كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

{ الثَّامِنَةُ } يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُسَابِقَةُ بِعِوَضٍ ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ عِوَضٍ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْجَمَةِ لِلتِّرْمِذِيِّ ، وَغَيْرِهِ عَلَيْهِ بِالرِّهَانِ نَظَرٌ نَعَمْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ الرَّهْنِ فِي ذَلِكَ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيّ ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ ، وَغَيْرِهَا ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابِقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهَا أَيْضًا بِعِوَضٍ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَسَابِقِينَ إمَّا الْإِمَامُ أَوْ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ قَالَ الْجُمْهُورُ ، وَبَذْلُ الرِّهَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً صَحِيحٌ ، وَبَعْضُهُمْ مَنَعَ هَذِهِ الصُّورَةَ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا لَكِنْ يَكُونُ مَعَهُمَا مُحَلِّلٌ ، وَهُوَ ثَالِثٌ عَلَى فَرَسٍ مُكَافِئٍ لِفَرَسَيْهِمَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخْرِجَ الْمُحَلِّلُ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا لِيَخْرُجَ هَذَا الْعَقْدُ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ ، وَمَنَعَ مَالِكٌ إخْرَاجَ السَّبْقِ مِنْهُمَا ، وَلَوْ بِمُحَلِّلٍ ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَالِكٌ الْمُحَلِّلَ ، وَالْأَصْلُ لِلْجُمْهُورِ فِي اعْتِبَارِهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ يَعْنِي ، وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ ، وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ } وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ .

{ التَّاسِعَة } وَفِي قَوْلِهِ { ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ } بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَابَقَةُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَرْكُوبَةً ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إرْسَالَ الْفَرَسَيْنِ لِيَجْرِيَا بِأَنْفُسِهِمَا ، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُسَابَقَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَا تَهْتَدِي لِقَصْدِ الْغَايَةِ بِغَيْرِ رَاكِبٍ ، وَرُبَّمَا نَفَرَتْ بِخِلَافِ الطُّيُورِ إذَا جُوِّزَتْ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَهْتَدِي لِلْمَقْصِدِ .

{ الْعَاشِرَةُ } وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَفِيهِ جَوَازُ إضَافَةِ أَعْمَالِ الْبِرِّ إلَى أَرْبَابِهَا وَنِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لَهُمْ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ ، وَلَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُقَالَ مُصَلَّى بَنِي فُلَانٍ قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا مُصَلًّى وَمَسْجِدٌ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

بَابُ رُكُوبِ اثْنَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إذْ جَاءَ رَجُلٌ مَعَهُ حِمَارٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ ، فَتَأَخَّرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ، أَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِك مِنِّي إلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ لِي ، قَالَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْته لَك .
قَالَ فَرَكِبَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .

بَابُ رُكُوبِ اثْنَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إذْ جَاءَ رَجُلٌ مَعَهُ حِمَارٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ فَتَأَخَّرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ، أَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِك مِنِّي إلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ لِي قَالَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْته لَك قَالَ فَرَكِبَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ كِلَاهُمَا عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ، وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ .
{ الثَّانِيَةُ } فِيهِ جَوَازُ رُكُوبِ اثْنَيْنِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ إذَا أَطَاقَتْهُ ، وَوَرَدَ رُكُوبُ ثَلَاثَةِ أَنْفَارٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ { لَقَدْ قُدْت بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحَسَنِ ، وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ حَتَّى أَدْخَلْتهمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا قُدَّامَهُ ، وَهَذَا خَلْفَهُ } .
{ الثَّالِثَةُ } قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْحِكْمَةُ فِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَحَقَّ بِصَدْرِ دَابَّتِهِ ، وَجْهَانِ ( أَنَّهُ شَرَفٌ ) وَالشَّرَفُ حَقُّ الْمَالِكِ ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي الْمَشْيِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرَاهُ ، وَيَخْتَارُهُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ إسْرَاعٍ أَوْ بُطْءٍ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَقْصِدَهُ فِي ذَلِكَ .
{ الرَّابِعَةُ } فِيهِ تَوَاضُعُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرُكُوبِهِ الْحِمَارَ وَإِرْدَافِهِ وَرَاءَهُ عَلَى الْحِمَارِ ، وَهَمُّهُ أَنْ يَكُونَ رَدِيفًا لِغَيْرِهِ فَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ [ الْأَخْذُ ] بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ فِي ذَلِكَ ، وَغَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةُ } يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إلَّا

أَنْ تَجْعَلَهُ لِي } أَيْ التَّصَرُّفَ فِي الْمَشْيِ كَيْفَ أَرَدْت ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقَّ بِصَدْرِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَشْكِلُ قَوْلُهُ أَنْ تَجْعَلَهُ لِي مَعَ كَوْنِهِ تَأَخَّرَ ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الرُّكُوبِ عَلَى مُقَدَّمِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّهُ لَهُ ، وَيَنْحَلُّ الْأَشْكَالُ بِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ أَمْرَ قِيَادِهَا بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي سَيْرِهَا كَيْفَ يُرِيدُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفَلِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِمَنْ قَبْلَنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا } وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا ، وَلَمَّا يَبْنِ وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا ، وَلَمَّا يَرْفَعْ سَقْفَهَا ، وَلَا آخَرُ قَدْ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ ، وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْتَبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُك فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ .
قَالَ فَلَصِقَ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ مِنْكُمْ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ .
فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ ، وَهُوَ بِالصَّعِيدِ فَأَقْبَلَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى عَجْزَنَا وَضَعْفَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا }

بَابُ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفَلِ .
{ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ } عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِمَنْ قَبْلَنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا } ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا ، وَلَمَّا يَبْنِ وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا ، وَلَمَّا يَرْفَعْ سَقْفَهَا ، وَلَا آخَرُ قَدْ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ ، وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَجَمَعُوا وَغَنِمُوا فَأَقْبَلَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ قَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُك فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ قَالَ فَلَصِقَ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ فَقَالَ فِيكُمْ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ فَأَقْبَلَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى عَجْزَنَا وَضَعْفَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قِطْعَةٌ مِنْ الثَّانِي ، وَقَدْ أَخْرَجَ الثَّانِيَ بِطُولِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيق ابْنِ الْمُبَارَكِ أَيْضًا كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ } قِيلَ إنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
{ الثَّالِثَةُ } الْبُضْعُ بِضَمِّ

الْبَاءِ ، وَإِسْكَانِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ الْفَرْجِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَالنَّوَوِيُّ ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ ( أَحَدُهَا ) الْجِمَاعُ ( الثَّانِي ) مِلْكُ الْوَلِيِّ لِلْمَرْأَةِ .
( الثَّالِثُ ) مَهْرُ الْمَرْأَةِ .
( الرَّابِعُ ) الطَّلَاقُ .
( الْخَامِسُ ) النِّكَاحُ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأُولَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ ، وَذَكَرَهَا مَعَ الرَّابِعِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ ، وَذَكَرَ الْخَامِسَ صَاحِبَا الصِّحَاحِ ، وَالنِّهَايَةِ ، وَفِي النِّهَايَةِ الْبُضْع يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْجِمَاعِ مَعًا ، وَعَلَى الْفَرْجِ انْتَهَى .
وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْفَرْجُ فَقَدْ يُرَادُ النِّكَاحُ أَوْ الْجِمَاعُ ، وَكَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ يَقْتَضِي إرَادَةَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ أَنَّ الْبُضْعَ النِّكَاحُ قَالَ يُقَالُ مَلَكَ فُلَانَةَ بُضْعَ فُلَانَةَ قَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِتَنَ الدُّنْيَا تَدْعُو النَّفْسَ إلَى الْهَلَعِ وَالْجُبْنِ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ ، وَلَمْ يَبْنِ بِهَا أَوْ بَنَى بِهَا فَكَانَ عَلَى طَرَاوَةٍ مِنْهَا فَإِنَّ قَلْبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّجُوعِ إلَيْهَا ، وَيَشْغَلُهُ الشَّيْطَانُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّاعَةِ فَيَرْمِي فِي قَلْبِهِ الْجَزَعَ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ مَتَاعِهَا وَفِتَنِهَا انْتَهَى .
وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَحِيحِهِ بَابُ مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ ، انْتَهَى .
وَفِي تَعْبِيرِهِ بِلَمَّا فِي قَوْلِهِ ، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا دُونَ لَمْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْبِنَاءَ بِهَا مُتَوَقَّعٌ ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } مَا فِي لَمَّا فِي مَعْنَى التَّوَقُّعِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ انْتَهَى .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { بَنَى بُنْيَانًا ، وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُفَهَا } كَذَا ضَبْطُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ سُقُفَهَا ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ قَوْلُهُ سَقْفَهَا

مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ بُنْيَانٌ لَا تَأْنِيثَ فِيهِ ، وَلَا جَمْعَ ، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ تَأْوِيلِهِ بِجَمْعٍ كَأَبْنِيَةٍ أَوْ دُورٍ وَعَوْدُهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ جَمْعُ سَقْفٍ كَذَا رَوَيْنَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَقْفُهَا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى جَمْعٍ بِالتَّقْدِيرِ ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ { بَنَى بُيُوتًا ، وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا } ، وَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا قَرَّرَنَا مِنْ تَقْدِيرِ الْبُنْيَانِ بِجَمْعٍ ، وَمِنْ أَنَّ السُّقُفَ بِضَمَّتَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةُ } { الْخَلِفَاتُ } بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ خَلِفَةٍ ، وَهِيَ الْحَامِلُ مِنْ النُّوقِ فَإِطْلَاقُ النَّوَوِيِّ تَبَعًا لِلْإِكْمَالِ أَنَّهَا الْحَوَامِلُ بِغَيْرِ قَيْدٍ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِتَقْيِيدِهَا بِالنُّوقِ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ وَالْمُحْكَمِ وَالْمَشَارِقِ وَالنِّهَايَةِ فَقَوْلُهُ اشْتَرَى غَنَمًا أَيْ حَوَامِلَ أَيْضًا بِدَلِيلِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ أَوْ خَلِفَاتٍ فَحَذَفَ الْوَصْفَ مِنْ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَوْ غَنَمًا عَلَى إطْلَاقِهِ ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِأَنْ تَكُونَ حَوَامِلَ لِأَنَّهَا قَلِيلَةُ الصَّبْرِ فَيُخْشَى ضَيَاعُهَا بِخِلَافِ النُّوقِ تَتَقَيَّدُ بِأَنْ تَكُونَ حَوَامِلَ ، وَقَوْلُهُ { يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا } كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ { وِلَادَهَا } بِكَسْرِ الْوَاوِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ يُقَالُ وَلَدَتْ وِلَادًا وَوِلَادَةً ، وَاَلَّذِي فِي رِوَايَتِنَا صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا لِأَنَّ الَّذِي يَنْتَظِرُ الْوِلَادَ يَنْتَظِرُ الْأَوْلَادَ أَيْضًا .
{ السَّادِسَةُ } فِيهِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُفَوَّضَ إلَّا إلَى أُولِي الْحُزَمِ وَفَرَاغِ الْبَالِ لَهَا ، وَلَا تُفَوَّضُ إلَى مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُ عَزَمَهُ ، وَيُفَوِّتُ كَمَالَ بَذْلِ وُسْعِهِ فِيهِ .
{ السَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { فَدَنَا

مِنْ الْقَرْيَةِ } كَذَا فِي رِوَايَتِنَا ، وَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { فَأَدْنَى لِلْقَرْيَةِ } بِهَمْزَةِ قَطْعٍ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَالنَّوَوِيُّ عَنْ جَمِيعِ النُّسَخِ قَالَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْدِيَةً لِدَنَا أَيْ قَرُبَ فَمَعْنَاهُ أَدْنَى جُيُوشَهُ وَجُمُوعَهُ لِلْقَرْيَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْنَى بِمَعْنَى حَانَ أَيْ قَرُبَ فَتْحُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ أَدْنَتْ النَّاقَةُ إذَا حَانَ نِتَاجُهَا ، وَلَمْ يَقُولُوهُ فِي غَيْرِ النَّاقَةِ .
{ الثَّامِنَةُ } قَوْلُهُ { لِلشَّمْسِ أَنْتِ مَأْمُورَةٌ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ التَّمْيِيزِ وَالْإِدْرَاكِ مَا تَصْلُحُ مَعَهُ لِلْمُخَاطَبَةِ بِذَلِكَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ لِتَقَرُّرِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحُولُهَا عَنْ عَادَتِهَا إلَّا بِخَرْقِ عَادَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ لَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْخِطَابِ لَهَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ حِكَايَةَ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا فِي قَوْلُهُ شَكَا إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَقَوْلُهُ { شَيْئًا } مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَصْدَرِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
اُخْتُلِفَ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ الْمَذْكُورِ هُنَا فَقِيلَ رُدَّتْ عَلَى أَدْرَاجِهَا ، وَقِيلَ وَقَفَتْ وَلَمْ تُرَدَّ ، وَقِيلَ بُطِّئَتْ حَرَكَتُهَا قَالَ : وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ .
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ بَعْدَ نَقْلِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ : وَالثَّالِثُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَتْ لَهُ الشَّمْسُ مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ شُغِلُوا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَرَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ } ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّحْطَاوِيُّ وَقَالَ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ ( وَالثَّانِيَةُ ) { صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ انْتَظَرَ الْعِيرَ الَّتِي أُخْبِرَ

بِوُصُولِهَا مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ } ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر فِي زِيَادَتِهِ عَلَى سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ ( قُلْت ) ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الشَّمْسَ فَتَأَخَّرَتْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالصَّهْبَاءِ ثُمَّ أَرْسَلَ عَلِيًّا فِي حَاجَةٍ فَرَجَعَ ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ فَنَامَ فَلَمْ يُحَرِّكْهُ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إنَّ عَبْدَك عَلِيًّا احْتَبَسَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَبِيِّهِ فَرُدَّ عَلَيْهِ الشَّمْسَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَعَلَى الْأَرْضِ ، وَقَامَ عَلِيٌّ فَتَوَضَّأَ ، وَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ غَابَتْ ، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ } ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَكَادُ يُغْشَى عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمًا ، وَهُوَ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّيْت الْعَصْرَ ؟ فَقَالَ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَدَعَا اللَّهَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّمْسَ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ قَالَتْ فَرَأَيْت الشَّمْسَ طَلَعَتْ بَعْدَ مَا غَابَتْ حِينَ رَدَّتْ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ } .
{ التَّاسِعَةُ } قَوْلُهُ { فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ } بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْغَنَائِمِ أَنْ يَجْمَعُوهَا فَتَجِيءَ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَتَأْكُلَهَا فَيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَبُولِهَا وَعَدَمِ الْغُلُولِ فِيهَا فَلَمَّا أَبَتْ فِي هَذِهِ

الْمَرَّةِ أَنْ تَأْكُلَهَا عَرَفَ أَنَّ فِيهِمْ غُلُولًا فَلَمَّا رَدُّوهُ جَاءَتْ فَأَكَلَتْهَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ قُرْبَانِهِمْ إذَا يُقْبَلُ جَاءَتْ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ .
{ الْعَاشِرَةُ } ( الْغُلُولُ ) سَرِقَةُ الْمَغْنَمِ خَاصَّةً ، وَأَمْرُهُ بِأَنْ يُبَايِعَهُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ لِيَظْهَرَ الْغَالُّ بِلُصُوقِ يَدِهِ ، وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِوَحْيٍ ، وَفِيهِ مُعَاقَبَةُ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ سِفْلَتِهَا لِلُّصُوقِ يَدِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ الْغُلُولُ مِنْ بَعْضِ قَبِيلَتِهِ ، وَلِعَدَمِ قَبُولِ الْغَنِيمَةِ مَعَ أَنَّ الْغُلُولَ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْغَانِمِينَ ، وَفِيهِ أَنَّ أَحْكَامَ الْأَنْبِيَاءِ بِوَحْيٍ وَمُعْجِزَةٍ بِحَسَبِ بَاطِنِ الْأَمْرِ كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْحُكَّامِ ، وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ { فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } .

{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ { وَهُوَ بِالصَّعِيدِ } أَيْ وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَقَوْلُهُ { فَأَقْبَلَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ } أَيْ جَمِيعَ الْمَوْضُوعِ بِالصَّعِيدِ ذَلِكَ الْمَغْلُولَ ، وَغَيْرَهُ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَفِيهِ جَوَازُ إحْرَاقِ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَمَا غُنِمَ مِنْهَا انْتَهَى .
وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّ تِلْكَ شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ لَا عَمَلَ عَلَيْهَا عِنْدَنَا ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْإِحْرَاقُ لَيْسَ بِفِعْلِهِمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُمْ فِيهِ .

{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَقَعُ ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ( قُلْت ) لَيْسَتْ هَذِهِ مُبَايَعَةٌ حَقِيقَةٌ كَمَا ، وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، وَإِنَّمَا صُورَتُهَا صُورَةُ الْمُبَايَعَةِ بِوَضْعِ الْكَفِّ فِي الْكَفِّ لِلْمُعْجِزَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهِيَ لُصُوقُ كَفِّ الْغَالِّ أَوْ مَنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ إبَاحَةُ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الْأَمَةِ ، وَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِذَلِكَ ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ تَحْلِيلِ الْغَنَائِمِ لِهَذِهِ الْأَمَةِ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ أَخْذِهِمْ فِدَاءَ الْأُسَارَى وَفِي آخِرِهِ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ حِينَئِذٍ أُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ سَرِيَّةً إلَى بَطْنِ نَخْلَةٍ فِي شَهْرِ رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ الْكُبْرَى ، وَأَخَذُوا الْعِيرَ وَالْأَسِيرِينَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ إنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا غَنِمْتُمْ الْخُمُسَ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ الْخُمُسَ مِنْ الْمَغَانِمِ فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسَ الْعِيرِ ، وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخَرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرِينَ ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ { يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } فَحِينَئِذٍ قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرِينَ } ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ لَيْسَ إسْنَادُهَا بِمُتَّصِلٍ وَلَا ثَابِتٍ فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَالَ فِيهَا ، وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَذْكُرُ ذَلِكَ ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ : وَيُقَالُ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ غَنَائِمَ نَخْلَةَ حَتَّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ أَهْلِ بَدْرٍ ، وَأَعْطَى كُلَّ قَوْمٍ حَقَّهُمْ } قَالَ :

وَيُقَالُ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ خَمَّسَ مَا غَنِمَ وَقَسَمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ سَائِرَ الْغَنَائِمِ فَكَانَ أَوَّلَ خُمُسٍ خُمِّسَ فِي الْإِسْلَامِ .

{ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَفِيهِ أَنَّ قِتَالَ آخَرِ النَّهَارِ ، وَإِذَا هَبَّتْ رِيَاحُ النَّصْرِ أَفْضَلُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ( قُلْت ) لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَصَدَ الْقِتَالَ ذَلِكَ الْوَقْتَ ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ دَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَلَعَلَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَإِنَّمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ الْحَالِ كَذَلِكَ .
.

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا فَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا ، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا فَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأُولَى الْفَيْءَ الَّذِي لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ بَلْ جَلَا عَنْهُ أَهْلُهُ أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُمُسُ ، وَبَاقِيهِ لِلْغَانِمِينَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ أَيْ بَاقِيهَا .
{ الثَّالِثَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُمُسُ فِي الْفَيْءِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَذْكُرْ الْخُمُسَ إلَّا فِي الْقَرْيَةِ الْعَاصِيَةِ الَّتِي لَمْ تُؤْخَذْ الْغَنِيمَةُ مِنْهَا إلَّا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، وَقَالَ فِي الْأُولَى إنَّ سَهْمَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهَا جَارٍ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَالْجُمْهُورُ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى إيجَابِ الْخُمُسِ فِي الْفَيْءِ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى إيجَابِهِ فِي الْغَنِيمَةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَ الشَّافِعِيِّ قَالَ بِالْخُمُسِ فِي الْفَيْءِ ا هـ .
وَاَلَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } فَلَفْظُ التَّنْزِيلِ فِي الْقِسْمَيْنِ مُتَّحِدٌ فَمَا وَجْهُ تَفْرِقَةِ الْجُمْهُورِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ مَضْمُومَةً لِمَالِهِ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَكَانَ لَهُ أَحَدٌ

وَعِشْرُونَ سَهْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا .
وَأَمَّا بَعْدَهُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ( أَظْهَرُهَا ) أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ الْمُرْصَدِينَ لِلْجِهَادِ ( وَالثَّانِي ) لَلْمَصَالِح كَخُمُسِ الْخُمُسِ ( وَالثَّالِثُ ) أَنَّهَا تُقْسَمُ كَمَا يُقْسَمُ الْخُمُسُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ جَمِيعُ الْفَيْءِ لِلْمَصَالِحِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ يَقْسِمُ جَمِيعَ الْفَيْءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، كَمَا يَقُولُهُ فِي خُمُسِ الْغَنِيمَةِ ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ خُمُسَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، ثَلَاثَةٌ لِهَؤُلَاءِ ، وَوَاحِدٌ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى .

{ الرَّابِعَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ خُمُسَهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ فَلَا يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ ، وَلْتُقَسِّمُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرُ بَعْدَهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ فَلَا يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ ، وَلْتُقَسِّمُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرُ بَعْدَهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَالشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْمُطَرِّزُ ، وَابْنُ خَالَوَيْهِ ، وَآخَرُونَ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَلَامًا مُتَدَاخِلًا حَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَلَكَ الرُّومِ قَيْصَرُ وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةِ النَّجَاشِيُّ ، وَمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ تُبَّعٌ ، وَمَنْ مَلَكَ حِمْيَرَ الْقَيْلُ بِفَتْحِ الْقَافِ ، وَقِيلَ الْقَيْلُ أَقَلُّ دَرَجَةً مِنْ الْمَلِكِ ا هـ وَيَجُوزُ فِي كِسْرَى فَتْحُ الْكَافِ وَكَسْرُهَا ، وَحُكِيَ الْفَتْحُ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ ، وَالْكَسْرُ عَنْ غَيْرِهِ .
{ الثَّالِثَةُ } مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ هَلَاكِ كِسْرَى لَكِنَّ لَفْظَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { قَدْ مَاتَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ } مَعَ قَوْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى { وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا

قَيْصَرَ بَعْدَهُ } ، وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي رَوَاهَا مِنْهَا مُسْلِمٌ بِلَفْظِ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى } .
وَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الَّتِي لَفْظُهَا { قَدْ مَاتَ كِسْرَى } مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ .
{ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلِ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } فَظَاهِرُ الرِّوَايَتَيْنِ التَّنَافِي ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ ( إحْدَاهُمَا ) قَبْلَ مَوْتِ كِسْرَى بِلَفْظِ { إذَا هَلَكَ كِسْرَى } وَالْأُخْرَى بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَفْظِ { قَدْ مَاتَ كِسْرَى } .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ إنَّهُ بَعِيدٌ ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ فَيُقَالُ إنَّ مَوْتَ كِسْرَى قَدْ وَقَعَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا إهْلَاكُ مُلْكِهِ فَلَمْ يَقَعْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْتِ أَبِي بَكْرٍ ، وَذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ ( قُلْت ) الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ { قَدْ مَاتَ كِسْرَى } مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } فَعَبَّرَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ ، وَتَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ : مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ كِسْرَى بِالْعِرَاقِ ، وَلَا قَيْصَرُ بِالشَّامِ كَمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْقِطَاعِ مُلْكِهِمَا فِي هَذَيْنِ الْإِقْلِيمَيْنِ وَكَانَ كَمَا قَالَ ؛ فَأَمَّا كِسْرَى فَانْقَطَعَ مُلْكُهُ ، وَزَالَتْ مَمْلَكَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ ، وَتَمَزَّقَ مُلْكُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، وَاضْمَحَلَّ بِدَعْوَةِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا قَيْصَرُ فَانْهَزَمَ مِنْ الشَّامِ ، وَدَخَلَ أَقْصَى بِلَادِهِ فَافْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَهُمَا ، وَاسْتَقَرَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ا هـ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَالْحَدِيثُ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي تَفْرِيقِ مُلْكِ كِسْرَى رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ ؛ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ } فَحَسِبْت أَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ { فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ } وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَعْنَاهُ قَوْلَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَعُودُ لِلرُّومِ ، وَلَا لِلْفُرْسِ مُلْكٌ قَالَ : وَهَذَا يَصِحُّ فِي كِسْرَى ، وَأَمَّا الرُّومُ فَقَدْ أَنْبَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَاءِ مُلْكِهِمْ إلَى نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ } .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا هَلَكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فَلَا يَكُونُ بَعْدَهُمَا مِثْلُهُمَا ، قَالَ : وَكَذَلِكَ كَانَ ، وَهَذَا أَعَمُّ وَأَتَمُّ ( قُلْت ) وَمِمَّا انْقَرَضَ ، وَلَمْ يَعُدْ بَقَاءُ اسْمِ قَيْصَرَ لِأَنَّ مُلُوكَ الرُّومِ لَا يُسَمَّوْنَ الْآنَ بِالْأَقَاصِرَةِ ، وَذَهَبَ ذَلِكَ الِاسْمُ عَنْ مُلْكِهِمْ فَصَدَقَ أَنَّهُ لَا قَيْصَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَوَّلِ ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ { لَا كِسْرَى } عَلَى ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ { لَا قَيْصَرَ } فَفِيهِ أَرْبَعُ احْتِمَالَاتٍ : لَا قَيْصَرَ بِالشَّامِ ؛ لَا قَيْصَرَ كَمَا كَانَ لَا قَيْصَرَ فِي الِاسْمِ ، لَا قَيْصَرَ مُطْلَقًا ، وَلَا يَصِحُّ

هَذَا الرَّابِعُ لِمُخَالِفَتِهِ لِلْوَاقِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ { وَلْتُقَسِّمُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَقَوْلُهُ { لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَمْرَانِ وَقَعَا كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُسِّمَتْ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ ثُمَّ أَنْفَقَهَا الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَزْوُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْهَا الْخُمُسُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِلُوا بَعِيرًا } .

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَ سَرِيَّةً فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَمُسْلِمٍ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ مَنْ سِوَى مَالِكٍ الْجَزْمُ { بِأَنَّ سُهْمَانُهُمْ بَلَغَتْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا } وَزَادَ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ { فَلَمْ يُغَيِّرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { ، وَنَفَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا } .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد رَوَاهُ بُرْدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ نَافِعٍ مِثْلَ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَرَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ { وَنَفَلَنَا بَعِيرًا بَعِيرًا } لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ فَخَرَجْت مَعَهَا فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرَةً فَنَفَلَنَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ إنْسَانٍ ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَ بَيْنَنَا فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَمَا حَاسَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي أَعْطَانَا صَاحِبُنَا ، وَلَا عَابَ عَلَيْهِ مَا صَنَعَ فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا بِنَفْلِهِ } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا

مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْشٍ قِبَلَ نَجْدٍ ، وَانْبَعَثَتْ سَرِيَّةٌ مِنْ الْجَيْشِ فَكَانَ سُهْمَانُ الْجَيْشِ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا ، وَنُفِلَ أَهْلُ السَّرِيَّةِ بَعِيرًا بَعِيرًا فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ } ، وَفِيهِ قَالَ الْوَلِيدُ حَدَّثَتْ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ( قُلْت ) وَكَذَا حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ لَا تَعْدِلْ مَنْ سَمَّيْت بِمَالِكٍ هَكَذَا أَوْ نَحْرُهُ يَعْنِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَيْشَ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ .
{ الثَّانِيَةُ } هَذَا الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ التَّرَدُّدِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ هَلْ بَلَغَ كُلُّ سَهْمٍ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا هُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ جَمَاعَةٍ رَوَاهُ الْمَوْلَى كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ فَجَمَعَ بَيْنَ رِوَايَتَيْهِمَا ، وَقَالَ فِيهَا فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّهُ حَمَلَ فِيهِ حَدِيثَ مَالِكٍ عَلَى حَدِيثِ اللَّيْثِ لِأَنَّ الْقَعْنَبِيَّ رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ الشَّكُّ كَمَا عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَلَا أَدْرِي أَمِنْ الْقَعْنَبِيِّ جَاءَ هَذَا حِينَ خَلَّطَ حَدِيثَ اللَّيْثِ بِحَدِيثِ مَالِكٍ أَمْ مِنْ أَبِي دَاوُد .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَبْلَ ذَلِكَ إنَّ جَمَاعَةَ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ رَوَوْهُ عَنْ مَالِكٍ عَلَى الشَّكِّ إلَّا الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ رَوَى اثْنَيْ عَشَرَ بِدُونِ شَكٍّ ، قَالَ : وَأَظُنُّهُ حَمَلَهُ عَلَى رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ حَمْزَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى الْجَزْمِ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَحَمَلَ حَدِيثَ مَالِكٍ عَلَى هَذَا ، وَهُوَ غَلَطٌ ، قَالَ : وَكَانَ سَائِرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ [ يَرْوِي ] اثْنَيْ عَشَرَ

بَعِيرٍ شَكَّ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مَالِكٍ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ { قِبَلَ نَجْدٍ } بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ الَّذِي يَلِي نَجْدًا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ وَ ( قِبَلَ ) يَكُونُ لِمَا وَلِيَ الشَّيْءَ تَقُولُ ذَهَبْت قِبَلَ السُّوقِ ، وَقَالُوا ( إلَى قِبَلَك مَالٌ ) أَيْ فِيمَا يَلِيك ، اتَّسَعَ فِيهِ فَأَجْرِي مَجْرَى عَلَيَّ إذَا قُلْت لِي عَلَيْك مَالٌ انْتَهَى وَ ( نَجْدٌ ) بِلَادٌ مُرْتَفِعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْحِجَازِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ وَكُلُّ مَا ارْتَفَعَ مِنْ تِهَامَةَ إلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ فَهُوَ نَجْدٌ وَ { السُّهْمَانُ } بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سَهْمٍ ، وَهُوَ النَّصِيبُ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ بَلَغَ هَذَا الْعَدَدَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، لَا مَجْمُوعُ الْأَنْصِبَاءِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ غَلَطٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، وَقَوْلُهُ { وَنُفِلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا } أَيْ أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى السَّهْمِ الْمُسْتَحَقِّ لَهُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءُ الْأَنْفَالُ هِيَ الْعَطَايَا مِنْ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ السَّهْمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْقِسْمَةِ ، وَأَحَدُهَا نَفَلٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَحُكِيَ إسْكَانُهَا أَيْضًا .
{ الرَّابِعَةُ } اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ هَذَا الْقَسْمَ وَالتَّنْفِيلَ هَلْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ أَمِيرِ السُّرِّيَّةِ ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ { فَلَمْ يُغَيِّرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَرَّحَ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ { ، وَنَفَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا } ، وَظَاهِرُهُ أَنْ قَسْمَ الْغَنِيمَةِ فِعْلُ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ ، وَالتَّنْفِيلَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي

رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَكْسُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّ التَّنْفِيلَ مِنْ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ ، وَقَسْمَ الْغَنِيمَةِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رِوَايَةَ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَلَى رِوَايَتِهِ قَالَ لِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ حُفَّاظٌ ، وَأَشَارَ إلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ رِوَايَتِي اللَّيْثِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ نَفَلَنَا بِمَعْنَى أَجَازَ ذَلِكَ لَنَا ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ نَفَلَهُمْ فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا .

{ الْخَامِسَةُ } ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَّةَ لَمْ تَكُنْ قِطْعَةً مِنْ جَيْشٍ كَبِيرٍ بَلْ هُمْ جَمَاعَةٌ أُخْرِجُوا لِذَلِكَ مُنْفَرِدِينَ فَبَلَغَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِ غَنِيمَتِهِمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَأُعْطُوا زِيَادَةً عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّنْفِيلِ كُلَّ وَاحِدٍ بَعِيرًا ، وَفِي رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ تِلْكَ السَّرِيَّةَ كَانَتْ قِطْعَةً مِنْ جَيْشٍ ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ بَلَغَ سَهْمُهُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَتَمَيَّزَتْ السَّرِيَّةُ عَلَى الْجَيْشِ بِنَفْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا فَبَلَغَ سَهْمُهُ بِالتَّنْفِيلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا } ، وَمَشَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَاعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَبَوَّبَ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ بَابُ نَفْلِ السُّرِّيَّةِ تَخْرُجُ مِنْ الْعَسْكَرِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ أَشَارَ إلَى تَضْعِيفِهَا بِمُعَارَضَتِهَا لِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ لَا تَعْدِلْ مَنْ سَمَّيْت مِنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا لِمُخَالَفَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ مَالِكًا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَالنَّفَلَ كَانَ كُلُّهُ لَهَا لَا يَشْرَكُهَا فِيهِ جَيْشٌ وَلَا غَيْرُهُ ، وَجَعَلَ شُعَيْبٌ السَّرِيَّةَ مُنْبَعِثَةً مِنْ جَيْشٍ ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ كَانَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ ، وَفُضِّلَ أَهْلُ السَّرِيَّةِ عَلَى الْجَيْشِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ لِمَوْضِعِ شَخْصِهِمْ وَنَصِيبِهِمْ قَالَ : وَلَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَتْهُ السَّرِيَّةُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ أَهْلُ الْجَيْشِ ، وَمَا صَارَ لِلْعَسْكَرِ تَشْرَكُهُمْ فِيهِ السَّرِيَّةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدٌّ لِصَاحِبِهِ ( قُلْت ) الْمُرَادُ الْجَيْشُ الْخَارِجُ إلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ ، وَاَلَّذِي انْفَرَدَتْ مِنْهُ هَذِهِ السَّرِيَّةُ لِمَصْلَحَةٍ أَمَّا الْجَيْشُ

الْقَاعِدُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُشَارِكُ السَّرِيَّةَ الْخَارِجَةَ إلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ وَحْدَهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ السَّادِسَةُ } فِيهِ إثْبَاتُ النَّفْلِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَخْصِيصُ مَنْ صَنَعَ صُنْعًا جَمِيلًا فِي الْحَرْبِ انْفَرَدَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّهِ هَلْ هُوَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا أَمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلشَّافِعِيِّ ، وَبِكُلٍّ مِنْهَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَآخَرِينَ قَالَ : وَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَآخَرُونَ قَالَ الْأَوَّلُونَ : وَلَوْ كَانَ التَّنْفِيلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّفْضِيلِ مَعْنًى وَلَكَانَ الْكَلَامُ مُخْتَلَّ اللَّفْظِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَكْثَرُ مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ ، وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الْخُمُسِ ، وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ انْتَهَى وَأَجَازَ النَّخَعِيّ أَنْ تُنَفَّلَ السَّرِيَّةُ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْهُ دُونَ بَاقِي الْجَيْشِ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَوْ نَفَلَهُمْ الْأَمَامُ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْعَتِيدَةِ دُونَ الْغَنِيمَةِ جَازَ ، وَمَا حَكَمْته أَوَّلًا مِنْ أَنَّ التَّنْفِيلَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ تَبِعْت فِيهِ النَّوَوِيَّ لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ النَّفَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ( أَحَدُهَا ) أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ يَرَاهُ مِنْ عَنَائِهِ وَبَأْسِهِ وَبَلَائِهِ أَوْ لِمَكْرُوهٍ تَحَمَّلَهُ دُونَ سَائِرِ الْجَيْشِ فَيُنَفِّلَهُ مِنْ

الْخُمُسِ لَا مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَعَثَ سُرِّيَّةً مِنْ الْعَسْكَرِ فَأَرَادَ أَنْ يُنَفِّلَهَا مِمَّا غَنِمَتْ دُونَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَحَقُّهُ أَنْ يُخَمِّسَ مَا غَنِمَتْ ثُمَّ يُعْطِيَ السَّرِيَّةَ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ مَا شَاءَ رُبْعًا أَوْ ثُلُثًا ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَهُ ، وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَبَيْنَ السَّرِيَّةِ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنْ يُحَرِّضَ الْإِمَامُ وَأَمِيرُ الْجَيْشِ أَهْلَ الْعَسْكَرِ عَلَى الْقِتَالِ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ ، وَيُنَفِّلَ جَمِيعَهُمْ مِمَّا يَصِيرُ بِأَيْدِيهِمْ ، وَيَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
( الرَّابِعُ ) أَوْ ( الثُّلُثُ ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ تَحْرِيضًا مِنْهُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُهُ وَلَا يُجِيزُهُ وَلَا يَرَاهُ ، وَكَانَ يَقُولُ قِتَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يَكُونُ لِلدُّنْيَا ، وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى .
وَكَذَا حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى النَّفَلَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ ذِكْرُهُ أَوَّلًا لِلتَّرْغِيبِ ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ إنَّ التَّنْفِيلَ يَكُونُ فِي كُلِّ غَنِيمَةٍ سَوَاءً الْأُولَى وَغَيْرُهَا ، وَسَوَاءً غَنِيمَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الشَّامِيِّينَ لَا يُنَفِّلُ فِي أَوَّلِ غَنِيمَةٍ ، وَلَا يُنَفِّلُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً .
{ السَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { وَنُفِلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا } قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا النَّفَلَ نُفِلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّرِيَّةِ نُفِلَ ( قُلْت ) هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّرِيَّةِ نُفِلَ ، وَسَبَبُهُ زِيَادَةُ عَنَائِهِ وَنَفْعِهِ بِانْفِرَادِهِ عَنْ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ بِتِلْكَ السَّفْرَةِ وَالْمَشَقَّةِ .

بَابُ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَسْرِقُ سَارِقٌ حِينَ يَسْرِقُ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَزْنِي زَانٍ ، وَهُوَ حِينَ يَزْنِي مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ حِينَ يَشْرَبُ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، يَعْنِي الْخَمْرَ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنْتَهِبُ أَحَدُكُمْ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنَهُمْ فِيهَا ، وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلُّ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إيَّاكُمْ } لَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ فِيهِ الْغُلُولَ ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ { وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ } وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ { يُنْزَعُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .

بَابُ تَحْرِيمِ الْغُلُول عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَسْرِقُ سَارِقٌ حِينَ يَسْرِقُ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَزْنِي زَانٍ حِينَ يَزْنِي ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الشَّارِبُ حِينَ يَشْرَبُ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ يَعْنِي الْخَمْرَ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنْتَهِبُ أَحَدُكُمْ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنَهُمْ فِيهَا ، وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلُّ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ فَإِيَّاكُمْ إيَّاكُمْ } لَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ فِيهِ الْغُلُولَ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي أُسَامَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْجُمَلِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ ، وَفِيهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ هَؤُلَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَلْعَقُ مَعَهُنَّ { وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِين يَنْتَهِبُهَا ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْجُمَلِ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْجُمَلِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ ، وَفِيهِ { ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ } ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ { فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } ، وَحَكَى الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي

النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ { يُنْزَعُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ } ، وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَسَنَذْكُرُهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، وَغَيْرِهِ ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيَّ ، وَهُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِيهِ { الْإِيمَانُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ } ، وَرَوَى الْبَزَّارُ ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ هَذَا الْمَتْنَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَفِيهِ { قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ يَخْرُجُ الْإِيمَانُ مِنْهُ فَإِنْ تَابَ رَجَعَ إلَيْهِ } ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا زَنَى الْمُؤْمِنُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ } وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ جَهَالَةٌ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ زَنَى خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ يُوجِبُ صِحَّةَ الْعِلْمِ .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَهُوَ كَامِلُ الْإِيمَانِ ، وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى نَفْي الشَّيْءِ ، وَيُرَادُ نَفْيُ كَمَالِهِ وَمُخْتَارِهِ كَمَا يُقَالُ لَا عِلْمَ إلَّا مَا نَفَعَ ، وَلَا مَالَ إلَّا الْإِبِلُ ، وَلَا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ : لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَغَيْرِهِ { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ } وَحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ { أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَعْصُوا إلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ ، وَمَنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعَاقَبْ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ } فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَعَ نَظَائِرِهِمَا فِي الصَّحِيحِ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الزَّانِي ، وَالسَّارِقَ ، وَالْقَاتِلَ ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ غَيْرِ الشِّرْكِ لَا يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ نَاقِصُوا الْإِيمَانِ إنْ تَابُوا سَقَطَتْ عُقُوبَتُهُمْ ، وَإِنْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِرِ كَانُوا فِي الْمَشِيئَةِ فَإِنْ شَاءَ اللَّهَ عَفَا عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ أَوَّلًا ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ قَالَ : وَكُلُّ هَذِهِ الدَّلَائِلِ تَضْطَرُّنَا إلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَشَبَهِهِ ثُمَّ إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ظَاهِرٌ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا كَثِيرًا ، وَإِذَا وَرَدَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ ظَاهِرًا وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا مَعَ عِلْمِهِ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِتَحْرِيمِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مَعْنَاهُ يُنْزَعُ مِنْهُ اسْمُ الْمَدْحِ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَيَسْتَحِقُّ اسْمَ الذَّمِّ فَيُقَالُ سَارِقٌ وَزَانٍ وَفَاجِرٌ وَفَاسِقٌ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ .
وَقَالَ الْمُهَلَّبُ يُنْزَعُ مِنْهُ بَصِيرَتُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا أَشْبَهَهُ يُؤْمَنُ بِهَا ، وَتُمَرُّ عَلَى مَا جَاءَتْ ، وَلَا يُخَاضُ فِي مَعْنَاهَا فَإِنَّا لَا

نَعْلَمُ مَعْنَاهَا ، وَقَالَ : أَمِرَّهَا كَمَا أَمَرَّهَا مَنْ قَبْلَكُمْ ، وَقِيلَ ، وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ غَيْرُ مَا ذَكَرْته مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ بَعْضُهَا غَلَطٌ فَتَرَكْتهَا ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي ذَكَرْتهَا فِي تَأْوِيلِهِ كُلِّهَا مُحْتَمَلَةٌ ، وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
وَيُوَافِقُ التَّأْوِيلَ الَّذِي صَحَّحَهُ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَدَارَ دَارَةً وَاسِعَةً فِي الْأَرْضِ ثُمَّ أَدَارَ فِي وَسَطِ الدَّارَةِ دَارَةً فَقَالَ الدَّارَةُ الْأُولَى الْإِسْلَامُ ، وَالدَّارَةُ الَّتِي فِي وَسَطِ الدَّارَةِ الْأُولَى الْإِيمَانُ فَإِذَا زَنَا خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الشِّرْكُ ، وَقَرَّرَ ابْنُ حَزْمٍ هَذَا الْقَوْلَ بِتَقْرِيرٍ حَسَنٍ ، وَهُوَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا ، وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَخْتَلَّ اعْتِقَادُهُ وَلَا نُطْقُهُ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَّتْ طَاعَتُهُ فَالْإِيمَانُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ هُوَ الطَّاعَةُ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلَامِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْإِنْذَارُ بِزَوَالِ الْإِيمَانِ إذَا اعْتَادَهَا ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ { مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرْوِيه { لَا يَشْرَبْ الْخَمْرَ } بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ يَقُولُ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا فَلَا يَفْعَلْ هَكَذَا انْتَهَى ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ ، { فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ زَنَى فَقَدْ كَفَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُبْهِمَ أَحَادِيثَ الرُّخَصِ لَا يَزْنِي الزَّانِي ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّ ذَلِكَ الزِّنَا حَلَالٌ لَهُ فَإِنْ آمَنَ بِهِ أَنَّهُ لَهُ حَلَالٌ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِتِلْكَ السَّرِقَةِ أَنَّهَا لَهُ حَلَالٌ فَإِنْ آمَنَ بِهَا أَنَّهَا لَهُ حَلَالٌ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّهَا لَهُ حَلَال فَإِنْ شَرِبَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّهَا لَهُ حَلَالٌ فَقَدْ كَفَرَ ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ حِينَ يَنْتَهِبُهَا ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّهَا لَهُ حَلَالٌ فَإِنْ انْتَهَبَهَا ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ أَنَّهَا لَهُ حَلَالٌ فَقَدْ كَفَرَ } لَكِنْ فِي إسْنَادِهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى التَّيْمِيُّ ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْكَذِبِ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى ذَكَرَ مَعْمَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ ، وَعَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا نَهْيٌ ، يَقُولُ حِينَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَفْعَلْنَ ، لَا يَسْرِقُ ، وَلَا يَزْنِي ، وَلَا يَقْتُلُ .
{ الثَّالِثَةُ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالتَّحْذِيرُ مِنْهَا فَنَبَّهَ بِالزِّنَى عَلَى جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ ، وَبِالسَّرِقَةِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْحِرْصِ عَلَى الْحَرَامِ ، وَبِالْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَصُدُّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ حُقُوقِهِ وَبِالِانْتِهَابِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِعِبَادِ اللَّهِ وَتَرْكِ تَوْقِيرِهِمْ ، وَالْحَيَاءُ مِنْهُمْ ، وَجَمْعُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْت ) وَقَدْ يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَعِيدِ فِي هَذِهِ الْكَبَائِرِ ثُبُوتُهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَبْلُغُ مَفْسَدَتُهُ مَفْسَدَتَهَا لَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهَا صَغِيرَةٌ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ

فَاعِلُهُ فَإِنَّهُ مُكَفَّرٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ ، وَبِفِعْلِ الطَّاعَاتِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } قَيَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيَ الْإِيمَانِ عَنْ مُرْتَكِبِ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِحَالَةِ الِارْتِكَابِ لَهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا التَّقْيِيدِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ زَوَالَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ إذَا تَابَ أَمَّا إذَا كَانَ مُصِرًّا فَهُوَ كَالْمُرْتَكِبِ فَصِحَّةُ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُ مُسْتَمِرَّةٌ ، وَقَدْ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ { وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ } وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ حِينَ يَزْنِي فَإِذَا زَايَلَهُ رَجَعَ إلَيْهِ الْأَيْمَانُ لَيْسَ إذَا تَابَ مِنْهُ ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ إذَا أَخَّرَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ } قَالَ الرَّاوِي عَنْهُ ، وَحَسِبْته أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِحَالَةِ الْفِعْلِ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَالْكَافِرِ فِي جَوَازِ قِتَالِهِ لِدَفْعِهِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ بَانَ لَنَا مِنْ هَذَا مَعْنًى حَسَنٌ فِي حِكْمَةِ نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُ ، وَهُوَ تَشْبِيهُهُ بِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ فِي جَوَازِ قِتَالِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَنْكَفَّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَلَوْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ ، وَإِنْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَهُوَ هَدَرٌ فَانْتَفَتْ فَائِدَةُ الْإِيمَانُ فِي حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ قِتَالِهِ ، وَإِهْدَارِ دَمِهِ ، وَزَوَالِ عِصْمَتِهِ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةُ } { النُّهْبَةُ } بِضَمِّ النُّونِ الْمَنْهُوبِ ، وَقَوْلُهُ { ذَاتَ شَرَفٍ } بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ كَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ قَالَ : وَمَعْنَاهُ ذَاتَ قَدْرٍ عَظِيمٍ ، وَقِيلَ ذَاتَ اسْتِشْرَافٍ يَسْتَشْرِفُ النَّاسُ لَهَا نَاظِرِينَ إلَيْهَا رَافِعِينَ أَبْصَارَهُمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَكَذَا قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَيْضًا ذَاتَ قَدْرٍ عَظِيمٍ فَالرِّوَايَتَانِ حِينَئِذٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
{ السَّادِسَةُ } أَطْلَقَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ السَّرِقَةِ ، وَقَيَّدَ النُّهْبَةَ بِأَنْ تَكُونَ ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنَهُمْ فِيهَا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ أَشَدُّ مِنْ الْغَصْبِ ، وَيُوَافِقُ هَذَا كَلَامَ أَبِي سَعِيدٍ الْهَرَوِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي كَوْنِ الْغَصْبِ مِنْ الْكَبَائِرِ كَوْنَ الْمَغْصُوبِ نِصَابًا ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا سَكَتَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِهَا كَوْنُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا فَإِنَّهُ الْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ فَإِذَا أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا كَانَ إطْلَاقَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَوِي حِينَئِذٍ الْبَابَانِ ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْغَصْبِ عَلَى غَيْرِهِ بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْقَسَمُ يَدُلُّ عَلَى التَّأْكِيدِ .
{ السَّابِعَةُ } ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الزَّانِي بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا أَمْ لَا ، وَلَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوبُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ شُرْب قَلِيلِ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ .

{ الثَّامِنَةُ } قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَسَّرَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَا النُّهْبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَنْ يَنْتَهِبَ مَالَ الرَّجُلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهُوَ لَهُ كَارِهٌ ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَهَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ النَّخَعِيّ وَالْحَسَنُ ، وَأَمَّا النُّهْبَةُ الْمَكْرُوهَةُ فَهُوَ مَا أَذِنَ فِيهِ صَاحِبُهُ لِلْجَمَاعَةِ ، وَأَبَاحَهُ لَهُمْ ، وَغَرَضَهُ تَسَاوِيهِمْ فِيهِ أَوْ مُقَارِبَةُ التَّسَاوِي فَإِذَا كَانَ الْقَوِيُّ مِنْهُمْ يَغْلِبُ الضَّعِيفَ ، وَيَحْرِمُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُنْثَرُ عَلَى رُءُوسِ الصِّبْيَانِ وَفِي الْأَعْرَاسِ فَيَكُونُ فِيهِ النُّهْبَةُ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلَا يُخْرِجُ بِذَلِكَ شَهَادَةَ أَحَدٍ وَإِنَّمَا أَكْرَهُهُ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَهُ إنَّمَا أَخَذَهُ بِفَضْلِ قُوَّةٍ وَقِلَّةِ حَيَاءٍ ، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ هُوَ وَحْدَهُ إنَّمَا قُصِدَ بِهِ الْجَمَاعَةُ ، وَلَا يُعْرَفُ حَظُّهُ مِنْ حَظِّ غَيْرِهِ فَهُوَ خِلْسَةٌ وَسُخْفٌ ، وَاحْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَحَرَ الْهَدْيَ قَالَ دُونَكُمْ فَانْتَهِبُوا } قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي إجَازَةِ أَخْذِ مَا يَنْثُرُ فِي الْمِلَاكِ وَغَيْرِهِ ، وَأُبِيحَ أَخْذُهُ لِأَنَّ الْمُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ قَدْ عَلِمَ اخْتِلَافَ قُوَّتِهِمْ فِي الْأَخْذِ ، وَلَيْسَ فِي الْبُدْنِ الَّتِي أَبَاحَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ مَعْنًى إلَّا وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النِّثَارِ انْتَهَى .

{ التَّاسِعَةُ } { وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ } بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ كَذَا الرِّوَايَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَكِنَّ فِيهِ لُغَةً أُخْرَى يُغِلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ حَكَاهَا فِي الصِّحَاحِ ، وَالْمُحْكَمِ ، وَالْمَشَارِقِ ، وَغَيْرِهَا ثُمَّ حَكَى فِي الصِّحَاحِ عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَسْمَعْ فِي الْمَغْنَمِ إلَّا غَلَّ غُلُولًا ، وَقَدْ أَطْلَقَ فِي الْمُحْكَمِ أَنَّ الْغُلُولَ الْخِيَانَةُ ثُمَّ قَالَ : وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْخَوْنَ فِي الْفَيْءِ ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ غَلَّ مِنْ الْمَغْنَمِ غُلُولًا أَيْ خَانَ ، وَأَغَلَّ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْغُلُولُ مِنْ الْمَغْنَمِ خَاصَّةً ، وَلَا نَرَاهُ مِنْ الْخِيَانَةِ ، وَلَا مِنْ الْحِقْدِ ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ مِنْ الْخِيَانَةِ أَغَلَّ يَغُلُّ ، وَمِنْ الْحِقْدِ غَلَّ يَغِلُّ بِالْكَسْرِ ، وَمِنْ الْغُلُولُ غَلَّ يَغُلُّ بِالضَّمِّ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ كُلُّ خِيَانَةٍ غُلُولٌ لَكِنَّهُ صَارَ فِي عُرِفَ الشَّرْعِ لِخِيَانَةِ الْمَغَانِمِ خَاصَّةً ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ وَالسَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَكُلُّ مَنْ خَانَ فِي شَيْءٍ خُفْيَةً فَقَدْ غَلَّ ، وَسُمِّيَتْ غُلُولًا لِأَنَّ الْأَيْدِي فِيهَا مَغْلُولَةٌ أَيْ مَمْنُوعَةٌ مَجْعُولٌ فِيهَا غَلَّ ، وَهُوَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تَجْمَعُ يَدَ الْأَسِيرِ إلَى عُنُقِهِ ، وَيُقَالُ لَهَا جَامِعَةٌ أَيْضًا انْتَهَى فَإِنْ كَانَ الْغُلُولُ مُطْلَقُ الْخِيَانَةِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَغْنَمِ خَاصَّةٌ فَبَيْنَهُ ، وَبَيْنَهَا عُمُومٌ ، وَخُصُوصٌ مِنْ ، وَجْهٍ .
{ الْعَاشِرَةُ } قَوْلُهُ { فَإِيَّاكُمْ إيَّاكُمْ } كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا هُنَا ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرَّتَيْنِ ، وَمَعْنَاهُ احْذَرُوا احْذَرُوا ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ يُقَالُ إيَّاكَ وَفُلَانًا أَيْ احْذَرْهُ ، وَيُقَالُ إيَّاكَ أَيْ احْذَرْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ فُلَانٍ كَمَا هُنَا { الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ { وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ } أَيْ بَعْدَ

مُوَاقَعَتِهِ لِلذَّنْبِ فَلَمَّا قَطَعَهُ عَنْ الْإِضَافَةِ بَنَاهُ عَلَى الضَّمِّ ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا مَعْرُوضَةٌ أَنَّ اللَّهَ عَرَضَهَا عَلَى الْعِبَادِ فَأَمَرَهُمْ بِهَا وَوَعَدَ قَبُولَهَا ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ الْإِقْلَاعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهَا وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهَا ، وَأَهْمَلَ أَصْحَابُنَا رُكْنًا رَابِعًا ، وَهُوَ النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ فِيهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ تَوْبَتُهُ ، وَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِآخَرَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ ، وَخَالَفَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ .
{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } الْمُرَادُ بِنَزْعِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ خُرُوجُهُ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا أَصْلُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمَحْكِيَّةُ عَنْ مُسْنَدِ الْبَزَّارِ فِي احْتِيَاجِهَا إلَى التَّأْوِيلِ كَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .

بَابُ كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ }

بَابُ كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ .
عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدٌ { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ { يُوشِكُ } بِكَسْرِ الشِّينِ أَيْ يَقْرَبُ ، وَقَوْلُهُ { أَنْ يَنْزِلَ } أَيْ مِنْ السَّمَاءِ ، وَقَوْلُهُ { فِيكُمْ } أَيْ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَعْضِهَا مِمَّنْ لَا يَدْرِك نُزُولَهُ ، وَقَوْلُهُ { حَكَمًا } بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ حَاكِمًا ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْزِلُ حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ لَا نَبِيًّا بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَشَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُنْسَخُ ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بَلْ هُوَ حَاكِمٌ مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ حِينَ يَنْزِلُ يَمْتَنِعُ مِنْ التَّقَدُّمِ لِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَيَقُولُ إمَامُكُمْ مِنْكُمْ } ، وَقَوْلُهُ { مُقْسِطًا } أَيْ عَادِلًا يُقَالُ أَقْسَطَ يُقْسِطُ إقْسَاطًا فَهُوَ مُقْسِطٌ إذَا عَدَلَ ، وَالْقِسْطُ بِكَسْرِ الْقَافِ الْعَدْلُ أَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّم حَطَبًا } يُقَالُ مِنْهُ قَسَطَ يَقْسِطُ قَسْطًا بِفَتْحِ الْقَافِ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ ( يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ) مَعْنَاهُ يَكْسِرُهُ حَقِيقَةً وَيُبْطِلُ مَا يَزْعُمُهُ النَّصَارَى مِنْ

تَعْظِيمِهِ ، وَيُغَيِّرُ مَا نَسَبُوهُ إلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ كَمَا غَيَّرَهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَذَلِكَ مُصَحِّحٌ لِشَرِيعَةِ نَبِيّنَا مَاشٍ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِيهَا ، وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرَاتِ ، وَآلَاتِ الْبَاطِلِ .

{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ لِلْمُخْتَارِ فِي مَذْهَبِنَا ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا الْخِنْزِيرَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَغَيْرِهَا وَتَمَكَّنَّا مِنْ قَتْلِهِ قَتَلْنَاهُ ، وَإِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَقَالُوا يُتْرَكُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَاوَةٌ .

{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ { وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ } قَالَ النَّوَوِيُّ الصَّوَابُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا الْإِسْلَامُ ، وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ بِهَا بَلْ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ الْقَتْلَ هَكَذَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يَكُونُ فَيْضُ الْمَالِ [ هُنَا ] مِنْ وَضْعِ الْجِزْيَةِ ، وَهُوَ ضَرْبُهَا عَلَى جَمِيعِ الْكَفَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَاتِلُهُ أَحَدٌ ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، وَانْقِيَادُ جَمِيعِ النَّاسِ لَهُ إمَّا بِالْإِسْلَامِ ، وَإِمَّا بِالْقَائِدِ فَيَضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ ، وَيَضْرِبُهَا هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ ، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ .
{ السَّادِسَةُ } إنْ قُلْت كَيْفَ يَضَعُ السَّيِّدُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجِزْيَةَ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ وُجُوبُ قَبُولِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَكَيْفَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَرَّرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ ( قُلْت ) قَالَ النَّوَوِيُّ جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُسْتَمِرًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِنَسْخِهِ ، وَلَيْسَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّاسِخُ بَلْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّسْخِ فَإِنَّ عِيسَى يَحْكُمُ بِشَرِيعَتِنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ قَبُولِ الْجِزْيَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ شَرْعُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
{ السَّابِعَةُ } فَإِنْ قُلْت مَا الْمَعْنَى فِي تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرْعِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى

عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ ( قُلْت ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ إنَّمَا قَبِلْنَاهَا نَحْنُ لِحَاجَتِنَا إلَى الْمَالِ ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ عِيسَى عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يَفِيضُ فِي أَيَّامِهِ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ فَلَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ انْتَهَى .
( قُلْت ) وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِشُبْهَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَتَعَلُّقِهِمْ بِزَعْمِهِمْ بِشَرْعٍ قَدِيمٍ فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى زَالَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ لِحُصُولِ مُعَايَنَتِهِ فَصَارُوا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي انْقِطَاعِ شُبْهَتِهِمْ وَانْكِشَافِ أَمْرِهِمْ فَعُومِلُوا مُعَامَلَتَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ ، وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى حَسَنٌ مُنَاسِبٌ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّامِنَةُ } قَوْلُهُ { وَيَفِيضُ الْمَالُ } هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ ، وَمَعْنَاهُ يَكْثُرُ وَتَنْزِلُ الْبَرَكَاتُ ، وَتَتَوَالَى الْخَيْرَاتُ بِسَبَبِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ التَّظَالُمِ ، وَلِمَا تُلْقِيه الْأَرْضُ مِنْ الْكُنُوزِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { وَتَفِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا } ، وَأَيْضًا فَتَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِي الْأَمْوَالِ لِقِصَرِ الْآمَالِ ، وَعِلْمِ النَّاسِ بِقُرْبِ السَّاعَةِ فَإِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ آخِرُ عَلَامَاتِهَا تُقْبَضُ عَقِبُهُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ ، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ فَاضَ الْوَادِي إذَا سَالَ وَفَاضَ الدَّمْعُ أَيْ كَثُرَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ يَنْزِلُ فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ مَا حَكَاهُ عَنْهُ ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ مَعَ بَذْلِ صَاحِبِهِ لَهُ فَكَيْفَ يَأْخُذُهُ ظُلْمًا ذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُؤْخَذَ .

بَابُ الْهِجْرَةِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ يَنْدَفِعُ النَّاسُ فِي شُعْبَةٍ أَوْ فِي وَادٍ وَالْأَنْصَارُ فِي شُعْبَةٍ لَانْدَفَعْت مَعَ الْأَنْصَارِ فِي شُعْبَتِهِمْ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

بَابُ الْهِجْرَةِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ يَنْدَفِعُ النَّاسُ فِي شُعْبَةٍ أَوْ فِي وَادٍ وَالْأَنْصَارُ فِي شُعْبَةٍ ، لَانْدَفَعْت مَعَ الْأَنْصَارِ فِي شُعْبَتِهِمْ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( فِيهِ ) فَوَائِدٌ { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَوْ أَنَّ الْأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شَعْبًا لَسَلَكْت وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا ظُلْمٌ بِأَبِي وَأُمِّي آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ أَوْ كَلِمَةٌ أُخْرَى } وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ هَذَا الْمَتْنَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ وَأَنَسٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ { لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ } أَيْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعِدَادِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّسَبُ قَطْعًا ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْأَنْصَارِ وَفِيهِ بَيَانُ فَضْلِ الْهِجْرَةِ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا فَرِيقًا وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ فَرِيقًا ، وَكُلُّ قَبِيلَةٍ مَعَ أَحْلَافِهَا تُعَدُّ فَرِيقًا ، وَلِكُلِّ فَرِيقٍ فِي الْحُرُوبِ رَايَةٌ ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُهَاجِرِينَ فَطَيَّبَ خَوَاطِرَ الْأَنْصَارِ بِأَنَّهُ لَوْلَا الْهِجْرَةُ الَّتِي شَارَكَهُ الْمُهَاجِرُونَ فِيهَا أَوْجَبْت أَنْ يَكُونَ مَعْدُودًا فِيهِمْ لَكَانَ عِدَادُهُ فِي الْأَنْصَارِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ مِنْ الْمُوَالَاةِ الْأَكِيدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ الشَّدِيدَةِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ مَا ظَلَمَ بِأَبِي وَأُمِّي أَيْ مَا ظَلَمَ قُرَيْشًا بِذَلِكَ أَيْ بِانْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَعَدِّهِ نَفْسَهُ فِي الْأَنْصَارِ بِتَقْدِيرِ فَقْدِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ آوَوْهُ

وَنَصَرُوهُ ، وَفَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِي مُبْتَدَإِ الْأَمْرِ ضِدَّ ذَلِكَ ، أَوْ مَا ظَلَمَ الْأَنْصَارَ ، وَلَا بَخَسَهُمْ حَقَّهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ فِيهِمْ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ { وَلَوْ يَنْدَفِعُ النَّاسُ فِي شُعْبَةٍ } كَذَا رَوَيْنَاهُ وَضَبَطْنَاهُ هُنَا بِضَمِّ الشِّينِ ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ الشُّعْبَةَ الْمَسِيلَ الصَّغِيرَ يُقَالُ شُعْبَةٌ حَافِلٌ أَيْ مُمْتَلِئَةٌ سَيْلًا ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الشُّعْبَةُ صَدْعٌ فِي الْجَبَلِ يَأْوِي إلَيْهِ الْمَطَرُ ، وَالشُّعْبَةُ الْمَسِيلُ فِي ارْتِفَاعِ قَرَارِهِ الرَّمَلُ ، وَالشُّعْبَةُ مَا صَغُرَ مِنْ التَّلْعَةِ وَقِيلَ مَا عَظُمَ مِنْ سَوَاقِي الْأَوْدِيَةِ ، وَقِيلَ الشُّعْبَةُ مَا انْشَعَبَ مِنْ التَّلْعَةِ وَالْوَادِي أَيْ عَدَلَ عَنْهُ ، وَأَخَذَ فِي غَيْرِ طَرِيقِهِ ، وَالْجَمْعُ شُعَبٌ وَشِعَابٌ انْتَهَى .
وَلَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ ( شِعْبٌ ) بِكَسْرِ الشِّينِ بِغَيْرِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ ، وَهُوَ مَا انْفَرَجَ بَيْن جَبَلَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ ، وَالْجَوْهَرِيُّ هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ ، وَفِي الْمَغَازِي { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ قُرَيْشًا وَسَلَكَ شُعْبَةً } هِيَ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ مَوْضِعٌ قُرْبَ يَلِيلَ ، وَيُقَالُ لَهُ شُعْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .
{ الرَّابِعَةُ } أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْأَنْصَارَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُمْ دَارَ هِجْرَتِهِ فَهُوَ مُلَازِمٌ لَهَا إلَى وَفَاتِهِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ } .

وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ { لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَ قَطُّ إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَّةِ فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ { ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ رَأَيْت دَارَ هِجْرَتِكُمْ أُرِيت سَبِخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ، وَهُمَا حَرَّتَانِ ، فَخَرَجَ مَنْ كَانَ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِك فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَتَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؟ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُحْبَتِهِ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ مِنْ وَرَقِ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، } قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عُرْوَةُ { قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِدًى لَهُ أَبِي وَأُمِّي ، إنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَأَمْرٌ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَك ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا هُمْ

أَهْلُك بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَالصَّحَابَةَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّمَنِ قَالَتْ فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ نِطَاقِهَا فَأَوْكَأَتْ الْجِرَابَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ ، ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

الْحَدِيثُ الثَّانِي .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَ قَطُّ إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ، فَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ } الْحَدِيثُ ( فِيهِ ) فَوَائِدٌ { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ، وَعُقَيْلٍ ، وَغَيْرِهِمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ذَكَرَهُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ الصَّلَاةُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالْكَفَالَةُ ، وَالْهِجْرَةُ ، وَاللِّبَاسُ ، وَالْأَدَبُ طُولُهُ فِي بَعْضِهَا ، وَاخْتَصَرَهُ فِي الْبَعْضِ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَ } كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِالْأَلِفِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَعِدَّةِ قَبَائِلَ يَجْعَلُونَ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَعَلَيْهَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى { إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يَخْرُجَاكُمْ } ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي السَّبْعِ ، وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذِهِ اللُّغَةَ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِنَقْلِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَبَوِيَّ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَالْمُرَادُ بِأَبَوَيْهَا أَبُوهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأُمُّهَا أُمُّ رُومَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ ، وَيَجُوزُ فِي الرَّاءِ مِنْ رُومَانَ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ ، وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْت مِنْ أَنَّهَا لَمْ تَعْقِلْ أَبَوَيْهَا إلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ أَيْ الْإِسْلَامَ فَإِنَّ مَوْلِدَهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَبْعِ سِنِينَ ، وَكَانَ أَبَوَاهَا مُتَقَدِّمَيْ الْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ وَفَاةَ أُمِّ رُومَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ ، وَقِيلَ خَمْسٍ ،

وَقِيلَ سِتٍّ { ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَزَلَ قَبْرَهَا فَاسْتَغْفَرَ لَهَا ، وَقَالَ اللَّهُمَّ لَمْ يَخْفَ عَلَيْك مَا لَقِيَتْ أُمُّ رُومَانَ فِيك ، وَفِي رَسُولِك } .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهَا { وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً } فِيهِ فَضِيلَةٌ لِلصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيَانِ تَوَاضُعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُوَادَّتِهِ أَصْحَابَهُ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِكْثَارِ الزِّيَارَةِ عِنْدَ تَأَكُّدِ الْمَوَدَّةِ أَوْ الِاحْتِيَاجِ لِذَلِكَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا } فَهُوَ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الدِّينِ وَالتَّنَاصُرِ فِيهِ وَأَعْمَالِ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَمَا أَظُنُّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهَا { فَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ } بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ اُمْتُحِنُوا بِأَذَى الْمُشْرِكِينَ وَأَصْلُ الِابْتِلَاءِ الِامْتِحَانُ ، وَالِاخْتِبَارُ ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعًا وَمِنْهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فِعْلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ يُقَالُ مِنْ الْخَيْرِ أَبْلَيْته أُبْلِيَهُ إبْلَاءً وَمِنْ الشَّرِّ بَلَوْته أَبْلُوهُ بَلَاءً قَالَ فِي النِّهَايَةِ ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فِعْلَيْهِمَا .
{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهَا { خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ } كَانَتْ الْهِجْرَةُ إلَى الْحَبَشَةِ مَرَّتَيْنِ وَعَدَدُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْأُولَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا لَمَّا بَلَغَهُمْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ سُجُودَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قِرَاءَةِ سُورَةِ وَالنَّجْمِ فَلَقُوا مِنْ

الْمُشْرِكِينَ أَشَدَّ مِمَّا عَهِدُوا فَهَاجَرُوا ثَانِيَةً ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا وَثَمَانِي عَشْرَةَ امْرَأَةً ، وَلَمْ يُعَدَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَصْحَابِ الْأُولَى وَلَا الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا بَلْ رَجَعَ مِنْ الطَّرِيقِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ { السَّادِسَةُ } { بَرْكُ الْغِمَادِ } بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَبِكَسْرِهَا لِلْأَصِيلِيِّ وَالْمُسْتَمْلِي وَغَيْرِهِمَا وَالرَّاءِ سَاكِنَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْغِمَادُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا كَمَا حَكَاهُ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ هُوَ مَوْضِعٌ فِي أَقَاصِي هَجَرَ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْيَمَنِ ، وَقِيلَ هُوَ مَوْضِعٌ وَرَاءَ مَكَّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الصِّحَاحِ بَرْكَ الْغِمَادِ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِرَكَ مِثْل قِرْدِ اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْيَمَنِ انْتَهَى فَلَا أَدْرِي هُوَ هَذَا أَمْ لَا .
{ السَّابِعَةُ } { ابْنُ الدَّغِنَةِ } هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَضْبُوطُ الْمَحْفُوظُ ، وَحَكَى فِيهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ ، وَهُمَا فَتْحُ الْغَيْنِ وَإِسْكَانُهَا وَوَجْهًا رَابِعًا حَكَاهُ عَنْ الْقَابِسِيِّ ، وَهُوَ الدُّغُنَّةُ بِضَمِّ الدَّالِ وَالْغَيْنِ وَتَشْدِيدِهَا ، وَحَكَى الْجَيَّانِيُّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَالرَّابِعَ ، وَقَالَ وَبِهِمَا رَوَيْنَاهُ انْتَهَى .
وَالرَّابِعُ أَشْهَرُ مِنْ الْمُتَوَسِّطَيْنِ فَهُمَا غَرِيبَانِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الصِّحَاحِ هَذِهِ الْمَادَّةَ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ دَغَنَ يَوْمُنَا كَدَجْنِ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ : وَإِنَّهُ لِذُو دُغُنَّةٍ كَدُجُنَّةٍ وَدُغَيْنَةٍ : الْأَحْمَقُ مَعْرِفَةٌ وَدُغَيْنَةُ اسْمُ امْرَأَةٍ .
{ الثَّامِنَةُ } { الْقَارَّةُ } بِالْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَالَ فِي الصِّحَاحِ هُمْ عَضَلٌ ، وَالدِّيشُ ابْنَا الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ سُمُّوا قَارَّةً

لِاجْتِمَاعِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ لَمَّا أَرَادَ ابْنُ الشَّدَّاخِ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ فِي بَنِي كِنَانَةَ فَقَالَ شَاعِرُهُمْ دَعُونَا قَارَّةً لَا تَنْفِرُونَا فَنَجْفِلَ مِثْلَ إجْفَالِ الظَّلِيمِ فَهُمْ رِمَاءٌ ، وَفِي الْمَثَلِ أَنْصَفَ الْقَارَّةَ مَنْ رَمَاهَا .
{ التَّاسِعَةُ } قَوْلُهُ { أَخْرَجَنِي قَوْمِي } أَيْ تَسَبَّبُوا فِي إخْرَاجِي لَا أَنَّهُمْ بَاشَرُوا إخْرَاجَهُ ، وَهُوَ مِثْلَ قَوْلِهِ { مِنْ قَرْيَتِك الَّتِي أَخْرَجَتْك } ، وَقَوْلُهُ { إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ " الْحَدِيثُ " أَشَارَ إلَى قِطْعَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ اخْتَصَرَهَا لِطُولِهَا ، وَلِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا هُنَا ، وَلَفْظُهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْهِجْرَةِ { فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَك يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ إنَّك تَكْسِبُ الْمُعْدَمَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَك جَارٌ ارْجِعْ ، وَاعْبُدْ رَبَّك بِبَلَدِك فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ ، وَلَا يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمُعْدَمَ ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ لِصَلَاتِهِ ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ

يُعْجَبُونَ مِنْهُ ، وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ .
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكْ عَيْنَيْهِ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِك عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ ، وَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ أَبَى إلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إلَيْك ذِمَّتَك فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نَخْفِرَك ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْت الَّذِي عَاقَدْتُ لَك عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أَخَفَرْت فِي رَجُلٍ عَقَدْت لَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إلَيْك جِوَارَك ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ } .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَذْكُورِ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَاهُ بِحَذْفِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْعَاشِرَةُ } قَوْلُهُ { قَدْ رَأَيْت دَارَ هِجْرَتِكُمْ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَقِظَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَنَامِ ، وَقَوْلُهُ { أُرِيتُ سَبِخَةً } هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْلُوهَا مُلُوحَةٌ ، وَجَمْعُهَا سِبَاخٌ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ فَتْحِ الْبَاءِ هُوَ إذَا لَمْ تَجْعَلْهَا صِفَةً لِأَرْضٍ فَإِنْ قُلْت أَرْضٌ سَبِخَةٌ كَسَرْت الْبَاءَ ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ ، وَالْمَشَارِقِ ، وَقَوْلُهُ { بَيْنَ لَابَتَيْنِ } بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ فِي

نَفْسِ الْحَدِيثِ ، وَهُمَا حَرَّتَانِ ، وَالْحَرَّةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٌ نَحْرَةٌ كَأَنَّهَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ { عَلَى رِسْلِك } بِكَسْرِ الرَّاءِ ، وَإِسْكَانِ السِّينِ أَيْ تُؤَدَتِك وَهِينَتِك ، وَضَبَطَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا قَالَ فَبِكَسْرِهَا عَلَى تُؤَدَتِكُمْ ، وَبِالْفَتْحِ مِنْ اللِّينِ وَالرِّفْقِ ، وَأَصْلُهُ السَّيْرُ اللَّيِّنُ ، وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ ، وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنَى مِنْ التُّؤَدَةِ ، وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ .
{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } { السَّمُرُ } بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ نَوْعٌ مِنْ شَجَرِ الطَّلْحِ يُقَالُ لِمُفْرَدِهِ سَمُرَةٌ ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى سُمُرَاتٍ .
{ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ } { الظَّهِيرَةُ } بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ الْهَاجِرَةُ ، وَهِيَ نِصْفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ ( وَنَحْرُهَا ) أَوَّلُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ ، وَابْنُ سِيدَهْ ، وَلَا يُقَالُ فِي الشِّتَاءِ ظَهِيرَةٌ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ { نَحْرُ الظَّهِيرَةِ } هُوَ حِينَ تَبْلُغُ الشَّمْسُ مُنْتَهَاهَا مِنْ الِارْتِفَاعِ كَأَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى النَّحْرِ ، وَهُوَ أَعَلَا الصَّدْرِ .
{ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } ( التَّقَنُّعُ ) مَعْرُوفٌ ، وَهُوَ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ بِطَرَفِ الْعِمَامَةِ أَوْ بِرِدَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وِقَايَةَ الرَّأْسِ مِنْ الْحَرِّ لِشِدَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ إرَادَةَ الِاخْتِفَاءِ ، وَأَنْ لَا يَطَّلِعَ أَحَدٌ عَلَى مَجِيئِهِ إلَيْهِمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ .
{ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ { فِدًى لَهُ أَبِي وَأُمِّي } خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَمُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَهُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ ، وَفِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَبِالْقَصْرِ رَوَيْنَاهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ فَدًى لَك مَفْتُوحٌ وَمَقْصُورٌ أَمَّا الْمَصْدَرُ مِنْ فَأَدَيْت فَمَمْدُودٌ لَا غَيْرُ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَاهُ

وَأُمَّهُ فِدَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَكَارِهِ ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ تَسْتَعْمِلُهَا الْعَرَبُ فِي التَّعْظِيمِ وَالتَّحَبُّبِ .

{ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِ بِصَاحِبِهِ وَقْتَ الْقَائِلَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ .

{ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ زَوْجَتُهُ عَائِشَةَ ، وَأُمُّهَا أُمُّ رُومَانَ وَالصِّدِّيقُ لَكِنْ يَحْتَمِلُ وُجُودُ غَيْرِهِمْ بَلْ وُجُودُ غَيْرِهِمْ مُحَقَّقٌ ، وَهُوَ أَسْمَاءُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ فَيَحْتَمِلُ عُذْرٌ مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا سِيَّمَا ذَلِكَ [ الْوَقْتِ ] ، وَهُوَ حِينَ وَضْعِ ثِيَابِهِمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ فَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَأْمُورِ مَالُك الْيَمِينِ ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِيهَا .

{ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُخْرِجَ مَنْ عِنْدَك } سَبَبُهُ شِدَّةُ التَّحَرُّزِ فِي أَمْرِ الْهِجْرَةِ لِئَلَّا يَعُوقَ عَنْهَا عَائِقٌ فَإِنَّ فُشُوَّ السِّرِّ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَفْسَدَةِ فَلَمَّا أَعْلَمَهُ الصِّدِّيقُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ إفْشَاءُ السِّرِّ بِقَوْلِهِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُك تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ .

{ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ } ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ( فَالصَّحَابَةَ ) مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَسْأَلُك أَوْ أَطْلُبُ مِنْك ، وَصَدْرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الصِّدِّيقِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ ، وَوَصَفَهُ فِي التَّنْزِيلِ بِهِ ، وَإِلَّا فَهَذَا كَانَ فِي عَزْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِهَذَا { اسْتَمْهَلَ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ ، وَقَالَ عَلَى رِسْلِك فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي } .
{ الْعِشْرُونَ } إنْ قُلْت لِمَ امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْذِ إحْدَى رَاحِلَتَيْ الصِّدِّيقِ إلَّا بِالثَّمَنِ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ } .
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ .
، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إلَّا ، وَقَدْ كَافَأْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ } .
( قُلْت ) قَدْ يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَصْدُقُ ذَلِكَ مَعَ الْعِوَضِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ هُنَا إلَّا بِعِوَضٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ فَأَرَادَ انْفِرَادَهُ بِالْأَجْرِ فِيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ } قَوْلُهَا { فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ } أَيْ أَسْرَعَهُ وَأَعْجَلَهُ ، وَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } ، وَفِي جِيمِ الْجِهَازِ وَجْهَانِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ ، وَالْجِرَابُ بِكَسْرِ الْجِيمِ مَعْرُوفٌ {

الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ } وَ { النِّطَاقُ } بِكَسْرِ النُّونِ شُقَّةٌ تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ ، وَتَشُدُّ وَسَطَهَا ثُمَّ تُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ إلَى الرُّكْبَةِ ، وَالْأَسْفَلُ يَنْجَرُّ إلَى الْأَرْضِ كَذَا قَيَّدَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِكَوْنِ الْأَعْلَى إلَى الرُّكْبَةِ ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُحْكَمِ ، وَالْمَشَارِقِ وَالنِّهَايَةِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَفْعَلُهُ عِنْدَ مُعَانَاةِ الْأَشْغَالِ لِئَلَّا تَعْثُرَ فِي ذَيْلِهَا ، وَقَوْلِهَا { فَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ } .
كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُنَا ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلْحَجَّاجِ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ لَهُ يَا بْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ أَنَا وَاَللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْت أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الدَّوَابِّ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ { صَنَعْت سُفْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ فَلَمْ يَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلَا لِسِقَائِهِ مَا يَرْبِطُهُمَا بِهِ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ ، وَلَا وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إلَّا نِطَاقِي قَالَ فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِي بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ ، وَبِوَاحِدٍ السُّفْرَةَ فَفَعَلْت فَلِذَلِكَ سُمِّيت ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ } .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ تَلْقِيبِ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِذَاتِ النِّطَاقَيْنِ ، وَقِيلَ بَلْ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا قَدْ أَعْطَاك اللَّهُ بِهِمَا نِطَاقَيْنِ فِي الْجَنَّةِ } .
حَكَاهُ فِي الْمَشَارِقِ ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُطَارِقُ نِطَاقًا فَوْقَ نِطَاقٍ تَسَتُّرًا ، وَبِهِ صَدَّرَ فِي

النِّهَايَةِ كَلَامَهُ ، وَقِيلَ كَانَ لَهَا نِطَاقَانِ تَلْبَسُ أَحَدَهُمَا ، وَتَحْمِلُ فِي الْآخَرِ الزَّادَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُمَا فِي الْغَارِ حَكَاهُ فِي النِّهَايَةِ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ وَمَا فَسَّرَتْ بِهِ هِيَ نَفْسَهَا خَيْرُهَا : فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا قِيلَ انْتَهَى .
( فَإِنْ قُلْت ) كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي أَنَّهَا اسْتَعْمَلَتْ فِي حَاجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّقَّيْنِ مَعًا أَحَدُهُمَا فِي السُّفْرَةِ ، وَالْآخَرُ فِي السِّقَاءِ أَوْ اسْتَعْمَلَتْ فِي حَاجَتِهِ أَحَدَهُمَا فَقَطْ ، وَأَبَقْت الْآخَرَ لِنَفْسِهَا .
( قُلْت ) الَّذِي يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ الرِّوَايَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا لَهُمَا فِي حَاجَتِهِ فَإِنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ ، وَهِيَ مُخْبِرَةٌ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا بِخِلَافِ الْآخَرِ فَإِنَّ النَّاقِلَةَ لَهُ عَائِشَةُ ، وَكَانَتْ إذْ ذَاكَ صَغِيرَةً وَغَيْرَ صَاحِبَةِ الْقَضِيَّةِ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ الْمُوَافِقَةُ لِذَلِكَ فَقَالَتْهَا فِي آخِرِ عُمْرِهَا وَحُزْنِهَا عَلَى وَلَدِهَا وَغَيْظِهَا مِنْ الْحَجَّاجِ فَاَلَّذِي قَالَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ } قَوْلُهَا { فَأَوْكَأَتْ الْجِرَابَ } كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ ، وَظَاهِرُهُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى عَائِشَةَ ، وَاَلَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ } تَعْنِي أَسْمَاءَ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ .
{ الرَّابِعَةُ ، وَالْعِشْرُونَ } قَوْلُهَا { ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ } هُوَ الْغَارُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } ، وَثَوْرٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ جَبَلٌ بِمَكَّةَ ، وَمُكْثُهُمَا فِيهِ ثَلَاثُ لَيَالٍ لِيَنْقَطِعَ الطَّلَبُ عَنْهُمَا ، وَلَا يَظْفَرَ بِهِمَا الْمُشْرِكُونَ

بَابُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ } .

بَابُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ .
{ الثَّانِيَةُ } فِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْفِئَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ فِئَةُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَوْلُهُ { دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ } أَيْ دِينُهُمَا وَاحِدٌ إذْ الْكُلُّ مُسْلِمُونَ يَدْعُونَ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْحَرْبِ ، وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقُولُ إنَّهُ نَاصِرٌ لِلْحَقِّ طَالِبٌ لَهُ ذَابٌّ عَنْ الدِّينِ فَالْقَائِمُونَ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُمْ الْمُصِيبُونَ الْقَائِمُونَ بِنُصْرَةِ مَنْ تَجِبُ نُصْرَتُهُ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ الْخَلْقِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ مَعَ تَقَدُّمِ بَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِدَارِ الْهِجْرَةِ ، وَالْقَائِمَةُ مَعَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَأَوَّلُوا وُجُوبَ الْقِيَامِ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ فِي صَلْبِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ بَيْعَةً ، وَلَا يَعُدُّونَ إمَامَةً حَتَّى يُعْطَوْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَرَ هُوَ رَفْعَهُمْ إذْ الْحُكْمُ فِيهِمْ لِلْإِمَامِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَيِّنُوا أَحَدًا بَلْ طَلَبُوا ذَلِكَ عَلَى الِاتِّهَامِ ، وَلَا مَعْنَى لِوُقُوفِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنْ تَعْيِينِ الْمُحِقِّ مِنْ الْفِئَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } ، وَمِنْ هَذَا بَوَّبَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذَا

الْحَدِيثِ فَقَالَ ( الْبُغَاةُ ) لِمَا بَيِّنَاهُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْفِئَةَ الْمُقَاتِلَةَ لِعَلِيٍّ هِيَ الْبَاغِيَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَوِّلَةً طَالِبَةً لِلْحَقِّ فِي ظَنِّهَا غَيْرَ مَذْمُومَةٍ بَلْ مَأْجُورَةٍ عَلَى الِاجْتِهَادِ ، وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابَةُ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْوَاجِبَ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِهِمْ ، وَأَنْ يُتَأَوَّلَ لَهُمْ مَا فَعَلُوهُ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِفَضْلِهِمْ ، وَمَا عَهِدْنَاهُ مِنْ حُسْنِ مَقْصِدِهِمْ ثُمَّ إنَّ عَدَالَتَهُمْ قَطْعِيَّةٌ لَا تَزُولُ بِمُلَابَسَةِ شَيْءٍ مِنْ الْفِتَنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ } لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْحَدِيثِ لِحُكْمِ هَذَا الْقِتَالِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ خَاصَّةً ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُقَاتِلُ فِي فِتَنِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَيْتَهُ ، وَطَلَبُوا قَتْلَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُدَافَعَةُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّ الطَّالِبَ مُتَأَوِّلٌ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ لَا يَدْخُلُ فِيهَا لَكِنْ إنْ قُصِدَ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ فِتَنِ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ نَصْرُ الْحَقِّ فِي الْفِتَنِ وَالْقِيَامُ مَعَهُ وَمُقَاتَلَةُ الْبَاغِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مَنْعِ الْمُقَاتَلَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْمُحِقُّ أَوْ عَلَى طَائِفَتَيْنِ ظَالِمَتَيْنِ لَا تَأْوِيلَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ لَظَهَرَ الْفَسَادُ ، وَاسْتَطَالَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَالْمُبْطِلُونَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ { قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ : فِيهِمْ رَجُلٌ مَثْدُونُ الْيَدِ أَوْ مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مُخْدَجُ الْيَدِ لَوْلَا أَنْ تَبْطُرُوا لَأَنْبَأْتُكُمْ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ : قَالَ عُبَيْدَةُ فَقُلْت لِعَلِيٍّ أَنْتَ سَمِعْته ؟ قَالَ نَعَمْ ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ يَحْلِفُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ { ، وَقَالَ أَنْتَ سَمِعْته مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } الْحَدِيثَ ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ عَنْ عَلِيٍّ بِلَفْظٍ آخَرَ ، وَفِيهِ { فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي .
وَعَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ { قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِيهِمْ رَجُلٌ مَثْدُونُ الْيَدِ أَوْ مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مُخْدَجُ الْيَدِ لَوْلَا أَنْ تَبْطُرُوا لَأَنْبَأْتُكُمْ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ قَالَ عُبَيْدَةُ فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ يَحْلِفُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
( فِيهِ ) فَوَائِدٌ { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ { أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِيٌّ أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ ، وَلَا صِيَامُكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ قِرَاءَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مِمَّا قَضَى لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَاتَّكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ ، وَفِيهِ فَقَالَ عَلِيٌّ الْتَمِسُوا فِيهِمْ الْمُخْدَجَ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَغَ ، قَالَ فَقَامَ إلَيْهِ عُبَادَةَ السَّلْمَانِيُّ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهِ الَّذِي

لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَسَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : أَيْ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ { أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ ، وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالُوا لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ كَلِمَةَ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا إنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ ، وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ هُمْ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى يَدَيْهِ ظَبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ اُنْظُرُوا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَالَ ارْجِعُوا فَوَاَللَّهِ مَا كَذَبْت وَلَا كَذَبْت مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ ، وَأَنَا حَاضِرٌ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ } .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ { قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِّيَّةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي

الْوَصِيِّ قَالَ { قَالَ عَلِيٌّ اُطْلُبُوا الْمُجْدَعَ ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ تَحْتِ الْقَتْلَى فِي طِينٍ قَالَ أَبُو الْوَصِيِّ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِيشَ عَلَيْهِ فَرَبَطْت لَهُ إحْدَى يَدَيْهِ مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا شُعَيْرَاتٌ مِثْلُ شُعَيْرَاتٍ تَكُونُ عَلَى ذَنَبِ الْيَرْبُوعِ } .
وَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُجْدَعُ لَمَعْنَا يَوْمَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ نُجَالِسُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَكَانَ فَقِيرًا ، وَرَأَيْته مَعَ الْمَسَاكِينِ يَشْهَدُ طَعَامَ عَلِيٍّ مَعَ النَّاسِ ، وَقَدْ كَسَوْته بُرْنُسًا لِي قَالَ أَبُو مَرْيَمَ ، وَكَانَ الْمُجْدَعُ يُسَمَّى نَافِعًا ذَا الثَّدْي ، وَكَانَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ [ وَ ] عَلَى رَأْسِهِ حَلَمَةٌ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْي عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ مِثْلُ سِبَالَةِ السِّنَّوْرِ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ { قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ } اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ أَيْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَقِّ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ الْمُرَادُ بِهِمْ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ ، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهِيَ بَلْدَةٌ عَلَى أَرْبَعِ فَرَاسِخَ مِنْ الدِّجْلَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ الْحَرُورِيَّةَ نِسْبَةً إلَى حَرُورَاءَ وَهُوَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مَوْضِعٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ اجْتَمَعَ فِيهِ أَوَائِلُ الْخَوَارِجِ ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى اسْتَعْمَلَ فِي كُلِّ خَارِجِيٍّ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ { فِيهِمْ رَجُلٌ مَثْدُونُ الْيَدِ أَوْ مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مُخْدَجُ الْيَدِ } شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي اللَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ فَأَمَّا الْمَثْدُونُ فَبِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ، وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ نُونٌ ، وَهُوَ صَغِيرُ الْيَدِ مُجْتَمِعُهَا كَثَنْدُوَةِ الثَّدْيِ ، وَهِيَ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بِلَا هَمْزٍ وَبِضَمِّهَا مَعَ الْهَمْزِ ، وَكَأَنَّ أَصْلَهُ مَثْنُودٌ فَقُدِّمَتْ الدَّالُ عَلَى النُّونِ كَمَا قَالُوا

فِي جَبَذَ جَذَبَ ، وَعَاثَ فِي الْأَرْضِ وَعَثَا ، وَحُكِيَ فِي الْمُحْكَمِ هَذَا الْقَلْبُ عَنْ ابْنِ جِنِّي ، وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَأَمَّا ( الْمُودَنُ ) فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيُقَالُ بِالْهَمْزِ وَبِتَرْكِهِ وَهُوَ نَاقِصُ الْيَدِ ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا .
وَدِينٌ وَمَوْدُونٌ ، وَأَمَّا ( الْمُخْدَجُ ) فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ جِيمٌ ، وَمَعْنَاهُ نَاقِصُ الْيَدِ يُقَالُ خَدَجَتْ النَّاقَةُ إذْ أَلْقَتْ وَلَدَهَا قَبْلَ تَمَامِ الْأَيَّامِ ، وَإِنْ كَانَ تَامَّ الْخِلْقَةِ ، فَهُوَ خَدِيجٌ ، وَأَخْدَجَتْ إذَا جَاءَتْ بِهِ نَاقِصَ الْخَلْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهُ تَامَّةً فَهُوَ مُخْدَجٌ ، وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كُلِّ ذَاتِ ظِلْفٍ وَحَافِرٍ بَلْ فِي الْآدَمِيَّاتِ أَيْضًا ، وَمِنْهُ وَكُلُّ أُنْثَى حَمَلَتْ خَدُوجًا .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا } أَيْ تَطْغَوْا ، وَأَصْلُ الْبَطَرِ الطُّغْيَانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ فَيَسُوءُ احْتِمَالُهُ لَهَا فَيَكُونُ مِنْهُ الْكِبْرُ وَالْأَشَرُ وَالْبَذَخُ ، وَشِدَّةُ الْمَرَحِ .
{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ { أَنْتَ سَمِعْته } كَذَا فِي رِوَايَتِنَا هُنَا الِاقْتِصَارُ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ، وَالْمَعْنَى دَالٌّ عَلَيْهِ .
{ السَّادِسَةُ } قَوْلُهُ { لِمَنْ قَتَلَهُمْ } أَيْ قَاتَلَهُمْ ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى التَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ بِذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْبَغْيِ مَتَى خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ ، وَخَالَفُوا رَأْيَ الْجَمَاعَةِ ، وَشَقُّوا الْعَصَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ بَعْدَ إنْذَارِهِمْ وَالْإِعْذَارِ إلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } لَكِنْ لَا يُجْهَزُ عَلَى

جَرِيحِهِمْ ، وَلَا يُتْبَعُ مُنْهَزِمُهُمْ ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ ، وَلَا تُبَاحُ أَمْوَالُهُمْ ، وَمَا لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ الطَّاعَةِ وَيَنْتَصِبُوا لِلْحَرْبِ لَا يُقَاتَلُونَ بَلْ يُوعَظُونَ وَيُسْتَتَابُونَ عَنْ بِدْعَتِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَكْفُرُوا بِبِدْعَتِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ مِمَّا يَكْفُرُونَ بِهَا جَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ ، وَأَمَّا الْبُغَاةُ الَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ فَيُورَثُونَ وَيَرِثُونَ ، وَدَمُهُمْ فِي حَالِ الْقِتَالِ هَذَا ، وَكَذَا أَمْوَالُهُمْ الَّتِي تَتْلَفُ فِي الْقِتَالِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ أَيْضًا مَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي حَالِ الْقِتَالِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ضَمِنُوهُ ، وَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْ دَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ فِي حَالِ الْحَرْبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
{ السَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { يَحْلِفُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا } قَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَنَّ الْحَلِفَ وَتَكْرِيرَهُ كَانَ بِاسْتِحْلَافِ عُبَيْدَةَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشَكٍّ فِي خَبَرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيُسْمِعَ الْحَاضِرِينَ ، وَيُؤَكِّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ ، وَتَظْهَرُ لَهُمْ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا ، وَأَصْحَابَهُ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ ، وَأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْحُدُودِ .
بَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ قَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدْنَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إنَّ فِيهَا لَآيَةُ الرَّجْمِ فَأَتَوْا التَّوْرَاةَ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا بَعْدَهَا وَمَا قَبْلَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ارْفَعْ يَدَك فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَالُوا صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : فَرَأَيْته رَجُلًا يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ } .

كِتَابُ الْحُدُودِ .
بَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ قَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا لَآيَةُ الرَّجْمِ فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا بَعْدَهَا وَمَا قَبْلَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ارْفَعْ يَدَك فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَقَالُوا صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَرَأَيْته رَجُلًا يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْكَافِرِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ ؛ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الزِّنَا وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ .
وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لِلْيَهُودِ يَوْمئِذٍ ذِمَّةٌ وَتَحَاكَمُوا إلَيْهِ ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمَّا ذَكَرَ كَلَامَ مَالِكٍ هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لَمَا أَقَامَهُ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَإِذَا كَانَ مَنْ لَا ذِمَّةَ لَهُ قَدْ حَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الزِّنَا فَمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ أَحْرَى بِذَلِكَ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ حَمَلَ مَالِكٍ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذِمَّةٌ فَكَانَ دَمُهُ مُبَاحًا لَكِنَّهُ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا عِنْدِي بِرَجْمِهِ لِلْمَرْأَةِ وَلَعَلَّهُ يَقُولُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ فَدَكَ وَخَيْبَرَ وَكَانُوا حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ لِيَسْأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُمْ سَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ فَحُدُّوا بِهِ وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَحْتَاجُ إلَى اعْتِذَارٍ بَعْدَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ مَجِيئَهُمْ سَائِلِينَ يُوجِبُ عَهْدًا لَهُمْ كَمَا إذَا دَخَلُوا بِلَادَنَا لِغَرَضٍ مَقْصُودٍ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَإِنَّهُمْ فِي أَمَانٍ إلَى أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ وَلَا أَخْذُ مَالِهِمْ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنَّمَا رَجْمَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا أَهْلَ ذِمَّةٍ وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ؛ وَلِأَنَّهُ رَجَمَ الْمَرْأَةَ ، وَالنِّسَاءُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُنَّ مُطْلَقًا انْتَهَى .
فَهَذَا الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِهِمَا حَرْبِيَّيْنِ وَأَمَّا الْجَوَابُ .
عَنْ التَّحَاكُمِ إلَيْهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْحَاكِمَ بَعْدَ تَرَافُعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ فَاخْتَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى

مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِحْصَانِ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ وَلَيْسَ مَوْجُودًا فِي هَذَيْنِ الزَّانِيَيْنِ فَلَيْسَ حُكْمُ الشَّرْعِ عِنْدَهُ رَجْمَهُمَا فَكَيْفَ يُقَالُ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَكَيْفَ الْمَخْلَصُ عِنْدَهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْكَلَامِ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيُّ حَقٍّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إفْتَاءَهُمْ وَتَأَمَّلَ سُؤَالَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ انْتَهَى .
( قُلْت ) التَّحْكِيمُ إنَّمَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْحُكَّامِ فَأَمَّا الْحُكَّامُ فَحُكْمُهُمْ بِالْوِلَايَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّحْكِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنْ قَالَ قَائِلٌ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ حَكَّمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَضِيَا بِحُكْمِهِ قِيلَ لَهُ حَدُّ الزَّانِي حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْحَاكِمِ إقَامَتُهُ وَقَدْ كَانَ لِلْيَهُودِ حَاكِمٌ فَهُوَ الَّذِي حَكَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اعْتِبَارَ بِتَحْكِيمِ الزَّانِيَيْنِ انْتَهَى بِمَعْنَاهُ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ النُّبُوَّةِ لَا بِالتَّحْكِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِ مِنْ إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْكَافِرِ مَحَلُّهُ فِي الذِّمِّيِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ .

أَمَّا الْمُعَاهِدُ أَوْ مَنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ إذَا زِنًا بِمُسْلِمَةٍ فَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ طَرِيقَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَالْخِلَافِ فِي قَطْعِهِ بِالسَّرِقَةِ ( أَظْهَرُهُمَا ) لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَ ( الثَّانِي ) نَعَمْ وَ ( الثَّالِثُ ) إنْ شُرِطَ عَلَيْهِ فِي الْعَهْدِ حَدٌّ وَإِلَّا فَلَا وَ ( الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ ) الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا حَدَّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّقُ بِطَلَبِ آدَمِيٍّ وَخُصُومَتِهِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِنَقْلِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْبَغَوِيِّ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا يُحَدُّ الدَّاخِلُ بِأَمَانٍ فِي الزِّنَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُحَدُّ إذَا زَنَا بِذِمِّيَّةٍ .

( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ الْمُقْتَضِي لِلرَّجْمِ ( الْإِسْلَامُ ) فَإِذَا وَطِئَ الذِّمِّيُّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ حُرٌّ صَارَ مُحْصَنًا يَجِبُ رَجْمُهُ إذَا زَنَا وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُرْجَمُ الذِّمِّيُّ ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ الْإِسْلَامُ قَالُوا : وَكَانَ الرَّجْمُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ لَا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْحَدِّ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّتِهِ وَهَذَا مَرْدُودٌ ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ مَعَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } وَهُوَ الْعَدْلُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَكَيْفَ نَجْعَلُ الْحُدُودَ نَاسِخَةً لِهَذَا الْحُكْمِ وَهِيَ مُوَافَقَةٌ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ مُضَادَّةِ حُكْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَإِنَّمَا جَاءَهُ الْقَوْمُ مُسْتَفْتِينَ طَمَعًا فِي أَنْ يُرَخِّصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ الرَّجْمِ لِيُعَطِّلُوا بِهِ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فَأَشَارَ إلَيْهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَتَمُوهُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لِشَرَائِطِهِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ وَلَيْسَ يَخْلُو الْأَمْرُ فِيمَا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمَنْسُوخِ وَيَتْرُكَ النَّاسِخَ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فَهُوَ شَرِيعَتُهُ وَالْحُكْمُ الْمُوَافِقُ لِشَرِيعَتِهِ لَا يَجُوزُ

أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَابِعًا لِمَا سِوَاهُ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّ فِيهِ رَجُلًا لَا يُعْرَفُ قَالَ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اُحْكُمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ احْتِجَاجًا بِهِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا حَكَمَ بِمَا فِي دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَذِكْرُهُ التَّوْرَاةَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى هَذَا عِنْدَنَا كَانَ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجْمِ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ أَيْ بِشَرِيعَتِنَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَجَمَ مَاعِزًا وَغَيْرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا رَجَمَ مَنْ رَجَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى وَلَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلِذَلِكَ سَأَلَهُمْ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكُلُّهُمْ أَيْ الْفُقَهَاءُ يَشْتَرِطُ فِي الْإِحْصَانِ الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ الْإِسْلَامَ هَذَا مِنْ شُرُوطِهِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ وَمَنْ رَأَى رَجَمَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ إذَا أُحْصِنُوا إنَّمَا رَآهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْنَا لَزِمَنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ فِينَا وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَهُودِيِّينَ الْمَذْكُورَيْنِ انْتَهَى .
وَهُوَ مَرْدُودٌ نَقْلًا وَمَعْنًى فَنَقْلُهُ عَنْ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْصَانِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا وَقَوْلُهُ إذَا تَرَافَعُوا إلَيْنَا لَزِمَنَا أَنْ نَحْكُمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ يُقَالُ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عِنْدَك أَنْ لَا رَجْمَ عَلَى الْكَافِرِ لِعَدَمِ إحْصَانِهِ فَكَيْفَ تَقُولُ إنَّ رَجْمَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ اشْتِرَاطِهِ الْإِسْلَامَ فِي الْإِحْصَانِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مَخْصُوصٌ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } ؛ وَلِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا عَمِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
وَهُوَ مَرْدُودٌ فِي نَفْسِهِ وَمُخَالِفٌ لِمَا قَدَّمَهُ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ .
( الثَّانِي ) : حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ .
( الثَّالِثُ ) : قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ وَلَا نَحْكُمُ الْيَوْمَ إلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي إلَّا الْحُكْمَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ دَلِيلُ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أَيْ الْعَدْلِ وَإِذَا جَاءَنَا الْيَهُودُ وَاعْتَرَفُوا عِنْدَنَا بِالزِّنَا وَأَرَدْنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ رَجَمْنَاهُمْ وَإِلَّا لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ انْتَهَى .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْت رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةُ يُحَدِّثُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { زَنَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ وَقَدْ أُحْصِنَا حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُمَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ .

( الرَّابِعَةُ ) : إنْ قُلْت كَيْفَ ثَبَتَ زِنَاهُمَا أَبِإِقْرَارِهِمَا أَمْ بِبَيِّنَةٍ ؟ ( قُلْت ) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ { فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءَ أَرْبَعَةٌ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا } قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلُهُ ( فَدَعَا بِالشُّهُودِ ) يَعْنِي شُهُودَ الْإِسْلَامِ عَلَى اعْتِرَافِهِمَا ، وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَرَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ الْيَهُودِ يَعْنِي بِحُضُورِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ بِشَهَادَةٍ لَا بِاعْتِرَافٍ ، وَذَلِكَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَا عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى كَافِرٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا وَلَا بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَقَبِلَ شَهَادَتَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَيَعْتَذِرُ لِلْجُمْهُورِ عَنْ رَجْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّانِيَيْنِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْيَهُودِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَّذَ عَلَيْهِمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمُ التَّوْرَاةِ وَأَلْزَمَهُمْ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا عَمِلَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارًا لِتَحْرِيفِهِمْ وَتَغْيِيرَهُمْ فَكَانَ مُنَفِّذًا لَا حَاكِمًا قَالَ وَهَذَا يَمْشِي عَلَى تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَاكِمًا فِي الْقَضِيَّةِ بِحُكْمِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْعُذْرُ عَنْ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْيَهُودِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ إذْ

لَمْ يُسْمَعْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَهُوَ مَرْدُودٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ وَلَوْ نُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنْ أَحَدِ الْحُكَّامِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَكَيْفَ بِسَيِّدِ الْحُكَّامِ أَوْ مُشَرِّعِ الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّ رَجْمَهُمَا بِالْإِقْرَارِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُد الْمُتَقَدِّمَ ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ مُسْلِمِينَ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَلَا اعْتِبَارَ بِشَهَادَتِهِمْ وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالزِّنَا .

( الْخَامِسَةُ ) : فِيهِ رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ أَمْرٌ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهُمْ الْجَمَاعَةُ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ خِلَافًا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ لَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنْ الْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ كَالنَّظَّامِ وَأَصْحَابِهِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالرَّجْمِ .
( السَّادِسَةُ ) : وَفِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَأَنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ الْجَلْدُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَدَاوُد وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وُجُوبًا إذَا كَانَ الزَّانِي شَيْخًا ثَيِّبًا فَإِذَا كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اُقْتُصِرَ عَلَى الرَّجْمِ .

( السَّابِعَةُ ) : وَفِيهِ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ وَلَوْلَا صِحَّةُ أَنْكِحَتِهِمْ لَمَا ثَبَتَ إحْصَانُهُمْ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ مَحْكُومٌ بِصِحَّتِهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ فَاسِدَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا وَلَا بِفَسَادِهَا بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَا قَرَّرَ عَلَيْهِ بَانَتْ صِحَّتُهُ وَإِلَّا بَانَ فَسَادُهُ .

( الثَّامِنَةُ ) : وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ .
الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ .

( التَّاسِعَةُ ) : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ : } قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ لِتَقْلِيدِهِمْ وَلَا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ لِإِلْزَامِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَوْحَى إلَيْهِمْ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ كَمَا غَيَّرُوا أَشْيَاءَ أَوْ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَلِهَذَا لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِينَ كَتَمُوهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : لَا يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَهُ قَوْلَ ابْنَيْ صُورِيَّا بَلْ الْوَحْيُ أَوْ مَا أَلْقَى اللَّهُ فِي رُوعِهِ مِنْ يَقِينِ صِدْقِهِمَا فِيمَا قَالَاهُ مِنْ ذَلِكَ .
( الْعَاشِرَةُ ) : قَوْلُهُ ( نَفْضَحُهُمْ ) : بِفَتْحِ النُّونِ أَوَّلَهُ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ثَالِثَةً وَلَعَلَّ الْفَضِيحَةَ هُنَا مَا أَوْضَحَهُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا وَنُحَمِّمُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا وَيُطَافُ بِهِمَا .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَدْ يُقَالُ إنَّ فِي جَوَابِهِمْ حَوْدًا عَنْ سُؤَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَمَّا يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ فَأَعْرَضُوا عَنْ جَوَابِ هَذَا وَذَكَرُوا مَا يَفْعَلُونَهُ بِالزُّنَاةِ مِنْ الْفَضِيحَةِ وَالْجَلْدِ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ حَاكِينَ لَهُ عَنْ التَّوْرَاةِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا لَآيَةُ الرَّجْمِ فَلَوْلَا حِكَايَتُهُ لِذَلِكَ عَنْ التَّوْرَاةِ لَمْ يَتَوَجَّهْ لِابْنِ سَلَامٍ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ كَذِبِهِمْ عَلَى التَّوْرَاةِ وَتَغْيِيرِهِمْ أَحْكَامَهَا وَنِسْبَتِهِمْ إلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا وَكِتْمَانِهِمْ الْحَقَّ الَّذِي فِيهَا .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى

أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يُسْقِطُوا شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ وَلَا غَيَّرُوا شَيْئًا مِنْ أَلْفَاظِهَا وَإِنَّمَا كَانَ تَحْرِيفُهُمْ لِمَعَانِيهَا وَكَذِبُهُمْ فِي أَنْ يَضَعُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ وَيَنْسُبُونَهَا إلَى أَنَّهَا مِنْ التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعُوهَا فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } : وَالذَّاهِبُونَ إلَى تَحْرِيفِهِمْ لِأَلْفَاظِهَا قَالُوا لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا حَرَّفُوهُ وَقَدْ حَرَّفُوا غَيْرَهُ وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ بِأَيْدِيهِمْ الْآنَ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوهُ فَهُمْ .
يَتَكَاتَمُونَهُ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ سَلَفَهُمْ مِنْ تَغْيِيرِهِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى خَلَفِهِمْ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الضَّالِّينَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ صَحِيحَةٌ بِأَيْدِيهِمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا وَلَا دَعَا بِهَا ( قُلْت ) : لَا يَدُلُّ سُؤَالُهُ عَنْهَا وَلَا دُعَاؤُهُ لَهَا عَلَى صِحَّةِ جَمِيعِ مَا فِيهَا ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْهَا ، عَلِمَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَأَرَادَ بِذَلِكَ تَبْكِيتَهُمْ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ كِتَابَهُمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ وَاخْتِلَاقِهِمْ مَا لَيْسَ فِيهِ وَإِنْكَارِهِمْ مَا هُوَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) : لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْيَهُودِيِّ الزَّانِي وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ اسْمَ الْمَرْأَةَ الزَّانِيَةَ بُسْرَةُ وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ أَنَّ الطَّبَرِيَّ رَوَى ذَلِكَ وَالْوَاضِعُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا كَمَا هُوَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهَا .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ ( يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ ) : ضَبَطْنَاهُ عَنْ شَيْخِنَا وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ وَهُوَ الَّذِي قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ إنَّهُ الْجَيِّدُ فِي الرِّوَايَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ نَقَلَ أَوَّلًا أَنَّ الَّذِي عِنْدَ أَكْثَرِ شُيُوخِهِمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى ( يَحْنِي ) يَعْنِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ بِلَا هَمْزٍ قَالَ وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ بُكَيْر بِالْحَاءِ وَقَدْ قِيلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْجِيمِ ( يَجْنِي ) : قُلْت وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا فِي الْجِيمِ فَيَكُونُ بِكَسْرِ النُّونِ وَآخِرُهُ يَاءٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ يُجَانِئُ عَنْهَا بِيَدِهِ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَجَافَى بِيَدِهِ وَالصَّوَابُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ يَجْنَأُ بِالْهَمْزِ أَيْ يَمِيلُ عَلَيْهَا يُقَالُ مِنْ جَنَأَ يَجْنَأُ جِنَاءً وَجُنُوءًا إذَا مَالَ وَيُجْنِئُ وَيَجْنَأُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ يَجْنَأُ يَعْنِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِالْجِيمِ وَبِالْهَمْزَةِ آخِرُهُ كَذَا لِلْأَصِيلِيِّ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ وَلِأَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ فِي الْمُوَطَّإِ وَقَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ بِالْحَاءِ عَنْ الْجُرْجَانِيِّ وَبِالْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ هُوَ عِنْدَ الْحُمَيْدِيِّ وَوَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِيِّ فِي مَوْضِعٍ كَذَلِكَ وَكَذَا قُيِّدَ عَنْ ابْنِ الْفَخَّارِ لَكِنْ بِغَيْرِ

هَمْزٍ وَكَذَا قَيَّدْنَاهُ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ طَرِيقِ الْأَصِيلِيِّ بِالْجِيمِ مَضْمُومَ الْيَاءِ مَهْمُوزًا وَرَأَيْت فِي أَصْلِ أَبِي الْفَضْلِ ( يَجْنَأُ ) بِفَتْحِ الْيَاءِ ثُمَّ جِيمٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ وَيَجِبُ ذَلِكَ يَجْبَأُ بِجِيمٍ ثُمَّ بَاءٍ مُعْجَمَةٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ أَيْ يَرْكَعُ عَلَيْهَا .
وَبِالْجِيمِ وَالْحَاءِ مَعًا مَهْمُوزٌ لَكِنْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَقَيَّدْنَاهُ عَنْ ابْنِ الْقَابِسِيِّ عَنْ ابْنِ شُمَيْلٍ وَبِالْحَاءِ وَحْدَهَا قَيَّدْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَتَّابٍ وَابْنِ أَحْمَدَ وَابْنِ عِيسَى مَفْتُوحَ الْأَوْلِ قَالَ : أَبُو عُمَرَ وَهُوَ أَكْثَرُ رِوَايَاتِ شُيُوخِنَا عَنْ يَحْيَى وَكَذَا رِوَايَةُ ابْنِ قَعْنَبٍ وَابْنِ بُكَيْر وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ النُّونِ يُحَنِّي وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا وَجَاءَ لِلْأَصِيلِيِّ فِي بَابٍ آخَرَ ( فَرَأَيْته أَجْنَأَ ) بِالْهَمْزِ وَالْجِيمِ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ أَحَنَأَ [ بِالْحَاءِ ] وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْكُتُبِ يَحْنُو وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ يَجْنَأُ وَمَعْنَاهُ يَنْحَنِي يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ جَنَأَ يَجْنَأُ قَالَهُ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ وَقَالَ الزَّبِيدِيُّ حَنِيَ بِكَسْرِ النُّونِ فِي الْمَاضِي يَحْنُو وَيَحْنِي أَيْ يَعْطِفُ عَلَيْهَا يُقَالُ حَنِيَ يَحْنِي وَيَحْنُو وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَحْنَاهُنَّ عَلَى وَلَدٍ } : وَيَكُونُ أَيْضًا يَحْنِي عَلَيْهَا ظَهْرَهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَكَذَلِكَ [ قَوْلُ ] مَنْ قَالَ يَحْنِئُ عَلَى مَعْنَى يَجْعَلُ ظَهْرَهُ كَذَلِكَ ، وَيَفْعَلُهُ بِهِ حَتَّى يَحْنِيَ ، تَعَدِّيَةُ حَنَأَ الرَّجُلُ يَحْنَأُ إذَا صَارَ كَذَلِكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَجْنَأْت التُّرْسَ جَعَلْته مُجْنَأً أَيْ مُحْدَوْدَبًا وَهَذَا مِثْلُهُ ا هـ .
وَكَلَامُ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ قَوْلُهُ ( يُجْنِئُ عَلَيْهَا ) : أَيْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ أَيْ يَكِبُّ وَيَمِيلُ عَلَيْهَا لِيَقِيَهَا

الْحِجَارَةَ أَجْنَأَ يُجْنِئُ إجْنَاءً وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُجَانِئُ عَلَيْهَا مُفَاعَلَةٌ مِنْ جَانَأَ يُجَانِئُ ثُمَّ قَالَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ الَّذِي جَاءَ فِي كِتَابِ السُّنَنِ يُجْنِئُ بِالْجِيمِ وَالْمَحْفُوظُ إنَّمَا هُوَ يَحْنِي بِالْحَاءِ أَيْ يَكِبُّ عَلَيْهَا يُقَالُ حَنَا يَحْنَا حُنُوًّا ( قُلْت ) : وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ عَكْسَ هَذَا فَقَالَ هَكَذَا قَالَ يَجْنَأُ وَالْمَحْفُوظُ إنَّمَا هُوَ يَحْنَأُ أَيْ يَكِبُّ عَلَيْهَا يُقَالُ حَنَا الرَّجُلُ يَحْنُو حُنُوًّا إذَا أَكَبَّ عَلَى الشَّيْءِ قَالَ كُثَيِّرٌ : أَعَزَّةُ لَوْ شَهِدْت غَدَاةَ بِنْتُمْ جُنُوءَ الْعَائِدَاتِ عَلَى وِسَادِي وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيفَ لِكَلَامِ الْخَطَّابِيِّ حَصَلَ لِصَاحِبِ النِّهَايَةِ لِأَنَّ الْجَوْهَرِيَّ أَنْشَدَ هَذَا الْبَيْتَ جُنُوءَ بِالْجِيمِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ مَا أَنْشَدَ عَلَيْهِ .
هَذَا الْبَيْتَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي أَعْلَامِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ فَقَالَ قَوْلُهُ يَحْنِي عَلَيْهَا رَوَاهُ بِالْحَاءِ وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَجْعَلُونَهَا بِالْجِيمِ وَالْهَمْزِ يَجْنَأُ عَلَيْهَا أَيْ يَمِيلُ عَلَيْهَا وَأَنْشَدَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ هَذَا الشَّعْرَ بِالْحَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ وَحَصَلَ مِمَّا حَكَيْنَاهُ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ثَمَانِيَةُ أَوْجُهَ : ( الْأَوَّلُ ) : يَجْنَأُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ .
( الثَّانِي ) : يُجْنِي كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ النُّونِ .
( الثَّالِثُ ) : يَجْنِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ النُّونِ بِلَا هَمْزٍ .
( الرَّابِعُ ) : مِثْلُ الْأَوَّلِ يَجْبَأُ إلَّا أَنَّهُ بِالْبَاءِ بَدَلَ النُّونِ .
( الْخَامِسُ ) : يَحْنِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَآخِرُهُ يَاءٌ .
( السَّادِسُ ) : كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ بِالْوَاوِ آخِرُهُ .
( السَّابِعُ ) : [ يَحْنَأُ ] كَالْخَامِسِ إلَّا أَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَآخِرُهُ هَمْزَةٌ .
( الثَّامِنُ ) : يُحَنِّي

بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ بِالْجِيمِ وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخِيرَةُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ رُوِيَ يُجَانِئُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ وَالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ وَيُجَافِي بِالْجِيمِ وَالْفَاءِ وَالْيَاءِ فِي آخِرِهِ فَكَمُلَتْ بِذَلِكَ عَشْرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَزَعَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْوَجْهَ الْخَامِسَ هُوَ الصَّوَابُ وَأَنَّ الثَّالِثَ لَيْسَ بِصَوَابٍ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَ ) فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَحْفِرْ لَهُمَا لَمَّا رُجِمَا إذْ لَوْ حَفَرَ لَهُمَا لَمَا تَمَكَّنَ أَنْ يَجْنَأَ عَلَيْهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ يُحْفَرُ لَهُمَا وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُحْفَرُ لِمَنْ يُرْجَمُ بِالْبَيِّنَةِ دُونَ مَنْ يُرْجَمُ بِالْإِقْرَارِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ لَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ وَفِي الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهَ ( أَصَحُّهَا ) : أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ اُسْتُحِبَّ أَوْ بِالْإِقْرَارِ فَلَا ( وَالثَّانِي ) : يُسْتَحَبُّ الْحَفْرُ لَهَا إلَى صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَسْتَرَ ( وَالثَّالِثُ ) : لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُكْرَهُ بَلْ هُوَ إلَى خِيرَةِ الْإِمَامِ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) : وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا تُرْبَطُ يَدَاهُ وَلَا يُشَدَّانِ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُجَانِي عَنْهَا بِيَدِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ .

بَابُ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَك عَهْدًا لَنْ تُخْلَفَنِيهِ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْته أَوْ جَلَدْته أَوْ لَعَنْته فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ : } لَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ ( أَوْ ) : فِي الْجَمِيعِ وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ مِنْهُ عَلَى قَوْله { اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْته فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ : } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْت عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا : } الْحَدِيثَ

بَابُ إقَامَةِ الْحُدُودِ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي اتَّخَذْت عِنْدَك عَهْدًا لَنْ تُخْلَفَنِيهِ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْته أَوْ شَتَمْته أَوْ جَلَدْته أَوْ لَعَنْته فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظَةُ ( أَوْ ) : وَإِنَّمَا لَفْظُهُ { آذَيْته شَتَمْته } إلَى آخِرِهِ نَعَمْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { سَبَبْته أَوْ لَعَنْته أَوْ جَلَدْته } : وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ بِلَفْظِ { آذَيْته أَوْ سَبَبْته أَوْ جَلَدْته } : وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٌ سَبَبْته فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَلِمُسْلِمٍ فِيهِ لَفْظٌ آخَرُ أَطْوَلُ مِنْهُ .
( الثَّانِيَةُ ) : الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقُولُ لَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنِّي اشْتَرَطْت عَلَى رَبِّي فَقُلْت إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٌ دَعَوْت عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً مِنْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً

وَزَكَاةً وَنَحْوَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَنَحْوِهِ وَكَانَ مُسْلِمًا ، وَإِلَّا فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ رَحْمَةً .
( الثَّالِثَةُ ) ( إنْ قُلْت ) : كَيْفَ يَصْدُرُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَكَيْفَ يَسُبُّهُ أَوْ يَلْعَنُهُ أَوْ يَجْلِدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومٌ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَمْدًا وَسَهْوًا ؟ ( قُلْت ) : قَالَ النَّوَوِيُّ الْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ وَمُخْتَصَرُهُ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُسْتَوْجِبٌ لَهُ فَيَظْهَرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَيَكُونُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ .
( الثَّانِي ) : إنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا خَرَجَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهَا بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ { تَرِبَتْ يَمِينُك وَعَقْرَى حَلْقَى } وَكَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لِيَتِيمَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ { لَا أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْك } وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فَخَافَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَادِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إجَابَةً فَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرَغِبَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُ هَذَا فِي النَّادِرِ الشَّاذِّ مِنْ الْأَزْمَانِ وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُمْ {

قَالُوا لَهُ اُدْعُ عَلَى دَوْسٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا } .
{ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } انْتَهَى .
وَعَبَّرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ أَحْبَبْت نَقْلَهَا فَقَالَ أَوْضَحُهَا وَجْهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَغْضَبُ لِمَا يَرَى مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَغَضَبُهُ لِلَّهِ لَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَقِمُ لَهَا ، وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ غَضَبِهِ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَغْضُوبِ مِنْ أَجَلِهِ .
وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُخَالِفَ بِاللَّعْنِ وَالسَّبِّ وَالْجَلْدِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَكْرُوهِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَةِ الْمُخَالِفِ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَخَالِفَ قَدْ يَكُونُ مَا .
صَدَرَ مِنْهُ فَلْتَةٌ أَوْجَبَتْهَا غَفْلَةٌ أَوْ غَلَبَةُ نَفْسٍ أَوْ شَيْطَانٌ وَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَمَلٌ خَالِصٌ وَحَالٌ صَادِقٌ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَثَرَ مَا صَدَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا وَدُعَاءُ رَبِّهِ إشْفَاقًا عَلَى الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ وَتَأْنِيسًا لَهُ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ مِنْ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ تَقَبُّلُ دُعَائِهِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَقَدْ تَكُونُ سُؤَالَاتُهُ لِرَبِّهِ فِيمَنْ جَلَدَهُ وَسَبَّهُ بِوَجْهِ حَقٍّ وَعِقَابٍ عَلَى جُرْمٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا وَكَفَّارَةً لِمَا فَعَلَهُ وَتَحَصُّنًا لَهُ عَنْ عِقَابِهِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ كَانَ لَهُ كَفَّارَةً .
( الرَّابِعَةُ ) : قَالَ الْمَازِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ } وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ وَقَعَتْ بِحُكْمِ سَوْرَةِ الْغَضَبِ لَا

عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ فَبَقِيَ السُّؤَالُ عَلَى حَالِهِ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ أَنَّ دَعَوْته عَلَيْهِ أَوْ سَبَّهُ أَوْ جَلْدَهُ كَانَ مِمَّا خُيِّرَ بَيْنَ فِعْلِهِ لَهُ عُقُوبَةً لِلْجَانِي وَتَرْكِهِ وَزَجْرِهِ بِأَمْرٍ آخَرَ فَحَمَلَهُ الْغَضَبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَخَيَّرِ فِيهِمَا وَهُوَ سَبُّهُ أَوْ لَعْنُهُ أَوْ جَلْدُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ .
( الْخَامِسَةُ ) : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَك عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ : } مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَأَجَابَ دُعَاءَهُ وَحَقَّقَ طُلْبَتَهُ وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى شَرَطْت عَلَى رَبِّي أَيُّ دُعَائِي الْمُجَابُ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ شَرْطٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ حَقٌّ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْإِكْرَامِ لِأَوْلِيَائِهِ .
( السَّادِسَةُ ) : وَفِيهِ بَيَانُ مَا اتَّصَفَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى أَمَتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِهِمْ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي كُلِّ مَا يَنْفَعُهُمْ .

( السَّابِعَةُ ) : اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ حَتَّى فِي الْحُدُودِ فَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ بِمَا يَقْتَضِي حَدًّا أَقَامَهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ كَاذِبَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ هُوَ بِكَذِبِهَا وَلَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافَ مَا شَهِدَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِ كَمَا قَدْ حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ قَضَائِهِ بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْخُلُ فِيهِ حَدُّ .
الْحَدِّ وَجَلْدُ التَّعْزِيرِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ الْمَحْدُودُ أَهْلًا لِلْحَدِّ إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِي الْحَدَّ كَاذِبَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَأَمَّا إذَا صَدَقَتْ فَهُوَ أَهْلٌ لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ وَفَضَائِلُ تَجْبُرُ مَا وَقَعَ مِنْهُ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي وُقُوعَ الْحَدِّ مَوْقِعَهُ وَمَعَ كَذِبِ الْبَيِّنَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْحَاكِمُ كَذِبَهَا لَا يَلْحَقُ الْحَاكِمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) : وَفِيهِ جَوَازُ لَعْنِ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافَهُ .
( التَّاسِعَةُ ) : قَوْلُهُ { أَوْ شَتَمْته أَوْ جَلَدْته أَوْ لَعَنْته : } بَعْدَ قَوْلِهِ { آذَيْته : } مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَقَوْلُهُ { فَاجْعَلْهَا } أَيْ تِلْكَ الْخَصْلَةَ .
( الْعَاشِرَةُ ) : قَوْلُهُ ( صَلَاةً ) : أَيْ رَحْمَةً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ مُفَسَّرَةٌ بِالرَّحْمَةِ وَقَوْلُهُ ( وَزَكَاةً ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ تَرْقِيَةٌ لِنَفْسِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجْرِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِالْأَجْرِ ، وَ ( الْقُرْبَةُ ) : مَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رِضْوَانِهِ

بَابُ اتِّقَاءِ الْوَجْهِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَات .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ } وَقَالَ مُسْلِمٌ ( إذَا ضَرَبَ ) وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْجُهَنِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا { ارْمُوا وَاتَّقُوا وَجْهَهَا } وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ { ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ } .

بَابُ اتِّقَاءِ الْوَجْهِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَات عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ ، وَمِنْ طَرِيق مَالِكٍ وَابْنِ فُلَانٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ فِي رِوَايَتَيْهِ هَاتَيْنِ لَفْظَةُ أَخَاهُ ، وَابْنُ فُلَانٍ هَذَا قِيلَ إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ أَحَدُ الضُّعَفَاءِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ .
عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا ضَرَبَ : } وَمِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ } وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي أَيُّوبَ الْمَرَاغِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ { فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { فَلَا يَلْطُمَنَّ الْوَجْهَ } .
( الثَّانِيَةُ ) : فِيهِ النَّهْيُ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا تَصْرِيحٌ بِالنَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَطِيفٌ يَجْمَعُ الْمَحَاسِنَ وَأَعْضَاؤُهُ نَفِيسَةٌ لَطِيفَةٌ وَأَكْثَرُ الْإِدْرَاكِ بِهَا فَقَدْ يُبْطِلُهَا ضَرْبُ الْوَجْهِ وَقَدْ يُنْقِصُهَا وَقَدْ يَشِينُ الْوَجْهَ وَالشَّيْنُ فِيهِ فَاحِشٌ فَإِنَّهُ بَارِزٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ سَتْرُهُ وَمَتَى ضَرَبَهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ شَيْنٍ غَالِبًا .
( الثَّالِثَةُ ) : قَدْ يُقَال إنَّ قَوْلَهُ قَاتَلَ بِمَعْنَى قَتَلَ وَإِنَّ الْمُفَاعَلَةَ هُنَا لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا بَلْ هِيَ مِثْلُ عَاقَبْت اللِّصَّ وَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { إذَا ضَرَبَ } .
وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { فَلَا يَلْطُمَنَّ الْوَجْهَ } وَقَدْ يُقَالُ هِيَ عَلَى بَابِهَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ مُقَاتَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ فِي دَفْعِ صَائِلٍ وَنَحْوِهِ يَتَّقِي وَجْهَهُ فَمَا

ظَنُّك بِمَا إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ضَرْبٌ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَتَّقِيَ الْوَجْهَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمُدَافَعَةِ قَدْ تَضْطَرُّهُ الْحَالُ إلَى الضَّرْبِ فِي وَجْهِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْهُ فَاَلَّذِي لَا يُدَافِعُهُ الْمَضْرُوبُ أَوْلَى بِأَنْ يُؤْمَرَ بِاجْتِنَابِ الْوَجْهِ .
( الرَّابِعَةُ ) : يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ضَرْبُ الْإِمَامِ أَوْ مَأْذُونِهِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ ، وَضَرْبُ الْإِنْسَانِ زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ عَبْدَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّأْدِيبِ ، وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ : بَابَ إذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ ، وَلَمْ يُرِدْ تَخْصِيصَ الْعَبْدِ بِذَلِكَ بَلْ الْعَبْدُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ فِي الْحَدِيثِ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بَيَانُ حُكْمِ الرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ { شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَغْلَتِهِ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ حُبْلَى فَقَالَتْ إنَّهَا قَدْ بَغَتْ فَارْجُمْهَا } : الْحَدِيثَ وَفِيهِ { ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ ارْمُوهَا وَإِيَّاكُمْ وَوَجْهَهَا } لَفْظُ النَّسَائِيّ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد { ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ } .
( الْخَامِسَةُ ) : ظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِاتِّقَاءِ الْوَجْهِ فِي ضَرْبِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يُفْصِحُوا عَنْ حُكْمِهِ وَصَرَّحَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ .
( السَّادِسَةُ ) : ظَاهِرُ قَوْلِهِ ( أَخَاهُ ) اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ خَرَجَ مُخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ وَرَدَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأَحَدٍ وَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يَعْنِي بِالْأُخُوَّةِ هُنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أُخُوَّةَ الْآدَمِيَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بَنُو آدَمَ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } أَيْ عَلَى صُورَةِ وَجْهِ

الْمَضْرُوبِ ، فَكَأَنَّ اللَّاطِمَ فِي وَجْهِ أَحَدِ وَلَدِ آدَمَ لَطَمَ وَجْهَ أَبِيهِ آدَمَ وَعَلَى هَذَا فَيَحْرُمُ لَطْمُ الْوَجْهِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَلَوْ أَرَادَ الْأُخُوَّةَ الدِّينِيَّةَ لَمَا كَانَ لِلتَّعْلِيلِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ مَعْنًى لَا يُقَالُ فَالْكَافِرُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ وَضَرْبِهِ فِي أَيِّ عُضْوٍ كَانَ إذْ الْمَقْصُودُ إتْلَافُهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ضَرْبَ الْوَجْهِ أَبْلَغُ فِي الِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يُمْنَعُ وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ إكْرَامُ وَجْهِ الْمُؤْمِنِ لِحُرْمَتِهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : مُسَلَّمٌ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِقَتْلِ الْكَافِرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ لَكِنْ إذَا تَمَكَّنَّا مِنْ اجْتِنَابِ وَجْهِهِ اجْتَنَبْنَاهُ لِشَرَفِ هَذَا الْعُضْوِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَزَّلَ هَذَا الْوَجْهَ مَنْزِلَةَ وَجْهِ أَبِينَا وَيَقْبُحُ لَطْمُ الرَّجُلِ وَجْهًا شَبَهَ وَجْهِ أَبِي اللَّاطِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلْوَجْهِ انْتَهَى .
( السَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } ظَاهِرٌ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ عَلَى صُورَةِ الْمَضْرُوبِ ؛ فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ بِإِكْرَامِهَا وَنَهَى عَنْ ضَرْبِهَا وَهَذِهِ الصِّيغَةُ دَالَّةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ارْتِبَاطٌ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يَضْرِبُ عَبْدَهُ فِي وَجْهِهِ لَطْمًا وَيَقُولُ قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَك فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } وَأَعَادَ بَعْضُهُمْ الضَّمِيرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَيَّدَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي لَفْظُهَا { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ } وَلَكِنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ لَيْسَتْ صَحِيحَةً قَالَ

الْمَازِرِيُّ : هَذَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَكَأَنَّ مَنْ نَقَلَهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَوَهَّمَهُ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ ا هـ .
وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَلِلسَّلَفِ فِيهَا مَذْهَبَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِهِمْ الْإِمْسَاكُ عَنْ تَأْوِيلِهَا وَالْإِيمَانُ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ ، وَلَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِهَا .
( وَالثَّانِي ) تَأْوِيلُهَا بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وَتَأْوِيلُهُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ إضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { نَاقَةَ اللَّهِ } وَكَمَا يُقَالُ فِي الْكَعْبَةِ " بَيْتُ اللَّهِ " وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الصُّورَةَ قَدْ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ كَمَا يُقَالُ صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا أَيْ صِفَتُهَا كَذَا فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ الَّذِي فُضِّلَ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَخَصَّهُ مِنْهُ بِمَا لَمْ يَخُصَّ بِهِ أَحَدًا مِنْ مَلَائِكَةِ الْأَرَضِينَ وَالسَّمَوَاتِ .

بَابُ لَا حَدَّ فِي النَّظَرِ وَالْمَنْطِقِ حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْفَرْجُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبٌ مِنْ الزِّنَى أَدْرَكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنُ زِنْيَتُهَا النَّظَرُ وَيُصَدِّقُهَا الْأَعْرَاضُ وَاللِّسَانُ زِنْيَتُهُ الْمَنْطِقُ ، وَالْقَلْبُ التَّمَنِّي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ مَا ثَمَّ وَيُكَذِّبُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ { الْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا : } وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ : } وَلِأَبِي دَاوُد { وَالْفَمُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْقُبَلُ : } .

بَابُ لَا حَدَّ فِي النَّظَرِ وَالْمَنْطِقِ حَتَّى يُصَدِّقَ الْفَرْجُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبٌ مِنْ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، فَالْعَيْنُ زِنْيَتُهَا النَّظَرُ وَيُصَدِّقُهَا الْأَعْرَاضُ وَاللِّسَانُ زِنْيَتُهُ الْمَنْطِقُ وَالْقَلْبُ التَّمَنِّي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ مَا ثَمَّ وَيُكَذِّبُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( فِيهِ ) : فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خَالِدٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ وَزَادَ فِيهِ { وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى } وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِيهِ { وَالْفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ الْقُبَلُ : } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، فَذَكَرَ نَحْوَ رِوَايَتِنَا بِدُونِ زِيَادَةِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمَةِ ( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ " كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبٌ مِنْ الزِّنَى أَيْ قُدِّرَ عَلَيْهِ نَصِيبٌ مِنْ الزِّنَى فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ النَّصِيبَ وَمُرْتَكِبٌ لَهُ بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمُقَدَّرَةَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ زِنَاهُ حَقِيقِيًّا بِإِدْخَالِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْحَرَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ زِنَاهُ مَجَازِيًّا إمَّا بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ وَإِمَّا بِمُحَادِثَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِمَّا بِالسَّمَاعِ إلَى حَدِيثِهَا بِشَهْوَةٍ وَإِمَّا بِلَمْسِهَا بِشَهْوَةٍ وَإِمَّا بِالْمَشْيِ إلَى الْفَاحِشَةِ وَإِمَّا بِالتَّقْبِيلِ الْمُحَرَّمِ وَإِمَّا بِالتَّمَنِّي بِالْقَلْبِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ مُقَدِّمَاتٌ لِلزِّنَا وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ

الزِّنَى مَجَازًا وَعَلَاقَةُ الْمَجَازِ فِيهَا لُزُومُ التَّقْيِيدِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي صَاحِبِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ إنَّهُ زَانٍ مُطْلَقًا بِلَا قَيْدٍ .
( الثَّالِثَةُ ) : وَفِيهِ رَدٌّ صَرِيحٌ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَبَيَانُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ أُنُفًا بَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَلَيْسَ تَقْدِيرُهَا حُجَّةً لِلْعَبْدِ بَلْ هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى كَسْبِهِ وَمُثَابٌ عَلَيْهِ .

( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ " أَدْرَكَ " أَيْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ وَوَاقَعَهُ وَقَوْلُهُ " { لَا مَحَالَةَ } بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ لَا بُدَّ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ أَيْقَنْت أَنِّي لَا مَحَا لَةِ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرٌ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ لَا حِيلَةَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَوْلِ الْقُوَّةِ أَوْ الْحَرَكَةِ وَهِيَ مِفْعَلَةٌ مِنْهُمَا وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ لَا مَحَالَةَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَالْحَقِيقَةِ أَوْ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ الْمَحَالَةُ الْحِيلَةُ ثُمَّ قَالَ وَقَوْلُهُمْ لَا مَحَالَةَ أَيْ لَا بُدَّ يُقَالُ الْمَوْتُ آتٍ لَا مَحَالَةَ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْحَوْلُ وَالْحَيْلُ وَالْحَوْلُ وَالْحِيلَةُ وَالْحَوِيلُ وَالْمَحَالَةُ وَالِاحْتِيَالُ وَالتَّحَوُّلُ وَالتَّحَيُّلُ كُلُّ ذَلِكَ الْحِذْقُ وَجَوْدَةُ النَّظَرِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى دِقَّةِ التَّصَرُّفِ ثُمَّ قَالَ : وَلَا مَحَالَةَ مِنْ ذَلِكَ أَيْ لَا بُدَّ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ : قَوْلُهُ " لَا مَحَالَةَ وَلَا حَوْلَ " الْحَوْلُ الْحَرَكَةُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْمَحَالَةُ وَالْحَوْلُ الْحِيلَةُ .

( الْخَامِسَةُ ) : قَوْلُهُ { فَالْعَيْنُ زِنْيَتُهَا النَّظَرُ } بِكَسْرِ الزَّايِ وَإِسْكَانِ النُّونِ أَيْ هَيْئَةُ زِنَاهَا لِلسَّبَبِ كَهَيْئَةِ الزِّنَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ وَإِنَّمَا هَيْئَتُهُ النَّظَرُ ، وَالْفِعْلَةُ بِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَةِ وَلَوْ رُوِيَ زَنْيَتُهَا بِالْفَتْحِ عَلَى الْمَرَّةِ لَصَحَّ وَلَكِنَّ الْكَسْرَ عَلَى الْهَيْئَةِ أَظْهَرُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ .
قَوْلُهُ ( وَيُصَدِّقُهَا الْأَعْرَاضُ ) الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ يُصَدِّقُ الْعَيْنَ الْأَعْرَاضُ أَيْ يَجْعَلُهَا ذَاتَ صِدْقٍ فَإِذَا أَعْرَضَتْ بَعْدَ نَظَرِهَا وَغَضَّتْ عَنْهُ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ فَهِيَ ذَاتُ صِدْقٍ مَاشِيَةٌ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَتِلْكَ النَّظْرَةُ الْأُولَى إنْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا إثْمَ بِهَا وَهِيَ نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ فَقَدْ تَابَتْ وَرَجَعَتْ عَنْهَا وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي النَّظَرُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بَلْ يَنْبَغِي الْكَفُّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي : } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ { يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ : } وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَرْنَاهُ أَنَّ مَعْنَى التَّصْدِيقِ هُنَا غَيْرُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ { وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ مَا ثَمَّ وَيُكَذِّبُ } فَإِنَّ مَعْنَى التَّصْدِيقِ هُنَاكَ تَحْقِيقٌ لِلزِّنَى بِالْفَرْجِ وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ أَنْ لَا يُحَقِّقُهُ بِالْإِيلَاجِ فَصَارَتْ تِلْكَ النَّظْرَةُ كَأَنَّهَا كَاذِبَةٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا مَقْصُودُهَا فَالتَّصْدِيقُ هُنَا مَحْمُودٌ وَالتَّصْدِيقُ هُنَاكَ مَذْمُومٌ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِلْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْأُولَى .

( السَّابِعَةُ ) : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيم تَمَنِّي الزِّنَا بِالْقَلْبِ وَيُعَارِضُهُ مَا صَحَّ وَثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْخَوَاطِرَ وَالْوَسَاوِسَ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَلَا مُؤَاخَذَةَ بِهَا فَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى ذَلِكَ وَالْجَزْمِ بِهِ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ الْمُسْتَقَرِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ .
فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ : } أَوْ يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَمَّنِي حِلِّ الزِّنَا فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ بَلْ حَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ الْحَنَفِيَّةِ الْكُفْرَ بِذَلِكَ لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ إذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّةً .

( الثَّامِنَةِ ) : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ { وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ : } عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا الْمُرَادُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى حَدِيثِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ .

( التَّاسِعَةُ ) : قَوْلُهُ ( وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ ) : لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ بَطْشٍ مُحَرَّمٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ زِنًى إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَالْيَدُ زِنَاهًا اللَّمْسُ : } فَالْمُرَادُ بَطْشٌ مَخْصُوصٌ وَقَوْلُهُ فِي { الْفَمُ زِنَاهٌ الْقُبَلُ : } جَمْعُ قُبْلَةٍ .

( الْعَاشِرَةُ ) : فِيهِ أَنَّ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ وَإِنْ سُمِّيَ زِنًى مَجَازًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنَا مِنْ إيجَابِ حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي الزِّنَا الْحَقِيقِيِّ بَلْ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إذَا لَمْ يَقَعْ مُرْتَكِبُهُ فِي الْكَبَائِرِ عَفْوًا وَكَرْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } : فَجَعَلَ الصَّغَائِرَ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } : وَهُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ مَا يَلُمُّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ النَّظَرَ وَالنُّطْقَ وَشَبَهَهُمَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَكَمَا أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا إذَا صَدَرَتْ مِنْ وَلِيِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحُكَّامِ تَعْزِيرُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الصَّغِيرَةِ بَلْ تُقَالُ عَثْرَتُهُ وَتُسْتَرُ زَلَّتُهُ قَالَ وَقَدْ جَهِلَ أَكْثَرُ النَّاسِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَسْقُطُ بِالصَّغِيرَةِ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ زَنَتْ يَدُك كَانَ قَذْفًا كَمَا يَقُولُ زَنَى فَرْجُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا قَذْفًا وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا .
تَقُولُ زَنَتْ عَيْنُك وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا جَعَلَهُ قَذْفًا ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ مِنْ فَاعِلِيهَا تُضَافُ إلَى الْأَيْدِي كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَقَوْلِهِ { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } : وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُورٍ عَلَى جِنَايَةِ الْأَيْدِي دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ فَكَأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْيَدَ زَانِيَةً صَارَ الزِّنَا وَصْفًا لِلذَّاتِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ قَذْفًا انْتَهَى .
وَهُوَ نَقْلٌ غَرِيبٌ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ الْجَزْمُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قَذْفًا ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نِسْبَةِ الزِّنَا لِلْيَدِ وَالْعَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِي قَوْلِهِ { وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ : } اسْتِدْلَالٌ لِمَنْ جَعَلَ الْمَلُوطَ زَانِيًا يُحَدُّ أَوْ يُرْجَمُ كَسَائِرِ الزُّنَاةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ وَاقَعَ الْفَرْجَ بِفَرْجِهِ وَهُوَ صُورَةُ الزِّنَا حَقِيقَةً .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ ( يُصَدِّقُ مَا ثَمَّ ) : بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ مَا هُنَاكَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا أَتَى بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ لِاسْتِقْذَارِ الْفَوَاحِشِ وَتَبْعِيدِهَا عَنْ النَّفْسِ وَلَا يَنْبَغِي التَّعْبِيرُ عَنْهَا إلَّا بِمَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْبَعِيدِ حِسًّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } وَفِي رِوَايَةٍ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ { قِيمَتُهُ : } .

بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) : عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ : } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ { قِيمَتُهُ } وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَأَيُّوبَ بْنِ مُوسَى وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْبُخَارِيُّ فَقَطْ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ وَمُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كُلُّهُمْ وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلَّا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ هَكَذَا رَوَاهُ عَنْهُ الثِّقَاتُ الْأَئِمَّةُ فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ إلَّا أُسَامَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَزَادَ إسْمَاعِيلَ بْنَ عُلَيَّةَ وَحَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ وَلَا يُخْتَلَفُ فِي اللَّفْظِ قَالَ { ثَمَنُهُ : } وَرَوَاهُ بَعْضُ الثِّقَاتِ أَيْضًا عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ { قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ : } انْتَهَى .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا بِلَفْظِ خَمْسَةٍ رَوَاهَا النَّسَائِيّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ .
( الثَّانِيَةُ ) : فِيهِ وُجُوبُ قَطْعِ السَّارِقِ فِي

الْجُمْلَةِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ، وَشَرَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْأَمْوَالِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي غَيْرِ السَّرِقَةِ كَالِاخْتِلَاسِ وَالِانْتِهَابِ وَالْغَصْبِ ، وَسَبَبُهُ : كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّرِقَةِ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بِالِاسْتِعْدَاءِ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَتَتَيَسَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ تَعْسُرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فَعَظُمَ أَمْرُهَا وَاشْتَدَّتْ عُقُوبَتُهَا لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا وَقَدْ عَسِرَ عَلَى بَعْضِهِمْ فَهْمُ هَذَا الْمَعْنَى وَرَأَى أَنَّ إثْبَاتَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الْغَصْبِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَقَالَ إنَّ الْغَصْبَ أَكْثَرُ هَتْكًا لِلْحُرْمَةِ مِنْ السَّرِقَةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُ فِي إنْكَارِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي الْأُصُولِ .

( الثَّالِثَةُ ) : فِي تَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ السَّرِقَةِ إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي الْمَسْرُوقِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النِّصَابُ بَلْ يُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } : مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } .
وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْ الذَّهَبِ فَلَا يُقْطَعُ إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ { لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } .
وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهُمَا ) : وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ ذَهَبًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَجَعَلَ الذَّهَبَ هُوَ الْأَصْلَ اعْتِمَادًا عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِنَّهُ تَحْدِيدٌ مِنْ الشَّارِعِ بِالْقَوْلِ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَقَوَّمَ مَا عَدَاهُ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ فِضَّةً وَقَالَ إنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ رُبُعَ الدِّينَارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ صَرْفَ الدِّينَارِ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الدِّيَةُ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا بِالنَّقْدِ أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا الِاعْتِبَارُ بِالذَّهَبِ الْمَضْرُوبِ فَبِهِ

يَقَعُ التَّقْوِيمُ حَتَّى لَوْ سَرَقَ شَيْئًا يُسَاوِي رُبُعَ مِثْقَالٍ مِنْ غَيْرِ الْمَضْرُوبِ كَالسَّبِيكَةِ وَالْحُلِيِّ وَلَا يَبْلُغُ رُبُعًا مَضْرُوبًا فَلَا قَطَعَ وَمَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى هَذَا فَقَالَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ فِي الذَّهَبِ لَا فِي الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي جَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ قَالَ النَّوَوِيُّ وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ دَاوُد .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَصَحُّ وَأَنَّ أَصْلَ النَّقْدِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الدَّنَانِيرُ فَجَازَ أَنْ تُقَوَّمَ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَوَّمَ الدَّنَانِيرُ بِالدَّرَاهِمِ وَلِهَذَا كُتِبَ فِي السُّكُوكِ قَدِيمًا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَعُرِفَتْ الدَّرَاهِمُ بِالدَّنَانِيرِ وَحُصِرَتْ بِهَا وَالدَّنَانِيرُ لَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافَ الدَّرَاهِمِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَطَعَ سَارِقًا فِي أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلذَّهَبِ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا فَالنِّصَابُ رُبُعُ دِينَارٍ وَإِنْ كَانَ فِضَّةً فَالنِّصَابُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ بِهِ ، وَإِنْ لَا فَلَا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَوَّمَ غَيْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا أَصْلٌ فِي التَّقْوِيمِ وَأَجَابَ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَقْوِيمِ الشَّيْءِ التَّافِهِ بِالدَّرَاهِمِ

وَإِنَّمَا تُقَوَّمُ الْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ بِالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّهَا أَنْفَسُ النُّقُودِ وَأَكْرَمُ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ فَتَكُونُ الدَّرَاهِمُ الثَّلَاثَةُ رُبُعَ دِينَارٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) : كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ غَيْرَهُمَا يُقْطَعُ بِهِ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ أَحَدَهُمَا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ إِسْحَاقَ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) : كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِي غَيْرِهِمَا بِبُلُوغِ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا إلَّا إذَا كَانَا غَالِبَيْنِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) : كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي غَيْرِهِمَا أَنْ يَبْلُغَ مَا يُبَاعُ بِهِ مِنْهُمَا غَالِبًا .
( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) : أَنَّ النِّصَابَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَيُقَوَّمُ مَا عَدَاهَا بِهَا وَلَوْ كَانَ ذَهَبًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ عَكْسُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا .
( الْقَوْلُ السَّابِعُ ) : أَنَّ النِّصَابَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ قَالَ لَا تُقْطَعُ الْخَمْسُ إلَّا فِي خَمْسٍ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إذَا قَطَعْنَا الْخَمْسَ بِخَمْسٍ فَبِأَيٍّ نَقْطَعُ الْكَفَّ الزَّائِدَةَ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُمَا قَالَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ .
( الْقَوْلُ الثَّامِنُ ) : أَنَّ النِّصَابَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ مَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ .
( الْقَوْلُ التَّاسِعُ ) : أَنَّهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ .
( الْعَاشِرُ ) : أَنَّهُ دِرْهَمٌ حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ( الْحَادِيَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ دِرْهَمَانِ حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ

الْبَصْرِيِّ .
( الثَّانِي عَشَرَ ) : أَنَّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ .
( الثَّالِثَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ ذَهَبًا فَنِصَابُهُ رُبُعُ دِينَارٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَيُقْطَعُ فِي كُلِّ مَا لَهُ قِيمَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَحَكَاهُ هُوَ عَنْ طَائِفَةٍ .
الرَّابِعَ عَشَرَ ) : أَنَّ النِّصَابَ ثُلُثُ دِينَارٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ .
( الْخَامِسَ عَشَرَ ) أَنَّهُ دِينَارٌ أَوْ مَا يُسَاوِيه .
( السَّادِسَ عَشَرَ ) : أَنَّهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يُسَاوِي أَحَدَهُمَا حَكَى ابْنُ حَزْمٍ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ عَنْ طَائِفَةٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهُ قَالَ لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ إنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ لَا نَدْرِي مَنْ رَوَاهُ ؛ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ : } وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ الْأَخِيرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ ثَمَانِيَةَ مَذَاهِبَ مِنْ هَذِهِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِبَيَانِ النِّصَابِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ لَفْظِهِ وَأَنَّهُ رُبُعُ دِينَارٍ .
وَأَمَّا بَاقِي التَّقْدِيرَاتِ فَمَرْدُودَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِصَرِيحِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ صَرِيحِ لَفْظِهِ فِي تَحْدِيدِ

النِّصَابِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُحْتَمَلَةِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مُوَافَقَةِ لَفْظِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى { لَمْ يَقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فِي أَقَلَّ مِنْ مِجَنٍّ : } مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُبُعَ دِينَارٍ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيُوَافِقَ صَرِيحَ تَقْدِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةٍ جَاءَتْ { قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ : } وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةٌ فَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُعْمَلُ بِهَا لَوْ انْفَرَدَتْ فَكَيْفَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي التَّقْدِيرِ بِرُبُعِ دِينَارٍ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهُ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ اتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ النِّصَابِ بِذَلِكَ وَأَمَّا رِوَايَةُ { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ أَوْ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ : } فَقَالَ جَمَاعَةٌ الْمُرَادُ بِهَا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَأَنْكَرَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا وَضَعَّفُوهُ وَقَالُوا بَيْضَةُ الْحَدِيدِ وَحَبْلُ السَّفِينَةِ لَهُمَا قِيمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَيْسَ هَذَا السِّبَاقُ مَوْضِعُ اسْتِعْمَالِهَا بَلْ بَلَاغَةُ الْكَلَامِ تَأْبَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُذَمُّ فِي الْعَادَةِ مَنْ خَاطَرَ بِيَدِهِ فِي شَيْءٍ .
لَهُ قَدْرٌ وَإِنَّمَا يُذَمُّ مَنْ خَاطَرَ بِهَا فِيمَا لَا قَدْرَ لَهُ فَهُوَ مَوْضِعُ تَقْلِيلٍ لَا تَكْثِيرٍ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ مَا خَسِرَ وَهِيَ يَدُهُ فِي مُقَابَلَةِ حَقِيرٍ مِنْ الْمَالِ وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ فَإِنَّهُ يُشَارِكُ الْبَيْضَةَ وَالْحَبْلَ فِي الْحَقَارَةِ أَوْ أَرَادَ جِنْسَ الْبَيْضِ وَجِنْسَ الْحِبَالِ أَوْ أَنَّهُ إذَا سَرَقَ الْبَيْضَةَ فَلَمْ يُقْطَعْ ، جَرَّهُ إلَى سَرِقَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا فَقُطِعَ ، وَكَانَتْ سَرِقَةُ الْبَيْضَةِ هِيَ سَبَبُ قَطْعِهِ أَوْ أَنَّ

الْمُرَادَ بِهِ قَدْ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ أَوْ الْحَبْلَ فَيَقْطَعُهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ سِيَاسَةً لَا قَطْعًا جَائِزًا شَرْعًا وَقِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانِ نِصَابٍ فَقَالَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ الِاسْتِدْلَال بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ حِكَايَةُ فِعْلٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ فِعْلًا عَدَمُ الْقَطْعُ فِيمَا دُونَهُ وَاعْتِمَادُ الشَّافِعِيِّ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ قَوْلٌ وَهُوَ أَقْوَى فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْفِعْلِ وَهُوَ قَوِيٌّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي صَرِيحُهُ الْقَطْعَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يَقُولُونَ بِجَوَازِ الْقَطْعِ بِهِ .
وَأَمَّا دَلَالَته عَلَى الظَّاهِرِيَّةِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ النُّطْقُ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ وَمَرْتَبَتُهُ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ الْفِعْلِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إنَّ التَّقْوِيمَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ تَخْمِينِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ عِنْدَ عَائِشَةَ رُبُعَ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَيَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهَا أَكْثَرَ وَضَعَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَشَنَّعَهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ لِتُخْبِرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ مَا يُقْطَعُ فِيهِ إلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ لِعِظَمِ أَمْرِ الْقَطْعِ .
( الرَّابِعَةُ ) : فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَفِي بَعْضِهَا قِيمَتُهُ وَهِيَ أَصَحُّ مَعْنًى قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَالْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ يَخْتَلِفَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَلَعَلَّهُ لِتَسَاوِيهِمَا عِنْدَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي ظَنِّ الرَّاوِي أَوْ بِاعْتِبَارِ الظِّنَّةِ وَإِلَّا فَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ وَالثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهُ فِيهِ مَالِكُهُ لَمْ

يُعْتَبَرْ إلَّا الْقِيمَةُ .
( الْخَامِسَةُ ) : ( الْمِجَنُّ ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ التُّرْسُ مَفْعَلُ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ وَالِاخْتِفَاءُ وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ وَمِنْهُ الْمِجَنُّ وَكُسِرَتْ مِيمُهُ ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الِاجْتِنَانِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَتِرُ بِهِ عَمَّا يُحَاذِرُهُ قَالَ الشَّاعِرُ فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْت أَتَّقِي ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَتْ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ أُسَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أُسَامَةُ لَا أَرَاك تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ } لَفْظُ مُسْلِمٍ إلَى قَوْلِهِ { فِيهَا : } ثُمَّ أَحَالَ بَقِيَّتَهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّيْثِ وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهَا بِلَفْظِ { إنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ أَمْرَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَائِشَةَ { إلَّا فِي رَفْعِ حَاجَتِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ الَّتِي سَرَقَتْ عَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ : } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَتْ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ أُسَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَرَاك تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَقَالَ : إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ؛ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ ؛ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا ، فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى وَالنَّسَائِيُّ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ وَشُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَيُونُسَ { أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنَ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَمَنْ يَجْرُؤُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ { الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ، وَفِيهَا فَقَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَفِيهَا فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ

تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } .
( الثَّانِيَةُ ) : هَذِهِ الْمَخْزُومِيَّةُ اسْمُهَا فَاطِمَةُ وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ فِي مُبْهَمَاتِهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي مُبْهَمَاتِهِ : هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بِنْتِ أَخِي أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَقَالَ ابْنُ بَشْكُوَالَ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي الْأَسَدِ بِنْتِ أَخِي أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ وَقِيلَ هِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ .
( الثَّالِثَةُ ) : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَعَارَ قَدْرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَجَحَدَهُ ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ قُطِعَ بِهِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ سَأَلْت أَبِي فَقُلْت لَهُ تَذْهَبُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ .
بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِجَمَاهِيرِ الرُّوَاةِ وَالشَّاذَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ مَنْ رَوَى أَنَّهَا سَرَقَتْ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْحَدُ الْمَتَاعَ وَانْفَرَدَ مَعْمَرٌ بِذِكْرِ الْجَحْدِ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِحِفْظِهِ كَابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ وَنَمَطُهُ هَذَا قَوْلُ الْمُحَدِّثِينَ .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى

الزُّهْرِيِّ فَقَالَ اللَّيْثُ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ أَنَّهَا { سَرَقَتْ } وَقَالَ مَعْمَرٌ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ أَنَّهَا { اسْتَعَارَتْ وَجَحَدَتْ } وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهَا { سَرَقَتْ } وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْهُ فَقَالَ فِيهِ { أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَهُ قَالُوا مَا كُنَّا نُرِيدُ نَبْلُغُ مِنْهُ هَذَا قَالَ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتهَا } رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ { كَانَتْ مَخْزُومِيَّةً تَسْتَعِيرُ مَتَاعًا وَتَجْحَدُهُ } الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ قِيلَ لِسُفْيَانَ مَنْ ذَكَرَهُ قَالَ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَدْ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ وَابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ إنَّمَا وَجَدَهُ فِي كِتَابِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى كَمَا بَيَّنَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ ذَهَبْت أَسْأَلُ الزُّهْرِيَّ عَنْ حَدِيثِ الْمَخْزُومِيَّةِ فَصَاحَ عَلَيَّ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فَقُلْت لِسُفْيَانَ فَلَمْ يَحْفَظْهُ عَنْ أَحَدٍ قَالَ وَجَدْته فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَإِنْ كَانَ مَقْبُولَ التَّدْلِيسِ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَزَّارُ وَالْأَسَدِيُّ فَإِنَّهُ اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ كِتَابٍ انْتَهَى .
وَعَكَسَ ابْنُ حَزْمٍ ذَلِكَ فَقَالَ لَمْ يَضْطَرِبْ عَلَى مَعْمَرٍ وَلَا عَلَى شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ مِنْ ذَلِكَ وَهُمَا فِي غَايَةِ الثِّقَةِ وَالْجَلَالَةِ وَإِنْ خَالَفَهُمَا اللَّيْثُ وَيُونُسُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ

رَاشِدٍ فَإِنَّ اللَّيْثَ وَيُونُسَ قَدْ اُضْطُرِبَ عَلَيْهِمَا أَيْضًا وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فَوْقَ مَعْمَرٍ وَشُعَيْبٍ فِي الْحِفْظِ وَقَدْ وَافَقَهُمَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ انْتَهَى .
( الْجَوَابُ الثَّانِي ) : أَنَّ قَطْعَهُمَا إنَّمَا كَانَ بِالسَّرِقَةِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْعَارِيَّةُ تَعْرِيفًا لَهَا وَوَصْفًا لَا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْقَطْعِ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ .
الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّوَوِيِّ عَنْ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ قَالَ : قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ السَّرِقَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا عِنْدَ الرَّاوِي ذِكْرُ مَنْعِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ لَا الْإِخْبَارِ عَنْ السَّرِقَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَقَدْ رَوَى مَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْخَبَرَ وَقَالَ { سَرَقَتْ قَطِيفَةً مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ { لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَنَا ذَلِكَ وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَجِئْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُكَلِّمُهُ وَقُلْنَا نَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْهُرُ خَيْرٌ لَهَا ، فَلَمَّا سَمِعْنَا لِينَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيْنَا أُسَامَةَ فَقُلْنَا كَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ مَا إكْثَارُكُمْ عَلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَقَعَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَاءِ اللَّهِ وَاَلَّذِي

نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ نَزَلَتْ بِاَلَّذِي نَزَلَتْ بِهِ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا } وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لَيْسَ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَا قَضِيَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ أَنَّهُ سَارِقٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِصَّةً أُخْرَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ وَاحِدَةً وَأَنَّ الْمُرَادَ الشَّخْصُ السَّارِقُ وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ الشَّافِعِ لَهَا أُسَامَةَ أَوْ أَنَّهَا عَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ أَوْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ ، وَيُرَدُّ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ أَنَّ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُمْكِنُهُ الشَّفَاعَةُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَالَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ شَفَعَ فِي السَّرِقَةِ فَنَهَى ثُمَّ شَفَعَ فِي الْمُسْتَعِيرَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ حَدَّ ذَلِكَ أَيْضًا الْقَطْعُ .
( الْجَوَابُ الثَّالِثُ ) : أَنَّ نَفْسَ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَا أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ قَالَ { لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعْت } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ قُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ إذَا لَوْ كَانَ قَطَعَهَا لِأَجْلِ جَحْدِ الْمَتَاعِ لَكَانَ ذِكْرُ السَّرِقَةِ هُنَا .
لَاغِيًا لَا فَائِدَةَ لَهُ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ جَحَدَتْ الْمَتَاعَ لَقَطَعْت يَدَهَا .
( الرَّابِعُ ) : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى سَرَقَتْ وَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى جَحَدَتْ إذْ يُمْكِنُ أَنَّ الْمَرْأَةَ فَعَلَتْ الْأَمْرَيْنِ لَكِنْ قُطِعَتْ فِي السَّرِقَةِ لَا

فِي الْجَحْدِ كَمَا شَهِدَ بِهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ .
( قُلْت ) الْكَلَامُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ وَتَرْتِيبِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْقَطْعُ عَلَى السَّرِقَةِ وَفِي الْأُخْرَى عَلَى الْجَحْدِ وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ فَكَانَتْ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْقَطْعِ السَّرِقَةُ وَالْأُخْرَى عَلَى أَنَّ عِلَّتَهُ جَحْدُ الْمَتَاعِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ أَوْلَى .
( الْخَامِسُ ) : أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُرَتِّبَةُ لِلْقَطْعِ عَلَى الْجَحْدِ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالتَّمَسُّكِ بِهِ مِنْهَا لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ : } لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْم وَضَعَّفَهُ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّدْلِيسِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ، أَمَّا كَوْنُ ابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَقَدْ قَالَهُ قَبْلَهُ أَبُو دَاوُد قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا سَمِعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيق عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا يَاسِينُ الزَّيَّاتُ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ : إنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إنَّمَا سَمِعَ مِنْ يَاسِينَ وَيَاسِينُ الزَّيَّاتُ ضَعِيفٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ لَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا أَنَّ النَّسَائِيَّ رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ فَصَرَّحَ فِيهِ بِالِاتِّصَالِ لَكِنْ

قَالَ النَّسَائِيُّ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى وَابْنُ وُهَيْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ وَسَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ وَلَا أَحْسَبُهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ انْتَهَى .
فَإِنَّ تَرَجَّحَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ لَيْسَ .
بِالْقَوِيِّ مَرْدُودٌ فَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَدْ تَابَعَ أَبَا الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَهُ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ فِي الِاتِّصَالِ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ فَظَهَرَ بِمَا قَرَرْنَاهُ قُوَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَصَلَاحِيَتُهُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ ثُمَّ إنَّنَا نَقِيسُ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحْمَدَ يَجْزِمُ بِعَدَمِ الْقَطْعِ عَلَى الْخَائِنِ فِي الْعَارِيَّةِ بِغَيْرِ الْجَحْدِ وَعَلَى الْخَائِنِ فِي الْوَدِيعَةِ وَعَلَى الْمُنْتَهِبِ وَالْمُخْتَلِسِ وَالْغَاصِبِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْقَطْعِ فِي الْجَحْدِ مُطْلَقًا .
( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ { فَكَلَّمَ أُسَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا : } قَدْ يُنَافِيه قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ { إنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ لَقَطَعْت يَدَهَا

فَقُطِعَتْ : } وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا { عَاذَتْ بِزَيْنَبِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَلَا امْتِنَاعَ أَنَّهَا عَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ وَبِزَيْنَبِ وَأَنَّهُ شَفَعَ لَهَا أُسَامَةُ لَكِنْ ذِكْرُ اسْتِعَاذَتِهَا بِزَيْنَبِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَتْ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { أَنْ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ : } وَغَزْوَةُ الْفَتْحِ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَى هَذَا لَعَلَّهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِزَيْنَبِ رَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصَحَّفَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ هَذِهِ كَانَتْ قَرِيبَتَهَا وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ { أَنَّهَا عَاذَتْ بِزَيْنَبِ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } هَكَذَا رَوَاهُ بِالرَّاءِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُكَرَّرَةِ بَيْنهمَا يَاءٌ آخِرُ الْحُرُوفِ زَادَ أَحْمَدُ .
قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ { كَانَ رَبِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فَعَاذَ بِأَحَدِهِمَا } وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ { كَانَ رَبِيبَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَإِنَّمَا عَاذَتْ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ بِأَحَدِهِمَا : } انْتَهَى .
وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { فَجَاءَهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ إنَّهَا عَمَّتِي فَقَالَ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ } الْحَدِيثَ .

( الْخَامِسَةُ ) : فِيهِ تَحْرِيمُ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ { أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ : } وَقَدْ وَرَدَ التَّشْدِيدُ فِي ذَلِكَ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ : } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِلَفْظِ { فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ : } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي مُلْكِهِ : } .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي قِصَّةِ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ { اشْفَعُوا مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْوَالِي فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْوَالِي فَعَفَا فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ } وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ { لَقِيَ الزُّبَيْرُ سَارِقًا فَشَفَعَ فِيهِ فَقِيلَ لَهُ حَتَّى نُبَلِّغَهُ الْإِمَامَ فَقَالَ إذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ : } وَبِالتَّحْرِيمِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ كَذَا قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَاَلَّذِي حَكَاه غَيْرُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ كَذَا حَكَاه عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ الْحَقُّ لِلْإِمَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ { الْمَرْأَةَ سَرَقَتْ قَطِيفَةً مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ

يُقَالَ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْقَطِيفَةُ الَّتِي فِي بَيْتِهِ مِلْكًا لَهُ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ فَرَأَى إقَامَتَهُ مَصْلَحَةً ؛ لِئَلَّا يَسْتَنِدَ إلَى تَرْكِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ بَيْتِهِ لِكَوْنِ الْحَقِّ لَهُ انْتَهَى .
وَنَفَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ وَهَذَا أَيْ التَّحْرِيمُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ إجْمَاعَ .
الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّحْرِيمِ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ فَقَدْ أَجَازَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَا جَاءَ فِي السَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ أَذَى النَّاسِ فَأَمَّا مَنْ عُرِفَ مِنْهُ شَرٌّ وَفَسَادٌ فَلَا أُحِبُّ أَنْ تَقَعَ فِيهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ وَلَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْزِيرُ فَجَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بَلَغَ الْإِمَامَ أَمْ لَا ، وَالشَّفَاعَةُ فِيهِ مُسْتَحَبَّةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْفُوعُ صَاحِبَ أَذًى وَنَحْوِهِ .

( السَّادِسَةُ ) : قَوْلُهُ { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ : } مُخَالِفٌ بِظَاهِرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { إنَّمَا أَهْلَك مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الشُّحُّ : } وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ اتَّخَذَ نِسَاؤُهُمْ مِثْلَ هَذَا يَعْنِي وَصْلَ الشَّعْرِ : } وَأَحَادِيثُ أُخَرُ وَالْجَمْعُ بَيْنهمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا أُمَمٌ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ فَبَعْضُ الْأُمَمِ كَانَ هَلَاكُهَا بِتَرْكِ تَعْمِيمِ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَبَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَالِاخْتِلَافِ وَبَعْضُهُمْ بِالشُّحِّ فَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَحَادِيثِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَصْرٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ بِسَبَبِ الْمُحَابَاةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى .

( السَّابِعَةُ ) : فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ إذَا كَانَ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِأَمْرٍ مَطْلُوبٍ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنَظَائِرِهِ .

( الثَّامِنَةُ ) : قَوْلُهُ { لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ : } إلَى آخِرِهِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُحَابَاةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ فَرَضْت فِي أَبْعَدِ النَّاسِ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهَا وَقَدْ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ أَعَاذَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ أَيْ حَفِظَهَا مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ وَحَمَاهَا مِنْهُ إذْ هِيَ بِضْعَةٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ سَمِعْنَا أَشْيَاخَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُونَ أَعَاذَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَبَلَغَنَا عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ هَذَا اللَّفْظَ إعْظَامًا لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَإِجْلَالًا لَمَحِلِّهَا وَإِنَّمَا قَالَ فَذَكَرَ عُضْوًا شَرِيفًا مِنْ امْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ وَمَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَنْزَهَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دُونَ غَيْرهَا ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ نِسَاءِ .
زَمَانِهَا فَهِيَ عَائِشَةُ فِي النِّسَاءِ لَا شَيْءَ بَعْدَهَا فَلَا يَحْصُلُ تَأْكِيدُ الْمُبَالَغَةِ إلَّا بِذِكْرِهَا وَانْضَمَّ إلَى هَذَا أَنَّهَا عُضْوٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْمِلْهُ ذَلِكَ عَلَى مُحَابَاتِهَا فِي الْحَقِّ وَفِيهَا شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا مُشَارِكَةٌ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فِي الِاسْمِ فَيَنْتَقِلُ اللَّفْظُ وَالذِّهْنُ مِنْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَإِنْ تَبَايَنَ مَا بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ .
( التَّاسِعَةُ ) : وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ بِقَيْدِ الْقَطْعِ بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ وَهُوَ وُجُوبُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ الْحَبِيبِ وَالْبَغِيضِ ، لَا يَنْفَعُ فِي دَرْئِهِ شَفَاعَةٌ وَلَا تَحُولُ دُونَهُ قَرَابَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ هَذَا

الْمَخْرَجَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الْقَوْلِ بِأَمْرٍ آخَرَ وَلَا يَمْتَنِعُ وَقَدْ شَدَّدَ جَمَاعَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا وَمَرَاتِبُهُ فِي الْقُبْحِ مُخْتَلِفَةٌ .

( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَزُولُ عَنْ السَّارِقِ بِأَنْ يُوهَبَ لَهُ الْمَتَاعُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْقِطًا عَنْهُ الْحَدَّ لَأَشْبَهَ أَنْ يَطْلُبَ أُسَامَةُ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنْ يَهَبَهُ لَهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْوَدُ عَلَيْهَا مِنْ الشَّفَاعَةِ .

بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ مَعَ الْقَرِينَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ بِحِمْصَ فَقَالَ رَجُلٌ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَدَنَا مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فَوَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتُكَذِّبُ بِالْحَقِّ وَتَشْرَبُ الرِّجْسَ ؟ ، لَا أَدَعُكَ حَتَّى أَجْلِدَك حَدًّا فَضَرَبَهُ الْحَدَّ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَهَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .

بَابُ حَدِّ الْخَمْرِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ مَعَ الْقَرِينَةِ .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ بِحِمْصَ فَقَالَ الرَّجُلُ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَدَنَا مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فَوَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتُكَذِّبُ بِالْحَقِّ وَتَشْرَبُ الرِّجْسَ لَا أَدَعُكَ حَتَّى أَجْلِدَك حَدًّا قَالَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَهَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ .
طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ إسْنَادٌ كُوفِيٌّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَابِعِيُّونَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ الْأَعْمَشُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَعَلْقَمَةُ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِلْإِمَامِ عُمُومًا أَوْ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ أَوْ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ أَوْ اسْتَأْذَنَ مِمَّنْ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ فَفَوَّضَهُ إلَيْهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ لَهُ مَنْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَامَ عَنْ الْإِمَامِ بِوَاجِبٍ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ وَلِي الْقَضَاءَ زَمَنَ عُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ( قُلْت ) : إنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِحِمْصَ وَأَيْنَ حِمْصُ مِنْ الْكُوفَةِ ، .
( الثَّالِثَةُ ) : وَفِيهِ مِنْ فِعْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إقَامَةُ حَدِّ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَكَافَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ا هـ .
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إذَا لَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ

الْحَدُّ بِذَلِكَ وَحَمَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ اعْتَرَفَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ بِلَا عُذْرٍ ، وَمُجَرَّدُ الرِّيحِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالْإِكْرَاهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ ( أَتُكَذِّبُ بِالْحَقِّ ) : وَفِي رِوَايَةِ ( بِالْكِتَابِ ) : مَعْنَاهُ تُنْكِرُ بَعْضَهُ جَاهِلًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ التَّكْذِيبُ الْحَقِيقِيُّ فَإِنَّهُ لَوْ كَذَّبَ حَقِيقَةً لَكَفَرَ وَصَارَ مُرْتَدًّا يَجِبُ قَتْلُهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا كَذَّبَ عَبْدَ اللَّهِ لَا الْقُرْآنَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ ( مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ ) : جَهَالَةً مِنْهُ وَقِلَّةَ حِفْظٍ أَوْ قِلَّةَ تَثَبُّتٍ لِأَجْلِ السُّكْرِ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ : } .

بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا .
ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدٌ : .
( الْأُولَى ) : اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ : } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُسْلِمٍ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِلَفْظِ { إلَّا أَنْ يَتُوبَ } أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَرْفَعْهُ .
( قُلْت ) : وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فَإِنَّهَا فِي الْمُوَطَّإِ مَرْفُوعَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ قِيلَ لِمَالِكٍ رَفَعَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَكَأَنَّ التِّرْمِذِيَّ إنَّمَا أَرَادَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى الَّتِي فِي رِوَايَتِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ : } فَهَذِهِ رَوَاهَا مَالِكٌ مَوْقُوفَةً عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَكَذَا رَوَاهَا النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِهِ وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَالِكٍ وَرُوِيَ رَفْعُهَا عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ ؛ لِأَنَّ شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَمْرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا غَوْلَ فِيهِ وَلَا نَزْفَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى حِرْمَانِ دُخُولِ

الْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ فَمَنْ حُرِمَ الْخَمْرَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ دُخُولِهَا إنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِيهَا خَمْرًا وَأَنَّهُ حُرِمَهَا عُقُوبَةً فَلَيْسَ فِيهِ وَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَلَمَ فَقْدِهَا وَإِنْ عَلِمَ بِهَا وَبِأَنَّهُ حُرِمَهَا عُقُوبَةً لَحِقَهُ حُزْنٌ وَهَمٌّ وَغَمٌّ وَالْجَنَّةُ لَا حُزْنَ فِيهَا وَلَا غَمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } : { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } : وَقَالَ { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ } : وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ .
الْجَنَّةَ وَهُوَ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَمَحْمَلُهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشْرَبُهَا إلَّا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَيَشْرَبَهَا كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزّ وَجَلَّ إنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِذَنْبِهِ فَإِنْ عَذَّبَهُ بِذَنْبِهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ لَمْ يُحْرَمْهَا إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ لَا يُحْرَمْهَا وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ مَعْنَاهُ جَزَاؤُهُ وَعُقُوبَتُهُ أَنْ يُحْرَمَهَا فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ وَجَائِزٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ فَلَا يَشْرَبُ فِيهَا خَمْرًا وَلَا يَذْكُرُهَا وَلَا يَرَاهَا وَلَا تَشْتَهِيهَا نَفْسُهُ ، ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبِسْهُ هُوَ : } ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ } ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ {

وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } : قَالَ وَهَذَا عِنْدِي عَلَى نَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي نَزَعْنَا إلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَوْلُهُ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ أَيْ إنْ عَاقَبَهُ اللَّهُ وَأَنْفَذَ عَلَيْهِ وَعِيدَهُ وَأَنَّهُ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ أَوْ الْمُعَاقَبَةِ يُحْرَمُ شُرْبَهَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَنْسَاهَا وَقَالَ غَيْرُهُ يُحْتَمَل أَنْ لَا يَشْتَهِيَهَا وَقِيلَ بَلْ دَلِيلُهُ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْجَنَّةَ جُمْلَةً ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ حُزْنٌ وَمَعَ عَدَمِهِ لَا عُقُوبَةَ فِيهِ ؛ قَالَ وَمَعْنَى هَذَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ أَنْ يُحْبَسَ عَنْ الْجَنَّةِ وَيُحْرَمَهَا مُدَّةً كَمَا جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي الْعِقَابِ { لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ : } { وَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ : } فَيَكُونُ عِقَابُهُ مَنَعَهُ مِنْ الِالْتِذَاذِ تِلْكَ الْمُدَّةَ وَيَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ وَأَهْلِ الْبَرْزَخِ وَأَمَّا أَنْ يُحْرَمُ الْجَنَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَيْسَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ وَيَقُولُ الْأَوَّلُونَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَسْرَةٌ وَلَا يَكُونُ تَنْسِيَتُهُ إيَّاهَا أَوْ تَرْكُ شَهْوَتِهَا عُقُوبَةً وَإِنَّمَا هُوَ نَقْصُ نَعِيمٍ عَمَّنْ تَمَّ نَعِيمُهُ كَمَا اخْتَلَفَتْ دَرَجَاتُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ فِيهَا دُونَ بَعْضٍ وَلَا غَمَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ انْتَهَى .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبُ نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَنَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبِسْهُ فِي الْجَنَّةِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أُمِرَ بِتَأْخِيرِهِ وَوُعِدَ بِهِ ، فَحُرِمَهُ عِنْدَ مِيقَاتِهِ كَالْوَارِثِ إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ مِيرَاثُهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ بِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ احْتِمَالٍ .
وَمَوْقِفُ إشْكَالٍ وَرَدَتْ فِيهِ الْأَخْبَارُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ إيَّاهُ أَعْتَقِدُ وَبِهِ أَشْهَدُ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ

يُحْرَمُ شُرْبَهَا فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا قِيلَ يَنْسَاهَا وَقِيلَ لَا يَشْتَهِيَهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا وَيَكُونُ هَذَا نَقْصُ نَعِيمٍ فِي حَقِّهِ تَمْيِيزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَارِكِ شَهْوَتِهَا .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ظَاهِرُهُ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَتَأَلَّمُ لِحَالِهِ مَعَ الْمَنَازِلِ الَّتِي رَفَعَ بِهَا غَيْرَهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِرِفْعَتِهَا وَأَنَّ صَاحِبَهَا أَعْلَى مِنْهُ دَرَجَةً وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَحْسُدُهُ وَلَا يَتَأَلَّمُ بِفَقْدِ شَيْءٍ اسْتِغْنَاءً بِاَلَّذِي أُعْطِيَ وَغِبْطَةً بِهِ وَقَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْأَوْلَى ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ حِرْمَانَهُ الْخَمْرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُعَذَّبُ فِي النَّارِ وَيُسْقَى مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ النَّارِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُحْرَمْ شَيْئًا مِنْهَا لَا خَمْرًا وَلَا حَرِيرًا وَلَا غَيْرَهُمَا فَإِنَّ حِرْمَانَ شَيْءٍ مِنْ لِذَاتِ الْجَنَّةِ لِمَنْ هُوَ فِيهَا نَوْعُ عُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ فِيهَا وَالْجَنَّةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عُقُوبَةٍ وَلَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ انْتَهَى .
وَجَوَّزَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ : } وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَقْوَالٌ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِتَلَازُمِ حِرْمَانِهَا وَعَدَمِ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِلِّ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ الْأَوَّلِينَ .
( الثَّانِي ) أَنَّ مَعْنَاهُ حِرْمَانُهَا حَالَةَ كَوْنِهِ فِي النَّارِ وَيَصْدُقُ عَلَى تِلْكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ حِرْمَهَا فِي الْجَنَّةِ .
( الثَّالِثُ ) : أَنَّ مَعْنَاهُ حِرْمَانُهَا فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ إنْ جُوزِيَ لَا يُجَازَى .
( الرَّابِعُ ) : أَنَّ مَعْنَاهُ حِرْمَانُهَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا امْتِنَاعَ مِنْ مُجَازَاتِهِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ

عُقُوبَةٌ وَإِنَّمَا فِيهِ نَقْصُ لَذَّةٍ .

( الثَّالِثَةُ ) : فِيهِ أَنَّ التَّوْبَةَ تُكَفِّرُ الْمَعَاصِيَ الْكَبَائِرَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ هَلْ تَكْفِيرُهَا قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ أَمَّا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ فَهُوَ قَطْعِيٌّ وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهِ خِلَافٌ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى وُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ عَقْلًا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي تَحْكِيمِهِمْ الْعَقْلَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَاَلَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ مَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ قُرْآنًا وَسَنَةً وَتَتَبَّعَ مَا فِيهِمَا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلِمَ عَلَى الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الصَّادِقِينَ .

( الرَّابِعَةُ ) : أَشَارَ بِقَوْلِهِ { ثُمَّ لَمْ يَتُبْ } إلَى تَرَاخِي .
مَرْتَبَةِ فَقْدِ التَّوْبَةِ وَاسْتِمْرَارِ الْإِصْرَارِ فِي الْمَفْسَدَةِ عَلَى نَفْسِ الشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ الْإِصْرَارَ وَفَقْدَ التَّوْبَةِ هُوَ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ فَإِنَّ { التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ } لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ الْمُعْتَبَرَةُ بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَةِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ وَالْغَرْغَرَةِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } أَنَّ مَا دُونَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا إجْمَاعٌ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَمَاتَ ، وَهُوَ يُدْمِنُهَا فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مُدْمِنُ الْخَمْرِ هُوَ الَّذِي يَتَّخِذُهَا وَيُعَاصِرُهَا قَالَ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ إذَا وَجَدَهَا فَهُوَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهَا .
( الْخَامِسَةُ ) : قَوْلُهُ ( ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا ) : أَيْ مِنْ شُرْبِهَا فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ وَهُوَ كَذَلِكَ .

( السَّادِسَةُ ) هَذَا الْوَعِيدُ إنَّمَا وَرَدَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ وَهِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا اسْمٌ لِعَصِيرِ الْعِنَبِ الَّذِي اشْتَدَّ وَقُذِفَ بِالزَّنْدِ أَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ فَهِيَ وَإِنْ شَارَكَتْهَا فِي التَّحْرِيمِ لَا تُشَارِكُهَا فِي اسْمِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَإِنَّمَا تُسَمَّى بِذَلِكَ مَجَازًا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَتَنَاوَلُهَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ : } فَانْدِرَاجُ شَارِبِهَا فِي هَذَا الْوَعِيدِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ لَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا إنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى حَمْلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَيَدْخُلُ حِينَئِذٍ فِي الْحَدِيثِ مَنْ شَرِبَ مَا يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً وَمَنْ شَرِبَ مَا يُسَمَّى خَمْرًا مَجَازًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةُ ) : إنَّمَا تَنَاوَلَ الْحَدِيثُ شَارِبَهَا فِي حَالَةِ التَّكْلِيفِ اخْتِيَارًا فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمُكْرَهُ فَلَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ ذَنْبٍ وَهَؤُلَاءِ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ وَقَدْ وَرَدَ تَرَتُّبُ هَذَا الْوَعِيدِ عَلَى سَاقِيهَا لِلصَّغِيرِ : فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ مِنْ حَرَامِهِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ : } .

( الثَّامِنَةُ ) : يَتَرَتَّبُ هَذَا الْوَعِيدُ عَلَى مُجَرَّدِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ بِذَلِكَ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ .
بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ وَإِنْ قَلَّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِهَا فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ حُكْمَهَا كَذَلِكَ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ غَيْرِهَا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ دُونَ مَا لَمْ يَصِلْ بِهِ إلَى السُّكْرِ .

وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْت نَحْوَهُ فَأُنْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ فَسَأَلْت مَاذَا قَالَ ؟ قَالُوا : نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي بَعْضِهَا { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَنْتَمِ وَهِيَ الْجَرَّةُ وَعَنْ الدُّبَّاءُ وَهِيَ الْقَرْعَةُ وَعَنْ الْمُزَفَّتِ وَهُوَ الْمُقَيَّرُ وَعَنْ النَّقِيرِ وَهِيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا وَتُنْقَرُ نَقْرًا وَأَمَرَ أَنْ يُنْتَبَذَ فِي الْأَسْقِيَةِ : } وَالنَّهْيُ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ مَنْسُوخٌ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي الظُّرُوفِ الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْت نَحْوَهُ فَأُنْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَهُ فَسَأَلْت مَاذَا قَالَ ؟ : قَالُوا : نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَالنَّهْيُ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي { بَعْضِ مَغَازِيهِ } إلَّا مَالِكٌ وَأُسَامَةُ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ رِوَايَةَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مُخْتَصَرَةً بِلَفْظِ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمُزَفَّتِ وَالْقَرْعِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَمُهَا مَا رَوَاهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةٍ زَادَ أَنْ قَالَ ( قُلْت ) : لِابْنِ عُمَرَ حَدِّثْنِي بِمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ بِلُغَتِكَ وَفَسِّرْهُ لِي بِلُغَتِنَا فَإِنَّ لَكُمْ لُغَةً سِوَى لُغَتِنَا فَقَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَنْتَمِ .
وَهِيَ الْجَرَّةُ وَعَنْ الدُّبَّاءِ وَهِيَ الْقَرْعَةُ وَعَنْ الْمُزَفَّتِ وَهُوَ الْمُقَيَّرُ وَعَنْ النَّقِيرِ وَهِيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا وَتُنْقَرُ نَقْرًا وَأَمَرَ أَنْ يُنْتَبَذ فِي الْأَسْقِيَةِ } .
( الثَّانِيَةُ ) : فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26