتَتْ بِتَصْدِيقِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَشْهَدَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِشْهَادِ ظَهَرَ أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَظَهَرَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ بِهَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْأَخْذِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَخْذٌ بِالْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَكِنْ مَعَ الْحَلِفِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ بِأَنْ أَخَذَهُ لِصَاحِبِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْإِشْهَادِ فَإِذَا لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُ الْأَخْذِ لِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ الْأَخْذُ سَبَبًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْأَصْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ عَمَلَ كُلِّ إنْسَانٍ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } وقَوْله تَعَالَى { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } فَكَانَ أَخْذُهُ اللُّقَطَةَ فِي الْأَصْلِ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا وَأَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ غَصْبٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهَا بِالْإِشْهَادِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ .
وَلَوْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا : هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا رَفَعَهَا وَلَمْ يَبْرَحْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى وَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا يَضْمَنُ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَضْمَنُ ذَهَبَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا مِنْ مَكَانِهَا فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهَا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ ضَيَّعَهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ إذَا أَلْقَاهَا الْمُودَعُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ حَتَّى ضَاعَتْ .
( وَلَنَا ) أَنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَسِبًا مُتَبَرِّعًا لِيَحْفَظَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ فَسَخَ التَّبَرُّعَ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا أَصْلًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ الْحِفْظُ وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ بِهِ وَقَدْ رَدَّهُ بِالرَّدِّ إلَى مَكَانِهَا فَارْتَدَّ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، هَذَا إذَا كَانَ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَضَاعَتْ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهَا فِيهِ أَوْ كَذَّبَهُ لَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ قَدْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ
أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ تَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقْطَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُلْتَقِط بِمَسْمَعٍ مِنْ النَّاسِ إنِّي الْتَقَطْت لُقَطَةً أَوْ عِنْدِي لُقَطَةٌ فَأَيُّ النَّاسِ أَنْشَدَهَا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ أَوْ يَقُولَ : عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَسْأَلُ شَيْئًا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ .
فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَقَالَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ هَلَكَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ لُقَطَاتٍ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ وَاللُّقَطَةِ مُنَكَّرٌ إنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلُقَطَةٍ وَاحِدَةٍ لُغَةً لَكِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهَا كُلُّ الْجِنْسِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا فَرْدٌ مِنْ الْجِنْسِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ فَكَانَ هَذَا إشْهَادًا عَلَى الْكُلِّ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَخَذَهَا غَصْبًا فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } فَإِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الضَّالَّةَ ثُمَّ أَرْسَلَهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ اللُّقَطَةِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِوَاجِدِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ : " أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدَتْهُ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وُجُوبِ الضَّمَانِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَرِّفْهَا حَوْلًا } حِينَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ : إنِّي وَجَدْت لُقَطَةً فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا فَقَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً وَرَوَيْنَا عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْرِيفِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ .
ثُمَّ نَقُولُ : الْكَلَامُ فِي التَّعْرِيفِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَكَانِ التَّعْرِيفِ أَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ : فَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمُدَّةِ لِاخْتِلَافِ قَدْرِ اللُّقَطَةِ إنْ كَانَ شَيْئَا لَهُ قِيمَةٌ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهُ حَوْلًا ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ يُعَرِّفُهُ أَيَّامًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى .
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ التَّعْرِيفُ عَلَى خَطَرِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِائَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً ، وَإِنْ كَانَ عَشَرَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا شَهْرًا ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا جُمُعَةً أَوْ قَالَ عَشَرَةً ، وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَ دَانَقًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ يَوْمًا ، وَإِنْ كَانَ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً تَصَدَّقَ بِهَا " وَإِنَّمَا تَكْمُلُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنْ خَافَ الْفَسَادَ لَمْ تَكْمُلْ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا وَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ فَالْأَسْوَاقُ وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّهَا مَجْمَعُ النَّاسِ وَمَمَرُّهُمْ فَكَانَ التَّعْرِيفُ فِيهَا أَسْرَعَ إلَى تَشْهِيرِ الْخَبَرِ ، ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَتُقَامُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا مِلْكُهُ أَخَذَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ
الْبَيِّنَةَ } وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْعَلَامَةَ بِأَنْ وَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَوَزْنَهَا وَعَدَدَهَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِالْعَلَامَةِ مِمَّا قَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ وَهُنَا لَا يُجْبَرُ .
لِأَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَمَعَ الْعَلَامَةِ أَوْلَى ، وَهُنَا لَا عِبْرَةَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ الْعَلَامَةِ وَلَكِنْ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كَفِيلًا لِجَوَازِ مَجِيءِ آخَرَ فَيَدَّعِيهَا وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ ، ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا مُدَّةَ التَّعْرِيفِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا ، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ، وَتَكُونُ قَرْضًا عَلَيْهِ ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ { عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا } وَهَذَا إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ غَنِيٌّ ، بَلْ إنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ .
( وَلَنَا ) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَحِلُّ اللَّقَطُ فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً فَإِنْ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ } وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحِلَّ مُطْلَقًا ، وَحَالَةُ الْفَقْرِ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ حَالَةُ الْغِنَى وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ وَمَصْرِفُ
الصَّدَقَةِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كَانَ غَنِيًّا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ : فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَشَأْنُك بِهَا إرْشَادٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَأْنَهُ الْمَعْهُودَ بِاللَّقَطِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِط أَوْ الْفَقِيرَ إنْ وَجَدَهُ ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَنِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي لُقَطَةِ الْحِلِّ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِلُقَطِ الْحِلِّ مِنْ التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لُقَطَةُ الْحَرَمِ تُعَرَّفُ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِحَالٍ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ مَكَّةَ { وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ } أَيْ لِمُعَرِّفٍ فَالْمُنْشِدُ الْمُعَرِّفُ وَالنَّاشِدُ الطَّالِبُ وَهُوَ الْمَالِكُ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ .
( وَلَنَا ) مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ : إنَّهُ لَا يَحِلُّ
الْتِقَاطُهَا إلَّا لِلتَّعْرِيفِ وَهَذَا حَالُ كُلِّ لُقَطَةٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لُقَطَةَ الْحَرَمِ بِذَلِكَ ، لِمَا لَا يُوجَدُ صَاحِبُهَا عَادَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَا لَا يُسْقِطُ التَّعْرِيفَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الضَّالَّةِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ، وَتَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ النَّفَقَةُ فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي يَكُونُ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ بَهِيمَةً يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ أَمَرَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا نَظَرًا لِلْمَالِكِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ وَخَشِيَ أَنْ لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا مَقَامَهَا فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ وَإِنْ رَأَى الْأَصْلَحَ أَنْ لَا يَبِيعَهَا بَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا لَكِنْ نَفَقَةً لَا تَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى إذَا حَضَرَ يَأْخُذُ مِنْهُ النَّفَقَةَ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ اللُّقَطَةَ بِالنَّفَقَةِ كَمَا يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُؤَدِّي النَّفَقَةَ بَاعَهَا الْقَاضِي وَدَفَعَ إلَيْهِ قَدْرَ مَا أَنْفَقَ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( كِتَابُ الْإِبَاقِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْآبِقِ ، وَفِي بَيَانِ حَالِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَالِهِ ( أَمَّا ) الْأَوَّلُ فَالْآبِقُ اسْمٌ لِرَقِيقٍ يَهْرَبُ مِنْ مَوْلَاهُ وَأَمَّا حَالُهُ فَحَالُ اللُّقَطَةِ قَبْلَ الْأَخْذِ وَبَعْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفَاصِيلَهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - : إذَا أُخِذَ الْآبِقُ لِصَاحِبِهِ فَإِنْ شَاءَ الْآخِذُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ بِهِ إلَى صَاحِبِهِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَهُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا إنْ شَاءَ لِجَوَازِ أَنْ يَجِيءَ آخَرُ فَيَدَّعِيه وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِكَفِيلٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَلَكِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ دَفَعَهُ إلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ لَهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي يَرْجِعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَجِئْ لَهُ طَالِبٌ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَخَذَ ثَمَنَهُ يَحْفَظُهُ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِفْظٌ لَهُ مَعْنًى ، فَإِنْ بَاعَهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْقَاضِي صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ حِفْظِ مَالِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَبِعْ لَأَتَتْ النَّفَقَةُ عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهِ فَيَضِيعُ الْمَالُ فَكَانَ بَيْعُهُ حِفْظًا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْقَاضِي يَمْلِكُ مَالَ الْغَائِبِ ؛ وَلِهَذَا يَبِيعُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ .
وَلَوْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا
وَيُنْفِقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ إيَّاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ إحْيَاءُ مَالِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ وَإِذَا جَاءَ بِالْآبِقِ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ بِالْجُعْلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ عَلَى مَالِكِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِهِ بِالْجُعْلِ كَمَا يُحْبَسُ الْمَبِيعُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ .
وَلَوْ هَلَكَ فِي حَالِ الْحَبْسِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَسْقُطُ الْجُعْلُ كَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ الْمَحْبُوسِ بِالثَّمَنِ ، لَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي .
وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الرَّقِيقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَالِهِ فَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْكَلَامُ فِي الْجُعْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي بَيَانِ سَبَبِهِ ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ .
( أَمَّا ) أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ فَثَابِتٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَصْلًا كَمَا لَا يَثْبُتُ بِرَدِّ الضَّالَّةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ الْآخِذُ الْجُعْلَ عَلَى الْمَالِكِ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ رَدُّ مَالِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ مُحْتَسِبًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَمَا لَوْ رَدَّ الضَّالَّةَ إلَّا إذَا شَرَطَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
( وَلَنَا ) مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ قَدِمَ فُلَانٌ بِإِبَاقٍ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ الْقَوْمُ : لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَجُعْلًا إنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمًا .
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّ جُعْلَ الْآبِقِ طَرِيقُ صِيَانَةٍ عَنْ الضَّيَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالطَّلَبِ عَادَةً إذْ لَيْسَ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يُطْلَبُ هُنَاكَ فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَضَاعَ وَلَا يُؤْخَذُ لِصَاحِبِهِ وَيَتَحَمَّلُ مُؤْنَةَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ عَادَةً وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ جُعْلًا يَحْمِلُ مَشَقَّةَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ طَمَعًا فِي الْجُعْلِ فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ عَنْ الضَّيَاعِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ طَرِيقَ صِيَانَةِ الْآبِقِ عَنْ الضَّيَاع وَصِيَانَةُ الْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ وَاجِبٌ فَكَانَ الْمَالِكُ شَارِطًا لِلْأَجْرِ عِنْدَ
الْأَخْذِ وَالرَّدِّ دَلَالَةً بِخِلَافِ الضَّالَّةِ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا ضَلَّتْ فَإِنَّهَا تَرْعَى فِي الْمَرَاعِي الْمَأْلُوفَةِ فَيُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِالطَّلَبِ عَادَةً فَلَا تَضِيعُ دُونَ الْأَخْذِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعَلِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدٌ كَانَ فِي الْأَخْذِ وَالرَّدِّ مُحْتَسِبًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فَهُوَ الْفَرْقُ وَأَمَّا سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ فَهُوَ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ الصِّيَانَةِ عَلَى الْمَالِكِ وَهُوَ مَعْنَى التَّسَبُّبِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) : الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الصِّيَانَةَ تَحْصُلُ عِنْدَهُ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ عِنْدَ وُجُودِهِ ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ فَمَاتَ أَوْ أَبِقَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الرَّدِّ لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَبِقَ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ فَرَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ فَالْجُعْلُ لِلثَّانِي وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبِقَ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ السَّبَبُ أَوْ بَقِيَ ذَلِكَ سَبَبًا مَحْضًا لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ - وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ - وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ وَالشَّرْطُ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ سَبَبٍ مَحْضٍ وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ لَهُ ، وَالثَّانِي صَاحِبَ عِلَّةٍ فَيَكُونُ الْجُعْلُ لَهُ .
وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ وَاحِدًا وَالْآبِقُ اثْنَيْنِ فَلَهُ جُعْلَانِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ اثْنَيْنِ وَالْآبِقُ وَاحِدًا فَلَهُمَا جُعَلٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ .
وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ وَاحِدًا وَالْآبِقُ وَاحِدًا وَالْمَالِكُ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا جُعْلٌ وَاحِدٌ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا .
وَلَوْ جَاءَ بِالْآبِقِ فَوَجَدَ الْمَالِكَ قَدْ مَاتَ فَلَهُ الْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ لِوُجُودِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالرَّدِّ عَلَى التَّرِكَةِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَبْدِ حَتَّى يُعْطَى الْجُعْلَ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ يُقَدَّمُ الْجُعْلُ عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ فَيُبَاعُ الْعَبْدُ وَيُبْدَأُ بِالْجُعْلِ مِنْ ثَمَنِهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِحَبْسِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ الْجُعْلِ كَالْمُرْتَهِنِ ، هَذَا إذَا جَاءَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ فَوَجَدَ الْمَالِكَ قَدْ مَاتَ فَأَمَّا إذَا جَاءَ بِهِ وَارِثُ الْمَيِّتِ فَوَجَدَ
مُوَرِّثَهُ قَدْ مَاتَ فَلَهُ الْجُعْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَيًّا وَقْتَ الْأَخْذِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا جُعْلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْأَخْذِ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى نَفْسِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَجِيءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَالِكِ عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ رُدَّ عَلَى الْمَالِكِ فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ كَمَا إذَا وَجَدَهُ حَيًّا ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّادُّ أَجْنَبِيًّا اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
وَلَوْ جَاءَ بِهِ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ الْجُعْلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجِيءَ بِهِ عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ رَدٌّ عَلَيْهِ وَيَجِبُ الْجُعْلُ بِرَدِّ الْآبِقِ الْمَرْهُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الصِّيَانَةِ رَجَعَتْ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَاعَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَهُ كَانَتْ الْمَضَرَّةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَسَوَاءً كَانَ الرَّادُّ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ وَكَذَا الْعَبْدُ إلَّا أَنَّ الْجُعْلَ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - .
( وَمِنْهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ الرَّادُّ عَلَى الْمَالِكِ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْمَالِكِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ كَانَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ وَمَنْ
عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الرَّادَّ إذَا كَانَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ لَهُ كَائِنًا مَا كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ كَائِنًا مَا كَانَ إلَّا الِابْنَ يَرُدُّ آبِقَ أَبِيهِ وَالزَّوْجَ يَرُدُّ آبِقَ زَوْجَتِهِ أَنَّهُ لَا جُعْلَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي عِيَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِ أَبِيهِ فَالرَّدُّ مِنْهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ ؛ لِأَبِيهِ ، وَالِابْنُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِدْمَةِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لَخِدْمَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِلَافِ الْأَبِ مَعَ مَا أَنَّ الْأَوْلَادَ فِي الْعَادَاتِ يَحْفَظُونَ أَمْوَالَ الْآبَاءِ لِطَمَعِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثَ فَكَانَ رَادًّا عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى إذْ كَانَ بِالرَّدِّ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا رَدَّ عَبْدَ زَوْجَتِهِ فَقَدْ رَدَّ عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَا لِهَا عَادَةً وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ .
( وَأَمَّا ) الْأَبُ إذَا رَدَّ عَبْدَ ابْنِهِ فَإِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الَّذِي فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ فَالْقَرَابَةُ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُسْتَخْدَمُ طَبْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَلِهَذَا لَوْ خَدَمَ بِالْأَجْرِ وَجَبَ الْأَجْرُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخِدْمَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ ، وَكَذَا الْآبَاءُ لَا يَحْفَظُونَ أَمْوَالَ الْأَوْلَادِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ يَتَقَدَّمُ مَوْتَ الْأَوْلَادِ عَادَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الرَّدِّ ، وَالْعَمَلُ لِنَفْسِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كَانَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ لَهُ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ ، وَعَلَى هَذَا الْوَصِيُّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ لَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ فِي عِيَالِهِ ، وَحِفْظُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ عَلَى الرَّدِّ ، وَكَذَا عَبْدُ الْوَصِيِّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ عَبْدِهِ كَرَدِّهِ .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ مَرْقُوقًا مُطْلَقًا كَالْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْقُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ حُرٌّ ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ " إلَّا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ مَعْلُولٌ بِالصِّيَانَةِ عَنْ الضَّيَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ فِي الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْرَبُ عَادَةً ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي جَانِبِهِ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعَجِّزُ نَفْسَهُ بِالْإِبَاءِ عَنْ الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَخْدَمَانِ عَادَةً فَلَعَلَّهُمَا يُكَلَّفَانِ مَا لَا يُطِيقَانِ فَيَحْمِلُهُمَا ذَلِكَ عَلَى الْهَرَبِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعْلِ كَمَا فِي الْقِنِّ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقِنِّ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِالْقِنِّ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ فَلَهُ الْجُعْلُ ، وَإِنَّ جَاءَ بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لَا جُعْلَ لَهُ .
( وَوَجْهُ ) الْفَرْقِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَلَمْ يُوجَدْ رَدُّ الْمَرْقُوقِ أَصْلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِخِلَافِ الْقِنِّ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ : فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ إذَا أَبِقَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّ الْجُعْلَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَمَنْفَعَةُ الرَّدِّ عَائِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلَوْ أَبَقَ عَبْدُ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْجُعْلُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ يَجِبُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الرَّاهِنِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فَيُنْظَرُ إنْ رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ رَدَّهُ دُونَ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ أَقْصَى الْمِصْرِ رَضَخَ لَهُ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ وَتَعَبِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مُدَّةِ السَّفَرِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا بِالشَّرْعِ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ فِي الْمُدَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَتِهِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ الْجُعْلِ ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْجُعْلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهُ الْجُعْلُ تَامًّا ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا اعْتَبَرَ الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الضَّيَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الصِّيَانَةِ لَوْ اعْتَبَرْنَا الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يُصَانُ مِنْ وَجْهٍ يَضِيعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضَّيَاعِ بِتَرْكِ الْأَخْذِ وَالْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ الضَّيَاعِ بِالْجُعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ لِيَكُونَ الصَّوْنُ بِالْأَخْذِ مُفِيدًا ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ رَأْسٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
كِتَابُ السِّبَاقِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي تَفْسِيرِ السِّبَاقِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ : فَالسِّبَاقُ فِعَالٌ مِنْ السَّبْقِ وَهُوَ أَنْ يُسَابِقَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَقُولُ : إنْ سَبَقْتُك فَكَذَا أَوْ إنْ سَبَقْتَنِي فَكَذَا ، وَيُسَمَّى أَيْضًا رِهَانًا فِعَالًا مِنْ الرَّهْنِ ( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَأَنْوَاعٌ ( مِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالنَّصْلِ وَالْقَدَمِ لَا فِي غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نِصَالٍ } إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ السَّبْقُ فِي الْقَدَمِ بِحَدِيثِ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ وَاللَّعِبُ حَرَامٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ اللَّعِبَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّحْرِيمِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ } حَرَّمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ لَعِبٍ وَاسْتَثْنَى الْمُلَاعَبَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ فَبَقِيَتْ الْمُلَاعَبَةُ بِمَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا ، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخُفِّ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَدِيثِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَسْبِقُ كُلَّمَا دُفِعَتْ فِي سِبَاقٍ فَدُفِعَتْ يَوْمًا فِي إبِلٍ فَسُبِقَتْ فَكَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَآبَةٌ إذْ سُبِقَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ النَّاسَ إذَا رَفَعُوا شَيْئًا أَوْ أَرَادُوا رَفْعَ شَيْءٍ وَضَعَهُ اللَّهُ } وَكَذَا السَّبْقُ بِالْقَدَمِ لِمَا رَوَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { سَابَقْت النَّبِيَّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقُلْتُ : هَذَا بِتِلْكَ } فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا - وَهُوَ الرِّيَاضَةُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِأَسْبَابِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ - فَكَانَتْ لَعِبًا صُورَةً وَرِيَاضَةً وَتَعَلُّمَ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فَيَكُونُ جَائِزًا إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ ، وَلَئِنْ كَانَ لَعِبًا لَكِنَّ اللَّعِبَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ لَا يَكُونُ حَرَامًا ، وَلِهَذَا اسْتَثْنَى مُلَاعَبَةَ الْأَهْلِ لِتَعَلُّقِ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ بِهَا وَهُوَ انْبِعَاثُ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَالسُّكْنَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى .
( وَمِنْهَا ) أَنْ يَكُونَ الْخَطَرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَّا إذَا وَجَدَ فِيهِ مُحَلِّلًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْخَطَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يُدْخِلَا فِيهِ مُحَلِّلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَار نَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنْ سَبَقَتْنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا ، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلِي عَلَيْك كَذَا فَقَبِلَ الْآخَرُ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ عَلَيْك فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقِمَارَ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيضِ عَلَى اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَالتَّنْفِيلِ مِنْ الْإِمَامِ وَبَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَدَلِ ، وَالْإِمَامُ بِالتَّنْفِيلِ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ فَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ فَهَذَا بِالْجَوَازِ
أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْخَطَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَكِنْ أَدْخَلَا فِيهِ مُحَلِّلًا بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً لَكِنْ الْخَطَرُ مِنْ الِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَلَا خَطَرَ مِنْ الثَّالِثِ ، بَلْ إنْ سَبَقَ أَخَذَ الْخَطَرَ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا ، فَهَذَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلهُ السَّلَاطِينُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السُّلْطَانُ لِرَجُلَيْنِ : مَنْ سَبَقَ مِنْكُمَا فَلَهُ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّحْرِيضِ عَلَى اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ خُصُوصًا مِنْ السُّلْطَانِ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَسْبَابِ الْجِهَادِ ، ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا حَرَّضَ وَاحِدًا مِنْ الْغُزَاةِ عَلَى الْجِهَادِ بِأَنْ قَالَ : مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا وَنَحْوَهُ جَازَ كَذَا هَذَا ، وَبَلْ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا .
( وَمِنْهَا ) أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِيمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْبِقَ وَيُسْبَقَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسْبِقُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَبَقِيَ الرِّهَانُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِشَرْطٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَعِبًا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - .
كِتَابُ الْوَدِيعَةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَفِي بَيَانِ حَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ .
( أَمَّا ) رُكْنُهُ : فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَهُوَ : أَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ : أَوْدَعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ ، أَوْ احْفَظْ هَذَا الشَّيْءَ لِي ، أَوْ خُذْ هَذَا الشَّيْءَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، وَيَقْبَلُهُ الْآخَرُ ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ ؛ فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ : ( مِنْهَا ) عَقْلُ الْمُودَعِ ، فَلَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ مِنْ الْمَجْنُونِ ، وَالصَّبِيِّ ، الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
( وَأَمَّا ) بُلُوغُهُ : فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا ، حَتَّى يَصِحَّ الْإِيدَاعُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ ؛ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ ، كَمَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ ، فَلَا يَمْلِكُ تَوَابِعَهَا عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ .
وَكَذَا حُرِّيَّتُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْإِيدَاعَ لِمَا قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ ، ( وَمِنْهَا ) عَقْلُ الْمُودَعِ فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْمَجْنُونِ ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ لُزُومُ الْحِفْظِ ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ .
( وَأَمَّا ) بُلُوغُهُ : فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ لَكَانَ الْإِذْنُ لَهُ سَفَهًا .
( وَأَمَّا ) الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ ؟ وَلَوْ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ فَاسْتَهْلَكَهَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ؛ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَتْ سِوَاهُمَا فَإِنْ قَبِلَهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ إيدَاعَهُ لَوْ صَحَّ فَاسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ ؛ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحْ ؛ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، فَصَارَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ .
وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ ؛ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا : أَنَّ إيدَاعَ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ إهْلَاكٌ لِلْمَالِ مَعْنَى ، فَكَانَ فِعْلُ الصَّبِيِّ إهْلَاكَ مَالٍ قَائِمٍ صُورَةً لَا مَعْنَى ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَدَلَالَةُ مَا قُلْنَا : أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدِهِ ، فَقَدْ وَضَعَ فِي يَدِ مَنْ لَا يَحْفَظُهُ عَادَةً ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ شَرْعًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ الْوَدِيعَةِ شَرْعًا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيِّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَادَةً ؛ أَنَّهُ مُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ وَلَوْ كَانَ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً لَدُفِعَ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ .
وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْحِفْظُ عَادَةً ؛ لَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ سَفَهًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ أَيْضًا ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الدَّمِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ ، لَا ضَمَانَ الْمَالِ ، وَالْعَبْدُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَبْلَ الْإِيدَاعِ وَبَعْدَهُ ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ حُرِّيَّةُ الْمُودَعِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، حَتَّى يَصِحَّ الْقَبُولُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً .
وَلَوْ قَبِلَهَا فَاسْتَهْلَكَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ ، أَوْ الْفِدَاءِ وَإِنْ كَانَتْ سِوَاهُمَا ، فَإِنْ قَبِلَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ؛ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ .
( فَصْلٌ ) : فَحُكْمُهُ لُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ اسْتِحْفَاظٌ وَمِنْ جَانِبِ الْمُودَعِ الْتِزَامُ الْحِفْظِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ فَيَلْزَمُهُ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، } وَالْكَلَامُ فِي الْحِفْظِ فِي مَوْضِعَيْنِ : - أَحَدُهُمَا فِيمَا يُحْفَظُ بِهِ - وَالثَّانِي : فِيمَا فِيهِ يُحْفَظُ .
( أَمَّا ) الْأَوَّلُ ، فَالِاسْتِحْفَاظُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا ، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا ؛ فَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَ بِيَدِ نَفْسِهِ ، وَمَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ ، وَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ مَعَهُ ، وَيُمَوِّنُهُ ، فَيَكْفِيهِ طَعَامَهُ ، وَشَرَابَهُ ، وَكِسْوَتَهُ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ قَرِيبًا ، أَوْ أَجْنَبِيًّا ، مِنْ وَلَدِهِ ، وَامْرَأَتِهِ ، وَخَدَمِهِ ، وَأَجِيرِهِ ، لَا الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَبِيَدِهِ مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِنَفْسِهِ عَادَةً ، كَشَرِيكِهِ الْمُفَاوِضِ ، وَالْعِنَانِ ، وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ، وَعَبْدِهِ الْمَعْزُولِ عَنْ بَيْتِهِ .
هَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ إلَّا بِيَدِ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَيْنِهِ ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ .
( وَجْهُ ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ سَائِرُ الْأَجَانِبِ .
( وَلَنَا ) : أَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْتَزِمُ بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ عَادَةً ؛ إلَّا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ مَرَّةً وَبِيَدِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى ، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ بِيَدِهِمْ أَيْضًا ، فَكَانَ الْحِفْظُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلًا تَحْتَ الْعَقْدِ ، دَلَالَةً ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْوَدِيعَةَ عَلَى أَيْدِيهِمْ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَالِكِ ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ يَدُ
الْمُودَعِ مَعْنًى ، فَمَا دَامَ فِي أَيْدِيهِمْ ؛ كَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِمْ ، إلَّا لِعُذْرٍ ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ ، تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا رَضِيَ بِيَدِهِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ ، فَإِذَا دَفَعَ ؛ فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا ، فَتَدْخُلُ الْوَدِيعَةُ فِي ضَمَانِهِ إلَّا إذَا كَانَ عَنْ عُذْرٍ ، بِأَنْ وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ ، أَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ ، فَخَافَ الْغَرَقَ ؛ فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ ، فَكَانَ الدَّفْعُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ ، فَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ بِعُذْرٍ .
وَلَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَهُ ، فَضَاعَتْ فِي يَدِ الثَّانِي - فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ ، لَا عَلَى الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ : الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ .
( وَجْهُ قَوْلِهِمَا ) : أَنَّهُ وَجَدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، أَمَّا - الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ ، كَمُودَعِ الْغَاصِبِ مَعَ الْغَاصِبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ ؛ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَ الْوَدِيعَة بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مَالَهُ نَفْسَهُ إيَّاهُ فَهَذَا مُودَعٌ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ ، يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ
بِالْإِيدَاعِ ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ ، كَأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ ، إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ ، لِمَا عُلِمَ .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ الثَّانِي لَيْسَتْ بِيَدٍ مَانِعَةٍ ، بَلْ هِيَ يَدُ حِفْظٍ وَصِيَانَةِ الْوَدِيعَةِ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَالِكِ ، قَالَ اللَّه تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - { : مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ لَهُ ، فَكَانَ مُحْسِنًا فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّصِّ ، فَبَقِيَ الْمُودَعُ الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ .
وَلَوْ أَوْدَعَ غَيْرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَ عَنْ عُذْرٍ ، لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ ، فَدَعْوَى الضَّرُورَةِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ ، يُرِيدُ بِهِ دَفْعَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، هَذَا إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي ؛ فَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهَا ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ ، يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ ؛ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي حَقِيقَةً ، وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ لِوُقُوعِهِ إعْجَازًا لِلْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا الدَّفْعُ إلَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْفَاظِ دُونَ الْإِعْجَازِ ، إلَّا أَنَّهُ أَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْإِعْجَازِ شَرْعًا فِي حَقِّ
اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ صُورَةً ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الْإِعْجَازِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، لِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي ، وَلَمْ يَرْجِعْ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ مُودِعِ الْغَاصِبِ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِهِ إنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ ، أَوْ يَضْمَنَ الْمُودَعُ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوَدَعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ مَالًا ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْقِسْمَةِ اقْتَسَمَاهُ ، وَحَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُودَعَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَقْد اسْتَحْفَظَهُمَا جَمِيعًا ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ فِي حِفْظِهِمَا جَمِيعًا ، وَلَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ لِيَكُونَ النِّصْفُ فِي يَدِ هَذَا ، وَالنِّصْفُ فِي يَدِ ذَاكَ وَالْمَحِلُّ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ .
وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ إلَى صَاحِبِهِ فَضَاعَتْ ، فَمِنْ الْمُسَلَّمِ نِصْفُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ : لَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ شَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ إلَى صَاحِبِهِ ، وَإِذَا فَعَلَ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا اسْتَحْفَظَهَا ، فَقَدْ رَضِيَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى كُلِّ الْوَدِيعَةِ ، كَمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْوَدِيعَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْقِسْمَةِ : ( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحْفَظَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَعْضِ الْوَدِيعَةِ لَا فِي كُلِّهَا ، فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ ، وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا ، أَنَّهُ لَمَّا اسْتَحْفَظَهَا جَمِيعًا ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي حِفْظِهِمَا
جَمِيعًا ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِلِاسْتِحَالَةِ فَيُقْسَمُ لِيَكُونَ النِّصْفُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَالنِّصْفُ فِي يَدِ الْآخَرِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا يَكُونُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ خَالَفَهُ ، فَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ ، فَإِذَا ضَاعَ ضَمِنَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي حِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، عَلَى التَّوْزِيعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فِي زَمَانَيْنِ عَلَى التَّهَايُؤِ فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ ، فَهُوَ الْفَرْقُ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا : الْمُرْتَهِنَانِ وَالْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ ، إذَا كَانَ الْمَرْهُونُ وَالْمُشْتَرَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَسَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ ، - وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ الْكَلَامُ فِيمَا فِيهِ تُحْفَظُ الْوَدِيعَةُ ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ ؛ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا فِيمَا يَحْفَظُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ دَارِهِ وَحَانُوتِهِ وَكِيسِهِ وَصُنْدُوقِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ حِفْظَهَا إلَّا فِيمَا يَحْفَظُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ فِي حِرْزِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ حِرْزَ غَيْرِهِ فِي يَدِ ذَلِكَ الْغَيْرِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْحِفْظَ بِيَدِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِمَا فِي يَدِهِ أَيْضًا ، إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ فِي يَدِهِ فَمَا فِي الْحِرْزِ يَكُونُ فِي يَدِهِ أَيْضًا فَكَانَ حَافِظًا بِيَدِ نَفْسِهِ فَمَلَكَ ذَلِكَ ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ بِأَنْ يُسَافِرَ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ لِلْوَدِيعَةِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، إنْ كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ؛ لَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ كَيْفَ مَا كَانَ أَمَّا
الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَوَجْهُ قَوْلِهِ : أَنَّ الْمُسَافَرَةَ الْوَدِيعَةِ تَضْيِيعُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ مَضْيَعَةٌ ، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - { الْمُسَافِرُ وَمَالُهُ عَلَى قَلْبٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ ، } فَكَانَ التَّحْوِيلُ إلَيْهَا تَضْيِيعًا فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُودَعِ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ تَعْيِينِ الْمَكَانِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّعْيِينُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، قَوْلُهُ : الْمَفَازَةُ مَضْيَعَةٌ قُلْنَا : مَمْنُوعٌ أَوْ نَقُولُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَمَّا إذَا كَانَ آمِنًا فَلَا ، وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، حِينَ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْكَفَرَةِ ، وَكَانَتْ الطَّرِيقُ مَخُوفَةً ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ فِي الْمُسَافَرَةِ بِمَالِهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ضَرَرًا ، بِالْمَالِكِ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمُودَعُ فِي السَّفَرِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ مِنْ مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ ، إلَّا بِحِمْلٍ وَمُؤْنَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ؛ قَوْلُهُمَا فِيهِ ضَرَرٌ ، - قُلْنَا - : هَذَا النَّوْعُ مِنْ الضَّرَرِ لَيْسَ بِغَالِبٍ ، فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ ، فَهُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْأَمْرَ ، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ لَا يُنْظَرُ لَهُ ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، فَأَمَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا نَظَرَ فِيهِ ، إنْ كَانَ شَرْطًا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَيُفِيدُ ؛ اُعْتُبِرَ ، وَإِلَّا فَلَا ، بَيَانُ ذَلِكَ ؛ إذَا أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا بِيَدِهِ لَيْلًا
وَنَهَارًا وَلَا يَضَعُهَا ؛ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ ، أَوْ فِيمَا يُحْرِزُ فِيهِ مَالَهُ عَادَةً ، فَضَاعَتْ ؛ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْوَدِيعَةِ بِيَدِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَضَعُهَا - أَصْلًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لَهُ عَادَةً ، فَكَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ فَيُلْغَى وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَنَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى امْرَأَتِهِ ، أَوْ عَبْدِهِ ، أَوْ وَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ ؛ أَوْ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ عَادَةً ، نَظَرَ فِيهِ إنْ كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ ؛ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ كَانَ النَّهْيِ عَنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ نَهْيًا عَنْ الْحِفْظِ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَصِحُّ نَهْيُهُ وَإِنْ كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ .
وَلَوْ دَفَعَ - يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَكَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ ، أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَهُوَ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ فِي الْحِفْظِ مُتَفَاوِتَةٌ ، وَالْأَصْلُ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ .
وَلَوْ قَالَ : لَا تُخْرِجْهَا مِنْ الْكُوفَةِ ، فَخَرَجَ بِهَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَهُوَ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ فِي الْمِصْرِ أَكْمَلُ مِنْ الْحِفْظِ فِي السَّفَرِ ؛ إذْ السَّفَرُ مَوْضِعُ الْخَطَرِ ؛ إلَّا إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَيْهَا ؛ فَاضْطُرَّ إلَى الْخُرُوجِ بِهَا ، فَخَرَجَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِلْحِفْظِ ، كَمَا إذَا وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ ؛ أَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَخَافَ الْغَرَقَ ، فَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ : احْفَظْ الْوَدِيعَةَ فِي دَارِكَ هَذِهِ ، فَحَفِظَهَا فِي دَارٍ لَهُ أُخْرَى ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّارَانِ فِي الْحِرْزِ سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَحْرَزَ ، لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى أَحْرَزَ مِنْ الثَّانِيَةِ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ
عِنْدَ تَفَاوُتِ الْحِرْزِ مُفِيدٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي دَارِهِ فِي هَذِهِ الْقِرْيَةِ ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَضَعَهَا فِي دَارِهِ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى - فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ أَخْبَأَهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ ، وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ مُعَيَّنٍ فِي دَارِهِ فَخَبَّأَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي تِلْكَ الدَّارِ - لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ ، لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْحِرْزِ عَادَةً ، بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ ، فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ مُفِيدًا ، حَتَّى لَوْ تَفَاوَتَا بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْرَزَ مِنْ الثَّانِي ، تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ ، وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرْنَا ، أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ ، وَيُفِيدُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ ، وَلَا يُفِيدُ فَهُوَ هَدَرٌ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا حَتَّى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحِفْظِ فِي بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ الْحِفْظَ فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فَلَا يَتْرُكُ هَذَا الْأَصْلَ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ ، وَصَارَ كَالدَّارَيْنِ ، وَالْجَوَابُ : نَعَمْ ، إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ فَلَا ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّفَاوُتِ فِي الْحِرْزِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ ، كَمَا إذَا قَالَ : احْفَظْ بِيَمِينِكَ ، وَلَا تَحْفَظْ بِشِمَالِكَ ، أَوْ احْفَظْ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ الْبَيْتِ ، وَلَا تَحْفَظْ فِي الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ ؛ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ حَتَّى لَوْ تَفَاوَتَا فِي الْحِرْزِ يَصِحُّ ، بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ ، وَالْأَصْلُ فِي الدَّارَيْنِ اخْتِلَافُ الْحِرْزِ ، فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ ، فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي الْبَيْتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْوَدِيعَةِ فَحَالُهَا أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُودَعِ أَمَانَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُؤْتَمَنٌ ، فَكَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهَا أَمَانَةً أَحْكَامٌ : مِنْهَا : وُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
حَتَّى لَوْ حَبَسَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَضَاعَتْ ضَمِنَ هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُشَاعًا لِرَجُلَيْنِ ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا ، وَطَلَبَ حِصَّتَهُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ ؛ بِأَنْ أَوَدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً ، دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ وَثِيَابًا ، وَغَابَ ثُمَّ جَاءَهُ أَحَدُهُمَا ، وَطَلَبَ بَعْضَهَا ، وَأَبَى الْمُسْتَوْدَعُ ذَلِكَ ، لَمْ يَأْمُرْ الْقَاضِي بِدَفْعِ شَيْءٍ إلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يُقَسِّمُ ذَلِكَ ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةً جَائِزَةً عَلَى الْغَائِبِ بِلَا خِلَافٍ ؛ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُودَعِ ، ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ فِي الْمَقْبُوضِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْقَابِضِ ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبِ فَلَيْسَ لِلْقَابِضِ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ فِي الْبَاقِي .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ؛ أَنَّ الْآخِذَ بِأَخْذِ حِصَّتِهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْغَائِبِ ، كَمَا إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى رَجُلٍ ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا .
( وَجْهُ ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْمُودَعَ لَوْ دَفَعَ شَيْئًا إلَى الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ ، لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً ، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ نَصِيبِ الْغَائِبِ إلَيْهِ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا .
وَلَا سَبِيلَ
إلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ الْأَلْفِ ؛ لِكَوْنِ الْأَلْفِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا ، وَلَا تَتَمَيَّزُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ ، وَالْقِسْمَةُ عَلَى الْغَائِبِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ؛ وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ حَتَّى قَالَا : إذَا جَاءَ الْغَائِبُ وَقَدْ هَلَكَ الْبَاقِي ، لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ فِي الْمَقْبُوضِ .
وَلَوْ نَفَذَتْ الْقِسْمَةُ لَمَا شَارَكَهُ فِيهِ ؛ لِتَمَيُّزِ حَقِّهِ عَنْ حَقِّ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدْفَعُ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ، بِدَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ لَا مَالِ شَرِيكِهِ الْغَائِبِ ، وَهُنَا يَدْفَعُ مَالَ الْغَائِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَاءَهُ رَجُلَانِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا ، فَقَالَ الْمُودَعُ أَوْدَعَهَا أَحَدُكُمَا وَلَسْتُ أَدْرِي أَيُّكُمَا هُوَ ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَا الْأَلْفَ وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا إنْ لَمْ يَصْطَلِحَا ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ لَهُ خَاصَّةً لَا لِصَاحِبِهِ ، فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَلْفِ إلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْأَلْفَ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا ، لَا يُمْنَعَانِ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَا الْمُودَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ ، وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ لَهُ ، لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا ؛ لِجَهَالَةِ الْمُقِرِّ لَهُ الْوَدِيعَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُودَعَ فَإِنْ اسْتَحْلَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِأَحَدِهِمَا وَيَنْكُلَ لِلْآخَرِ ، فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا فَقَدْ انْقَطَعَتْ
خُصُومَتُهُمَا لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، وَهَلْ يَمْلِكَانِ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَخْذِ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَالْمَعْرُوفُ بَيْنَ ، أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ، عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَمْلِكَانِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْلِكَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ بَعْدَ الْحَلِفِ ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ .
وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا يُقْضَى بِالْأَلْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَيَضْمَنُ أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا ، فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الْأَلْفِ لَهُ فَإِذَا نَكَلَ لَهُ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ ، فَكَأَنَّهُ بَذَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا ، أَوْ أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا بِأَلْفٍ ، وَيَضْمَنُ أَيْضًا أَلْفًا أُخْرَى ، تَكُونُ بَيْنَهُمَا ؛ لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ ، لَوْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ ، قَضَى بِالْأَلْفِ لِلَّذِي نَكَلَ لَهُ ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي حَلَفَ لَهُ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةُ مَنْ نَكَلَ لَهُ لَا حُجَّةَ مَنْ حَلَفَ لَهُ ، وَمِنْهَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ، وَأَهْلُهَا مَالِكُهَا .
حَتَّى لَوْ رَدَّهَا إلَى مَنْزِلِ الْمَالِكِ ، فَجَعَلَهَا فِيهِ ، أَوْ دَفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ ، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ ، حَتَّى لَوْ ضَاعَتْ ؛ يَضْمَنُ ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ جَاءَ بِمَتَاعِ الْعَارِيَّةِ وَأَلْقَاهَا فِي دَارِ الْمُعِيرِ ، أَوْ جَاءَ بِالدَّابَّةِ فَأَدْخَلَهَا فِي إصْطَبْلِهِ - كَانَ رَدًّا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا أَنْ لَا يَصِحَّ ، إلَّا أَنَّهَا صَارَتْ مَخْصُوصَةً عَنْ عُمُومِ الْآيَاتِ ، فَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ عَلَى ظَاهِرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَا ذَكَرنَا مِنْ لُزُومِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ ، إلَّا أَنَّا
اسْتَحْسَنَّا فِي الْعَارِيَّةِ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِيهَا بِرَدِّهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِكِ ، أَوْ بِدَفْعِهَا إلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ شَيْئًا نَفِيسًا ، كَعِقْدِ جَوْهَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَا يَصِحُّ الرَّدُّ ؛ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ ، وَلَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ ، فَتَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ عَلَى السِّتْرِ وَالْإِغْفَاءِ عَادَةً ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُودَعُ مَالَ غَيْرِهِ سِرًّا عَنْ النَّاسِ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، فَلَوْ رَدَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَانْكَشَفَ .
إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ يَفْشُو ، فَيَفُوتُ الْمَعْنَى الْمَجْعُولُ لَهُ الْإِيدَاعُ ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِعْلَانِ ، وَالْإِظْهَارِ ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي حَوَائِجِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ سِرًّا عَنْ النَّاسِ عَادَةً ، وَالرَّدُّ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْعَارِيَّةُ ، فَهُوَ الْفَرْقُ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا ضَاعَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، لَا يَضْمَنُ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ { : لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغَلِّ الضَّمَانُ وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغَلِّ الضَّمَانُ } ؛ وَلِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا نَقْصٌ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هَلَاكُ بَعْضِ الْوَدِيعَةِ ، وَهَلَاكُ الْكُلِّ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّ الْمُودَعَ مَعَ الْمُودِعِ إذَا اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْمُودَعُ : هَلَكَتْ أَوْ ؛ قَالَ : رَدَدْتُهَا إلَيْكَ وَقَالَ الْمَالِكُ : بَلْ اسْتَهْلَكْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَى الْأَمِينِ أَمْرًا عَارِضًا ، وَهُوَ التَّعَدِّي ، وَالْمُودَعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَالِ الْأَمَانَةِ ، فَكَانَ مُتَمَسِّكًا
بِالْأَصْلِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، لَكِنَّ مَعَ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ ، فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : الْمُودِعُ اُسْتُهْلِكَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنِي وَقَالَ الْمُودَعُ : بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا أَنْتَ ، أَوْ غَيْرُكَ بِأَمْرِكَ ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُودَعِ ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ : إنَّهَا قَدْ ضَاعَتْ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : بَلْ كُنْتُ رَدَدْتُهَا إلَيْكَ ، لَكَنَّى أُوهِمْتُ لَمْ يُصَدَّقْ ، وَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الرَّدَّ بِدَعْوَى الْهَلَاكِ ، وَنَفَى الْهَلَاكَ بِدَعْوَى الرَّدِّ ، فَصَارَ نَافِيًا مَا أَثْبَتَهُ مُثْبِتًا مَا نَفَاهُ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الضَّيَاعِ وَالرَّدِّ ؛ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ لَا قَوْلَ لَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى دَعْوَتَيْنِ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَقَدْ ذَهَبَتْ أَمَانَتُهُ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُغَيِّرُ حَالَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ ، فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا تَرْكُ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الْتَزَمَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَ حِفْظَهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ بَدَلَهَا ، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ ضَمِنَ ؛ لِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ الْمُودَعَ يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْعَقْدِ ، وَمِنْهَا تَرْكُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ ؛ بِأَنْ خَالَفَهُ فِي الْوَدِيعَةِ بِأَنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ ، أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا ، أَوْ عَبْدًا فَاسْتَعْمَلَهُ ، أَوْ أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِيَدِهِ عَادَةً ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ ، فَإِذَا حَفِظَ لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ ، فَدَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ ، وَحَكَى عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ : أَنَّهُ مَنَعَ دُخُولَ الْعَيْنِ فِي ضَمَانِهِ فِي الْمُنَاظَرَةِ حِينَ قَدِمَ بُخَارَى ، وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا خِلَافُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ وَالْبَرَاءَةُ عَنْ الضَّمَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الضَّمَانِ تَكُونُ .
