كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

وَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ الشَّرْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تِلْكَ التَّمْثِيلَاتِ مِنْ غَيْرِ مَلَكٍ ، ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ إنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكُ أَمْثِلَةٍ مُنْضَبِطَةٍ فِي التَّخَيُّلِ جَعَلَهَا اللَّهُ أَعْلَامًا عَلَى مَا كَانَ أَوْ يَكُونُ ، وَهُوَ أَشْبَهُهَا ، ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَالُ إنَّ الرُّؤْيَا إدْرَاكٌ مَعَ أَنَّ النَّوْمَ ضِدُّ الْإِدْرَاكِ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَضْدَادِ الْعَامَّةِ كَالْمَوْتِ فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ إدْرَاكٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُزْءَ الْمُدْرِكَ مِنْ النَّائِمِ لَمْ يَحُلَّهُ النَّوْمُ فَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ فَقَدْ تَكُونُ الْعَيْنُ نَائِمَةً وَالْقَلْبُ يَقْظَانُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي } وَإِنَّمَا قَالَ مُنْضَبِطَةً فِي التَّخَيُّلِ لِأَنَّ الرَّائِيَ يَرَى فِي مَنَامِهِ الْآنَ نَوْعَ مَا أَدْرَكَهُ فِي الْيَقَظَةِ بِحِسِّهِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تُرَكَّبُ الْمُتَخَيَّلَاتُ فِي النَّوْمِ تَرْكِيبًا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا صُورَةٌ لَمْ يُوجَدْ لَهَا مِثَالٌ فِي الْخَارِجِ يَكُونُ عَلَمًا عَلَى أَمْرٍ نَادِرٍ كَمَنْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَوْجُودًا رَأْسُهُ رَأْسُ الْإِنْسَانِ وَجَسَدُهُ جَسَدُ الْفَرَسِ مَثَلًا وَلَهُ جَنَاحَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ مِنْ التَّرْكِيبَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا فِي الْوُجُودِ ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُ أَجْزَائِهَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَإِنَّمَا قَالَ جَعَلَهَا اللَّهُ أَعْلَامًا عَلَى مَا كَانَ أَوْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةَ الْمُنْتَظِمَةَ الْوَاقِعَةَ عَلَى شُرُوطِهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ لِلرُّؤْيَا مَلَكًا وُكِّلَ بِهَا يُرِي الرَّائِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَوْ يُقَدَّرُ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ .

( الثَّالِثَةُ ) قَيَّدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الرُّؤْيَا بِكَوْنِهَا مِنْ { الرَّجُلِ الصَّالِحِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { الْمُسْلِمِ } ، وَفِي أُخْرَى { الْمُؤْمِنِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { رُؤْيَا الْمُسْلِمِ يَرَاهَا أَوْ تُرَى لَهُ } وَكُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ فَأَمَّا ذِكْرُ الرَّجُلِ فَقَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ صَالِحًا فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَيْسَ قَيْدًا أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ وَالرُّؤْيَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْأَضْغَاثِ وَالْأَهَاوِيلِ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ ، وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنْ الْكَافِرِ وَمِنْ الْفَاسِقِ كَرُؤْيَا الْمَلِكِ الَّتِي فَسَّرَهَا يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُؤْيَا الْفَتَيَيْنِ فِي السِّجْنِ وَكَرُؤْيَا بُخْتَ نَصَّرَ الَّتِي فَسَّرَهَا دَانْيَالُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَهَابِ مُلْكِهِ وَكَرُؤْيَا كِسْرَى فِي ظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلِ رُؤْيَا عَاتِكَةَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَالَ : وَقَدْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَامًا تُغْنِي عَنْ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ { الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ابْنَ آدَمَ وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } ، فَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ سَمِعْته بِهَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ { الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ فَرُؤْيَا صَالِحَةٌ : بُشْرَى مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا تَحْزُنُ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ } وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ،

وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : يُقَالُ : الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ ، فَذَكَرَهُ قَالَ الْبُخَارِيُّ هُوَ أَبْيَنُ ( قُلْت ) وَتَقْسِيمُ الرُّؤْيَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ لَا يُنَافِي تَقْيِيدَ الصَّادِقَةِ بِاَلَّتِي هِيَ صَادِرَةٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ رُؤْيَا الْكَافِرِ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الرَّاءُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : صَالِحٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَفَاسِقٌ مِنْهُمْ ، وَكَافِرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَمَّا رُؤْيَا الصَّالِحِ فَهِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى النُّبُوَّةِ وَمَبَادِئِهَا لِأَنَّ الصَّلَاحَ جُزْءٌ مِنْهَا وَأَمَّا رُؤْيَا الْفَاسِقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهَا مُرَادَةٌ بِقَوْلِهِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُؤْمِنٍ فَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَمَعْنَى صَلَاحِهَا اسْتِقَامَتُهَا وَانْتِظَامُهَا وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ رُؤْيَا الْفَاسِقِ لَا تُعَدُّ فِي النُّبُوَّةِ .
وَأَمَّا الرُّؤْيَا مِنْ الْكَافِرِ فَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَدْ كَانَ كُفَّارُ الْعَرَبِ وَالْأُمَمِ تَرَى الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةَ وَلَا تُعَدُّ أَيْضًا فِي النُّبُوَّةِ وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي بَابِ النَّدَارَةِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا تَكُونُ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ إلَّا إذَا وَقَعَتْ مِنْ مُسْلِمٍ صَادِقٍ صَالِحٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ، وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ } فَإِنَّ الْكَافِرَ وَالْكَاذِبَ وَالْمُخَلِّطَ ، وَإِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا تَكُونُ مِنْ الْوَحْيِ وَلَا مِنْ النُّبُوَّةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ فِي حَدِيثٍ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ نُبُوَّةً ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكَاهِنَ

يُخْبِرُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَكَذَلِكَ الْمُنَجِّمُ قَدْ يُحَدِّثُ فَيَصْدُقُ وَلَكِنْ عَلَى النُّدُورِ وَالْقِلَّةِ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْكَاذِبُ ، وَقَدْ يَرَى الْمَنَامَ الْحَقَّ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَنَامُ سَبَبًا فِي شَرٍّ يَلْحَقُهُ أَوْ أَمْرٍ يَنَالُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهِ ، وَقَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مَنَامَاتٌ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ كَمَنَامِ الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ وَمَنَامِ الْفَتَيَيْنِ فِي السِّجْنِ وَمَنَامِ عَاتِكَةَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ كَافِرَةٌ وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ لَكِنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنَامَاتِهِمْ الْمُخَلَّطَةِ وَالْفَاسِدَةِ انْتَهَى .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَنَا أَقُولُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُشِيرُ إلَى عُمُومِ صِدْقِ الرُّؤْيَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّ صِدْقَهَا لَا يَخْتَصُّ بِصَالِحٍ مِنْ طَالِحٍ ، وَهُوَ بَيِّنٌ .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( { جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ } ) هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّهَا الْأَكْثَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّهَا الْأَكْثَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُعَلِّمِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا { جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ } وَهِيَ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْهُ وَاَلَّذِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ أَيْضًا وَكَذَا هُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ { مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ } ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَفْظِ { خَمْسَةٍ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ { سَبْعِينَ } وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا } وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يُخْتَلَفُ فِي صِحَّتِهِ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ قَالَ وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } قَالَ وَأَخْطَأَ فِيهِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ } بِإِسْنَادٍ فِيهِ لِينٌ ، ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ عَنْ

سَلْمَانَ بْنِ غَرِيبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ { سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ } .
قَالَ سَلْمَانُ فَحَدَّثْت بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ فَقُلْت إنِّي سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إنَّنِي سَمِعْت { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعْت الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو سَلَمَةَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ عَدَدِ الْحَصَا لَرَأَيْتهَا صِدْقًا ، ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ بِلَفْظِ { جُزْءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ { جُزْءٍ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } فَهَذِهِ ثَمَانِ رِوَايَاتٍ أَقَلُّهَا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ وَأَكْثَرُهَا سَبْعُونَ وَأَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ فَإِنْ مِلْنَا إلَى التَّرْجِيحِ فَرِوَايَةُ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ أَصَحُّ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَكْثَرُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكُلُّهَا مَشْهُورٌ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِ أَحَدِهَا وَطَرْحِ الْبَاقِي كَمَا فَعَلَ الْمَازِرِيُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ مَا تَرَكَ أَوْلَى مِمَّا قَبِلَ إذَا بَحَثْنَا عَنْ رِجَالِ أَسَانِيدِهَا وَرُبَّمَا تَرَجَّحَ عِنْدَ غَيْرِهِ غَيْرُ مَا اخْتَارَهُ هُوَ انْتَهَى .
وَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ وَرَدٌّ بِغَيْرِ نَظَرٍ وَكَشْفٍ ، وَقَدْ عَرَفْت بِتَفْصِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأَشْهَرَ وَالْأَصَحَّ رِوَايَةُ السِّتَّةِ

وَالْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَإِنْ سَلَكْنَا طَرِيقَ الْجَمْعِ فَفِي ذَلِكَ أَوْجُهٌ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ صَاحِبِ الرُّؤْيَا قَالَ الْمَازِرِيُّ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِي فَالْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ تَكُونُ نِسْبَةُ رُؤْيَاهُ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ وَالْفَاجِرُ مِنْ سَبْعِينَ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي رِوَايَةِ السَّبْعِينَ فِي وَصْفِ الرَّائِي مَا اُشْتُرِطَ فِي وَصْفِ الرَّائِي فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهِ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِاخْتِلَافِ تَضَادٍّ وَتَدَافُعٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الَّذِي يَرَاهَا مِنْ صِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ فَمَنْ خَلَصَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَقِينِهِ وَصِدْقِ حَدِيثِهِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ أَصْدَقَ وَإِلَى النُّبُوَّةِ أَقْرَبَ كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَتَفَاضَلُونَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ حَمْلِ مُطْلَقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى مُقَيَّدِهَا وَبِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ وَسَكَتَ فِيهِ عَنْ ذِكْرِ وَصْفِ الرَّائِي وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ ذَكَرَ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ وَحَدِيثُ الْعَبَّاسِ حِينَ ذَكَرَ خَمْسِينَ قُلْت كَذَا رَأَيْته فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَهُوَ سَبْقُ قَلَمٍ وَإِنَّمَا فِيهِ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( ثَانِيهَا ) قَالَ الْمَازِرِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَقِيلَ إنَّ الْمَنَامَاتِ دَلَالَاتٌ وَالدَّلَالَاتُ مِنْهَا خَفِيٌّ وَمِنْهَا جَلِيٌّ فَمَا ذَكَرَ فِيهِ السَّبْعِينَ يُرِيدُ الْخَفِيَّ مِنْهَا وَمَا ذَكَرَ فِيهِ السِّتَّةَ وَالْأَرْبَعِينَ يُرِيدُ بِهِ الْجَلِيَّ مِنْهَا .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَنَامَ الصَّادِقَ خَصْلَةٌ مِنْ

خِصَالِ النُّبُوَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { التُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ وَحُسْنُ السَّمْتِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } أَيْ النُّبُوَّةُ مَجْمُوعَةُ خِصَالٍ تَبْلُغُ أَجْزَاؤُهَا سِتَّةً وَعِشْرِينَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْيَاءَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْهَا وَعَلَى مُقْتَضَى هَذِهِ التَّجْزِئَةِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ السِّتَّةِ وَالْعِشْرِينَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ فِي نَفْسِهِ فَإِذَا ضَرَبْنَا ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ صَحَّ لَنَا أَنَّ عَدَدَ خِصَالِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ آحَادِهَا ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ وَيَصِحُّ أَنْ نُسَمِّيَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالسَّبْعِينَ جُزْءًا خَصْلَةً فَيَكُونُ جَمِيعُهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَيَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى كُلُّ أَرْبَعَةٍ مِنْهَا جُزْءًا فَيَكُونُ مَجْمُوعُ أَجْزَائِهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ تِسْعَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْفَ جُزْءٍ فَتَخْتَلِفُ أَسْمَاءُ الْعَدَدِ الْمُجَزِّئِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ اعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَعْدَادِ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَةِ اضْطِرَابًا وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ اعْتِبَارِ مَقَادِيرِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ أَنَّهُ أَشْبَهَ مَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَثْلُجْ النَّفْسُ بِهِ وَلَا طَابَ لَهَا انْتَهَى كَلَامُهُ وَذَكَرَهُ قَبْلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَخْصَرَ مِنْهُ .
( رَابِعُهَا ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّجْزِئَةُ فِي طُرُقِ الْوَحْيِ إذْ مِنْهُ مَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وَمِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ كَمَا قَالَ { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } وَمِنْهُ مَا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ كَمَا قَالَ { إلَّا وَحْيًا } أَيْ إلْهَامًا وَهَذَا حَصْرٌ لَهَا ، ثُمَّ فِيهِ مَا يَأْتِيهِ الْمَلَكُ عَلَى صُورَتِهِ وَمِنْهُ مَا يَأْتِيهِ عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ يَعْرِفُهُ وَمِنْهُ مَا يَتَلَقَّاهُ مِنْهُ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِيهِ بِهِ فِي مَنَامِهِ

بِحَقِيقَةٍ كَقَوْلِهِ الرَّجُلُ مَطْبُوبٌ وَمِنْهُ مَا يَأْتِيهِ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَمِنْهُ مَا يُلْقِيهِ رُوحُ الْقُدُسِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَفْنَا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَالَاتُ إذَا عُدِّدَتْ غَايَتُهَا انْتَهَتْ إلَى سَبْعِينَ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْبُعْدِ وَالتَّسَاهُلِ فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْدَادَ كُلَّهَا إنَّمَا هِيَ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرْت هُنَا لَيْسَتْ مِنْ النُّبُوَّةِ فِي شَيْءٍ كَكَوْنِهِ يَعْرِفُ الْمَلَكَ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ يَأْتِيهِ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ غَيْرِ صُورَتِهِ ، ثُمَّ مَعَ هَذَا التَّكَلُّفِ الْعَظِيمِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَبْلُغَ عَدَدَ مَا ذَكَرَ إلَى ثَلَاثِينَ انْتَهَى .
( خَامِسُهَا ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا ظَهَرَ لِي وَجْهٌ خَامِسٌ وَأَنْ أَسْتَخِيرَ اللَّهَ فِي ذِكْرِهِ ، وَهُوَ أَنَّ النُّبُوَّةَ مَعْنَاهَا أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَوَحْيِهِ إمَّا بِالْمُشَافَهَةِ وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِإِلْقَاءٍ فِي الْقَلْبِ لَكِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِالنُّبُوَّةِ لَا يَخُصُّ اللَّهُ بِهِ إلَّا مَنْ خَصَّهُ بِصِفَاتِ كَمَالِ نَوْعِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ وَنَزَّهَهُ عَنْ نَقَائِضِ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ عَلَى تِلْكَ الْخِصَالِ نُبُوَّةً كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { التُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَارُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ } أَيْ مِنْ خِصَالِ الْأَنْبِيَاءِ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ مُتَفَاضِلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } وَقَالَ { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَتَفَاضُلُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ لِكُلِّ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَشَرُفَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَاتِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ الصِّدْقُ أَعْظَمُ صِفَتِهِ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَكَانُوا تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَنَائِمُهُمْ يَقْظَانُ وَوَحْيُهُمْ فِي النَّوْمِ

وَالْيَقَظَةِ سِيَّانِ فَمَنْ نَاسَبَهُمْ فِي الصِّدْقِ حَصَلَ مِنْ رُؤْيَاهُ عَلَى الْحَقِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَقَامَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ كَذَلِكَ أَتْبَاعُهُمْ مِنْ الصَّادِقِينَ وَكَانَ أَقَلُّ خِصَالِ كَمَالِ الْأَنْبِيَاءِ مَا إذَا اُعْتُبِرَتْ كَانَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبْعِينَ وَبَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي صَلَاحِهِ وَصِدْقِهِ عَلَى رُتْبَةٍ تُنَاسَبُ كَمَالَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ جُزْءًا مِنْ نُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَكِمَالَاتُهُمْ مُتَفَاضِلَةٌ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فَنِسْبَةُ أَجْزَاءِ مَنَامَاتِ الصَّادِقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ وَبِهَذَا الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ لَنَا يَرْتَفِعُ الِاضْطِرَابُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ا هـ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ { جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } قَوْلًا لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ مِنْ طَرِيقِ الْبُرْهَانِ ، قَالَ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَ مُنْذُ أَوَّلِ مَا بُدِئَ بِالْوَحْيِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَكَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي مَنَامِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهِيَ نِصْفُ سَنَةٍ فَصَارَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا قَدْ يَحْتَمِلُهُ قِسْمَةُ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ مَا قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ خَبَرًا وَرِوَايَةً ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِيهِ خَبَرًا وَلَا ذِكْرَ قَائِلٍ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَثَرًا فَكَأَنَّهُ ظَنٌّ وَحُسْبَانُ الظَّنِّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ

مَحْسُوبَةً مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ لَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُلْحِقَ بِهَا سَائِرَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي مَنَامِهِ فِي تَضَاعِيفِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ وَأَنْ تُلْتَقَطَ فَتُلَفَّقُ وَيُزَادُ فِي أَصْلِ الْحِسَابِ وَإِذَا صِرْنَا إلَى هَذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَرَى الرُّؤْيَا فِي أُمُورِ الشَّرِيعَةِ وَمُهِمَّاتِ الدِّينِ فَيَقُصُّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ وَكَانَ بَعْضُ الشَّرِيعَةِ عَنْ رُؤْيَا بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَرُؤْيَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَذَانِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ رُؤْيَا الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وَقَالَ { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } وَلَيْسَ كُلُّ مَا تَخْفَى عَلَيْنَا عِلَّتُهُ لَا تَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { إنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } وَحَصْرُ النُّبُوَّةِ مُتَعَذِّرٌ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُمَا مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ وَشَمَائِلِهِمْ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الرُّؤْيَا وَمَعْنَى الْحَدِيثِ تَحْقِيقُ أَمْرِ الرُّؤْيَا وَأَنَّهَا مِمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُثْبِتُونَهُ وَيُحَقِّقُونَهُ وَأَنَّهَا كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمْ وَالْأَنْبَاءِ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ بِهَا الْوَحْيُ عَلَيْهِمْ انْتَهَى .
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا ، ثُمَّ قَالَ وَلَا وَجْهَ عِنْدِي لِلِاعْتِرَاضِ بِمَا كَانَ مِنْ الْمَنَامَاتِ خِلَالَ زَمَنِ الْوَحْيِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُوصَفُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا وَتُنْسَبُ إلَى الْأَكْثَرِ مِنْهَا فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ مُخْتَصَّةً بِالْمَنَامَاتِ وَالثَّلَاثُ

وَالْعِشْرُونَ سَنَةً جُلُّهَا وَحْيٌ وَإِنَّمَا فِيهَا مَنَامَاتٌ قَلِيلَةٌ وَشَيْءٌ يَسِيرٌ يُعَدُّ عَدًّا صَحَّ أَنْ يَطَّرِدَ الْأَقَلُّ فِي حُكْمِ النِّسْبَةِ وَالْحِسَابِ ، ثُمَّ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يُرَادَ بِالْحَدِيثِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ ثَمَرَةَ الْمَنَامَاتِ الْخَبَرُ بِالْغَيْبِ لَا أَكْثَرُ ، وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُ ذَلِكَ إنْذَارَاتٌ وَبُشْرَى وَالْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ أَحَدُ ثَمَرَاتِ النُّبُوَّةِ وَأَحَدُ فَوَائِدِهَا ، وَهُوَ فِي جَنْبِ فَوَائِدِ النُّبُوَّةِ وَالْمَقْصُودِ مِنْهَا يَسِيرٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ يُشَرِّعُ الشَّرَائِعَ وَيُثْبِتُ الْأَحْكَامَ وَلَا يُخْبِرُ بِغَيْبٍ أَبَدًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي نُبُوَّتِهِ وَلَا مُبْطِلًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهَذَا الْجُزْءُ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ لَا يَكُونُ إلَّا صِدْقًا وَالرُّؤْيَا بِمَا دَلَّتْ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَقَعُ لِكَوْنِهَا مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ أَوْ مِنْ غَلَطِ الْعَابِرِ فِي الْعِبَارَةِ فَصَارَ الْخَبَرُ بِالْغَيْبِ أَحَدَ ثَمَرَاتِ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهَا وَلَكِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا حَقًّا وَثَمَرَةُ الْمَنَامِ الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ وَلَكِنَّهُ قَدْ لَا يَقَعُ صِدْقًا فَتُقَدَّرُ النِّسْبَةُ فِي هَذَا بِقَدْرِ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِهَذَا الْعَدَدِ عَلَى حَسَبِ مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ حَقَائِقِ نُبُوَّتِهِ مَا لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ انْتَهَى .
( فَإِنْ قُلْت ) قَدْ شَارَكَ الْمَنَامُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْغَيْبِ الْإِلْقَاءُ فِي الرَّوْعِ ، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقَعُ مِثْلُهُ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدِّثُونَ أَيْ مُلْهَمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ } فَمَا وَجْهُ الْحَصْرِ فِي الْمَنَامِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا

الْمُبَشِّرَاتُ قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ { ذَهَبَتْ النُّبُوَّةُ وَبَقِيَتْ الْمُبَشِّرَاتُ } ( قُلْت ) الْمَنَامُ يَرْجِعُ إلَى قَوَاعِدَ مُقَرَّرَةٍ وَلَهُ تَأْوِيلَاتٌ مَعْرُوفَةٌ وَيَقَعُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْإِلْقَاءِ فِي الرَّوْعِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْخَوَاصِّ وَلَا يَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةٍ يُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ الْوِلَايَةِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْخَاطِرَ الَّذِي مِنْ الْمَلَكِ مُسْتَقِرٌّ غَيْرُ مُضْطَرِبٍ بِخِلَافِ الْخَاطِرِ الشَّيْطَانِيِّ فَإِنَّهُ مُضْطَرِبٌ لَا اسْتِقْرَارَ لَهُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَجْزَاءُ النُّبُوَّةِ لَا يَعْلَمُهَا بَشَرٌ إلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ أُوتِيَ ذَلِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، ثُمَّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُقَسَّمَ النُّبُوَّةُ أَجْزَاءً تَبْلُغُ إلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْهَا قَالَ فَقُلْت لَهُ مَا تَفْعَلُ بِالْخَمْسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالسَّبْعِينَ وَلَا تُنْسَبُ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ مِنْ السَّبْعِينَ بِنِسْبَةٍ عَدَدِيَّةٍ ، وَإِنْ انْتَسَبَتْ الْخَمْسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ مِنْهَا وَالْقَدْرُ الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فِي الْجُمْلَةِ لَنَا لِأَنَّهَا اطِّلَاعٌ عَلَى الْغَيْبِ وَتَفْصِيلُ النِّسْبَةِ يَخْتَصُّ بِهِ دَرَجَةُ النُّبُوَّةِ انْتَهَى .
( قُلْت ) وَلَا يُمْكِنُ إلْغَاءُ النِّسْبَةِ بَعْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا وَغَايَتُهُ أَنْ لَا يَصِلَ عِلْمُنَا إلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَكِلُ عِلْمَهُ إلَى عَالَمِهِ ، وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ لَا يَلْزَمُ الْعُلَمَاءُ أَنْ تَعْرِفَ كُلَّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْعُلَمَاءِ حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ فَمِنْهَا مَا لَا نَعْلَمُهُ أَصْلًا وَمِنْهَا مَا نَعْلَمُهُ جُمْلَةً لَا

تَفْصِيلًا وَهَذَا مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) لَا يُتَخَيَّلُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رُؤْيَا الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ الرُّؤْيَا إنَّمَا هِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَلَيْسَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةَ لِلصَّالِحِ تُشْبِهُ الرُّؤْيَا الْوَاقِعَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِّهِمْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَأَطْلَقَ أَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوحَى إلَيْهِمْ فِي مَنَامِهِمْ كَمَا يُوحَى إلَيْهِمْ فِي الْيَقَظَةِ ، ثُمَّ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنْ النُّبُوَّةِ وَقَالَ آخَرُ مَعْنَاهُ إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ وَعِلْمُ النُّبُوَّةِ بَاقٍ وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ انْتَهَى .
.

