كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عِلَّةَ نَقْضِ طَهَارَتِهِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا تَعَرُّضَ فِي الْحَدِيثِ لِلنَّوْمِ وَقَدْ يُؤَدِّي النُّعَاسُ إلَى النَّوْمِ وَقَدْ لَا يُؤَدِّي إلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ الْمُصَلِّي عَلَى صِفَةِ النَّاعِسِ حَتَّى يَفْرُغَ .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْحَضِّ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ بِخُشُوعٍ وَفَرَاغِ قَلْبٍ وَنَشَاطٍ وَتَعَقُّلٍ لِمَا يَقْرَأهُ وَيَدْعُو بِهِ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِّ نَفْسِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ يَسْتَغْفِرُ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ رُبَّمَا قَلَبَ الدُّعَاءَ فَدَعَا عَلَى نَفْسِهِ أَمَّا الشَّتْمُ فَلَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ { لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ } قَالَهُ فِي قِصَّةِ وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ حِينَ ضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ .
وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ { وَلَا عَلَى خَدَمِكُمْ } وَقَالَ فِي آخِرِهِ { فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ إجَابَةً } وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِيمَنْ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِقَصْدِ ذَلِكَ وَحَدِيثُ الْبَابِ فِيمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لِغَلَبَةِ النُّعَاسِ وَنَحْوِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِذَلِكَ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسُبَّ نَفْسَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى سَبِّ نَفْسِهِ هُنَا الدُّعَاءُ عَلَيْهَا ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ { فَيَسُبَّ } الرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى يَذْهَبُ وَالنَّصْبُ جَوَابًا لِلتَّرَجِّي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لِعَلَيَّ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ } عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ بِالنَّصْبِ .

بَابُ قِيَامِ رَمَضَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمَعَهُ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَاجْتَمَعَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ مِنْ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ أَوْ الرَّابِعَةُ امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ حَتَّى اغْتَصَّ بِأَهْلِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ النَّاسُ يُنَادُونَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا زَالَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَكَ الْبَارِحَةَ قَالَ أَمَا إنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ أَمْرُهُمْ وَلَكِنِّي خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْهِمْ } زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ { فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ } .

بَابُ قِيَامِ رَمَضَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمَعَهُ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَاجْتَمَعَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ مِنْ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ أَوْ الرَّابِعَةُ امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ حَتَّى اغْتَصَّ بِأَهْلِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ النَّاسُ يُنَادُونَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَخْرُجْ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا زَالَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَك الْبَارِحَةَ قَالَ أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ أَمْرُهُمْ وَلَكِنِّي خَشِيت أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِي رِوَايَتَيْ عُقَيْلٍ وَيُونُسَ الْجَزْمُ بِأَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي لَمْ يَخْرُجْ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الرَّابِعَةُ وَرِوَايَةُ النَّسَائِيّ هَذِهِ أَوْرَدَهَا فِي الصَّوْمِ وَزَادَ فِيهَا { وَكَانَ يُرَغِّبُهُمْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ } الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ هَذَا مِنْ جُمْلَتِهَا كُلُّهَا عِنْدِي خَطَأٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَكَانَ يُرَغِّبُهُمْ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْ يُفْعَلَ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَرَكَهُ لِمَعْنًى قَدْ أُمِنَ بِوَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ خَشْيَةُ الِافْتِرَاضِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِعْلَهُ عَنْ عَلِيٍّ

وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ وَزَاذَانَ وَأَبِي الْبَخْتَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصَارَ مِنْ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُمْ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ فَقَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا هَؤُلَاءِ ؟ فَقِيلَ نَاسٌ لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ أَصَابُوا وَنِعْمَ مَا صَنَعُوا } قَالَ أَبُو دَاوُد وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْقَوِيِّ ، مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ضَعِيفٌ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ السَّهَرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَتْ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَقَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَتْ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ

فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا فَلَمَّا كَانَتْ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَالنَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ قَالَ الرَّاوِي قُلْت وَمَا الْفَلَاحُ ؟ قَالَ السَّحُورُ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ جَائِزٌ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَضِّهِ عَلَيْهِ وَعَمَلِهِ بِهِ وَأَنَّ عُمَرَ إنَّمَا سَنَّ مِنْهُ مَا قَدْ سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ فِعْلَهَا فُرَادَى فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيَالِي وَبَعْدَهَا وَتُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَإِنَّمَا وَقَعَ تَغْيِيرُهُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَاعْتَرَفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهَا مَفْضُولَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ { احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً بِخُصْفَةٍ أَوْ حَصِيرَةٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا فَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا فَقَالَ لَهُمْ مَا زَالَ لَكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ } : لَفْظُ مُسْلِمٍ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَرَوَى ابْنُ

أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِهِ سَالِمٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقُومُونَ مَعَ النَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ تَكُونُ أَنْتَ تَفُوهُ بِالْقُرْآنِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُفَاهَ عَلَيْك بِهِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ تَنْصَبُّ كَأَنَّك حِمَارٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعِي إلَّا سُورَةٌ أَوْ سُورَتَانِ لَأَنْ أُرَدِّدَهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ إنْ كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَلَا يَخَافُ الْكَسَلَ عَنْهَا وَلَا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِتَخَلُّفِهِ فَالِانْفِرَادُ ، وَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ هَذَا فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ فَفِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهِ وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ آمِنًا مِنْ الْكَسَلِ لَا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِتَخَلُّفِهِ فَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ هَذِهِ فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ قَطْعًا وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ وَجْهَانِ لِلْأَصْحَابِ وَقِيلَ إنَّهُ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ تَرْكَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فِي التَّرَاوِيحِ إنَّمَا كَانَ لِمَعْنًى وَقَدْ زَالَ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالُوا لَمْ يَعْتَرِفْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهَا مَفْضُولَةٌ وَقَوْلُهُ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيحُ الِانْفِرَادِ وَلَا تَرْجِيحُ فِعْلِهَا فِي الْبَيْتِ وَإِنَّمَا فِيهِ تَرْجِيحُ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ وَكُلُّ مَنْ اخْتَارَ التَّفَرُّدَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَلَّا يَنْقَطِعَ مَعَهُ الْقِيَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا الَّذِي يَنْقَطِعُ مَعَهُ الْقِيَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ، قَالَ وَقَدْ

أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ عَنْ قِيَامِ رَمَضَانَ فَصَارَ هَذَا الْقِيَامُ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَمَنْ فَعَلَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ انْفَرَدَ كَالْفُرُوضِ الَّتِي عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ نَظَرٌ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا هُوَ السُّنِّيَّةُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَعِبَارَتُهُ وَالسُّنَّةُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَنْ إقَامَتِهَا كَانُوا مُسِيئِينَ وَلَوْ أَقَامَهَا الْبَعْضُ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ تَارِكٌ لِلْفَضِيلَةِ لِأَنَّ أَفْرَادَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْهُمْ التَّخَلُّفُ انْتَهَى .
وَكَلَامُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ لَوْ قَامَ النَّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِ حَتَّى يَقُومُوا فِيهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ قَدْ قَامَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَمَلَ الصَّحَابَةِ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي جَمَاعَةٍ وَمَالِكٌ أَحَقُّ النَّاسِ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي التَّمَسُّكِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ انْتَهَى .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ قُلْت فَيَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةُ ) لَمْ يُبَيَّنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ الَّتِي صَلَّاهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيَالِيَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { مَا زَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً } فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ فَعَلَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَكِنَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُقْتَدِينَ بِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ صَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ وَهُوَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً .
وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً وَفِي رِوَايَةٍ بِإِحْدَى عَشْرَةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ ثُمَّ قَامُوا بِعِشْرِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ لَمْ يُدْرِكْ وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيُّ وَشُكَيْلِ بْنِ شَكَلٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَالْحَارِثِ الْهَمْدَانِيُّ وَأَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا انْتَهَى وَعَدُّوا مَا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَالْإِجْمَاعِ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ } ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِرِوَايَةِ أَبِي شَيْبَةَ جَدِّ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَاخْتَارَ

مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ وَقَالَ إنَّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالْمَدِينَةِ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ قَالَ أَدْرَكْت النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ يُصَلُّونَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُومُونَ بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً يُوتِرُونَ مِنْهَا بِخَمْسٍ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَصَالِحٌ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَا يَدْرِي مَنْ النَّاسُ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فَلَعَلَّهُ قَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنْ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ فَعَلُوهُ لَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَصْرِهِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ انْتَهَى وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مُسَاوَاةَ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَطُوفُونَ سَبْعًا بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ فَجَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَكَانَ كُلِّ سَبْعٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مِنْهَاجِهِ فَمَنْ اقْتَدَى بِأَهْلِ مَكَّةَ فَقَامَ بِعِشْرِينَ فَحَسَنٌ وَمَنْ اقْتَدَى بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَامَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا بِمَا صَنَعُوا الِاقْتِدَاءَ بِأَهْلِ مَكَّةَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْفَضْلِ لَا الْمُنَافَسَةَ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ قَالَ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى عِشْرِينَ وَقَرَأَ فِيهَا بِمَا يَقْرَؤُهُ غَيْرُهُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ كَانَ أَفْضَلَ لِأَنَّ طُولَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قِيلَ وَالسِّرُّ فِي الْعِشْرِينَ أَنَّ الرَّاتِبَةَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ فَضُوعِفَتْ فِيهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِدٍّ وَتَشْمِيرٍ انْتَهَى وَلَمَّا وَلِيَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ إمَامَةَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَحَيًّا سُنَّتَهُمْ الْقَدِيمَةَ فِي ذَلِكَ مَعَ

مُرَاعَاةِ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ فَكَانَ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً عَلَى الْمُعْتَادِ ثُمَّ يَقُومُ آخِرَ اللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ بِسِتَّ عَشْرَةَ رَكْعَةً فَيَخْتِمُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَتْمَتَيْنِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَهُ فَهُمْ عَلَيْهِ إلَى الْآنَ وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَةً يُوتِرُ بِسَبْعٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ضِيقٌ وَلَا حَدٌّ يُنْتَهَى إلَيْهِ لِأَنَّهُ نَافِلَةٌ فَإِنْ أَطَالُوا الْقِيَامَ وَأَقَلُّوا السُّجُودَ فَحَسَنٌ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ وَإِنْ أَكْثَرُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَحَسَنٌ .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { اغْتَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ } أَيْ امْتَلَأَ بِهِمْ وَضَاقَ عَنْهُمْ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ غَصَّ الْبَيْتُ امْتَلَأَ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ الْمَنْزِلُ غَاصٌّ بِالْقَوْمِ أَيْ مُمْتَلِئٌ بِهِمْ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ غَصَّ الْمَكَانُ بِأَهْلِهِ ضَاقَ وَاعْلَمْ أَنَّا كُنَّا ضَبَطْنَا هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ اغْتَصَّ عَنْ شَيْخِنَا وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ثُمَّ لَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا فِي اللُّغَةِ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تُسْتَعْمَلْ إلَّا مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ فَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ جَوَازُ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا الِانْفِرَادُ إلَّا فِي نَوَافِلَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْعِيدُ وَالْكُسُوفُ وَالِاسْتِسْقَاءُ وَكَذَا التَّرَاوِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ إلَى اسْتِحْبَابِ الْجَمَاعَةِ فِي مُطْلَقِ النَّوَافِلِ .

( السَّادِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ جَوَازُ النَّافِلَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ أَفْضَلَ وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فَعَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالُ الْجُمْهُورِ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِيهِ جَوَازُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ إنْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهُمْ بَعْدَ اقْتِدَائِهِمَا حَصَلَتْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لَهُ وَلَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَلَا تَحْصُلُ لِلْإِمَامِ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَقَدْ نَوَوْهَا قُلْت هَذِهِ وَاقِعَةٌ مُحْتَمَلَةٌ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ حِينَ أَحَسَّ بِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ وَالنِّيَّةُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا وَفِيهِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ وَخَوْفُ مَفْسَدَةٍ أَوْ مَصْلَحَتَانِ اُعْتُبِرَ أَهَمُّهُمَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَأَى الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَصْلَحَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَمَّا عَارَضَهُ خَوْفُ الِافْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ تَرَكَهُ لِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تُخَافُ مِنْ عَجْزِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لِلْفَرْضِ قُلْت يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيهِ دَلِيلٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ لِأَنَّ اكْتِسَابَهُمْ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ مَصْلَحَةٌ وَتَرْكَهُمْ الْفَرْضَ مَفْسَدَةٌ وَفِي هَذَا الْفِعْلِ جَلْبُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ وَفِي تَرْكِهِ دَرْءُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فَقُدِّمَ دَرْءُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى جَلْبِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ وَالنَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَرَدَّدَ هَلْ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَوْ مِنْ تَقْدِيمِ أَهَمِّ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَقَدْ عَرَفْتَ مَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ وَكَبِيرَ الْقَوْمِ إذَا فَعَلَ شَيْئًا خِلَافَ مَا يَتَوَقَّعُهُ أَتْبَاعُهُ وَكَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَذْكُرُهُ لَهُمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَإِصْلَاحًا لِذَاتِ الْبَيْنِ لِئَلَّا يَظُنُّوا خِلَافَ هَذَا وَرُبَّمَا ظَنُّوا ظَنَّ السُّوءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ { وَلَكِنِّي خَشِيت أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْهِمْ } ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَقَّعَ تَرَتُّبَ افْتِرَاضِ قِيَامِ رَمَضَانَ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَيْهِ وَفِي ارْتِبَاطِ افْتِرَاضِ الْعِبَادَةِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا إشْكَالٌ وَلَعَلَّ لِلْحَدِيثِ مَعْنًى غَيْرَ ظَاهِرِهِ وَلَمْ أَرَ مَنْ كَشَفَ الْغِطَاءَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا يُقَامُ لِشَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ وَإِنْ فُعِلَتْ فِي جَمَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَنُقِلَ وَهُوَ إجْمَاعٌ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ فِي الصِّيَامِ وَمَعْنَاهُ وَالْأَمْرُ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُصَلِّي قِيَامَ رَمَضَانَ فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا حَتَّى جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَضَى صَلَاةَ الْفَجْرِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ تَشَهَّدَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ اللَّيْلَةَ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ أَنَّهُ يُقَالُ جَرَى اللَّيْلَةَ كَذَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَهَكَذَا يُقَالُ اللَّيْلَةُ إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ يُقَالُ الْبَارِحَةُ انْتَهَى لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا زَالَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَك الْبَارِحَةَ } وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرَى بَعْدَ الزَّوَالِ وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ الْكَلَامَ بَعْدَ الصُّبْحِ ثُمَّ كَرَّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُؤَالَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ تَجَوَّزَ فِي إحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ إمَّا اللَّيْلَةُ أَوْ الْبَارِحَةُ هَذَا إنْ سَلِمَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ التَّفْرِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ { وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ }

( بَابُ تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ الْقِرَاءَةِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ } فِيهِ ) فَوَائِدُ : .
( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمُسْلِمٍ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَمُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ وَزَادَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ { وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ذَكَرَهُ { وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَى صَاحِبِ الْقُرْآنِ أَيْ الَّذِي أَلِفَهُ وَالْمُصَاحَبَةُ الْمُؤَالَفَةُ وَمِنْهُ صَاحِبُ فُلَانٍ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَصْحَابُ الصُّفَّةِ وَأَصْحَابُ إبِلٍ وَغَنَمٍ وَصَاحِبُ كِبْرٍ وَصَاحِبُ عِبَادَةٍ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ الَّذِي أَلِفَهُ يَصْدُقُ بِأَنْ يَأْلَفَ تِلَاوَتَهُ فِي الْمُصْحَفِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ حَافِظٍ لَهُ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِصَاحِبِ الْقُرْآنِ حَافِظُهُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الزِّيَادَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ وَلَوْلَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَأَمْكَنَ دُخُولُ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُقَالَ إنَّ غَيْرَ الْحَافِظِ الَّذِي أَلِفَ التِّلَاوَةَ فِي الْمُصْحَفِ مَا دَامَ مُسْتَمِرًّا عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ لِسَانُهُ بِهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهُ فَإِذَا هَجَرَ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِاعْتِبَارِ الْحِفْظِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ وَصَاحِبُ الْقُرْآنِ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ الْمُشْتَغِلُ بِهِ الْمُلَازِمُ لِتِلَاوَتِهِ .
(

الثَّالِثَةُ ) الْمُعَقَّلَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ وَتَشْدِيدِهَا هِيَ الْمَشْدُودَةُ بِالْعُقُلِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْقَافِ وَهُوَ جَمْعُ عِقَالٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَبْلُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ رُكْبَةُ الْبَعِيرِ شَبَّهَ دَرْسَ الْقُرْآنِ وَاسْتِمْرَارَ تِلَاوَتِهِ بِالْعِقَالِ الَّذِي يَمْنَعُ الْبَعِيرَ مِنْ الشِّرَادِ فَمَا دَامَ الدَّرْسُ مَوْجُودًا فَالْحِفْظُ مُسْتَمِرٌّ وَمَا دَامَ الْعِقَالُ مَوْثُوقًا فَالْبَعِيرُ مَحْفُوظٌ وَخَصَّ الْإِبِلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْحَيَوَانَاتِ الْإِنْسِيَّةِ شِرَادًا وَنُفُورًا وَتَحْصِيلُهَا بَعْدَ نُفُورِهَا أَشَقُّ وَأَصْعَبُ مِنْ تَحْصِيلِ غَيْرِهَا بَعْدَ نُفُورِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ } وَقَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ { إنَّ عَلَى ذِرْوَةِ سَنَامِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانَ } .
( الرَّابِعَةُ ) الْمُعَاهَدَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّعَاهُدُ عَلَيْهِ الِاحْتِفَاظُ بِهِ وَالْمُلَازَمَةُ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { إنْ تَعَاهَدَ عَلَيْهَا وَمِنْهُ أَشَدُّ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ بِالتِّلَاوَةِ وَالدَّرْسِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلنِّسْيَانِ بِإِهْمَالِ تِلَاوَتِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيت آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ .
اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا { تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا } ، تَكَلَّمَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ ، وَفِي التَّنْزِيلِ

{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ } ، قِيلَ مَعْنَاهُ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَقِيلَ مَقْطُوعُ الْحُجَّةِ وَقِيلَ مُنْقَطِعُ السَّبَبِ وَقِيلَ خَالِي الْيَدِ مِنْ الْخَيْرِ صِفْرَهَا مِنْ الثَّوَابِ وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ وَهُوَ أَبُو الْمَكَارِمِ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ مِنْ الْكَبَائِرِ .

( السَّادِسَةُ ) لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ مَخْصُوصَةٍ لِلزَّمَنِ الَّذِي يَخْتِمُ فِيهِ الْقُرْآنَ لَكِنْ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَتْلُوهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ نَقَصَ عَنْهُ لَأَدَّى إلَى نِسْيَانِهِ أَوْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِنْهُ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي تَمَكُّنِهِمْ مِنْ الْحِفْظِ وَفِي سُرْعَةِ النِّسْيَانِ وَبُطْئِهِ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَخْتِمُونَهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ { قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ قَالَ إنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنْ الْقُرْآنِ فَكَرِهْت أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أَخْتِمَهُ } .
قَالَ أَوْسٌ سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَةَ عَشْرَةَ وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ قُلْت إنِّي أَجِدُ قُوَّةً حَتَّى قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ } وَمِمَّنْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَامْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاسْتَحْسَنَهُ مَسْرُوقٌ وَمِمَّنْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي ثَمَانٍ أُبَيٌّ وَأَبُو قِلَابَةَ وَمِمَّنْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي سِتٍّ الْأَسْوَدِ بْنُ يَزِيدَ وَمِمَّنْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي خَمْسٍ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ وَمِمَّنْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي ثَلَاثٍ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فَهُوَ رَاجِزٌ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ مُعَاذٌ وَكَانَ الْمُسَيِّبُ بْنُ رَافِعٍ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ ثُمَّ يُصْبِحُ الْيَوْمَ الَّذِي يَخْتِمُ فِيهِ صَائِمًا رَوَاهَا كُلَّهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ

كَانُوا يَخْتِمُونَ فِي شَهْرَيْنِ خَتْمَةً وَاحِدَةً وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَتْمَةً وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِي كُلِّ عَشْرِ لَيَالٍ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَكْثَرُ مَا سَمِعْت أَنَّهُ يُخْتَمُ الْقُرْآنُ فِي أَرْبَعِينَ وَكَرِهَ الْحَنَابِلَةُ تَأْخِيرَهُ عَنْ ذَلِكَ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَفِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ قَالَ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ فِي شَهْرٍ ثُمَّ قَالَ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ قَالَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثُمَّ قَالَ فِي عَشْرٍ ثُمَّ قَالَ فِي سَبْعٍ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ سَبْعٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالُوا وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى النِّسْيَانِ وَالتَّهَاوُنِ بِهِ قَالُوا وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَوَاسِعٌ لَهُ وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَخْتِمَهُ فِي سَبْعٍ وَقَالُوا إنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ لِمَا رُوِيَ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرُو قَالَ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ بِي قُوَّةً قَالَ اقْرَأْهُ فِي ثَلَاثٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَجَعَلَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ قِرَاءَتَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ حَرَامًا فَقَالَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرٍ وَيُكْرَهُ أَنْ يَخْتِمَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَإِذَا فَعَلَ فَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ { لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } .
وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا وَمُرَادُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعَ

قِرَاءَتِهِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ التَّفَقُّهُ فِيهِ وَالتَّدَبُّرُ لِمَعَانِيهِ وَلَا يَتَّسِعُ الزَّمَانُ لِذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَتَمِيمٌ الدَّارِيِّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ وَعَلْقَمَةَ قِرَاءَتُهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ رَوَاهَا كُلَّهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِذَا كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَتَمَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ الْأَسْوَدُ يَخْتِمُهُ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَتَيْنِ وَفِي سِوَاهُ فِي سِتٍّ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ يَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ فِي لَيْلَةٍ وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَأَكْثَرُ مَا بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْكَاتِبِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَمَانِ خِتْمَاتٍ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّرْتِيلُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَجَلَةِ .
وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَأَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ وَلَأَنْ أَقْرَأَهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَهُ فِي عَشْرٍ وَلَأَنْ أَقْرَأَهُ فِي عَشْرٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَهُ فِي سَبْعٍ أَقِفُ وَأَدْعُو .
( السَّابِعَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِإِيضَاحِ الْمَقَاصِدِ .
( الثَّامِنَةُ ) إنْ قُلْت مُقْتَضَى الْحَدِيثِ عَلَى الْقَوْلِ بِدَلَالَةِ إنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ أَنَّهُ لَا مَثَلَ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ سِوَى الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ ضَرَبَ لَهُ أَمْثَالًا أُخْرَى فَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ

وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ } .
قُلْت الْمُرَادُ حَصْرُ مَثَلِهِ فِي هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ مَخْصُوصِ وَهُوَ دَوَامُ حِفْظِهِ بِالدَّرْسِ وَنِسْيَانِهِ بِالتَّرْكِ فَهُوَ فِي حِفْظِهِ بِالدَّرْسِ كَحَافِظِ الْبَعِيرِ بِالْعَقْلِ وَفِي نِسْيَانِهِ بِالتَّرْكِ كَمُضَيِّعِ الْبَعِيرِ بِعَدَمِ الْعَقْلِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمُورٍ أُخْرَى فَلَهُ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى وَالْحَصْرُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ فَهُوَ حَصْرٌ مَخْصُوصٌ وَلَهُ نَظَائِرُ مَعْرُوفَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد } رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ { إنَّ الْأَشْعَرِيَّ أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد } .
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا } الْحَدِيثَ زَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ { لَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَسْمَعُ قِرَاءَتَك الْبَارِحَةَ } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) قَوْلُهُ { مِنْ مَزَامِيرِ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ } لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد وَالْمُرَادُ بِالْمِزْمَارِ هُنَا الصَّوْتُ الْحَسَنُ وَأَصْلُهُ الْآلَةُ الَّتِي يُزَمَّرُ بِهَا شَبَّهَ حُسْنَ صَوْتِهِ وَحَلَاوَةَ نَغْمَتِهِ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ .
( الثَّانِيَةُ ) آلُ دَاوُد هُنَا هُوَ دَاوُد نَفْسُهُ وَآلُ فُلَانٍ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَفْظُ الْآلِ مُقْحَمٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ هُنَا الشَّخْصُ وَدَاوُد هَذَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ إلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّرْتِيلِ وَهُوَ التَّأَنِّي فِي التِّلَاوَةِ وَبِالْحَدْرِ وَالتَّحْزِينِ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْحَدْرُ أَنْ يَرْفَعَ الصَّوْتَ مَرَّةً وَيَخْفِضَهُ أُخْرَى وَالتَّحْزِينُ أَنْ يُلَيِّنَ الصَّوْتَ وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ ذِكْرَ الْحَدْرِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّازُ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ حَدَرَ فِي قِرَاءَتِهِ وَفِي أَذَانِهِ أَسْرَعَ

( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَقَالَ بِكَرَاهَتِهَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ وَنَقَلَ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا وَنَقَلَ عَنْهُ الرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافُ قَوْلٍ وَلَكِنْ مَوْضِعُ الْكَرَاهَةِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْمَدِّ وَفِي إشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنْ الْفَتْحَةِ أَلِفٌ وَمِنْ الضَّمَّةِ وَاوٌ وَمِنْ الْكَسْرَةِ يَاءٌ أَوْ تُدْغَمُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِدْغَامِ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَا كَرَاهَةَ وَكَذَا حَمَلَ الْحَنَابِلَةُ نَصَّ إمَامِهِمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ الصَّحِيحُ إنَّهُ إذَا أَفْرَطَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ حَرَامٌ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي فَقَالَ هُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّ تَصْحِيحَ النَّوَوِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ قَالَ ثُمَّ إنَّ الْقَوْلَ بِالتَّفْسِيقِ بِتَقْدِيرِ التَّحْرِيمِ مُشْكِلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ الصَّوَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يُغَيِّرْ لَفْظَ الْقُرْآنِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ يُبْهِمْ مَعْنَاهُ بِتَرْدِيدِ الْأَصْوَاتِ فَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ فَأَمَّا إذَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ وَحَذَا بِهِ حَذْوَ أَسَالِيبِ الْغِنَاءِ وَالتَّطْرِيبِ وَالتَّحْزِينِ فَقَطْ فَقَالَ

مَالِكٌ يَنْبَغِي أَنْ تُنَزَّهَ أَذْكَارُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَحْوَالِ الْمُجُونِ وَالْبَاطِلِ فَإِنَّهَا حَقٌّ وَجِدٌّ وَصِدْقٌ وَالْغِنَاءُ هَزْلٌ وَلَهْوٌ وَلَعِبٌ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى .
( الْخَامِسَةُ ) وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى جَوَازُ مَدْحِ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إذَا لَمْ يَخْشَ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً لِحُصُولِ الْعُجْبِ لِلْمَمْدُوحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الدُّعَاءِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ } فَذَكَرَا نَحْوَهُ وَزَادَا { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ } .

بَابُ الدُّعَاءِ ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِلَفْظِ { إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْآخَرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ } فَذَكَرَهَا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : { عَوِّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَوِّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ عَوِّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ عَوِّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ } ، وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ طُرُقٌ أُخْرَى .
( الثَّانِيَةُ ) اسْتِعَاذَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّهُ مُعَاذٌ مِنْهَا قَطْعًا فَائِدَتُهُ إظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ وَيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَحَلَّ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَأْتِي فِيهِ بِهَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُو بِذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّشَهُّدِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِالْأَخِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَزَادَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ بِوُجُوبِهِ وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَقَالَ وَيَلْزَمُهُ فَرْضًا أَنْ يَقُولَ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ فِي كِلْتَا الْجِلْسَتَيْنِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك فَذَكَرَهَا قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ صَلَّى ابْنُهُ بِحَضْرَتِهِ فَقَالَ لَهُ ذَكَرْت هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ؟ قَالَ لَا ، فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ انْتَهَى وَهَذَا الْآثَرُ عَنْ طَاوُسٍ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
بَلَاغًا بِغَيْرِ إسْنَادٍ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ ظَاهِرُ كَلَامِ طَاوُسٍ أَنَّهُ حَمَلَ الْأَمْرَ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ فَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِفَوَاتِهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَعَلَّ طَاوُوسًا أَرَادَ تَأْدِيبَ ابْنِهِ وَتَأْكِيدَ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَهُ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ انْتَهَى .
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ فَيَتْرُكَهَا فَيُحْرَمَ فَائِدَتَهَا وَثَوَابَهَا انْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ وُجُوبِ ذَلِكَ عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ثُمَّ إنَّهُ تَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ الَّتِي فِيهَا تَقْيِيدُ التَّشَهُّدِ

بِالْأَخِيرِ فَوَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ وَاحِدٌ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَزْمٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ فَهَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَزِيَادَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ زِيَادَةُ عَدْلٍ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ فَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَقَطْ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ وَحْدَهُ لَكَانَ مَا ذَكَرْت لَكِنَّهُمَا حَدِيثَانِ كَمَا أَوْرَدْنَا أَحَدَهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ وَإِنَّمَا زَادَ الْوَلِيدُ عَلَى وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَبَقِيَ خَبَرُ أَبِي سَلَمَةَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ تَشَهُّدٍ انْتَهَى وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي عَائِشَةَ وَأَبَا سَلَمَةَ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ لَا حَدِيثَانِ ثُمَّ إنَّ سُنَّةَ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ التَّخْفِيفُ فِيهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ } قُلْنَا حَتَّى يَقُومَ قَالَ حَتَّى يَقُومَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ زَادَ فِيهِ عَلَى التَّشَهُّدِ ، عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَدْعُوَ فِيهِ بِمَا بَدَا لَهُ وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِالْأَخِيرِ فَقَالَ قَوْلُهُ { إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ } .
عَامٌّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ وَقَدْ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ التَّخْفِيفُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَعَدَمُ اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ بَعْدَهُ حَتَّى سَامَحَ بَعْضُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ وَالْعُمُومُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي الطَّلَبَ لِهَذَا

الدُّعَاءِ فَمَنْ خَصَّهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ رَاجِحٍ وَإِنْ كَانَ نَصًّا فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّتِهِ انْتَهَى وَقَدْ عَرَفْت الْمُخَصِّصَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَدْ ظَهَرَتْ الْعِنَايَةُ بِالدُّعَاءِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ حَيْثُ أُمِرْنَا بِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَهِيَ حَقِيقَةٌ لِعِظَمِ الْأَمْرِ فِيهَا وَشِدَّةِ الْبَلَاءِ فِي وُقُوعِهَا وَلِأَنَّ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أُمُورٌ ثَمَانِيَةٌ غَيْبِيَّةٌ فَتَكَرُّرُهَا عَلَى الْأَنْفُسِ يَجْعَلُهَا مَلَكَةً لَهَا انْتَهَى .

( الْخَامِسَةُ ) الْمَحْيَا مَفْعَلُ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ مَفْعَلُ مِنْ الْمَوْتِ وَيَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِفِتْنَةِ الْمَوْتِ فَقِيلَ فِتْنَةُ الْقَبْرِ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْفِتْنَةُ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ قَالَ وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ فَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْإِنْسَانُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ وَأَشَدُّهَا وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَالَ وَفِتْنَةُ الْمَمَاتِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْفِتْنَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ أُضِيفَتْ إلَى الْمَوْتِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ وَتَكُونُ فِتْنَةُ الْمَحْيَا عَلَى هَذَا مَا يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَتَصَرُّفِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ أُعْطِيَ حُكْمَهُ فَحَالَةُ الْمَوْتِ تُشْبِهُ الْمَوْتَ وَلَا تُعَدُّ مِنْ الدُّنْيَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِفِتْنَةِ الْمَمَاتِ فِتْنَةُ الْقَبْرِ كَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِتْنَةِ الْقَبْرِ كَمَثَلٍ أَوْ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ قُلْت الْمَعْرُوفُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُتَكَرِّرًا مَعَ قَوْلِهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْعَذَابَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْفِتْنَةِ وَالسَّبَبُ غَيْرُ الْمُسَبِّبِ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَقْصُودَ زَوَالُ عَذَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ نَفْسَهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَهُوَ شَدِيدٌ يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ سُوئِهِ انْتَهَى قُلْت هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَأَمَّا إنْ حُمِلَتْ الْفِتْنَةُ عَلَى الْعَذَابِ كَمَا فِي

قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أَيْ عَذَّبُوهُمْ فَتَتَّحِدُ فِتْنَةُ الْقَبْرِ مَعَ عَذَابِ الْقَبْرِ وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْفِتْنَةِ عَلَى الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ لِيَحْصُلَ التَّغَايُرُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ مَدْلُولِ الْفِتْنَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) الْمَشْهُورُ فِي لَفْظِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِهَا وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ كَالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا أَنَّهُ مَسِيحُ الْهُدَى وَذَاكَ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ سُمِّيَ بِهِ لِمَسْحِ إحْدَى عَيْنَيْهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَقِيلَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَقِيلَ التَّمَسُّحُ وَالتِّمْسَاحُ الْمَارِدُ الْخَبِيثُ فَقَدْ يَكُونُ فَعِيلًا مِنْ هَذَا وَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي نَوَادِرِهِ التَّمَسُّحُ وَالْمُمَسَّحُ الْكَذَّابُ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا أَيْضًا وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ حُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سِرَاجٍ وَأَنْكَرَهُ الْهَرَوِيُّ وَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَضُبِطَ بِوَجْهَيْنِ آخَرِينَ هُمَا بِفَتْحِ الْمِيمِ مَعَ تَخْفِيفِ السِّينِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ تَشْدِيدِ السِّينِ مَعَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِيهِمَا يُقَالُ مُسِخَ خَلْقُهُ أَيْ شُوِّهَ وَقِيلَ هُوَ الْمَمْسُوخُ الْعَيْنِ وَالْمَسِيخُ الْأَعْوَرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مُشِيحٌ أَيْ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَعُرِّبَ كَمَا عُرِّبَ مُوسَى وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ الْكَذَّابُ وَقِيلَ الْمُمَوِّهُ بِبَاطِلِهِ وَسِحْرِهِ الْمُلَبِّسُ بِهِ وَالدَّجْلُ طَلْيُ الْبَعِيرِ بِالْقَطِرَانِ وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِضَرْبِهِ نَوَاحِيَ الْأَرْضِ وَقَطْعِهِ لَهَا يُقَالُ دَجَلَ الرَّجُلُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ وَبِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْإِكْمَالِ شَرْحِ مُسْلِمٍ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقِيلَ هُوَ مِنْ التَّغْطِيَةِ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْأَرْضَ بِجُمُوعِهِ وَالدَّجْلُ

التَّغْطِيَةُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ دِجْلَةُ لِتَغْطِيَةِ مَا فَاضَتْ عَلَيْهِ

( السَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِمَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيّ وَطَاوُوسٍ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ وَاضِحٌ لَكِنْ فِيمَا حَكَوْهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ بَلْ يَلْحَقُ بِهِ فِي الْجَوَازِ الْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ وَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ الدُّعَاءُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ وَهُوَ مَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ الْعِبَادِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ جَاءَ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا جُمْلَةً كَقَوْلِهِ { فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ } فَقَدْ أَدْخَلَ فِيهِ جَمِيعَ دُعَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَاءَ تَفْصِيلًا كَقَوْلِهِ { أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ } وَهَذَا دَاخِلٌ فِي فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَجَاءَ دُعَاؤُهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي فِتْنَةِ الْمَمَاتِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ بِالْوَجْهَيْنِ وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِالْجَوَامِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَسُؤَالِ الْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ ا هـ .

( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ ذِكْرُ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ لِأَنَّ عَذَابَ النَّارِ وَعَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ وَذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِأَنَّ شَرَّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ مِنْ فِتْنَةِ انْمَحْيَا ( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ إثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ اشْتَهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ

وَعَنْ جَابِرٍ { لَمَّا نَزَلَتْ { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك ، فَلَمَّا نَزَلَتْ { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك ؛ فَلَمَّا نَزَلَتْ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَذِهِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) عَنْ جَابِرٍ { لَمَّا نَزَلَتْ { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك فَلَمَّا نَزَلَتْ { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِوَجْهِك فَلَمَّا نَزَلَتْ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَذِهِ أَهْوَنُ وَأَيْسَرُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) هَذِهِ الْقِصَّةُ مُرْسَلَةٌ لِأَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَّةَ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْهَا آيَاتٍ فَجَعَلَهَا مَدَنِيَّةً وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ جَابِرٌ حَاضِرًا وَقْتَ نُزُولِهَا حَتَّى يَسْمَعَ اسْتِعَاذَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُورُ .
( الثَّانِيَةُ ) التَّأْنِيثُ فِي قَوْلِهِ { لَمَّا نَزَلَتْ } لِأَنَّ الْمُرَادَ الْآيَةُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ هَذِهِ الْآيَةُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ نَزَلَ بِتَذْكِيرِ الْفَصْلِ .
( الثَّالِثَةُ ) الظَّاهِرُ أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ كَانَ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ جَاءَ أَنَّ جَمِيعَ السُّورَةِ نَزَلَ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَبَادَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ مِنْ فَوْقِهِ قَبْلَ نُزُولِ بَقِيَّةِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ثُمَّ بَادَرَ لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْعَذَابِ مِنْ تَحْتُ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } فَإِنْ قُلْت فَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ مَا يُنَافِي الْإِنْصَاتَ لِتِلَاوَةِ الْمَلَكِ قُلْت هِيَ كَلِمَةٌ خَفِيفَةٌ لَا تُنَافِي الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ سُكُوتُ الْمَلَكِ عَنْ التِّلَاوَةِ بِقَدْرِ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَيُحْتَمَلُ

نُزُولُ أَجْزَاءِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دَفَعَاتٍ وَفِيهِ بُعْدٌ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِتَالِي الْقُرْآنِ وَمُسْتَمِعِهِ إذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ وَقَالُوا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ .

( الْخَامِسَةُ ) : فِيهِ الِاسْتِعَاذَةُ بِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ وَلَعْنَةُ مَنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ فِي جَانِبِ طَلَبِ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ أَمَّا جَانِبُ دَفْعِ الشَّرِّ وَرَفْعِ الضُّرِّ فَلَعَلَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَعَلَّ ذِكْرَ الْجَنَّةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى الْأُمُورِ الْعِظَامِ وَلَمْ يَرِدْ تَخْصِيصُهَا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أُرِيدَ النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ بِذَلِكَ وَكَذَا عَنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَجْهِهِ فِي الْأُمُورِ الْهَيِّنَةِ أَمَّا طَلَبُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ تَحْصِيلًا وَدَفْعًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ نَهْيٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( السَّادِسَةُ ) تَكَرُّرُ ذِكْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) إمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ فَنُؤْمِنُ بِهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إلَى عَالِمِهَا مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّ صِفَاتِهِ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ( وَثَانِيهِمَا ) تَأْوِيلُهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ فَالْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الْمَوْجُودِ

( السَّابِعَةُ ) اُحْتُجَّ بِاسْتِعَاذَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ بِقَرِينَةِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ مُتَّصِلًا بِهَا { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إنَّهُ الْأَظْهَرُ مِنْ نَسَقِ الْآيَاتِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَوَّذَ لِأُمَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَوَعَّدَ بِهَا الْكُفَّارَ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَهَا لِلْكُفَّارِ وَبَعْضَهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْثُ الْعَذَابِ مِنْ فَوْقُ وَمِنْ تَحْتُ لِلْكُفَّارِ وَبَقِيَّتُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ قُلْت مَا وَجْهُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالْآيَةُ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْفَرِيقَيْنِ بِلَا شَكٍّ قُلْت إخْبَارُهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ بِهِ فَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ وَتُوُعِّدُوا بِهِ ، أَوْ إنَّمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ خَاصَّةً .

( الثَّامِنَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِاسْتِعَاذَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى أَمْنِ أَمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ مُسْتَجَابَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسُوا آمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةُ إنَّمَا كَانَتْ لِأَهْلِ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ لِبَعْضِهَا وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إنَّهَا كَائِنَةٌ وَلَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي عَامِرٍ أَوْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ الْفَقِيرُ لِحَاجَتِهِ فَيَقُولُونَ ارْجِعُوا إلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعِلْمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ هِيَ أَرْبَعُ خِلَالٍ وَكُلُّهُنَّ عَذَابٌ وَكُلُّهُنَّ وَاقِعٌ قَبْلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَضَتْ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً لُبِسُوا شِيَعًا وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وَثِنْتَانِ وَاقِعَتَانِ لَا مَحَالَةَ الْخَسْفُ وَالرَّجْمُ

( التَّاسِعَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْعَذَابِ مِنْ فَوْقِ وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ فَتَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِ الرَّجْمُ وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ الْخَسْفُ وَكَذَا حَكَى السُّدِّيَّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَكَذَا حُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ فَوْقِكُمْ وُلَاةُ الْجَوْرِ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ سَفَلَةُ السُّوءِ وَخَدَمَةُ السُّوءِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ كُلُّهَا أَمْثِلَةٌ لَا أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ إذْ هَذِهِ وَغَيْرُهَا مِنْ الْقُحُوطِ وَالْعَرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ قُلْت لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَكَأَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْمُرَادُ نَوْعٌ مِنْ الْعَذَابِ لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ وَقَالَ الْبَغَوِيّ قَوْلُهُ { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } يَعْنِي الصَّيْحَةَ وَالْحِجَارَةَ وَالرِّيحَ وَالطُّوفَانَ كَمَا فُعِلَ بِعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ نُوحٍ انْتَهَى وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بَعْدَئِذٍ الْأَنْوَاعَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً مِنْ اللَّفْظِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نَوْعٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّا عُذِّبَ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ أَوْ لَمْ يُعَذَّبْ بِهِ أَحَدٌ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) إنْ قُلْت مَا مَوْقِعُ { أَوْ } فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْجَمِيعِ ؟ قُلْت الْمُرَادُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ التَّوَعُّدُ بِهِ فَلَمْ يُتَوَعَّدُوا بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَإِنَّمَا تُوُعِّدُوا بِوَاحِدٍ مِنْهَا وَذَلِكَ مِنْ كَرْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ أَنْ لَا يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلَمَّا وَقَعَتْ الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ لِبْسُهُمْ شِيَعًا وَإِذَاقَةُ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ حَصَلَ الْأَمْنُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي

عَدَمَ وُقُوعِهِمَا خِلَافًا لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { يَلْبِسَكُمْ } بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يَخْلِطَكُمْ وَاللَّبْسُ الْخَلْطُ وَقَوْلُهُ شِيَعًا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ جَمْعُ شِيعَةٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ وَهِيَ الْفِرْقَةُ وَالْمَعْنَى يَخْلِطَكُمْ فِرَقًا مُخْتَلِفِينَ وَقَوْلُهُ شِيَعًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ يَخْلِطَكُمْ بِالْأَجْسَامِ مَعَ افْتِرَاقِكُمْ بِالْقُلُوبِ أَوْ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَصْدَرِ أَيْ يَخْلِطَكُمْ خَلْطَ اضْطِرَابٍ وَاخْتِلَافٍ لَا خَلْطَ سُكُونٍ وَاتِّفَاقٍ فَيَكُونُونَ شِيَعًا عَدِيدَةً لَا شِيعَةً وَاحِدَةً وَقُرِئَ شَاذًّا يُلْبِسَكُمْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ اللُّبْسِ فَهِيَ عَلَى هَذَا اسْتِعَارَةٌ مِنْ اللِّبَاسِ وَالْمَعْنَى أَنْ يُلْبِسَكُمْ الْفِتْنَةَ وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ شِيَعًا مَا تَقَدَّمَ وَالْبَأْسُ الْقَتْلُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْمَكَارِهِ وَاسْتَعَارَ لَهُ لَفْظَ الْإِذَاقَةِ لِأَنَّ الذَّوْقَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَوَاسِّ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ افْتِرَاقُ الْأَهْوَاءِ وَالْقِتَالُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ هَذِهِ كَذَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِفْرَادِ الْإِشَارَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ هَاتَانِ بِالتَّثْنِيَةِ وَهَذَا الْمَذْكُورُ وَهُوَ اللَّبْسُ شِيَعًا وَإِذَاقَةُ الْبَعْضِ بَأْسَ الْبَعْضِ يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّا خَصْلَتَيْنِ خِلَافَ مَدْلُولِهِمَا فَإِنَّ اخْتِلَاطَهُمْ مُفْتَرَقِي الْقُلُوبِ غَيْرُ إذَاقَةِ الْبَعْضِ بَأْسَ الْبَعْضِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّا خَصْلَةً وَاحِدَةً لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا فَإِنَّ الْقُلُوبَ إذَا افْتَرَقَتْ حَصَلَ لِأَصْحَابِهَا بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ بَأْسٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَذَلِكَ نَادِرٌ فَأَفْرَدَ الْإِشَارَةَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَثَنَّاهَا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ } الظَّاهِرُ

أَنَّهُ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي اللَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَقَارُبِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَسْتَعِذْ عَقِبَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } وَكَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَرَفَ وُقُوعَ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا } فَلَمَّا عَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقُوعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ فَائِدَةٌ وَسَهَّلَ الْأَمْرَ عَلَى أُمَّتِهِ وَسَلَّاهُمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذِهِ أَهْوَنُ وَأَيْسَرُ

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت أَوْ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت أَوْ اُرْزُقْنِي إنْ شِئْت لِيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُكْرِهَ لَهُ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ } زَادَ الْبُخَارِيُّ { إنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَقَالَ مُسْلِمٌ { فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ وَلِيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت أَوْ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت أَوْ اُرْزُقْنِي إنْ شِئْت لِيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا مُكْرِهَ لَهُ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ { فَإِنَّ اللَّهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ وَلِيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ عَزْمُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الْجَدُّ فِيهَا وَالْقَطْعُ بِهَا وَالْجَزْمُ لَهَا فَلَا يُعَلِّق ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مَا يَعِدُ بِهِ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ يَنْبَغِي لَهُ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أَمَّا مَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ تَعْلِيقُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَلْ يَجْزِمُ بِطَلَبِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى عَزْمِ الْمَسْأَلَةِ حُسْنُ

الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِجَابَةِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ نَقْلِهِ الْأَوَّلَ عَنْ الْعُلَمَاءِ .
( الثَّالِثَةُ ) عَلَّلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِلتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ إلَّا فِيمَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ يَتَأَتَّى إكْرَاهُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَيُخَفِّفُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِرِضَاهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِهَذَا التَّعْلِيقِ مَعْنًى فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا يَشَاءُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ صُورَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ .
( الرَّابِعَةُ ) ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ { سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ } وَزَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ { الرِّزْقِ } وَهِيَ أَمْثِلَةٌ فَسَائِرُ الْأَدْعِيَةِ كَذَلِكَ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ { إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ } فَتَنَاوَلَ سَائِرَ الْأَدْعِيَةِ فَإِنْ قُلْت وَرَدَ التَّقْيِيدُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَحْيِنِي مَا عَلِمْت الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا عَلِمْت الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي } ، قُلْت إنَّمَا قَيَّدَ هُنَاكَ طَلَبَ الْحَيَاةِ بِكَوْنِهَا خَيْرًا لَهُ وَطَلَبَ الْوَفَاةِ بِكَوْنِهَا خَيْرًا لَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَدِّرُ لَهُ الْحَيَاةَ مَعَ كَوْنِ الْخَيْرَةِ فِي قُرْبِ وَفَاتِهِ لِمَا يَكُونُ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَقَدْ يُقَدِّرُ لَهُ الْوَفَاةَ مَعَ كَوْنِ الْخَيْرَةِ لَهُ فِي طَلَبِ الْحَيَاةِ لِمَا فِيهَا مِنْ اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ وَهَذَا مِثْلُ الِاسْتِخَارَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ وَقَدْ وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَمَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ فَلَا تَقَعُ ذَرَّةٌ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِهَا فَلَا مَعْنَى لِتَعْلِيقِ الطَّلَبِ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) الظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَلَى

سَبِيلِ التَّنْزِيهِ وَالْكَرَاهَةِ وَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا إنْ شِئْت وَارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَتَجَاوَزْ عَنِّي إنْ شِئْت وَهَبْ لِي مِنْ الْخَيْرِ كَذَا إنْ شِئْت مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَحِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا شَاءَ لَا شَرِيكَ لَهُ انْتَهَى وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ وَقَدْ يُؤَوَّلُ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ بَعِيدٌ .

وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ تُسْتَجَابُ لَهُ فَأُرِيدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَدَّخِرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ } زَادَ فِي رِوَايَةٍ { فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الْآخِرَةِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ تُسْتَجَابُ لَهُ فَأُرِيدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَدَّخِرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ هَكَذَا عِنْدَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأُ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَيُّوبُ بْنُ سُوَيْد عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وَهُمَا إسْنَادَانِ صَحِيحَانِ لِمَالِكٍ انْتَهَى وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ هَذِهِ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِهِ وَرَوَى الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ { فَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ } وَفِيهَا { فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُقَالُ وَكَمْ مِنْ دَعْوَةٍ اُسْتُجِيبَتْ لِلرُّسُلِ وَلِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا مَعْنَى هَذَا ؟ فَيُقَالُ إنَّ الْمُرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ لَهُمْ دَعْوَةً هُمْ مِنْ اسْتِجَابَتِهَا عَلَى يَقِينٍ وَعِلْمٍ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ .
وَغَيْرُهَا مِنْ الدَّعَوَاتِ بِمَعْنَى الطَّمَعِ فِي الِاسْتِجَابَةِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي }

الْحَدِيثَ أَوْ تَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ لِكُلِّ نَبِيٍّ مَخْصُوصَةٌ بِأُمَّتِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَتْ لَهُ } الْحَدِيثَ وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَجَابِرٍ .
انْتَهَى وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فَقَالَ مَعْنَاهَا أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُتَيَقَّنَةُ الْإِجَابَةِ وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ إجَابَتِهَا وَأَمَّا بَاقِي دَعَوَاتِهِمْ فَهُمْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ إجَابَتِهَا وَبَعْضُهَا يُجَابُ وَبَعْضُهَا لَا يُجَابُ ثُمَّ ذَكَرَ الثَّانِي احْتِمَالًا عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ .
( الثَّالِثَةُ ) إنْ قُلْت قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّفَاعَاتِ الْأُخْرَوِيَّةَ خَمْسٌ : ( أَحَدُهَا ) فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَتَعْجِيلِ الْحِسَابِ .
( الثَّانِيَةُ ) فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
( الثَّالِثَةُ ) الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا .
3 ( الرَّابِعَةُ ) الشَّفَاعَةُ فِي إخْرَاجِ قَوْمٍ مِنْ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا .
( الْخَامِسَةُ ) الشَّفَاعَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَزِيدَ قِسْمٌ سَادِسٌ وَهُوَ الشَّفَاعَةُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ كَمَا وَقَعَ لِأَبِي طَالِبٍ فَأَيُّ شَفَاعَةٍ ادَّخَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ ؟ أَمَّا الْأُولَى فَلَا تَخْتَصُّ بِهِمْ بَلْ هِيَ لِإِرَاحَةِ الْجَمْعِ كُلِّهِمْ وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَكَذَلِكَ بَاقِي الشَّفَاعَاتِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأُمَمِ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى الَّتِي لِلْإِرَاحَةِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخْتَصَّةٍ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ هُمْ الْأَصْلُ فِيهَا وَغَيْرُهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ وَلِهَذَا كَانَ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَنَّهُ { قَالَ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي } فَدَعَا فِيهِمْ فَأُجِيبَتْ وَكَانَ غَيْرُهُمْ تَبَعًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ

الشَّفَاعَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الَّتِي فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ تَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا { يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا } الْحَدِيثَ وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأُمَمِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الشَّفَاعَةِ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الشَّفَاعَاتِ الْخَمْسَةِ ، وَكَوْنُ غَيْرِ هَذِهِ الْأَمَةِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادَّخَرَ دَعْوَتَهُ شَفَاعَةً لِأُمَّتِهِ فَلَعَلَّهُ لَا يَشْفَعُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ بَلْ تَشْفَعُ لَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الشَّفَاعَةُ لِغَيْرِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَشْفَعَ لِغَيْرِهِمْ لَا تَبَعًا لَهُمْ وَلَا تَضْيِيقَ فِي ذَلِكَ فَإِذَا شَفَعَ لَهُمْ فَقَدْ حَصَلَ ادِّخَارُ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ وَإِنْ شَفَعَ لِغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إنْكَارِهِمْ الشَّفَاعَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ وَإِنَّمَا اعْتَرَفُوا بِالْأُولَى وَالْخَامِسَةِ فَقَطْ وَهُمْ يُجِيبُونَ بِحَمْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا لَكِنْ قَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ بِإِثْبَاتِ مَا أَنْكَرُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) وَفِيهِ بَيَانُ كَمَالِ شَفَقَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ وَاعْتِنَائِهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَصَالِحِهِمْ الْمُهِمَّةِ فَأَخَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعْوَتَهُ لِأُمَّتِهِ إلَى أَهَمِّ أَوْقَاتِ حَاجَتِهِمْ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالِامْتِثَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }

( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ { فِي الْآخِرَةِ } وَفِي الْأُخْرَى { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْآخِرَةِ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ مِخْرَاقٍ قَالَ كَتَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ حَيَّانَ : سَلْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَمِنَ الدُّنْيَا هُوَ أَوْ مِنْ الْآخِرَةِ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ صَدْرُ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ الدُّنْيَا وَآخِرُهُ مِنْ الْآخِرَةِ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي التَّهْذِيبِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَعَلَّ الْوَقْتَ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الشَّفَاعَةُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ آخِرُهُ الَّذِي هُوَ مِنْ الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

.
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَإِنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةُ .
( التَّاسِعَةُ ) إنْ قُلْت مَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَك أَوْ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ إلَيْك وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَالْمُرَادُ بِالْقَائِلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا مُعْتَقِدًا لَهَا فَهُوَ الَّذِي مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ قَالَ إنَّ هَؤُلَاءِ تَنَالُهُمْ شَفَاعَتُهُ ؟ قُلْت قَدْ قَيَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَنَالُهُ شَفَاعَتُهُ مَعَ كَوْنِهِ مَاتَ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مِنْ أُمَّتِهِ وَاَلَّذِي جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الَّذِي تَنَالُهُ شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ مُوَحِّدُو هَذِهِ الْأَمَةِ وَاَلَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ مُوَحِّدُو غَيْرِ هَذِهِ الْأَمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الدُّعَاءَ وَالشَّفَاعَةَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ يَدْعُو وَيَشْفَعُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُؤَخَّرَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَمَرَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ وَمَنْفَعَتُهَا وَأَمَّا طَلَبُهَا فَحَاصِلٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) كَرِهَ بَعْضُهُمْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُذْنِبِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ جَابِرٌ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَمَا لَهُ وَلِلشَّفَاعَةِ .
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ { أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِمَّنْ تَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَخْمِشُكَ النَّارُ فَإِنَّ شَفَاعَتِي لِكُلِّ هَالِكٍ مِنْ أُمَّتِي تَخْمُشُهُ النَّارُ } وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ ثُمَّ كُلُّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٍ بِالتَّقْصِيرِ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَفْوِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ مُشْفِقٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ قَالَ وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ لَا يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا لِأَصْحَابِ الذُّنُوبِ وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافَ مَا عُرِفَ مِنْ دُعَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَقَدْ عُرِفَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ سُؤَالُهُمْ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتُهُمْ فِيهَا انْتَهَى .

بَابُ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } .

بَابُ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ بِلَفْظِ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ ثَلَاثَتُهُمْ } عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَأَخْرَجَهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ قَاوَنْدَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ حِينَ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حِينَ اشْتَبَكَتْ النُّجُومُ وَفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْأَمْرُ الَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ فَلِيُصَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ } وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ { أَنْ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَيَقُولُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ { أَنَّهُ اُسْتُغِيثَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى صَفِيَّةَ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَسَارَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ فَقَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ أَمْرٌ فِي سَفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَسَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ فَنَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَوْ حَزَبَهُ أَمْرٌ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي خُرُوجِهِ مَعَهُ إلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ وَفِيهِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَقَامَ الْعِشَاءَ وَقَدْ تَوَارَى الشَّفَقُ فَصَلَّى بِنَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ صَنَعَ هَكَذَا } وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حِينَ ذَهَبَ بَيَاضُ الْأُفُقِ وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ } .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْحَجِّ وَالْجِهَادِ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ إنِّي رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى { جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } أَيْ اشْتَدَّ بِهِ السَّيْرُ

قَالَ فِي الْمُحْكَمِ جَدَّ بِهِ الْأَمْرُ أَيْ اشْتَدَّ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَيْ أَسْرَعَ وَعَجَّلَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرْته أَوْلَى لِأَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ نِسْبَةُ الْجَدِّ إلَى السَّيْرِ وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي نِسْبَةُ الْجَدِّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاللَّفْظُ الْوَاقِعُ فِي الْحَدِيثِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الِاشْتِدَادُ كَمَا نَقَلْته عَنْ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ وَإِمَّا أَنْ يُنْسَبَ الْجَدُّ إلَى السَّيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ ، وَالْإِسْرَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ هَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ فَيُنْسَبُ الصِّيَامُ إلَى النَّهَارِ وَالْقِيَامُ إلَى اللَّيْلِ لِوُقُوعِهِ فِيهِمَا وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْفَاعِلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ { جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } جَدَّ فِي السَّيْرِ وَيُوَافِقُ هَذَا قَوْلَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { إذَا جَدَّ فِي السَّيْرِ } قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْجَدَّ الِاجْتِهَادُ فِي الْأُمُورِ تَقُولُ مِنْهُ جَدَّ فِي الْأَمْرِ يَجِدُّ وَيَجُدُّ أَيْ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا وَأَجَدَّ فِي الْأَمْرِ مِثْلُهُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ يُقَالُ إنَّ فُلَانًا لَجَادٌّ مُجِدٌّ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ جَدَّ فِي أَمْرِهِ يَجِدُّ وَيَجُدُّ جَدًّا وَأَجَدَّ حَقَّقَ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ الْجَدُّ الْمُبَالَغَةُ فِي الشَّيْءِ انْتَهَى .
وَيَأْتِي هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ إمَّا أَنْ يُضَمِّنَ عَجَّلَ مَعْنَى اشْتَدَّ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الْعَجَلِ إلَى السَّيْرِ مَجَازًا وَتَوَسُّعًا وَالْأَصْلُ عَجَّلَ فِي السَّيْرِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ الْجَدُّ فِي السَّفَرِ وَالِاسْتِعْجَالُ فِيهِ وَتَقَدَّمَ مِنْ سُنَنِ النَّسَائِيّ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَيْضًا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ زَاغَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي السَّفَرِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { إذَا عَجَّلَ عَلَيْهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ مَوْصُولًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ { إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ } وَزَادَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ أُمَّتَهُ فَزَادَ فِي حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَأَمَّا اقْتِصَارُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ عَلَى ذِكْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِقَضِيَّةٍ وَقَعَتْ لَهُ فَإِنَّهُ اُسْتُصْرِخَ عَلَى زَوْجَتِهِ فَذَهَبَ مُسْرِعًا وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَذَكَرَ ذَلِكَ بَيَانًا لِأَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَفْقِ السُّنَّةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَقَدْ رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

وَغَيْرِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } زَادَ فِي الْمُوَطَّإِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ { فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتُ الْإِسْنَادِ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُعَاذٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ عَجَّلَ الْعَصْرَ إلَى الظُّهْرِ وَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ ، وَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ مَحْفُوظٌ صَحِيحٌ انْتَهَى فَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَيْضًا وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِأَنْ يُعَجِّلَ بِهِ السَّفَرُ بَلْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا بِالْجَمْعِ وَهُوَ غَيْرُ سَائِرٍ بَلْ نَازِلٌ مَاكِثٌ فِي خِبَائِهِ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلَى خِبَائِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَهَذَا وَهُوَ نَازِلٌ غَيْرُ سَائِرٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ { دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ } لَا يَكُونُ إلَّا وَهُوَ نَازِلٌ فَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَجْمَعَ نَازِلًا وَمُسَافِرًا انْتَهَى وَفِي

رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا التَّصْرِيحُ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا وَجَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْجُمْهُورُ إلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ اخْتِصَاصُ الْجَمْعِ بِحَالَةِ الْجَدِّ فِي السَّيْرِ لِخَوْفِ فَوَاتِ أَمْرٍ أَوْ لِإِدْرَاكِ مُهِمٍّ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ حَبِيبٍ وَأَصْبَغُ إنَّ الْجَدَّ لِمُجَرَّدِ قَطْعِ السَّفَرِ مُبِيحٌ لِلْجَمْعِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ الْجَمْعُ بَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ قَالَ وَبِهِ أَقُولُ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعُذْرِ السَّفَرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مَعَ الثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَجُمْهُورِ

عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جَمَاعَةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِحَالَةِ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ لِخَوْفِ فَوَاتِ أَمْرٍ أَوْ لِإِدْرَاكِ مُهِمٍّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا وَجَوَابُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ زِيَادَةً يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَهِيَ الْجَمْعُ مِنْ غَيْرِ جَدٍّ فِي السَّفَرِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ مُعَاذٍ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ : فِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ وَأَقْوَى الْحُجَجِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلِالْتِبَاسِ قَالَ وَلَيْسَ فِيمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } مَا يُعَارِضُهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ الْجَمْعُ نَازِلًا غَيْرَ سَائِرٍ فَاَلَّذِي يَجِدُّ بِهِ السَّيْرُ أَحْرَى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَعَارَضَانِ لَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَالَ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ وَفِي الْآخَرِ أَنَّهُ جَمَعَ نَازِلًا غَيْرَ سَائِرٍ فَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ وَقَدْ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَيَجْمَعَ وَهُوَ نَازِلٌ لَمْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ فَلَيْسَ هَذَا بِمُتَعَارِضٍ عِنْدَ أَحَدٍ لَهُ فَهْمٌ قَالَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَكُلُّ مَا اخْتَلَفْت فِيهِ مِنْ مِثْلِهِ فَمَرْدُودٌ إلَيْهِ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَلَمْ تَرَ إلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ؟ فَهَذَا سَالِمٌ قَدْ نَزَعَ بِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ

أَصْلٌ صَحِيحٌ لِمَنْ أُلْهِمَ رُشْدَهُ وَلَمْ تَمِلْ بِهِ الْعَصَبِيَّةُ إلَى الْمُعَانَدَةِ انْتَهَى .
وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) كَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي الِاخْتِصَاصِ بِحَالَةِ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْجَدِّ خَوْفَ فَوَاتِ أَمْرٍ أَوْ إدْرَاكِ مُهِمٍّ بَلْ كَانَ الْجَدُّ لِمُجَرَّدِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَوْله تَعَالَى عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ لَا إلَّا أَنْ تَعَجَّلَنِي سَيْرٌ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ إلَّا مَنْ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ إنْ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ السَّفَرَ نَفْسَهُ إنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ انْتَهَى وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَاكِثَ فِي الْمَنْزِلَةِ لَيْسَ قَاطِعًا لِلطَّرِيقِ وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ سَائِرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا اسْتِعْجَالَ بِهِ بَلْ هُوَ يَسِيرُ عَلَى هِينَتِهِ فَهُوَ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ لَهُمَا الْجَمْعَ وَلَا يُجَوِّزُهُ لَهُمَا ابْنُ حَبِيبٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ وَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَسْعَدُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ اعْتِبَارُ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مَخْصُوصٍ لِذَلِكَ وَلَا يُقَالُ إنَّمَا يَكُونُ الْجَدُّ لِخَوْفِ فَوَاتِ أَمْرٍ أَوْ إدْرَاكِ مُهِمٍّ فَقَدْ يَكُونُ الْجَدُّ لِمُجَرَّدِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ مَتَاعِبِ السَّفَرِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ

نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ فَلْيُعَجِّلْ إلَى أَهْلِهِ } لَكِنْ زَادَ حَدِيثُ مُعَاذٍ عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ الْجَمْعِ فِي زَمَنِ الْإِقَامَةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ اسْمَ السَّفَرِ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ } ، قَالَ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ نَحْوُ هَذَا وَعَنْهُ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَإِنْ لَمْ يَجِدَّ السَّيْرُ انْتَهَى وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ مَا أَرَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إلَّا مِنْ أَمْرٍ فَجَعَلَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ الْجَدَّ فِي السَّيْرِ مِثَالًا لِلْعُذْرِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْعُذْرِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَيَقُولُ الْجُمْهُورُ السَّفَرُ نَفْسُهُ عُذْرٌ وَمَظِنَّةٌ لِلرُّخْصَةِ فَنِيطَ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) مَنْعُ الْجَمْعِ بِعُذْرِ السَّفَرِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلنُّسُكِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بَلْ زَادَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى صَاحِبِيهِ وَقَالَ لَا يَجْمَعُ لِلنُّسُكِ إلَّا إذَا صَلَّى فِي الْجَمَاعَةِ فَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْمُنْفَرِدُ فِي ذَلِكَ كَالْمُصَلِّي جَمَاعَةً وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي هَذَا عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتِيَارِهِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ كَانَ الْأَسْوَدُ وَأَصْحَابُهُ يَنْزِلُونَ عِنْدَ وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي السَّفَرِ فَيُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ يَتَعَشَّوْنَ ثُمَّ يَمْكُثُونَ سَاعَةً ثُمَّ يُصَلُّونَ الْعِشَاءَ وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا قَالَا مَا نَعْلَمُ مِنْ السُّنَّةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَضَرٍ

وَلَا سَفَرٍ إلَّا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَعَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمَا قَالَا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْ يُصَلِّيَ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالْأُخْرَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَهَذَا مَرْدُودٌ بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ وَرَدَتْ الرِّوَايَاتُ مُصَرِّحَةً بِالْجَمْعِ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَحَدِيثُ مُعَاذٍ صَرِيحٌ فِي جَمْعَيْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ أَشَدَّ ضِيقًا وَأَعْظَمَ حَرَجًا مِنْ الْإِتْيَانِ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِكُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَوْسَعُ مِنْ مُرَاعَاةِ طَرَفَيْ الْوَقْتَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى إلَّا قَدْرُ فِعْلِهَا وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَهُ وَاضِحًا كَمَا وَصَفْنَا ثُمَّ لَوْ كَانَ الْجَمْعُ هَكَذَا لَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَالْعَمَلُ بِالْأَحَادِيثِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ إلَى الْفَهْمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ هَذَا التَّكَلُّفِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا الْمَغْرِبَ وَالصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَإِنَّهُ

أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى جَمَعَهَا مَعَ الْعِشَاءِ وَصَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ الْفَجْرِ } وَقَالُوا إنَّ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ تَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهَا بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ بِلَا شَكٍّ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَصْرُ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِظَاهِرِهِ فِي إيقَاعِ الصُّبْحِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَالَغَ فِي التَّعْجِيلِ حَتَّى قَارَبَ ذَلِكَ مَا قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ إنَّ غَيْرَ ابْنِ مَسْعُودٍ حَفِظَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ وَلَمْ يَشْهَدْ وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ } وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا يُتْرَكُ الْمُتَوَاتِرُ بِالْآحَادِ بِأَنَّا لَمْ نَتْرُكْهَا وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهَا وَتَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ جَازَ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إجْمَاعًا فَتَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ عُمَرَ جَمْعُ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَالَ الْعُذْرُ يَكُونُ بِالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَلَيْسَ هَذَا ثَابِتًا عَنْ عُمَرَ وَهُوَ مُرْسَلٌ .
( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) جَوَازُ التَّأْخِيرِ وَمَنْعُ جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَدِينَةِ وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ بِشَرْطِ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ

وَاعْتِمَادُ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ التَّقْدِيمِ لَمْ يُذْكَرْ فِي حَدِيثَيْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِمَا جَمْعُ التَّأْخِيرِ وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { فَإِنْ زَاغَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ } وَلَمْ يَذْكُرْ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهَا أَنْ لَا يَكُونَ صَلَّاهَا مَعَ الظُّهْرِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَالَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا كَانَ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ إذَا لَمْ تَزُغْ الشَّمْسُ فَكَذَلِكَ يُقَدِّمُ الْعَصْرَ إلَى الظُّهْرِ إنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ وَلَفْظُهُ { إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَإِنْ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ } وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ اللُّؤْلُؤِيَّ حَكَى عَنْ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْوَقْتِ حَدِيثٌ قَائِمٌ ا هـ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِنَا لِسُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَضَعَّفَ ابْنُ حَزْمٍ حَدِيثَ مُعَاذٍ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَقَدْ بَسَطْت الرَّدَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي كُرَّاسَةٍ كَتَبْتهَا قَدِيمًا سَمَّيْتهَا الدَّلِيلُ الْقَوِيمُ عَلَى صِحَّةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ .

( الرَّابِعَةُ ) غَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ جَوَازُ الْجَمْعِ فَأَمَّا رُجْحَانُهُ وَكَوْنُهُ أَفْضَلَ مِنْ إيقَاعِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ بِذَلِكَ الْجَوَازَ أَوْ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَخُّصِ وَالتَّوَسُّعِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَهُ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ بِذَلِكَ وَقَالُوا إنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ أَفْضَلُ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ إنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ وَعَلَّلُوهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةً مِنْ التَّابِعِينَ لَا يُجَوِّزُونَهُ وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَزَادَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ الْجَمْعِ فَقَالَ إنَّ الْجَمْعَ مَكْرُوهٌ رَوَاهُ الْمِصْرِيُّونَ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ وَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ جَمْعَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى إيثَارِ الْفَضْلِ لِئَلَّا يَتَسَهَّلَ فِيهِ مَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ لَا كَرَاهَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ كَرِهَ الْجَمْعَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ الْحَسَنُ وَمَكْحُولٌ يَكْرَهَانِ الْجَمْعَ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ انْتَهَى فَإِنْ أَرَادَ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمَ فَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ الْمَحْكِيُّ فِي الْفَائِدَةِ الثَّالِثَةِ وَإِنْ أَرَادَ التَّنْزِيهَ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْمَحْكِيِّ عَنْ مَالِكٍ .

( الْخَامِسَةُ ) لَمْ يُبَيِّنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ هَلْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَفَرٍ أَوْ كَانَ يَخُصُّ بِهِ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَهُوَ سَفَرُ الْقَصْرِ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّوِيلِ وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ مُحْتَمَلَةٌ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ مَعَ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالطَّوِيلِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا اخْتِصَاصُهُ بِالطَّوِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ نَافِعٍ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلِّي لَهُمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلَا يُسَلِّمُونَ وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ كَذَا فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَالصَّوَابُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى الصَّوَابِ وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا } لَمْ يَشُكَّ فِي رَفْعِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا الْأُخْرَى فِي مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَّنَا

لَهُمْ }

بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ نَافِعٍ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ : يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَيُصَلِّي لَهُمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَلَا يُسَلِّمُونَ وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَتَقُومُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ كَذَا فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَالصَّوَابُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَلَى الصَّوَابِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَكَاهُ عَنْ النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَأَمَّا السَّقْطُ الَّذِي وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا فَلَعَلَّهُ مِنْ النَّاسِخِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الرِّوَايَةِ لَمْ يُمْكِنْ لِلْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ ذِكْرُهُ إلَّا مَعَ الْبَيَانِ مَعَ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَغَيْرِهِ عَنْ مَالِكٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ

وَالنَّسَائِيُّ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ ذَهَبُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ قَضَتْ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً } زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَلَّى رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا يُومِئُ إيمَاءً وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ إذَا اخْتَلَطُوا فَإِنَّمَا هُوَ الْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ وَالتَّكْبِيرُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يُصَلِّي بِطَائِفَةٍ مَعَهُ فَيَسْجُدُونَ سَجْدَةً وَاحِدَةً وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ ثُمَّ يَنْصَرِفُ الَّذِينَ سَجَدُوا السَّجْدَةَ مَعَ أَمِيرِهِمْ ثُمَّ يَكُونُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُصَلُّونَ مَعَ أَمِيرِهِمْ سَجْدَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَنْصَرِفُ أَمِيرُهُمْ وَقَدْ صَلَّى صَلَاتَهُ وَيُصَلِّي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بِصَلَاتِهِ سَجْدَةً لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا قَالَ يَعْنِي بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةَ } وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ثُمَّ

سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً } لَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَلَفْظُ الْآخَرِينَ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ { غَزَوْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَّنَا لَهُمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لَنَا فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ } وَلَفْظُ النَّسَائِيّ بِمَعْنَاهُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَالِمٍ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ الزُّهْرِيِّ مِنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ السُّنِّيِّ الزُّهْرِيُّ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَيْنِ وَلَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْهُ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ إثْبَاتُ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَاسْتِمْرَارُهَا وَأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِزَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَتْوَى ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهَا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُمْ لَهَا فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إبْرَاهِيمُ ابْنُ عُلَيَّةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالْمُزَنِيِّ وَالْحَسَنُ اللُّؤْلُؤِيُّ فَقَالُوا إنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك } الْآيَةَ وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَصْلُ فِي الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { خُذْ مِنْ

أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ اتِّفَاقًا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ فَالْحُكْمُ بَعْدَهُ بَاقٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَنْ يُفَرِّقَ الْإِمَامُ النَّاسَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةً يَنْحَازُ بِهِمْ إلَى حَيْثُ لَا يَبْلُغُهُمْ سِهَامُ الْعَدُوِّ فَيَفْتَتِحُ بِهِمْ الصَّلَاةَ وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَفِرْقَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَإِذَا قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُتِمَّ الْمُقْتَدُونَ بِهِ الصَّلَاةَ بَلْ يَذْهَبُونَ إلَى مَكَانِ إخْوَانِهِمْ وِجَاهَ الْعَدُوِّ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَيَقِفُونَ سُكُوتًا وَتَجِيءُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَتُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّتْ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الرَّكْعَةُ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهَا وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لَكِنَّهُمْ اخْتَارُوا كَيْفِيَّةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ خَرَجَ الْمُقْتَدُونَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَ أُولَئِكَ فَاقْتَدُوا بِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَيُطِيلُ الْإِمَامُ الْقِيَامَ إلَى لُحُوقِهِمْ فَإِذَا لَحِقُوهُ صَلَّى بِهِمْ الثَّانِيَةَ فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا الثَّانِيَةَ وَهُوَ يَنْتَظِرُهُمْ فَإِذَا لَحِقُوهُ سَلَّمَ بِهِمْ .
وَهَذِهِ رِوَايَةُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَاخْتَارَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا لِسَلَامَتِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ وَلِأَنَّهَا

أَحْوَطُ لِأَمْرِ الْحَرْبِ مَعَ تَجْوِيزِهِمْ الْكَيْفِيَّةَ الْأُخْرَى وَكَذَا نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتِيَارَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ وَدَاوُد وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَشَرَطَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ .
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى خِلَافِهِ فَقِيلَ لَهُ حَدِيثُ سَهْلٍ نَسْتَعْمِلُهُ مُسْتَقْبِلِينَ الْقِبْلَةَ كَانُوا أَوْ مُسْتَدْبِرَيْنِ ؟ قَالَ نَعَمْ هُوَ إنْكَارٌ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَادَّعَى نَاصِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَهُوَ مَرْدُودٌ إذْ النَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَقَالَ بَعْضُ الْآخِذِينَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إنَّ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مُخَالِفُ سُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى تُصَلِّي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا الْإِمَامُ وَتُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَّا أَشْهَبَ إلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ إجَازَةِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ثُمَّ إنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ يُسَلِّمُ وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بَعْدَ سَلَامِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ يَنْتَظِرُهُمْ حَتَّى يَأْتُوا بِالرَّكْعَةِ فَإِذَا لَحِقُوهُ سَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا وَلَمْ يَجِدُهُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ إلَّا عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ .

( الرَّابِعَةُ ) دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ تُصَلِّي الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ أَمْرِ الْحَرْبِ بِاشْتِغَالِ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا بِالصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُصَلِّيَ إحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ بَعْدَ الْأُخْرَى وَلَا سَبِيلَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ وَهُمْ فِي مُوَاجِهَةِ الْعَدُوِّ إذْ لَا يُمْكِنُهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَجِيئِهِمْ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ لِيُتِمُّوهَا هُنَاكَ لَكِنْ أَيُّ الْفِرْقَتَيْنِ تُتِمُّ صَلَاتَهَا أَوَّلًا الْأُولَى أَمْ الثَّانِيَةُ ؟ .
لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إفْصَاحٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ وَهَذَا صَادِقٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأُولَى تَعُودُ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَتُتِمُّ صَلَاتَهَا ثُمَّ تَذْهَبُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَجْيِيءُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَتُتِمُّ صَلَاتَهَا وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ تَفْرِيعًا عَلَى إجَازَةِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عُمَرَ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَشْهَبُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تُكْمِلُ صَلَاتَهَا وَتَذْهَبُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَجِيءُ حِينَئِذٍ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَتَأْتِي بِمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهَا وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوَّ وَرَجَعَ أُولَئِكَ إلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا } فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَشَارَ بِأُولَئِكَ الَّتِي هِيَ إشَارَةُ الْبَعِيدِ إلَى الْفِرْقَةِ الَّتِي كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ الْإِمَامِ وَقْتَ

سَلَامِهِ وَهِيَ الْفِرْقَةُ الْأُولَى وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخَذَ بِهَذَا وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ مَا قَدَّمْته وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الَّتِي بَدَأَتْ بِقَضَاءِ الرَّكْعَةِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إنَّهُ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ قَالَ وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَضَاءِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ وَرَاءَهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَلُّ أَفْعَالًا فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ رُجُوعِهِمْ إلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ عَوْدِهِمْ إلَى مُصَلَّاهُمْ لِقَضَاءِ الرَّكْعَةِ .
قَالَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي كَوْنِ الَّذِينَ صَلَّوْا خَلْفَهُ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ قَامُوا وَرَاءَهُ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قِيلَ إنَّ الطَّائِفَتَيْنِ قَضَوْا رَكْعَتَهُمْ الْبَاقِيَةَ مَعًا وَقِيلَ مُفْتَرِقِينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأَوَّلَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ وَالثَّانِي عَنْ أَشْهَبُ وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ مِثْلَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ إلَّا قَوْلَهُ إنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَا تَقْرَأُ فِي رَكْعَتِهَا الَّتِي تَقْضِيهَا كَمَا سَنَحْكِيهِ عَنْهُ فِي الْفَائِدَةِ السَّابِعَةِ .

( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ الطَّائِفَةَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَسَاوَى عَدَدُ الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ تَكُونَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَكْثَرَ عَدَدًا وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَحْرُسُ يَحْصُلُ بِهَا الثِّقَةُ فِي التَّحَصُّنِ مِنْ الْعَدُوِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُقَاوَمَةٌ لِلْعَدُوِّ .
( السَّادِسَةُ ) ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ طَائِفَةٍ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فَمَا زَادَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَأَيْضًا فَقَدْ عَبَّرَ عَنْ الطَّائِفَةِ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ لَمْ يُصَلُّوا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الضَّمَائِرِ قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي مِنْهُمْ إنْ كَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَرِهْنَاهُ لِأَنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُشْتَرَطَ هَذَا لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ عَدَدٌ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الْمُصَلِّينَ عَدَدَ الصَّحَابَةِ وَلِذَلِكَ اكْتَفَيْنَا بِثَلَاثَةٍ وَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ كَذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ مِنْ حَضَرَهُ خَوْفٌ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا فَأَمِيرُهُمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَبَرَ الثَّلَاثَةَ فِي الْمَجْمُوعِ لَا فِي كُلِّ فِرْقَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُمْ فِرْقَتَيْنِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ ثَلَاثَةٌ الْإِمَامُ وَمَعَهُ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ وَاحِدٌ وَفِي الْأُخْرَى آخَرُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْأَكْثَرُونَ لِذَلِكَ عَدَدًا وَقَالُوا الطَّائِفَةُ لُغَةً الْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } فَالْفِرْقَةُ ثَلَاثَةٌ فَمَا زَادَ

وَالطَّائِفَةُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لَكِنْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ كَوْنَ الطَّائِفَةِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وَعِبَارَتُهُ فِي الْأُمِّ فَإِنْ حَرَسَهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ أَقَلَّ اسْمِ الطَّائِفَةِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِمْ وَلَا إعَادَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِهَذَا الْحَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا أَجْزَأَ الطَّائِفَةَ أَجْزَأَ الْوَاحِدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى .

( السَّابِعَةُ ) اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إذَا أَتَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِالرَّكْعَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا هَلْ يَأْتِي فِيهَا بِقِرَاءَةٍ أَمْ لَا ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِقِرَاءَةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فِي رَكْعَتِهَا الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأُولَى لَاحِقَةٌ وَالثَّانِيَةَ مَسْبُوقَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ لَا بُدَّ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ { فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً } إذْ الرَّكْعَةُ الْمَعْهُودَةُ شَرْعًا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ إنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ قِرَاءَةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا زَادَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ قَبْلَهُ .

( الثَّامِنَةُ ) تَسْمِيَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةَ الْخَوْفِ يَقْتَضِي فِعْلَهَا عِنْدَ كُلِّ خَوْفٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْقِتَالُ مَعْصِيَةً فَيَجُوزُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَلِأَهْلِ الْعَدْلِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَالرُّفْقَةِ فِي قِتَالِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَلَا يَجُوزُ لِلْبُغَاةِ وَالْقُطَّاعِ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةً يَرْتَكِبُونَ فِيهَا مَا لَا يُبَاحُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إعَانَتِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ أَمَّا مَا يُبَاحُ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ مِنْ كَوْنِ الْإِمَامِ يُصَلِّي بِكُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعَ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْعُصَاةُ إذْ لَا تَرَخُّصَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةُ ) مَشْرُوعِيَّةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ تَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُغْتَفَرُ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ سَبَبُهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَلَوْ صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .

( الْعَاشِرَةُ ) ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِي جِهَتِهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يُفَرِّقُوا وَلَمَّا قَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِيهِ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِي غَيْرِ جِهَتِهَا وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْأَكْثَرُونَ إلَى حَمْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ كَانَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَكِنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَائِلٌ يَمْنَعُ رُؤْيَتَهُمْ لَوْ هَجَمُوا فَإِنْ كَانُوا فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِلَا حَائِلٍ فَالْمَشْرُوعُ حِينَئِذٍ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعُسْفَانَ وَهُوَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ الْإِمَامُ صَفَّيْنِ وَيُحْرِمَ بِالْجَمِيعِ فَيُصَلُّوا مَعَهُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الِاعْتِدَالِ عَنْ رُكُوعِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَيَسْجُدَ مَعَهُ صَفٌّ وَيَحْرُسَ آخَرُ فَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ وَالسَّاجِدُونَ سَجَدَ أَهْلُ الصَّفِّ الْآخَرِ وَلَحِقُوهُ فَقَرَأَ الْجَمِيعُ مَعَهُ وَرَكَعُوا وَاعْتَدَلُوا فَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ مَعَهُ الْحَارِسُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَحَرَسَ الْآخَرُونَ فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ سَجَدُوا وَلَحِقُوهُ وَتَشْهَدُوا كُلُّهُمْ مَعَهُ وَسَلَّمَ بِهِمْ وَهَذِهِ ثَابِتَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إخْوَانَهُمْ وَأَتَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ { أَنَّهُمْ رَكَعُوا مَعَهُ جَمِيعًا وَإِنَّمَا كَانَتْ الْحِرَاسَةُ

فِي السُّجُودِ } وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { صَفَّنَا صَفَّيْنِ وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ قَالَ فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرْنَا وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الثَّانِي فَقَامَ مَقَامَ أُولَئِكَ فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرْنَا وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَقَامَ الثَّانِي فَلَمَّا سَجَدُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا } الْحَدِيثَ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ الْأَخْذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ صَلَاةُ عُسْفَانَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَانَ الْعَدُوُّ فِي الْقِبْلَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الثَّوْرِيَّ مَرَّةً أَخَذَ بِهَذَا وَمَرَّةً أَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحِرَاسَةَ فِي السُّجُودِ خَاصَّةٌ دُونَ الرُّكُوعِ وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَلِهَذِهِ الصَّلَاةِ تَفَاصِيلُ وَتَفَارِيعُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِثْلَ صَلَاةِ الْخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَمَنْ مَعَهُ كَرِهْت لَهُ وَلَمْ يَبِنْ أَنَّ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ إعَادَةً وَلَا عَلَيْهِ انْتَهَى .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) لَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ نَفْيُ مَا عَدَاهَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا

جَازَ أَنْ تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى خِلَافِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا كَيْفَ تَيَسَّرَ لَهُمْ وَبِقَدْرِ حَالَاتِهِمْ وَحَالَاتِ الْعَدُوِّ إذَا أَكْمَلُوا الْعَدَدَ فَاخْتَلَفَتْ صَلَاتُهُمْ وَكُلُّهَا مُجْزِئَةٌ عَنْهُمْ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا هُوَ الْأَوْلَى بِالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُتَابَعَتِهِ الْحَدِيثَ إذَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَهُ وَجْهُ اتِّبَاعٍ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى أَوْجُهٍ وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا حَدِيثًا صَحِيحًا وَاخْتَارَ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ثَبَتَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَرَأَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا عَلَى قَدْرِ الْخَوْفِ قَالَ وَلَسْنَا نَخْتَارُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ صَلَاةُ الْخَوْفِ أَنْوَاعٌ صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ يَتَحَرَّى فِي كُلِّهَا مَا هُوَ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَأَبْلَغُ فِي الْحِرَاسَةِ فَهِيَ عَلَى اخْتِلَافِ صُوَرِهَا مُتَّفِقَةُ الْمَعْنَى وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَحَادِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ .
وَقَالَ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ كُلُّهَا ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَقَدْ قَالَ بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالطَّبَرِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِجَوَازِ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا قَالَ وَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ مِنْ هَذَا الْبَابِ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عِنْدِي مَنْ صَلَّى بِغَيْرِهِ مِمَّا قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي

حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ لَمْ يَقْضُوا الرَّكْعَةَ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ سُنَنِهِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَالَ وَأَمَّا صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتُهَا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَهَا إمَامُهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمّ بِهِ } .
قَالَ وَالْحُجَّةُ فِي اخْتِيَارِنَا هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ أَصَحُّهَا إسْنَادًا وَأَشْبَهُهَا بِالْأُصُولِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا انْتَهَى وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ ثَمَانِي صُوَرٍ وَذَكَرَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ تِسْعَةَ أَنْوَاعٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا كُلُّهَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَجْهًا آخَرَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ مَجْمُوعُهَا سِتَّةَ عَشَرَ وَجْهًا وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَقَدْ جَمَعْت طُرُقَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَبَلَغَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ وَرَقَاتٍ فَلْتُرَاجَعْ مِنْهُ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) كَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً أَوْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً لَكِنَّهَا مَقْصُورَةٌ فَلَوْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ ثُلَاثِيَّةً وَهِيَ الْمَغْرِبُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَبَيْنَ أَنْ يَعْكِسَ فَيُصَلِّيَ بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ وَأَيُّهُمَا أَوْلَى ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحَادِيثِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي تَفْرِيقِهِمْ فِرْقَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَيُصَلِّي بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً فِيمَا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ رُبَاعِيَّةً وَلَمْ تُقْصَرْ وَلَا أَنْ يُفَرِّقَهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ فِي الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّيَ بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً إذْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَالرُّخَصُ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ إنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ بَاطِلَةٌ لِزِيَادَتِهِ عَلَى انْتِظَارَيْنِ وَلَمْ يُعْهَدُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سِوَاهُمَا وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُقْتَدُونَ بِهِ بَعْدَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ لِمُفَارَقَتِهِمْ الْإِمَامَ قَبْلَ طَرَيَان الْمُبْطِلِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : فِيهِمْ قَوْلًا الْمُفَارَقَةُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَفِي صَلَاةِ

الْمَأْمُومِينَ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا صِحَّتُهَا أَيْضًا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحَيْثُ جَوَّزْنَا فَيُشْتَرَطُ أَنْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَتَبِعَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأَكْثَرُونَ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ فَاسِدَةٌ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الَّذِي يَبْطُلُ صَلَاةُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ خَاصَّةً وَصَلَاةُ غَيْرِهِمَا صَحِيحَةٌ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تَخْتَصُّ بِحَالَةِ السَّفَرِ بَلْ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْحَضَرِ أَيْضًا لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كُلَّهَا كَانَتْ فِي السَّفَرِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا فِي الْحَضَرِ عِنْدَ حُصُولِ الْخَوْفِ وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ } الْآيَةَ فَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِسَفَرٍ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْخَوْفِ بِبَطْنِ نَخْلٍ كَانَتْ بِبَعْضِ نَخْلِ الْمَدِينَةِ لَكِنْ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّلَاةَ بِبَطْنِ نَخْلٍ هِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ انْتَهَى وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَقَالَ بِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } إنَّ هَذَا لَيْسَ قَصْرُ السَّفَرِ وَإِنَّمَا هُوَ قَصْرُ الْخَوْفِ فَيُرَدُّ إلَى رَكْعَةٍ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى اخْتِصَاصِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِالسَّفَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) كَوْنُ الْإِمَامِ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَتُتِمُّ لِنَفْسِهَا مَا بَقِيَ لَيْسَ لَازِمًا فَلَوْ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ جَمِيعَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْإِمَامُ مُفْتَرِضًا فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى وَمُتَنَفِّلًا فِي الثَّانِيَةِ جَازَ وَهِيَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَطْنِ نَخْلٍ وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ { جَابِرٍ قَالَ أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِيهِ { وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِطَائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ قَالَ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ { بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَلَّمَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ } وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَحَكَوْهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَدَاوُد وَجَمَاعَةٍ انْتَهَى وَلَمْ تَقُلْ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ لِمَنْعِهِمْ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ قَدْ ادَّعَى مَا لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ النَّوَوِيُّ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إذْ لَا دَلِيلَ لِنَسْخِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ إنَّمَا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ قَالَ وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي نَسَخَهُ ؟ فَإِنْ أَرَادَ بِالنَّاسِخِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ {

لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَلَيْسَ هَذَا نَاسِخًا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ { إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ بَعْدَ أَنْ صَلَّوْهَا مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَيَزِيدُ بْنُ عَامِرٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمِحْجَنُ بْنُ أَبِي مِحْجَنٍ الدِّيلِيُّ رَوَاهُ النَّسَائِيّ فَإِنْ قَالَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِعَادَةِ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ فَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَتِهَا قُلْنَا وَقَدْ أَمَرَ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ بِإِعَادَتِهَا لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهَا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَأْتَجِرُ عَلَى هَذَا ؟ فَقَامَ رَجُلٌ وَصَلَّى مَعَهُ } لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد { أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ } وَقَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً بَعْدَ أَنْ صُلِّيَتْ جَمَاعَةً فِي مَرَضِ مَوْتِهِ حِينَ صَلَّى عُمَرُ بِالنَّاسِ فَبَعَثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَلَا تُنْكَرُ حِينَئِذٍ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ لِتَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ لَهُمْ وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى لَمَا كَانَ بِهِ بَأْسٌ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالصَّلَاةِ مَعَهُ بَلْ فِي

صَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أُمُورٌ لَا تَصْلُحُ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ مِنْ ذَهَابِهِمْ إلَى الْعَدُوِّ وَاسْتِدْبَارِهِمْ الْقِبْلَةَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ كُلُّ ذَلِكَ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَهُ وَأَلَّا يَفُوزَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَأَمَّا صَلَاتُهُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ .
هَذَا كَلَامُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَاهُ رَجَّحَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى صَلَاتِهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَقَالَ فِيهَا تَحْصِيلُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِالتَّمَامِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ تَرْجِيحُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ لِأَنَّهَا أَعْدَلُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَلِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ صَلَاةُ مُفْتَرِضٍ خَلْفَ مُتَنَفِّلٍ وَفِي صِحَّتِهِ الْخِلَافُ لِلْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تَأْتِي فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا إذَا وُجِدَ الْخَوْفُ فِيهَا وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا عَلَى هَيْئَةِ صَلَاةِ عُسْفَانَ بِأَنْ يُرَتِّبَهُمْ صَفَّيْنِ وَيَحْرُسَ فِي سُجُودِ كُلِّ رَكْعَةٍ صَفٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَاَلَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَيْضًا عَلَى هَيْئَةِ صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ لَكِنْ بِشَرْطَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَخْطُبَ بِهِمْ جَمِيعًا ثُمَّ يُفَرِّقَهُمْ أَوْ يَخْطُبَ بِفِرْقَةٍ وَيَجْعَلَ مِنْهَا مَعَ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا فَلَوْ خَطَبَ بِفِرْقَةٍ وَصَلَّى بِأُخْرَى لَمْ يَجُزْ ( الثَّانِي ) أَلَّا يُنْقِصَ الْفِرْقَةَ الْأُولَى عَنْ أَرْبَعِينَ وَلَا يَضُرُّ نَقْصُ الثَّانِيَةِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ قَالُوا وَلَا يَجُوزُ صَلَاةُ بَطْنِ نَخْلٍ عَلَى الْأَصَحِّ إذْ لَا تُقَامُ جُمُعَةٌ بَعْدَ جُمُعَةٍ وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ صَلَاةَ الْخَوْفِ إذَا كَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَرْبَعِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) أَحَادِيثُ صَلَاةِ الْخَوْفِ نَاسِخَةٌ لِجَمْعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَيْنَ صَلَوَاتٍ عَدِيدَةٍ فَكَانَ حُكْمُ الشَّرْعِ أَوَّلًا جَوَازُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِلِاشْتِغَالِ بِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الشُّغْلُ فَيَأْتِيَ بِمَا فَاتَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ .
وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّ سَنَةٍ كَانَتْ ؟ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ أَوَائِلِ سَنَةِ سِتٍّ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي بَابِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى جَاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ وَهَذَا مُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ سَنَةَ سَبْعٍ لَكِنَّهُ أَخَّرَ ذِكْرَ خَيْبَرَ عَنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِخَمْسِ غَزَوَاتٍ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْغَزْوَةُ السَّابِعَةُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ فِي غَزْوَتِهِ السَّابِعَةِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ } .
وَمُقْتَضَى كَوْنِهَا بَعْدَ خَيْبَرَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْغَزْوَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَ فَحَصَلَ خِلَافٌ هَلْ هِيَ سَنَةُ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْيَعْمُرِيُّ الْأَوَّلُ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالرَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهَا آخِرُ الْغَزَوَاتِ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكَلِ الْوَسِيطِ وَقَالَ لَيْسَتْ آخِرُهَا وَلَا مِنْ أَوَاخِرِهَا وَإِنَّمَا آخِرُ غَزَوَاتِهِ تَبُوكُ انْتَهَى قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ وَإِنْ أَرَادَ أَيْ

الْغَزَالِيُّ أَنَّهَا آخِرُ غَزَاةٍ صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا .
فَقَدْ { صَلَّى مَعَهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ أَبُو بَكْرَةَ وَإِنَّمَا نَزَلَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ } تَدَلَّى بِبَكْرَةٍ فَكُنِّيَ بِهَا وَلَيْسَ بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ غَزْوَةٌ إلَّا غَزْوَةَ تَبُوكَ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إنَّ صِفَةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَفْضَلُ صِفَاتِ صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَنَّهُ آخِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا انْتَهَى .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَانَ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لَقَدْ أَصَبْنَا لَهُمْ غَزْوَةً وَلَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً فَنَزَلَتْ يَعْنِي صَلَاةَ الْخَوْفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ } الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ { فَنَزَلَتْ آيَةُ الْقَصْرِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ } .

( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) ذَكَرَ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي عَشْرَةِ مَوَاطِنَ } وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ { أَنَّهُ صَلَّاهَا فِي يَوْمِ ذَاتِ الرِّقَاعِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنْ الْهِجْرَةِ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ { أَنَّهُ صَلَّاهَا بِعُسْفَانَ وَيَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ } وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي غَزَاةِ جُهَيْنَةَ وَفِي غَزَاةِ بَنِي مُحَارِبَ بِنَخْلٍ وَرُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّاهَا فِي غَزْوَةٍ بِنَجْدٍ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ وَغَزْوَةُ غَطَفَانَ } قَالَ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ صَلَاتَهُ إيَّاهَا بِبَطْنِ نَخْلٍ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ صَلَاتَهَا بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ لَكِنَّ مُسْلِمٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ انْتَهَى .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّاهَا يَوْمَ ذِي قَرَدٍ } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَقَالَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ لَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ الْأَحَادِيثِ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى بِهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْهَا عَشَرَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ سُمِّيَتْ بِخَمْسَةِ أَسْمَاءٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ غَزْوَةُ مُحَارِبِ حَفْصَةَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ فَنَزَلَ نَخْلًا وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِ الْإِكْلِيلِ حِينَ ذَكَرَ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ مُحَارَبٍ وَيُقَالُ غَزْوَةُ حَفْصَةَ وَيُقَالُ غَزْوَةُ ثَعْلَبَةَ وَيُقَالُ غَطَفَانُ قَالَ الْحَاكِمُ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ هَكَذَا حَكَى الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي السِّيرَةِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَتَّى نَزَلَ نَخْلًا وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ

الرِّقَاعِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ ذَكَرَ ذَاتَ الرِّقَاعِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَغَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ - ( الَّتِي ) - صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى بِهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ الْغَزَوَاتِ ذَاتُ الرِّقَاعِ وَذُو قَرَدٍ وَعُسْفَانُ وَكَذَلِكَ صَلَّاهَا فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ لِصِحَّةِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَلَيْسَ بَعْدَهَا إلَّا تَبُوكَ وَلَيْسَ فِيهَا لِقَاءٌ لِلْعَدُوِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَزَاةَ نَجْدٍ مَرَّتَانِ وَأَنَّ الَّتِي شَهِدَهَا أَبُو مُوسَى وَأَبُو هُرَيْرَةَ هِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ الثَّانِيَةُ لِصِحَّةِ حَدِيثَيْهِمَا فِي شُهُودِهَا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ { وَسُئِلَ عَنْ إقْصَارِ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَيْنَ أُنْزِلَ وَأَيْنَ هُوَ ؟ فَقَالَ خَرَجْنَا نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ أَتَتْ مِنْ الشَّامِ حَتَّى إذَا كُنَّا بِنَخْلٍ } الْحَدِيثَ وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ بِأَسَانِيدَ إلَى جَابِرٍ { أَنَّ خَالَنَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَنْمَارًا وَثَعْلَبَةَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جُمُوعًا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقَعُ فِيهَا قِتَالٌ وَصَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ } وَهَذَا كَمَا تَرَى السَّبَبُ مُخْتَلِفٌ وَكَيْفِيَّةُ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّهُمْ قَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا } وَفِي هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قَالَ وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حُضُورُهُ غَزْوَةَ نَجْدٍ وَصَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى حُضُورُهُ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا مَرَّتَيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ خَيْبَرَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا فِي السَّادِسَةِ كَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ الْقُشَيْرِيِّ فَكَأَنَّهُ حَسَبَ السَّنَةِ مُلَفَّقَةٌ بِأَنَّهَا أَوَّلُ السَّابِعَةِ وَهِيَ آخِرُ السَّادِسَةِ إذَا عَدَدْنَا مِنْ شَهْرِ الْهِجْرَةِ وَهُوَ شَهْرُ رَبِيعٍ

الْأَوَّلِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ فَوَهْمٌ قَطْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّاهَا مَرَّاتٍ فِي غَزَاةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّهُ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ } وَكَذَا { صَلَّى بِعُسْفَانَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ صَلَاتُهُ فِي الْخَوْفِ بِالْقَوْمِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ .

( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) هَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي مَنْعَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنْ وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى رَكْعَةٍ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ قَالَ { كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بِطَبَرِسْتَانَ فَقَامَ فَقَالَ أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا فَصَلَّى لِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا } لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ بَعْدَ قَوْلِ حُذَيْفَةَ أَنَا فَوَصَفَ فَقَالَ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً صَفَّ خَلْفَهُ وَطَائِفَةٍ أُخْرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّتِي تَلِيهِ رَكْعَةً ثُمَّ نَكَصَ هَؤُلَاءِ إلَى مَصَافِّ أُولَئِكَ وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ صَلَاةِ حُذَيْفَةَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَسَاقَ لَفْظَهُ بِمَعْنَاهُ وَفِي آخِرِهِ { فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ } وَالْقَاسِمُ بْنُ حَسَّانَ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ وَلَا يُعْرَفُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي قَرَدٍ } فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ { وَلَمْ يَقْضُوا } وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً } وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَفِي آخِرِهِ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ وَلَهُمْ رَكْعَةٌ } فَأَخَذَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَجَوَّزَ لِكُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الِاقْتِصَارَ عَلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ رَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَالَ فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَقَالَ بِهَا جُمْهُورُ السَّلَفِ كَمَا رَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ أَيَّامَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَعَنْ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِمَنْ مَعَهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَلَّاهَا بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ وَلَا أَمَرَ بِالْقَضَاءِ ثُمَّ سَاقَ آثَارًا عَنْ السَّلَفِ يَشْهَدُ ظَاهِرُهَا لِمَا قَالَ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ قَالَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَخَرَّجَ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ صَلَاةِ كُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي عُمُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ جَوَازَهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ سِتَّةَ أَوْجُهٍ وَلَا أَعْلَمُ وَجْهًا سَادِسًا سِوَاهَا قَالَ وَأَصْحَابُنَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي لَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ قَالَ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ لَا يُجِيزُونَ رَكْعَةً وَاَلَّذِي قَالَ مِنْهُمْ رَكْعَةً إنَّمَا جَعَلَهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ وَاَلَّذِينَ رَوَيْنَا عَنْهُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا عَنْ رَكْعَتَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَحْضُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَوَاتِهِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ فَصَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ قُدَامَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَيْسَ يَثْبُتُ حَدِيثٌ رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِذِي قَرَدٍ يَعْنِي الَّذِي فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَمْ يَقْضُوا فِي عِلْمِ الرَّاوِي لِأَنَّهُ قَدْ رَوَى غَيْرُهُ أَنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ مُرَادَهُ لَمْ يَقْضُوا إذَا أَمِنُوا فَلَا يَقْضِي الْخَائِفُ إذَا أَمِنَ مَا صَلَّى عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ { صَلَّوْا فِي الْخَوْفِ رَكْعَةً } أَيْ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَكَتَ عَنْ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْهَا أَفْرَادًا انْتَهَى .
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ مِنْ طَرِيقٍ وَفِيهِ فَذَكَرَ صَلَاةً مِثْلَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ وَقَالَ فَقَوْلُ الرَّاوِي فِي رِوَايَةِ ثَعْلَبَةَ وَصَفٌّ يُوَازِي الْعَدُوَّ يُرِيدُ بِهِ حَالَةَ السُّجُودِ وَقَوْلُهُ ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إلَى مَكَانِ هَؤُلَاءِ وَجَاءَ أُولَئِكَ يُرِيدُ بِهِ تَقَدُّمَ الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ وَتَأَخُّرَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَفِي ذَلِكَ قَضَاءُ الرَّكْعَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى قَضَاءِ شَيْءٍ بَعْدَهُ وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ فَوَجَبَ حَمْلُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ انْتَهَى .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ عَمِلَ بِظَاهِرِهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَصَلَاةِ الْأَمْنِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَرَكْعَةٌ أُخْرَى يَأْتِي بِهَا مُنْفَرِدًا كَمَا جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي صَلَاةِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ انْتَهَى وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْقَوْلِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَةٍ فِي الْخَوْفِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ لَا قَصْرَ فِيهِمَا وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْعِشْرُونَ ) جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَرْكِهِ بِحَالٍ لِقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَلْتَحِمْ لَكِنْ لَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَرْكَبُوا أَكْتَافَهُمْ لَوْ انْقَسَمُوا فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُرَاعَاةُ مَا عَجَزُوا عَنْهُ مِنْ الْأَرْكَانِ وَقَدْ أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ إلَى آخِرِهِ فَنَبَّهَ عَلَى تَرْكِ الْقِيَامِ بِقَوْلِهِ رُكْبَانًا وَعَلَى تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ بِقَوْلِهِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا وَالْمُرَادُ إذَا عَجَزُوا عَنْ الِاسْتِقْبَالِ بِسَبَبِ الْعَدُوِّ فَلَوْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ بِجِمَاحِ الدَّابَّةِ وَطَالَ الزَّمَانُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيُمَكِّنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَشَارَ إلَى تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْإِيمَاءِ بِهِمَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَوْ قِيَامُهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ فِي كُلِّ حَالَاتِ الصَّلَاةِ حَتَّى فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِرَادَةِ الْقِيَامِ عَلَى الْأَقْدَامِ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فَإِنَّ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ السَّعَةِ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِحَالَةِ الرُّكُوبِ كَمَا ذَكَرَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ تَوْطِئَةً لِحَالَةِ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ { تُومِئُ إيمَاءً } وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخَافُوا فَوْتَ الْوَقْتِ فَحِينَئِذٍ يُصَلُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا تَعَرُّضًا لِذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ التَّأْخِيرِ فَكَلَامُ

أَصْحَابِنَا يُنَافِيهِ وَإِنْ أَرَادُوا اسْتِحْبَابَهُ فَلَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُهُمْ وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى تَزُولَ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُمَا اسْتَدَلَّا { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ } وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ثُمَّ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَغَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فَنَسِيَ الصَّلَاةَ فَقَدْ نَقَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَأَكَّدَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا فِي مُسَابِقَةٍ تُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ انْتَهَى وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ يُصَلِّي فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ بِالْإِيمَاءِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَإِنْ فَعَلُوا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الصَّلَاةَ مَعَ اخْتِلَالِ الْأَرْكَانِ إلَّا فِي حَالَةِ الِاحْتِيَاجِ لِلْفِعْلِ الْكَثِيرِ الْمُنَافِي لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَغْتَفِرُوا ذَلِكَ وَأَخَّرُوا الصَّلَاةَ لِأَجْلِهِ فَخَالَفُوا الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَقَطْ لَا مُطْلَقًا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُصَلُّونَ إيمَاءً فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ وَيَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ وَقَالَ أَنَسٌ حَضَرْت مُنَاهَضَةَ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إضَاءَةِ الْفَجْرِ وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ فَلَمْ يُصَلُّوا إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى حَكَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى اغْتِفَارِ الْقِتَالِ وَالْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا وَأَمَّا

الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَوْ أَقْوَالٍ ( أَصَحُّهَا ) وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ اغْتِفَارُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ ( وَالثَّانِي ) أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِهِ وَحَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ( وَالثَّالِثُ ) تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إنْ كَانَ فِي شَخْصٍ وَلَا تَبْطُلُ فِي أَشْخَاصٍ وَالشَّافِعِيَّةُ تَفْرِيعًا عَلَى الرَّأْي الثَّانِي عِنْدَهُمْ لَا يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ بَلْ يُوجِبُونَ التَّمَادِي فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ حُكْمِهِمْ بِبُطْلَانِهَا وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فَقَالَ فِيمَا إذَا تَابَعَ الضَّرْبَ أَوْ الطَّعْنَ لَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ وَيَمْضِي فِيهَا قَالَ وَلَا يَدَعُهَا فِي هَذَا الْحَال إذَا خَافَ ذَهَابَ وَقْتِهَا وَيُصَلِّيهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا انْتَهَى .
وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ مُنْفَرِدُونَ مِنْ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ بِالْقَوْلِ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ إنَّمَا قَالَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْإِيمَاءِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَجْزُ عَنْ الْإِيمَاءِ مَعَ حُضُورِ الْعَقْلِ إلَّا أَنْ تَقْوَى الدَّهْشَةُ فَتَمْنَعَ اسْتِحْضَارَ ذَلِكَ فَيَكُونَ نِسْيَانًا وَقَالَ الْأَصِيلِيُّ مَعْنَى قَوْلِ أَنَسٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا السَّبِيلَ إلَى الْوُضُوءِ مِنْ شِدَّةِ الْقِتَالِ فَأَخَّرُوا الصَّلَاةَ إلَى وُجُودِ الْمَاءِ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا الْمَاءَ اسْتَعْمَلُوا التُّرَابَ وَإِذَا فَقَدُوا التُّرَابَ صَلَّوْا عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اخْتَارَ مِنْ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ هَذَا الْوَجْهَ يَعْنِي صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عُمَرَ مِنْ ذَهَابِهِمْ إلَى الْعَدُوِّ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَشْيِ الْكَثِيرِ وَالْعَمَلِ الطَّوِيلِ

وَالِاسْتِدْبَارِ مَعَ الْغَنَاءِ عَنْهُ وَإِمْكَانِ الصَّلَاةِ بِدُونِهِ ثُمَّ مَنَعَهُ فِي حَالٍ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ وَكَانَ الْعَكْسُ أَوْلَى لَا سِيَّمَا مَعَ نَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الرُّخْصَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَإِنْ عَمَدَ كَلِمَةً يُحَذِّرُ بِهَا مُسْلِمًا أَوْ يَسْتَرْهِبُ بِهَا عَدُوًّا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ فَقَدْ نُقِضَتْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَتَى أَمْكَنَهُ انْتَهَى وَفِي الْجَوَاهِرِ لِابْنِ شَاسٍ وَلَا يَتْرُكُونَ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ انْتَهَى وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ خِلَافُ الْمَالِكِيَّةِ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأَقْوَالِ وَأَنَّهُمْ يَغْتَفِرُونَهَا كَالْأَفْعَالِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَغْتَفِرُهَا وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْ الصِّيَاحِ بِكُلِّ حَالٍ بِلَا خِلَافٍ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ انْتَهَى وَمُقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةُ النُّطْقِ بِلَا صِيَاحٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) إنْ قُلْت لَمْ يُضْبَطْ الْخَوْفُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ بِضَابِطٍ قُلْت ضَابِطُهُ أَنْ لَا يَتَمَكَّنُوا مِنْ الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا مِنْ انْقِسَامِهِمْ فِرْقَتَيْنِ مَعَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا بَلْ يُضْطَرُّونَ لِمَا هُمْ فِيهِ لِلْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْأَرْكَانِ أَوْ الشَّرَائِطِ .

( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) إطْلَاقُ الْخَوْفِ يَتَنَاوَلُ مَا يَخْرُجُ إلَى الْمُقَاتَلَةِ وَمَا يَخْرُجُ إلَى الْهَرَبِ وَالشَّرْطُ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَا مُبَاحَيْنِ فَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ لِلْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِارْتِكَابِهِمْ بِذَلِكَ مَعْصِيَةً وَلَا لِلْمُنْهَزِمِ مِنْ الْكُفَّارِ لَا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ حَيْثُ حَرُمَ بِذَلِكَ ، بِأَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى ضِعْفِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي كُلِّ هَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ سَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ إذَا لَمْ يَجِدْ مَعْدِلًا عَنْهُ أَوْ مِنْ سَبْعٍ .
قَالَ أَصْحَابُنَا وَكَذَا الْمَدْيُونُ الْمُعْسِرُ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ وَلَوْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِحَبْسِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ يَرْجُو الْعَفْوَ عَنْهُ إذَا سَكَنَ الْغَضَبُ بِتَغَيُّبِهِ وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ جَوَازَ هَرَبِهِ بِهَذَا التَّوَقُّعِ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا انْهَزَمَ الْكُفَّارُ وَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَالصُّورَةُ أَنَّهُمْ لَوْ ثَبَتُوا وَكَمَّلُوا الصَّلَاةَ فَاتَهُمْ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُمْ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا إنْ خَافُوا كَمِينًا أَوْ كَرَّتَهُمْ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ خَوْفِ مَعَرَّتِهِمْ إنْ تَرَكُوا وَعَدَمِ ذَلِكَ وَفِي الْمَنْعِ مُطْلَقًا نَظَرٌ لِمَا رَوَى .
أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ قَالَ { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ عَرَفَاتٍ فَقَالَ اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ قَالَ فَرَأَيْته وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقُلْتُ إنِّي لَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا إنْ أُؤَخِّرْ الصَّلَاةَ فَانْطَلَقْت أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إيمَاءً نَحْوَهُ فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ لِي مَنْ أَنْتَ قُلْتُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بَلَغَنِي أَنَّك تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ فَجِئْتُك فِي ذَاكَ قَالَ إنِّي

لَفِي ذَاكَ فَمَشَيْت مَعَهُ سَاعَةً حَتَّى إذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي حَتَّى بَرَدَ } وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ أَطْوَلَ مِنْهُ وَقَدْ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ هَذَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَكِنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَدَلُّوا بِهِ وَأَقَامُوهُ رَدًّا عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فِي مَنْعِهِمْ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَعَ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْمَشْيِ الْكَثِيرِ وَقَدْ يُقَالُ لَيْسَ هَذَا كَيْفِيَّةَ صُوَرِ اتِّبَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُشْرِكَيْنِ لِوُرُودِ الْأَمْرِ الْخَاصِّ فِيهِ وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَيَّنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ لِقَتْلِ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ وَجَعَلَ لَهُ عَلَامَةً عَلَيْهِ وَهِيَ قُشَعْرِيرَةٌ تَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ وَكَانَ مُعْجِزَةً وَعَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اغْتِفَارِ الْمَشْيِ الْكَثِيرِ فِي تَبَعِيَّتِهِ اغْتِفَارُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ لَكِنْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَحْسُنُ رَدُّ أَصْحَابِنَا عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٌ فِي مَعْنَى الطَّالِبِ الَّذِي يَخْشَى كَرَّةَ الْعَدُوِّ إذْ لَا يَأْمَنُ شَرَّ خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ لَوْ عَرَفَهُ قَبْلَ الْمُبَادَرَةِ إلَيْهِ وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنْ كَانَ هُوَ الطَّالِبُ نَزَلَ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبُ صَلَّى عَلَى ظَهْرٍ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَقَالَ لَهُ الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرٍ وَإِنْ كَانَ طَالِبًا وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَدْ يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ ( فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا ) يَقْتَضِي فِعْلَ ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي حَالَةِ مُطْلَقِ الْخَوْفِ

وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَقَالُوا إنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَفْضَلُ مِنْ الِانْفِرَادِ كَحَالَةِ الْأَمْنِ وَاقْتَصَرَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ وَأَوْجَبُوا الِانْفِرَادَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ بِجَمَاعَةٍ قَالَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِانْعِدَامِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَكَانِ انْتَهَى .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا اقْتِدَاءُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا ، وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ احْتِمَالًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ { فَهَذَا يَوْمُهُمْ وَقَالَ فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَالْيَهُودُ غَدًا } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ { وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { بَيْدَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتِيَتْ وَزَادَ فِيهَا ثُمَّ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا }

{ بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ } ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ { فَهَذَا يَوْمُهُمْ وَقَالَ فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَالْيَهُودُ غَدًا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { بَيْدَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتِيَتْ الْكِتَابَ } وَفِيهَا { ثُمَّ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا } وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ لَعَلَّ عَلَيْهِمْ أَصَحُّ لِمُوَافَقَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ { فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ } وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنْ صَحِيحَيْهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ } الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ

يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هَدَانَا اللَّهُ لَهُ قَالَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { نَحْنُ الْآخِرُونَ } بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ فِي الزَّمَانِ وَالْوُجُودِ وَإِعْطَاءِ الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ { السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ بِالْفَضْلِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ فَتَدْخُلُ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْجَنَّةَ قَبْلَ سَائِرِ الْأُمَمِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } وَالتَّقَيُّدُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُرَادَ سَبْقُهُمْ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَيَّامِ بَعْدَهُ الَّتِي هِيَ تَبَعٌ لَهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُرَادَ سَبْقُهُمْ بِالْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ الَّتِي حُرِمُوهَا وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَصَحَّ وَصْفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْآخِرِيَّةِ وَالسَّبْقِ بِاعْتِبَارَيْنِ فَلَمَّا اخْتَلَفَ الِاعْتِبَارُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَنَافٍ فَإِنْ قُلْت كَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ آخِرَ الْأُمَمِ أَمْرٌ وَاضِحٌ فَمَا فَائِدَةُ الْإِخْبَارِ بِهِ ؟ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذُكِرَ تَوْطِئَةً لِوَصْفِهِمْ بِالسَّبْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ لَا يُتَخَيَّلُ مِنْ تَأَخُّرِهِمْ فِي الزَّمَنِ تَأَخُّرُهُمْ فِي الْحُظُوظِ الْأُخْرَوِيَّةِ بَلْ سَابِقُونَ فِيهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ آخِرُ الْأُمَمِ وَأَنَّ شَرِيعَتَهُمْ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ مَا دَامَ التَّكْلِيفُ مَوْجُودًا فَسَائِرُ الْأُمَمِ وَإِنْ سَبَقُوا لَكِنْ انْقَطَعَتْ شَرَائِعُهُمْ وَنُسِخَتْ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ شَرِيعَتَهَا بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَمْكَنُ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ فِي وَصْفِهِمْ بِالْآخِرِيَّةِ شَرَفٌ كَمَا أَنَّ فِي وَصْفِهِمْ بِالسَّبْقِ شَرَفًا وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ

ذِكْرُهُ مُجَرَّدَ تَوْطِئَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ بَيْدَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهَا مَيْدَ بِالْمِيمِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا بِمَعْنَى غَيْرَ وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ يُقَالُ هُوَ كَثِيرُ الْمَالِ بَيْدَ أَنَّهُ بَخِيلٌ وَذَكَرَ فِي الْمُحْكَمِ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ السِّكِّيتِ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى عَلَى حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَوَّلُ أَعْلَى وَحَكَى فِي الْمَشَارِقِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهَا بِمَعْنَى إلَّا ثُمَّ قَالَ وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ } وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بَعِيدٌ انْتَهَى وَأَنْشَدُوا عَلَى مَجِيئِهَا بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ قَوْلَ الشَّاعِرِ عَمْدًا فَعَلْت ذَاكَ بَيْدَ أَنِّي أَخَافُ إنْ هَلَكْت أَنْ تَزِنِّي وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ بَيْدَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ } بِمَعْنَى غَيْرَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَإِنَّمَا اسْتَبْعَدَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَوْنَ بَيْدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَشْرَحُهُ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ لِتَعَلُّقِهِ بِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ السَّابِقُونَ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ سَبْقِنَا كَوْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَيَتَّحِدُ فِي الْمَعْنَى كَوْنُهَا بِمَعْنَى غَيْرَ وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى عَلَى وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى إلَّا أَمَّا إذَا جَعَلْنَاهُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ الْآخِرُونَ اتَّجَهَ كَوْنُهَا بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِ أَيْ نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُوَ بَعِيدٌ كَمَا قَالَ لِبُعْدِهِ فِي اللَّفْظِ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْجِيهِ كَوْنِنَا الْآخِرِينَ بِهَذَا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ

مَعْلُومٌ إنَّمَا الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى تَوْجِيهِهِ كَوْنُنَا السَّابِقِينَ وَقَدْ بَيَّنَ وَجْهَهُ وَهُوَ السَّبْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْحُظُوظِ الْأُخْرَوِيَّةِ مِنْ الْإِرَاحَةِ مِنْ كَرْبِ الْمَوْقِفِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ يُقَالُ إذَا كَانَ السَّبْقُ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُسْتَثْنَى إيتَاؤُهُمْ الْكِتَابَ قَبْلَنَا لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا فَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا وَهُوَ سَبْقُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إيتَاؤُهُمْ الْكِتَابَ قَبْلَنَا فِي الدُّنْيَا يَظْهَرُ لَهُ ثَمَرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ سَبْقِنَا إلَى الْحُظُوظِ الْأُخْرَوِيَّةِ أَيْ إلَّا ثَمَرَةَ إيتَائِهِمْ قَبْلَنَا الْكِتَابَ يَظْهَرُ فِيهِ سَبْقُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ بُعْدٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ نَظَرٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ بِأَيْدٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أَيْ بِقُوَّةٍ أَعْطَانَاهَا اللَّهُ وَفَضَّلَنَا بِهَا لِقَبُولِ أَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ قَالَ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ إنَّهُمْ مَكْسُورَةً لِابْتِدَاءِ الْكَلَامِ وَاسْتِئْنَافِ التَّفْسِيرِ قَالَ وَقَدْ صَحَّتْ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ بَيْدَ كَمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ بِأَيْدٍ وَاخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي ضَبْطِهِ فَفِي بَعْضِهَا مَفْتُوحُ الْآخِرِ مِثْلُ بَيْدَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ أَلِفًا بِكَسْرِ الْبَاءِ فَكَسَرَ لِذَلِكَ الْيَاءَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا بِأَيْدٍ وَمَعْنَاهُ بِقُوَّةٍ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ رُوَاةِ مُسْلِمٍ

وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ فَقَالَ وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَيْدٍ أَنَّهُمْ وَلَمْ أَرَهُ فِي اللُّغَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهَا بِأَيْدٍ أَيْ بِقُوَّةٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ بِأَيْدٍ وَهُوَ مَضْبُوطٌ فِي الْأَصْلِ بِفَتْحِ آخِرِهِ وَالشَّافِعِيُّ لِمَا رَوَاهُ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْهُ .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ أُوتُوا الْكِتَابَ أَيْ أُعْطُوهُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَالْكِتَابُ التَّوْرَاةُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قُلْت وَهَذَا أَظْهَرُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ جِنْسُ الْكُتُبِ لِيَتَنَاوَلَ الزَّبُورَ وَغَيْرَهُ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { بَيْدَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتِيَتْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا } وَالْمُرَادُ الْأُمَمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتُبَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِكُلِّ أُمَّةٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً بِدَلِيلِ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ { الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ } وَيَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ جِنْسِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ حَيْثُ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَأُوتِينَاهُ عَلَى الْكِتَابِ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّوْرَاةُ لَمَا صَحَّ الْإِخْبَارُ بِأَنَّا أُوتِينَاهُ حَيْثُ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ وَلَعَلَّ هَذَا أَرْجَحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِعَيْنِهِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فُرِضَ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ فَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنَّمَا يَدُلُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمٌ مِنْ الْجُمُعَةِ وُكِّلَ إلَى اخْتِيَارِهِمْ لِيُقِيمُوا فِيهِ شَرِيعَتَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْأَيَّامِ يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلَمْ يَهْدِهِمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَادَّخَرَهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَهَدَاهُمْ لَهُ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ فَفُضِّلَتْ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ إذْ هُوَ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ وَفَضَّلَهُ اللَّهُ بِسَاعَةٍ يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ انْتَهَى .
وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَجَاءَ النَّوَوِيُّ .
وَفِي شَرْحِ

مُسْلِمٍ فَحَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي نَفْسِهِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ إنَّمَا حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَا أَبْرَدُ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا وَفَعَلُوا مَا لَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ ذُمُّوا ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِالْجُمُعَةِ وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضْلِهَا فَنَاظَرُوهُ أَنَّ السَّبْتَ أَفْضَلُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا قَالَ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ { الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا } .
وَقَوْلُهُ { فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ } وَلَوْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اخْتِلَافُهُمْ بَلْ كَانَ يَقُولُ خَالَفُوا فِيهِ انْتَهَى وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَجَّحَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا عَلَيْهِمْ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَجْعَلَ لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَرْجِيحًا عَلَى الْأُخْرَى فَهُمَا مَعًا صَحِيحَتَانِ وَقَدْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ اخْتِلَافُهُمْ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ اخْتَلَفُوا بِحَقٍّ بَلْ بَعْضُهُمْ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَبَعْضُهُمْ حَادَ عَنْهُ فَصَحَّ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي التَّنْزِيلِ { وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ } .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بِحَقٍّ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ وَإِذَا يُعْلَمُ أَحَدُ الْمُخْتَلِفِينَ بِالنَّصِّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ مُعْتَرِضًا عَلَى كَلَامِ الْقَاضِي وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِهِ صَرِيحًا وَنُصَّ عَلَى عَيْنِهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَلْزَمُ بِعَيْنِهِ أَمْ لَهُمْ إبْدَالُهُ فَأَبْدَلُوهُ وَغَلِطُوا فِي إبْدَالِهِ ؟ قُلْت وَهَذَا كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي الصَّوْمِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ فَأَبْدَلُوهُ بِغَيْرِهِ وَنَقَلُوا إلَى فَصْلٍ مُعْتَدِلٍ مَعَ زِيَادَةِ أَيَّامٍ ، فَالظَّاهِرُ الْأَرْجَحُ أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمُ

الْجُمُعَةِ بِعَيْنِهِ فَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، مَا نَدْرِي بِالْإِبْدَالِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّ أَوْجُهَ الْغَلَطِ وَالْمُخَالَفَةِ كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) فَإِنْ قُلْت مَا مَعْنَى افْتِرَاضِ الْيَوْمِ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فُرِضَ ؟ قُلْت لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حَذْفٍ ؛ إمَّا افْتِرَاضُ تَعْظِيمِهِ وَإِمَّا افْتِرَاضُ عِبَادَةٍ فِيهِ ، إمَّا هَذِهِ الْعِبَادَةُ الْمَخْصُوصَةُ الْمَشْرُوعَةُ لَنَا وَإِمَّا غَيْرُهَا

( السَّابِعَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ أَيْ فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا هَدَانَا لَهُ وَكَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى فَرْضِ الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قُلْت إنْ أَرَادُوا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ فَكَيْفَ صَحَّ الِاسْتِدْلَال لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ شَيْءٍ ؟ قُلْت لَمَّا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَكْتُوبَ عَلَيْنَا هُدِينَا لَهُ وَاَلَّذِي عَرَفْنَا مِنْ شَرْعِنَا هِدَايَتَنَا لَهُ هُوَ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ مَعَ مَا لِذَلِكَ مِنْ سَوَابِقَ وَلَوَاحِقَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ الْيَهُودُ غَدًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ أَيْ عِيدُ الْيَهُودِ غَدًا لِأَنَّ ظُرُوفَ الزَّمَانِ لَا تَكُونُ إخْبَارًا عَنْ الْجُثَثِ فَيُقَدَّرُ فِيهِ مَعْنًى لِيُمْكِنَ كَوْنُهُ خَبَرًا وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ تَقْدِيرُهُ الْيَهُودُ يُعَظِّمُونَ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ انْتَهَى وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ وَأَوْفَقُ لِكَلَامِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَقَلُّ تَقْدِيرًا وَتَكَلُّفًا

( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كَوْنِ الْيَوْمِ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى أَيْ بَعْدَ الْتِزَامِ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِالتَّعْيِينِ لَنَا وَبِالِاخْتِيَارِ لَهُمْ قُلْت وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كَوْنَ الْغَدِ لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ الْغَدِ لِلنَّصَارَى بِفِعْلِهِمْ وَزَعْمِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ لَا بِمَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ بِتَفْوِيضِ الِاخْتِيَارِ فِيهِ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْمَازِرِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ تَعَلُّقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْقِيَاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الْيَهُودَ عَظَّمَتْ السَّبْتَ لَمَّا كَانَ فِيهِ فَرَاغُ الْخَلْقِ وَظَنَّتْ ذَلِكَ فَضِيلَةً تُوجِبُ تَعْظِيمَ الْيَوْمِ وَعَظَّمَتْ النَّصَارَى الْأَحَدَ لَمَّا كَانَ فِيهِ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ وَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ الْوَحْيَ وَالشَّرْعَ الْوَارِدَ بِتَعْظِيمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَعَظَّمُوهُ

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) إنْ قُلْت مَا مَعْنَى قَوْلِهِ { فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ } ؟ قُلْت الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ إنَّا أَوَّلُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْجُمُعَةِ وَأَقَامَ أَمْرَهَا وَعَظَّمَ حُرْمَتَهَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ تَبَعٌ لَنَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ فَلِذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِلَفْظِ { الْمَغْفُورِ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ } وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ أَوَّلُ الْأُسْبُوعِ وَلَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ عُمَرَ { بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ فَقَالَ إنِّي شُغِلْت الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْت النِّدَاءَ فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت فَقَالَ عُمَرُ الْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتُمْ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ الدَّاخِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَفِيهَا : { أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ } وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ { إذَا رَاحَ } .

{ الْحَدِيثُ الثَّانِي } وَعَنْ عُمَرَ { بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ فَقَالَ إنِّي شُغِلْت الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْت النِّدَاءَ فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت فَقَالَ عُمَرُ الْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتُمْ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عُمَرَ بِمَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ { أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { إذَا رَاحَ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ بَيْنَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَصْلُهَا بَيْنَ فَأُشْبِعَتْ الْفَتْحَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا يُقَالُ بَيْنَا وَبَيْنَمَا وَهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ بِمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ وَيُضَافَانِ إلَى جُمْلَةٍ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ وَمُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَيَحْتَاجَانِ إلَى جَوَابٍ يَتِمُّ بِهِ الْمَعْنَى وَإِلَّا فَصَحَّ فِي جَوَابِهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إذْ وَإِذَا وَقَدْ جَاءَ فِي الْجَوَابِ كَثِيرًا يَقُولُ بَيْنَا زَيْدٌ جَالِسٌ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُرَقَةِ بِنْتِ النُّعْمَانِ بَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ انْتَهَى وَقَدْ اقْتَرَنَ جَوَابُهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْفَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهَا وَهُوَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ وَأَنْكَرَهُ سِيبَوَيْهِ .
( الثَّالِثَةُ ) يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ الْأُولَى

أَشْهُرُهُنَّ وَبِهَا قَرَأَ السَّبْعَةُ وَالْإِسْكَانُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَهُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ الضَّمِّ وَفَتْحُ الْجِيمِ حَكَاهُ فِي الْمُحْكَمِ وَوَجْهُهُ بِأَنَّهَا الَّتِي تَجْمَعُ النَّاسَ كَثِيرًا كَمَا قَالُوا رَجُلٌ لَعْنَةٌ يُكْثِرُ لَعْنَ النَّاسِ وَرَجُلٌ ضَحْكَةٌ يُكْثِرُ الضَّحِكَ وَحَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ الْفَرَّاءِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَبَبَ تَسْمِيَتِهَا جُمُعَةً اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيهَا وَقِيلَ لِأَنَّهُ جُمِعَ فِيهِ خُلِقَ آدَم حَكَاهُ فِي الْمُحْكَمِ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ أَنَّهُ جَاءَ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِهِ لِذَلِكَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَلَمْ أَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا انْتَهَى .
وَقِيلَ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ اجْتَمَعَ خَلْقُهَا وَفُرِغَ مِنْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَكَاهُ فِي الْمَشَارِقِ وَقِيلَ لِاجْتِمَاعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ مَعَ حَوَّاءَ فِي الْأَرْضِ .
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا سَلْمَانُ مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ ؟ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ يَا سَلْمَانُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ جُمِعَ فِيهِ أَبُوكُمْ وَأُمُّكُمْ } .
وَقِيلَ لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَجْتَمِعُ فِيهِ إلَى قُصَيٍّ فِي دَارِ النَّدْوَةِ حَكَاهُ فِي الْمُحْكَمِ عَنْ ثَعْلَبٍ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اسْمًا لَهُ أَوْ حَدَثَتْ التَّسْمِيَةُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ ثَعْلَبٌ وَقَالَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى الثَّانِي حَكَى هَذَا الْخِلَافَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ وَالسُّهَيْلِيُّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَهُ أَسْمَاءٌ أُخَرُ .
( الْأَوَّلُ ) يَوْمُ الْعَرُوبَةِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ

الْمُهْمَلَةِ وَكَانَ هُوَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِهِ صِنَاعَةِ الْكِتَابِ لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ إلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ إلَّا شَاذًّا قَالَ وَمَعْنَاهُ الْيَوْمُ الْبَيِّنُ الْمُعَظَّمُ مِنْ أَعْرَبَ إذَا بَيَّنَ قَالَ وَلَمْ يَزَلْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مُعَظَّمًا عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ قُلْت لَمْ تَعْرِفْهُ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَأَوَّلُ مَنْ هُدِيَ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِهِ عَلَى الْغَرِيبَيْنِ وَإِلَّا فَصَحَّ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ قَالَ وَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ .
( الثَّانِي ) مِنْ أَسْمَائِهِ حَرْبَةُ حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ أَيْ مُرْتَفِعٌ عَالٍ كَالْحَرْبَةِ قَالَ وَقِيلَ وَمِنْ هَذَا اُشْتُقَّ الْمِحْرَابُ ( الثَّالِثُ ) يَوْمُ الْمَزِيدِ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ } ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ .
( الرَّابِعُ ) حَجُّ الْمَسَاكِينِ سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَكَانَ شُعْبَةُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الضَّحَّاكُ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ لَمْ يُشَافِهْ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ زَعَمَ أَنَّهُ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَدْ وَهَمَ انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) هَذَا الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ أَيْ قَدْ انْقَضَتْ سَاعَاتُ التَّبْكِيرِ الَّتِي حَضَّ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ الْمُهَجِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً الْحَدِيثَ فَأَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ مِنْهَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ عَدَمَ تَبْكِيرِهِ إلَى الْجُمُعَةِ ، فَفِيهِ أَمْرُ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ بِمَصَالِح دِينِهِمْ وَحَثُّهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ وَفِيهِ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَإِنْ عَظُمَ مَحِلُّهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَإِنَّ الْحَقَّ أَعْظَمُ مِنْهُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْأَكَابِرِ بِجَمْعٍ مِنْ النَّاسِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِذَلِكَ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي تَحْرِيمُ الْكَلَامِ وَوُجُوبُ الْإِنْصَاتِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ

( السَّابِعَةُ ) فِي قَوْلِهِ إنِّي شُغِلْت الْيَوْمَ إلَى آخِرِهِ الِاعْتِذَارُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَرْكُ الْمُشَاقَقَةِ لَهُمْ وَالْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ هُنَا الْأَذَانُ وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ { حَتَّى سَمِعْت التَّأْذِينَ } وَالنِّدَاءُ بِكَسْرِ النُّونِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَهُوَ مَمْدُودٌ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ الْوُضُوءَ أَيْضًا مَنْصُوبٌ أَيْ تَوَضَّأْت الْوُضُوءَ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ أَوْ خَصَّصْت الْوُضُوءَ بِالْفِعْلِ دُونَ الْغُسْلِ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَوَّزَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الرَّفْعَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْوُضُوءُ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالْوُضُوءَ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فِي أَوَّلِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَالْوَاوُ عِوَضٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَآمَنْتُمْ ) فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ انْتَهَى وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةٌ فِي رِوَايَتِنَا .

( التَّاسِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ وَعَطَاءٍ وَكَعْبٍ وَالْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ وَأَوْضَحَهُ ثُمَّ قَالَ مَا نَعْلَمُ أَنَّهُ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إسْقَاطُ فَرْضِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِابْنٍ لَهُ هَلْ اغْتَسَلْت ؟ قَالَ لَا : تَوَضَّأْت ثُمَّ جِئْت فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا كُنْت أَحْسِبُ أَنَّ أَحَدًا يَدَعُ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِلَفْظِ مَا كُنْت أَرَى مُسْلِمًا يَدَعُ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ أَيْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ الْكَثِيرِ مَعَ خِفَّةِ مُؤْنَتِهِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ قَاوَلَ عَمَّارٌ رَجُلًا فَاسْتَطَالَ عَلَيْهِ فَقَالَ : إنَّا إذًا أَنْتَنُ مِنْ الَّذِي لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا شَعَرْت أَنَّ أَحَدًا يَرَى أَنَّ لَهُ طَهُورًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ غَيْرَ الْغُسْلِ ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ قَالَ عُمَرُ فِي شَيْءٍ لَأَنْتَ أَشَرُّ مِمَّنْ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ إذَا حَلَفَ قَالَ إنَّا إذًا أَشَرُّ مِنْ الَّذِي لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحُكِيَ إيجَابَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَمَّا مَالِكٌ فَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ وَأَبَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَجَزَمُوا عَنْهُ الِاسْتِحْبَابَ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّهُ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَمُعْظَمِ أَصْحَابِهِ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ كَمَا هُوَ مَحْكِيٌّ فِي

شَرْحِ الْغُنْيَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ وَفِي الْجَدِيدِ أَيْضًا فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ وَهِيَ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ فَقَالَ فِيهَا فَكَانَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَأَمْرُهُ بِالْغُسْلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تُجْزِئُ الطَّهَارَةُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا بِالْغُسْلِ كَمَا لَا يُجْزِئُ فِي طَهَارَةِ الْجُنُبِ غَيْرُ الْغُسْلِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الِاخْتِيَارِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ وَالنَّظَافَةِ ثُمَّ اُسْتُدِلَّ لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي بِقِصَّةِ عُثْمَانَ الَّتِي نَحْنُ فِي شَرْحِهَا وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ الِاسْتِحْبَابُ وَهُوَ الْمَجْزُومُ بِهِ فِي تَصَانِيفِ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُمْ إنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى النَّصِّ السَّابِقِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرِّسَالَةِ الظَّاهِرُ أَرَادَ بِهِ الظَّاهِرَ مِنْ جَوْهَرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَكِنْ صَدَّ عَنْهُ الدَّلِيلُ فَلَا يَكُونُ أَرَادَ تَرْجِيحَ ذَلِكَ حَتَّى يُعَدَّ لَهُ قَوْلًا وَأَمَّا أَحْمَدُ فَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْهُ الْوُجُوبَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَيْضًا الِاسْتِحْبَابُ وَبِهِ صَدَّرَ ابْنُ قُدَامَةَ كَلَامَهُ وَقَالَ بِوُجُوبِهِ أَيْضًا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَنَقَلَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ اخْتِيَارِ شَيْخِهِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ قَالَ وَكَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ فَقَالَ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَاجِبٍ انْتَهَى وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا حَكَيْته مِنْ الْخِلَافِ وَبَوَّبَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ

عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَعَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُجْزِئُ مِنْهُ ثُمَّ بَوَّبَ مَنْ كَانَ لَا يَغْتَسِلُ فِي السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَوَى فِيهِ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَغْتَسِلُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي السَّفَرِ وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَغْتَسِلُ وَأَنَا أَرَى لَك أَنْ لَا تَغْتَسِلَ وَاقْتَضَى كَلَامُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَإِيرَادُهُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي الْمَسْأَلَةِ مُفَصَّلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِلِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَغْتَسِلْ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ عُمَرُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْخُطْبَةَ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ وَلَأَلْزَمُوهُ بِهِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَدْ عَلِمَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِذِكْرِ عُمَرَ عِلْمَهُ وَعِلْمَ عُثْمَانُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ عُثْمَانُ وَلَمْ يَخْرُجْ فَيَغْتَسِلَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ عُمَرُ بِذَلِكَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَدْ عَلِمَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُسْلِ عَلَى الْأَحَبِّ لَا عَلَى الْإِيجَابِ وَكَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ دَلَّ أَنَّ عِلْمَ مَنْ سَمِعَ مُخَاطَبَةَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ انْتَهَى نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ فَفِي هَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْغُسْلِ وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ يُقَالُ لَهُمْ مَنْ لَكُمْ

بِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ اغْتَسَلَ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ لِلْغُسْلِ ؟ فَإِنْ قَالُوا وَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ اغْتَسَلَ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ وَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّ عُمَرَ أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ لِلْغُسْلِ قُلْنَا هَبْكُمْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عِنْدَنَا بِهَذَا وَلَا دَلِيلَ عِنْدَكُمْ بِخِلَافِهِ فَمَنْ جَعَلَ دَعْوَاكُمْ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى غَيْرِكُمْ فَالْحَقُّ أَنْ يَبْقَى الْخَبَرُ لَا حُجَّةَ فِيهِ ، هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ اغْتَسَلَ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى عُثْمَانَ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْوُضُوءِ وَلَمْ يَعْتَذِرْ عُثْمَانُ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ اغْتَسَلَ لَاعْتَذَرَ بِذَلِكَ وَذَكَرَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إنْكَارٌ وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ لِلْغُسْلِ فَهُوَ مَدْفُوعٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْأَصْلَ خِلَافُهُ فَمَنْ ادَّعَاهُ فَلْيُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ سَقَطَ الدَّلِيلُ لِلِاحْتِمَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَكَافُؤِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَأَمَّا مَعَ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ فَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَقَدْ تَرَجَّحَ عَدَمُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَحْتَاجُ مُثْبِتُهُ إلَى بَيَانٍ وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا مُخْتَلِفًا ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ أَجَابَ عُمَرُ فِي إنْكَارِهِ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ أَمْرَ الْغُسْلِ بِأَحَدِ أَجْوِبَةٍ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهَا إمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ قَدْ كُنْت اغْتَسَلْت قَبْلَ خُرُوجِي إلَى السُّوقِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِي عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ الْغُسْلِ أَوْ يَقُولَ لَهُ نَسِيت وَهَأَنَذَا أَرْجِعُ وَأَغْتَسِلُ ، فَدَارُهُ كَانَتْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مَشْهُورَةً إلَى الْآنَ أَوْ يَقُولَ لَهُ سَأَغْتَسِلُ فَإِنَّ الْغُسْلَ لِلْيَوْمِ لَا لِلصَّلَاةِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ

أَجْوِبَةٍ كُلُّهَا مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا أَوْ يَقُولَ لَهُ هَذَا أَمْرُ نَدْبٍ وَلَيْسَ فَرْضًا وَهَذَا الْجَوَابُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ خُصُومِنَا فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَعَلَ لَهُمْ التَّعَلُّقَ بِجَوَابٍ وَاحِدٍ مِنْ جُمْلَةِ خَمْسَةِ أَجْوِبَةٍ كُلُّهَا مُمْكِنٌ وَكُلُّهَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلًا انْتَهَى قُلْت الِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ كُلُّهَا مَرْدُودَةٌ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ وَالِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ سَيَأْتِي رَدُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ نُقَرِّرُ أَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ نَاظَرَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ لَيْسَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْعُمُومِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَهْلِ الْخُصُوصِ الْمُحَافِظِينَ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبِرِّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ هُشَيْمِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هَلْ اغْتَسَلْت ؟ قَالَ لَا ، قَالَ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّا أُمِرْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ ، قَالَ الرَّجُلُ بِمَ أُمِرْتُمْ ؟ قَالَ بِالْغُسْلِ ؛ قَالَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْ النَّاسُ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ قَالَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ .
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ فَسَاقَهُ عَلَى غَيْرِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَلَفْظُهُ عِنْدَهُ أَنَّ عُمَرَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ الْآنَ حِينَ تَوَضَّأْت فَقَالَ مَا زِدْت حِينَ سَمِعْت الْأَذَانَ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت ثُمَّ جِئْت فَلَمَّا دَخَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَّرْته فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا سَمِعْت مَا قَالَ ؟ قَالَ وَمَا قَالَ ؟ قُلْت قَالَ مَا زِدْت عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت حِينَ سَمِعْت النِّدَاءَ

ثُمَّ أَقْبَلْت فَقَالَ أَمَا إنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّا أُمِرْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ ، قُلْت وَمَا هُوَ قَالَ الْغُسْلُ ؛ فَقُلْت أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ أَمْ النَّاسُ جَمِيعًا ؟ قَالَ لَا أَدْرِي قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ صَلَاتَهُ مُجْزِئَةٌ إذَا لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا دَلَّ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ كَالِاغْتِسَالِ لِلْعِيدِ وَالْإِحْرَامُ الَّذِي يَقَعُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ مُتَقَدِّمًا لِسَبَبِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ سَبَبِهِ كَالِاغْتِسَالِ لِلْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ انْتَهَى وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فَإِنَّهُ قَالَ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَهْلَ الظَّاهِرِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُجِيزُونَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ دُونَ غُسْلٍ لَهَا انْتَهَى وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّصْرِيحُ بِتَرْجِيحِ كَوْنِهِ وَاجِبًا لَا تُجْزِئُ الطَّهَارَةُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا بِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ إلَّا إنْ أَوَّلَنَا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ بِمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا صَدَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ عَنْ الْقَوْلِ بِشَرْطِيَّتِهِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لِلْيَوْمِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِعْلُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْجُمُعَةِ بِدُونِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلنَّدَبِ دُونَ الْوُجُوبِ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ فَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ الِاغْتِسَالَ مَعَ عِلْمِهِ بِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ عُمَرُ بِالِاغْتِسَالِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ اقْتَضَتْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوْلِ عُثْمَانَ سَمِعْت النِّدَاءَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ إنَّمَا يَجِبُ لِسَمَاعِهِ وَأَنَّ شُهُودَ الْخُطْبَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا قُلْت أَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ السَّعْيُ إلَّا بِسَمَاعِ النِّدَاءِ فَظَاهِرٌ وَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ الْمُقَرَّرِ عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَرْفُوعِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى أَنَّ شُهُودَ الْخُطْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَمَحَلُّ نَظَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّأَخُّرِ إلَى سَمَاعِ النِّدَاءِ فَوَاتُ الْخُطْبَةِ فَإِنْ قُلْت هَذَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ فَاتَهُ بَعْضُ الْخُطْبَةِ قُلْت لَعَلَّهُ لَمْ يَفُتْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ وَعَلَى تَقْدِيرِ فَوَاتِ بَعْضِ الْأَرْكَانِ لِعُثْمَانَ فَقَدْ حَضَرَهَا خَلْقٌ زَائِدُونَ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ فَلَمْ يُفَوَّتْ سَمَاعُ بَعْضِ الْأَرْكَانِ حَيْثُ لَمْ يَحْضُرْ عَدَدُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ شُهُودِ الْخُطْبَةِ بَلْ يُقَالُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ شُهُودُهَا عَلَى مَنْ زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا لَمْ يُخْرِجْ عُمَرُ عُثْمَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلْغُسْلِ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَأَنَا أَقُولُ إنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْعِبَادَةِ بِشَرْطِهَا فَلَا يَتْرُكُهَا لِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ ثُمَّ رَآهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَخَرَجَ وَاغْتَسَلَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ كِنَانَةَ قُلْت كِلَا الْأَمْرَيْنِ ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا لَمْ يُكَلِّفْهُ الْخُرُوجَ لِلِاغْتِسَالِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ ، فَضَيَّقَ جُزْءُ عِلَّةٍ وَلَيْسَ عِلَّةً كَامِلَةً مُنْفَرِدَةً بِالْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَفَعَلَهُ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَلَا

سِيَّمَا إنْ قِيلَ إنَّهُ شَرْطٌ وَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ تَلَبَّسَ بِالْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ بَعْدُ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ لِفَرَاغِ الْمَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَوْ لِقُرُوحٍ فِي بَدَنِهِ تَيَمَّمَ وَحَازَ الْفَضِيلَةَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ الظَّاهِرُ وَفِيهِ احْتِمَالٌ وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَمَّا فَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النَّظَافَةُ قَالَ إنَّهُ يَجُوزُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَهَذَا نَظَرُ مَنْ رَدَّهُ إلَى الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَنَسِيَ حَظَّ التَّعَبُّدِ فِي التَّعْيِينِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ الْغَرَضُ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ غَيْظُ الشَّيْطَانِ فَيَكُونُ بِالْمَطَارِدِ وَنَحْوِهَا وَنَسِيَ حَظَّ التَّعَبُّدِ بِتَعْيِينٍ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعْقُولًا انْتَهَى .

وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَلِمُسْلِمٍ { إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ }

{ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ } وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ الصَّحِيحُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } .
( الثَّانِيَةُ ) هَذَا الْحَدِيثُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي أَنَّ ظَاهِرَهُ إيجَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ بَلْ هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ فَلْيَغْتَسِلْ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ كَانَ يَأْمُرُ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْبَابَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى لَفْظِ الرِّوَايَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَفْظٌ آخَرُ : أَوَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فَهُوَ مُسَاوٍ لِلَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إيضَاحُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي

الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ الَّتِي قَدَّمْتهَا أَنَّ قَوْلَهُ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ } مَعْنَاهُ إذَا أَرَادَ الْمَجِيءَ لِقَوْلِهِ إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ قَوْلَهُمْ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاغْتِسَالُ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ وَلَوْ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ } فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْغُسْلَ بَعْدَ الرَّوَاحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ } أَوْ مَعَ الرَّوَاحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَوْ قَبْلَ الرَّوَاحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ قُلْت لَوْلَا رِوَايَةُ إذَا أَرَادَ لَكَانَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الِاغْتِسَالَ بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لَكِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ صَرَّحَتْ بِكَوْنِهِ قَبْلَهُ وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا إذَا أَرَادَ فِيهَا بَعْضُ الصُّوَرِ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهَا بَيَّنَتْ الْمُرَادَ وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِإِضَافَةِ الْغُسْلِ إلَى الْيَوْمِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِبُطْلَانِهِ قَالَ وَقَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ تَأَذِّي الْحَاضِرِينَ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ وَكَذَلِكَ أَقُولُ : لَوْ قَدَّمَهُ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَالْمَعْنَى إذَا كَانَ مَعْلُومًا كَالنَّصِّ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا مُقَارِبًا لِلْقَطْعِ فَاتِّبَاعُهُ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ قَالَ وَمِمَّا

يُبْطِلُهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي عُلِّقَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى تَوَجُّهِ الْأَمْرِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْيَوْمِ لَا تَتَنَاوَلُ تَعْلِيقَهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَهُوَ إذَا تَمَسَّكَ بِتِلْكَ أَبْطَلَ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا بِتَعْلِيقِهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا بِهَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالٍ لِمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ انْتَهَى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فَإِنْ قَالُوا مَنْ قَالَ قَبْلَكُمْ إنَّ الْغُسْلَ لِلْيَوْمِ قُلْنَا كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَغَيْرُهُ انْتَهَى قُلْت أَمَّا الصَّحَابَةُ فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَكْسُ مَا فَهِمَهُ هُوَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ الْمُؤْذِيَةِ لِلْحَاضِرَيْنِ وَهَذَا مَفْقُودٌ فِيمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ حَكَى عَنْهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ فَدَلَّ عَلَى انْفِرَادِ الظَّاهِرِيَّةِ بِمَا ذَكَرُوهُ وَخَرْقِهِمْ الْإِجْمَاعَ فِيهِ وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ اغْتَسَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ بِغُسْلٍ لِلسُّنَّةِ وَلَا لِلْجُمُعَةِ وَلَا فَاعِلٍ مَا أُمِرَ بِهِ .
( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ مُتَّصِلًا بِالذَّهَابِ إلَى الْجُمُعَةِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ بِهِ بَلْ مَتَى اغْتَسَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ وَالْحَكَمِ وَالشَّعْبِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ

وَبِهِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْزِئُهُ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْفَجْرِ لِلْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَقَوْلِ مَالِكٍ لَا يُجْزِئُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ إلَّا مُتَّصِلًا بِالرَّوَاحِ قَالَ إلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَالَ إنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَنَهَضَ إلَى الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ وَجْهًا أَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ كَغُسْلِ الْعِيدِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ وَجَوَابُ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ عَلَى إرَادَةِ إتْيَانِ الْجُمُعَةِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إتْيَانُ الْجُمُعَةِ مُتَّصِلًا بِإِرَادَةِ ذَلِكَ فَقَدْ يُرِيدُ عَقِبَ الْفَجْرِ إتْيَانَهَا وَيَتَأَخَّرُ الْإِتْيَانُ إلَى بَعْدِ الزَّوَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَهُوَ مُوَاظِبٌ عَلَى الْوَاجِبَاتِ إذَا خَطَرَ لَهُ عَقِبَ الْفَجْرِ أَمْرُ الْجُمُعَةِ أَرَادَ إتْيَانَهَا وَإِنْ تَأَخَّرَ الْإِتْيَانُ زَمَنًا طَوِيلًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَدَارُ عَلَى نَفْسِ الْإِتْيَانِ بَلْ عَلَى إرَادَتِهِ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَمَّنْ هُوَ مُسَافِرٌ أَوْ مَعْذُورٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْقَاطِعَةِ عَنْ الْجُمُعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاغْتِسَالِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ إتْيَانَ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عُبَيْدَةَ ابْنَةِ نَابِلٍ قَالَتْ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَةَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ لِلنِّسَاءِ : مَنْ جَاءَ مِنْكُنَّ الْجُمُعَةَ فَلْتَغْتَسِلْ وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ يَغْتَسِلْنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَنْ شَقِيقٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَغُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ لَازِمٌ لِكُلِّ بَالِغٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَنَا وَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلذُّكُورِ خَاصَّةً حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ غُسْلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُعَلَّقًا إنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ لِقَوْلِهِ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ } وَهَذَا خِطَابٌ لِلذُّكُورِ فَإِنْ قِيلَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاثِ تَغْلِيبًا قِيلَ هُوَ مَجَازٌ وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الَّتِي لَفْظُهَا مَنْ جَاءَ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْإِنَاثِ فَقَدْ خَصَّصَ

الْعُمُومَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مِنْكُمْ لَكِنْ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ اللَّفْظُ الْإِنَاثَ فَحُكْمُهُنَّ كَالرِّجَالِ قِيَاسًا لَهُنَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِوَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) مَفْهُومُ قَوْلِهِ { مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْفَائِدَةِ قَبْلَهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ } وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَحَكَى عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ حَضَرَ الْجُمُعَةَ أَمْ لَا كَالْعَبْدِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَجْهًا أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا لِعُذْرٍ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وُجُوبُ الِاغْتِسَالِ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مُطْلَقًا لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لِلْيَوْمِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ كَلُزُومِهِ لِغَيْرِهِمَا انْتَهَى وَقَدْ أَبْعَدَ فِي ذَلِكَ جِدًّا .
( السَّابِعَةُ ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَجِيءِ إلَى الْجُمُعَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ مَسَافَةٌ يَحْتَاجُ إلَى قَطْعِهَا بَلْ الْمُقِيمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَالْمَجِيءُ مِنْ مَكَان آخَرَ لَيْسَ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنْ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ فَقَالَ لَهُمْ لَوْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَعُمُّ الْآتِيَ مِنْ بُعْدٍ وَمِنْ قُرْبٍ وَمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي مَكَانِ الْجُمُعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ } وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهَجِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي كَبْشًا حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ } وَلِلشَّيْخَيْنِ { وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَذَكَرَ خَمْسَ سَاعَاتٍ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { قَالَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ كَاَلَّذِي يُهْدِي عُصْفُورًا وَفِي السَّادِسَةِ بَيْضَةً } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { قَالَ فِي الرَّابِعَةِ كَالْمُهْدِي بَطَّةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً } .

{ الْحَدِيثُ الرَّابِعُ } وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ } وَعَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهَجِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي كَبْشًا حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) هَذَانِ الْحَدِيثَانِ إسْنَادُهُمَا وَاحِدٌ وَهُمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَكَذَا مُنْفَصِلَيْنِ فَتَبِعَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِهِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فَجَعَلُوهُمَا حَدِيثًا وَاحِدًا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَعَمْرٍو النَّاقِدِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي سَهْلٍ خَمْسَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ زَادَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَحَدِ شَيْخَيْهِ سَهْلٍ { فَمَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِيءُ لِحَقِّ الصَّلَاةِ } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِتَمَامِهِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ { ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَطَّةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً } وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الْقِطْعَةَ الْأُولَى مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالْأَغَرِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ مِنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَكٌ يَكْتُبُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مَثَّلَ الْجَزُورَ ثُمَّ نَزَّلَهُمْ حَتَّى صَغَّرَ إلَى مِثْلِ الْبَيْضَةِ فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ وَحَضَرُوا الذِّكْرَ } وَرَوَى الشَّيْخَانِ

وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٌّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمِنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ } وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سُمَيٌّ وَفِيهِ { وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ دَجَاجَةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ عُصْفُورًا وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَيْضَةً } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ فَضْلُ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِنَاءِ الْمَلَائِكَةِ بِكِتَابَةِ السَّابِقِ وَأَنَّ الْأَسْبَقَ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِتَشْبِيهِ الْمُتَقَدِّمِ بِمُهْدِي الْبَدَنَةَ وَاَلَّذِي يَلِيهِ بِمُهْدِي مَا هُوَ دُونَهَا وَهِيَ الْبَقَرَةُ وَهَكَذَا وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْجُمْهُورُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ابْتِدَاءِ ذَلِكَ طُلُوعُ الْفَجْرِ أَوْ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَكِنْ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنْ يُبَكِّرَ لِلْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَفِيهِ طُولٌ يُؤَدِّي إلَى انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ وَتَخَطِّي الرِّقَابِ وَصَحَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ التَّبْكِيرَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِيَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ زَمَانُ غُسْلٍ وَتَأَهُّبٍ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَيُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُجْزِئُهُ غُسْلُهُ لَهَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَهْلُ عِلْمِ الْمِيقَاتِ يَجْعَلُونَ ابْتِدَاءَ سَاعَاتِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26