وَكَذَلِكَ الْمُودِعُ مَعَ الْمُودَعِ إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُودَعُ : هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ رَدَدْتُهَا إلَيْكَ وَقَالَ الْمَالِكُ : اسْتَهْلَكْتَهَا ، إنْ كَانَ قَبْلَ الْخِلَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ ، الْمُودَعِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْوَدِيعَةِ فِي ضَمَانِهِ بِالْخِلَافِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ ، ثُمَّ عَادَ الْوِفَاقُ ، يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمَّا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ بِالْخِلَافِ ؛ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ ، فَلَا يَعُودُ إلَّا
بِالتَّجْدِيدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ ، وَالْمُسْتَأْجَرُ ، إذَا خَالَفَا ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ ، لَا يَبْرَآنِ عَنْ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا ، وَلَنَا : إنَّهُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ وَالْمُودَعُ إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا قَبْلَ الْخِلَافِ وَدَلَالَةُ أَنَّهُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ أَنَّ الْمُودَعَ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ غَيْرِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ بَعْدَ الْخِلَافِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ حَافِظٌ مَالَ الْمَالِكِ لَهُ بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ مَا بَعَدَ الْخِلَافِ قَوْلُهُ : الْوَدِيعَةُ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ ؛ فَيَرْتَفِعُ الْعَقْدُ ، قُلْنَا : مَعْنَى الدُّخُولِ فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ ، إنَّهُ انْعَقَدَ ، سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مَوْقُوفًا وُجُوبُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ ، وَهُوَ الْهَلَاكُ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ ، لَكِنَّ هَذَا لَمْ يُوجِبْ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ وَكَّلَ إنْسَانًا يَبِيعُ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ؛ فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ ، وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي دَخَلَ الْعَبْدُ فِي ضَمَانِهِ ؟ لِانْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ تَسْلِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَمَعَ ذَلِكَ بَقِيَ الْعَقْدُ ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ كَانَ لَهُ بَيْعُهُ بِأَلْفَيْنِ كَذَا هَذَا عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ ، لَكِنْ فِي قَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ حَقِّهِ وَحُكْمُهُ : وَهُوَ الْحِفْظُ الْمُلْتَزَمُ لِلْمَالِكِ فِي زَمَانِ الْخِلَافِ ، لَا فِيمَا بَقِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، كَمَا إذَا اسْتَحْفَظَهُ بِأَجْرِ كُلِّ شَهْرٍ ، بِكَذَا ، وَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِهِ فِي الْبَاقِي ، بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي ، يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ؛ أَنَّ الِارْتِفَاعَ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ حُكْمِ الْعَقْدِ ؛ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي قَدْرِ الْفَائِتِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ، وَالْإِعَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ
تَمْلِيكُ مَنَافِعَ مُقَدَّرَةٍ بِالْمَكَانِ ، أَوْ الزَّمَانِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ : فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ ؛ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَكَذَا الْإِعَارَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا ، إلَّا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَأَمَّا حُكْمُ عَقَدِ الْوَدِيعَةِ : فَلُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ مُطْلَقًا أَوْ شَهْرًا ، وَزَمَانُ مَا بَعْدَ الْخِلَافِ دَاخِلٌ فِي الْمُطْلَقِ وَالْوَقْتِ ؛ فَلَا يَنْقَضِي بِالْخِلَافِ ، بَلْ يَتَقَرَّرُ ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَمِنْهَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ فِي وَجْهِ الْمَالِكِ عِنْدَ طَلَبِهِ ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِيدَاعِ ، أَوْ نَكَلَ الْمُودَعُ عَنْ الْيَمِينِ ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ ، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا ظَهَرَ بِالْحُجَّةِ ؛ فَقَدْ ظَهَرَ ارْتِفَاعُهُ بِالْجُحُودِ ، أَوْ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ ، فَقَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ ، وَالْمُودَعُ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ ، فَقَدْ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنْ الْحِفْظِ ؛ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ ، فَبَقِيَ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، فَإِذَا هَلَكَ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ وَلَوْ جَحَدَ ، الْوَدِيعَةَ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَلَاكِهَا ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ - أَوْجُهٍ : إمَّا إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ ، أَوْ قَبْلَ الْجُحُودِ ، أَوْ مُطْلَقًا ؛ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ ، أَوْ مُطْلَقًا لَا يَنْتَفِعُ بِبَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ ، أَوْ عِنْدَهُ ؛ فَدَخَلَتْ الْعَيْنُ فِي ضَمَانِهِ ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ ، لَا أَنْ يُسْقِطَهُ ؛ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ قَبْلَ الْجُحُودِ ، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ قَبْلَ الْجُحُودِ لَمَّا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ؛ فَقَدْ ظَهَرَ انْتِهَاءُ
الْعَقْدِ قَبْلَ الْجُحُودِ ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْجُحُودِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ، فَلَا يَضْمَنُ .