( فَإِنْ قُلْت ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قِيلَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ ؟ قِيلَ لَهُ فَهَلْ يَعْبُرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ عَلَيْهِ ، قَالَ لَا ، ثُمَّ قَالَ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَلَا يُتَلَاعَبُ بِالنُّبُوَّةِ انْتَهَى .
وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَرَرْتُمْ ( قُلْت ) لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ كَمَا أَوَّلْنَا الْحَدِيثَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْ النُّبُوَّةَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ بِخَلْقِ إدْرَاكٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُتَلَاعَبْ بِهَا ، وَلَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَا لَا يُخَاضُ فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لَلرَّوِيَّا مَلَكًا وَهَذَا مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ قَدْ يَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَجَرِيحٍ أَيْ يُعَلِّمُ اللَّهُ رَسُولَهُ وَيُطْلِعُهُ مِنْ غَيْبِهِ فِي مَنَامِهِ عَلَى مَا لَا يُظْهِرُ عَلَيْهِ أَحَدًا إلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ، وَقَدْ يَكُونُ نَبِيٌّ فَعِيلَا بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ أَيْ يُعْلِمُ غَيْرَهُ بِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا صُورَةُ صَاحِبِ الرُّؤْيَا .

( السَّادِسَةُ ) قَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَوْنِ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ ، وَلَمْ يَذْكُرُ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ ، وَإِنْ أَفَادَتْ الِاطِّلَاعَ عَلَى غَيْبٍ فَشَأْنُ النُّبُوَّةِ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ وَشَأْنُ الرِّسَالَةِ تَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ لِلْمُكَلَّفِينَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ صَادِقٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُخَالِفٍ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَمْ نَعْتَمِدْهُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ نَقْصُ الرَّائِي لِعَدَمِ ضَبْطِهِ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ شَخْصًا قَالَ لَهُ لَيْلَةَ شَكٍّ رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِي صُمْ غَدًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي قَدْ قَالَ لَنَا فِي الْيَقَظَةِ لَا تَصُومُوا غَدًا فَنَحْنُ نَعْتَمِدُ ذَلِكَ أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ اعْتِمَادِ الْمَنَامِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَام جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ وَرَأَيْت فِي مَجْمُوعِ عَتِيقٍ مَنْسُوبٍ لِابْنِ الصَّلَاحِ عَنْ كِتَابِ آدَابِ الْجَدَلِ لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ ( قُلْتُ ) وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَحَلَّهُمَا مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا مُقَرَّرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيت بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سُوَارَانِ فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي فَأُوحِيَ إلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتهمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيت بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سُوَارَانِ فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتهمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتهمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { سُوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ { مِنْ ذَهَبٍ } ، وَفِيهِ { فَأَوَّلْتهمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِغْرَابَ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْهُ قَلِيلَةٌ وَلَيْسَ لَهُ عَنْهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثٍ آخَرَ فِي التَّعْبِيرِ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الرُّؤْيَا الَّتِي عَبَّرَهَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ إنَّهُ مِنْ الْمُدَبَّجِ فِي رِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ عَنْ الصَّحَابِيِّ ( قُلْت ) وَالِاصْطِلَاحُ فِي الْمُدَبَّجِ أَنْ يَرْوِيَ كُلٌّ مِنْ الْقَرِينَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالصَّحَابَةِ عَنْ الْآخَرِ فَمُجَرَّدُ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمُدَبَّجِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا نَعْلَمُهُ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ

أُتِيت بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ } قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى مَا فُتِحَ لِأُمَّتِهِ مِنْ الْمَمَالِكِ فَغَنِمُوا أَمْوَالَهَا وَاسْتَبَاحُوا خَزَائِنَ مُلُوكِهَا الْمُدَّخَرَةَ كَخَزَائِنِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُلُوكِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَعَادِنَ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَنْوَاعُ الْفِلِزَّاتِ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ مَا يَنْفِيهِ الْكِيرُ مِمَّا يُذَابُ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ جُعِلَتْ فِي يَدِهِ بِمَعْنَى الْمُعَدَّةِ أَيْ سَتُفْتَحُ تِلْكَ الْبُلْدَانُ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْمَعَادِنُ وَالْخَزَائِنُ فَيَكُونُ لِأُمَّتِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى سُلْطَانِهَا وَمِلْكِهَا وَفَتْحِ بِلَادِهَا وَأَخْذِ خَزَائِنِ أَمْوَالِهَا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ، وَهُوَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ } بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَقَوْلُهُ ( { سُوَارَانِ } ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ أَسْوَارٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { فَكَبُرَا عَلَيَّ } بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَوْلُهُ { وَأَهَمَّانِي } بِهَمْزَةٍ أَوَّلُهُ وَيُسْتَعْمَلُ ثُلَاثِيًّا أَيْضًا يُقَالُ هَمَّنِي الْأَمْرُ وَأَهَمَّنِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَإِنَّمَا أَهَمَّهُ شَأْنُهُمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ وَمِمَّا يُحَرَّمُ عَلَى الرِّجَالِ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتهمَا } هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَنَفْخُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا { فَذَهَبَا } وَفِي رِوَايَةٍ { فَطَارَا } دَلِيلٌ لِانْمِحَاقِهِمَا وَاضْمِحْلَالِ أَمْرِهِمَا وَكَانَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ أَنْ أَخْرِجْهُمَا بِيَدَيْك أَوْ ارْمِ بِهِمَا عَنْ يَدَيْك فَكَانَ

النَّفْخُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا مَرْمِيَّانِ بِبَرَكَتِهِ أَيْ أَنَّ غَيْرَهُ يَفْعَلُهُمَا بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ وَكَوْنِهِ مِنْهُ قَالَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّفْخُ مَثَلًا دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ حَالِهِمَا فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدًا لَمْ يَنْزِلْ بِالْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُ قَطُّ وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مَثَلٌ عَلَى ضَعْفِهِمَا لَقُلْنَا إنَّهُ مَثَلٌ ضَمِنَ الْوَجْهَيْنِ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ الْمَلَكِ عَلَى غَالِبِ عَادَتِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلْهَامًا .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { فَأَوَّلْتهمَا الْكَذَّابَيْنِ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّمَا تَأَوَّلَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِيهِمَا لَمَّا كَانَ السُّوَارَانِ فِي الْيَدَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَكَانَ حِينَئِذٍ النَّبِيُّ بَيْنَهُمَا وَتَأَوَّلَ السُّوَارَيْنِ عَلَى الْكَذَّابَيْنِ وَمَنْ يُنَازِعُهُ الْأَمْرَ لِوَضْعِهِمَا غَيْرَ مَوْضِعِهِمَا إذْ هُمَا مِنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ وَمَوْضِعُهُمَا أَيْدِيهِمَا لَا أَيْدِي الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى مَوْضِعِهِ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ ذَهَبٍ ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَلِمَا فِي اسْمِ السُّوَارَيْنِ مِنْ لَفْظِ السُّوَرِ لِقَبْضِهِمَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَيْسَا مِنْ حِلْيَتِهِ وَلِأَنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ إشْعَارًا بِذَهَابِ أَمْرِهِمَا وَبُطْلَانِ بَاطِلِهِمَا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ السُّوَارُ مِنْ آلَاتِ الْمُلُوكِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْكُفَّارِ { فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ } وَلِلْيَدِ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْقُوَّةُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ تَقُولُ الْعَرَبُ مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ وَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَازِعًا لَهُ يَخْرُجُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالسُّوَارِ كِنَايَةً عَنْ الْأَسْوَارِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ وَكَثِيرًا مَا يُضْرَبُ الْمِلْكُ الْأَمْثَالَ بِالْحَذْفِ مِنْ

الْحُرُوفِ وَبِالزِّيَادَةِ فِيهَا ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا التَّأْوِيلِ لِهَذِهِ الرُّؤْيَا أَنَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ وَالْيَمَامَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَكَانَا كَالسَّاعِدَيْنِ لِلْإِسْلَامِ فَلَمَّا ظَهَرَ فِيهِمَا هَذَانِ الْكَذَّابَانِ وَتَبَهَّرَ حَالُهُمَا بِتُرَّهَاتِهِمَا وَزَخْرَفَا أَقْوَالَهُمَا فَانْخَدَعَ الْفَرِيقَانِ بِتِلْكَ الْبَهْرَجَةِ فَكَانَ الْبَلَدَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ يَدَيْهِ وَالسُّوَارَانِ فِيهِمَا هُمَا مُسَيْلِمَةُ وَصَاحِبُ صَنْعَاءَ بِمَا زَخْرَفَا مِنْ أَقْوَالِهِمَا .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ { الَّذِينَ أَنَا بَيْنَهُمَا } يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا حِينَ هَذِهِ الرُّؤْيَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { فَأَوَّلْتهمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي } .
قَدْ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِخُرُوجِهَا بَعْدَهُ ظُهُورُ شَوْكَتِهِمَا وَمُحَارَبَتِهِمَا قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجَانِ بَعْدِي } أَيْ يُظْهِرَانِ شَوْكَتَهُمَا وَمُحَارَبَتَهُمَا وَدَعْوَاهُمَا النُّبُوَّةَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِهِ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ ( صَاحِبُ صَنْعَاءَ وَصَاحِبُ الْيَمَامَةِ ) يَقْتَضِي أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَيْهِمَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ قَدْ يُفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ .
وَقَدْ يُقَالُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَهُ الرَّاوِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرُ ) صَاحِبُ صَنْعَاءَ هُوَ الْعَنْسِيُّ بِفَتْحِ

الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَاسْمُهُ الْأَسْوَدُ بْنُ كَعْبٍ وَيُلَقَّبُ بِذِي حِمَارٍ وَسَبَبُ تَلْقِيبِهِ بِذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَقِيَهُ حِمَارٌ فَعَثَرَ وَسَقَطَ لِوَجْهِهِ فَقَالَ سَجَدَ لِي الْحِمَارُ فَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ وَتَخَرَّقَ عَلَى الْجُهَّالِ فَاتَّبَعُوهُ وَغَلَبَ عَلَى صَنْعَاءَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمُهَاجِرَ بْنَ أَسَدٍ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ عَامِلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَانْتَشَرَ أَمْرُهُ وَغَلَبَ عَلَى امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مِنْ الْأَسَاوِرَةِ فَتَزَوَّجَهَا فَدَسَّتْ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَسَاوِرَةِ إنِّي قَدْ صَنَعْت سِرْبًا يُوصَلُ مِنْهُ إلَى مَرْقَدِ الْأَسْوَدِ وَدَلَّتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَدَخَلَ مِنْهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ فَقَتَلُوهُ وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ وَثِيمَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَيْ بَعْدَ وَفَاتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) وَصَاحِبُ الْيَمَامَةِ هُوَ مُسَيْلِمَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَكَسْرِ اللَّامِ ابْنُ ثُمَامَةَ يُكَنَّى أَبَا ثُمَامَةَ ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ إنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْته ، وَقَدِمَهَا فِي نَفَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَوْ سَأَلْتنِي

هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكهَا وَلَنْ تَعْدُوَ أَمَرَ اللَّهِ فِيك وَلَئِنْ أَدْبَرْت لَيَعْقِرْنَك اللَّهُ وَإِنِّي لِأَرَاك الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُك عَنِّي ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلْت عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُرِيت فِيك مَا أُرِيت فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تَنَبَّأَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ وَكَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ شَرِيكٌ مَعَهُ فِي نُبُوَّتِهِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إنَّهُ كَانَ قَدْ تَسَمَّى بِالرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قُتِلَ ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا يَعْنِي مُسَيْلِمَةَ وَعَظُمَ أَمْرُ مُسَيْلِمَةَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَامَةِ وَانْضَافَ إلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُتُبًا كَثِيرَةً يَعِظُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ إلَى أَنْ بَعَثَ إلَيْهِمْ كِتَابًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ فَقَتَلَهُ مُسَيْلِمَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى قِتَالِهِمْ وَالْمُسْلِمُونَ فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَتَجَهَّزَ النَّاسُ فَصَارُوا إلَى الْيَمَامَةِ فَاجْتَمَعَ لِمُسَيْلِمَةَ جَيْشٌ عَظِيمٌ وَخَرَجَ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَالْتَقَوْا وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ وَاسْتُشْهِدَ فِيهَا مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ حَتَّى خَافَ أَبُو بَكْرٍ

وَعُمَرُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِكَثْرَةِ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْقُرَّاءِ ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَبَّتَ الْمُسْلِمِينَ وَقُتِلَ مُسَيْلِمَةُ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَرَمَاهُ بِالْحَرْبَةِ الَّتِي قَتَلَ بِهَا حَمْزَةَ ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ وَهَزَمَ اللَّهُ جَيْشَهُ وَأَهْلَكَهُمْ وَفَتَحَ اللَّهُ الْيَمَامَةَ فَدَخَلَهَا خَالِدٌ وَاسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَأَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَقَّعُ لِمُسَيْلِمَةَ وَالْأَسْوَدِ فَأَوَّلَ الرُّؤْيَا لَهُمَا لِيَكُونَ ذَلِكَ إخْرَاجًا لِلْمَنَامِ عَلَيْهِمَا وَدَفْعًا لِحَالِهِمَا فَإِنَّ الرُّؤْيَا إذَا عُبِّرَتْ خَرَجَتْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيٍ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ انْتَهَى .

الْأَمْثَالُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَأَجْمَلَهَا إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهَا وَيُعْجِبُهُمْ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ أَلَّا وَضَعْت هَهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمَّ بُنْيَانُك ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْت أَنَا اللَّبِنَةُ } .

الْأَمْثَالُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَأَجْمَلَهَا إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهَا وَيُعْجِبُهُمْ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ أَلَّا وَضَعْت هَهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانُك فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْت أَنَا اللَّبِنَةُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَثَلُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالثَّاءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَشَابُهِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَالْمِثْلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَشَابُهِ الْأَشْخَاصِ الْمَحْسُوسَةِ وَيَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلتَّقْرِيبِ لِلْإِفْهَامِ وَمَقْصُودُ هَذَا الْمَثَلِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَتَمَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَتَمَّمَ بِهِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ إظْهَارُهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ ( فَإِنْ قُلْت ) يَقْتَضِي هَذَا التَّشْبِيهَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ بِدُونِهِ نَاقِصًا ( قُلْت ) هُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ الشَّرَائِعِ وَكَمْ حِكْمَةٌ وَلَطِيفَةٌ وَذِكْرٌ وَغَيْبٌ لَمْ يُعْلَمْ إلَّا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ عَلَى حِدَتِهَا كَامِلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهَا فَإِذَا نَظَرْت إلَى مَجْمُوعِ مَا كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَمَا أَظْهَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ عَلَى أَيْدِي الْمُرْسَلِينَ وَمَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْغُيُوبِ وَمَا أَلْهَمَهُمْ

إيَّاهُ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي تَطْهُرُ بِهِ الْقُلُوبُ وَجَدْت ذَلِكَ لَمْ يَكْمُلْ إلَّا بِمَا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ .
( الرَّابِعَةُ ) اللَّبِنَةُ الطُّوبَةُ الَّتِي يُبْنَى بِهَا وَفِيهَا لُغَتَانِ .
( إحْدَاهُمَا ) فَتْحُ اللَّامِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَجَمْعُهَا لَبْنٌ بِإِسْقَاطِ الْهَاءِ كَنَبْقَةٍ وَنَبْقٌ .
( الثَّانِيَةُ ) كَسْرُ اللَّامِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَجَمْعُهَا لِبْنٌ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْبَاءِ كَسِدْرَةٍ وَسِدْرٍ ، ذَكَرَهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ .
( قُلْت ) وَفِيهَا ( لُغَةٌ ثَالِثَةٌ ) وَهِيَ فَتْحُ اللَّامِ وَإِسْكَانُ الْبَاءِ كَنَظَائِرِهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّوَوِيُّ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { أَلَّا } بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّحْضِيضِ وَقَوْلُهُ { وَضَعْت } بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى إسْنَادِ الْفِعْلِ لِلْمُخَاطَبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَيَتِمُّ بُنْيَانُك وَيَكُونُ قَوْلُهُ لَبِنَةً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ ؛ وَقَوْلُهُ فَيَتِمُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَقَوْلُهُ { بُنْيَانُك } مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ كَذَا رَوَيْنَاهُ وَضَبَطْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ إذَا تَأَمَّلَ الْمُتَفَطِّنُ هَذَا الْحَدِيثَ رَأَى أَنَّ قَدْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ مِنْ لَبِنَةٍ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّبِنَةَ كَانَتْ مِنْ الْآسِ وَلَوْلَا هَذِهِ اللَّبِنَةُ فِي هَذَا الْآسِ لَانْقَضَّ الْمَنْزِلُ لِأَنَّهَا الْقَاعِدَةُ وَالْمَقْصُودُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي يَقَعْنَ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ يَتَقَحَّمْنَ ، قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تُقْحِمُونَ فِيهَا } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي يَقَعْنَ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ يَتَقَحَّمْنَ قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقْتَحِمُونَ فِيهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { اسْتَوْقَدَ نَارًا } أَيْ أَوْقَدَهَا وَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَتَانِ .
( الثَّالِثَةُ ) { الْفَرَاشُ } بِفَتْحِ الْفَاءِ قَالَ الْمَازِرِيُّ قَالَ الْفَرَّاءُ هُوَ غَوْغَاءُ الْجَرَادِ الَّذِي يَفْتَرِشُ وَيَتَرَاكَمُ وَقَالَ غَيْرُهُ الَّذِي يَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ وَالسِّرَاجِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ الْخَلِيلُ هُوَ الَّذِي يَطِيرُ كَالْبَعُوضِ وَقَالَ غَيْرُهُ مَا نَرَاهُ كَصِغَارِ الْبَقِّ يَتَهَافَتُ فِي النَّارِ وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ عَلَى نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَاقْتَصَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ ، ثُمَّ قَالَ إنَّ الثَّانِيَ أَشْبَهُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ ( قُلْت ) وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبَا الصِّحَاحِ وَالنِّهَايَةِ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْفَرَاشُ دَوَابُّ مِثْلُ الْبَعُوضِ وَاحِدَتُهَا فَرَاشَةٌ وَالْفَرَاشَةُ الْخَفِيفُ الطَّيَّاشُ مِنْ الرِّجَالِ انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { يَتَقَحَّمْنَ } بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتٍ ، ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقٍ ، ثُمَّ قَافٍ مَفْتُوحَةٍ ، ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَالتَّقَحُّمُ الْإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا تَرَوٍّ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ } قَالَ النَّوَوِيُّ رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) اسْمُ فَاعِلٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ

وَتَنْوِينِ الذَّالِ ( وَالثَّانِي ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ بِضَمِّ الْخَاءِ بِلَا تَنْوِينٍ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَهُمَا صَحِيحَانِ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ { بِحُجَزِكُمْ } بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْزَةٍ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَهِيَ مَعْقِدُ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ يُقَالُ تَحَاجَزَ الْقَوْمُ أَخَذَ بَعْضُهُمْ بِحُجْزَةِ بَعْضٍ وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إمْسَاكَ مَنْ يَخَافُ سُقُوطَهُ أَخَذَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { هَلُمَّ } بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِهَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ هُوَ بِمَعْنَى تَعَالَ قَالَ الْخَلِيلُ أَصْلُهُ لُمَّ مِنْ قَوْلِهِمْ لَمَّ اللَّهُ شَعَثَهُ أَيْ : جَمَعَهُ كَأَنَّهُ أَرَادَ لُمَّ نَفْسَك إلَيْنَا أَيْ اُقْرُبْ وَهَا لِلتَّنْبِيهِ وَإِنَّمَا حُذِفَتْ أَلِفُهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَجُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّأْنِيثُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا } وَأَهْلُ نَجْدٍ يَصْرِفُونَهَا فَيَقُولُونَ لِلِاثْنَيْنِ هَلُمَّا وَلِلْجَمْعِ هَلُمُّوا وَلِلْمَرْأَةِ هَلُمِّي بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَفِي التَّثْنِيَةِ هَلُمَّا لِلْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ جَمِيعًا وَهَلْمُمْنَ يَا رِجَالُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهَلْمُمْنَانِ يَا نِسْوَةُ وَحُكِيَ فِي الْمُحْكَمِ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ النُّونُ الْخَفِيفَةُ وَلَا الثَّقِيلَةُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِعْلٍ وَإِنَّمَا هِيَ اسْمُ فِعْلٍ قَالَ يُرِيدُ أَنَّ النُّونَ إنَّمَا تَدْخُلُ الْأَفْعَالَ دُونَ الْأَسْمَاءِ .
وَأَمَّا فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَتَدْخُلُهَا الْخَفِيفَةُ وَالثَّقِيلَةُ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْرَوْهَا مَجْرَى الْفِعْلِ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَمِنْ لُمَّ ، وَلَكِنَّهَا قَدْ اُسْتُعْمِلَتْ اسْتِعْمَالَ الْكَلِمَةِ الْمُفْرَدَةِ وَالْبَسِيطَةِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ { هَلُمَّ عَنْ النَّارِ } مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَائِلًا

هَلُمَّ عَنْ النَّارِ ، وَقَدْ كَرَّرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي رِوَايَتِنَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ .
( الثَّامِنَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ تَسَاقُطَ الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ فِي نَارِ الْآخِرَةِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْعِهِ إيَّاهُمْ وَقَبْضِهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْمَنْعِ مِنْهُمْ بِتَسَاقُطِ الْفَرَاشِ فِي نَارِ الدُّنْيَا لِهَوَاهُ وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ فَكِلَاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ سَاعٍ فِي ذَلِكَ بِجَهْلِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ مَثَلٌ لِاجْتِهَادِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَجَاتِنَا وَحِرْصِهِ عَلَى تَخْلِيصِنَا مِنْ الْمُهْلِكَاتِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا لِجَهْلِنَا بِقَدْرِ ذَلِكَ وَغَلَبَةِ شَهَوَاتِنَا عَلَيْنَا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هَذَا مَثَلٌ غَرِيبٌ كَثِيرُ الْمَعَانِي ، الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا لِجَهَنَّمَ وَمَا رُكِّبَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لَهَا الْمُقْتَضِيَةِ لِلدُّخُولِ فِيهَا وَمَا نَهَى عَنْهَا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا وَأَنْذَرَهَا وَذَكَرَ ذَلِكَ فِيهَا ، ثُمَّ تَغْلِبُ الشَّهَوَاتُ عَلَى التَّقَحُّمِ بِاسْمِ أَنَّهَا مَصَالِحُ وَمَنَافِعُ وَهِيَ نُكْتَةُ الْأَمْثَالِ فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا يَأْتُونَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْهَلَكَةِ وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِاسْمِ النَّجَاةِ وَالْمَنْفَعَةِ كَالْفَرَاشِ يَقْتَحِمُ الضِّيَاءَ لَيْسَ لِتَهْلِكَ فِيهِ وَلَكِنَّهَا تَأْنَسُ بِهِ وَهِيَ لَا تَصْبِرُ بِحَالٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا فِي ظُلْمَةٍ فَتَعْتَقِدُ أَنَّ الضِّيَاءَ كُوَّةٌ فَتَسْتَظْهِرُ فِيهَا النُّورَ فَتَقْصِدُهَا لِأَجَلِ ذَلِكَ فَتَحْتَرِقُ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ وَذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ أَوْ كُلُّهُ انْتَهَى .

حَقُّ الضَّيْفِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ { قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ } .

حَقُّ الضَّيْفِ .
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ { قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ( قُلْت ) { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَمُرُّ بِقَوْمٍ فَلَا هُمْ يُضَيِّفُونَا وَلَا هُمْ يُؤَدُّونَ مَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ حَقٍّ وَلَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ أَبَوْا إلَّا أَنْ تَأْخُذُوا كَرْهًا فَخُذُوا } وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { لَا يَقْرُونَا } بِفَتْحِ الْيَاءِ يُقَالُ قَرَى الضَّيْفَ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَقَرَاءً بِفَتْحِ الْقَافِ مَمْدُودٌ .
( الثَّالِثَةُ ) ظَاهِرُهُ أَنَّ قِرَى الضَّيْفِ وَاجِبٌ بِحَيْثُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ أُخِذَتْ الضِّيَافَةُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ قَهْرًا ، وَقَدْ حُكِيَ الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِوُجُوبِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ دُونَ أَهْلِ الْقُرَى وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ وَلَا يَصِلُ أَمْرُهَا إلَى الْوُجُوبِ وَلَا إلَى أَخْذِهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا قَهْرًا وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدِهَا ) أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ فَإِنَّ ضِيَافَتَهُمْ وَاجِبَةٌ فَإِذَا لَمْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا حَاجَتَهُمْ مِنْ مَالِ الْمُمْتَنِعِينَ وَهَلْ هُوَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، ذَهَبَ

الشَّافِعِيُّ إلَى الْأَوَّلِ وَحُكِيَ الثَّانِي عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ وَحُكِيَ أَنَّ الذَّاهِبِينَ إلَى أَنَّهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ احْتَجُّوا { بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَنًا مِنْ غَنَمٍ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ فِيهَا عَبْدٌ يَرْعَاهَا وَصَاحِبُهَا غَائِبٌ وَشَرِبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي مَخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ } .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً } ، وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ ( إذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِالْإِبِلِ ، وَهُوَ عَطْشَانُ صَاحَ بِرَبِّ الْإِبِلِ ثَلَاثًا فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا حَلَبَ وَشَرِبَ ) .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ أَعْرَاضِهِمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَذْكُرُوا لِلنَّاسِ لُؤْمَهُمْ وَبُخْلَهُمْ وَالْعَتْبَ عَلَيْهِمْ وَذَمَّهُمْ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يَعُمُّ لِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَيْ مِنْ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ يَخُصُّ قَالَ وَلَكِنَّهُ مَعَ خُصُوصِيَّتِهِ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَتْبَ وَاللَّوْمَ وَالذَّمَّ عِنْدَ النَّاسِ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى تَرْكِهِ لَا إلَى فِعْلِهِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ الْمُوَاسَاةُ وَاجِبَةٌ فَلَمَّا اتَّسَعَ الْإِسْلَامُ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ } .
قَالُوا وَالْجَائِزَةُ تَفَضُّلٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَنْ حِكَايَةِ الْقَاضِي عِيَاضٍ لَهُ : وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ قَائِلُهُ لَا يُعْرَفُ .
الرَّابِعُ ) أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْعُمَّالِ الْمَبْعُوثِينَ مِنْ

جِهَةِ الْإِمَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إنَّك تَبْعَثُنَا فَكَانَ عَلَى الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ طَعَامُهُمْ وَمَرْكَبُهُمْ وَسُكْنَاهُمْ يَأْخُذُونَهُ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَوَلَّوْنَهُ لِأَنَّهُ لَا مَقَامَ لَهُمْ إلَّا بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ ، وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُهُمْ فِي زَمَانِهِ وَلَيْسَ إذْ ذَاكَ لِلْمُسْلِمِينَ بَيْنَ مَالٍ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَأَرْزَاقُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَإِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْهُ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي الضِّيَافَةِ عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَزَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ خَاصَّةً .
( الْخَامِسُ ) أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَرَّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ [ عَلَى ] الَّذِينَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ جَعَلَ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ لِمَنْ نَزَلَ بِهِمْ فَإِذَا شُرِطَتْ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْجِزْيَةِ فَمَنَعُوهَا كَانَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ عَرَضِ أَمْوَالِهِمْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ إنَّمَا صَارَ هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْ فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ .
( السَّادِسُ ) بَوَّبَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مَا يَحِلُّ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي الْغَزْوِ فَيَمُرُّونَ بِقَوْمٍ وَلَا يَجِدُونَ مِنْ الطَّعَامِ مَا يَشْتَرُونَ بِالثَّمَنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوا إلَّا أَنْ تَأْخُذُوا كَرْهًا فَخُذُوا } .
هَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا ( وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِنَحْوِ هَذَا انْتَهَى ) .
وَتَبْوِيبُهُ قَدْ يُوَافِقُ الْجَوَابَ الْخَامِسَ وَلَكِنَّ مَا شُرِحَ بِهِ الْحَدِيثُ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَنْ

امْتَنَعَ مِنْ بَيْعٍ لِلْمُحْتَاجِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بِهِ الْحَالُ لِلضَّرُورَةِ فَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا فَهُوَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ فَمَنَعَهُ إيَّاهُ وَجَحَدَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي مُقَابِلَةِ مَا مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ فَبَوَّبَ عَلَيْهِ ( بَابُ قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ ) وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ يُقَاصُّهُ وَقَرَأَ { ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَجَزَمَ بِالْأَخْذِ فِيمَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُ الْحَقِّ بِالْقَاضِي بِأَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ قَالَ وَلَا يَأْخُذُ غَيْرَ الْجِنْسِ مَعَ ظَفَرِهِ بِالْجِنْسِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا غَيْرَ الْجِنْسِ جَازَ الْأَخْذُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْحَقِّ بِالْقَاضِي بِأَنْ كَانَ مُقِرًّا مُمَاطِلًا أَوْ مُنْكِرًا عَلَيْهِ بَيِّنَةٍ أَوْ كَانَ يَرْجُو إقْرَارَهُ لَوْ حَضَرَ عِنْدَ الْقَاضِي وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَهَلْ يَسْتَقِلُّ بِالْأَخْذِ أَوْ يَجِبُ الرَّفْعُ إلَى الْقَاضِي ؟ فِيهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ جَوَازُ الْأَخْذِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ وَرُوِيَ عَنْهُ الْأَخْذُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِيَادَةٌ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْجَاحِدِ دَيْنٌ فَلَهُ الْأَخْذُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ أُسْوَةً بِالْغُرَمَاءِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَأْخُذُ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ وَمِنْ الْمَكِيلِ الْمَكِيلَ وَمِنْ الْمَوْزُونِ الْمَوْزُونَ وَلَا يَأْخُذُ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَالَ زُفَرُ .
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ بِالْقِيمَةِ ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ أَجَازَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ هِنْدَ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ لَهَا أَنْ تُطْعِمَ عَائِلَةَ زَوْجِهَا مِنْ مَالِهِ

بِالْمَعْرُوفِ عِوَضًا عَمَّا قَصَّرَ فِي إطْعَامِهِمْ فَدَخَلَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَمْ يُوَفِّهِ أَوْ جَحَدَهُ فَيَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ انْتَهَى .
وَقَدْ يُقَالُ إنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ عُتْبَةَ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ خُذُوا مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الظَّفَرِ وَالْقَهْرِ فَلَعَلَّ مَعْنَاهُ خُذُوا مِنْهُمْ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إلَى الْحُكَّامِ لِيُلْزِمُوهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَبِي كَرِيمَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا رَجُلٍ أَضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَةٍ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ } وَرَوَاهُ أَيْضًا بِلَفْظِ { لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ اقْتَضَى ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَقْتَضِي وَيُطَالِبُ وَيَنْصُرُهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ لَا أَنَّهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ أَحَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ اللَّهُ إذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَفْعَلْ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا مَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا } وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُك يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ اُرْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا } وَلِلْبُخَارِيِّ { فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً }

الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ اللَّهُ إذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا } وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُك يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ اُرْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ بِأَلْفَاظِهِ الثَّلَاثَةِ مَجْمُوعَةً مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَفِيهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ بِمِثْلِهَا { ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي } وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الثَّانِي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { ، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً } وَفِيهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ

أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ أَيْضًا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { إذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً } الْمُرَادُ حَدَّثَ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى تَحَدُّثِهِ بِهِ بِلِسَانِهِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ ، وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً } .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إذَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ عُذْرٌ وَلَا تُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ مَعَ الِانْكِفَافِ عَنْ الْفِعْلِ بِلَا عُذْرٍ وَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْهَمِّ بِالْخَيْرِ قُرْبَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ .
( الثَّالِثَةُ ) هَلْ تَكْتُبُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ الْهَمَّ بِالْحَسَنَةِ أَوْ فِعْلَ الْحَسَنَةِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ وَظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي كِتَابَةَ نَفْسِ الْحَسَنَةِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ وَعَقْدَهَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إنَّهَا لَا تَكْتُبُ إلَّا الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَحَكَى النَّوَوِيُّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَلَكَ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ تَفُوحُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَإِنَّهُ تَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةٌ خَبِيثَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا كَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ بِعَشْرٍ وَالْوَجْهُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ الْمِثْلَ مُذَكَّرٌ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِتَأْوِيلِهِ بِالْحَسَنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) هَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ تُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحَسَنَةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى الْهَمِّ ، أَوْ يُكَمَّلُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، أَوْ يَنْتَظِرُ الْمَلَكُ بِكِتَابَةِ الْهَمِّ فَإِنْ حَقَّقَهُ كَتَبَ عَشْرًا ، وَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ كَتَبَ وَاحِدًا فِيهِ احْتِمَالٌ وَيَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { إلَى سَبْعِمِائَةِ } ضِعْفٍ فِيهِ أَنَّ التَّضْعِيفَ قَدْ يَنْتَهِي إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَهَذَا جُودٌ وَاسِعٌ وَكَرَمٌ مَحْضٌ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ } ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَقِفُ عَلَى سَبْعِمِائَةٍ بَلْ قَدْ يَزِيدُ عَلَيْهَا لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَتَهُ لَهُ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يُضَاعَفُ لِمَنْ يَشَاءُ } بِهَذَا التَّضْعِيفِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَقِفُ عَلَى سَبْعِمِائَةٍ وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يُجَاوِزُ سَبْعِمِائَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهُوَ غَلَطٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ التَّضْعِيفُ بِأَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ( الثَّامِنَةُ ) تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } اسْتِثْنَاءُ الصِّيَامِ مِنْ حَصْرِ التَّضْعِيفِ فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ .

( التَّاسِعَةُ ) فِي قَوْلِهِ { فَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَفْعَلْهَا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ وَالْخَوَاطِرَ لَا يُؤَاخِذُ بِهَا ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَسْتَقِرُّ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ عَزْمُ مُصَمِّمٍ فَإِنْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ عَزْمًا مُصَمَّمًا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَطِيبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا أَثِمَ بِاعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ وَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِنَّمَا مَرَّ ذَلِكَ بِفِكْرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَيُسَمَّى هَذَا وَهْمًا وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ هَذَا مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا إنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةٌ وَلَيْسَتْ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَمَانَةِ لَكِنَّ نَفْسَ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةُ فَيُكْتَبُ مَعْصِيَةٌ فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَةً .
وَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهُوَ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يُوَطِّنُ النَّفْسَ عَلَيْهَا وَلَا يَصْحَبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةُ عَزْمٍ انْتَهَى .
قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ حَسَنٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِعَزْمِ الْقَلْبِ الْمُسْتَقَرِّ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقَوْله تَعَالَى { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ

الظَّنِّ إثْمٌ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَزْمِهَا انْتَهَى .

( الْعَاشِرَةُ ) فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { فَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً } زِيَادَةً عَلَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ { فَأَنَا أَغْفِرُهَا } لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَغْفِرَتِهَا كِتَابَةُ حَسَنَةٍ بِسَبَبِ تَرْكِهَا ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي } .
فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ دَالٌّ عَلَى تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُجَاهِدَتَهُ نَفْسَهُ الْأَمَارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانَهُ هَوَاهُ حَسَنَةٌ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً } ، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا لِأَجَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهَا حَسَنَةً ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْهَا لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَعَلَّلَ كِتَابَتَهَا حَسَنَةً بِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا وَجْهَ لَهُ ( قُلْتُ ) وَالظَّاهِرُ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ وَتُسَاعِدُهُ الْقَاعِدَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا إذَا لَمْ يَعْمَلْهَا تَارِكًا لَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لَا إذَا هَمَّ بِهَا فَلَمْ يَعْمَلْهَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا يُسَمَّى الْإِنْسَانُ تَارِكًا لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُتَوَهَّمُ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا } يَقْتَضِي أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا فِي التَّنْزِيلِ فِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مِنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ

بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضَعْفَيْنِ } وَذَلِكَ لِشَرَفِهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِنَّ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ مِنْهُنَّ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ لِشِدَّةِ تَأَذِّي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي سَيِّئَاتِ الْحَرَمِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا } يَقْتَضِي أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ ، أَيْ إنْ جَازِيَتُهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يُؤَاخِذُهُ بِهَا وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ، أَوْ مَحَاهَا اللَّهُ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ، أَوْ أَغْفِرُ } .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مُعَلَّقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا } وَوَصَلَهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ وَكَذَلِكَ وَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ تِسْعَةِ طُرُقٍ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْفَذَ الْوَعِيدَ عَلَى الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَتَجَاوَزُ عَنْهَا إذَا شَاءَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ } .
أَيْ أَسْلَمَ إسْلَامًا حَقِيقِيًّا وَلَيْسَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ يَقُولُونَ حَسُنَ إسْلَامُ فُلَانٍ إذَا دَخَلَ فِيهِ حَقِيقَةً بِإِخْلَاصٍ وَسَاءَ إسْلَامُهُ ، أَوْ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ قَوْلُهُ { فَحَسُنَ إسْلَامُهُ } قَدْ فَسَّرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ { سُئِلَ مَا الْإِحْسَانُ ؟ فَقَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ } أَرَادَ مُبَالَغَةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى

بِالطَّاعَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ لَهُ انْتَهَى .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَلَا يَتَوَقَّفُ كَوْنُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَر فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ مُبَالِغًا فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ لَهُ بَلْ مُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْعِبَارَةِ كَافٍ فِي ذَلِكَ وَلَا يُحْتَرَزُ بِذَلِكَ إلَّا عَنْ النِّفَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ بَيَانُ مَا تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَمَةِ مِنْ كِتَابَةِ خَوَاطِرِهِمْ الْحَسَنَةِ دُونَ خَوَاطِرِهِمْ السَّيِّئَةِ وَمُجَازَاتِهِمْ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا إنْ شَاءَ وَعَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَى مَا لَا يُحْصَى وَفِيهِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الرَّجَاءِ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ هَالِكٌ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَاهُ مَنْ حُتِمَ هَلَاكُهُ وَسُدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْهُدَى مَعَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ وَجَعْلِهِ السَّيِّئَةَ حَسَنَةً إذَا لَمْ يَعْمَلْهَا وَإِذَا عَمِلَهَا وَاحِدَةً وَالْحَسَنَةُ إذَا لَمْ يَعْمَلْهَا وَاحِدَةً وَإِذَا عَمِلَهَا عَشْرَةً إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ فَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ السَّعَةُ وَفَاتَهُ هَذَا الْفَضْلُ وَكَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ حَتَّى غَلَبَتْ مَعَ أَنَّهَا أَفْرَادُ حَسَنَاتِهِ مَعَ أَنَّهَا مُتَضَاعِفَةٌ فَهُوَ الْهَالِكُ الْمَحْرُومُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا أَبَا دَاوُد مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قِيلَ مَعْنَاهُ بِالْغُفْرَانِ لَهُ إذَا اسْتَغْفَرَنِي وَالْقَبُولِ إذَا تَابَ وَالْإِجَابَةِ إذَا دَعَانِي وَالْكِفَايَةِ إذَا اسْتَكْفَانِي لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَظْهَرُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا إذَا حَسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ وَقَوِيَ يَقِينُهُ قَالَ الْقَابِسِيُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَحْذِيرًا مِمَّا يَجْرِي فِي نَفْسِ الْعَبْدِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تَبْدُوَا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِهِ { لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا ، وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى } يَعْنِي فِي حُسْنِ عَمَلِهِ فَمَنْ حَسُنَ عَمَلُهُ حَسُنَ ظَنُّهُ وَمَنْ سَاءَ عَمَلُهُ سَاءَ ظَنُّهُ .
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الرَّجَاءِ وَتَأْمِيلِ الْعَفْوِ وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ فِي نَقْلِهِ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي حَكَاهُ أَوَّلًا وَاَلَّذِي حَكَاهُ آخِرًا وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّجَاءُ وَتَأْمِيلُ الْعَفْوِ .
ثُمَّ قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ قِيلَ مَعْنَاهُ ظَنُّ الْإِجَابَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَظَنُّ الْقَبُولِ عِنْدَ التَّوْبَةِ وَظَنُّ الْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ وَظَنُّ قَبُولِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ فِعْلِهَا عَلَى شُرُوطِهَا تَمَسُّكًا بِصَادِقِ وَعْدِهِ وَجَزِيلِ فَضْلِهِ قَالَ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُدْعُوَا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ } وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلتَّائِبِ وَالْمُسْتَغْفِرِ وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مُوقِنًا أَنَّ اللَّهَ

تَعَالَى يَقْبَلُ عَمَلَهُ وَيَغْفِرُ ذَنْبَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَأَمَّا لَوْ عَمِلَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ فَذَلِكَ هُوَ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَصَلَ إلَى مَا ظَنَّ مِنْهُ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ عَبْدِي بِي مَا شَاءَ } .
فَأَمَّا ظَنُّ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَذَلِكَ مَحْضُ الْجَهْلِ وَالْغِرَّةِ ، وَهُوَ يَجُرُّهُ إلَى مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ } .
وَالظَّنُّ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْمُجَوَّزَيْنِ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي التَّغْلِيبَ فَلَوْ خَلَا عَنْ السَّبَبِ الْمُغَلِّبِ لَمْ يَكُنْ ظَنًّا بَلْ غِرَّةً وَتَمَنِّيًا انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الرَّجَاءِ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَمَلَ عَفْوَ اللَّهِ وَصَفْحَهُ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَمَلَهُ وَعَفَا عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } فَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ } أَيْ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ مِنْ غَيْرِ تَحَفُّظٍ وَلَا تَوْبَةٍ وَلَا تَعَاطِي سَبَبٍ وَالْمُؤَمِّلُ عَفْوَ اللَّهِ لَا يَكُونُ أَمَلُهُ إلَّا عَنْ سَبَبٍ مِنْ تَوْبَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ وَتَقَرُّبٍ بِحَسَنَاتٍ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ فَيَرْجُو لُحُوقَ الرَّحْمَةِ لَهُ وَمَحْوَ سَيِّئَاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ اسْتِحْضَارَ مَا يَقْتَضِي الرَّجَاءَ قُرْبَ الْمَوْتِ لِيَحْصُلَ مَعَهُ ظَنُّ الْمَغْفِرَةِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ زَمَنِ الصِّحَّةِ

يَنْبَغِي فِيهِ اسْتِحْضَارُ مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ لِيَكُونَ أَعْوَنُ عَلَى الْعَمَلِ ، وَأَمَّا حَالَةَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَا عَمَلَ فِيهَا فَإِذَا لَمْ يَرْجُ أَيِسَ وَإِذَا رَجَا انْبَسَطَ وَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالتَّقَرُّبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِمَا أَمْكَنَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إذَا تَلَقَّانِي عَبْدِي بِشِبْرٍ تَلَقَّيْته بِذِرَاعٍ وَإِذَا تَلَقَّانِي بِذِرَاعٍ : تَلَقَّيْته بِبَاعٍ وَإِذَا تَلَقَّانِي بِبَاعٍ أَتَيْته بِأَسْرَعَ } لَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ ( وَإِذَا تَلَقَّانِي الثَّالِثَةَ ) وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ { وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : إذَا تَلَقَّانِي عَبْدِي بِشِبْرٍ تَلَقَّيْته بِذِرَاعٍ وَإِذَا تَلَقَّانِي بِذِرَاعٍ تَلَقَّيْته بِبَاعٍ وَإِذَا تَلَقَّانِي بِبَاعٍ أَتَيْته بِأَسْرَعَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا مَثَلٌ وَمَعْنَاهُ حُسْنُ الْقَبُولِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مُمَثَّلًا بِفِعْلِ مَنْ أَقْبَلَ نَحْوَ صَاحِبِهِ قَدْرَ شِبْرٍ فَاسْتَقْبَلَهُ صَاحِبُهُ ذِرَاعًا وَكَمَنْ مَشَى إلَيْهِ فَهَرْوَلَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ قَبُولًا لَهُ وَزِيَادَةً فِي إكْرَامِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ التَّوْفِيقَ لَهُ وَالتَّيْسِيرَ لِلْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ مِنْهُ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا أَيْ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ قَرَّبْته تَوْفِيقًا وَتَيْسِيرًا ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بِالْعَزْمِ وَالِاجْتِهَادِ ذِرَاعًا قَرَّبْته بِالْهِدَايَةِ وَالرِّعَايَةِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي مُعْرِضًا عَمَّنْ سِوَايَ مُقْبِلًا إلَيَّ أَدْنَيْتُهُ وَحُلْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ قَاطِعٍ وَسَبَقَتْ بِهِ كُلَّ صَانِعٍ ، وَهُوَ مَعْنَى الْهَرْوَلَةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَيَسْتَحِيلُ إرَادَةُ ظَاهِرِهِ وَمَعْنَاهُ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بِطَاعَتِي تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بِرَحْمَتِي وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ ، وَإِنْ زَادَ زِدْت ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي وَأَسْرَعَ فِي طَاعَتِي أَتَيْته هَرْوَلَةً أَيْ صَبَبْتُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةَ وَسَبَقْته بِهَا ، وَلَمْ أُحْوِجْهُ إلَى الْمَشْيِ الْكَثِيرِ فِي الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ جَزَاءَهُ يَكُونُ تَضْعِيفُهُ عَلَى حَسَبِ تَقَرُّبِهِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فَإِنْ قِيلَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذَا الْخِطَابِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً جُوزِيَ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ الذِّرَاعَ شِبْرَانِ وَالْبَاعَ ذِرَاعَانِ ، وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مَا

يُجَازَى عَلَى الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى فَكَيْفَ بِوَجْهِ الْجَمْعِ ( قُلْتُ ) هَذَا الْحَدِيثُ مَا سِيقَ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْأُجُورِ وَعَدَدِ تَضَاعِيفِهَا وَإِنَّمَا سِيقَ لِتَحْقِيقِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ قَلِيلًا كَانَ ، أَوْ كَثِيرًا وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسْرِعُ إلَى قَبُولِهِ وَإِلَى مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ إسْرَاعَ مَنْ جِيءَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ فَبَادَرَ لِأَخْذِهِ وَتَبَشْبَشَ لَهُ بَشْبَشَةَ مَنْ سُرَّ بِهِ وَوَقَعَ مِنْهُ الْمَوْقِعَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أَسْرَعْتُ إلَيْهِ وَلَا تَتَقَدَّرُ الْهَرْوَلَةُ وَالْإِسْرَاعُ بِضِعْفَيْ الْمَشْيِ .
وَأَمَّا عَدَدُ الْأَضْعَافِ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) الْبَاعُ طُولُ ذِرَاعَيْ الْإِنْسَانِ وَعَضُدَيْهِ وَعَرْضُ صَدْرِهِ قَالَ الْبَاجِيَّ ، وَهُوَ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَجَازُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ أَتَيْته بِأَسْرَعَ أَيْ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِرَاحِلَتِهِ إذَا ضَلَّتْ مِنْهُ ، ثُمَّ وَجَدَهَا ؟ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ إذَا تَابَ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ إذَا وَجَدَهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ } .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِرَاحِلَتِهِ إذَا ضَلَّتْ مِنْهُ ، ثُمَّ وَجَدَهَا ؟ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ إذَا تَابَ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ إذَا وَجَدَهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ وَزَادَ فِيهِ قَالَ { مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَرَحُ اللَّهِ هُوَ رِضَاهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ ( الْفَرَحُ ) يَنْقَسِمُ عَلَى وُجُوهٍ ( مِنْهَا ) السُّرُورُ وَالسُّرُورُ يُقَارِنُهُ الرِّضَى بِالْمَسْرُورِ بِهِ قَالَ فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى تَوْبَةَ عَبْدِهِ أَشَدَّ مَا يَرْضَى وَاجِدُ ضَالَّتِهِ بِالْفَلَاةِ فَعَبَّرَ عَنْ الرِّضَى بِالْفَرَحِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الرِّضَى فِي نَفْسِ السَّامِعِ وَمُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ انْتَهَى .
وَمَثَّلَ الْخَطَّابِيُّ إطْلَاقَ الْفَرَحِ عَلَى الرِّضَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْفَرَحَ مُعْظَمُ السُّرُورِ وَغَايَتُهُ وَالسُّرُورُ عِبَارَةٌ عَنْ بَسْطِ الْوَجْهِ وَسَعَةِ الصَّدْرِ وَاسْتِنَارَةِ الْوَجْهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا مَثَلٌ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ سُرْعَةِ قَبُولِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَوْبَةِ

عَبْدِهِ التَّائِبِ وَأَنَّهُ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَفْرَحُ بِهِ وَوَجْهُ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّ الْعَاصِيَ حَصَلَ بِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِ فِي قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ وَأَسْرِهِ ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَإِذَا لَطَفَ اللَّهُ بِهِ وَأَرْشَدَهُ إلَى التَّوْبَةِ خَرَجَ مِنْ شُؤْمِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْرِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ الْهَلَكَةِ الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَبَادَرَ إلَى ذَلِكَ مُبَادَرَةَ هَذَا الَّذِي قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ لَمَّا عَدِمَ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ الَّذِي قَدْ انْتَهَى .
بِهِ الْفَرَحُ وَاسْتَفَزَّهُ السُّرُورُ إلَى أَنْ نَطَقَ بِالْمُحَالِ ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ لِشِدَّةِ سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ وَإِلَّا فَالْفَرَحُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِنَا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ اهْتِزَازٌ وَطَرَبٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ ظَفَرِهِ بِغَرَضٍ يَسْتَكْمِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ نُقْصَانَهُ وَيَسُدُّ بِهِ خَلَّتَهُ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا ، أَوْ نَقْصًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ الْكَامِلُ بِذَاتِهِ الْغَنِيُّ بِوُجُودِهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ وَلَا قُصُورٌ وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرَحَ عِنْدَنَا لَهُ ثَمَرَةٌ وَفَائِدَةٌ ، وَهُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَفْرُوحِ بِهِ وَإِحْلَالُهُ الْمَحَلَّ الْأَعْلَى وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصِحُّ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَعَبَّرَ عَنْ ثَمَرَةِ الْفَرَحِ بِالْفَرَحِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَتِهَا الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ ، أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ وَذَلِكَ الْقَانُونَ جَارٍ فِي جَمِيعِ مَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ كَالْغَضَبِ وَالرِّضَى وَالضَّحِكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ ) ذَكَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مُطْلَقِ وِجْدَانِ ضَالَّتِهِ فَقَالَ { اللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ

مَعَهُ رَاحِلَتَهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ، ثُمَّ قَالَ : أَرْجِعُ إلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ } وَهَذَا زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَوْبَتِهِ وَقَبُولِهَا .

( الرَّابِعَةُ ) التَّوْبَةُ لُغَةً الرُّجُوعُ يُقَالُ تَابَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَثَابَ بِالْمُثْلَةِ وَآبَ وَأَنَابَ بِمَعْنَى رَجَعَ وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ هُنَا الرُّجُوعُ عَنْ الذَّنْبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ التَّوْبَةُ أَوَّلُ الدَّرَجَاتِ وَكَأَنَّهَا الْإِقْلَاعُ وَالْإِنَابَةُ بَعْدَهَا وَالْأَوْبَةُ أَعَزُّهَا وَهِيَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّهُ أَوَّابٌ } ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ وَبِهِ عَبَّرَ كَثِيرُونَ وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ وَالْأَكْثَرُونَ جَمَعُوا بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَقَالُوا إنَّ لِلتَّوْبَةِ أَرْكَانًا الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا أَكْمَلَهَا غَيْرَ أَنَّهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ التَّرْكِيبِ الْمَحْذُورِ فِي الْحُدُودِ غَيْرُ مَانِعٍ وَلَا جَامِعٍ ، بَيَانُ .
( الْأَوَّلُ ) : أَنَّهُ قَدْ يَنْدَمُ وَيُقْلِعُ وَيَعْزِمُ وَلَا يَكُونُ تَائِبًا شَرْعًا إذْ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ شُحًّا عَلَى مَالِهِ أَوْ لِئَلَّا يُعَيِّرَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } وَأَمَّا ( الثَّانِي ) فَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ .
مَنْ زَنَا مَثَلًا ، ثُمَّ قُطِعَ ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ غَيْرُ النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الزِّنَا .
وَأَمَّا الْعَزْمُ وَالْإِقْلَاعُ فَغَيْرُ مَقْصُودَيْنِ مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّوْبَةُ مِنْ الزِّنَا صَحِيحَةٌ فِي حَقِّهِ إجْمَاعًا وَبِهَذَا اغْتَرَّ مَنْ قَالَ إنَّ النَّدَمَ يَكْفِي فِي حَدِّ التَّوْبَةِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ نَدِمَ ، وَلَمْ يُقْلِعْ وَعَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ لَمْ

يَكُنْ تَائِبًا اتِّفَاقًا وَلَمَّا فَهِمَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ هَذَا حَدَّ التَّوْبَةَ بِحَدِّ آخَرَ فَقَالَ .
هِيَ تَرْكُ اخْتِيَارِ ذَنْبٍ سَبَقَ مِنْك مِثْلُهُ حَقِيقَةً ، أَوْ تَقْدِيرًا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَشَدُّ الْعِبَارَاتِ وَأَجْمَعُهَا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّائِبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِلذَّنْبِ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الذَّنْبَ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَفَرَغَ مِنْهُ فَلَا يَصِحُّ تَرْكُهُ إذْ هُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ عَيْنِهِ لَا تَرْكًا وَلَا فِعْلًا وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مِثْلِهِ حَقِيقَةً ، وَهُوَ زِنًا آخَرُ مَثَلًا فَلَوْ جُبَّ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ تَرْكُ الزِّنَا بَلْ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقْدِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الزِّنَا تَرَكَهُ ، فَلَوْ قَدَّرْنَا مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَنْبٌ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إلَّا اتِّقَاءُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ لَا تَرَكَ مِثْلُ مَا وَقَعَ فَيَكُونُ مُتَّقِيًا لَا تَائِبًا انْتَهَى .
فَيُزَادُ فِي التَّوْبَةِ رُكْنٌ رَابِعٌ ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ ، وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ النَّدَمُ عَلَيْهِ رِعَايَةً لَحِقَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحَكَى شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ التَّصْرِيحَ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَأَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِمَا إذَا قَتَلَ وَلَدَهُ وَنَدِمَ لِكَوْنِهِ وَلَدَهُ وَبِمَا إذَا بَذَلَ الشَّحِيحُ مَالًا فِي مَعْصِيَةٍ وَنَدِمَ لِأَجَلِ غَرَامَةِ الْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، ثُمَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِآدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ خَامِسٍ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ تِلْكَ الْمَظْلِمَة قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ الْخُرُوجُ عَنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ قَالَ وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ إلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِ أَمْرِهَا لَا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِي ذَلِكَ

الذَّنْبِ ( قُلْتُ ) وَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ الْخُرُوجَ عَنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ مُطْلَقًا بَلْ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ وَبِتَقْدِيرِ إرَادَتِهِ الْخُرُوجَ عَنْهَا مُطْلَقًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ قَبُولُ اللَّهِ تَعَالَى تَوْبَةَ الْعَبْدِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعَبِّرِ شَرْعًا ، وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْكَافِرِ مِنْ كُفْرِهِ فَهِيَ مَقْطُوعٌ بِقَبُولِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ سِوَاهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ فَهَلْ قَبُولُهَا مَقْطُوعٌ بِهِ ، أَوْ مَظْنُونٌ ؟ فِيهِ خِلَافٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ مَظْنُونٌ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ عَلَى يَقِينٍ ، وَمِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَى خَطَرٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْحَذَرِ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوْلِهِ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ إلَى آخِرِهِ فِيهِ أَنَّ مَا قَالَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قَبِيلِ هَذَا مِنْ دَهَشٍ وَذُهُولٍ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ وَكَذَلِكَ حِكَايَتُهُ عَنْهُ عَلَى طَرِيقٍ عِلْمِيٍّ وَفَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا عَلَى الْهُزْءِ وَالْمُحَاكَاةِ وَالْعَيْبِ لِحِكَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ وَلَوْ كَانَ مُنْكَرًا مَا حَكَاهُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِمُنْجِيهِ عَمَلُهُ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا : قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ } .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ أَحَدُكُمْ بِمُنْجِيهِ عَمَلُهُ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي صَالِحٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا ثَوَابٌ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ الْعَالَمُ مُلْكُهُ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فِي سُلْطَانِهِ يَفْعَلُ فِيهِمَا مَا يَشَاءُ فَلَوْ عَذَّبَ الْمُطِيعِينَ وَالصَّالِحِينَ أَجْمَعِينَ وَأَدْخَلَهُمْ النَّارَ كَانَ عَدْلًا مِنْهُ وَإِذَا أَكْرَمَهُمْ وَنَعَّمَهُمْ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ فَهُوَ بِفَضْلٍ مِنْهُ وَلَوْ نَعَّمَ الْكَافِرِينَ وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ أَخْبَرَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا بَلْ يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ وَيُدْخِلُهُمْ النَّارَ عَدْلًا مِنْهُ فَمَنْ نَجَا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ فَلَيْسَ بِعَمَلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا هُوَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى إيجَابِ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحَكَّمُوا الْعَقْلَ وَأَوْجَبُوا مُرَاعَاةَ الْأَصْلَحِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ عَرِيضٌ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ اخْتِرَاعَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ الْمُنَابِذَةِ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ .
( الثَّالِثَةُ ) ( فَإِنْ قُلْتُ ) كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى { اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَنَحْوِهِمَا مِنْ

الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ( قُلْتُ ) مَعْنَى الْآيَاتِ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ لِلْأَعْمَالِ وَالْهِدَايَةِ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا وَقَبُولِهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ فَيَصِحُّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ بِالْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا وَهِيَ مِنْ الرَّحْمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { بِمُنْجِيهِ } يَجُوزُ فِيهِ إسْكَانُ النُّونِ وَتَخْفِيفُ الْجِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ يُقَالُ نَجَاهُ وَأَنْجَاهُ يَتَعَدَّى بِالْهَمْزِ وَالتَّضْعِيفِ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { سَدِّدُوا } هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ اُطْلُبُوا السَّدَادَ ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَذَلِكَ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ لَا غُلُوَّ وَلَا تَقْصِيرَ وَقَوْلُهُ { وَقَارِبُوا } أَيْ إنْ عَجَزْتُمْ عَنْ السَّدَادِ فَقَارِبُوهُ أَيْ اقْرَبُوا مِنْهُ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا } أَيْ وُجُوهُ الِاسْتِقَامَةِ فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَى مُقَارِبَةِ الِاسْتِقَامَةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { وَقَارِبُوا } هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ سَدِّدُوا فِي الْأَعْمَالِ أَيْ اعْمَلُوهَا مُسَدَّدَةً لَا غُلُوَّ فِيهَا وَلَا تَقْصِيرَ وَقَارِبُوا فِي أَزْمَانِهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا قَصِيرٌ وَلَا طَوِيلٌ انْتَهَى .
وَمُقْتَضَاهُ مُسَاوَاةُ قَوْلِهِ وَقَارِبُوا لِقَوْلِهِ وَسَدِّدُوا فِي الْمَعْنَى وَعِبَارَةُ الْقَاضِي عِيَاضٍ بَعْدَ تَفْسِيرِ السَّدَادِ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَارِبُوا أَيْ اقْرَبُوا مِنْ الصَّوَابِ وَالسَّدَادِ وَلَا تَغْلُوا فَدِينُ اللَّهِ سَمْحَةٌ حَنِيفِيَّةٌ انْتَهَى .
وَصَدْرُ كَلَامِهِ يُوَافِقُ كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ وَآخِرُهُ يُوَافِقُ كَلَامَ النَّوَوِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ وَلَا أَنْتَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ كَأَنَّهُ وَقَعَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِظَمِ مَعْرِفَتِهِ بِاَللَّهِ وَكَثْرَةِ عِبَادَاتِهِ أَنَّهُ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا يَسْتَغْنِي .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ } أَيْ يُلْبِسُنِيهَا وَيَغْمُرُنِي فِيهَا وَمِنْهُ غَمَدْتُ السَّيْفَ وَأَغْمَدْتُهُ إذَا جَعَلْته فِي غِمْدِهِ وَسَتَرْتُهُ بِهِ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا ، أَوْ هِرٍّ رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ ( ذَلِكَ لَأَنْ لَا يَتَّكِلَ رَجُلٌ وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ ) .

{ الْحَدِيثُ السَّادِسُ } وَعَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا ، أَوْ هِرٍّ رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا أَرْسَلَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَآهَا النَّبِيُّ .
فِي النَّارِ هِيَ امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، كَذَا فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ، وَفِي أُخْرَى لَهُ أَنَّهَا حِمْيَرِيَّةٌ وَسَنَذْكُرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَحِمْيَرُ قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ وَلَيْسُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ { مِنْ جَرَّاءِ } بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَقْصُورَةٌ وَيَجُوزُ فِيهِ الْمَدُّ أَيْضًا يُقَالُ فَعَلْتُهُ مِنْ جَرَّاك وَمِنْ جَرَّائِك أَيْ مِنْ أَجْلِك وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ أَجْلِك فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَكَسْرُهَا .
{ الرَّابِعَةُ } { الْهِرُّ } ذَكَرُ السِّنَّوْرِ وَالْأُنْثَى هِرَّةٌ فَتَرَدَّدَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هَلْ كَانَ ذَكَرًا ، أَوْ أُنْثَى وَيُجْمَعُ الْهِرُّ عَلَى هِرَرَةٍ كَقِرْدٍ وَقِرَدَةٍ وَالْهِرَّةُ عَلَى هِرَرٍ كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ .
{ الْخَامِسَةُ } هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ إنَّمَا عُذِّبَتْ بِسَبَبِ قَتْلِ هَذِهِ الْهِرَّةِ بِالْحَبْسِ وَتَرْكِ الطَّعَامِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَذَابُ بِالنَّارِ ، أَوْ يَكُونَ بِالْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ عُذِّبَ ، أَوْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً فَعُذِّبَتْ بِكُفْرِهَا وَزِيدَتْ عَذَابًا بِسَيِّئِ أَعْمَالِهَا ، وَكَانَ مِنْهَا هَذَا إذْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً فَتُغْفَرْ صَغَائِرُهَا

بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَلْ كَانَتْ كَافِرَةً ، أَوْ لَا ، كُلٌّ مُحْتَمَلٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الصَّوَابُ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً وَأَنَّهَا دَخَلَتْ النَّارَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْهِرَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَهَذِهِ الْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ صَغِيرَةً بَلْ صَارَتْ بِإِصْرَارِهَا كَبِيرَةً وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُخَلَّدُ فِي النَّارِ ( قُلْتُ ) وَمِنْ هُنَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْخَوْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ وَمُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِرَةً فَقَدْ تَمَحَّضَ أَنَّ سَبَبَ تَعْذِيبِهَا فِي النَّارِ حَبْسُ الْهِرَّةِ إلَى أَنْ مَاتَتْ جُوعًا فَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ الْهِرَّ لَا يُتَمَلَّكُ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إطْعَامُهُ إلَّا عَلَى مَنْ حَبَسَهُ ( قُلْتُ ) لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَمَلَّكُ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَكَى فِيهِ وَاقِعَةً خَاصَّةً وَهِيَ تَعْذِيبُهَا عَلَى حَبْسِهِ حَتَّى أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ غَيْرِ حَالَةِ الْحَبْسِ هَلْ فِيهَا إثْمٌ بِسَبَبِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَمْ لَا وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ عَلَى مَالِكِهِ انْتَهَى .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْهِرَّةَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهَا لَكِنَّهُ أَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِإِمْكَانِ اسْتِنْبَاطِ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهَا مِنْ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ { لَهَا } فَإِنَّ ظَاهِرَهَا الْمِلْكُ وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ اسْتِدْلَالُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَوَجْهُهُ أَنَّهَا إذَا عُذِّبَتْ عَلَى إتْلَافِهَا بِالْحَبْسِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ وَحِينَئِذٍ فَتَجِبُ نَفَقَتُهَا إذَا مُلِكَتْ كَسَائِرِ الْمُحْتَرَمَاتِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ فَضَعِيفٌ جِدًّا لَا وَجْهَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ رَبْطِ الْحَيَوَان الْمَمْلُوكِ لَيْسَ حَرَامًا لِأَنَّهُ لَمْ يُرَتِّبْ الذَّمَّ إلَّا عَلَى تَرْكِ إطْعَامِهَا وَإِرْسَالِهَا وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ لِتَحْرِيمِ قَتْلِ الْهِرَّةِ وَتَحْرِيمِ حَبْسِهَا بِغَيْرِ طَعَامٍ ، أَوْ شَرَابٍ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ { تُرَمِّمُ } رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْمِيمِ الْأُولَى وَتَشْدِيدِهَا عَلَى حَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ وَ .
( الثَّانِي ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى وَتَشْدِيدِهَا وَالْمُرَادُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ بِشَفَتَيْهَا .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ { مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ } هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ حَكَاهُنَّ فِي الْمَشَارِقِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ قَالَ وَرُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالصَّوَابُ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتُهَا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ وَقِيلَ صِغَارُ الطَّيْرِ وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ، قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ ضَعِيفٌ ، أَوْ غَلَطٌ .

( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مُعَذَّبٌ بِدُخُولِ النَّارِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَأَمْكَنَ تَأْوِيلُهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا سَتَدْخُلُ وَأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَمَّا كَانَ مُحَقَّقَ الْوُقُوعِ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } وَنَظَائِرُهُ ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَرَأَيْت فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ، وَرَأَيْت أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ } وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ { وَرَأَيْتُ فِي النَّارِ امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْدَاءَ طَوِيلَةً } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ { لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْت مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا وَحَتَّى رَأَيْت فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَأَنَّهُ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي ، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا } ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْكُسُوفِ { وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ ، وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي مُشَاهَدَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { ( هَزْلًا } ) رَوَيْنَاهُ وَضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَيَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْهَاءِ أَيْضًا ، وَهُوَ الْهُزَالُ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ هَزَلَ الرَّجُلُ وَالدَّابَّةُ هُزَالًا ، وَهَزَلَ يَهْزِلُ هَزْلًا وَهُزَالًا ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ ؟ الْهُزَالُ

ضِدُّ السِّمَنِ يُقَالُ هَزَلَتْ الدَّابَّةُ هُزَالًا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهَزَلْتُهَا أَنَا هَزْلًا .

الْقَدَرُ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى فَحَجَّ آدَم مُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ ، فَقَالَ آدَم أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاك اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ ، وَقَالَ لَهُ آدَم أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاك اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ ، قَالَ نَعَمْ ، قَالَ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَانَ قَدْ كُتِبَ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ ، قَالَ فَحَاجَّ آدَم مُوسَى } وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ { قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا } .

الْقَدَرُ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى فَحَجَّ آدَم مُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ آدَم أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاك اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : فَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَم الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ قَالَ لَهُ آدَم أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاك اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ وَاصْطَفَاك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَانَ قَدْ كُتِبَ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ ، قَالَ فَحَاجَّ آدَم مُوسَى } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئَابٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ وَالْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَم مُوسَى قَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَم الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَك فِي جَنَّتِهِ ، ثُمَّ أَهَبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِك إلَى الْأَرْضِ فَقَالَ آدَم أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَأَعْطَاك الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا ، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، قَالَ مُوسَى : بِأَرْبَعِينَ عَامًا قَالَ آدَم فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا { وَعَصَى آدَم رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ نَعَمْ قَالَ : أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتَ عَمَلًا كَتَبَهُ

اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ آدَم مُوسَى } وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَانْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِهِ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ أَئِمَّةِ الْإِثْبَاتِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فِي إسْنَادِهِ فَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكُلُّهُمْ يَرْفَعُهُ وَهِيَ كُلُّهَا صِحَاحٌ لِلِقَاءِ الزُّهْرِيِّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ انْتَهَى .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { تَحَاجَّ آدَم وَمُوسَى } أَيْ تَنَاظَرَ وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّةً عَلَى مَطْلُوبِهِ وَالْحُجَّةُ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَقَوْلُهُ فَحَجَّ آدَم مُوسَى أَيْ غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا الرِّوَايَةُ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِ النَّاقِلِينَ وَالرُّوَاةُ وَالشُّرَّاحُ

وَأَهْلُ الْغَرِيبِ بِرَفْعِ آدَمَ ، وَهُوَ فَاعِلٌ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ فِي آخَرِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ( فَحَاجَّ آدَم مُوسَى ) كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ فَحَاجَّ يَعْنِي فَحَجَّ آدَم مُوسَى فَقَدْ تَخْرُجُ الْمُفَاعَلَةُ عَنْ بَابِهَا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذِهِ الْمُحَاجَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِرُوحَيْهِمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِجَسَدِهِمَا ، وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ الْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي السَّمَاءِ فَوَقَعَ الْحِجَاجُ بَيْنَهُمَا وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ إنَّ رُوحَهُ لَمْ تَجْتَمِعْ بِرُوحِ مُوسَى ، وَلَمْ يَلْتَقِيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا بَعْدَ الْوَفَاةِ وَبَعْدَ رَفْعِ أَرْوَاحِهِمَا فِي عِلِّيِّينَ وَكَانَ الْتِقَاؤُهُمَا كَنَحْوِ الْتِقَاءِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ لَقِيَهُ فِي الْمِعْرَاجِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ الصَّحِيحِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدِي لَا يَحْتَمِلُ تَكْيِيفًا وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ لِأَنَّا لَمْ نُؤْتَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا انْتَهَى .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا بِأَشْخَاصِهِمَا ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَوَاتِ ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلَّى بِهِمْ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الشُّهَدَاءِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَيَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنَّهُ يُرِيهِ آدَم فَحَاجَّهُ بِمَا ذُكِرَ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي الْقِصَّةِ أَثَرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ { مُوسَى رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنْ الْجَنَّةِ فَأَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَقَالَ أَنْتَ آدَم ، } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ( قُلْت ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ

الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مُوسَى قَالَ يَا رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنْ الْجَنَّةِ فَأَرَاهُ اللَّهُ آدَمَ فَقَالَ أَنْتَ أَبُونَا آدَم فَقَالَ لَهُ آدَم نَعَمْ فَقَالَ أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَعَلَّمَك الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَك ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَم مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا مُوسَى قَالَ أَنْتَ نَبِيُّ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ مِنْ وَرُوَاءِ حِجَابٍ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ ، قَالَ نَعَمْ قَالَ أَفَمَا وَجَدْتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، قَالَ نَعَمْ ، قَالَ فِيمَ تَلُومُنِي فِي شَيْءٍ سَبَقَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الْقَضَاءُ قَبْلِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فَحَجَّ آدَم مُوسَى فَحَجَّ آدَم مُوسَى } وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَابَ تَحَاجِّ آدَم وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ { عِنْدَ رَبِّهِمَا } وَهِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَحَاجُّهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّحَاجُّ فِي الدُّنْيَا وَيُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ مِنْ عِنْدِ أَبِي دَاوُد ( قُلْتُ ) وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي كَلَامِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ اخْتِصَاصٍ وَتَشْرِيفٍ لَا عِنْدِيَّةُ مَكَان لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهْرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } أَيْ فِي مَحَلِّ التَّشْرِيفِ

وَالْإِكْرَامِ وَالِاخْتِصَاصِ انْتَهَى .
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { أَغْوَيْتَ النَّاسَ } أَيْ كُنْت سَبَبًا لِإِغْوَاءِ مَنْ غَوَى مِنْهُمْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ الْجَنَّةِ وَتَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَالْغَيُّ : الِانْهِمَاكُ فِي الشَّرِّ ، وَهُوَ ضِدُّ الرُّشْدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَدْ تَبَيَّنَّ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَيِّ الْخَطَأُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى { وَعَصَى آدَم رَبَّهُ فَغَوَى } أَيْ أَخْطَأَ صَوَابَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ جَوَازُ إطْلَاقِ نِسْبَةِ الشَّيْءِ إلَى مَنْ لَهُ تَسَبُّبٌ فِيهِ .
( الرَّابِعَةُ ) وَقَوْلُهُ { وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } الْمُرَادُ بِهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنْ قَبْلِ آدَمَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهَا جَنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُهَا وَقَالُوا إنَّ جَنَّةَ الْجَزَاءِ لَمْ تُخْلَقْ إلَى الْآنَ وَلَكِنَّهَا تُخْلَقُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُبْطِلُ قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { أَعْطَاك اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ } عَامٌّ مَخْصُوصٌ ، وَقَدْ قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ( إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمُرَادُ مِمَّا عَلَّمَك وَقِيلَ يَحْتَمِلُ مِمَّا عُلِّمَهُ الْبَشَرُ ( قُلْت ) لَمْ يَظْهَرْ لِي مَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَّمَهُ إيَّاهُ وَهَذَا غَنِيٌّ عَنْ الْقَوْلِ ، وَفِي الثَّانِي نَظَرٌ فَإِنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْخَضِرِ مِنْ الْعِلْمِ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْبَشَرَ ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُهُ ،

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ هُنَا الْأَكْثَرِيَّةُ وَالْغَلَبَةُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) ( وَاصْطَفَاك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِهِ ) عَامٌّ مَخْصُوصٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَصْطَفِهِ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ نَاسُ زَمَانِهِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنِّي اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( فَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا انْتَهَى حَدِيثُ مَالِكٍ عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ وَزَادَ فِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ { قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ } وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَتَبَهُ قَبْلَ خَلْقِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ أَظْهَرَهُ ، أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مَا أَضَافَ إلَيْهِ هَذَا التَّارِيخَ وَإِلَّا فَمَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ قَدَّرَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَيْ كَتَبَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { فَبِكُمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ قَالَ مُوسَى بِأَرْبَعِينَ عَامًا قَالَ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَم رَبَّهُ فَغَوَى قَالَ نَعَمْ } فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مَكْتُوبًا بِلِسَانٍ غَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُرَادُ بِالتَّقْدِيرِ هُنَا الْكِتَابَةُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، أَوْ فِي صُحُفِ التَّوْرَاةِ وَأَلْوَاحِهَا أَيْ كَتَبَهُ عَلَيَّ قَبْلَ خَلْقِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَالَ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُصَرِّحَةٌ بِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالتَّقْدِيرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ

يُرَادَ بِهِ حَقِيقَةُ الْقَدَرِ فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا قَدَّرَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَرَادَهُ مِنْ خَلْقِهِ أَزَلِيٌّ لَا أَوَّلَ لَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ مَرِيدًا لِمَا أَرَادَهُ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ انْتَهَى .
وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ الْبُلْقِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّ الْمُرَادَ إظْهَارُ ذَلِكَ عَنْ تَصْوِيرِ آدَمَ طِينًا وَاسْتَمَرَّ آدَم مُتَجَدِّلًا فِي طِينَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَكَانَ ظُهُورُ هَذَا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَالْمُرَادُ بِخَلْقِهِ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ مُدَّةَ مُكْثِ آدَمَ طِينًا بَيْنَ تَصْوِيرِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَرْبَعُونَ عَامًا ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَإِنْ قُلْتُ ) مَا مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ ( قُلْتُ ) هُوَ تَحْدِيدٌ لِلْكِتَابِ لَا لِلتَّقْدِيرِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ قَدِيمٌ لَا أَوَّلَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذِهِ كِتَابَةٌ قَبْلَ الْكِتَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَقَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الْخَمْسِينَ أَلْفًا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْثِيلًا لِلْكَثِيرِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { إلَى مِائَةِ أَلْفٍ ، أَوْ يَزِيدُونَ } ( قُلْتُ ) وَلَا يَقُومُ عَلَى التَّكْثِيرِ دَلِيلٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّحْدِيدُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّهُ أَظْهَرُ وَأُولَى قَالَ وَهَذِهِ الْخَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ سُنُونَ تَقْدِيرِيَّةٌ إذْ قَبْلَ وُجُودِ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْأَزْمَانِ فَإِنَّ الزَّمَانَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسِّنِينَ وَبِالْأَيَّامِ ، وَاللَّيَالِيِ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى أَعْدَادِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ ، وَالْقَمَرِ فِي الْمَنَازِلِ ، وَالْبُرُوجِ السَّمَاوِيَّةِ فَقَبْلَ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا

يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مُدَّةٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ كَانَتْ السَّمَوَاتُ مَوْجُودَةً فِيهَا لَعُدَّتْ بِذَلِكَ الْعَدَدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ قَدْ يَحْسِبُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى الْقَدَرِ مِنْ اللَّهِ ، وَالْقَضَاءِ مِنْهُ مَعْنَى الْإِجْبَارِ ، وَالْقَهْرِ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ وَيُتَوَهَّمُ أَنَّ فَلْجَ آدَم فِي الْحُجَّةِ عَلَى مُوسَى إنَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُونَهُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ تَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ وَصُدُورِهَا عَنْ تَقْدِيرٍ مِنْهُ وَخَلَقَ لَهَا خَيْرَهَا وَشَرَّهَا ، وَالْقَدَرُ اسْمٌ لِمَا صَدَرَ مُقَدَّرًا عَنْ فِعْلِ الْقَادِرِ كَمَا أَنَّ الْهَدْمَ ، وَالْقَبْضَ ، وَالنَّشْرَ أَسْمَاءٌ لِمَا صَدَرَ عَنْ فِعْلِ الْهَادِمِ ، وَالْقَابِضِ ، وَالنَّاشِرِ يُقَالُ قَدَّرْتُ الشَّيْءَ وَقُدْرَتُهُ خَفِيفَةٌ وَثَقِيلَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالْقَضَاءُ فِي هَذَا مَعْنَاهُ الْخَلْقُ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أَيْ خَلَقَهُنَّ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَاءِ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ أَفْعَالُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ وَمُبَاشَرَتُهُمْ تِلْكَ الْأُمُورَ وَمُلَابَسَتُهُمْ إيَّاهَا عَنْ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ وَتَقَدُّمِ إرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ فَالْحُجَّةُ إنَّمَا تَلْزَمُهُمْ بِهَا ، وَاللَّائِمَةُ إنَّمَا تَلْحَقُهُمْ عَلَيْهَا وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ ، وَالْآخَرَ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَمَنْ رَامَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ رَامَ هَدْمَ الْبِنَاءِ وَنَقْضَهُ وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعُ الْحُجَّةِ لِآدَمَ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ آدَم أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الشَّجَرَةَ وَيَأْكُلُ مِنْهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَأَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَإِذْ قَالَ رَبُّك لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي

الْأَرْضِ خَلِيفَةً } فَأَخْبَرَ قَبْلَ كَوْنِ آدَمَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَهُ لِلْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى يَنْقُلَهُ عَنْهَا إلَيْهَا فَإِنَّمَا كَانَ تَنَاوُلُهُ الشَّجَرَةَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَلِيَكُونَ فِيهَا خَلِيفَةً وَوَالِيًا عَلَى مَنْ فِيهَا وَإِنَّمَا أَدْلَى آدَم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُجَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَدَفَعَ لَائِمَةَ مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي [ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ اللَّوْمُ أَصْلًا ( قِيلَ ) ] ، وَاللَّوْمُ سَاقِطٌ عَنْهُ مِنْ قَبْلِ مُوسَى إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَيِّرَ أَحَدًا بِذَنْبٍ كَانَ مِنْهُ لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ أَكْفَاءٌ سَوَاءٌ ، وَقَدْ رُوِيَ لَا تَنْظُرُوا إلَى ذُنُوبِ الْعِبَادِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَلَكِنْ اُنْظُرُوا إلَيْهَا كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ وَلَكِنَّ اللَّوْمَ لَازِمٌ لِآدَمَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا كَانَ قَدْ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَخَرَجَ إلَى مَعْصِيَتِهِ وَبَاشَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقَوْلُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ فِي النُّفُوسِ مِنْهُ شُبْهَةٌ ، وَفِي ظَاهِرِهِ مُتَعَلَّقٌ لِاحْتِجَاجِهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي قَدْ جُعِلَ أَمَارَةٌ لِخُرُوجِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَقَوْلُ آدَم فِي تَعَلُّقِهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ أَرْجَحُ وَأَقْوَى ، وَالْفَلْجُ قَدْ يَقَعُ مَعَ الْمُعَارِضَةِ بِالتَّرْجِيحِ كَمَا يَقَعُ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ ا هـ وَقَالَ فِي أَعْلَامِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ إنَّمَا حَجُّهُ آدَم فِي دَفْعِ اللَّوْمِ إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ أَنْ يَلُومَ أَحَدًا ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { اُنْظُرُوا إلَى النَّاسِ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ وَلَا تَنْظُرُوا إلَيْهِمْ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ } فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي تَنَازَعَاهُ فَهُمَا فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ

أَنْ يُسْقِطَ الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ الْقَدَرُ وَلَا أَنْ يُبْطِلَ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ ، وَمَنْ فَعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا خَرَجَ عَنْ الْقَصْدِ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الْقَدَرِ ، أَوْ الْجَبْرِ ، وَقَوْلُ آدَمَ { أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ } اسْتِقْصَارٌ لِعِلْمِ مُوسَى يَقُولُ إذْ قَدْ جَعَلَك اللَّهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مِنْ الِاصْطِفَاءِ بِالرِّسَالَاتِ ، وَالْكَلَامِ فَكَيْفَ يَسَعُك أَنْ تَلُومَنِي عَلَى الْقَدَرِ الْمَقْدُورِ الَّذِي لَا مِدْفَعَ لَهُ ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ { فَحَجَّ آدَم مُوسَى } وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ دَفَعَ حُجَّةَ مُوسَى الَّذِي أَلْزَمَهُ بِهَا اللَّوْمَ وَذَلِكَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْمَسْأَلَةِ ، وَالِاعْتِرَاضِ إنَّمَا كَانَ مِنْ مُوسَى ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آدَمَ إنْكَارٌ لِمَا اقْتَرَفَهُ مِنْ الذَّنْبِ إنَّمَا عَارَضَهُ بِأَمْرٍ كَانَ فِيهِ دَفْعُ اللَّوْمِ فَكَانَ أَصْوَبُ الرَّأْيَيْنِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ آدَم بِقَضِيَّةِ الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ كُنَّا تَأَوَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ مَعَالِمِ السُّنَنِ وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِمَنْ قَبْلَهُ ، وَمَعْنَى كَلَامِ آدَمَ أَنَّك يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، وَقُدِّرَ عَلَيَّ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ ، وَلَوْ حَرَصْت أَنَا ، وَالْخَلَائِقُ أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْهُ لَمْ نَقْدِرْ فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ ، وَإِذْ تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَغَفَرَ لَهُ زَالَ عَنْهُ اللَّوْمُ ، فَمَنْ لَامَهُ كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ اللَّوْمُ ، وَالْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْعَاصِيَ بَاقٍ فِي

دَارِ التَّكْلِيفِ جَارٍ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْعُقُوبَةِ ، وَاللَّوْمِ ، وَالتَّوْبِيخِ وَغَيْرِهِمَا ، وَفِي لَوْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ زَجْرٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الزَّجْرِ مَا لَمْ يَمُتْ فَأَمَّا آدَم فَمَيِّتٌ خَارِجٌ عَنْ دَارِ التَّكْلِيفِ ، وَعَنْ الْحَاجَةِ إلَى الزَّجْرِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لَهُ فَائِدَةٌ ؛ بَلْ فِيهِ إيذَاءٌ وَتَخْجِيلٌ ، ا هـ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ ذِكْرُ ذَلِكَ إنَّمَا يُفِيدُ مُبَاحَثَتَهُ عَنْ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ آدَم أَنَّ السَّبَبَ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ ، وَهَذَا جَوَابٌ صَحِيحٌ إذَا كَانَتْ الْمُبَاحَثَةُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ آدَمَ سَبَبٌ مُوقِعٌ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ ، وَقَوْلُ آدَمَ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ وَذَكَرَ فَضَائِلَهُ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ ذَلِكَ وَقَضَى بِهِ فَنَفَذَ ذَلِكَ كَمَا قَدَّرَ عَلَيَّ مَا فَعَلْت ، فَنَفَذَ فِي ؛ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ إنَّمَا غَلَبَهُ آدَم بِالْحُجَّةِ لِأَنَّ آدَمَ أَبٌ وَمُوسَى ابْنٌ وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ الِابْنِ أَبَاهُ وَلَا عَتْبُهُ ، قَالَ وَهَذَا نَاءٍ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ ، وَعَمَّا سِيقَ لَهُ ، وَقِيلَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى كَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأَكْلَةَ سَبَبَ إهْبَاطِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَسُكْنَاهُ فِي الْأَرْضِ وَنَشْرَ نَسْلِهِ فِيهَا فَيُكَلِّفُهُمْ وَيَمْتَحِنُهُمْ ؛ وَيُرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ الْأُخْرَوِيَّ ، قَالَ وَهَذَا إبْدَاءُ حِكْمَةِ تِلْكَ الْأَكْلَةِ لَا انْفِكَاكَ عَنْ إلْزَامِ تِلْكَ الْحُجَّةِ ، وَالسُّؤَالُ بَاقٍ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ ، وَقِيلَ إنَّمَا تَوَجَّهَتْ حَجَّتُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ التَّوْرَاةِ مَا ذَكَرَ ، وَاَللَّهُ

تَعَالَى قَدْ تَابَ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ وَأَسْقَطَ عَنْهُ اللَّوْمَ ، وَالْمُعَاتَبَةَ حَتَّى صَارَتْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ [ فَقَدْ ] وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَعَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ فَكَانَ هَذَا مِنْ مُوسَى نِسْبَةَ جَفَاءٍ فِي حَالِ صَفَاءٍ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْإِشَارَاتِ ( ذِكْرُ الْجَفَاءِ فِي حَالِ الصَّفَاءِ جَفَاءٌ ) وَهَذَا الْوَجْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَشْبَهَ مَا ذُكِرَ ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِلْزَامَ لَا يَلْزَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الْأَصْلُ الْحَتْمُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَكُلٌّ يَجْرِي فِيمَا قُدِّرَ لَهُ وَسَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهُوَ مِنْ أَوْضَحِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَدَفْعِ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَالِبُ خَلْقَهُ بِمَا قَضَى عَلَيْهِمْ وَقَدَّرَهُ وَلَكِنْ يُطَالِبُهُمْ بِمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَأَمَرَ ؛ فَطَالِبْ نَفْسَك مِنْ حَيْثُ يُطَالِبُك رَبُّك ، وَالسَّلَامُ ، وَرَوَيْنَا أَنَّ النَّاسَ لِمَا خَاضُوا فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ اجْتَمَعَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَرَفِيعُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ تَعَالَ نَنْظُرْ مَا خَاضَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ؛ فَقَعَدَا وَفَكَّرَا ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمَا أَنَّهُ يَكْفِي الْمُؤْمِنَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ، أَوْ سَطَّرَهُ عَلَيْهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ إثْبَاتُ الْمُنَاظَرَةِ ، وَالْحِجَاجِ وَلَوْ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ طَلَبَ الْحَقِّ وَتَقْرِيرَهُ ، وَالِازْدِيَادَ مِنْ الْعِلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( أَشْرَاطُ السَّاعَةِ ) عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ } { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ وَقَالَ فِيهِ فِي خَمْسٍ إلَيَّ آخِرِهَا .

( أَشْرَاطُ السَّاعَةِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) .
عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ .
{ إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فَلِذَلِكَ عَزَّاهُ الْمُصَنِّفُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى اصْطِلَاحِهِ ، وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إخْرَاجِ هَذَا الْمَتْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ الْإِيمَانِ وَلَفْظُهُ أَنَّهُ قَالَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُك عَنْ أَشْرَاطِهَا ، إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا ، وَإِذَا كَانَتْ الْعُرَاةُ الْحُفَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبُهْمِ فِي الْبُنْيَانِ فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ ، ثُمَّ تَلَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } } لَفْظُ مُسْلِمٍ .
( الثَّانِيَةُ ) أَشْرَاطُ السَّاعَةِ عَلَامَاتُهَا وَاحِدُهَا شَرَطٌ بِفَتْحِ الشِّينِ ، وَالرَّاءِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَمِنْهُ سُمِّيَ ( الشَّرَطُ ) لِجَعْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا ، وَقِيلَ أَشْرَاطُهَا مُقَدِّمَاتُهَا وَأَشْرَاطُ الْأَشْيَاءِ أَوَائِلُهَا وَقِيلَ الْأَشْرَاطُ جَمْعُ شَرَطٍ بِالتَّحْرِيكِ أَيْضًا ، وَهُوَ الدُّونُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ صِغَارُ أُمُورِهَا قَبْلَ قِيَامِهَا وَعَلَى الْمِثْلِ الشَّرَطُ وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ

بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ أَنَّ السَّاعَةَ لَا يَعْلَمُ وَقْتَ مَجِيئِهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِذَكَرِ أَشْرَاطِهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا بَحَثَ عَنْ عَلَامَاتِهَا لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ وَقْتِهَا .
( الثَّالِثَةُ ) لَيْسَ فِي الْآيَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا صَرَاحَةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَكِنْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كَمَا قَدْ عَرَفْته وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إنَّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ إذْ مَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَإِنَّمَا صَارَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ بِتَوْقِيفِ الرَّسُولِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ } إنَّهَا هَذِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يَعْلَمُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ .
( قُلْت ) وَمُخَالِفَتُهُ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَفْسِيرِ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ النَّفْيَ لَقَلَّتْ فَائِدَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالذِّكْرِ إلَّا اخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِهَا وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ اسْمُهُ الْوَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ أَتَى النَّبِيَّ .
فَقَالَ { إنَّ امْرَأَتِي حُبْلَى فَأَخْبِرْنِي مَاذَا تَلِدُ وَبِلَادُنَا جَدْبَةٌ فَأَخْبِرْنِي مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ ، وَقَدْ عَلِمْت مَتَى وُلِدْت فَأَخْبِرْنِي مَتَى أَمُوتُ ، وَقَدْ عَلِمْت مَا عَمِلْتُ الْيَوْمَ فَأَخْبِرْنِي مَاذَا أَعْمَلُ غَدًا وَأَخْبِرْنِي مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ } .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { وَيُنَزِّلُ } يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ النُّونِ

وَتَشْدِيدُ الزَّايِ وَإِسْكَانُ النُّونِ وَتَخْفِيفُ الزَّايِ ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي الْمَشْهُورِ ، وَالْغَيْثُ الْمَطَرُ .
{ الْخَامِسَةُ } قَدْ يَعْلَمُ الْأَنْبِيَاءٌ كَثِيرًا مِنْ الْغَيْبِ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ ، وَقَدْ يُطْلِعُ اللَّهُ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ بِالْإِلْقَاءِ فِي الْخَوَاطِرِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ أَيْ مُلْهَمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَكَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَمْلِ زَوْجَتِهِ بِنْتِ خَارِجَةَ أَظُنُّهَا أُنْثَى .
وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ عِلْمًا بِالْغَيْبِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْأَنْبِيَاءِ عِلْمٌ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ فِي قِصَّةٍ مَخْصُوصَةٍ وَلِلْأَوْلِيَاءِ ظَنٌّ بِفِرَاسَةٍ صَحِيحَةٍ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيَّةٍ أَوْ جُزْئِيَّاتٍ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعْرِفَةُ ذُكُورَةِ الْحَمْلِ وَأُنُوثَتِهِ بِطُولِ التَّجَارِبِ ، وَقَدْ يُخْطِئُ الظَّنُّ وَتَنْخَرِمُ الْعَادَةُ ، وَالْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ إبْطَالُ قَوْلِ الْكَهَنَةِ ، وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ يَسْتَسْقِي بِالْأَنْوَاءِ .
{ السَّادِسَةُ } ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْغَيْبَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَكَانَ الْوَفَاةِ لَا وَقْتَهَا وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ يَحْسِبُ حِسَابَ النُّجُومِ فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنْ شِئْت أَنْبَأْتُك نَجْمَ ابْنِك وَأَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَأَنَّك لَا تَمُوتُ حَتَّى تَعْمَى وَأَنَا لَا يَحُولُ عَلَيَّ الْحَوْلُ حَتَّى أَمُوتَ قَالَ فَأَيْنَ مَوْتُك يَا يَهُودِيُّ قَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَدَقَ اللَّهُ { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ ابْنَهُ مَحْمُومًا وَمَاتَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَمَاتَ الْيَهُودِيُّ قَبْلَ الْحَوْلِ وَمَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْمَى وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ

أَنَّ الْمُرَادَ عِلْمُ الْوَفَاةِ زَمَانًا وَمَكَانًا وَيَدُلُّ لَهُ سَبَبُ الْآيَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ مُقَاتِلٍ وَعَبَّرَ بِالْمَكَانِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا عَدَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } .
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { يُبْعَثُ } أَيْ يَخْرُجُ وَيَظْهَرُ وَلَيْسَ مِنْ مَعْنَى الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ الْإِرْسَالُ ، وَفِي رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ { يَنْبَعِثُ } بِزِيَادَةِ نُونٍ ، وَالِانْبِعَاثُ فِي السَّيْرِ الْإِسْرَاعُ .
( الثَّالِثَةُ ) الدَّجَّالُ مَأْخُوذٌ مِنْ الدَّجْلِ ، وَهُوَ التَّمْوِيهُ ، وَالْخَلْطُ وَقَوْلُهُ { قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ } كَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي أَصْلِنَا بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ قَرِيبًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ وَصَحَّ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْ النَّكِرَةِ لِوَصْفِهَا .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَدْ وُجِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ فِي الْأَعْصَارِ وَأَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَطَعَ آثَارَهُمْ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ وَمِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلٍ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { ثَلَاثٌ إذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا ، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَالدَّجَّالُ وَدَابَّةُ الْأَرْضِ } .
( الثَّانِيَةُ ) تَبَيَّنَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا } هِيَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَهَذَا يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَحَكَاهُ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ الْمُفَسِّرُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ التَّأْوِيلَ ، ثُمَّ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا إحْدَى ثَلَاثٍ إمَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَإِمَّا خُرُوجُ الدَّابَّةِ وَإِمَّا خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ تَرُدُّهُ وَتُخَصِّصُ الشَّمْسَ ( قُلْت ) وَقَدْ عَرَفْت رِوَايَةَ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَهِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَهِيَ مُشْبِهَةٌ لِهَذَا الْمَحَلِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ

وَمَأْجُوجَ ؛ خُرُوجَ الدَّجَّالِ وَزَمَنُهُمَا مُتَقَارِبٌ لَكِنْ فِي كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ اسْتِقْلَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بِذَلِكَ وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَرَتُّبُ ذَلِكَ عَلَى مَجْمُوعِهَا ، وَفِي ثُبُوتِ ذَلِكَ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ إشْكَالٌ فَإِنَّ نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهُوَ زَمَنُ خَيْرٍ كَثِيرٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ ، وَالظَّاهِرُ قَبُولُ التَّوْبَةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُقَوِّي النَّظَرَ أَيْضًا أَنَّ الْغَرْغَرَةَ هِيَ الْآيَةُ الَّتِي تُرْفَعُ مَعَهَا التَّوْبَةُ ( قُلْت ) حَالَةُ الْغَرْغَرَةِ تُشَارِكُ حَالَةَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ وَإِذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَبِتَقْدِيرِ مُشَارَكَةِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي إيمَانِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ بَلْ يَسْتَمِرُّ النَّاسُ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَتَّبِعُونَ الدَّجَّالَ وَتَشْتَدُّ غَوَايَتُهُمْ بِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ { أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ إنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي وَارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مُطْلِعِهَا ، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَالِك تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا ارْتَفِعِي اصْبَحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِك فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ ذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا

خَيْرًا } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ إذَا غَرَبَتْ كُلَّ يَوْمٍ اسْتَقَرَّتْ تَحْتَ الْعَرْشِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ مَعْنَاهُ تَجْرِي إلَى وَقْتٍ لَهَا وَأَجَلٍ لَا تَتَعَدَّاهُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَعَلَى هَذَا مُسْتَقَرُّهَا انْتِهَاءُ سَيْرِهَا عَنْ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ تَسِيرُ فِي مَنَازِلِهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مُسْتَقَرِّهَا الَّتِي لَا تُجَاوِزُهُ ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ مَنَازِلِهَا وَاخْتَارَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هَذَا الْقَوْلَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ { لَمُسْتَقَرَّ لَهَا } أَيْ إنَّهَا جَارِيَةٌ أَبَدًا لَا تَثْبُتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ( قُلْت ) كَيْفَ يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ صَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ وَمَا مُسْتَنَدُ الْعَادِلِينَ عَنْهُ إلَّا كَلَامُ أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ الْمَغِيبَاتِ فَكَيْفَ ، وَقَدْ عَارَضَهُ كَلَامُ أَصْدَقِ الْخَلْقِ وَأَعْرَفِهِمْ بِرَبِّهِ وَبِأَحْوَالِ الْغَيْبِ ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَى الْمَشْهُورِ فَكَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ فِي الْمَعْنَى لِلْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } قَالَ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ } فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ الْبَيِّنِ الْعُدُولُ عَنْهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لَهَا اسْتِقْرَارٌ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ مِنْ حَيْثُ لَا نُدْرِكُهُ وَلَا نُشَاهِدُهُ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ غَيْبٍ فَلَا نُكَذِّبُهُ وَلَا نُكَيِّفُهُ لِأَنَّ عِلْمَنَا لَا يُحِيطُ بِهِ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَ مَا سُئِلْت عَنْهُ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فِي كِتَابٍ كُتِبَ فِيهِ مَبَادِئِ أُمُورِ

الْعَالَمِ وَنِهَايَتِهَا ، وَالْوَقْتِ الَّذِي تَنْتَهِي إلَيْهِ مُدَّتُهَا فَيَنْقَطِعُ دَوَرَانُ الشَّمْسِ وَيَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ فِعْلُهَا ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَخْطُوطُ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ أَحْوَالَ الْخَلْقِ ، وَالْخَلِيقَةِ وَآجَالَهُمْ وَمَآلَ أُمُورِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ كَثُرَتْ أَقْوَالُ النَّاسِ فِي مَعْنَى مُسْتَقَرِّ الشَّمْسِ وَأَشْبَهُ مَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ انْتِهَائِهَا إلَى أَنْ تَسَامَتْ جُزْءًا مِنْ الْعَرْشِ مَعْلُومًا بِحَيْثُ تُخْضَعُ عِنْدَهُ وَتُذَلَّلُ ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِسُجُودِهَا وَتَسْتَأْذِنُ فِي سَيْرِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ مُتَوَقَّعَةً أَلَا يُؤْذَنَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَأَنْ تُؤْمَرَ بِالرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ وَبِأَنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِنْ كَانَتْ الشَّمْسُ تَعْقِلُ نُسِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْقِلُ فَعَلَ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالْفِقْهِ ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِمَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ ( الْخَامِسَةُ ) مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا الْإِيمَانُ وَأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَنْفَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْبَةُ وَاكْتِسَابُ الْخَيْرِ بَلْ يُخْتَمُ عَلَى أَحَدٍ بِالْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ { ، أَوْ كَسَبْتِ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا } يُرِيدُ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا .
( السَّادِسَةُ ) سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ قِيَامِ السَّاعَةِ وَبُدُوِّ التَّغَيُّرَاتِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فَإِذَا شُوهِدَ ذَلِكَ وَعُويِنَ حَصَلَ الْإِيمَانُ الضَّرُورِيُّ وَارْتَفَعَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ .
( السَّابِعَةُ ) ظَاهِرُ الْآيَةِ ، وَالْحَدِيثِ اسْتِمْرَارُ هَذَا الْأَمْرِ ، وَهُوَ مَنْعُ قَبُولِ الْإِيمَانِ ،

وَالتَّوْبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ الْبُلْقِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إذَا تَرَاخَى الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْعَهْدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَنَاسَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ قُبِلَتْ التَّوْبَةُ ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ لِزَوَالِ الْآيَةِ الَّتِي تَضْطَرُّ النَّاسَ إلَى الْإِيمَانِ وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَمَا أَظُنُّ الزَّمَانَ يَتَرَاخَى بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَبْقَى فِيهِ مُهْلَةٌ وَتَطَاوُلٌ بِحَيْثُ يَطُولُ الْعَهْدُ بِذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْبَعْثُ وَذِكْرُ الْجَنَّةِ ، وَالنَّارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَبَلَغَك أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْمِلُ الْخَلَائِقَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالسَّمَوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الْآيَةُ } .

الْبَعْثُ وَذِكْرُ الْجَنَّةِ ، وَالنَّارِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَبَلَغَك أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْمِلُ الْخَلَائِقَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالسَّمَوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ : وَالشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الْآيَةُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظٍ { إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ وَفِيهِ ، وَالشَّجَرَ ، وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَفِيهِ ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ ، وَفِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ ضَحِكِهِ ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } } ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { ، وَالشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ } كَمَا فِي رِوَايَتِنَا ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ { ، وَالْجِبَالَ عَلَى إصْبَعٍ } بَدَلَ الْخَلَائِقِ ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ { تَصْدِيقًا لَهُ تَعَجُّبًا لِمَا قَالَ } وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ وَانْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ كِلَاهُمَا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { إنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالْأَرْضِينَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالْجِبَالَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالْخَلَائِقَ عَلَى إصْبَعٍ ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، ثُمَّ قَرَأَ { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } } ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ بَعْدَ ذِكْرِ { السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ ، وَالشَّجَرِ عَلَى إصْبَعٍ ،

وَالْمَاءِ ، وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَسَائِرِ الْخَلَائِقِ عَلَى إصْبَعٍ } ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجِبَالَ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ مِثْلُهُ ، ثُمَّ قَالَ { ، وَالْجِبَالَ ، وَالشَّجَرَ عَلَى إصْبَعٍ ، وَالْمَاءَ ، وَالثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إصْبَعٍ ، } وَفِي رِوَايَةٍ { لَهُمَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْأَصْلُ فِي هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِكِتَابٍ نَاطِقٍ ، أَوْ خَبَرٍ مَقْطُوعٍ بِصِحَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِيمَا يَثْبُتُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُسْنَدَةِ إلَى أَصْلٍ فِي الْكِتَابِ ، أَوْ السُّنَّةِ الْمَقْطُوعِ بِصِحَّتِهَا ، أَوْ بِمُوَافَقَةِ مَعَانِيهَا وَمَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَالتَّوَقُّفُ عَنْ إطْلَاقِ الِاسْمِ بِهِ هُوَ الْوَاجِبُ وَيُتَأَوَّلُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِمَعَانِي الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَذِكْرُ الْأَصَابِعِ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ الَّتِي شَرْطُهَا مَا وَصَفْنَاهُ ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْيَدِ فِي الصِّفَاتِ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ بِثُبُوتِهَا ثُبُوتُ الْأَصَابِعِ بَلْ هُوَ تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ أَطْلَقْنَا الِاسْمَ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ قَوْلَهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ وَالْيَهُودِ مُتَّهَمُونَ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مُنَزَّلًا فِي التَّوْرَاةِ بِأَلْفَاظٍ تَدْخُلُ فِي بَابِ التَّشْبِيهِ لَيْسَ الْقَوْلُ بِهَا مِنْ مَذَاهِبِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ .
قَالَ { مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ

اسْتَعْمَلَهُ مَعَ هَذَا الْحَبْرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُنْطِقْ فِيهِ بِحَرْفٍ تَصْدِيقًا لَهُ ، أَوْ تَكْذِيبًا إنَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الضَّحِكُ الْمُخَيِّلُ لِلرِّضَى مَرَّةً وَلِلتَّعَجُّبِ ، وَالْإِنْكَارِ أُخْرَى ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ وَلَيْسَ فِيهَا لِلْأُصْبُعِ ذِكْرٌ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الرُّوَاةِ ( تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ) ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ ضَعْفٌ إذْ كَانَ لَا يَمْحَضُ شَهَادَتَهُ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَرُبَّمَا اُسْتُدِلَّ بِحُمْرَةِ اللَّوْنِ عَلَى الْخَجَلِ وَبِصُفْرَتِهِ عَلَى الْوَجَلِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِ الْحُمْرَةِ لِتَهَيُّجِ دَمٍ ، وَالصُّفْرَةِ لِثَوَرَانِ خَلْطٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالضَّحِكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْجَسِيمِ غَيْرُ سَائِغٍ مَعَ تَكَافُؤِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرُ لَكَانَ مَقُولًا عَلَى نَوْعِ مَجَازٍ وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى طَيِّهَا وَسُهُولَةِ الْأَمْرِ فِي جَمْعِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ شَيْئًا فِي كَفِّهِ فَاسْتَخَفَّ حَمْلُهُ فَلَمْ يُمْسِكْهُ بِجَمِيعِ كَفِّهِ لَكِنَّهُ نَقَلَهُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْأَمْرِ الشَّاقِّ إذَا أُضِيفَ إلَى الرَّجُلِ الْقَوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهُ يَعْمَلُهُ بِخِنْصَرِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِظْهَارُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ : الرُّمْحُ لَا أَمْلَأُ كَفِّي بِهِ ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ أَنْ يَجْمَعَ كَفَّهُ فَيَشْتَمِلَ بِهَا كُلِّهَا عَلَى الرُّمْحِ لَكِنْ يَطْعَنُ بِهِ خَلْسًا بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ قَالَ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ } فَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ جَاءَ عَلَى وِفَاقِ الْآيَةِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَصَابِعِ وَتَقْسِيمِ الْخَلِيقَةِ عَلَى أَعْدَادِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِ وَتَحْرِيفِهِمْ وَأَنَّ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْهُ ، وَالنَّكِيرِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ مُلَخَّصَةٍ ( قُلْت ) وَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَصَابِعِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِيهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَجَوُّزٍ وَتَقْرِيبٍ لِلْفَهْمِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى بِتَقْدِيرِ أَنْ يُصَدِّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا الْمَذْهَبَانِ التَّأْوِيلُ ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ فَعَلَى قَوْلِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَتَأَوَّلُونَ الْأَصَابِعَ هُنَا عَلَى الِاقْتِدَارِ ، وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ الْأُصْبُعَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْمُبَالَغَةِ ، وَالِاحْتِقَارِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ بِأُصْبُعِي أَقْتُلُ زَيْدًا أَيْ لَا كُلْفَةً عَلَيَّ فِي قَتْلِهِ وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَصَابِعُ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ يَدَ الْجَارِحَةِ مُسْتَحِيلَةٌ ، ثُمَّ قَالَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَ الْخَبَرَ فِي قَوْلِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَيْسَ ضَحِكُهُ وَتَعَجُّبُهُ وَتِلَاوَتُهُ الْآيَةَ تَصْدِيقًا لَهُ بَلْ هُوَ رَدٌّ لِقَوْلِهِ وَإِنْكَارٌ وَتَعَجُّبٌ مِنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ الْيَهُودِ التَّجْسِيمُ فَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ ( تَصْدِيقًا لَهُ ) إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَلَى مَا فَهِمَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ ) الثَّرَى بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ مَقْصُورٌ التُّرَابُ النَّدِيُّ قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ

وَمُرَادُهُمْ الَّذِي نَدَاوَتُهُ أَصْلِيَّةٌ لِتَسَفُّلِهِ وَكَوْنِهِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا حَكَاه فِي الصِّحَاحِ مِنْ قَوْلِهِمْ الْتَقَى الثَّرَيَانِ أَيْ جَاءَ الْمَطَرُ فَرَسَخَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْتَقَى هُوَ وَنَدَى الْأَرْضِ ، وَفِي جَعْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّرَى مُفْرَدًا عَنْ الْأَرْضِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) النَّوَاجِذُ بِالنُّونِ ، وَالْجِيمِ ، وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ نَاجِذٍ ، وَهُوَ آخَرُ الْأَضْرَاسِ وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ فِي أَقْصَى الْأَسْنَانِ بَعْدَ الْأَرْجَاءِ وَيُسَمَّى ضِرْسُ الْحُلُمِ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَمَالِ الْعَقْلِ يُقَالُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ إذَا اسْتَغْرَقَ فِيهِ .
( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى فَيُقَالُ لَهُ هَلْ تَمَنَّيْت ، فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ فَإِنَّ لَك مَا تَمَنَّيْت وَمِثْلَهُ مَعَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَهُمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي آخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ { حَتَّى إذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ لَك وَمِثْلُهُ مَعَهُ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ { وَعَشْرُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي آخَرِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ { فَإِنَّ لَك مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا ، أَوْ إنَّ لَك عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَيُقَالُ لَهُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى فَيُقَالُ لَهُ لَك الَّذِي تَمَنَّيْت وَعَشَرَةُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى وَيَتَمَنَّى فَيُقَالُ لَهُ هَلْ تَمَنَّيْت ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، فَيَقُولُ إنَّ لَك مَا تَمَنَّيْت وَمِثْلَهُ مَعَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { ذَلِكَ لَك وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَفِيهِ فِي آخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ { فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ تَمَنَّهُ فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى حَتَّى إنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى إذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ذَلِكَ لَك وَمِثْلُهُ مَعَهُ } قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَحَادِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَمِثْلُهُ مَعَهُ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا حَفِظْت إلَّا قَوْلَهُ ذَلِكَ لَك وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَعْلَمُ آخَرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ حَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ وَفِيهِ فَإِنَّ لَك مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا ، أَوْ أَنَّ لَك عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { فَيُقَالُ لَهُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى فَيُقَالُ لَهُ لَك

الَّذِي تَمَنَّيْت وَعَشَرَةُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { إنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } مَعْنَاهُ أَنَّ أَقَلَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَظًّا وَأَضْيَقَهُمْ مَقْعَدًا وَأَنْزَلَهُمْ مَرْتَبَةً مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ يُقَالُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْهُ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ هَذَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً وَيُنْصَبُ لَهُ فِيهِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ كَمَا بَيْنَ الْجَابِيَةِ إلَى صَنْعَاءَ } .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّمَنِّي فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ خَاصَّةٌ بِالدُّنْيَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَتَّى إنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ وَمِنْ الشَّيْءِ الْآخَرِ يُسَمِّيَ لَهُ أَجْنَاسَ مَا يَتَمَنَّى وَهَذَا مِنْ عَظِيمِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ أَوَّلًا بِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، ثُمَّ تَكَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فَزَادَ مَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ فَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لَك الَّذِي تَمَنَّيْت وَعَشَرَةُ أَضْعَافِ الدُّنْيَا قَدْ يُقَالُ إنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنْ يَكُونَ الَّذِي تَمَنَّاهُ قَدْرَ الدُّنْيَا فَأُعْطِيَهُ وَأُعْطِيَ عَشَرَةُ أَمْثَالِهِ أَيْضًا ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَمْثَالِ الدُّنْيَا فَلَا مُنَافَاةَ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { فَإِنَّ لَك مِثْلُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا } فَلَمَّا عَبَّرَ عَنْهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِاَلَّذِي تَمَنَّاهُ ، وَفِي الْأُخْرَى بِمِثْلِ الدُّنْيَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَمَنَّاهُ مِثْلُ الدُّنْيَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَالضِّعْفُ بِمَعْنَى الْمِثْلِ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا قَالَ { سَأَلَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ؟ قَالَ

هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ كَيْفَ ، وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَك مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ رَضِيت رَبِّ فَيَقُولُ لَك ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ رَبِّ رَضِيت فَيَقُولُ هَذَا لَك وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ ، وَلَك مَا اشْتَهَتْ نَفْسُك وَلَذَّتْ عَيْنُك فَيَقُولُ رَضِيت رَبِّ قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْت غَرَسْت كَرَامَتَهُمْ بِيَدَيَّ وَخَتَمْت عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الْآيَةَ قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُرَادُ أَنَّ أَحَدَ مُلُوكِ الدُّنْيَا لَا يَنْتَهِي مُلْكُهُ إلَى جَمِيعِ الْأَرْضِ بَلْ يَمْلِكُ بَعْضًا مِنْهَا ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكْثُرُ الْبَعْضُ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ فَيُعْطِي هَذَا الرَّجُلَ مِثْلَ أَحَدِ مُلُوكِ الدُّنْيَا خَمْسَ مَرَّاتٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ قَدْرُ الدُّنْيَا كُلِّهَا ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ لَك عَشَرَةُ أَمْثَالِ هَذَا قَالَ فَيَعُودُ مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إلَى مُوَافَقَةِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ فِيهَا وَلَا يَتَغَوَّطُونَ فِيهَا آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَمَجَامِرُهُمْ مِنْ أَلُوَّةٍ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ وَاحِدٍ وَيُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ فِيهَا وَلَا يَتَغَوَّطُونَ فِيهَا آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ وَمَجَامِرُهُمْ مِنْ أَلُوَّةٍ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً } " فِيهِ " فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ : لَيْلَةَ الْبَدْرِ { ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إضَاءَةً } وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ { وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ } إلَى آخِرِهِ ، وَفِي آخِرِهِ { وَأَزْوَاجُهُمْ الْحَوَرُ الْعِينُ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ } وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ { وَاَلَّذِينَ عَلَى أَسْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إضَاءَةً } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ { وَاَلَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ } وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ نَجْمٍ

فِي السَّمَاءِ إضَاءَةً ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ } الْحَدِيثَ وَذَكَرَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ { عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ } أَيْ بِضَمِّ الْخَاءِ ، وَاللَّامِ وَعَنْ شَيْخِهِ أَبِي كُرَيْبٌ { عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ } أَيْ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ .
( الثَّانِيَةُ ) الزُّمْرَةُ الْجَمَاعَةُ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا { لَيَدْخُلُنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا الْجَنَّةَ ، أَوْ سَبْعمِائَةِ أَلْفٍ لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ } فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَدَ هَذِهِ الزُّمْرَةِ .
( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إلَيْهَا جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقُوا رَبَّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْفَضْلِ وَتَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ فَمَنْ كَانَ أَفْضَلُ كَانَ إلَى الْجَنَّةِ أَسْبِقُ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { آتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَنْ لَا أُفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَك } .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ أَيْ عَلَى صِفَتِهِ أَيْ إنَّهُمْ فِي إشْرَاقِ وُجُوهِهِمْ عَلَى صِفَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ وَهِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ وَبِذَلِكَ سُمِّيَ الْقَمَرُ بَدْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَقْتَضِي مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا { لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرَهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ } .
( الْخَامِسَةُ ) اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى ذِكْرِ صِفَةِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى وَبَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الثَّانِيَةَ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إضَاءَةً ، وَفِي الدُّرِّيِّ ثَلَاثُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ فِي السَّبْعِ ( الْأَكْثَرُونَ ) دُرِّيٌّ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ، وَالْيَاءِ بِلَا هَمْزٍ ( وَالثَّانِيَةُ ) بِضَمِّ الدَّالِ مَهْمُوزٌ مَمْدُودٍ ( وَالثَّالِثَةُ ) بِكَسْرِ الدَّالِ مَمْدُودٌ مَهْمُوزٌ ، وَهُوَ الْكَوْكَبُ الْعَظِيمُ قِيلَ سُمِّيَ دُرِّيًّا لِبَيَاضِهِ كَالدُّرِّ وَقِيلَ لِإِضَاءَتِهِ وَقِيلَ لِشَبَهِهِ بِالدُّرِّ فِي كَوْنِهِ أَرْفَعَ مِنْ بَاقِي النُّجُومِ كَالدُّرِّ أَرْفَعُ الْجَوَاهِرِ وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ [ أَيْ ] إنَّ دَرَجَاتِهِمْ فِي إشْرَاقِ اللَّوْنِ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ عُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ وَتَفَاوُتِ فَضْلِهِمْ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ { لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ فِيهَا } هِيَ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُطْلَقًا وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالزُّمْرَةِ الْأُولَى ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا صِفَةَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَأَشَارَ إلَى بَقِيَّةِ الْمَنَازِلِ .

( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { آنِيَتُهُمْ الذَّهَبُ ، وَالْفِضَّةُ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ النَّوْعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ الذَّهَبَ وَلِبَعْضِهِمْ الْفِضَّةَ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةِ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا } .
( الثَّامِنَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ قَدْ يُقَالُ أَيُّ حَاجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِلْأَمْشَاطِ لَا تَتَلَبَّدُ شُعُورُهُمْ وَلَا تَنْسَحُّ وَأَيُّ حَاجَةٍ لِلْبَخُورِ وَرِيحُهُمْ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكِسْوَتُهُمْ لَيْسَ عَنْ دَفْعِ أَلَمٍ اعْتَرَاهُمْ فَلَيْسَ أَكْلُهُمْ عَنْ جُوعِ وَلَا شُرْبُهُمْ عَنْ ظَمَأٍ وَلَا تَطْيِيبُهُمْ عَنْ نَتِنٍ وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّاتٌ مُتَوَالِيَةٌ ، وَنِعَمٌ مُتَتَابِعَةٌ ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَّمَهُمْ فِي الْجَنَّةِ تَنَوُّعِ مَا كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَزَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ انْتَهَى .
( التَّاسِعَةُ ) { الْمَجَامِرُ } بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَالْجِيمِ يَكُونُ جَمْعَ مُجْمَرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ ، وَهُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ النَّارُ لِلْبَخُورِ وَيَكُونُ جَمْعَ مُجْمَرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ ، وَالْبَاقِي كَذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ وَأُعِدَّ لَهُ الْجَمْرُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ( ، وَالْأَلُوَّةُ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا وَضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِهَا هُوَ الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ ، وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ وَقِيلَ زَائِدَةٌ أَيْ إنَّ بَخُورَهُمْ الْعُودُ ، وَهُوَ الْأَلَنْجُوجُ الْمَذْكُورُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَاللَّامِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا يَلَنْجُوجُ بِالْيَاءِ أَوَّلُهُ بَدَلُ الْهَمْزَةِ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا النَّجَجُ بِحَذْفِ الْوَاوِ الَّتِي بَيْنَ الْجِيمَيْنِ ، وَالْأَلْفُ ، وَالنُّونُ فِيهِ

زَائِدَتَانِ كَأَنَّهُ يَلِجُ فِي تَضَوُّعِ رَائِحَتِهِ وَانْتِشَارِهَا ( فَإِنْ قُلْت ) إنَّمَا تَفُوحُ رَائِحَةُ الْعُودِ بِوَضْعِهِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ نَشْرِ الْعُودِ وَالْجَنَّةُ لَا نَارَ فِيهَا ( قُلْت ) قَدْ يَشْتَعِلُ بِغَيْرِ نَارٍ ، وَقَدْ تَفُوحُ رَائِحَتُهُ بِلَا اشْتِعَالٍ وَلَيْسَتْ أُمُورُ الْآخِرَةِ عَلَى قِيَاسِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَهَذَا الطَّيْرُ يَشْتَهِيهِ الْإِنْسَانُ فَيَنْزِلُ مَشْوِيًّا بِلَا شَيِّ نَارٍ وَلَا غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ { وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ } بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الشَّيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ إنَّ الْعَرَقَ الَّذِي يَتَرَشَّحُ مِنْهُمْ رَائِحَتُهُ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ ، وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ التَّغَوُّطِ ، وَالْبَوْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَإِنَّمَا هُوَ عَرَقٌ يَجْرِي مِنْ أَعْرَاضِهِمْ مِثْلُ الْمِسْكِ } يَعْنِي مِنْ أَبْدَانِهِمْ وَلَمَّا كَانَتْ أَغْذِيَةُ الْجَنَّةِ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ ، وَالِاعْتِدَالِ لَا عَجْمَ لَهَا وَلَا تَفْلَ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَضْلَةٌ تُسْتَقْذَرُ ، بَلْ تُسْتَطَابُ وَتُسْتَلَذُّ فَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْمِسْكِ الَّذِي هُوَ أَطْيَبُ طِيبِ أَهْلِ الدُّنْيَا .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ } هَكَذَا هُوَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ بِالتَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ ، وَالْأَكْثَرُ حَذْفُهَا وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ الرِّجَالِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ( أَمَا تَفَاخَرُوا أَمَّا تَذَاكَرُوا الرِّجَالُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ أَمْ النِّسَاءِ ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَوْ لَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ يَرَى مُخَّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ " اخْتَصَمَ الرِّجَالُ ، وَالنِّسَاءُ أَيُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ فَسَأَلُوا أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ فَإِذَا خَلَّتْ الْجَنَّةُ عَنْ الْعُزَّابِ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ زَوْجَتَانِ كَانَ النِّسَاءُ مِثْلَيْ الرِّجَالِ " وَيُعَارِضُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ { إنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ } وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ لِكَثْرَتِهِنَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَخْرُجُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ وَلَدِ آدَمَ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْآدَمِيَّاتِ وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ أَنَّ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْحَوَرِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ قُلْت ) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ عِنْدِ الزَّبِيدِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً } .
( فَإِنْ قُلْت ) كَيْفَ اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ

زَوْجَتَيْنِ ( قُلْت ) الزَّوْجَتَانِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ نَوْعَ النِّسَاءِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْحُورِ ، وَالْآدَمِيَّاتِ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعِ الرِّجَالِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَرِجَالُ بَنِي آدَمَ أَكْثَرُ مِنْ نِسَائِهِمْ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ وَأَكْثَرُ سَاكِنِي جَهَنَّمَ النِّسَاءُ } يَعْنِي نِسَاءُ بَنِي آدَمَ هُنَّ أَقَلُّ فِي الْجَنَّةِ وَأَكْثَرُ فِي النَّارِ ( قُلْت ) وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا فَيُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ } وَلَعَلَّ رَاوِيَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى فِي فَهْمِهِ فَأَخْطَأَ ، فَهِمَ مِنْ كَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ سَاكِنِي جَهَنَّمَ أَنَّهُنَّ أَقَلُّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ وَأَنَّهُنَّ أَكْثَرُ سَاكِنِي الْجِهَتَيْنِ مَعًا لِكَثْرَتِهِنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ تَبَيَّنَّ بِبَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الزَّوْجَتَيْنِ أَقَلُّ مَا يَكُونُ لِسَاكِنِ الْجَنَّةِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَوَرِ الْعِينِ سَبْعُونَ زَوْجَةً .
وَأَمَّا أَكْثَرُ ذَلِكَ فَلَا حَصْرَ لَهُ ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا } وَفِي رِوَايَةٍ { فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ لِلْمُؤْمِنِ لَا يَرَاهُمْ الْآخَرُونَ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ثُوَيْرٍ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ

وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً } .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { يَرَى مُخَّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ } يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ صَفَاءِ لَحْمِ السَّاقَيْنِ كَمَا يُرَى السِّلْكُ فِي جَوْفِ الدُّرَّةِ الصَّافِيَةِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { إنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يَرَى مُخَّهَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ ، وَالْمَرْجَانُ } } فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْت فِيهِ سِلْكًا ، ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لَرَأَيْته مِنْ وَرَائِهِ .
وَفِي هَذَا زِيَادَةٌ وَهِيَ صَفَاءُ الْحُلَلِ وَرِقَّتُهَا بِحَيْثُ يُرَى الْمُخُّ مِنْ وَرَائِهَا أَيْضًا وَلَوْ كَثُرَ عَدَدُهَا .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ وَاحِدٍ } بِالْإِضَافَةِ وَتَرْكِ التَّنْوِينِ أَيْ عَلَى قَلْبِ شَخْصٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنَّهَا مُطَهَّرَةٌ عَنْ مَذْمُومِ الْأَخْلَاقِ مُكَمَّلَةً لِمَحَاسِنِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً أَيْ بِقَدْرِهِمَا فَأَوْقَاتُ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَيَّامِ ، وَالسَّاعَاتِ تَقْدِيرِيَّاتٌ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَجِيءُ مِنْ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ ، وَالْقَمَرِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا التَّسْبِيحُ لَيْسَ عَنْ تَكْلِيفٍ وَإِلْزَامٍ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ تَكْلِيفٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ جَزَاءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ تَيْسِيرٍ وَإِلْهَامٍ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ ، وَالتَّحْمِيدَ ، وَالتَّكْبِيرَ كَمَا يُلْهِمُونَ النَّفَسَ وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ تَنَفُّسَ الْإِنْسَانِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ وَلَا مَشَقَّةَ فِي فِعْلِهِ وَآحَادُ التَّنَفُّسَاتِ مُكْتَسَبَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَجُمْلَتُهَا ضَرُورِيَّةٌ فِي حَقِّهِ إذْ يَتَمَكَّنُ مِنْ ضَبْطِ قَلِيلِ الْأَنْفَاسِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جَمِيعِهَا فَكَذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ تَنَوَّرَتْ بِمَعْرِفَتِهِ ، وَأَبْصَارَهُمْ ، قَدْ تَمَتَّعَتْ بِرُؤْيَتِهِ ، وَقَدْ غَمَرَتْهُمْ سَوَابِغُ نِعْمَتِهِ ، وَامْتَلَأَتْ أَفْئِدَتُهُمْ بِمَحَبَّتِهِ ، فَأَلْسِنَتُهُمْ مُلَازَمَةٌ ذِكْرَهُ ، وَرَهِينَةَ شُكْرِهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ ، انْتَهَى .

.
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقِيدُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقِيدُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، أَوْ تَغْرُبُ } وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ { مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ { لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ ، أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { لَقِيدُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ } هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ قَدْرُ يُقَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ وَقَادُ رُمْحٍ أَيْ قَدْرُ رُمْحٍ ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ } يُقَالُ بَيْنَهُمَا قَابُ قَوْسَيْنِ وَقِيبُ قَوْسَيْنِ بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ قَدْرُ قَوْسَيْنِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَحْتَمِلُ قَدْرَ رَمْيَتِهِمَا ( قُلْت ) هَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { لَقِيدُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ } وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ( مَوْضِعُ قِدِّهِ ) هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ ، وَالْمُرَادُ بِالْقِدِّ هُنَا السَّوْطِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ سَيْرٌ يُقَدُّ مِنْ جِلْدٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ وَسُمِّيَ السَّوْطُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَدُّ أَيْ يُقْطَعُ طُولًا ، وَالْقَدُّ الشَّقُّ بِالطُّولِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ ، وَالْقِدَّةُ أَخَصُّ مِنْهُ وَحَكَى فِي الْمَشَارِقِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِدِّ هُنَا الشِّرَاكُ .
( الثَّالِثَةُ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي لَفْظِهِ تَقْدِيرٌ أَيْ لَقَدْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسَعُ سَوْطَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ ذَلِكَ وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَفِيهِ تَعْظِيمُ شَأْنِ

الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْهَا ، وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْعَادَةِ خَيْرٌ مِنْ مَجْمُوعِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي رِوَايَتِنَا { خَيْرٌ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ } وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، أَوْ تَغْرُبُ } وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَيُرَادُ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ كُلَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّنْيَا وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ أَنَّ لِلْمُتَكَلِّمِينَ قَوْلَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الدُّنْيَا : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْهَوَاءِ ، وَالْجَوِّ ( وَالثَّانِي ) أَنَّهَا كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْجَوَاهِرِ ، وَالْأَعْرَاضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ادَّخَرَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ النَّعِيمِ ، وَالْخَيْرَاتِ ، وَاللَّذَّاتِ مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدُ مِنْ الْخَلْقِ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ فَذَكَرَ الرُّؤْيَةَ ، وَالسَّمْعَ لِأَنَّهُ يُدْرَكُ بِهِمَا أَكْثَرُ الْمَحْسُوسَاتِ ، وَالْإِدْرَاكُ بِالذَّوْقِ ، وَالشَّمِّ ، وَاللَّمْسِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ طَرِيقًا إلَّا تَوَهَّمَهَا بِفِكْرٍ وَخُطُورٍ عَلَى قَلْبٍ فَقَدْ جَلَّتْ وَعَظُمَتْ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا فِكْرٌ وَخَاطِرٌ ، وَلَا غَايَةَ فَوْقَ هَذَا فِي إخْفَائِهَا ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ عِظَمِ شَأْنِهَا عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ دُونَ التَّفْصِيلِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ .
وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ النَّاسِ لِتَعْيِينِهِ ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ يَنْفِيهِ الْخَبَرُ نَفْسُهُ إذْ قَدْ نَفَى عِلْمَهُ ، وَالشُّعُورَ بِهِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ قَالَ وَيَشْهَدُ لَهُ وَيُحَقِّقُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ أَيْ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ يَعْنِي أَنَّ الْمُعَدَّ الْمَذْكُورَ غَيْرُ الَّذِي أَطْلَعَ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَبَلْهَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ بِمَعْنَى دَعْ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَمَعْنَاهُ دَعْ مَا أَطْلَعَكُمْ عَلَيْهِ فَاَلَّذِي لَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَيْهِ أَعْظَمُ فَكَأَنَّهُ أَضْرَبَ عَنْهُ اسْتِقْلَالًا فِي جَنْبِ مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ وَقِيلَ

مَعْنَى بَلَّهُ كَيْفَ .
( الثَّالِثَةُ ) إنْ ( قُلْت ) رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إلَيْهَا فَقَالَ اُنْظُرْ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَجَاءَهَا فَنَظَرَ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إلَّا دَخَلَهَا فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَقَالَ ارْجِعْ إلَيْهَا فَانْظُرْ إلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا فَرَجَعَ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِك لَقَدْ خِفْت أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ } .
فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَطْلَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِيهَا فَقَدْ رَأَتْهُ عَيْنٌ ( قُلْت ) الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدِهَا ) أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا بَعْدَ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمُورًا كَثِيرَةً لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا جِبْرِيلُ وَلَا غَيْرُهُ فَتِلْكَ الْأُمُورُ هِيَ الْمُشَارِ إلَيْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْيُنِ ، وَالْآذَانِ أَعْيُنُ الْبَشَرِ وَآذَانُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَلَا مَانِعَ مِنْ اطِّلَاعِ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّ ذَلِكَ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِي أَثْنَائِهِ { وَيَقُولُ رَبُّنَا قُومُوا إلَى مَا أَعْدَدْت لَكُمْ مِنْ الْكَرَامَةِ فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مَا لَمْ تَنْظُرْ الْعُيُونُ إلَى مِثْلِهِ ، وَلَمْ تَسْمَعْ الْأَذَانُ ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ فَنَحْمِلُ لَنَا مَا

اشْتَهَيْنَا } الْحَدِيثَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ { أَعْدَدْت } لِأَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَارُكُمْ هَذِهِ مَا يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي يُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً ، فَقَالَ إنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا } .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَارُكُمْ هَذِهِ مَا يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ ، قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا } ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي يُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً فَقَالَ إنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَوْ جُمِعَ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ النَّارِ الَّتِي يُوقِدُهَا بَنُو آدَمَ لَكَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ جَهَنَّمَ الْمَذْكُورَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ جُمِعَ حَطَبُ الدُّنْيَا فَأُوقِدَ كُلُّهُ حَتَّى صَارَ نَارًا لَكَانَ الْجُزْءُ الْوَاحِدُ مِنْ أَجْزَاءِ نَارِ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا أَشَدُّ مِنْ حَرِّ نَارِ الدُّنْيَا كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثُ وَقَوْلُهُمْ { وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً } إنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُخَفَّفَةٌ مِنْ الثَّقِيلَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ بَيْن وَهَذِهِ اللَّامُ هِيَ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ إنْ النَّافِيَةِ ، وَالْمُخَفَّفَةِ مِنْ الثَّقِيلَةِ وَهِيَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ بِمَعْنَى مَا ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إلَّا ، تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ مَا كَانَتْ إلَّا كَافِيَةً وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إنَّهَا كَانَتْ كَافِيَةً فَأَجَابَهُمْ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بِأَنَّهَا كَمَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا فِي الْمِقْدَارِ ، وَالْعَدَدِ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ ضِعْفًا } انْتَهَى .
( قُلْت ) كَذَا وَقَفْت عَلَيْهِ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ الْمُفْهِمِ عَلَيْهَا خَطَّ الْمُصَنِّفُ وَتِسْعِينَ وَصَوَابُهُ وَسِتِّينَ فَهُوَ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ وَلَعَلَّ التِّسْعِينَ سَبْقُ قَلَمٍ مِنْ نَاسِخٍ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا بِالنِّسْبَةِ لِلْقَدْرِ ، وَالْعَدَدِ وَثَانِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَرِّ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا وَثَانِيًا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَرِّ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ وَلَا يَضُرُّ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ وَتَكْرِيرُهُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا ذَكَرَ تَفْضِيلَ جَهَنَّمَ فِي الْحَرِّ بِهَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَقَالَ الصَّحَابَةُ إنَّ حَرَّ نَارِ الدُّنْيَا كَانَ كَافِيًا فِي الْعُقُوبَةِ ، وَالِانْتِقَامِ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَوَّلًا بَعْدَ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ إنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِهَذَا الْقَدْرِ فِي الْحَرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ هَذِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْقَرِيبِ لِحُضُورِهَا وَمُشَاهَدَتِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقْلِيلِ ، وَالِاحْتِقَارِ وَقَوْلُهُ ( { مَا يُوقِدُ بَنُو آدَمَ } ) تَابِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ بَدَلًا ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ مَعَ مَا قَبْلَهُ تَرْجِيحُ جَانِبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّ النَّارَ الَّتِي هِيَ النِّقْمَةُ الْمُعَدَّةُ لِأَهْلِ الْمُخَالِفَةِ مُقَدَّرَةٌ قَدْ عَرَفَ نِسْبَةَ زِيَادَتِهَا عَلَى نَارِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ النِّعْمَةُ الْمُعَدَّةُ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ لَا تَقْدِيرَ لَهَا وَلَا نِسْبَةَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا ، وَلَمْ يَنْحَصِرْ فِي قَدْرٍ مَخْصُوصٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَم مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَم مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) النُّورُ جِسْمٌ لَطِيفٌ مَشْرِقٌ وَفَسَّرَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ بِالضِّيَاءِ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الضِّيَاءَ أَبْلَغُ مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً ، وَالْقَمَرَ نُورًا } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ } حَيْثُ شَبَّهَ هُدَاهُ بِالنُّورِ ، وَلَمْ يُشْبِهْهُ بِالضِّيَاءِ فَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَوْ شُبِّهَ بِالضِّيَاءِ لَزِمَ أَنْ لَا يَضِلَّ أَحَدٌ بِخِلَافِ النُّورِ كَضَوْءِ الْقَمَرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَهُ الضَّلَالُ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُ وَيُطْلَقُ النُّورُ أَيْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّارِ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا ، وَلَمْ يَنْحَصِرْ النُّورُ فِي ضَوْءِ النَّارِ فَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ ضَوْءٍ لَا مِنْ نَارٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِنَوْعِ ذَلِكَ الضَّوْءِ وَلَوْ كَانَ مِنْ ضَوْءِ نَارٍ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ مَحْذُورٌ فَالْمَخْلُوقُ مِنْ ضَوْءِ النَّارِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ النَّارِ .
( الثَّالِثَةُ ) الْجَانُّ الْجِنُّ { وَمَارِجُ النَّارِ } بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ لَهَبُهَا الْمُخْتَلِطُ بِسَوَادِهَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ ، وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ اللَّهَبُ الْمُخْتَلِطُ وَقِيلَ نَارٌ دُونَ الْحِجَابِ مِنْهَا هَذِهِ الصَّوَاعِقُ وَحُكِيَ فِي الْإِكْمَالِ هَذَا الثَّانِي عَنْ الْفَرَّاءِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { وَخُلِقَ آدَم مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ } أَيْ مِنْ طِينٍ كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ .

وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { قَوْمٌ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } وَزَادَ الْبُخَارِيُّ { كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ قُلْت وَمَا الثَّعَارِيرُ ؟ قَالَ الضَّغَابِيسُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { يَحْتَرِقُونَ فِيهَا إلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ } .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ قَوْمًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } ، وَفِي لَفْظٍ { قَوْمٌ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ { إنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ قَوْمًا مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ } زَادَ الْبُخَارِيُّ { كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ قُلْت وَمَا الثَّعَارِيرُ ؟ قَالَ الضَّغَابِيثُ } كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ الْفَقِيرِ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ { أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا إلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَ { يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيسُ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ فِيهِ ، { ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ وَتَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الْحَبِّ فِي السَّيْلِ وَيَذْهَبُ بِحُرَاقِهِ ، ثُمَّ يَسِيلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ يَدْخُلُ فِيهَا فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي إخْرَاجِ قَوْمٍ مِنْ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنْ كَانَ سَالِمًا مِنْ الْمَعَاصِي كَالصَّغِيرِ ،

وَالْمَجْنُونِ الَّذِي اتَّصَلَ جُنُونُهُ بِالْبُلُوغِ ، وَالتَّائِبِ تَوْبَةً صَحِيحَةً مِنْ الشِّرْكِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي إذَا لَمْ يُحْدِثْ مَعْصِيَةً بَعْدَ تَوْبَتِهِ ، وَالْمُوَفَّقُ الَّذِي لَمْ يُبْتَلَ بِمَعْصِيَةٍ أَصْلًا فَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَصْلًا لَكِنَّهُمْ يَرِدُونَهَا خَاصَّةً ، وَالْوُرُودُ عَلَى الصَّحِيحِ هُوَ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ عَنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ وَأَلْحَقَهُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ الْقَدْرَ الَّذِي يُرِيدُهُ ، ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَوْ عَمِلَ مِنْ الْمَعَاصِي مَا عَمِلَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ عَمِلَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ مَا عَمِلَ .
( الثَّالِثَةُ ) قَدْ تَبَيَّنَ بِالطَّرِيقِ الْأُخْرَى أَنَّ إخْرَاجَ هَؤُلَاءِ بِالشَّفَاعَةِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَمَنَعَ مِنْهَا الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ الْفَاسِدِ فِي تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ ، وَالشَّفَاعَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ خَمْسٌ لَا يُنْكِرُ هَؤُلَاءِ مِنْهَا قِسْمَيْنِ وَهُمَا الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى لِلْإِرَاحَةِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَتَعْجِيلِ الْحِسَابِ ، وَالشَّفَاعَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا .
وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ هَذِهِ وَهِيَ إخْرَاجُ قَوْمٍ مِنْ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا ، وَالشَّفَاعَةُ فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ، وَفِي قَوْمٍ حُوسِبُوا وَاسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيُشْفَعُ فِي عَدَمِ دُخُولِهِمْ إيَّاهَا .
( الرَّابِعَةُ ) الثَّعَارِيرُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ رَاءَانِ مُهْمَلَتَانِ بَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ قَدْ عَرَفْت تَفْسِيرَهَا فِي الْحَدِيثِ

بِالضَّغَابِيسِ وَهِيَ بِالضَّادِ ، وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ ، ثُمَّ يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ ، ثُمَّ سِينٌ مُهْمَلَةٌ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ هِيَ قِثَّاءٌ صِغَارٌ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ شِبْهُ قِثَّاءٍ صَغِيرٍ يُؤْكَلُ يَعْنِي الضَّغَابِيسُ وَهِيَ الشَّعَارِيرُ أَيْضًا بِالشِّينِ أَيْ الْمُعْجَمَةِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ الثَّعَارِيرُ وَاحِدُهَا ثُعْرُورٌ بِضَمِّ الثَّاءِ وَهِيَ رُءُوسُ الضَّرَاثِيتِ تَكُونُ بَيْضَاءَ شُبِّهُوا بِهَا وَقِيلَ هِيَ شَيْءٌ يَخْرُجُ فِي أُصُولِ السَّمَرِ ، قَالَ وَالضَّغَانِيثُ شِبْهُ الْعَرَاجِينِ تَنْبُتُ فِي أُصُولِ الثُّمَامِ قَالَ ، وَالثَّعَارِيرُ الطَّرَاثِيتُ وَالطُّرْثُوثُ بِضَمِّ الثَّاءِ نَبَاتٌ كَالْقُطْنِ مُسْتَطِيلٌ وَقِيلَ الثَّعَارِيرُ شِبْهُ الْعَسَالِيجِ يَنْبُتُ فِي الثُّمَامِ ، وَفِي الْجَمْهَرَةِ الطُّرْثُوثُ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي الرَّمَلِ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ الضَّغَابِيثُ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ الثُّمَامِ يُشْبِهُ الْهِلْيُونَ يُسْلَقُ بِالْخَلِّ ، وَالزَّيْتِ وَيُؤْكَلُ وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ بِالْحِجَازِ [ يَخْرُجُ قَدْرَ شِبْرٍ أَرَقُّ مِنْ الْأَصَابِعِ رُخْصٌ لَا وَرَقَ لَهُ أَخْضَرُ فِي غُبْرَةٍ ] يَنْبُتُ فِي أَجْنَابِ الشَّجَرِ وَفِي الْإِذْخِرِ [ فِيهِ حُمُوضَةٌ يُؤْكَلُ نِيئًا فَإِذَا اُكْتُهِلَ فَهِيَ الثَّعَارِيرُ ] وَقِيلَ هُوَ الْأَقِطُ مَا دَامَ رَطْبًا وَوَجَدْت عَنْ الْقَابِسِيِّ [ أَنَّهُ ] صَدَفَ الْجَوْهَرَ ، وَقَدْ يُعَضِّدُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ كَأَنَّهُمْ اللُّؤْلُؤُ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ { فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الثَّعَارِيرُ وَكَأَنَّهُمْ الضَّغَابِيسُ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ ا هـ .
وَفِيهِ مَا يُفَرِّقُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ ، وَالْمَشْهُورُ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الضَّغَابِيسَ صِغَارُ الْقِثَّاءِ ( الْخَامِسَةُ ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ : شُبِّهُوا بِالْقِثَّاءِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْقِثَّاءَ يُنَمَّى سَرِيعًا وَقِيلَ هِيَ رُءُوسُ الطَّرَاثِيثِ تَكُونُ بَيْضَاءَ شُبِّهُوا بِبَيَاضِهَا وَاحِدُهَا طُرْثُوثٌ ، وَهُوَ نَبْتٌ يُؤْكَلُ (

قُلْت ) وَيَظْهَرُ عِنْدِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُمْ شُبِّهُوا بِهَا فِي صِغَرِهَا وَحَقَارَةِ قَدْرِهَا فَإِذَا أُنْشِئُوا خَلْقًا لِلْجَنَّةِ صَارَتْ لَهُمْ بَهْجَةٌ وَنَضَارَةٌ ، وَقَدْرٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْ قَدْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ { فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيسُ } وَالسَّمَاسِمُ بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ .
وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ جَمْعُ سِمْسِمٍ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الشَّيْرَجُ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَعِيدَانُهُ تَرَاهَا إذَا قُلِعَتْ وَتُرِكَتْ لِيُؤْخَذَ حَبُّهَا دِقَاقًا سَوْدَاءَ كَأَنَّهَا مُحْتَرِقَةٌ ، ثُمَّ قَالَ وَمَا أَشْبَهَ أَنْ تَكُونَ اللَّفْظَةُ مُحَرَّفَةً وَرُبَّمَا كَانَتْ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّاسَمِ أَيْ وَهُوَ بِحَذْفِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا حَبٌّ أَسْوَدُ كَالْأَبَنُوسِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَا نَعْرِفُ مَعْنَى السَّمَاسِمِ هُنَا وَلَعَلَّ صَوَابَهُ السَّاسَمُ ، وَهُوَ أَشْبَهُ ، وَهُوَ عُودٌ أَسْوَدُ وَقِيلَ هُوَ الْأَبَنُوسُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ قَالَ بَعْضُهُمْ السَّمَاسِمُ كُلُّ نَبْتٍ ضَعِيفٍ كَالسِّمْسِمِ ، وَالْكُزْبَرَةِ وَقَالَ آخَرُونَ لَعَلَّهُ السَّآسِمُ مَهْمُوزٌ ، وَهُوَ الْأَبَنُوسُ شَبَّهَهُمْ بِهِ فِي سَوَادِهِ انْتَهَى .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ { يَحْتَرِقُونَ فِيهَا إلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ } هُوَ جَمْعُ دَارَةٍ وَهِيَ مَا يُحِيطُ بِالْوَجْهِ مِنْ جَوَانِبِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ دَارَةَ الْوَجْهِ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ السُّجُودِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحِ { حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ } ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ شَيْئًا مِنْ أَعْضَاءِ السُّجُودِ السَّبْعَةِ الْمَأْمُورِ بِالسُّجُودِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْجَبْهَةُ ، وَالْيَدَانِ ، وَالرُّكْبَتَانِ ، وَالْقَدَمَانِ ، وَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَنْكَرَهُ

الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ الْمُرَادُ بِأَثَرِ السُّجُودِ الْجَبْهَةُ خَاصَّةً .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَخْصُوصُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ بِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ النَّارِ إلَّا دَارَاتُ الْوُجُوهِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَتَسْلَمُ جَمِيعُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ مِنْهُمْ عَمَلًا بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ فَيُعْمَلُ بِالْعَامِّ إلَّا مَا خُصَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْت ) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَبْهَةِ خَاصَّةً فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ دَارَاتِ الْوُجُوهِ أَوْسَعُ مِنْ الْجَبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ مُؤَلِّفُهُ : وَقَدْ انْتَهَى الْغَرَضُ بِنَا فِيمَا جَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ الْمَنِيعِ ، وَالْمِثَالِ الْبَدِيعِ أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِهِ لِلْخَاصِّ ، وَالْعَامِّ عَلَى مَمَرِّ الشُّهُورِ ، وَالْأَعْوَامِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَهَدْءٍ ، إنَّهُ بِالْإِجَابَةِ كَفِيلٌ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26