وَلَوْ ادَّعَى الْهَلَاكَ قَبْلَ الْجُحُودِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ ، وَطَلَب الْيَمِينَ مِنْ الْمُودِعِ ، حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا هَلَكَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي بَابِ الِاسْتِحْلَافِ ، أَنَّ الَّذِي يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَمْرًا ، لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْحَالِفُ لَلَزِمَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ وَهُنَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْجُحُودِ لَقُبِلَ مِنْهُ ، وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْ الْمُودَعِ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ ، لَكِنْ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ ، هَذَا إذَا جَحَدَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ ، فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَضْمَنُ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَضْمَنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ : أَنَّ مَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَضْرَةِ ، وَالْغِيبَةِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجُحُودَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ بِالْعَزْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ ؛ وَلِأَنَّ الْجُحُودَ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ مَعْدُودٌ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عُرْفًا ، وَعَادَةً ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ عَلَى السِّتْرِ ، وَالْإِخْفَاءِ ، فَكَانَ الْجُحُودُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ - حَالَ غَيْبَتِهِ - حِفْظًا مَعْنًى ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؟ وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى وَهُوَ إعْجَازُ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ طَلَبَ الْوَدِيعَةَ ، فَمَنَعَهَا الْمُودَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، حَتَّى هَلَكَتْ ، يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهَا عَنْهُ ؛
عَجَزَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْحَالِ ؛ فَدَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ ، فَإِذَا هَلَكَتْ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ ؛ فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِتْلَافِ ، وَادَّعَى ؛ أَنَّهُ كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ ، وَقَوْلُهُ : كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَكَذَلِكَ الْمُودَعُ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ، يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ ، فَقَدْ عَجَزَ الْمَالِكُ مِنْ الِانْتِفَاعِ الْوَدِيعَةِ ؛ فَكَانَ الْخَلْطُ مِنْهُ إتْلَافًا ؛ فَيَضْمَنُ ، وَيَصِيرُ مِلْكًا بِالضَّمَانِ وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ ، وَالْمُودَعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ؛ لَا يَضْمَنُ وَهُوَ شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ فَلِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ ، بَلْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا ؛ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ مِنْ جِهَتِهِ ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرِيكًا لِصَاحِبِهَا ؛ فَلِوُجُودِهِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ ؛ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْمِلْكَيْنِ وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلَانِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَخَلَطَ الْمُودَعُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ؛ فَلَا سَبِيلَ لَهُمَا عَلَى أَخْذِ الدَّرَاهِمِ ؛ يَضْمَنُ الْمُودَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا وَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَا اقْتَسَمَا الْمَخْلُوطَ نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا الْمُودَعَ أَلْفَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَائِرُ الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ ، إذَا خُلِطَ الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ، كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا ، لَكِنْ عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِعَارِضِ الْخَلْطِ ، فَإِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا ؛ لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْقِيَامِ ، وَإِنْ
شَاءَا ضَمَّنَا ، لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْعَجْزِ ؛ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا خَلَطَهُمَا خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ، فَقَدْ عَجَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَخْلُوطِ ؛ فَكَانَ الْخَلْطُ مِنْهُ إتْلَافَ الْوَدِيعَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ فَيَضْمَنُ ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ التَّضْمِينِ عِنْدَهُمَا وَاخْتِيَارُ التَّضْمِينِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ الْإِتْلَافِ ، دَلَّ أَنَّ الْخَلْطَ مِنْهُ وَقَعَ إتْلَافًا وَلَوْ أَوَدَعَهُ رَجُلٌ حِنْطَةً ، وَآخَرُ شَعِيرًا ، فَخَلَطَهُمَا ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ حَقِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ إتْلَافٌ ؛ وَعِنْدَهُمَا لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْعَيْنَ ، وَيَبِيعَاهَا ، وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ مَخْلُوطًا بِالشَّعِيرِ ، وَعَلَى قِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرِ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ تَنْقُصُ بِخَلْطِ الشَّعِيرِ ؛ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ لِقِيَامِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْعَيْنِ ، بِخِلَافِ قِيمَةِ الشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ بِالْخَلْطِ بِالْحِنْطَةِ ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مِلْكُ الْغَيْرِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الشَّعِيرِ .
وَلَوْ أَنْفَقَ الْمُودَعُ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ ؛ ضَمِنَ قَدْرَ مَا أَنْفَقَ ، وَلَا يَضْمَنُ الْبَاقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا إتْلَافُ قَدْرِ مَا أَنْفَقَ ؛ وَلَوْ رَدَّ مِثْلَهُ فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي يَضْمَنُ الْكُلَّ ؛ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْكُلِّ مِنْهُ : النِّصْفُ بِالْإِتْلَافِ ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بِالْخَلْطِ ؛ لِكَوْنِ الْخَلْطِ إتْلَافًا عَلَى بَيَّنَّا وَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ دَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِيُنْفِقَهَا فَلَمْ يُنْفِقْهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ ؛ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِ ، أَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي ؛ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ انْتَفَعَ بِهَا .
( وَلَنَا ) أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ ، وَنِيَّةُ الْإِتْلَافِ
لَيْسَتْ بِإِتْلَافٍ ؛ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَفْعَلُوا } ظَاهِرُ الْحَدِيثِ : يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا حَدَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ عَفْوًا عَلَى الْعُمُومِ ، إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْدَعَهُ كِيسًا مَسْدُودًا ؛ فَحَلَّهُ الْمُسْتَوْدَعُ ، أَوْ صُنْدُوقًا مُقْفَلًا ، فَفَتْحَ الْقُفْلَ ؛ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ، حَتَّى ضَاعَ أَوْ مَاتَ الْمُودَعُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِهِ ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا ، فَهِيَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ ، فَقَدْ أَتْلَفَهَا مَعْنَى ، لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ بِالتَّجْهِيلِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِتْلَافِ .
وَلَوْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ : إنَّهَا هَلَكَتْ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْمَالِكِ لَا ، يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُجْهَلًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ؛ لِكَوْنِهِ إتْلَافًا ، فَكَانَ دَعْوَى الْهَلَاكِ ، وَالرَّدِّ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَيُحَاصُّ الْمُودَعُ الْغُرَمَاءَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ؛ فَيُسَاوِي دَيْنَ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ : فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَارِيَّةِ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكهُ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَعَارِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ ، وَفِي بَيَانِ حَالِ الْمُسْتَعَارِ ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ أَمَّا رُكْنُهَا : فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُعِيرِ ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ، كَمَا فِي الْهِبَةِ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُعِيرُ فُلَانًا فَأَعَارَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ يَحْنَثُ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فُلَانًا شَيْئًا فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ وَالْإِيجَابُ هُوَ أَنْ يَقُولَ : أَعَرْتُك هَذَا الشَّيْءَ ، أَوْ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ ، أَوْ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ لَك طُعْمَةً ، أَوْ أَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذَا الْعَبْدُ لَك خِدْمَةً ، أَوْ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ الْهِبَةَ أَوْ دَارِي سُكْنَى أَوْ دَارِي لَكَ عُمْرَى سُكْنَى أَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ فَصَرِيحٌ فِي بَابِهَا .
وَأَمَّا الْمِنْحَةُ فَهِيَ اسْمٌ لِلْعَطِيَّةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَمِنْحَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا } قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاك } وَكَذَا الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَى الْأَرْضِ ، هُوَ إطْعَامُ مَنَافِعِهَا الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا بِالزِّرَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ عُرْفًا وَعَادَةً ، وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ .
وَأَمَّا إخْدَامُ الْعَبْدِ إيَّاهُ فَجَعَلَ خِدْمَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ : دَارِي لَك سُكْنَى أَوْ عُمْرِي سُكْنَى ، هُوَ
جَعْلُ سُكْنَى الدَّارِ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَسُكْنَى الدَّارِ مَنْفَعَتُهَا الْمَطْلُوبَةُ مِنْهَا عَادَةً ، فَقَدْ أَتَى بِمَعْنَى الْإِعَارَةِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِعَارَةَ وَالْهِبَةَ ، فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يُحْتَمَلُ لَفْظُهُ ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا أَوْلَى .
وَلَوْ قَالَ : دَارِي لَك رُقْبَى أَوْ حَبْسٌ ، فَهُوَ عَارِيَّةٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَة وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْد أَبِي يُوسُفَ هِبَةٌ ، وَقَوْلُهُ رُقْبَى أَوْ حَبْسٌ بَاطِلٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ .
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي يَصِيرُ الرُّكْنُ بِهَا إعَارَةً شَرْعًا فَأَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْعَقْلُ ، فَلَا تَصِحُّ الْإِعَارَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ .
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا حَتَّى تَصِحَّ الْإِعَارَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَيَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَمْلِكُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ بِمِلْكِ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا الْقَبْضُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَصِحُّ إعَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ ثَبَتَ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ ، إلَّا إذَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ .