كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

أَصْحَابِهِ فِيهِمْ سَعْدٌ وَأَتَوْا بِلَحْمِ ضَبٍّ فَنَادَتْ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي } .
لَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَفْظُهُ { فَإِنَّهُ حَلَالٌ أَوْ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ } شَكَّ فِيهِ .
( الثَّانِيَةُ ) : الضَّبُّ دُوَيْبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَالْأُنْثَى ضَبَّةٌ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْوَرَلَ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هُوَ حِرْذَوْنٌ كَبِيرٌ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ إبَاحَةُ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَرِّمْهُ فَهُوَ حَلَالٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ ، وَعَدَمُ أَكْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِعِيَافَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ } ، وَقَدْ رَفَعَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُوا فَإِنَّهُ حَلَالٌ } كُلَّ إشْكَالٍ فَهَذَا نَصٌّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ لَا تَطْعَمُوهُ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى تَحْرِيمِهِ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الضَّبَّ حَلَالٌ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَإِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ حَرَامٌ ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ فَإِنْ صَحَّ عَنْ أَحَدٍ فَمَحْجُوجٌ

بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ انْتَهَى .
( قُلْت ) الْكَرَاهَةُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِلَا شَكٍّ كَمَا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَكْرُوهِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا قَاطِعًا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ لَفْظَ الْحَرَامِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ فَظَهَرَ بِذَلِكَ وُجُودُ الْخِلَافِ فِي تَحْرِيمِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلِهَذَا نَقَلَ الْعِمْرَانِيُّ فِي الْبَيَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَحْرِيمَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ أَكْلَهُ ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا فَحَكَى ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِيهِ وَفِي كُلِّ مَا قِيلَ إنَّهُ مَنْسُوخٌ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ التَّحْرِيمُ ، وَالْكَرَاهَةُ ، وَالْجَوَازُ .
( الرَّابِعَةُ ) احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ أَوْ التَّحْرِيمِ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ قَالَ { كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصَبْنَا ضِبَابًا فَكَانَتْ الْقُدُورُ تَغْلِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذَا ؟ فَقُلْنَا أَصَبْنَاهَا فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ فَأَكْفَأْنَاهَا وَإِنَّا لَجِيَاعٌ } رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ وَدِيعَةَ قَالَ { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْشٍ فَأَصَبْنَا ضِبَابًا فَشَوَيْت مِنْهَا ضَبًّا فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْته بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ عُودًا فَعَدَّ بِهِ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ : إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ وَإِنِّي لَا أَدْرِي أَيَّ الدَّوَابِّ هِيَ ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَنْهَ } .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَا ثَابِتُ بْنُ

يَزِيدَ وَابْنُ وَدِيعَةَ هُمَا وَاحِدٌ يَزِيدُ أَبُوهُ ؛ وَدِيعَةُ أُمُّهُ ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ الْمِزِّيُّ هُوَ ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ وَدِيعَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَكَأَنَّ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ وَدِيعَةَ أَصَحُّ وَيَحْتَمِلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا انْتَهَى .
وَرَوَى الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا { أَنَّ الضَّبَّ أُمَّةٌ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ } وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَمَا مَضَى فِي إبَاحَتِهِ أَصَحُّ مِنْهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { أُهْدِيَ لَنَا ضَبٌّ فَقَدَّمْته إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُطْعِمُهَا السُّؤَالَ ؟ فَقَالَ إنَّا لَا نُطْعِمُهُمْ مِمَّا لَا نَأْكُلُ } .
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ .
أَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ فَلَيْسَ فِيهِ الْجَزْمُ بِأَنَّهَا مَمْسُوخَةٌ وَإِكْفَاؤُهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إكْفَاءَ الْقُدُورِ بِالضِّبَابِ خَوْفَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقَايَا مَسْخِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ مِمَّا مُسِخَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلْ لَهُمْ نَسْلًا وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ } ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَكْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِلضَّبِّ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ قَالَ وَهَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ إلَّا بَعْدَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ وَلَمْ يَغْزُ بَعْدَهَا إلَّا تَبُوكَ وَلَمْ تُصِبْهُمْ فِي تَبُوكَ مَجَاعَةٌ أَصْلًا وَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَ ابْنِ حَسَنَةَ كَانَ قَبْلَ هَذَا انْتَهَى .
وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ فَتَقَدَّمَ عَنْ الْبَيْهَقِيّ تَضْعِيفُهُ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِيهِ ضُعَفَاءُ ، وَمَجْهُولُونَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبِهِمْ فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هُوَ إنْ ثَبَتَ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ امْتِنَاعِهِ مِنْ أَكْلِهِ ثُمَّ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ لَا يُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ مِمَّا لَا يَأْكُلُ انْتَهَى وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } ، وَقَدْ ظَهَرَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ احْتِمَالَ الْمَسْخِ قَدْ أُمِنَ وَزَالَ التَّعَلُّلُ بِهِ .
وَأَمَّا الْعِيَافَةُ فَلَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَفِي عِبَارَةِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ إشَارَةٌ إلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْعَائِفِ فَإِنَّهُ قَالَ وَلَكِنْ يَبْقَى حَلَالًا لِمَنْ اعْتَادَهُ فَإِنْ صَحَّ فَسَبَبُهُ خَشْيَةُ الضَّرَرِ بِالْقَرَفِ ، وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ } وَقَالَ إنَّ الضَّبَّ مَوْجُودٌ بِمَكَّةَ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ إنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ الْخَبَرِ وَأَنَّ النَّاقِلَ لِوُجُودِهَا بِمَكَّةَ كَاذِبٌ أَوْ سُمِّيَتْ لَهُ بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا كَلَامُهُ وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَيَوَانَ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَكْلَهُ أَيْ لَمْ يَشِعْ أَكْلُهُ بِأَرْضِ قَوْمِي .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مَرْفُوعًا { أَنَّ

أَهْلَ تِهَامَةَ تَعَافُهَا } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَرِهَهُ لِرَائِحَتِهِ فَقَالَ { إنِّي يَحْضُرُنِي مِنْ اللَّهِ حَاضِرَةٌ } يُرِيدُ الْمَلَائِكَةَ فَيَكُونُ هَذَا كَنَحْوِ مَا قَالَ فِي الثُّومِ { إنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي } قَالَ وَلَا بُعْدَ فِي تَعْلِيلِ كَرَاهَةِ الضَّبِّ بِمَجْمُوعِهَا .
( الْخَامِسَةُ ) ( إنْ قُلْت ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ { دَعَانَا عَرُوسٌ بِالْمَدِينَةِ فَقَرَّبَ إلَيْنَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ضَبًّا فَآكِلٌ وَتَارِكٌ فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَكْثَرَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِئْسَمَا قُلْتُمْ مَا بُعِثَ نَبِيٌّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مُحِلًّا وَمُحَرِّمًا ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ } فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْ إنْكَارِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ؟ .
( قُلْت ) أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ظَنَّ أَنَّ الْمُخْبِرَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلَةِ لَا آكُلُهُ لَا أُحَلِّلُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَا آكُلُهُ عِيَافَةً وَلَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ يَبْقَى حَلَالًا لِمَنْ اعْتَادَهُ فَأَمَّا خُرُوجُهُ عَنْ قِسْمِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فَمُحَالٌ ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إنَّ الْحَدِيثَ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ { لَا آكُلُهُ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ } فَسَقَطَ عَلَى مُسْلِمٍ لَفْظَةُ ( لَا أُحِلُّهُ ) إمَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَإِمَّا أَسْقَطَهَا ؛ لِكَوْنِهَا وَهْمًا مِمَّنْ رَوَاهَا .
وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَجْلِ قَوْلَةِ وَلَا أُحِلُّهُ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِذْنِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ كُلُوا .

وَعَنْ جَابِرٍ { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَثَمِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَقَمْنَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى فَنِيَ زَادُنَا حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ ثُمَّ إنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ حَتَّى صَلُحَتْ أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ وَنَظَرَ إلَى أَطْوَلِ بَعِيرٍ فَجَازَ تَحْتَهُ ، وَكَانَ رَجُلٌ يَجْزُرُ ثَلَاثَةً ثُمَّ ثَلَاثَةً جُزُرٍ فَنَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ } زَادَ الشَّيْخَانِ { فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشُ الْخَبَطِ } ، وَزَادَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ { ثُمَّ ثَلَاثَ جَزَائِرَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { فَأَكَلَ مِنْهَا الْقَوْمُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا } وَلَهُ { بَعَثَ سَرِيَّةً أَنَا فِيهِمْ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ } وَلَهُ { بَعَثَ بَعْثًا إلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ } وَالرَّجُلُ الْمُبْهَمُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَهُمَا فِي رِوَايَةٍ { فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ هُوَ رِزْقٌ ، أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَ } .
وَلِلنَّسَائِيِّ ( وَنَحْنُ ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ ) .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) : وَعَنْ جَابِرٍ { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَثَمِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَقَمْنَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى فَنِيَ زَادُنَا حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ ثُمَّ إنَّ الْبَحْرَ أَلْقَى دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ حَتَّى صَلُحَتْ أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ وَنَظَرَ إلَى أَطْوَلِ بَعِيرٍ فَجَازَ تَحْتَهُ ، وَكَانَ رَجُلٌ نَحَرَ ثَلَاثَةَ جُزُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةَ جُزُرٍ فَنَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرٍو وَأَخْرَجُوهُ خَلَا أَبَا دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ هَذَا حَدِيثٌ مُجْتَمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى زَادَ الشَّيْخَانِ { فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ } هُوَ عِنْدَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ وَقَوْلُهُ وَزَادَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ { ثُمَّ ثَلَاثَ جَزَائِرَ } يَعْنِي مَرَّةً ثَالِثَةً ، هُوَ عِنْدَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { فَأَكَلَ مِنْهَا الْقَوْمُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً } هُوَ عِنْدُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ وَقَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا } هُوَ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ .
وَقَوْلُهُ وَلَهُ { بَعَثَ سَرِيَّةً أَنَا فِيهِمْ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ } هُوَ عِنْدَهُ مِنْ

رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ وَهُوَ عِنْدُ الْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ { بَعَثَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ وَأَنَا فِيهِمْ .
} وَقَوْلُهُ وَلَهُ { بَعَثَ بَعْثًا إلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ } هُوَ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ وَقَوْلُهُ : وَالرَّجُلُ الْمُبْهَمُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُوَ عِنْدَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ .
قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ { أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِأَبِيهِ كُنْت فِي الْجَيْشِ فَجَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْت قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْت ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نُهِيتُ } وَقَوْلُهُ : وَلَهُمَا فِي رِوَايَةٍ { فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَ } هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِمَعْنَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا .
لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ فَإِنَّهُ لَا يُخَرِّجُ لِأَبِي الزُّبَيْرِ انْفِرَادًا وَإِنَّمَا يُخَرِّجُ لَهُ مُتَابَعَةً وَفِيهِ فِي الْمَغَازِي بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ { قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ أَطْعِمُونَا إنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِعُضْوٍ فَأَكَلَهُ } وَالْقَائِلُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَوْلُهُ : وَلِلنَّسَائِيِّ { وَنَحْنُ ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ } هُوَ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ .
( الثَّالِثَةُ ) لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْجِهَةَ الَّتِي بُعِثُوا إلَيْهَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ

مِنْ رِوَايَةِ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ { نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ } ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ { نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ } ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا { بَعَثَ بَعْثًا إلَى أَرْضِ جُهَيْنَةَ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَالْجِهَةُ أَرْضُ جُهَيْنَةَ وَالْقَصْدُ تَلَقِّي عِيرَ قُرَيْشٍ وَهِيَ الْإِبِلُ الْمُحَمَّلَةُ لِلطَّعَامِ أَوْ غَيْرُهُ لَكِنْ فِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ الْبَعْثَ إلَى حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ بِالْقِبْلِيَّةِ مِمَّا يَلِي السَّاحِلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسُ لَيَالٍ ، وَلَعَلَّ الْبَعْثَ لِمَقْصِدَيْنِ .
رَصْدُ عِيرِ قُرَيْشٍ ، وَمُحَارَبَةُ حَيٍّ مِنْ جُهَيْنَةَ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ طُولُ إقَامَتِهِمْ عَلَى السَّاحِلِ فَإِنَّ فِعْلَهُمْ فِي ذَلِكَ فِعْلَ مُنْتَظِرٍ لِأَمْرٍ مِنْ غَيْرِ مُحَارَبَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالُوا : وَكَانَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ نَكْثِ قُرَيْشٍ الْعَهْدَ ، وَقَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ مِنْ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ .
( الرَّابِعَةُ ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَثَمِائَةٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ ( وَبِضْعَةَ عَشَرَ ) فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الثَّلَثِمِائَةِ اسْتِسْهَالًا لِأَمْرِ الْكَسْرِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ مَعَ صِحَّتِهَا وَاجِبٌ .
( الْخَامِسَةُ ) : فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا رُكْبَانًا ، وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ { نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا } فَلَوْ كَانُوا رُكْبَانًا لَمَا احْتَاجُوا إلَى حَمْلِ أَزْوَادِهِمْ عَلَى رِقَابِهِمْ لَا سِيَّمَا مَعَ قِلَّتِهَا وَيَدُلُّ عَلَى رُكُوبِهِمْ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ { وَنَظَرَ إلَى أَطْوَلِ بَعِيرٍ } وَقَوْلُهُ فِيهِ { وَكَانَ رَجُلٌ نَحَرَ ثَلَاثَةَ جُزُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةَ جُزُرٍ } وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِبِلِ مَعَهُمْ لَكِنَّ فِي كُتُبِ السِّيَرِ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ قَيْسٍ

اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ إلَى أَجَلٍ وَأَنَّهُ قَالَ مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِجُزُرٍ أَنْحَرُهَا هُنَا وَأُوَفِّيهِ التَّمْرَ بِالْمَدِينَةِ فَوَجَدَ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ فَقَالَ لَهُ الْجُهَنِيِّ مَا أَعْرِفُك فَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ فَاشْتَرَى مِنْهُ كُلَّ جَزُورٍ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَ هَذَا لَا مَالَ لَهُ إنَّمَا الْمَالُ لِأَبِيهِ فَقَالَ الْجُهَنِيِّ وَاَللَّهِ مَا كَانَ سَعْدٌ لِيَخْنَى بِابْنِهِ وَفَضَلَ مَعَهُ بَعْدَ نَهْيِ أَبِي عُبَيْدَةَ جَزُورَانِ قَدِمَ بِهِمَا الْمَدِينَةَ ظَهْرًا يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِمَا وَلَمَّا بَلَغَ سَعْدًا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَعُمَرَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ قَالَ فَلَكَ أَرْبَعُ حَوَائِطَ أَدْنَاهَا حَائِطٌ تَجِدُ مِنْهُ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَقَدِمَ الْجُهَنِيِّ فَأَوْفَاهُ وَحَمَلَهُ ، وَكَسَاهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُ قَيْسٌ فَقَالَ : إنَّ الْجُودَ لِمَنْ شِيمَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَجَاءَ سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ ابْنِ الْخَطَّابِ يُبَخِّلُ ابْنِي عَلَيَّ } وَلَعَلَّهُ سَمَّاهُمْ رُكْبَانًا بِاعْتِبَارِ تَهَيُّئِهِمْ لِلرُّكُوبِ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفُوا بِهِ أَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ رَاكِبًا وَبَعْضُهُمْ كَانَ مَاشِيًا يَحْمِلُ زَادَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ فَغَلَّبَ فِي كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ بِإِطْلَاقِ صِفَةِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ .
( السَّادِسَةُ ) وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِتَأْمِيرِهِ عَلَى هَذَا الْجَيْشِ الَّذِي فِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ أَنَّ الْجُيُوشَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَمِيرٍ يَضْبِطُهَا وَتَنْقَادُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُسْتَحَبُّ لِلرُّفْقَةِ فِي أَيِّ سَفَرٍ كَانَ وَإِنْ قَلُّوا أَنْ يُؤَمِّرُوا بَعْضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَيَنْقَادُوا لَهُ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { فَأَقَمْنَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى فَنِيَ

زَادُنَا } الظَّاهِرُ أَنَّ إقَامَتَهُمْ لِانْتِظَارِ ذَلِكَ الْعِيرِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ { وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ } وَهُوَ بِظَاهِرِهِ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ { نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا } وَلِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا { فَفَنِيَ زَادُهُمْ فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ زَادَهُمْ فِي مِزْوَدٍ فَكَانَ يَقُوتُنَا حَتَّى كَانَ يُصِيبُنَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةٌ } كَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ { فَكَانَ مِزْوَدِي تَمْرٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَوَّلِ جِرَابًا وَاحِدًا وَإِنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ فِي آخَرِ الْأَمْرِ حِينَ فِنَائِهِ وَقَرَّبَهُ مِنْ الْفَرَاغِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ { كَانَ يُعْطِينَا قَبْضَةً قَبْضَةً ثُمَّ أَعْطَانَا تَمْرَةً تَمْرَةً } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّدَهُمْ الْجِرَابَ زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الزَّادِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَغَيْرِهَا مِمَّا وَاسَاهُمْ بِهِ الصَّحَابَةُ ، وَلِهَذَا قَالَ : وَنَحْنُ نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَادِهِمْ تَمْرٌ غَيْرُ هَذَا الْجِرَابِ ، وَكَانَ مَعَهُمْ غَيْرُهُ مِنْ الزَّادِ .
( قُلْت ) وَلَمَّا قَلَّتْ أَزْوَادُهُمْ جَمَعَ الْمَجْمُوعَ فَكَانَ مِزْوَدًا أَوْ مِزْوَدَيْنِ .
( الثَّامِنَةُ ) ( الْخَبَطُ ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ اسْمٌ لِمَا يُخْبَطُ فَيَتَسَاقَطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ وَبِسُكُونِ الْبَاءِ الْمَصْدَرُ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِوَرَقِ السَّنْطِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي بِلَادِنَا بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ " فَإِنْ قُلْت " كَيْفَ يَتَأَتَّى أَكْلُ الْخَبَطِ ، وَكَيْفَ يَنْسَاغُ فِي الْحَلْقِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَأْكُولِ الْبَهَائِمِ ؟ " قُلْت " كَانُوا يَبُلُّونَهُ بِالْمَاءِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ } وَإِذَا بُلَّ لَانَ لِلْمَضْغِ ، وَإِنَّمَا صَارُوا لِأَكْلِ الْخَبَطِ عِنْدَ فَقْدِ

التَّمْرَةِ الْمُوَزَّعَةِ عَلَيْهِمْ .
وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْجَهْدِ وَالِاجْتِهَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ الْعِظَامِ وَالْمَشَقَّاتِ الْفَادِحَةِ لِإِظْهَارِ الدِّينِ وَإِطْفَاءِ كَلِمَةِ الْمُشْرِكِينَ .
( التَّاسِعَةُ ) ( الْعَنْبَرُ ) سَمَكَةٌ بَحْرِيَّةٌ كَبِيرَةٌ يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِهَا التِّرْسَةُ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلتُّرْسِ عَنْبَرٌ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَلَعَلَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي تُلْقِي الْعَنْبَرَ ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ الْعَنْبَرُ عَلَى سَوَاحِلِ الْبَحْرِ .
.

( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ " فَأَكَلْنَا مِنْهُ " قَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ " أَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَرَدُّدٍ " فَفِيهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ ثُمَّ قَالَ لَا بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا ؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا بِاجْتِهَادِهِ هَذَا مَيْتَةٌ ، وَالْمَيْتَةُ حَرَامٌ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَكْلُهَا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَقَالَ بَلْ هُوَ حَلَالٌ لَكُمْ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً ؛ لِأَنَّكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ لِمَنْ كَانَ مُضْطَرًّا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ آخِرًا عِنْدَ سُؤَالِهِمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا بِكَوْنِهِمْ مُضْطَرِّينَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَوَّبَ رَأْيَهُمْ وَطَيَّبَ خَاطِرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حِلِّهِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا وَفِيهِ إبَاحَةُ مَيْتَةِ الْبَحْرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاصْطِيَادٍ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ الطَّافِي وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ بِلَا سَبَبٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَعَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أَنَّ صَيْدَهُ مَا صِدْتُمُوهُ وَطَعَامُهُ مَا قَذَفَهُ ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَحَّحَهُ

جَمَاعَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ بِتَحْرِيمِ مَا مَاتَ بِنَفْسِهِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَفِيمَا طَفَا مِنْ السَّمَكِ عَلَى الْمَاءِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْكَلَ مَا يُوجَدُ فِي حَافَتَيْ الْبَحْرِ ، وَمَا جَزَرَ عَنْهُ وَلَا يُؤْكَلُ مَا كَانَ طَافِيًا مِنْهُ هَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَمِمَّنْ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ طَاوُسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَصْحَابُهُ وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ حِلَّ مَيْتَةِ الْبَحْرِ وَيُكْرَهُ أَكْلُ الطَّافِي مِنْهُ قَالَ : وَمَيْتَةُ الْبَحْرِ مَا لَفَظَهُ لِيَكُونَ مَوْتُهُ مُضَافًا إلَى الْبَحْرِ لَا مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ انْتَهَى .
وَقَدْ عَرَفْت الْخِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَكْرُوهِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَمْ لَا وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَحَمَّادٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ سَأَلْت الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ خِلَافُهُ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ قَالَ : وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ ثُمَّ بَسَطَ طُرُقَهُ وَضَعَّفَهَا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ كَيْفَ

وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( نِصْفَ شَهْرٍ ) كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا { فَأَكَلَ مِنْهَا الْجَيْشُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا } ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ قَالَ النَّوَوِيُّ : طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ مَنْ رَوَى شَهْرًا هُوَ الْأَصْلُ ، وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ ، وَمِنْ رَوَى دُونَهُ لَمْ يَنْفِ الزِّيَادَةَ ، وَلَوْ نَفَاهَا قُدِّمَ الْمُثْبَتُ وَالْمَشْهُورُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الزِّيَادَةِ وَلَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ كَيْفَ ، وَقَدْ عَارَضَهُ فَوَجَبَ قَبُولُ الزِّيَادَةِ ، وَجَمَعَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَيْنَهُمَا بِأَنْ مَنْ قَالَ نِصْفَ شَهْرٍ أَرَادَ أَكَلُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ طَرِيًّا ، وَمَنْ قَالَ شَهْرًا أَرَادَ أَنَّهُمْ قَدَّدُوهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ قَدِيدًا " قُلْت " وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا عَلَى السَّاحِلِ ، وَكَانُوا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمُدَّةِ يَأْكُلُونَ التَّمْرَ ثُمَّ الْخَبَطَ وَفِي بَعْضِهَا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْعَنْبَرِ وَبِتَقْدِيرِ التَّعَارُضِ فَرِوَايَةُ النِّصْفِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ وَهِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ خَاصَّةً وَالرِّوَايَتَانِ الْأُخْرَيَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) احْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ مِنْ الْمَيْتَةِ شِبَعَهُ لِارْتِفَاعِ تَحْرِيمِهَا عَنْهُ فَصَارَتْ كَالْمُذَكَّاةِ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَقْوَالٍ .
( الْأَوَّلُ ) الشِّبَعُ ( وَالثَّانِي ) الِاقْتِصَارُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ ( وَالثَّالِثُ ) إنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ لَمْ يَحِلَّ الشِّبَعُ وَإِلَّا حَلَّ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الرَّاجِحِ مِنْ الْخِلَافِ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الِاقْتِصَارَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ إنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَلَا يَقْطَعَهَا وَيَهْلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ الطَّعَامَ الْحَلَالَ قَبْلَ عَوْدِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ حَلَالٍ وَأَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْمَيْتَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إنْ لَمْ يَجِدْ الْحَلَالَ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا التَّفْصِيلَ وَرَجَّحَ مِنْ الْخِلَافِ الِاقْتِصَارَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ : إنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ قَدْرَ ضَرُورَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ الْجُوعِ وَالضَّعْفِ وَسَقَطَتْ قُوَاهُمْ وَهُمْ مُسْتَقْبِلُونَ سَفَرًا وَعَدُوًّا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ضَعُفُوا عَنْ عَدُوِّهِمْ وَانْقَطَعُوا عَنْ سَفَرِهِمْ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنْ قِيلَ كَيْفَ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَذِهِ الْمَيْتَةِ إلَى شَهْرٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّحْمَ إذَا أَقَامَ هَذِهِ الْمُدَّةَ بَلْ أَقَلَّ مِنْهَا أَنَّهُ يُنْتِنُ وَيَشْتَدُّ نَتْنُهُ فَلَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ فِي الصَّيْدِ { كُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ } فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْتَهِ نَتْنُهُ إلَى حَالٍ يُخَافُ مِنْهُ الضَّرَرُ ؛ لِبُرُودَةِ الْمَوْضِعِ أَوْ يُقَالُ إنَّهُمْ أَكَلُوهُ طَرِيًّا ثُمَّ مَلَّحُوهُ ، وَقَدَّدُوهُ " قُلْت " الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا كَرَاهَةُ أَكْلِ الْمُنْتِنِ دُونَ تَحْرِيمِهِ إلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْهُ الضَّرَرُ خَوْفًا مُعْتَمَدًا .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَفِيهِ إبَاحَةُ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا فِي أَكْلِ هَذَا إلَى نَصٍّ يَخُصُّهُ فَدَلَّ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي أَكْلِهَا مُطْلَقًا وَلَا خِلَافَ فِي حِلِّ السَّمَكِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَأَمَّا مَا لَيْسَ عَلَى صُورَةِ السَّمَكِ فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ قِيلَ بِالْحِلِّ مُطْلَقًا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَقِيلَ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَقِيلَ مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ كَالْبَقَرِ وَالشَّاةِ فَحَلَالٌ ، وَمَا لَا كَخِنْزِيرِ الْمَاءِ ، وَكَلْبِهِ فَحَرَامٌ ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ الْحِلِّ أَرْبَعَةً الضُّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ وَالسُّلَحْفَاةُ وَالتِّمْسَاحُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَقَالَ أَحْمَدُ كُلُّهُ مُبَاحٌ إلَّا الضُّفْدَعَ ، وَعَنْهُ فِي التِّمْسَاحِ رِوَايَتَانِ وَأَبَاحَ مَالِكٌ حَيَوَانَ الْبَحْرِ كُلَّهُ حَتَّى الضُّفْدَعَ ، وَعَنْهُ فِي خِنْزِيرِ الْبَحْرِ قَوْلَانِ ، وَكَرِهَ تَسْمِيَتَهُ خِنْزِيرًا وَحَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا عَدَا السَّمَكَ وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى سَمَكًا .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { حَتَّى صَلُحَتْ أَجْسَامُنَا } أَيْ صَحَّتْ بِالْأَكْلِ ، وَعَادَتْ إلَى حَالَتِهَا الْأُولَى مِنْ الْقُوَّةِ وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { وَادَّهَنَا مِنْ وَدَكِهَا حَتَّى ثَابَتْ أَجْسَامُنَا } أَيْ رَجَعَتْ إلَى حَالَتِهَا الْأُولَى مِنْ حُسْنِ اللَّوْنِ وَالسِّحْنَةِ فَفَائِدَةُ الْأَكْلِ عَوْدُ الْقُوَّةِ وَفَائِدَةُ الْأَدْهَانِ عَوْدُ حُسْنِ اللَّوْنِ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ وَنَظَرَ إلَى أَطْوَلِ بَعِيرٍ فَجَازَ تَحْتَهُ } كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى جَوَازِ الْبَعِيرِ مِنْ تَحْتِهِ ؛ وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { ثُمَّ نَظَرَ إلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ وَأَطْوَلِ جَمَلٍ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ فَمَرَّ تَحْتَهُ } فَزَادَ عَلَى الْجَمَلِ وَالرَّجُلِ ؛ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَطْوَلَ

رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالطُّولِ ، وَيُقَالُ إنَّهُ أَطْوَلُ الْعَرَبِ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ نَهْيَ أَبِي عُبَيْدَةَ لَهُ عَنْ النَّحْرِ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ نَحْرٍ ثَالِثٍ فَكَانَ مَجْمُوعُ نَحْرِهِ تِسْعَ جُزُرٍ ، وَمِنْ الْعَجِيبِ مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْجَزُورِ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا وَقْتَ ضَرُورَةٍ غَيَّرَ فِيهِ عَادَتَهُ لِلِاضْطِرَارِ وَنَهْيُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَإِنَّمَا أَخَذَ الْجُزُرَ بِالدَّيْنِ وَخَشِيَ أَنْ لَا يَقْضِيَ أَبُوهُ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَحْصُلَ الضَّرَرُ لَهُ وَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي مَنْعِهِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي زَوَالِ ضَرَرِ الْجَيْشِ أَنْ يَكُونَ عَلَى يَدِهِ ، وَقَدْ رَزَقَهُمْ اللَّهُ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَنِيَّتِهِمْ الرِّزْقَ الْحَلَالَ الْوَاسِعَ الَّذِي لَا مِنَّةَ فِيهِ وَلَا تَبِعَةَ لِأَحَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ الْحَضُّ عَلَى إطْعَامِ الطَّعَامِ وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ صَاحِبُهُ مِنْ تَقْدِيمِهِ لِقِلَّتِهِ فَالْقَلِيلُ يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ كَمَا يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ بِالْكَثِيرِ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكِفَايَةِ الشِّبَعَ وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ قِيَامُ الْبِنْيَةِ وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : إذَا كَانَ لَا يُغْنِيك مَا يَكْفِيك ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُغْنِيك ، وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ : قَنِّعْ النَّفْسَ بِالْقَلِيلِ وَإِلَّا طَلَبَتْ مِنْك فَوْقَ مَا يَكْفِيهَا .
( الثَّالِثَةُ ) : إنْ قُلْت يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ } ( قُلْت ) لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى التَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الْمُوَاسَاةُ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلِاثْنَيْنِ إدْخَالُ ثَالِثٍ فِي طَعَامِهِمَا وَإِدْخَالُ رَابِعٍ أَيْضًا بِحَسَبِ مَنْ يَحْضُرُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { إنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ } فَجَمَعَ بَيْنَ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ الْحَضُّ عَلَى إطْعَامِ الطَّعَامِ ، وَمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ وَالضَّيْفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنْ اتَّحَدَ مَقْصُودُهُمَا

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِعْلَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ حِينَ كَانَ يُدْخِلُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَهُمْ وَيَقُولُ لَنْ يَهْلِكَ امْرُؤٌ عَنْ نِصْفِ قُوتِهِ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ مُسْلِمٌ ( يَشْرَبُ ) وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثُمَّ أُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ } وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَهْجَاهٍ الْغِفَارِيِّ بِزِيَادَةٍ فِيهِ وَأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ الَّذِي شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ أَوَّلًا وَقَالَ فِيهِ ( يَأْكُلُ ) وَفِيهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) : وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقْتَصِرًا عَلَى آخِرِ الْحَدِيثِ دُونَ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } .
( الثَّانِيَةُ ) الْمِعَى بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورٌ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى مِعًى بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ

الْعَيْنِ بَعْدَهَا يَاءٌ ؛ حَكَاهَا صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَالْجَمْعُ أَمْعَاءٌ مَمْدُودٌ وَهِيَ الْمَصَارِينُ .
( الثَّالِثَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقْوَالٍ " أَحَدُهَا " قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِشَارَةُ فِيهِ إلَى كَافِرٍ بِعَيْنِهِ لَا إلَى جِنْسِ الْكُفَّارِ وَلَا سَبِيلَ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَدْفَعُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ كَافِرٌ أَقَلَّ أَكْلًا مِنْ مُؤْمِنٍ وَيُسْلِمُ الْكَافِرُ فَلَا يَنْقُصُ أَكْلُهُ ؟ وَلَا يَزِيدُ وَفِي حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّآتِهِ بَعْدَهُ مُفَسِّرًا لَهُ وَهَذَا عُمُومٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا إذْ كَانَ كَافِرًا كَانَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ فَلَمَّا آمَنَ عُوفِيَ وَبُورِكَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَكَفَاهُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعَةِ أَجْزَاءَ مِمَّا كَانَ يَكْفِيهِ إذْ كَانَ كَافِرًا خُصُوصًا لَهُ ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَافِرُ وَهَذَا الْمُؤْمِنُ انْتَهَى .
وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ هَذَا الْكَافِرُ مَخْصُوصٌ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ طَاهِرٍ فِي مُبْهَمَاتِهِ " الثَّانِي " أَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْمُؤْمِنِ وَزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِلْكَافِرِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّ الْكَافِرَ لِحِرْصِهِ عَلَى الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ، وَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لِزُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا وَتَقَلُّلِهِ مِنْهَا يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ فَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْأَمْعَاءِ وَلَا حَقِيقَةَ الْأَكْلِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الِاتِّسَاعُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلُ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ أَخْذِ الدُّنْيَا وَبِالْأَمْعَاءِ عَنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ " الثَّالِثُ " : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ قِلَّةُ الْأَكْلِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ مِنْ الْأَكْلِ مَا يَسُدُّ الْجُوعَ وَيُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُقَوِّي عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفِهِمْ مِنْ حِسَابِ الزِّيَادَةِ

عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ وَاقِفِينَ مَعَ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ وَإِنَّمَا هُمْ تَابِعُونَ لِشَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ مُسْتَرْسِلُونَ فِيهَا غَيْرُ خَائِفِينَ مِنْ تَبِعَةِ الْحَرَامِ وَوَرْطَتِهِ فَصَارَ أَكْلُ الْمُؤْمِنِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ إذَا نُسِبَ لِأَكْلِ الْكَافِرِ كَأَنَّهُ سَبْعَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ أَمْرًا مُطَّرِدًا فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَكَافِرٍ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَأْكُلُ كَثِيرًا بِحَسَبِ الْعَادَةِ أَوْ لِعَارِضٍ وَيَكُونُ فِي الْكُفَّارِ مَنْ يَعْتَادُ قِلَّةَ الْأَكْلِ إمَّا لِمُرَاعَاةِ الصِّحَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ أَوْ لِلتَّقَلُّلِ كَالرُّهْبَانِ أَوْ لِضَعْفِ الْمَعِدَةِ وَحِينَئِذٍ فَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَالسَّبْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ دُونَ التَّحْدِيدِ .
" الرَّابِعُ " أَنَّ هَذَا تَحْضِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ الْإِيمَانِ ؛ وَتَنْفِيرٌ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الْكُفَّارِ ؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَنْفِرُ مِنْ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الْكُفَّارِ وَهَذَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى - { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } الْخَامِسُ " أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُسَمِّي اللَّهَ - تَعَالَى - عِنْدَ طَعَامِهِ فَلَا يُشْرِكُهُ الشَّيْطَانُ فِيهِ فَيَقِلُّ أَكْلُهُ لِذَلِكَ وَالْكَافِرُ لَا يُسَمِّي اللَّهَ - تَعَالَى - فَيُشَارِكُهُ الشَّيْطَانُ فِيهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } السَّادِسُ " أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِ هُنَا تَامُّ الْإِيمَانِ الْمُعْرِضِ عَنْ الشَّهَوَاتِ الْمُقْتَصِرِ عَلَى سَدِّ خَلَّتِهِ وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْمُتَعَدِّي فِي طُغْيَانِهِ الْمُنْهَمِكِ عَلَى الدُّنْيَا الشَّدِيدِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْآخِرَةِ فَأُرِيدَ مُؤْمِنٌ بِوَصْفٍ مَخْصُوصٍ ، وَكَافِرٌ بِوَصْفٍ " السَّابِعُ " قَالَ النَّوَوِيُّ : الْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ

وَأَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَأْكُلُونَ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبْعَةِ مِثْلُ مَعِي الْمُؤْمِنِ .
( الرَّابِعَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْأَمْعَاءِ السَّبْعَةِ فَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الطِّبِّ وَالتَّشْرِيحِ أَنَّ أَمْعَاءَ الْإِنْسَانِ سَبْعَةٌ الْمَعِدَةُ ثُمَّ ثَلَاثَةُ أَمْعَاءٍ بَعْدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِهَا الْبَوَّابُ وَالصَّائِمُ وَالرَّقِيقُ وَهِيَ كُلُّهَا رِقَاقٌ ثُمَّ ثَلَاثَةٌ غِلَاظٌ الْأَعْوَرُ وَالْقُولُونُ وَالْمُسْتَقِيمُ وَطَرَفُهُ الدُّبُرُ ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : سَبْعَةُ أَمْعَاءٍ لِكُلِّ آدَمِيٍّ مَعِدَةٌ بَوَّابُهَا مَعَ صَائِمٍ ثُمَّ الرَّقِيقُ أَعْوَرُ قَوْلُونُ مَعَ الْمُسْتَقِيمِ مَسْلَكُ الْمَطَاعِمِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْكَافِرَ الْمَذْكُورَ وَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بَعْضَ الْكُفَّارِ أَوْ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهُمْ بِشَرَهِهِ وَجَشَعِهِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَكْلِهِ لَا يُشْبِعُهُ إلَّا مَلْءُ أَمْعَائِهِ السَّبْعَةِ كَالْأَنْعَامِ وَآكِلَةِ الْخَضِرِ ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُقْتَصِدُ فِي أَكْلِهِ يُشْبِعُهُ مِلْءُ مِعًى وَاحِدٍ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ .
قَالَ : وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ صِفَاتٌ سَبْعَةٌ : الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ وَبُعْدُ الْأَمَلِ وَالطَّمَعُ وَسُوءُ الطَّبْعِ وَالْحَسَدُ وَحُبُّ السِّمَنِ .
قَالَ : وَقِيلَ شَهَوَاتُ الطَّعَامِ عَلَى سَبْعَةٍ : شَهْوَةُ الطَّبْعِ وَشَهْوَةُ النَّفْسِ وَشَهْوَةُ الْعَيْنِ وَشَهْوَةُ الْفَمِ وَشَهْوَةُ الْأُذُنِ وَشَهْوَةُ الْأَنْفِ وَشَهْوَةُ الْجُوعِ وَهِيَ الضَّرُورِيَّةُ الَّتِي بِهَا يَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ .
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ بِجَمِيعِ شَهَوَاتِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ الزُّهْدِ فَذَكَرَ الْحَوَاسَّ الْخَمْسَ وَالْحَاجَةَ وَالشَّهْوَةَ .
( الْخَامِسَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْكَافِرِ الَّذِي أَسْلَمَ ، وَكَانَ سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ عَلَى أَقْوَالٍ "

أَحَدُهَا " أَنَّهُ جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيُّ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّازُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْهُ { أَنَّهُ قَدِمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَحَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ بِيَدِ جَلِيسِهِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِي ، وَكُنْت رَجُلًا عَظِيمًا طَوِيلًا لَا يُقَدَّمُ عَلَيَّ أَحَدٌ فَذَهَبَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ فَحَلَبَ لِي عَنْزًا فَأَتَيْت عَلَيْهَا حَتَّى حَلَبَ سَبْعَ أَعْنُزٍ فَأَتَيْت عَلَيْهَا ثُمَّ بِصَنِيعِ بُرْمَةٍ فَأَتَيْت عَلَيْهَا وَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ أَجَاعَ اللَّهُ مَنْ أَجَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَالَ مَهْ يَا أُمَّ أَيْمَنَ أَكَلَ رِزْقَهُ وَرِزْقُنَا عَلَى اللَّهِ فَأَصْبَحُوا فَغَدَوْا فَاجْتَمَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُخْبِرُ بِمَا أَتَى عَلَيْهِ فَقَالَ جَهْجَاهٌ حَلَبَ لِي سَبْعَ أَعْنُزٍ فَأَتَيْت عَلَيْهَا وَصَنِيعَ بُرْمَةٍ فَأَتَيْت عَلَيْهَا ؛ فَصَلَّوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَقَالَ لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِيَدِ جَلِيسِهِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِي ، وَكُنْت رَجُلًا عَظِيمًا طَوِيلًا لَا يُقَدَّمُ عَلَيَّ أَحَدٌ فَذَهَبَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَنْزِلِهِ فَحَلَبَ لِي عَنْزًا فَرَوِيت وَشَبِعْت فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هَذَا ضَيْفَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ أَكَلَ فِي مَعِي مُؤْمِنٍ اللَّيْلَةَ وَأَكَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَعِي كَافِرٍ ؛ الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ } .
وَذَكَرَ ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْمُبْهَمِ هُوَ جَهْجَاهٌ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَةِ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إنَّهُ لَا

يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَدَارَ حَدِيثِهِ عَلَى مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ " الثَّانِي " أَنَّهُ أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَجَزَمَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي مُبْهَمَاتِهِ " الثَّالِثُ " أَنَّهُ أَبُو غَزْوَانَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
" الرَّابِعُ " أَنَّهُ نَضْلَةُ بْنُ عُمَرَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّتِهِ { أَنَّهُ ضَافَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرٍّ فَسَقَاهُ وَشَرِبَ فَضْلَتَهُ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنْت لَأَشْرَبُ السَّبْعَةَ فَمَا أَمْتَلِئُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمُؤْمِنَ .
} الْحَدِيثَ .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُبْهَمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ انْتَهَى .
" الْخَامِسُ " أَنَّهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ .
" السَّادِسُ " أَنَّهُ بَصْرَةُ بْنُ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَحَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ كَوْنَهُ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ وَصَدَّرَ بِهِ الْمَازِرِيُّ كَلَامَهُ ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ : لَمْ أَجِدْ فِي طَرِيقِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ فَضْلُ تَقْلِيلِ الْأَكْلِ وَذَمِّ كَثْرَتِهِ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا جَاءَكُمْ الصَّانِعُ بِطَعَامِكُمْ قَدْ أَغْنَى عَنْكُمْ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَادْعُوهُ فَلْيَأْكُلْ مَعَكُمْ وَإِلَّا فَأَلْقِمُوهُ فِي يَدِهِ } لَمْ يَقُلْ الشَّيْخَانِ ( الصَّانِعُ ) وَقَالَا ( خَادِمُهُ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ { فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ } .
وَقَالَ مُسْلِمٌ { فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ } .

( الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا جَاءَكُمْ الصَّانِعُ بِطَعَامِكُمْ قَدْ أَغْنَى عَنْكُمْ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَادْعُوهُ فَلْيَأْكُلْ مَعَكُمْ ؛ وَإِلَّا فَأَلْقِمُوهُ فِي يَدِهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَإِنَّهُ وَلِي حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا صَنَعَ لِأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ ، وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ ؛ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ } زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ دَاوُد يَعْنِي لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ لُقْمَةً وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ مَعَ الْخَادِمِ الَّذِي بَاشَرَ طَبْخَ الطَّعَامِ وَذَلِكَ تَوَاضُعٌ ، وَكَرْمٌ فِي الْأَخْلَاقِ وَفِي مَعْنَى الذَّكَرِ الْأُنْثَى وَهُوَ فِي الْأُنْثَى مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ السَّيِّدُ رَجُلًا عَلَى أَنْ تَكُونَ جَارِيَتَهُ أَوْ مَحْرَمَهُ فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْلِسْهُ لِلْأَكْلِ مَعَهُ إمَّا لِقِلَّةِ الطَّعَامِ وَإِمَّا لِسَبَبٍ آخَرَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْهُ وَلَا يَحْرِمُهُ إيَّاهُ وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ يَسِيرًا كَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ إلَى ثَلَاثِ احْتِمَالَاتٍ .
" أَحَدُهَا " : أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْوِيغُ وَالْمُنَاوَلَةُ فَإِنْ أَجْلَسَهُ مَعَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ وَ "

ثَانِيهَا " أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَالَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى الْخِلَافَ فِي الْوُجُوبِ وَذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْإِجْلَاسَ أَفْضَلُ أَوْ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِيَتَنَاوَلَ الْقَدْرَ الَّذِي يَشْتَهِيهِ .
انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ بِأَمْرَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ قَدْ يَتَوَقَّفُ النَّاظِرُ فِي تَغَايُرِهِمَا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَوَّلِ التَّخْيِيرُ .
وَالثَّانِي كَذَلِكَ قَالَ : وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ فِي الْمُغَايَرَةِ بَعْدَ اتِّحَادِهِمَا فِي وُجُوبِ أَحَدِهِمَا ؛ أَنَّ الْأَوَّلَ يَقُولُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْإِجْلَاسِ وَالثَّانِي يُسَوِّي بَيْنَهُمَا .
قَالَ : الْأَمْرُ ( الثَّانِي ) أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ وَاجِبٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ هَذَا عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَوْلَاهُمَا بِمَعْنَاهُ أَنَّ إجْلَاسَهُ مَعَهُ أَفْضَلُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ أَوْ يَكُونُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُنَاوِلَهُ أَوْ يُجْلِسَهُ وَقَدْ يَكُونُ أَمْرُهُ اخْتِيَارًا غَيْرَ حَتْمٍ قَالَ فَقَدْ رَجَّحَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ فَقَالَ : إنَّهُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْحَدِيثِ ، وَمَعْنَى الِاحْتِمَالِ [ الْأَوَّلِ ] أَنَّ إجْلَاسَهُ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَجِبُ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْهُ إذْ لَوْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ لَاتَّحَدَ مَعَ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي ؛ قَالَ فَظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِ مَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ انْتَهَى كَلَامُهُ .
( الرَّابِعَةُ ) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى طَبَّاخِ الطَّعَامِ حَامِلُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ مَعًا الْإِجْلَاسِ مَعَهُ وَالْمُنَاوَلَةِ مِنْهُ عِنْدَ الْقِلَّةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ تَعَلُّقُ نَفْسِهِ بِهِ وَشَمُّهُ رَائِحَتَهُ وَإِرَاحَةُ صَاحِبِ الطَّعَامِ مِنْ

حَمْلِهِ كَمَا أَنَّ فِي الْأَوَّلِ إرَاحَتُهُ مِنْ طَبْخِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الثَّانِي أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْأَوَّلِ بَلْ قَدْ يُقَالُ بِاسْتِحْبَابِهِ فِي مُطْلَقِ الْخَادِمِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَبْوِيبُ التِّرْمِذِيِّ عَلَيْهِ ( الْأَكْلُ مَعَ الْمَمْلُوكِ ) .
( الْخَامِسَةُ ) ( الصَّانِعُ ) الَّذِي صَنَعَ الطَّعَامَ وَقَوْلُهُ " وَإِلَّا " أَيْ وَإِلَّا تَدْعُوهُ لِلْأَكْلِ مَعَكُمْ إمَّا لِلْقِلَّةِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَإِمَّا لِسَبَبٍ آخَرَ وَقَوْلُهُ ( فَأَلْقِمُوهُ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَكَسْرِ الْقَافِ ( وَالْأُكَلَةُ ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ اللُّقْمَةُ كَمَا فَسَّرَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ ( مَشْفُوهًا ) بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ أَيْ قَلِيلًا وَأَصْلُهُ الْمَاءُ الَّذِي كَثُرَتْ عَلَيْهِ الشِّفَاهُ حَتَّى قَلَّ فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ ( قَلِيلًا ) تَفْسِيرٌ لَهُ وَقِيلَ أَرَادَ فَإِنْ كَانَ مَكْثُورًا عَلَيْهِ أَيْ كَثُرَتْ أَكْلَتُهُ ، وَجَوَّزَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ( فَإِنْ أَبَى ) أَنَّ الْمُرَادَ فَإِنْ أَبَى الْخَادِمُ حَيَاءً مِنْهُ أَوْ تَأَدُّبًا قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ السَّيِّدُ بِدَلِيلِ غَيْرِهَا مِنْ الرِّوَايَاتِ .

( السَّادِسَةُ ) : فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إطْعَامُ الْمَمْلُوكِ مِنْ جِنْسٍ مَأْكُولِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأَطْعِمَةَ النَّفِيسَةَ وَيُطْعِمَ رَقِيقَهُ مِمَّا دُونَ ذَلِكَ ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِذَلِكَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ مُوَاسَاتَهُ قَالُوا وَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْعِمَ رَقِيقَهُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ الْمَمَالِيكُ فِي الْبَلَدِ ، وَكَذَا الْأُدُمُ الْغَالِبُ وَالْكِسْوَةُ الْغَالِبَةُ .
( السَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ ابْنُ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِإِكْثَارِ الْمَرَقِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ كَذَلِكَ .

وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ } وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ { قَالَ أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ } .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ ) وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأَوَّلُ ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا النَّسَائِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ، وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ { فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ شِمَالِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينِهِ } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي طُوَالَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ عَنْ أَنَسٍ وَفِيهِ { وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ } زَادَ مُسْلِمٌ { يُرِيهِ إيَّاهُ ثُمَّ اتَّفَقَا فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ قَالَ أَنَسٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فِي سُنَّةٍ } وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ بَدَلُ قَوْلِهِ .
( الْأَيْمَنُونَ ) الثَّالِثَةُ ، أَلَا فَيَمِّنُوا ، وَفِي عَزْوِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ هَذَا اللَّفْظَ وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثًا لِمُسْلِمٍ فَقَطْ نَظَرٌ فَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا فِي الْهِبَةِ مِنْ صَحِيحِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ شَوْبِ اللَّبَنِ أَيْ خَلْطِهِ بِالْمَاءِ إذَا كَانَ الْقَصْدُ اسْتِعْمَالَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ لِأَضْيَافِهِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ شَوْبُهُ بِالْمَاءِ فِيمَا إذَا أَرَادَ بَيْعَهُ ؛ لِأَنَّهُ غِشٌّ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي شَوْبِهِ أَنْ يَبْرُدَ أَوْ يَكْثُرَ أَوْ لِلْمَجْمُوعِ .
( قُلْت ) : وَقَدْ يَكُونُ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ ، وَهُوَ إزَالَةُ حَمْضِهِ أَوْ

تَخْفِيفُهُ .
( الثَّالِثَةُ ) لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ جَاءَنَا فِي مَسْجِدِنَا بِقُبَاءَ فَجِئْت وَأَنَا غُلَامٌ حَدَثٌ حَتَّى جَلَسْت عَنْ يَمِينِهِ وَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ قَالَ ثُمَّ دَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ وَنَاوَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ } وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبْهَمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ ؛ لِكَوْنِهِ أَنْصَارِيًّا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَا يُقَالُ لَهُ أَعْرَابِيٌّ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ سُكَّانُ الْبَوَادِي فَهِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى مَجْلِسِ الْعَالِمِ أَوْ الْكَبِيرِ وَجَلَسَ فِي مَكَانٍ عَالٍ لَا يُنَحَّى عَنْهُ لِمَجِيءِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَيَجْلِسُ ذَلِكَ الْجَائِي حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ وَلَوْ كَانَ دُونَ مَجْلِسِ مَنْ هُوَ دُونَهُ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ الْبُدَاءَةُ فِي الشُّرْبِ وَنَحْوِهِ بِمَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِ الْكَبِيرِ وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ هُوَ عَلَى يَسَارِهِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ إلَى وُجُوبِهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ مُنَاوَلَةُ غَيْرِ الْأَيْمَنِ إلَّا بِإِذْنِ الْأَيْمَنِ قَالَ : وَمَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُنَاوِلَ أَحَدًا فَلَهُ ذَلِكَ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَحَقُّ الْأَيْمَنُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ وَوَجْهُ النَّصْبِ وَهُوَ أَشْهَرُ إضْمَارُ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ أَعْطِ الْأَيْمَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ .

( السَّابِعَةُ ) بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ أَنَّ هَذَا سُنَّةُ الشُّرْبِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ وَأَنَّ تَقْدِيمَ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِيهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَهُوَ فَضْلُهَا عَلَى جِهَةِ الْيَسَارِ وَفِي ذَلِكَ تَطْيِيبٌ لِخَاطِرِ مَنْ هُوَ عَلَى الْيَسَارِ بِإِعْلَامِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَرْجِيحًا لِمَنْ هُوَ عَلَى الْيَمِينِ بَلْ هُوَ تَرْجِيحٌ لِجِهَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) الْحَدِيثُ فِي الشُّرْبِ وَلَا يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِهِ بَلْ الْأَكْلُ وَنَحْوُهُ كَذَلِكَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْأَيْمَنِ إذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالشَّرَابِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ مَالِكٍ ، وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ غَيْرَهُ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ فِي الشُّرْبِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ فِي غَيْرِهِ بِالْقِيَاسِ لَا بِسُنَّةٍ مَنْصُوصَةٍ فِيهِ ؛ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَكَيْفَ كَانَ فَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ فِي الشَّرَابِ وَأَشْبَاهِهِ .
( التَّاسِعَةُ ) إنْ قُلْت هَلْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْأَعْرَابِيِّ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ ؟ ( قُلْت ) لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ عَلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ وَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَالِسًا تُجَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ عَلَى يَمِينِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى يَمِينِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ آثَرَ أَبَا بَكْرٍ بِنَصِيبِهِ مِنْ التَّقْدِيمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .

( الْعَاشِرَةُ ) ( إنْ قُلْتَ ) : كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَقَى قَالَ ابْدَءُوا بِالْكُبَرَاءِ أَوْ قَالَ بِالْأَكَابِرِ } ( قُلْت ) هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَمِينِهِ أَحَدٌ بَلْ كَانَ الْقَوْمُ جَالِسِينَ مُتَفَرِّقِينَ إمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ وَرَاءَهُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ فَإِنْ كَانُوا كُلَّهُمْ أَمَامَهُ أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ فَلْيُنَاوِلْ الْأَكْبَرَ فَالْأَكْبَرَ وَلَا بُدَّ : لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ ، وَمُحَيِّصَةَ { كَبِّرْ الْكُبْرَ } قَالَ فَهَذَا عُمُومٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ نَصٌّ صَرِيحٌ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ مُنَاوَلَةِ الشَّرَابِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِ قِصَّةِ حُوَيِّصَةَ ، وَمُحَيِّصَةَ لِكَوْنِهِ وَارِدًا فِي السَّقْيِ وَذَاكَ فِي أَنَّ الْأَكْبَرَ يَتَوَلَّى الْبُدَاءَةَ فِي الْكَلَامِ انْتَهَى .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَفَاضِلِ وَالْكِبَارِ فَهُوَ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَافِ وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ وَالْأَقْرَأُ عَلَى الْأَسَنِّ النَّسِيبِ فِي الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) ( إنْ قُلْت كَيْفَ تَقَدَّمَ عُمَرُ بِالْكَلَامِ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ ؟ ) ( قُلْت ) لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ وَالْجَزْمِ وَإِنَّمَا قَالَهُ تَذْكِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَوَازِ اشْتِغَالِهِ عَنْهُ ، وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ لَهُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ { يُرِيهِ إيَّاهُ } أَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ إعْلَامَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ بِجَلَالَةِ أَبِي بَكْرٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) ( إنْ قُلْتَ ) : قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْأَيْمَنَ أَحَقُّ وَلَهُ أَنْ يُؤْثِرَ بِأَحَقِّيَّتِهِ فَلِمَ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فَعَلَ فِي قَضِيَّةِ ابْنِ عَبَّاسٍ { حَيْثُ كَانَ عَلَى يَمِينِهِ ، وَكَانَ عَلَى يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَاسْتَأْذَنَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ فَامْتَنَعَ مِنْ الْإِيثَارِ } فَهَلَّا اسْتَأْذَنَ الْأَعْرَابِيَّ كَمَا اسْتَأْذَنَ ابْنَ عَبَّاسٍ ؟ ( قُلْت ) الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) قَالَ النَّوَوِيُّ قِيلَ إنَّمَا اسْتَأْذَنَ الْغُلَامَ دُونَ الْأَعْرَابِيِّ إدْلَالًا عَلَى الْغُلَامِ ، وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَثِقَةً بِطِيبِ نَفْسِهِ بِأَصْلِ الِاسْتِئْذَانِ لَا سِيَّمَا وَالْأَشْيَاخُ أَقَارِبُهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { عَمُّك وَابْنُ عَمِّك أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ } .
( ثَانِيهَا ) أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِ الْأَشْيَاخِ فَإِنَّ مِنْهُمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ مَعَ رِيَاسَتِهِ فِي قَوْمِهِ وَشَرَفِ نَسَبِهِ فَأَرَادَ تَأْلِيفَهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَإِنَّهُ مُطْمَئِنُّ الْخَاطِرِ رَاضٍ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَغَيَّرُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى بَعْضِ هَذَا النَّوَوِيُّ فَقَالَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ وَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا تَأَلُّفًا لِقُلُوبِ الْأَشْيَاخِ وَإِعْلَامًا بِوُدِّهِمْ وَإِيثَارِ كَرَامَتِهِمْ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا سُنَّةٌ .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ قَدْ يَكُونُ فِي خُلُقِهِ جَفَاءٌ وَنُفْرَةٌ كَمَا يَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى الْأَعْرَابِ فَخَشِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اسْتِئْذَانِهِ أَنْ يَتَوَهَّمَ إرَادَةَ صَرْفِهِ إلَى أَصْحَابِهِ وَرُبَّمَا سَبَقَ إلَى قَلْبِهِ شَيْءٌ هَلَكَ بِهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ ، وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي مَعْرِفَةِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،

وَقَدْ تَظَاهَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى تَأَلُّفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَلْبَ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ وَلِهَذَا جَلَسَ عَلَى يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

كِتَابُ الصَّيْدِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } ، وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِي نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ } .

( كِتَابُ الصَّيْدِ ) .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } ، وَعَنْ نَافِعٍ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِي نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَزَادَ فِيهِ مُسْلِمٌ قَالَ سَالِمٌ ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ { أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ } ، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ بِلَفْظِ { نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ } ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَرْبَعَتِهِمْ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ { مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ } وَأَبُو الْحَكَمِ هُوَ عِمْرَانُ بْنُ الْحَارِثِ السُّلَمِيُّ ذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ الْبَجَلِيُّ وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ إذَا كَانَ بِإِحْدَى صِفَتَيْنِ ( إحْدَاهُمَا ) أَنْ يَكُونَ كَلْبَ صَيْدٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالضَّارِي الْمَذْكُورِ فِي

الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
( الثَّانِيَةُ ) أَنْ يَكُونَ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَيْ مُعَدٍّ لِحِفْظِهَا وَجَمْعُ الْمَاشِيَةِ مَوَاشٍ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ أَوْ الْغَنَمُ وَالْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْغَنَمِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( غَنَمٌ ) بَدَلُ مَاشِيَةٍ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ { أَنَّهُ رَخَّصَ فِي إمْسَاكِ الْكَلْبِ وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، اقْتِنَاؤُهُ لِخَصْلَةٍ ثَالِثَةٍ وَهُوَ حِفْظُ الزَّرْعِ وَالْبَسَاتِينِ وَنَحْوِهَا .
وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُهُ سَالِمٌ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ سَالِمٍ ، وَكَانَ أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ صَاحِبَ حَرْثٍ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ أَبُوهُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : قَالَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ هَذَا تَوْهِينًا لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا شَكًّا فِيهَا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَحَرْثٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَهُ وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِشَيْءٍ يُتْقِنُهُ مَا لَا يُتْقِنُهُ غَيْرُهُ وَيَتَعَرَّفُ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا لَا يَتَعَرَّفُهُ غَيْرُهُ .
وَتَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ذِكْرُ الزَّرْعِ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَحَقَّقَهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَادَهَا فِي حَدِيثِهِ الَّذِي كَانَ يَرْوِيهِ بِدُونِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَذَكَّرَ فِي وَقْتٍ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَاهَا وَنَسِيَهَا فِي وَقْتٍ فَتَرَكَهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَيْسَ مُنْفَرِدًا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ بَلْ وَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي

رِوَايَتِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ انْفَرَدَ بِهَا لَكَانَتْ مَقْبُولَةً مُرْضِيَّةً مُكَرَّمَةً انْتَهَى .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ : يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الِاصْطِيَادُ بِهِ وَحِفْظُ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ وَاخْتَلَفُوا فِي اقْتِنَائِهِ لِخَصْلَةٍ رَابِعَةٍ وَهِيَ اقْتِنَاؤُهُ لِحِفْظِ الدُّورِ وَالدُّرُوبِ وَنَحْوِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مُصَرِّحٌ بِالنَّهْيِ إلَّا لِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ : يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الثَّلَاثَةِ عَمَلًا بِالْعِلَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ الْحَدِيثِ وَهِيَ الْحَاجَةُ .

( الثَّالِثَةُ ) لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ كَلْبٍ لِيَصْطَادَ بِهِ إذَا أَرَادَ ، وَلَا يَصْطَادُ بِهِ فِي الْحَالِ أَوْ لِيَحْفَظَ الزَّرْعَ أَوْ الْمَاشِيَةَ إذَا صَارَ لَهُ ذَلِكَ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ فَإِنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ يَصْطَدْ بِهِ فِي الْحَالِ .

( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الِاصْطِيَادُ بِهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا بَعْدُ ؛ لِأَنَّهُ صَدَقَ أَنَّهُ اقْتَنَى كَلْبَ صَيْدٍ ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ تَحْرِيمُهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْقَطْعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ اقْتَنَاهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ الْكِلَابِ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ إلَّا كَلْبًا يَصْطَادُ بِهِ .

( الْخَامِسَةُ ) فَلَوْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُحْسِنُ الصَّيْدَ لَكِنْ يَقْصِدُ تَعْلِيمَهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جَازَ وَإِنْ كَانَ جَرْوًا يُرَبَّى ثُمَّ يُعَلَّمُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا : الْجَوَازُ أَيْضًا وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلْبُ صَيْدٍ فِي الْمَآلِ وَلَوْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ اتِّخَاذُ كِلَابِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى تَعْلِيمُهَا إلَّا مَعَ اقْتِنَائِهَا .

( السَّادِسَةُ ) : اسْتَثْنَى ابْنُ حَزْمٍ مِنْ جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَنَحْوِهِ مَا إذَا كَانَ أَسْوَدَ بَهِيمًا أَوْ ذَا نُقْطَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ فَلَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ وَلَا تَعْلِيمُهُ وَلَا الِاصْطِيَادُ بِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي حِلِّ قَتْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كَرَاهَةَ صَيْدِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ قَالَ أَحْمَدُ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي أَكْلِ مَا قَتَلَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ مِنْ الصَّيْدِ انْتَهَى ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ .

( السَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِغَيْرِ الْمَنَافِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا قَتْلُهَا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْقَتْلِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ .
وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْأَجْرِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَعْصِيَةٍ ارْتَكَبَهَا وَحَكَى الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازَهُ وَاقْتَصَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى الْكَرَاهَةِ ثُمَّ قَالَ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَهَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا اتِّخَاذُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ نَقَصَ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ ، وَلَيْسَ هَذَا سَبِيلَ النَّهْيِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ انْتَهَى .
وَهُوَ عَجِيبٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِدْلَالَنَا عَلَى التَّحْرِيمِ بِالنُّقْصَانِ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ أَحْبَطَ ثَوَابَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ كَمَا كَانَ عَدَمُ قَبُولِ صَلَاةِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَآتِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا هُوَ الَّذِي أَحْبَطَ ثَوَابَهَا بِخِلَافِ عَدَمِ قَبُولِ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِاقْتِرَانِ مَعْصِيَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ شَرْطٍ وَهُوَ الطَّهَارَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مِنْ أَجْرِهِ وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْ عَمَلِهِ وَالتَّقْدِيرُ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قِيرَاطَانِ ، وَفِي بَعْضِهَا قِيرَاطٌ وَالْقِيرَاطُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْمُرَادُ نَقْصُ جُزْءٍ مِنْ عَمَلِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي الْقِيرَاطِ وَالْقِيرَاطَيْنِ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي

نَوْعَيْنِ مِنْ الْكِلَابِ أَحَدُهُمَا أَشَدُّ أَذًى مِنْ الْآخَرِ أَوْ لِمَعْنًى فِيهِمَا .
( الثَّانِي ) أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ فَيَكُونُ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِزِيَادَةِ فَضْلِهَا وَالْقِيرَاطُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَدَائِنِ أَوْ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدَائِنِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْقُرَى وَالْقِيرَاطُ فِي الْبَوَادِي .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ ذَكَرَ الْقِيرَاطَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ التَّغْلِيظَ فَذَكَرَ الْقِيرَاطَيْنِ لَمَّا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ اتِّخَاذِهَا .
ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْبَحْرِ : اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَقِيلَ يَنْقُصُ مِمَّا مَضَى مِنْ عَمَلِهِ وَقِيلَ مِنْ مُسْتَقْبَلِهِ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ نَقْصِ الْقِيرَاطَيْنِ فَقِيلَ يَنْقُصُ قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ وَقِيلَ قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ .

( الْعَاشِرَةُ ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ نُقْصَانِ الْأَجْرِ بِاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ ذَلِكَ لِمَا يَلْحَقُ الْمَارِّينَ مِنْ الْأَذَى مِنْ تَرْوِيعِ الْكَلْبِ لَهُمْ وَقَصْدِهِ إيَّاهُمْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ .
( ثَانِيهَا ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مَحْمُولٌ عِنْدِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُتَعَبَّدَ بِهَا فِي الْكِلَابِ مِنْ غَسْلِ الْإِنَاءِ سَبْعًا إذَا وَلَغَتْ فِيهِ لَا يَكَادُ يُقَامُ بِهِ وَلَا يَكَادُ يُتَحَفَّظُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مُتَّخِذَهَا لَا يَسْلَمُ مِنْ وُلُوغِهَا فِي إنَائِهِ وَلَا يَكَادُ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ فِي الْغَسَلَاتِ مِنْ ذَلِكَ الْوُلُوغِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالْعِصْيَانُ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْصًا فِي أَجْرِهِ يُدْخِلُ السَّيِّئَاتِ عَلَيْهِ .
( ثَالِثُهَا ) ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ .
( رَابِعُهَا ) : ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِذَهَابِ أَجْرِهِ فِي إحْسَانِهِ إلَى الْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِحْسَانِ إلَى كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا لَكِنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْكَلْبِ يَنْقُص الْأَجْرُ فِيهِ أَوْ يُتْلِفُهُ مَا يَلْحَقُ مُقْتَنِيهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ بِتَرْكِ أَدَائِهِ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ وُلُوغِهِ وَالتَّهَاوُنِ بِالْغَسَلَاتِ مِنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِثْلُ تَرْوِيعِ الْمُسْلِمِ وَشِبْهِهِ انْتَهَى .
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يُبْطِلُ أَجْرَهُ مِنْ عَمَلِهِ هُوَ الْإِحْسَانُ إلَى الْكَلْبِ دُونَ بَقِيَّةِ حَسَنَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( خَامِسُهَا ) أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُ لِاِتِّخَاذِهِ مَا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهِ ، وَعِصْيَانِهِ بِذَلِكَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { أَوْ ضَارِي } كَذَا هُوَ بِالْيَاءِ فِي أَصْلِنَا ، وَكَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ مُعْظَمِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ فِي بَعْضِهَا ضَارِيَا بِالْأَلِفِ بَعْدَ

الْيَاءِ مَنْصُوبًا ( قُلْت ) : وَهُوَ الَّذِي فِي أَصْلِنَا مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ رَوَى ضَارِي بِالْيَاءِ وَضَارٍ بِحَذْفِهَا وَضَارِيَا فَالْأَوَّلُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَاشِيَتِهِ ، وَيَكُونُ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ كَمَاءِ الْبَارِدِ ، وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } وَ ( كَدَارِ الْآخِرَةِ ) وَيَكُونُ ثُبُوتُ الْيَاءِ فِي ضَارِي عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ فِي إثْبَاتِهَا فِي الْمَنْقُوصِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ وَلَامٍ ، وَالْمَشْهُورُ حَذْفُهَا وَقِيلَ إنَّ لَفْظَةَ ضَارٍ هُنَا لِلرَّجُلِ الصَّائِدِ صَاحِبِ الْكِلَابِ الْمُعْتَادِ لِلصَّيْدِ فَسَمَّاهُ ضَارِيًا اسْتِعَارَةً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ صَائِدٍ وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ { إلَّا كَلْبَ ضَارِيَةٍ } .
وَتَقْدِيرُهُ إلَّا كَلْبَ ذِي كِلَابٍ ضَارِيَةٍ وَالضَّارِي هُوَ الْمُعَلَّمُ لِلصَّيْدِ الْمُعْتَادِ لَهُ يُقَالُ مِنْهُ ضَرَى الْكَلْبُ يَضْرِي كَشَرِبَ يَشْرَبُ ضَرًا وَضَرَاوَةً وَأَضْرَاهُ صَاحِبُهُ أَيْ عَوَّدَهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ ضَرَّى بِالصَّيْدِ إذَا لَهِجَ بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ لِلَّحْمِ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ .

وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ } زَادَ مُسْلِمٌ { إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَفِيهِ ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا } وَقَالَ { عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ { أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ ، وَكَلْبِ الْغَنَمِ } زَادَ فِي رِوَايَةٍ { وَالزَّرْعِ } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِزِيَادَةٍ { فَأَرْسَلَ فِي أَقْطَارِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُقْتَلَ } ، وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بِزِيَادَةٍ { فَتَتَبَّعْت فِي الْمَدِينَةِ وَأَطْرَافِهَا فَلَا نَدَعُ كَلْبًا إلَّا قَتَلْنَاهُ حَتَّى إنَّا لَنَقْتُلُ كَلْبَ الْمُرِّيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَتْبَعُهَا كُلُّهُمْ } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنَّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ زَرْعًا } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَوْلَهُ { أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسَائِيّ قِصَّةَ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( أَحَدُهَا ) : الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْكَلْبُ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَتْلِهِ .
( الثَّانِي ) مَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ لِلْمَنَافِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ قَتْلِهِ .
وَ ( الثَّالِثُ ) مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) قَتْلُهَا مُطْلَقًا تَمَسُّكًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَدْ عَمِلَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عُمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً مَعْمُولًا بِهَا عِنْدَ الْخُلَفَاءِ لَمْ يَنْسَخْهَا عِنْدَ مَنْ عَمِلَ بِهَا

خَبَرٌ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) الْمَنْعُ مِنْ قَتْلِهَا وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إبَاحَةُ اتِّخَاذِهَا لِمَنَافِعَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ ، وَكَلْبِ الْغَنَمِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ } وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْبَيْعِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَزَادَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا .
قَالَ : وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُ شَيْءٍ مِنْهَا الْيَوْمَ لَا الْأَسْوَدِ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا الْكَلْبَ الْعَقُورَ لَكِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْحَجِّ : إنَّ قَتْلَهَا مَكْرُوهٌ ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مُرَادَهُ كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْغَصْبِ وَالنَّوَوِيُّ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَرَمَةٍ وَزَعَمَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ قَتْلِهَا فَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِهَا .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّهَا مَمْنُوعٌ مِنْ قَتْلِهَا إلَّا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا كَمَا سَيَأْتِي حِكَايَةُ كَلَامِهِ فِي الْفَائِدَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدُمُ مِنْ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا ، وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } وَقِيلَ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ

شَيْطَانًا أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ الْمَنَافِعِ قَرِيبٌ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَالْأَذَى .
( الثَّالِثَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِهِ عَامًّا أَوْ مَخْصُوصًا بِمَا عَدَا الْمُنْتَفَعَ بِهِ لِلصَّيْدِ وَنَحْوِهِ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ : عِنْدِي أَنَّ النَّهْيَ أَوَّلًا كَانَ عَامًّا عَنْ اقْتِنَاءِ جَمِيعِهَا وَأَمَرَ بِقَتْلِ جَمِيعِهَا ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِ مَا سِوَى الْأَسْوَدِ ، وَمَنَعَ الِاقْتِنَاءَ فِي جَمِيعِهَا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي هُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ ، وَيَكُونُ حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ مَخْصُوصًا بِمَا عَدَا الْأَسْوَدَ ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ فَيُخَصُّ مِنْهُ الْأَسْوَدُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ { أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ أَوْ مَاشِيَةٍ } فِيهِ تَكْرَارٌ ، وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ أَعَمُّ مِنْ الْغَنَمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْغَنَمِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ التِّرْمِذِيَّ وَالنَّسَائِيُّ اقْتَصَرَا فِي رِوَايَتِهِمَا عَلَى الْمَاشِيَةِ .

( الْخَامِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا ؛ لِأَنَّ مُبَاحَ الْأَكْلِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ .

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَا حَبَسَك ؟ قَالَ إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ } انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ { أَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَزَادَ فِي آخِرِهِ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مَا حَبَسَك ؟ قَالَ إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ } انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ مَيْمُونَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَك مُنْذُ الْيَوْمَ فَقَالَ إنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِي أُمَّ وَاَللَّهِ مَا أَخْلَفَنِي ، فَظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ ؛ فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ قَدْ كُنْتَ وَعَدْتنِي أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ قَالَ أَجَلْ وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى إنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ } وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ احْتِبَاسَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعَ مَوْعِدٍ وَعَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ هَذَا سَبَبُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَرَوَيْت هَذِهِ الْقِصَّةَ بِنَحْوِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ .
( الثَّانِيَةُ ) حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ خِلَافًا فِي أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ كَلْبٌ خَاصٌّ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَوْ عَامٌّ لِجَمِيعِهِمْ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ جَمْعُ الضَّمِيرِ فِي

قَوْلِهِ إنَّا لِلتَّعْظِيمِ ، وَعَلَى الثَّانِي لِلْمُشَارَكَةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ ، هُمْ مَلَائِكَةٌ يَطُوفُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّنْزِيلِ وَالِاسْتِغْفَارِ .
وَأَمَّا الْحَفَظَةُ فَيَدْخُلُونَ فِي كُلِّ بَيْتٍ وَلَا يُفَارِقُونَ بَنِي آدَمَ فِي حَالٍ ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ ، وَكِتَابَتِهَا .

( الثَّالِثَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ : سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِ النَّجَاسَاتِ ؛ وَلِأَنَّ بَعْضَهَا يُسَمَّى شَيْطَانًا كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّ الشَّيَاطِينِ ؛ وَلِقُبْحِ رَائِحَةِ الْكَلْبِ وَالْمَلَائِكَةُ تَكْرَهُ الرَّائِحَةَ الْقَبِيحَةَ ؛ وَلِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِهَا فَعُوقِبَ مُتَّخِذُهَا بِحِرْمَانِهِ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ بَيْتَهُ وَصَلَاتَهَا فِيهِ وَاسْتِغْفَارَهَا لَهُ وَتَبْرِيكَهَا عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَدَفْعَهَا أَذَى الشَّيْطَانِ .

( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّمَا لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ مِمَّا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنْ الْكِلَابِ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْمَلَائِكَةِ بِسَبَبِهِ .
وَأَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ وَأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الْجَمِيعِ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ : وَلِأَنَّ الْجَرْوَ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ السَّرِيرِ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، وَمَعَ هَذَا امْتَنَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ ، وَعَلَّلَ بِالْجَرْوِ فَلَوْ كَانَ الْعُذْرُ فِي وُجُودِ الْكَلْبِ لَا يَمْنَعُهُمْ لَمْ يَمْتَنِعْ جِبْرِيلُ انْتَهَى .
وَفِيمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَظَرٌ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مِمَّا نَقَلَ هُوَ عَنْ الْعُلَمَاءِ التَّعْلِيلَ بِهِ أَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِهَا ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ الْجَرْوِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِي اتِّخَاذِهِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ أَسْقَطَ الْإِثْمَ فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ لِلْغَفْلَةِ عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دُخُولِهِمْ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي اتِّخَاذِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَى أَصْحَابِ الْبَيْتِ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ .
امْتِنَاعُهُمْ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ ؛ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ مَعَ الْإِذْنِ ، وَمَا جَاءَ نُقْصَانُ أَجْرِ الْعَمَلِ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْإِذْنِ فِي الِاتِّخَاذِ فَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ النَّذْرِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرْتُهُ لَهُ وَلَكِنْ يُلْفِيهِ النَّذْرُ قَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ آتَانِي مِنْ قَبْلُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { لَا تُنْذِرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنْ الْقَدَرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } .

( بَابُ النَّذْرِ ) .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ وَلَكِنْ يُلْفِيهِ النَّذْرُ قَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ ؛ يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ آتَانِي مِنْ قَبْلُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ؛ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا تُنْذِرُوا فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنْ الْقَدَرِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إيَّاكُمْ وَالنَّذْرَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنْعِمُ نِعْمَةً عَلَى الرَّشَا وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } .
( الثَّانِيَةُ ) : النَّذْرُ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَحَكَى الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ ضَمَّ النُّونِ أَيْضًا وَهُوَ غَرِيبٌ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَلَلِ النُّسْخَةِ قَالَ وَهُوَ مَا يَنْذِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَيْ يُوجِبُهُ وَيُلْزِمُهُ مِنْ طَاعَةٍ لِسَبَبٍ يُوجِبُهُ لَا تَبَرُّعًا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ نَذَرْتُ أَنْذِرُ وَأَنْذِرُ نَذْرًا إذَا أَوْجَبْتَ عَلَى نَفْسِك تَبَرُّعًا مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّذْرَ لُغَةً الْوَعْدُ بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَشَرْعًا

الْوَعْدُ بِخَيْرٍ ؛ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَا يَخْفَى أَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامُ شَيْءٍ وَأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ ، وَقَدْ لَا يَصِحُّ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ } بِنَصْبِ ابْنِ آدَمَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ وَرَفْعِ النَّذْرِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ غَيْرِ مُقَدَّرٍ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا مَا قُدِّرَ فَلَا يَظُنُّ النَّاذِرُ الَّذِي يُعَلِّقُ طَاعَةً عَلَى حُصُولِ غَرَضٍ لَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضَتِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا ، وَكَذَا أَنَّ النَّذْرَ هُوَ الَّذِي حَصَّلَ شِفَاءَ مَرِيضِهِ ، بَلْ إنْ قُدِّرَ الشِّفَاءُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهِ سَوَاءٌ نَذَرَ أَمْ لَمْ يَنْذِرْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ فَلَا يَحْصُلُ نَذَرَ أَمْ لَمْ يَنْذِرْ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ جَدْوَى النَّذْرِ .
وَالْقَصْدُ مِنْهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ جَاهِلٍ يَظُنُّ خِلَافَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ يُلْفِيهِ النَّذْرُ قَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ كَذَا ضَبَطْنَاهُ عَنْ شَيْخِنَا وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرِهِ بِالْفَاءِ مِنْ أَلْفَاهُ بِمَعْنَى وَجَدَهُ وَلَقِيَهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي بِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ فَأَكَّدَهُ بِأَنَّ النَّذْرَ يَجِدُ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُقَدَّرًا فَيَقَعُ عَلَى وَفْقِ التَّقْدِيرِ لَا لِأَجْلِ النَّذْرِ .
وَالْمُرَادُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ يَقَعُ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَهِيَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ وَضَبَطْنَاهُ فِي أَصْلِنَا مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ بِالْقَافِ فِي قَوْلِهِ يُلْقِيهِ وَ ( الْقَدَرُ ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ، وَمَعْنَاهُ إنْ صَحَّ أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ الَّذِي يُلْقِي ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ ، وَيُوجِدُهُ لَا النَّذْرُ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُ فِي اللَّفْظِ وَيَدُلُّ لِهَذَا الضَّبْطِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إلَى الْقَدَرِ قَدْ

قُدِّرَ لَهُ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُلْقِيهِ إلَى الْقَدَرِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِمَا يُوَافِقُ مَا قَدَّرْتُهُ فِي مَعْنَى الثَّانِيَةِ فَقَالَ ( بَابُ إلْقَاءِ الْعَبْدِ النَّذْرَ إلَى الْقَدَرِ ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ضَبْطِ يُلْقِيهِ بِالْقَافِ وَلَكِنْ لَا تَظْهَرُ مُطَابَقَةُ التَّبْوِيبِ لِلْحَدِيثِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصْبِ الْقَدَرِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَيْ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ الْقَدَرَ أَيْ إلَى الْقَدَرِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَنَصَبَ مَا بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَسُّعِ ، وَهَذَا مَسْمُوعٌ فِي أَلْفَاظٍ مُقْتَصَرٌ فِيهِ عَلَى الْمَسْمُوعِ ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْهُ وَلَمْ يَقَعْ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِلْكَلَامِ عَلَيْهِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - .
وَقَوْلُهُ { يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ } قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَذِهِ الْقُرْبَةِ تَطَوُّعًا مَحْضًا مُبْتَدِئًا وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا فِي مُقَابَلَةِ شِفَاءِ الْمَرِيضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُعَلِّقُ النَّذْرَ عَلَيْهِ انْتَهَى .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيُّ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ هُنَا النُّذُورُ الْمَالِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْبُخْلَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ { الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ } ، وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { أَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ } انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ { يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ آتَانِي مِنْ قَبْلُ } مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْتِي اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَتَاهُ مِنْ قَبْلِ تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَمِّ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْقُرْبَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ مَطْلُوبُهُ أَمْ لَا ؛ فَهَذِهِ هِيَ

الْعِبَادَةُ الْخَالِصَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَصْلِنَا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَنْقُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ حِكَايَةٍ لَهُ عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ ؛ لِقَوْلِهِ { قَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ } وَقَوْلُهُ { يُؤْتِينِي عَلَيْهِ } وَلِهَذَا كَانَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَعَلَّهُ ( قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - ) وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ فَهِيَ وَاضِحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إسْنَادُ ضَمِيرٍ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَمِّ النَّذْرِ وَأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ بِخَيْلٍ لَا يُعْطِي الشَّيْءَ تَبَرُّعًا ، وَإِنَّمَا يُعْطِي شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ لَكِنْ سِيَاقُهُ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ وَهُوَ أَنْ يَلْتَزِمَ قُرْبَةً فِي مُقَابَلَةِ حُدُوثِ نِعْمَةٍ أَوْ انْدِفَاعِ بَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْأَوْصَافُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلذَّمِّ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ أَمَّا النَّذْرُ الْمُلْتَزَمُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَى شَيْءٍ كَقَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ أَوْ أُعْتِقَ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَقْتَضِي الْحَدِيثُ ذَمَّهُ وَلَا النَّهْيَ عَنْهُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا يَرَوْنَ أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ نَذْرُ الْمُجَازَاةِ آكَدُ مِنْ الثَّانِي فَإِنَّهُمْ يَجْزِمُونَ بِصِحَّةِ الْأَوَّلِ وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَلَهُمْ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِالثَّانِي خِلَافٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ لُزُومُ الْوَفَاءِ بِهِ أَيْضًا ، وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا الْقِسْمَ الثَّانِيَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْبَخِيلَ لَا يَأْتِي بِالطَّاعَةِ إلَّا إذَا اتَّصَفَتْ بِالْوُجُوبِ فَيَكُونُ النَّذْرُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ فِعْلَ

الطَّاعَةِ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْوُجُوبُ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَيَكُونُ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ مِمَّا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْقُشَيْرِيُّ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ : وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ .
( السَّادِسَةُ ) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّذْرِ } وَلَمْ يَذْكُرْ لِأَصْحَابِنَا مَنْقُولًا يُوَافِقُهُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ فِي ذَلِكَ عَلَى نَقْلٍ ، وَجَزَمَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِكَرَاهَةِ النَّذْرِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ حَكَى عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ كَرِهُوا النَّذْرَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِي النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ نَذَرَ الرَّجُلُ الطَّاعَةَ فَوَفَّى بِهِ فَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَيُكْرَهُ لَهُ النَّذْرُ .
انْتَهَى .
فَلَمْ يَنْقُلْ فِي ذَلِكَ كَلَامًا عَنْ أَصْحَابِنَا وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى فِي سُنَنِ حَرْمَلَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْهُ ( قُلْت ) وَقَدْ قَرَّرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ ، وَعَلِمَهُ مِنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَقَائِلٌ بِهِ .
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ النَّذْرِ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ وَجَزَمَ بِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ وَقَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا أَنْذِرُ نَذْرًا أَبَدًا .
وَاخْتَارَ ابْنُ أَبِي

الدَّمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ هَذَا قَدْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ مَخْصُوصٌ ، وَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَخِلَافِ الْأَوْلَى يَقُولُ : إنَّ الْمَكْرُوهَ مَا فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ وَخِلَافُ الْأَوْلَى مَا لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ عُمُومٍ ، فَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّ النَّذْرَ مُسْتَحَبٌّ جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فَقَالُوا إنَّهُ قُرْبَةٌ ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ حِينَ ذَكَرَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنَّذْرِ عَامِدًا فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا قَالَ ؛ لِأَنَّهُ مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَأَشْبَهَ الدُّعَاءَ .
وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ : وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ فَلَا يُسْتَحَبُّ وَالنَّذْرُ الْمُبْتَدَأُ فَيُسْتَحَبُّ جَزَمَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ فِي الْوَكَالَةِ فَقَالَ : أَمَّا كَوْنُهُ قُرْبَةً فَلَا شَكَّ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا فَلَا نَقُولُ إنَّهُ قُرْبَةٌ بَلْ قَدْ يُقَالُ بِالْكَرَاهَةِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : وَفِي كَرَاهَةِ النَّذْرِ إشْكَالٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ تَقْتَضِي أَنَّ وَسِيلَةَ الطَّاعَةِ طَاعَةٌ وَوَسِيلَةَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ ، وَيَعْظُمُ قُبْحُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ ، وَكَذَلِكَ تَعْظُمُ فَضِيلَةُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ ، وَلَمَّا كَانَ وَسِيلَةً إلَى الْتِزَامِ قُرْبَةٍ لَزِمَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ ، وَاتِّبَاعُ الْمَنْصُوصِ أَوْلَى انْتَهَى .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا بَابٌ غَرِيبٌ مِنْ الْعِلْمِ وَهُوَ أَنْ يُنْهَى عَنْ الشَّيْءِ أَنْ يُفْعَلَ حَتَّى إذَا فُعِلَ وَقَعَ وَاجِبًا .
السَّابِعَةُ ) أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ النَّذْرِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِهِ

وَتَحْذِيرٌ عَنْ التَّهَاوُنِ بِهِ بَعْدَ إيجَابِهِ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الزَّجْرَ عَنْهُ حَتَّى لَا يُفْعَلَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إبْطَالُ حُكْمِهِ وَإِسْقَاطُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ إذْ كَانَ بِالنَّهْيِ يَصِيرُ مَعْصِيَةً فَلَا يَلْزَمُ .
قَالَ : وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُرُّ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ نَفْعًا وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُمْ ضَرًّا وَلَا يَرُدُّ قَضَاءً فَقَالَ لَا تَنْذِرُوا عَلَى أَنَّكُمْ تُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ أَوْ تَصْرِفُونَ بِهِ عَنْكُمْ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ عَلَيْكُمْ فَإِذَا نَذَرْتُمْ وَلَمْ تَعْتَقِدُوا هَذَا فَأَخْرَجُوا عَنْهُ بِالْوَفَاءِ فَإِنَّ الَّذِي نَذَرْتُمُوهُ لَازِمٌ لَكُمْ .
( ثَانِيهَا ) مَا أَجَابَ بِهِ الْمَازِرِيُّ فَقَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ النَّذْرِ كَوْنَ النَّاذِرِ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا بِهِ فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاطٍ .
قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ كَوْنَهُ يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي الْتَزَمَهَا فِي نَذْرِهِ عَلَى صُورَةِ الْمُعَاوَضَةِ لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ فَيَنْقُصُ أَجْرُهُ وَشَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَمَحِّضَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - .
( ثَالِثُهَا ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ النَّذْرَ يَرُدُّ الْقَدَرَ وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُقَدَّرِ فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِلٍ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ قَالَ وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ هَذَا .
( رَابِعُهَا ) أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ عَدَمُ الْقِيَامِ بِمَا الْتَزَمَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ النَّذْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) إنْ قُلْت : دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ الْمُقَدَّرَ ، وَقَدْ يَكُونُ النَّذْرُ بِالصَّدَقَةِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الصَّدَقَةَ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ .
( قُلْت ) لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبْدَ يُقَدَّرُ لَهُ مِيتَةُ السُّوءِ فَتَدْفَعُهَا الصَّدَقَةُ بَلْ الْأَسْبَابُ مُقَدَّرَةٌ كَمَا أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ مُقَدَّرَةٌ ، فَمَنْ قُدِّرَ لَهُ مِيتَةُ السُّوءِ لَا تَقْدِرُ لَهُ الصَّدَقَةُ ، وَمَنْ لَمْ تُقَدَّرْ لَهُ مِيتَةُ السُّوءِ قُدِّرَتْ لَهُ الصَّدَقَةُ .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فِي جَوَابِهِ : النَّذْرُ لَيْسَ تَنْجِيزًا لِلصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَالْوَعْدِ بِهَا وَرُبَّمَا لَا يَفِي بِالنَّذْرِ لِعَجْزٍ أَوْ احْتِرَامِ أَجْلٍ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْوَفَاءِ بِهِ فَالصَّدَقَةُ سَبَبٌ وَالْأَسْبَابُ مُقَدَّرَةٌ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَسْبَابَ مُقَدَّرَةٌ كَالْمُسَبَّبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } قَالَ سُفْيَانُ { وَلَا تُشَدُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ سَوَاءٍ } وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إلَى مَسْجِدٍ يَنْبَغِي فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِي هَذَا } وَفِيهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُمَا وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } زَادَ الشَّيْخَانِ { مَسْجِدِي هَذَا } وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ } وَزَادَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ { وَصَلَاةٌ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } قَالَ سُفْيَانُ { وَلَا تُشَدُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ سَوَاءٍ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بِلَفْظِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَفْظُ مُسْلِمٍ { تُشَدُّ الرِّحَالُ } وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ { لَا تُشَدُّ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَلْمَانَ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّمَا يُسَافَرُ إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ ، وَمَسْجِدِي ، وَمَسْجِدِ إيلِيَاءَ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ { لَا تُشَدُّ } ثُمَّ قَالَ : قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : هَكَذَا حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ هَذِهِ الْمَرَّةَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَأَكْثَرُ لَفْظِهِ { تُشَدُّ الرِّحَالُ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ : تُشَدُّ الرِّحَالُ بِالرَّفْعِ لَفْظُهُ خَبَرٌ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِشَدِّهَا إلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { لَا تُشَدُّ } هُوَ خَبَرٌ أَيْضًا ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ ، وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِهَا لَا أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمٌ وَلَا مَكْرُوهٌ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا { لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالَهُ إلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَمَسْجِدِي هَذَا } وَفِيهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ

وَابْنُ مَعِينٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُمَا وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إلَى مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُهُ أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمٌ ، وَأَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى اخْتِيَارِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ { وَلَا تُشَدُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ سَوَاءٌ } مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي رَوَاهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تُشَدُّ الرِّحَالُ وَهَذَا اللَّفْظُ الْآخَرُ الَّذِي فِيهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ وَإِذَا أَخْبَرَ بِشَدِّ الرِّحَالِ إلَى هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ شَدَّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ لِشَدِّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِهَا فَضْلٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجِئْ بِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْبُقْعَةِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِي هَذِهِ دُونَ غَيْرِهَا .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ فَضِيلَةُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيْرِهَا وَذَلِكَ لِكَوْنِهَا مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا .
( الْخَامِسَةُ ) : نَبَّهَ بِشَدِّ الرَّحْلِ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إلَّا فِي الْأَسْفَارِ عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ وَقَصَدَهَا لِمَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ فِي إتْيَانِهَا إلَى شَدِّ رَحْلٍ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إتْيَانَهَا قُرْبَةٌ مَعَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِشَدِّ الرَّحْلِ السَّفَرُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْأَغَرِّ { إنَّمَا يُسَافِرُ .
} .
( السَّادِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَشَأْنُ الْقُرَبِ لُزُومُهَا بِالنَّذْرِ .
( السَّابِعَةُ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَهُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ أَوْ الِاعْتِكَافِ بِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورِ .
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ فَصَلَّى فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ .
وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِذَلِكَ بِأَنَّ تَفْضِيلَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَرِيضَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ فِيهَا إلَّا فِي الْفَرْضِ فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلَاةَ تَطَوُّعٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .
( الثَّامِنَةُ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَهُ وَأَطْلَقَ لَزِمَهُ إتْيَانُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا .
( التَّاسِعَةُ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَهُ بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ انْعَقَدَ نَذْرُهُ وَلَزِمَهُ إتْيَانُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَلَغَا قَوْلُهُ بِلَا حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ إتْيَانِهِ فَلْيَلْغُ مَا يُخَالِفُهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ .

( الْعَاشِرَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَتَعَيَّنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي يُؤْتَى لَهَا ذَلِكَ الْمَحَلُّ بَلْ هُوَ أَعْظَمُهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ : عِنْدِي إذَا نَذَرَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ وَلِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ هُنَا كَلَامٌ بَشِعٌ عَجِيبٌ يَتَضَمَّنُ مَنْعَ شَدِّ الرَّحْلِ لِلزِّيَارَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُرْبِ بَلْ بِضِدِّ ذَلِكَ ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شِفَاءِ السَّقَامِ فَشَفَى صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَكَانَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ مُعَادِلًا لِلشَّيْخِ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ فِي التَّوَجُّهِ إلَى بَلَدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْبَلَدِ قَالَ نَوَيْتُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْخَلِيلِ لِيَحْتَرِزَ عَنْ شَدِّ الرَّحْلِ لِزِيَارَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَالَ فَقُلْت نَوَيْت زِيَارَةَ قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ قُلْت لَهُ أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ خَالَفْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } ، وَقَدْ شَدَدْتَ الرَّحْلَ إلَى مَسْجِدٍ رَابِعٍ وَأَمَّا أَنَا فَاتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ { زُورُوا الْقُبُورَ } .
أَفَقَالَ إلَّا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ فَبُهِتَ ( قُلْت ) وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بِفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ { لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ كَذَا ،

وَكَذَا } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ شَدُّ الرَّحْلِ إلَى مَسْجِدٍ تُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ لَا كُلُّ سَفَرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ قَالَ : وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَبِهِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقِيلَ تَقُومُ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ مِنْ الْمَسْجِدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَقَامَ الْآخَرِ ، وَقِيلَ لَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَفْتَتْ امْرَأَةً نَذَرَتْ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّتْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِد إلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ } .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَزِمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ الْبُوَيْطِيُّ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّذْرُ بَلْ يَلْغُو نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ فَإِذَا قُلْنَا بِانْعِقَادِ النَّذْرِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْإِتْيَانِ شَيْءٌ آخَرُ فِيهِ خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ نَعَمْ ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ الْمُجَرَّدُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَحِينَئِذٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ الِاعْتِكَافُ ، وَقِيلَ تَتَعَيَّنُ الصَّلَاةُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ يَكْفِي فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَقَّفَ فِيهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ وَتَعْظِيمِهِ .
قَالَ : وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ صَامَ يَوْمًا كَفَاهُ قَالَ الْإِمَامُ وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِالزِّيَارَةِ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ إتْيَانَ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ لِتَصْرِيحِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاخْتِصَاصِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ بِشَدِّ الرَّحْلِ إلَيْهَا وَغَيْرُهَا لَا فَضْلَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَتَكْفِي صَلَاتُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةً الْمَالِكِيِّ فَقَالَ إذَا نَذَرَ قَصْدَ مَسْجِدِ قَبَاءَ لَزِمَهُ قَصْدُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا ، وَمَاشِيًا وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَلْزَمُهُ قَصْدُ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ أَيِّ مَسْجِدٍ كَانَ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : يَلْزَمُهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ فِيهِ وَلَا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَفِي الْجَوَاهِرِ لِابْنِ شَاسٍ لَوْ ذَكَرَ مَوْضِعًا غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ كَرِبَاطٍ أَوْ جِهَادٍ نَاجِزٍ لَزِمَهُ إتْيَانُهُ .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمِيعُ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ ذَكَرَ النَّاذِرُ بُقْعَةً أُخْرَى مِنْ بِقَاعِ الْحَرَمِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَمِنًى ، وَمُزْدَلِفَةَ ، وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقُبَّةِ زَمْزَمَ وَغَيْرِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ حَتَّى لَوْ قَالَ آتِي دَارَ أَبِي جَهْلٍ أَوْ دَارَ الْخَيْزُرَانٍ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ؛ لِشُمُولِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي تَنْفِيرِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ لِلْجَمِيعِ وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي } قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَفِي إسْنَادِهِ خَيْثَمُ بْنُ مَرْوَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْحَدِيثُ شَاذٌّ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ صَحِيحٌ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَصْرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ عِنْدَ ذِكْرِ نَذْرِ إتْيَانِ الْمَسَاجِدِ فَلَوْ قَالَ آتِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَهُوَ كَمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحَرَمِ .
انْتَهَى .

( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ تَضْعِيفَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ يَخْتَصُّ بِمَسْجِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ دُونَ مَا أُوسِعَ بَعْدَهُ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي بُقْعَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ مِمَّا هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ بُعْدٌ وَنَظَرٌ ظَاهِرٌ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) إنْ قُلْت لِمَ سُمِّيَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غَيْرُهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْت ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْت كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً } قُلْت عَلِمَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ سَيُبْنَى فَيَكُونُ قَاصِيًا أَيْ بَعِيدًا مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْقُدْسِ أَقْصَى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولَ حَالُهُ إلَيْهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ الْخَبَرَ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ زَادَ الشَّيْخَانِ } { مَسْجِدِي هَذَا } وَزَادَ ابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث جَابِر { وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ } وَزَادَ أَحْمَد وَابْن حِبَّان مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْرِ { وَصَلَاةٌ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي هَذَا }

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَمُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ { مَسْجِدِي هَذَا } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ شَكَّا فِي رَفْعِهِ نَصًّا فَأَخْبَرَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنِّي آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ مَسْجِدِي آخِرُ الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طُرُقٍ ثَابِتَةٍ صِحَاحٍ مُتَوَاتِرَةٍ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ التَّوَاتُرَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الشُّهْرَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ { إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } فَقَالَ الْجُمْهُورُ مَعْنَاهُ : إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ مُطَرِّفٌ وَابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الْأَثَرِ ، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ

أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اُخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ ، وَمَنْ رَفَعَهُ أَحْفَظُ وَأَثْبَتُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ ، وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ مَعَ شَهَادَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لِلَّذِي رَفَعَهُ بِالْحِفْظِ وَالثِّقَةِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ } وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ } قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ( قُلْت ) وَيَقَعُ فِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ { مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ } بِدُونِ أَلْفٍ وَالْمُعْتَمَدُ مَا نَقَلْتُهُ أَوَّلًا .
وَالْحَدِيثَانِ مَعًا حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ صَحَابِيَّةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ عَطَاءً إمَامٌ وَاسِعُ الرِّوَايَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَنْهُمَا وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ نَقَلَتْهُ ثِقَاتٌ كُلُّهُمْ .
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ عَنْهُمَا فَيَكُونَانِ حَدِيثَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا يَحْمِلُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ قَالَ وَالِدِي : وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ { فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ } وَبِلَفْظِ { فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِمِائَةِ صَلَاةٍ } قَالَ : وَهُوَ عِنْدَهُمْ حَدِيثٌ آخَرُ بِلَا شَكٍّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَالصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ } وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ ثُمَّ قَالَ : قَالَ الْبَزَّارُ هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ حَدِيثٌ آخَرُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَدْرِ الثَّوَابِ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ { وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ } قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَبُو الْخَطَّابِ الدِّمَشْقِيُّ يَحْتَاجُ إلَى الْكَشْفِ عَنْهُ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ بِدُونِ أَلْفِ صَلَاةٍ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعٍ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرَ هَذَا ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَأْوِيلُ ابْنِ نَافِعٍ بَعِيدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللِّسَانِ قَالَ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِتِسْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَتِسْعَةِ وَتِسْعِينَ ضِعْفًا وَإِذَا كَانَ

هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ إلَّا بِالْجَزَاءِ اللَّطِيفِ عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ نَافِعٍ وَحَسْبُك ضَعْفًا بِقَوْلٍ يَئُولَ إلَى هَذَا ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَثَّلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمِثَالٍ بَيَّنَ فِيهِ مَعْنَاهُ .
فَإِذَا قُلْتَ الْيَمَنُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ بِأَلْفِ دَرَجَةٍ إلَّا الْعِرَاقَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعِرَاقُ مُسَاوِيًا لِلْيَمَنِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا وَأَنْ يَكُونَ مَفْضُولًا فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَقَدْ عُلِمَ فَضْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا أَوْ مَفْضُولًا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى عِدَّةِ دَرَجَاتٍ إمَّا زَائِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَاقِصَةٌ عَنْهُ .
( قُلْت ) هَذَا كَلَامٌ فِيهِ إنْصَافٌ بِخِلَافِ كَلَامِ ابْنِ نَافِعٍ ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَاضِلٌ بِمِائَةِ دَرَجَةٍ ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ صَلَاةٍ ، وَمِنْ غَيْرِهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ قَالَ وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ قَالَ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ تِسْعِمِائَةِ صَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ تَأْوِيلٌ لَا يَعْضُدُهُ دَلِيلٌ ، وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إسْنَادِهِ ، وَفِي لَفْظِهِ ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ فَمِنْ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَرَ بِلَفْظِ (

صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَبِلَفْظِ { صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا فَضَّلَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ صَلَاةٍ } .
قَالَ : فَكَيْفَ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثٍ قَدْ رُوِيَ فِيهِ ضِدُّ مَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ إلَى مَا فِي إسْنَادِهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ ، وَعَطَاءٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا سَمِعَاهُ يَقُولُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيهِ وَيُشِيرُ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَرَ ( صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا فَضَّلَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ صَلَاةٍ ) ثُمَّ قَالَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَابِعْ سُلَيْمَانُ ابْنُ عَتِيقٍ عَلَى ذِكْرِهِ عُمَرَ وَهُوَ مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ عِنْدَهُمْ وَانْفَرَدَ بِهِ ، وَمَا انْفَرَدَ بِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ .
انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ تَشْرُفُ بِفَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا تَكُونُ الْعِبَادَةُ فِيهِ مَرْجُوحَةً ، وَهُوَ مَذْهَبُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَابْنِ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ حَبِيبٍ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَحَكَاهُ الشَّاجِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ

مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةَ لَكِنْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ عُمَرَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَقَالَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ الْأَرْضِ كُلِّهَا قَالَ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي مَذْهَبِهِ تَفْضِيلُ الْمَدِينَةِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِلْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ قَالَ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْك مَا خَرَجْتُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مِنْ أَصَحِّ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهَذَا قَاطِعٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ .
انْتَهَى .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحَكَاهُ زَكَرِيَّا الشَّاجِيُّ عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ حَكَاهُ عَنْ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } قَالَ وَرَكَّبُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا } قَالَ وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ ذَمَّ الدُّنْيَا وَالزُّهْدَ فِيهَا وَالتَّرْغِيبَ فِي الْآخِرَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا كُلِّهَا وَأَرَادَ بِذِكْرِ السَّوْطِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّقْلِيلَ لَا أَنَّهُ أَرَادَ مَوْضِعَ السَّوْطِ بِعَيْنِهِ بَلْ مَوْضِعَ نِصْفِ سَوْطٍ وَرُبُعَ

سَوْطٍ مِنْ الْجَنَّةِ الْبَاقِيَةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ ، ثُمَّ قَالَ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَهَبُوا إلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ شَيْءٍ مِنْ الْبِقَاعِ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِخَبَرٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ حَمْرَاءَ الْمُتَقَدِّمَ .
وَقَالَ : كَيْفَ يُتْرَكُ مِثْلُ هَذَا النَّصِّ الثَّابِتِ ، وَيُمَالُ إلَى تَأْوِيلٍ لَا يُجَامِعُ مُتَأَوِّلُهُ عَلَيْهِ ، .
( الرَّابِعَةُ ) اسْتَثْنَى الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ مَكَّةَ الْبُقْعَةَ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَمَّتْ أَعْضَاءَهُ الشَّرِيفَةَ وَحَكَى اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا تَعَرُّضًا لِمَا نَقَلَهُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ مِنْ فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ بُقْعَةً فِيهَا قَبْرُ نَبِيٍّ مَعْرُوفٍ غَيْرَهَا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يُرِيدُ مَا لَا يُشَكُّ فِيهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَزْعُم أَنَّ قَبْرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّ قَبْرَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَاكَ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعَ فِي سُؤَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ أَنْ يُدْنِيهِ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِقَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْ أَنْكَرَ فَضْلَهَا أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَفْضَلُ بَعْدَ مَكَّةَ مِنْهَا فَقَدْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَتَهَا وَاسْتَعْمَلَ الْقَوْلَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ وَفِيهَا ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ بُقْعَةٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ فِي الْأَرْضِ هِيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ ، وَمَا حَوْلَهُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ

اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَنَسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ } وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ( أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ ) وَهَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا وَفِي بَعْضِ طُرُقِ أَثَرِ عُمَرَ ( إنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ) وَفِي حَدِيثِ الْأَرْقَمِ { أَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ قَالَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنْ يُحْمَلَ أَثَرُ عُمَرَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِمَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمَنْ مَعَهُ وَحَدِيثُ الْأَرْقَمِ وَأَثَرُ عُمَرَ بِاللَّفْظِ الثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فَيُرْجَعُ إلَى التَّرْجِيحِ وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَإِنَّ أَسَانِيدَهَا صَحِيحَةٌ .
قَالَ : وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ { أَنَّهَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ } مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ عَلَى الْأَلْفِ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ } قَالَ ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي تَضَاعَفَتْ بِهِ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ } ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ } وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ { أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ } فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الصَّلَاةُ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ إمَّا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَإِمَّا بِأَلْفَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَإِمَّا بِمِائَتِي أَلْفِ صَلَاةٍ عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ أَنَسٍ .
لَكِنَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَوَّى بَيْنَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَصَحُّ طُرُقِ أَحَادِيثِ الصَّلَاةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ { أَنَّهَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ .
} فَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَسْتَوِي الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى مَعَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى } ، وَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا إلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْفَضْلِ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى هَذَا أَيْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيهِ بَلْ هُوَ مُسَاوٍ لَهُ وَأَصَحُّ طُرُقِ أَحَادِيثِ التَّضْعِيفِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفٍ وَالْأَصَحُّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنَّهَا بِأَلْفٍ فَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ .

( السَّادِسَةُ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَمُطَرِّفٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ، وَذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ إلَى اخْتِصَاصِ التَّضْعِيفِ بِالْفَرْضِ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِنَذْرِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبْ التَّطَوُّعَ فِيهَا بِالنَّذْرِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ خِلَافُ إطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ( قُلْت ) : قَدْ يُقَالُ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَسَاعَدَ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } ، وَقَدْ يُقَالُ هُوَ عَامٌّ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ فَهُوَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : تَكُونُ النَّوَافِلُ فِي الْمَسْجِدِ مُضَاعَفَةً بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفٍ فِي الْمَدِينَةِ ، وَمِائَةِ أَلْفٍ فِي مَكَّةَ وَيَكُونُ فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } بَلْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّ النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( السَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَضْعِيفَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ يَخْتَصُّ بِمَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ دُونَ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ إنَّمَا وَرَدَ فِي مَسْجِدِهِ وَذَاكَ هُوَ مَسْجِدُهُ ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ { مَسْجِدِي هَذَا } وَبِذَلِكَ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ وَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْمُصَلِّي عَلَى ذَلِكَ وَيَتَفَطَّنَ لِمَا ذَكَرْتُهُ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : هَذَا شَبِيهٌ بِمَا إذَا اجْتَمَعَ الِاسْمُ وَالْإِشَارَةُ هَلْ تَغْلِبُ الْإِشَارَةُ أَوْ الِاسْمُ ( قُلْت ) لَمْ يَظْهَرْ لِي ذَلِكَ فَالِاسْمُ وَالْإِشَارَةُ مُتَّفِقَانِ هُنَا ؛ لِكَوْنِهِ أَضَافَ الْمَسْجِدَ إلَيْهِ وَأَشَارَ إلَى الْمَوْجُودِ ذَلِكَ الْوَقْتَ ، وَلَوْ كَانَ لَفْظُهُ ( مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ هَذَا ) لَكَانَ مِنْ تَعَارُضِ الِاسْمِ وَالْإِشَارَةِ لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا فِي تَارِيخِ الْمَدِينَةِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَوْ انْتَهَى إلَى الْجَبَّانَةِ لَكَانَ الْكُلُّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَوْ زِيدَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مَا زِيدَ كَانَ الْكُلُّ مَسْجِدِي } وَفِي رِوَايَةٍ { لَوْ بُنِيَ هَذَا الْمَسْجِدُ إلَى صَنْعَاءَ كَانَ مَسْجِدِي } ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ( لَوْ مُدَّ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ لَكَانَ مِنْهُ ) وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ بَلَغَنِي عَنْ ثِقَاتٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا زِيدَ فِي مَسْجِدِي فَهُوَ مِنْهُ وَلَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ } فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ بُشْرَى حَسَنَةٌ .
( الثَّامِنَةُ

) وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ التَّضْعِيفُ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا زِيدَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَعُمُّ الْكُلَّ بَلْ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ يَعُمُّ جَمِيعَ مَكَّةَ بَلْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحَرَمِ الَّذِي يَحْرُمُ صَيْدُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَرْبَعَ اسْتِعْمَالَاتٍ ( أَحَدُهَا ) نَفْسُ الْكَعْبَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
( الثَّانِي ) الْكَعْبَةُ ، وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْمَسْجِدِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فَالْمُرَادُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَفِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ لَهُ ، وَقِيلَ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ وَقِيلَ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ عَلَى هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَّةَ .
( الثَّالِثُ ) جَمِيعُ مَكَّةَ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ، وَعِظَمُ الْقَصْدِ هُنَا إنَّمَا هُوَ مَكَّةُ .
( الرَّابِعُ ) جَمِيعُ الْحَرَمِ الَّذِي يَحْرُمُ صَيْدُهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَإِنَّمَا كَانَ عَهْدُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهُ الْحَرَمُ جَمِيعُهُ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ وَهَذَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ فَثَوَابُ صَلَاةٍ فِيهِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ أَلْفٍ فِيمَا سِوَاهُ وَلَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْإِجْزَاءِ عَنْ الْفَوَائِتِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ فَصَلَّى فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ صَلَاةً لَمْ تُجِزْهُ عَنْهُمَا وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْعَاشِرَةُ ) وَجْهُ إيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ

النَّذْرِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ مَا الْتَزَمَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَشَأْنُ الْقُرَبِ أَنْ تَلْزَمَ بِالنَّذْرِ .

وَعَنْ بُرَيْدَةَ { أَنَّ أَمَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَتْ إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إنْ رَدَّك اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ عِنْدَك بِالدُّفِّ قَالَ إنْ كُنْتِ فَعَلْتِ فَافْعَلِي وَإِنْ كُنْتِ لَمْ تَفْعَلِي فَلَا تَفْعَلِي ، فَضَرَبَتْ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ وَدَخَلَ غَيْرُهُ وَهِيَ تَضْرِبُ وَدَخَلَ عُمَرُ فَجَعَلَتْ دُفَّهَا خَلْفَهَا وَهِيَ مُقَنَّعَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفْرَقُ مِنْك يَا عُمَرُ ، أَنَا جَالِسٌ هَهُنَا وَدَخَلَ هَؤُلَاءِ فَلَمَّا أَنْ دَخَلْتَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ { أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْك بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا } وَزَادَ فِيهِ { ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ } وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْ بُرَيْدَةَ { أَنَّ أَمَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَتْ إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إنْ رَدَّك اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ عِنْدَك بِالدُّفِّ ، قَالَ إنْ كُنْتِ فَعَلْتِ فَافْعَلِي ، وَإِنْ كُنْتِ لَمْ تَفْعَلِي فَلَا تَفْعَلِي ؛ فَضَرَبَتْ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ، وَدَخَلَ غَيْرُهُ وَهِيَ تَضْرِبُ وَدَخَلَ عُمَرُ قَالَ فَجَعَلَتْ دُفَّهَا خَلْفَهَا وَهِيَ مُقَنَّعَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفْرَقُ مِنْك يَا عُمَرُ أَنَا جَالِسٌ هَهُنَا وَدَخَلَ هَؤُلَاءِ فَلَمَّا أَنْ دَخَلْتَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ جَامِعِهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت نَذَرْت إنْ رَدَّك اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْك بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كُنْتِ نَذَرْت فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا ، فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتْ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْك يَا عُمَرُ إنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ فَلَمَّا دَخَلْت أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتْ الدُّفَّ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ .
(

الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ .
( إنَّ أَمَةً سَوْدَاءَ ) يَحْتَمِلُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى الرِّقِّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَمَّاهَا أَمَةً بِاعْتِبَارِ مَا مَضَى وَقَوْلُهُ وَرَجَعَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ ، وَقَدْ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ تَقْدِيرَهُ ، وَقَدْ رَجَعَ ، ( وَالدُّفُّ ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَعْرُوفٌ وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْفَتْحَ فِيهِ لُغَةٌ ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ وَقَوْلُهُ : { إنْ كُنْتِ فَعَلْتِ } أَيْ النَّذْرَ وَقَوْلُهُ { فَافْعَلِي } أَيْ فَاضْرِبِي ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَقَوْلُهُ { فَجَعَلَتْ دُفَّهَا خَلْفَهَا } لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ( تَحْتَهَا ) فَيَكُونُ تَحْتَهَا مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا ، وَقَوْلُهُ : وَهِيَ ( مُقَنَّعَةٌ ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفَتْحِهَا أَيْ مُسْتَتِرَةٌ بِقِنَاعِهَا وَقَوْلُهُ ( لَيَفْرَقُ مِنْك ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ يَخَافُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَسَّمَ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ النُّذُورَ إلَى مَعْصِيَةٍ وَطَاعَةٍ ، وَمُبَاحٍ فَمَنَعُوا نَذْرَ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ قَسَّمُوا الطَّاعَةَ إلَى ( وَاجِبٍ ) فَأَبْطَلُوا نَذْرَهُ وَ " مَنْدُوبٍ مَقْصُودٍ " وَهُوَ مَا شُرِعَ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ ، وَعُلِمَ مِنْ الشَّارِعِ الِاهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ بِإِيقَاعِهِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا فَجَزَمُوا بِصِحَّةِ نَذْرِهِ ( وَمَنْدُوبٍ ) لَمْ يُشْرَعْ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ أَعْمَالٌ وَأَخْلَاقٌ مُسْتَحْسَنَةٌ رَغَّبَ الشَّرْعُ فِيهَا لِعِظَمِ فَائِدَتِهَا ، وَقَدْ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَنَالُ الثَّوَابَ فِيهَا كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَزِيَارَةِ الْقَادِمِينَ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَاخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ ذَلِكَ بِالنَّذْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْأَصَحُّ اللُّزُومُ .
وَأَمَّا الْمُبَاحُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ كَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَلَوْ نَذَرَ فِعْلَهَا أَوْ تُرْكَهَا لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ .
قَالَ الْأَئِمَّةُ : وَقَدْ يَقْصِدُ بِالْأَكْلِ

التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ وَبِالنَّوْمِ النَّشَاطَ عِنْدَ التَّهَجُّدِ فَيَنَالُ الثَّوَابَ لَكِنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَالثَّوَابُ يَحْصُلُ بِالْقَصْدِ الْجَمِيلِ وَالضَّرْبُ بِالدُّفِّ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ فِي عُرْسٍ أَوْ خِتَانٍ فَهُوَ مَجْزُومٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِإِبَاحَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِمَا فَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَحْرِيمَهُ .
وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ : حَلَالٌ وَرَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ ، وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالضَّرْبِ بِالدُّفِّ قَصْدٌ جَمِيلٌ كَجَبْرِ يَتِيمَةٍ فِي عُرْسِهَا وَإِظْهَارِ السُّرُورِ بِسَلَامَةِ مَنْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ ذَلِكَ ضَرْبُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِالدُّفِّ فَهُوَ مُبَاحٌ بِلَا شَكٍّ وَلَمَّا قَصَدَتْ بِهِ إظْهَارَ السُّرُورِ بِقُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا حَصَلَ لَهَا الثَّوَابُ بِالْقَصْدِ الْجَمِيلِ ، وَقَدْ جَزَمَ أَصْحَابُنَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَخْرِيجِ جَوَابٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ ( بَابُ مَا يُوَفَّى بِهِ مِنْ نَذْرِ مَا يَكُونُ مُبَاحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاعَةً ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَذِنَ لَهَا فِي الضَّرْبِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُبَاحٌ وَفِيهِ إظْهَارٌ لِلْفَرَحِ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُجُوعِهِ سَالِمًا لَا أَنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ فَتَبْوِيبُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ وَفَاءٌ لِلنَّذْرِ وَأَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيُوَفَّى بِهِ .
وَكَلَامُهُ عَلَى الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ وَفَاءً بِالنَّذْرِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَفَاءٌ بِالنَّذْرِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي } .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ آخَرُ

وَهُوَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالنَّذْرِ هُنَا الْيَمِينُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهَا نَذَرْتُ : حَلَفْتُ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ } أَيْ حَلَفْتِ وَإِذْنُهُ فِي الضَّرْبِ إذْنٌ فِي الْبِرِّ وَفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَصَحَّ اسْتِعْمَالُ النَّذْرِ فِي الْيَمِينِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ إلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ وَذَلِكَ يَكُونُ تَارَةً بِالنَّذْرِ وَتَارَةً بِالْيَمِينِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَثَرِ اسْتِعْمَالُ النَّذْرِ فِي الْأَرْشِ فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَضَيَا فِي الْمِلْطَاةِ بِنِصْفِ نَذْرِ الْمُوضِحَةِ فَإِذَا سَمَّى الْأَرْشَ نَذْرًا فَتَسْمِيَةُ الْيَمِينِ بِذَلِكَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى مَدْلُولِهِ مِنْ الْأَرْشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ إذْ لَوْ كَانَ عَوْرَةً مَا سَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّ أَصْحَابَهُ عَلَى سَمَاعِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ قَالُوا : يَحْرُمُ الْإِصْغَاءُ إلَيْهِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَأْمُونَةٌ وَلَوْ خَشِيَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِتْنَةً مَا سَمِعُوا ؛ هَذَا إنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهَا صَوْتٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ ( وَأَتَغَنَّى ) وَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا فِي رِوَايَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا تَغَنَّتْ بِصَوْتِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
( الْخَامِسَةُ ) إنْ قُلْتَ إذَا كَانَ هَذَا مُبَاحًا ، وَقَدْ فُعِلَ بِحُضُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذْنِهِ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى الشَّيْطَانِ وَيُوَفِّي بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ بِتَسْوِيلِهِ فَلَمَّا حَضَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَرَبَ الشَّيْطَانُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ فَانْقَطَعَ ذَلِكَ التَّسْوِيلُ ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ ( قُلْت ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْأَصْلَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالْغِنَاءِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ اللَّهْوِ وَأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى مَا لَا يُرْضَى فِعْلُهُ كَمَا يُقَالُ الْغِنَاءُ بَرِيدُ الزِّنَا إلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ بِهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَلَمَّا حَضَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى إنْكَارِ مِثْلِ هَذَا ، وَالصُّورَةُ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَخَشِيَتْ مِنْ مُبَادَرَتِهِ أَنْ يُوقِعَ بِهَا مَحْذُورًا فَقَطَعَتْ مَا هِيَ عَلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَخَافُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ

نَصِيبٌ فِيمَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَكِنَّ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ فَشَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَتَهَا فِي انْكِفَافِهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ بِحَالَةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَخَافُ مِنْ عُمَرَ وَيَهْرُبُ عِنْدَ حُضُورِهِ .
( الثَّانِي ) أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ وَهِيَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّهْوِ يَصِيرُ حَسَنًا بِالْقَصْدِ الْجَمِيلِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ حُصُولَ هَذَا الْقَصْدِ فَلَمَّا حَضَرَ عُمَرُ هَرَبَ هُوَ لِظَنِّهِ أَنَّ هَذَا اللَّهْوَ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ، وَكَمْ يَفُوتُ الْعَارِفِينَ مِنْ الدَّقَائِقِ فَضْلًا عَنْ الشَّيَاطِينِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) ذَكَرَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي الْمُبْهَمَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ اسْمُهَا سُدَيْسَةُ مَوْلَاةُ حَفْصَةَ " وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ ( سُدَيْسَةُ الْأَنْصَارِيَّةَ ) وَذَكَرَ أَنَّهَا رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَأَى الشَّيْطَانُ عُمَرَ إلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ } وَقَالَ رَوَى عَنْهَا سَالِمٌ { تُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ } وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَتْحُونٍ فِي نَقْدِهِ عَلَى الِاسْتِيعَابِ ضَبْطُهُ بِفَتْحِ السِّينِ وَرَأَيْته بِخَطِّ ابْنِ مُفَرِّجٍ بِضَمِّ السِّينِ عَلَى التَّصْغِيرِ ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ فَتْحُونٍ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي حَدِيثِهَا فَرُوِيَ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنْهَا عَنْ حَفْصَةَ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْبُيُوعِ عَنْ نَافِعٍ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَبْتَاعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا } وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ { ثُمَّ تُنْتَجُ وَإِنَّمَا قَالَ ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نُتِجَتْ } .

( كِتَابُ الْبُيُوعِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَبْتَاعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
( الثَّانِيَةُ ) ( حَبَلِ الْحَبَلَةِ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ فِيهِمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ ( حَبْلِ ) وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْحَبَلَةُ هُنَا جَمْعُ حَابِلٍ كَظَالِمٍ وَظَلَمَةٍ وَفَاجِرٍ وَفَجَرَةٍ وَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ قَالَ الْأَخْفَشُ يُقَالُ : حَبِلَتْ الْمَرْأَةُ فَهِيَ حَابِلٌ وَالْجَمْعُ نِسْوَةٌ حَبَلَةٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَإِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ التَّاءُ لِلْإِشْعَارِ بِالْأُنُوثَةِ فِيهِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَغَيْرُهُ : الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَجَوَّزَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنْ تَكُونَ الْحَبَلَةُ جَمْعَ حَابِلَةٍ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمُحْكَمِ حَكَى أَنَّهُ يُقَالُ نَادِرًا امْرَأَةٌ حَابِلَةٌ مِنْ نِسْوَةٍ حَبَلَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَاتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الْحَبَلَ مُخْتَصٌّ بِالْآدَمِيَّاتِ وَيُقَالُ فِي غَيْرِهِنَّ الْحَمْلُ يُقَالُ : حَمَلَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدًا وَحَبِلَتْ بِوَلَدٍ وَحَمَلَتْ الشَّاةُ سَخْلَةً وَلَا يُقَالُ حَبِلَتْ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ حُبْلَى إلَّا مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى .
وَفِيمَا حَكَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ فَقَدْ

جَعَلَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ هَذَا قَوْلًا وَحَكَى مَعَهُ غَيْرَهُ .
فَقَالَ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ أَعَامَّةٌ لِلْإِنَاثِ أَمْ خَاصَّةٌ لِبَعْضِهِنَّ فَقِيلَ لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ حُبْلَى إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقِيلَ كُلُّ ذَاتِ ظُفْرٍ حُبْلَى قَالَ أَوْ ذِيحَةٌ : حُبْلَى مُحِجٌّ مُقْرِبٌ .
( الثَّالِثَةُ ) فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ الْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِأَنْ يَبِيعَ شَيْئًا إلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتِجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا ، هَكَذَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ { كَانَ الْجَاهِلِيَّةُ يَتَبَايَعُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ إلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ ؛ وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نُتِجَتْ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ } فَاعْتُبِرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حَمْلُ الثَّانِيَةِ دُونَ نِتَاجِهَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ فَقَالَ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنٍ إلَى أَنْ تَحْمِلَ هَذِهِ النَّاقَةُ وَتَلِدَ وَيَحْمِلَ وَلَدُهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا تَرَى فِي سِيَاقَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُهُ مَرْفُوعًا فَهَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَمْرٍو حَسْبُك بِهِ انْتَهَى .
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَهَذَا ( أَحَدُ الْأَقْوَالِ ) فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ أَصَحُّهَا ؛ لِمُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى ، وَأَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى اللُّغَةِ لَكِنَّ الرَّاوِيَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمَا - وَقَدْ فَسَّرَهُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَعْرَفُ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ تَفْسِيرَ الرَّاوِي مُقَدَّمٌ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ انْتَهَى .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ صَدَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ كَلَامَهُ فَقَالَ هُوَ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي بَطْنِ النَّاقَةِ قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَهَذَا ضَعِيفٌ إنَّمَا هَذَا بَيْعُ الْمَضَامِينِ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَبَلِ الْحَبَلَةِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : لَا رِبَا فِي الْحَيَوَانِ ، وَإِنَّمَا نَهَى مِنْ الْحَيَوَانِ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ فَالْمَضَامِينُ مَا فِي بُطُونِ إنَاثِ الْإِبِلِ وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي ظُهُورِ الْجِمَالِ وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ بَيْعٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَهُ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ يُنْتَجُ الَّذِي فِي بَطْنِهَا .
( قُلْتُ ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ عَكْسُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي الْبُطُونِ وَالْمَضَامِينُ مَا فِي الظُّهُورِ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) أَنَّ الْحَبَلَةَ هُنَا شَجَرَةُ الْعِنَبِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيْعُ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحَهُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ أَيْضًا فَقَالَ وَقِيلَ مَعْنَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ حَمْلُ الْكَرْمَةِ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ وَجَعَلَ حَمْلَهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ حَبْلًا وَهَذَا كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ تَمْرِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يُزْهَى .
انْتَهَى .
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ غَرِيبَانِ .
( الرَّابِعَةُ ) الْبَيْعُ الْمَذْكُورُ بِالتَّفَاسِيرِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلَانِهِ .
( أَمَّا الْأَوَّلُ ) فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَالْأَجَلُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ .
( وَأَمَّا الثَّانِي ) فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ

مَعْدُومٌ وَمَجْهُولٌ وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ وَغَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
( وَأَمَّا الثَّالِثُ ) فَلِبَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي .
( وَأَمَّا الرَّابِعُ ) فَإِنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا .
( الْخَامِسَةُ ) الْجَزُورُ الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إلَّا أَنَّ اللَّفْظَةَ مُؤَنَّثَةٌ تَقُولُ هَذِهِ الْجَزُورُ ، وَإِنْ أَرَدْت ذَكَرًا وَالْجَمْعُ جُزُرٌ وَجَزَائِرُ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْجَزُورِ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ قَيْدًا فِيمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَكُونُوا يَتَبَايَعُونَ هَذَا الْبَيْعَ إلَّا فِي الْجُزُرِ خَاصَّةً وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِثَالٌ ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا .
وَقَوْلُهُ ( تُنْتَجُ ) بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى ، وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَبِالْجِيمِ أَيْ تَلِدُ وَالنَّاقَةُ فَاعِلٌ وَهَذَا الْفِعْلُ مَعَ إسْنَادِهِ لِلْفَاعِلِ عَلَى صِيغَةِ الْمُسْنَدِ لِلْمَفْعُولِ هَكَذَا صِيغَتُهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ .

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ النَّجْشِ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ النَّجْشِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدَ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَزَادَ فِيهِ الْقَعْنَبِيُّ قَالَ ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ ( وَأَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا الْأَسْوَاقَ ) وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْقُوبَ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَاضِي الْمَدَائِنِ قَالَ أَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ التَّخْيِيرِ } قَالَ وَالتَّخْيِيرُ أَنْ يَمْدَحَ الرَّجُلُ سِلْعَتَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهَا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَكَذَا قَالَ التَّخْيِيرُ وَفَسَّرَهُ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ النَّجْشُ .
انْتَهَى .
( الثَّانِيَةُ ) ( النَّجْشُ ) بِفَتْحِ النُّونِ ، وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ؛ فَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ لَا لِرَغْبَةٍ فِيهَا بَلْ لِيَخْدَعَ غَيْرَهُ وَيَغُرَّهُ لِيَزِيدَ وَيَشْتَرِيَهَا وَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَمَا رَأَيْته فِي الْهِدَايَةِ وَكِتَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْمُحَرَّرِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ وَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُرِيدَ الشِّرَاءَ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ .
وَعِبَارَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ هُوَ أَنْ يَزِيدَ لِيَغُرَّ وَكَذَا قَالَ صَاحِب الْمُحَرَّرِ إنَّ النَّجْشَ مُزَايَدَةُ مِنْ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ تَغْرِيرًا لَهُ وَقَيَّدَ التِّرْمِذِيُّ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ بِأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْوَى وَكَذَا قَيَّدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فَوْقَ ثَمَنِهَا .
وَقَالَ ابْنُ

الْعَرَبِيِّ : إنَّهُ لَوْ زَادَ فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى قِيمَتِهَا فَهُوَ مَا جَوَّزَ بِذَلِكَ وَكَذَا ذَكَرَ هَذَا التَّقْيِيدَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ ، وَلِذَلِكَ نَقَلْت عِبَارَتَهُمْ أَوَّلًا .
( الثَّالِثَةُ ) أَصْلُ النَّجْشِ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِثَارَةُ وَمِنْهُ نَجَشْتُ الصَّيْدَ أَنَجْشُهُ بِالضَّمِّ نَجْشًا إذَا اسْتَثَرْتَهُ سُمِّيَ النَّاجِشُ فِي السِّلْعَةِ نَاجِشًا لِأَنَّهُ يُثِيرُ الرَّغْبَةَ فِيهَا وَيَرْفَعُ ثَمَنَهَا وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَصْلُ النَّجْشِ الْخَتْلُ وَهُوَ الْخَدْعُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّائِدِ نَاجِشٌ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتِلُ الصَّيْدَ وَيَحْتَالُ لَهُ وَكُلُّ مَنْ اسْتَثَارَ شَيْئًا فَهُوَ نَاجِشٌ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّجْشُ الْمَدْحُ وَالْإِطْرَاءُ وَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ { لَا يَمْدَحُ أَحَدُكُمْ السِّلْعَةَ وَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا بِلَا رَغْبَةٍ } .
( الرَّابِعَةُ ) النَّجْشُ حَرَامٌ ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَهَذَا إجْمَاعٌ كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ( وَالْإِثْمُ مُخْتَصٌّ بِالنَّاجِشِ ) إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْبَائِعُ فَإِنْ وَاطَأَهُ عَلَى ذَلِكَ أَثِمَا جَمِيعًا لَكِنْ هَلْ يَبْطُلُ مَعَ ذَلِكَ الْبَيْعُ أَوْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ خَاصَّةً أَوْ لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ الْحُكْمَيْنِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إذَا كَانَ الْبَائِعُ هُوَ النَّاجِشُ أَوْ كَانَ غَيْرُهُ لَكِنْ بِمُوَاطَأَتِهِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ أَوْ بِعِلْمِهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالُوا فَإِنْ فَاتَتْ الْعَيْنُ فَلَهُ

الْقِيمَةُ مَا لَمْ تَزِدْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ أَوْ عِلْمِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ كَابْنِهِ وَعَبْدِهِ وَنَحْوِهِمَا وَثُبُوتُ الْخِيَارِ إذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَصَحُّ خِلَافُهُ ؛ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ حَيْثُ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ لَكِنْ شَرْطُهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُغْبَنَ بِهِ عَادَةً نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُهُمْ بِالسُّدُسِ ؛ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْقِيمَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ .
( الثَّالِثُ ) : أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَلَا خِيَارَ لِتَقْصِيرِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ الرَّافِعِيُّ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ مَعْصِيَةَ النَّاجِشِ وَشَرَطَ فِي مَعْصِيَةِ مَنْ بَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ .
قَالَ الشَّارِحُونَ : السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ النَّجْشَ خَدِيعَةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَدِيعَةِ وَاضِحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ؛ مَعْلُومٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الْخَبَرَ بِخُصُوصِهِ .
وَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ الْأَخِ إنَّمَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ مِنْ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ فَلَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْخَبَرَ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ إضْرَارٌ أَيْضًا وَتَحْرِيمُ الْإِضْرَارِ مَعْلُومٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ ، وَالْوَجْهُ تَخْصِيصُ الْمَعْصِيَةِ بِمَنْ عَرَفَ التَّحْرِيمَ بِعُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ انْتَهَى .
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فَمَنْ نَجَشَ فَهُوَ عَاصٍ بِالنَّجْشِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَفِي النَّجْشِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ ، وَقَدْ حَكَى هَذَا النَّصَّ أَيْضًا الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ } وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ { لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ } ) .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ ذِكْرُ التَّصْرِيَةِ ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْرَجِ ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي لَفْظٍ لَهُ وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَفِيهِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ ) وَعِنْدَ النَّسَائِيّ ( ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) وَقَالَ ( وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ ) وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ الِاخْتِلَافَ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فِي الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَذِكْرِ الثَّلَاثِ ، وَإِسْقَاطِهَا ، وَقَالَ وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ ( صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ ) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

وَفِيهِ ( بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) وَقَالَ ( صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ) وَمِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا يَسُمْ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ } وَمِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ الْعَلَاءِ وَسُهَيْلٍ عَنْ أَبَوَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ } وَفِي رِوَايَةٍ ( عَلَى سِيمَةِ أَخِيهِ ) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأَخِيرَةَ بِلَفْظِ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّلَقِّي ، وَأَنْ يَبْتَاعَ الْمُهَاجِرُ لِلْأَعْرَابِيِّ ، وَأَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمَرْأَةِ طَلَاقَ أُخْتِهَا ، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ وَعَنْ التَّصْرِيَةِ } أَوْرَدَهُ فِي الشُّرُوطِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ بِمَعْنَاهُ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ تَحْرِيمُ تَلَقِّي الرُّكْبَانَ وَفَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا بِأَنْ يَتَلَقَّ طَائِفَةً يَحْمِلُونَ طَعَامًا إلَى الْبَلَدِ فَيَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ قَبْلَ قُدُومِهِمْ الْبَلَدَ وَمَعْرِفَةِ سِعْرِهِ وَمُقْتَضَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ التَّلَقِّيَ لِشِرَاءِ غَيْرِ الطَّعَامِ لَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ وَلَمْ أَرَ هَذَا التَّقْيِيدَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِمْ وَمُقْتَضَى النَّهْيِ عَنْهُ تَحْرِيمُهُ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَجُوزُ التَّلَقِّي إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ فَإِنْ ضَرَّ سَكَّرَهُ كَذَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ : وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ ، وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ فِي حَالَتَيْنِ ( إحْدَاهُمَا ) أَنْ

يَضُرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ ( وَالثَّانِيَةُ ) أَنْ يُغْلِيَ السُّعْرَ عَلَى الْوَارِدِينَ فَإِنْ أَرَادَ النَّوَوِيُّ ضَرَرَ أَهْلِ الْبَلَدِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ، وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ النَّاسِ تَنَاوَلَ الصُّورَتَيْنِ ثُمَّ إنَّ الْكَرَاهَةَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِلتَّحْرِيمِ فَإِنْ أَرَادُوا ذَلِكَ هُنَا كَانَ مَذْهَبُهُمْ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَكِنْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَهُ إنْ أَضَرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ دُونَ أَنْ يَحْظُرَهُ قَالَ : وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ ، وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ لِلتِّجَارَةِ وَلَا بَأْسَ بِهِ لِابْتِيَاعِ الْقُوتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْأُضْحِيَّةِ .
قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ .
( الثَّالِثَةُ ) شَرَطَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ فِي التَّحْرِيمِ أَنْ يَعْلَمَ النَّهْيَ عَنْ التَّلَقِّي وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَنَاهِي وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِالْجَهَالَةِ وَرَوَى عِيسَى بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ إذَا كَانَ مُعْتَادًا بِذَلِكَ .
( الرَّابِعَةُ ) وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ التَّلَقِّي فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ خَرَجَ لِشُغْلٍ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ فَفِي تَحْرِيمِهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُهُ ؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَى وَسَيَأْتِي عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ اشْتِرَاطُ قَصْدِ التَّلَقِّي .
( الْخَامِسَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ هَلْ يَبْطُلُ أَمْ لَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لَا يَبْطُلُ فَإِنَّ النَّهْيَ لَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يُخِلُّ هَذَا الْفِعْلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْإِضْرَارِ بِالرُّكْبَانِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ ، وَقَالَ آخَرُونَ يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْعُلَمَاءِ ،

وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَا عُمُومَ فِيهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ قَائِلُونَ بِالْبُطْلَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ تُوهِمُ ذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ حَكَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : الْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَفُوزُ بِالسِّلْعَةِ ، وَيَشْرَكُهُ فِيهَا أَهْلُ الْأَسْوَاقِ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَا حَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ الْجَمِيعِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ هُوَ الصَّحِيحُ لَا مَا حَكَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ .
قَالَ : وَكَانَ ابْنُ حَبِيبٍ يَذْهَبُ إلَى فَسْخِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عُرِضَتْ السِّلْعَةُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ وَاشْتَرَكُوا فِيهَا إنْ أَحَبُّوا ، وَإِنْ أَبَوْهَا رُدَّتْ عَلَى مُبْتَاعِهَا .
( السَّادِسَةُ ) إذَا قُلْنَا إنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ فَهَلْ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ أَمْ لَا ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ وَيَعْلَمَ السِّعْرَ فَإِذَا قَدِمَ فَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ أَخْبَرَ الْمُتَلَقِّي بِالسِّعْرِ كَاذِبًا أَمْ لَمْ يُخْبِرْ ، وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِسِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ أَكْثَرَ فَوَجْهَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ لِعَدَمِ الْغَبْنِ .
( وَالثَّانِي ) ثُبُوتُهُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ فَمَنْ تَلَقَّى فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ } وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِأَنْ يُغْبَنَ بِمَا لَا يُغْبَنُ بِهِ عَادَةً وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالثُّلُثِ

وَبَعْضُهُمْ بِالسُّدُسِ وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ عَلَى قَوْلَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ السِّلْعَةَ تُعْرَضُ عَلَى أَهْلِ السِّلَعِ فِي السُّوقِ فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ بِلَا زِيَادَةٍ فَإِنْ لَمْ يُوجَدَ لَهَا سُوقٌ عُرِضَتْ عَلَى النَّاسِ فِي الْمِصْرِ فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا إنْ أَحَبُّوا فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ لَزِمَتْ الْمُشْتَرِيَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ .
( وَالثَّانِي ) يَفُوزُ بِهَا الْمُشْتَرِي وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إنْ كَانَ بَائِعُهَا لَمْ يَذْهَبْ رُدَّتْ إلَيْهِ حَتَّى تُبَاعَ فِي السُّوقِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ اُرْتُجِعَتْ مِنْهُ وَبِيعَتْ فِي السُّوقِ وَدُفِعَ إلَيْهِ ثَمَنُهَا .
( السَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ إزَالَةُ الضَّرَرِ عَنْ الْجَالِبِ وَصِيَانَتُهُ مِمَّنْ يَخْدَعُهُ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ : فَإِنْ قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي سَبَبُهُ الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْبَلَدِ وَاحْتُمِلَ فِيهِ غَبْنُ الْبَادِي فَالْمَنْعُ مِنْ التَّلَقِّي أَنْ لَا يُغْبَنَ الْبَادِي وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ } .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الشَّرْعَ يَنْظُرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى مَصْلَحَةِ النَّاسِ وَالْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَنْظُرَ لِلْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ لَا لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَلَمَّا كَانَ الْبَادِي إذَا بَاعَ بِنَفْسِهِ انْتَفَعَ جَمِيعُ أَهْلِ السُّوقِ وَاشْتَرَوْا رَخِيصًا فَانْتَفَعَ بِهِ جَمِيعُ سُكَّانِ الْبَلَدِ نَظَرَ الشَّرْعُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى الْبَادِي .
وَلَمَّا كَانَ فِي التَّلَقِّي إنَّمَا يَنْتَفِعُ الْمُتَلَقِّي خَاصَّةً وَهُوَ وَاحِدٌ فِي مُقَابَلَةِ وَاحِدٍ لَمْ تَكُنْ إبَاحَةُ التَّلَقِّي مَصْلَحَةً لَا سِيَّمَا وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ لُحُوقِ الضَّرَرِ بِأَهْلِ السُّوقِ فِي انْفِرَادِ الْمُتَلَقِّي عَنْهُمْ بِالرُّخْصِ وَقَطْعِ الْمَوَادِّ عَنْهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ الْمُتَلَقِّي فَنَظَرَ الشَّرْعُ

لَهُمْ عَلَيْهِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بَلْ هُمَا مُتَّفِقَتَانِ فِي الْحُكْمِ وَالْمَصْلَحَةِ .
انْتَهَى .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّلَقِّي هُوَ لِمَصْلَحَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ أَيْضًا فَإِنَّ الْقَوَافِلَ إذَا صُنِعَ مَعَهُمْ مِثْلُ هَذَا الصُّنْعِ تَأَذَّوْا مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبًا لِانْقِطَاعِهِمْ عَنْ الْبَلَدِ فَيَتَضَرَّرُ أَهْلُ الْبَلَدِ بِانْقِطَاعِ الْجَلَبِ عَنْهُمْ .
وَقَالَ : ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعْنَى النَّهْيِ عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ لِئَلَّا يُقْطَعَ بِهِمْ عَمَّا لَوْ جَلَسُوا يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَنَهَى النَّاسَ أَنْ يَتَلَقَّوْا السِّلَعَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادًا عَلَيْهِمْ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ رِفْقًا بِصَاحِبِ السِّلْعَةِ لِئَلَّا يُبْخَسَ فِي ثَمَنِ سِلْعَتِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ بِمِثْلِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ خَبَرٌ صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ فَذَكَرَ رِوَايَةَ الْخِيَارِ ، وَفِيمَا حَكَاهُ عَنْ اللَّيْثِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فَمَذْهَبُهُ حِينَئِذٍ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ لَا لِأَهْلِ الْبَلَدِ ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ فَرَحْمَتُهُ بِأَهْلِ الْحَضَرِ وَالْجَالِبِينَ سَوَاءٌ وَلَكِنَّهَا الشَّرَائِعُ تُوحَى إلَيْهِ فَيُؤَدِّيهَا كَمَا أُمِرَ .
( الثَّامِنَةُ ) شَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِلتَّحْرِيمِ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُتَلَقِّي الْقَافِلَةَ بِطَلَبِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ فَلَوْ ابْتَدَءُوهُ فَالْتَمَسُوا مِنْهُ الشِّرَاءَ مِنْهُمْ وَهُمْ عَالِمُونَ بِسِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ غَيْرِ عَالِمِينَ فَجَعَلُوهُ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ بَانَ أَنَّ الشِّرَاءَ بِسِعْرِ الْبَلَدِ أَوْ أَكْثَرَ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْأَصَحَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ ( لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ ) يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الرُّكْبَانِ لِلْمُتَلَقِّي وَبَيْعَ الْمُتَلَقِّي لَهُمْ وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا صُورَةَ الْحَدِيثِ هِيَ الْأُولَى وَحَكَوْا فِي تَحْرِيمِ

الثَّانِيَةِ وَجْهَيْنِ .
( الْعَاشِرَةُ ) حَيْثُ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّلَقِّي بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمَسَافَةُ الَّتِي يَتَلَقَّى إلَيْهَا قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ مَحَلَّ النَّهْيِ بِحَدٍّ مَخْصُوصٍ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْحَدِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مِيلٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَرْسَخَانِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمَانِ وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّةَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأَكْرَهُ تَلَقِّي السِّلَعِ ، وَأَنْ يَبْلُغُوا بِالتَّلَقِّي أَرْبَعَةً بُرُدٍ .
انْتَهَى .
فَإِنْ زَادَتْ الْمَسَافَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ النَّهْيِ وَقِيلَ لِمَالِكٍ أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَمْيَالٍ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ جَازَ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي أَنَّ النَّظَرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ ، وَإِنَّمَا تَتَشَوَّفُ أَطْمَاعُهُمْ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا الْبَعِيدُ فَلَا تَشَوُّفَ لَهُمْ إلَيْهِ وَلَعَلَّ النَّظَرَ فِي تَحْدِيدِ الْقُرْبِ لِلْعُرْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ إلَيْهِ فَإِنْ تَلَقَّاهَا بِحَيْثُ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فَصَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ( بَابَ مُنْتَهَى التَّلَقِّي ) وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ { كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ } وَحَدِيثُهُ { كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِي أَعْلَى السُّوقِ فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ

يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ } فَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ التَّلَقِّيَ كَانَ إلَى أَعْلَى السُّوقِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ الْبَلَدِ وَبَيَّنَ الْبُخَارِيُّ بِتَبْوِيبِهِ مُنْتَهَى التَّلَقِّي الْجَائِزِ ، وَهُوَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَلَدِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا وَقَعَ فِي التَّلَقِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا يُوَافِقُ هَذَا حَيْثُ قَالُوا فِي تَعْرِيفِهِ الَّذِي قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ ( قَبْلَ قُدُومِهِمْ الْبَلَدَ ) وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ إذَا قَدِمُوا الْبَلَدَ أَمْكَنَهُمْ مَعْرِفَةَ السِّعْرِ وَطَلَبِ الْحَظِّ ؛ لِأَنْفُسِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَهُوَ بِتَقْصِيرِهِمْ .
وَأَمَّا قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ السِّعْرَ وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ تَعَرُّفُهُ فَنَادِرٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ .
وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ السُّوقِ فِي الْحَاضِرَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا بِحَيْثُ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ سِعْرِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ هُنَالِكَ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّلَقِّي ، وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْبَعِيدُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ وَلَيْسَ بِتَلَقٍّ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُشْتَرَى فِي نَوَاحِي الْمِصْرِ حَتَّى يَهْبِطَ بِهِ السُّوقَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبَلَغَنِي هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْ التَّلَقِّي خَارِجَ السُّوقِ وَرَخَّصَا فِي ذَلِكَ فِي أَعْلَى السُّوقِ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ فَرَدَّ تَبْوِيبَ الْبُخَارِيِّ إلَى مَذْهَبِهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ السِّعْرِ كَانَ الشِّرَاءُ حَرَامًا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ السِّعْرِ كَانَ جَائِزًا غَيْرَ مُلَائِمٍ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ عَكْسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُ تَلَقِّي السِّلَعَ وَشِرَاءَهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى بَابِك حَتَّى تَقِفَ السِّلْعَةُ فِي سُوقِهَا الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا قَالَ : وَإِنْ كَانَ عَلَى بَابِهِ أَوْ

فِي طَرِيقِهِ فَمَرَّتْ بِهِ سِلْعَةٌ يُرِيدُ صَاحِبَهَا سُوقَ تِلْكَ السِّلْعَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ التَّلَقِّي إنَّمَا التَّلَقِّي أَنْ يَقْصِدَ لِذَلِكَ .
وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ التَّلَقِّي قَالَ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهِ هُمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا ثُمَّ خَالَفَهُ فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي رَدِّ الْخَبَرِ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْفُتْيَا بِتَرْكِ التَّلَقِّي .
( ثَانِيهَا ) : أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ حَيْثُ ابْتَاعَهُ .
( ثَالِثُهَا ) : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَنَهَانَا أَنْ نَبِيعَهُ أَنْ نَبْتَاعَهُ .
( رَابِعُهَا ) : أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ .
( خَامِسُهَا ) : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْبَائِعِينَ أَجَازُوا الْبَيْعَ .
( سَادِسُهَا ) : مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى بَيَّنَتْ أَنَّ التَّلَقِّيَ كَانَ إلَى أَعْلَى السُّوقِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْهُ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْ الْحَاضِرَةِ إلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُمْ الثَّمَرَةَ مَكَانَهَا وَرَآهُ مِنْ التَّلَقِّي وَقَالَ أَشْهَبُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا بِتَلَقٍّ وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى الشَّيْءَ بِمَوْضِعِهِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الْبُلْدَانِ فِي الْأَمْتِعَةِ وَالسِّلَعِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّظَرِ ، وَإِنَّمَا التَّلَقِّي تَلَقِّي مَنْ خَرَجَ بِسِلْعَتِهِ يُرِيدُ بِهَا السُّوقَ .
وَأَمَّا مَنْ قَصَدْتَهُ إلَى مَوْضِعِهِ فَلَمْ تَتَلَقَّهُ .
انْتَهَى .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ ) خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ الْجَالِبِينَ لِلْمَتَاعِ يَكُونُونَ جَمَاعَةً رُكْبَانًا فَلَوْ كَانُوا مُشَاةً أَوْ كَانَ الْجَالِبُ لِلْمَتَاعِ وَاحِدًا رَاكِبًا كَانَ أَوْ مَاشِيًا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ الشَّرْطِ افْسَخْ لِأَبِيعَك خَيْرًا مِنْهُ أَوْ أَرْخَصَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .

( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) وَفِي مَعْنَاهُ الشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ افْسَخْ لِأَشْتَرِيَ مِنْك بِأَكْثَرَ وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَى مَنْعِهِ أَيْضًا ، وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَأَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ إلَى حَمْلِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ بِعْت بِمَعْنَى اشْتَرَيْت قَالُوا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبِيعُ أَحَدٌ عَلَى بَيْعِ أَحَدٍ فِي الْعَادَةِ وَمَا أَدْرِي أَيُّ مُوجِبٍ لِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَالِاسْتِعْمَالُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي تَسْمِيَةِ الشِّرَاءِ بَيْعًا ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَلَكِنْ عَكْسُهُ أَشْهَرُ مِنْهُ .
وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَوْنُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ مَرْدُودٌ وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُنْهَى عَنْهُ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَفِي مَعْنَاهُ أَيْضًا السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ عَلَى انْفِرَادِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي ثُبُوتِهِ فَقَالَ إنْ كَانَ ثَابِتًا وَلَسْتُ أَحْفَظُهُ ثَابِتًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَدْ ثَبَتَ مِنْ أَوْجُهٍ وَبَسَطَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي رَوَاهُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْبَيْعِ وَالسَّوْمِ وَالِاسْتِيَامِ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ اللَّفْظَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ وَالنَّاقِدِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ فِيهَا لَفْظَ الْبَيْعِ وَالسَّوْمِ جَمِيعًا ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرُوا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ لَفْظَ السَّوْمِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا فَسَّرَهُ غَيْرُهُ مِنْ السَّوْمِ وَالِاسْتِيَامِ ، وَإِمَّا أَنْ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ أَحْفَظُهُمْ ، وَأَفْقَهُهُمْ وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ ، وَأَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْقُوبَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْهُ وَبِأَنَّ رِوَايَتَهُ تُوَافِقُ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
انْتَهَى .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ ( وَلَا يَسُمْ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ) وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ إنَّهَا شَاذَّةٌ انْتَهَى .
فَيُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رِوَايَةَ السَّوْمِ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَكَيْفَ عَزَاهَا لِمُسْلِمٍ خَاصَّةً وَكَيْفَ حَكَى عَنْ الْبَيْهَقِيّ شُذُوذَهَا مَعَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا ثَابِتَةٌ ؟ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ شَاذٌّ زِيَادَةُ السَّوْمِ مَعَ ذِكْرِ

الْبَيْعِ .
وَأَمَّا ذِكْرُ السَّوْمِ وَحْدَهُ فَهُوَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَكَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِثُبُوتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالسَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ فَيَجِيءَ إلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَقُولَ رُدَّهُ حَتَّى أَبِيعَك خَيْرًا مِنْهُ بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ يَقُولَ لِمَالِكِهِ اسْتَرَدَّهُ لِأَشْتَرِيَهُ مِنْك بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ وَحَمَلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ عَلَى السَّوْمِ وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالسَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ مُتَّفَقٌ عَلَى مَنْعِهِ إذَا كَانَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ وَرُكُونِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا حَصَلَ التَّرَاضِي صَرِيحًا فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ وَلَكِنْ جَرَى مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى فَفِي التَّحْرِيمِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَحْرُمُ فَإِنْ لَمْ يَجْرِ شَيْءٌ بَلْ سَكَتَ فَالْمَذْهَبُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالرَّدِّ وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَأَمَّا السَّوْمُ فِي السِّلْعَةِ الَّتِي تُبَاعُ فِيمَنْ يَزِيدُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَنْ يَزِيدُ وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ اشْتِرَاطَ الرُّكُونِ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا تَفْسِيرٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ شَرْطُ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُشْتَرِي مَغْبُونًا غَبْنًا مُفْرِطًا فَإِنْ كَانَ فَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ وَيَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ النَّصِيحَةِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا الشَّرْطُ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَجٍّ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَوَافَقَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ

فَقَالَ : وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْمُسَاوِمَ أَوْ الْبَائِعَ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَى الْقِيمَةِ لَكِنْ يُرِيدُ غَبْنَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَذَا فَرْضٌ عَلَيْهِ نَصِيحَةَ الْمُسْلِمِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّهْيِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدَّيْنُ النَّصِيحَةُ } .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) مَحَلُّ التَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَأْذَنْ الْبَائِعُ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِهِ فَإِنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ .

( الْعِشْرُونَ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ حَرْبَوَيْهِ يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي سَوْمِهِ إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) لَوْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ فِي هَذَا وَعَقَدَ فَهُوَ آثِمٌ بِذَلِكَ وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِعَدَمِ اخْتِلَالِ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ وَالنَّهْيُ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ لِأَذَى غَيْرِهِ وَلَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْعَقْدِ وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ دَاوُد وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيَّانِ : لَا يَنْعَقِدُ ؛ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَجَزَمَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ بِالْبُطْلَانِ .
وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنْ يَكُونَ مَالِكٌ قَالَهُ فِي الْبَيْعِ .
وَقَالَ إنَّمَا قَالَهُ فِي الْخِطْبَةِ وَهُمَا وَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَدْ يَدْخُلُ فِي السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ الْإِجَارَةُ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ فِي أَنَّهَا تُقْصَدُ وَيُعْقَدُ عَلَيْهَا وَقَدْ تَدْخُلُ أَيْضًا فِي الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ تَفْرِيعًا عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيهَا وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ خِلَافَهُ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعٌ فِي اللُّغَةِ ، وَإِنْ اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ .

( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) وَكَذَلِكَ السَّلَمُ قَدْ يَدْخُلُ فِي السَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ بِأَنْ يَتَّفِقَ شَخْصٌ مَعَ آخَرَ عَلَى السَّلَمِ لَهُ فِي غَلَّةٍ ؛ بِسِعْرِ كَذَا وَتَحْصُلُ الْإِجَابَةُ صَرِيحًا فَيَقُولُ شَخْصٌ لِلْمُسَلِّمِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْغَلَّةِ أَوْ مِثْلِهَا بِأَنْقَصَ مِنْ هَذَا السِّعْرِ أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ إلَيْهِ أَنَا أُعْطِيك أَزْيَدَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُ وَقَدْ يُقَالُ لَا يَلْتَحِقُ السَّلَمَ فِي ذَلِكَ بِالْبَيْعِ لِتَعَلُّقِ الْبَيْعِ بِالْأَعْيَانِ .
وَأَمَّا السَّلَمُ لَمَّا كَانَ بَيْعًا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ تَنَافٍ فَقَدْ يَعْقِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا لَكِنْ مَتَى تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِ مِنْ عَقْدِ السَّلَمِ بِرَأْسِ مَالٍ كَثِيرٍ لَا يَعْقِدُهُ بِرَأْسِ مَالٍ قَلِيلٍ فِي الْعَادَةِ فَيَحْصُلُ حِينَئِذٍ الضَّرَرُ وَهَذَا أَرْجَحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْأَكْثَرِينَ ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى جَوَازِهِ لِحَدِيثِ { الدَّيْنُ النَّصِيحَةُ } وَقَالُوا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي مَنْسُوخٌ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَرَدَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النَّهْيَ الَّذِي هُنَا خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرِ بِالنَّصِيحَةِ وَيَكُونُ هَذَا كَالْمُسْتَثْنَى مِنْهَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلَا يَقْبَلُ النَّسْخَ وَلَا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى قَالَ الْقَفَّالُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْإِثْمُ عَلَى الْبَلَدِيِّ دُونَ الْبَدْوِيِّ .
( الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فَسَّرَ أَصْحَابُنَا بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي بِأَنْ يَقْدُمَ إلَى الْبَلَدِ بَلَدِيٌّ أَوْ قَرَوِيٌّ بِسِلْعَةٍ يُرِيدُ بَيْعُهَا بِسِعْرِ الْوَقْتِ لِيَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ فَيَأْتِيَهُ بَلَدِيٌّ فَيَقُولُ ضَعْ مَتَاعَك عِنْدِي لِأَبِيعَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَغْلَى مِنْ هَذَا السِّعْرِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا الْحُكْمَ بِالْبَادِي وَجَعَلُوهُ مَنُوطًا بِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ بَادِيًا أَوْ حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي إضْرَارِ أَهْلِ الْبَلَدِ يَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ وَذِكْرُ الْبَادِي مِثَالٌ لَا قَيْدٌ ، وَجَعَلَهُ مَالِكٌ قَيْدًا فَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : مَنْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ؟ قَالَ أَهْلُ الْعَمُودِ قِيلَ لَهُ الْقُرَى الْمَسْكُونَةُ الَّتِي لَا يُفَارِقُهَا أَهْلُهَا فِي نَوَاحِي الْمَدِينَةِ يَقْدُمُ بَعْضُهُمْ بِالسِّلَعِ فَيَبِيعُهَا لَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَالَ نَعَمْ إنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ أَهْلُ الْعَمُودِ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَأَهْلُ الْقُرَى فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدَائِنِ مِنْ أَهْلِ الرِّيفِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْبَيْعِ لَهُمْ بَأْسٌ مِمَّنْ يَرَى أَنَّهُ يَعْرِفُ السَّوْمَ إلَّا

مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُشْبِهُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يَبِيعَ لَهُمْ حَاضِرٌ قَالَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ وَالْبَادِي الَّذِي لَا يَبِيعُ لَهُمْ الْحَاضِرُ هُمْ أَهْلُ الْعَمُودِ ، وَأَهْلُ الْبَوَادِي وَالْبَرَارِي مِثْلُ الْأَعْرَابِ .
قَالَ : وَجَاءَ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ إرَادَةَ أَنْ يُصِيبَ النَّاسِ ثَمَرَتَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
قَالَ : فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَثْمَانَ سِلْعَتِهِمْ ، وَأَسْوَاقَهَا فَلَمْ يُعْنَوْا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ قَالَ يَعْنِي مَالِكًا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَبِيعُ مِصْرِيٌّ لِمَدَنِيٍّ وَلَا مَدَنِيٌّ لِمِصْرِيٍّ وَلَكِنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ ، وَحَكَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ : وَفِي الْمُوَطَّإِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَمُودِ لِجَهْلِهِمْ بِالْأَسْعَارِ وَقِيلَ بِعُمُومِهِ ؛ لِقَوْلِهِ ؛ وَلَا يَبِيعُ مَدَنِيٌّ لِمِصْرِيٍّ وَلَا مِصْرِيٌّ لِمَدَنِيٍّ .
( السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّمَا يَحْرُمُ بِشُرُوطٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ فِيهِ وَهَذَا شَرْطٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَنَاهِي .
وَ ( الثَّانِي ) : أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ الْمَجْلُوبُ مِمَّا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ كَالْأَطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا نَادِرًا فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنْ يَظْهَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ سَعَةٌ فِي الْبَلَدِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ؛ لِكِبَرِ الْبَلَدِ ؛ أَوْ قِلَّةِ مَا مَعَهُ أَوْ ؛ لِعُمُومِ وُجُودِهِ وَرُخْصِ السِّعْرِ فَوَجْهَانِ أَوْفَقُهُمَا لِلْحَدِيثِ التَّحْرِيمُ .
وَ ( الرَّابِعُ ) أَنْ يَعْرِضَ الْحَضَرِيُّ ذَلِكَ عَلَى الْبَدَوِيِّ وَيَدْعُوهُ إلَيْهِ أَمَّا إذَا الْتَمَسَ الْبَدَوِيُّ مِنْهُ بَيْعَهُ تَدْرِيجًا أَوْ قَصَدَ الْإِقَامَةَ فِي الْبَلَدِ

لِبَيْعِ ذَلِكَ فَسَأَلَ الْبَدَوِيَّ تَفْوِيضَهُ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْهُ ، وَلَوْ أَنَّ الْبَدْوِيَّ اسْتَشَارَ الْبَلَدِيَّ فِيمَا فِيهِ حَظُّهُ فَهَلْ يُرْشِدُهُ إلَى الِادِّخَارِ أَوْ الْبَيْعِ عَلَى التَّدْرِيجِ ؟ وَجْهَانِ .
حَكَى الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْشَادُهُ إلَيْهِ أَدَاءً لِلنَّصِيحَةِ وَعَنْ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ لَا يُرْشِدُهُ إلَيْهِ تَوْسِيعًا عَلَى النَّاسِ .
وَكَذَا اعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الشُّرُوطَ ، وَعِبَارَةُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ أَنْ يَحْضُرَ الْبَادِي لِبَيْعِ شَيْءٍ بِسِعْرِ يَوْمِهِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِسِعْرِهِ وَبِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ وَيَقْصِدُهُ الْحَاضِرُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْبَدَوِيِّ يَقْدُمُ فَيَسْأَلُ الْحَاضِرَ عَنْ السِّعْرِ أَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ وَقَالَ أَيْضًا لَا أَرَى أَنْ يَبِيعَ مِصْرِيٌّ لِمَدَنِيٍّ وَلَا مَدَنِيٌّ لِمِصْرِيٍّ وَلَكِنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَيْضًا : لَا يَبِيعُ أَهْلُ الْقُرَى لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ سِلَعَهُمْ قِيلَ لَهُ فَإِنْ بَعَثَ بِالسِّلْعَةِ إلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لَمْ يَقْدُمْ مَعَهُ سِلْعَتَهُ قَالَ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ثُمَّ حَكَى عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَبْعَثُ الْبَدَوِيُّ إلَى الْحَضَرِيِّ بِمَتَاعٍ يَبِيعُهُ لَهُ وَلَا يُشِيرُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ إنْ قَدِمَ عَلَيْهِ ثُمَّ حَكَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يُشِيرُ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشَارَ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاعَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنْ يُرَخِّصُوا إلَى أَهْلِ الْحَضَرِ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالسُّوقِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَكِنْ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالسِّعْرِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ

الْأَحْكَامِ تَدُورُ بَيْنَ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى وَاتِّبَاعِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمَعْنَى إلَى الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ فَحَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا كَثِيرًا فَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِهِ وَتَخْصِيصِ النَّصِّ بِهِ أَوْ تَعْمِيمِهِ عَلَى قَوَاعِدِ الْقِيَاسِ ، وَحَيْثُ يَخْفَى أَوْ لَا يَظْهَرُ ظُهُورًا قَوِيًّا فَاتِّبَاعُ اللَّفْظِ أَوْلَى .
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَدَوِيُّ ذَلِكَ فَلَا يَقْوَى ؛ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ ظُهُورِ الْمَعْنَى فِيهِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ النَّهْيُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بَيْنَ سُؤَالِ الْبَلَدِيِّ وَعَدَمِهِ ظَاهِرٌ أَوْ أَمَّا اشْتِرَاطُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ فَمُتَوَسِّطٌ فِي الظُّهُورِ وَعَدَمُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَاعِيَ مُجَرَّدَ رِبْحِ النَّاسِ عَلَى مَا أَشْعَرَ بِهِ التَّعْلِيلُ مِنْ قَوْلِهِ : ( دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) .
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ الْمَتَاعِ الْمَجْلُوبِ سَعَةٌ فِي الْبَلَدِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا أَيْ إنَّهُ مُتَوَسِّطٌ فِي الظُّهُورِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَقْرِيبِ الرِّبْحِ وَالرِّزْقِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ ( مِنْهَا ) مَا يَقُومُ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَيْهِ كَشَرْطِنَا الْعِلْمَ بِالنَّهْيِ وَلَا إشْكَالَ فِيهَا .
( وَمِنْهَا ) مَا يُؤْخَذُ بِاسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى فَيَخْرُجَ عَلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ وَهِيَ أَنَّ النَّصَّ إذَا اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالتَّخْصِيصِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا انْتَهَى .
وَقَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ جَوَازُ الْإِشَارَةِ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ الْبَيْعِ لَهُ لَيْسَ فِيهِ بَيْعٌ لَهُ ، وَقَدْ أَمَرَ بِنُصْحِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَإِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ } انْتَهَى .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ( السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) لَوْ خَالَفَ الْحَاضِرُ وَبَاعَ

لِلْبَادِي حَيْثُ مَنَعْنَاهُ مِنْهُ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ لِجَمْعِهِ الْأَرْكَانَ وَالشَّرَائِطَ وَالْخَلَلَ فِي غَيْرِهِ .
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالصِّحَّةِ وَبَعْضُهُمْ بِالْبُطْلَانِ مَا لَمْ يَفُتْ وَالْقَوْلَانِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمِمَّنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَقَالَ سَحْنُونٌ وَقَالَ لِي غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّهُ يُرَدُّ الْبَيْعُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَمُسْتَنَدُ الْبُطْلَانِ اقْتِضَاءُ النَّهْيِ الْفَسَادَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ : وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ الْحَاضِرُ إذَا بَاعَ لِلْبَادِي وَرَوَى عِيسَى عَنْهُ إنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَا يُؤَدَّبُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ أَوْ جَاهِلًا .

( الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ ) أَمَّا شِرَاءُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ فَمَرَّةً مَنَعَهُ وَمَرَّةً قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الشِّرَاءُ لِلْبَادِي مِثْلُ الْبَيْعِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ } إنَّمَا هُوَ لَا يَشْتَرِي أَحَدُكُمْ عَلَى شِرَاءِ بَعْضٍ ، قَالَ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَضَرِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْبَدَوِيِّ وَلَا أَنْ يَبِيعَ لَهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَقَدْ عَرَفْت الرَّدَّ عَلَيْهِ فِي حَمْلِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى الشِّرَاءِ قَرِيبًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَصْحَابُنَا لِمَنْعِ شِرَاءِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي .

( التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَلْ يَبِيعُ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ } قَالَ وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ جَرِيرٍ { بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ } ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ { لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ } ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا ثُمَّ بَوَّبَ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ } قَالَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ بَوَّبَ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ قَالَ وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ بِعْ لِي ثَوْبًا وَهِيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ } وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنْ يُجِيزَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَيَمْنَعُهُ إذَا كَانَ بِأَجْرٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا فَكَأَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لِغَيْرِ السِّمْسَارِ إذَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النُّصْحِ .
قَالَ : وَلَمْ يُرَاعِ الْفُقَهَاءُ فِي السِّمْسَارِ أَجْرًا وَلَا غَيْرَهُ وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَنْ كَرِهَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي كَرِهَهُ بِأَجْرٍ وَبِغَيْرِ أَجْرٍ وَمَنْ أَجَازَهُ أَجَازَهُ بِأَجْرٍ وَبِغَيْرِ أَجْرٍ .
انْتَهَى .
( الثَّلَاثُونَ ) حَمَلَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عَلَى صُورَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يَبِيعَ الْحَضَرِيُّ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ لِأَهْلِ

الْبَادِيَةِ لِطَلَبِ زِيَادَةِ السِّعْرِ فَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذَا الْحَدِيثَ وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ فِي قَحْطٍ وَعَوَزٍ وَهُوَ يَبِيعُ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ طَمَعًا فِي الثَّمَنِ الْغَالِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ انْتَهَى .
وَيَرُدُّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِهِ لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ { عَنْ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدِمَ بِجَلُوبَةٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَكِنْ اذْهَبْ إلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنْ يُبَايِعُك فَشَاوِرْنِي حَتَّى آمُرَك ، وَأَنْهَاك } .

( الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهُ ( وَلَا تُصَرُّوا ) هُوَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ ؛ وَنَصْبِ ( الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ ) مِنْ التَّصْرِيَةِ ، وَهِيَ الْجَمْعُ يُقَالُ صَرَّى يُصَرِّي تَصْرِيَةً فَهِيَ مُصَرَّاةٌ كَغَشَاهَا يُغَشِّيهَا تَغْشِيَةً فَهِيَ مُغَشَّاةٌ وَزَكَّاهَا يُزَكِّيهَا تَزْكِيَةً فَهِيَ مُزَكَّاةٌ وَيُقَالُ أَيْضًا صَرَى بِالتَّخْفِيفِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَرَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِهِمْ لَا تَصُرُّوا بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الصَّادِ مِنْ الصَّرِّ وَعَنْ بَعْضِهِمْ لَا تُصَرُّ الْإِبِل بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ تَصْرِ بِغَيْرِ وَاوٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَبِرَفْعِ الْإِبِلِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِنْ الصَّرُّ أَيْضًا وَهُوَ رَبْطُ أَخْلَافِهَا .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ وَمَعْنَاهُ لَا يَجْمَعُ اللَّبَنَ فِي ضَرْعِهَا عِنْدَ إرَادَةِ بَيْعِهَا حَتَّى يَعْظُمَ ضَرْعُهَا فَيَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّ كَثْرَةَ لَبَنِهَا عَادَةٌ لَهَا مُسْتَمِرَّةٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ صَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْته وَصَرَّى الْمَاءَ فِي ظَهْرِهِ أَيْ حَبَسَهُ فَلَمْ يَتَزَوَّجْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمُصَرَّاةِ وَفِي اشْتِقَاقِهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّصْرِيَةُ أَنْ تُرْبَطَ أَخْلَافُ النَّاقَةِ أَوْ الشَّاةِ وَيُتْرَكُ حَلْبُهَا الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ حَتَّى يَجْتَمِعَ لَبَنُهَا فَيَزِيدَ مُشْتَرِيهَا فِي ثَمَنِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ عَادَةٌ لَهَا ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ مِنْ صَرَّى اللَّبَنَ فِي ضَرْعِهَا أَيْ حَقَنَهُ فِيهِ ، وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الرَّبْطِ لَكَانَتْ مَصْرُورَةً أَوْ مُصَرَّرَةً قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ حَسَنٌ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ .
قَالَ وَالْعَرَبُ تَصُرُّ الضُّرُوعَ الْمَحْلُوبَاتِ وَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِ الْعَرَبِ الْعَبْدُ لَا يُحْسِنُ الْكَرَّ إنَّمَا يُحْسِنُ الْحَلْبَ وَالصَّرَّ ، وَبِقَوْلِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ : فَقُلْت لِقَوْمِي هَذِهِ

صَدَقَاتُكُمْ مُصَرَّرَةٌ أَخْلَافُهَا لَمْ تُجَرَّدْ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَصْلَ الْمُصَرَّاةِ مُصَرَّرَةٌ أُبْدِلَتْ إحْدَى الرَّائَيْنِ أَلِفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أَيْ دَسَّسَتْهَا كَرِهُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ( مُحَفَّلَةٌ ) هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ حَفَلَ فِي ضَرْعِهَا أَيْ جُمِعَ .
( الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) فِيهِ تَحْرِيمُ التَّصْرِيَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا لَكِنَّهُمَا عَلَّلَاهُ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّدْلِيسِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْبَيْعِ ، وَصَرَّحَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّصْرِيَةِ مُطْلَقًا لِلْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ الْحَيَوَانِ لَكِنْ رَوَى الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ وَمَالِكٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا تَصُرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيْعِ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْبَيْعِ فَلَوْ حَفَلَهَا وَجَمَعَ لَبَنَهَا لِوَلَدِهَا أَوْ لِضَيْفٍ يَقْدُمُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْرُمْ ، وَيُجَابُ عَنْ التَّأَذِّي بِأَنَّهُ يَسِيرٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ ضَرَرٌ مُسْتَمِرٌّ فَيُغْتَفَرُ ؛ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ كَمَا يُغْتَفَرُ تَأَذِّي الدَّابَّةِ فِي الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ حَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ وَمَحْظُورٌ .
( الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) الظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ دُونَ غَيْرِهِمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِيمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تُصَرِّيهِ وَتَبِيعُهُ تَدْلِيسًا وَغِشًّا فَإِنَّ الْبَقَرَ قَلِيلٌ بِبِلَادِهِمْ وَغَيْرُ الْأَنْعَامِ لَا يُقْصَدُ لَبَنُهَا غَالِبًا فَلَمْ

يَكُونُوا يَصُرُّونَ غَيْرَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ كَيْفَ وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ حُجَّةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَهُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُصَرَّاةٍ لَكِنْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً ) فَصَرَّحَ بِذِكْرِ الْمَوْصُوفِ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ تَحْرِيمَ التَّصْرِيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ مُصَرَّاةٍ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَنْعَامُ وَغَيْرُهَا مِمَّا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ ، وَغَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ مِمَّا يَحِلُّ بَيْعُهُ .
وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ وَرَدُّ الصَّاعِ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) وَفِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ صَحِيحٌ ؛ لِقَوْلِهِ ( إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ) وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ التَّصْرِيَةَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرُدُّهَا بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ .
( الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) ( إنْ قُلْت ) قَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا بَعْدَ الْحَلْبِ مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ إذَا عَلِمَ التَّصْرِيَةَ ( قُلْت ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ جَوَابُهُ أَنَّهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْخِيَارِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ أَعْنِي الْإِمْسَاكَ وَالرَّدَّ مَعَ الصَّاعِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَلْبِ لِتَوَقُّفِ هَذَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ عَلَى الْحَلْبِ ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ عِوَضٌ عَنْ اللَّبَنِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الْحَلْبُ .
انْتَهَى .
( قُلْت ) وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ التَّصْرِيَةَ لَا تُعْرَفُ غَالِبًا إلَّا بِالْحَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَبَ أَوَّلًا لَبَنًا غَزِيرًا ثُمَّ حَلَبَ ثَانِيًا لَبَنًا قَلِيلًا عَرَفَ حِينَئِذٍ ذَلِكَ فَعَبَّرَ بِالْحَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ التَّصْرِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهُ غَالِبًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ ( وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا ) أَنَّ الرَّدَّ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى إطْلَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ صَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ .
وَ ( الثَّانِي ) أَنَّهُ يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ صَوَّبَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَقَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي الْإِمْلَاءِ

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَالْجَوْرِيُّ وَالْفُورَانِيُّ كَمَا حَكَاهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِحَمْلِهَا عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا نَقَصَ لَبَنُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ احْتَمَلَ كَوْنُ النَّقْصِ لِعَارِضٍ مِنْ سُوءِ مَرْعَاهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا اسْتَمَرَّ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلِمَ أَنَّهَا مُصَرَّاةٌ .
( السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) الْقَائِلُونَ بِامْتِدَادِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَائِهَا وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ الْعَقْدِ .
وَ ( الثَّانِي ) أَنَّهُ مِنْ التَّفَرُّقِ وَشَبَّهُوا الْوَجْهَيْنِ بِالْوَجْهَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ الْعَقْدِ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ تَبَيَّنَتْ التَّصْرِيَةُ .
( الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) وَرَتَّبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِدَادِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فُرُوعًا .
( مِنْهَا ) لَوْ عَرَفَ التَّصْرِيَةَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ امْتَدَّ الْخِيَارُ إلَى آخَرِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ التَّصْرِيَةَ فِي آخَرِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَلَا خِيَارَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِامْتِنَاعِ مُجَاوَزَةِ الثَّلَاثَةِ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَالِمًا بِالتَّصْرِيَةِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلَا خِيَارَ فِي الثَّالِثِ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ وَفِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا

فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ نَظَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا اعْتَبَرَ الْمُدَّةَ مِنْ حِينِ مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْخِيَارِ ، وَإِلَّا كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَوْرُ مُتَّصِلًا بِالْعَقْدِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَخِيفَ أَنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ عِلْمُهُ بِهِ عَنْ الْعَقْدِ فَاتَ الْخِيَارُ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ .
وَيَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ أَنْ يَكُونَ الْفَوْرُ أَوْسَعَ مِنْ الثَّلَاثِ فِي الْفَرْعِ الثَّانِي وَهُوَ بَعِيدٌ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ تُحْسَبَ الْمُدَّةُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفَسْخِ ، وَذَلِكَ يُفَوِّتُ مَقْصُودَ التَّوَسُّعِ بِالْمُدَّةِ وَيُؤَدِّي إلَى نُقْصَانِهَا فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِهَا وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدِي أَظْهَرُ ، وَأَوْفَقُ لِلْحَدِيثِ وَلِلْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْبَائِعُ التَّصْرِيَةَ بَلْ تَرَكَ الْحَلْبَ نَاسِيًا أَوْ لِشُغْلٍ عَرَضَ لَهُ أَوْ تَصَرَّتْ هِيَ بِنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهِيَ عَنْ التَّصْرِيَةِ ؛ لِأَجْلِ الْبَيْعِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مَا هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَخَيَّرَ وَهَذِهِ الصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا تَصْرِيَةٌ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَبِهَذَا جَزَمَ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْغَفَّارِ الْقَزْوِينِيُّ فِي الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَحَكَى الْبَغَوِيّ فِيهَا وَجْهَيْنِ وَصَحَّ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِحُصُولِ ` الضَّرَرِ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْبَائِعُ التَّدْلِيسَ .

( الْأَرْبَعُونَ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لِلْمُشْتَرِي التَّصْرِيَةُ لَكِنْ دَرَّ اللَّبَنُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَشْعَرَتْ بِهِ التَّصْرِيَةُ وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ ثُبُوتَ الْخِيَارِ وَلَمْ يُفَصِّلْ لَكِنَّ هَذِهِ صُورَةٌ نَادِرَةٌ أَعْنِي تَغَيُّرَ الْحَالِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ .
وَصَيْرُورَتُهَا ذَاتَ لَبَنٍ غَزِيرٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ قَبْلَ التَّصْرِيَةِ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ مِنْ الْعُمُومِ فَلَا خِيَارَ فِيهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَيَنْبَغِي بِنَاؤُهَا عَلَى أَنَّ الْفَرْعَ النَّادِرَ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ أَمْ لَا ، وَالصَّحِيحُ فِي الْأُصُولِ دُخُولُهُ لَكِنْ شَبَّهَ أَصْحَابُنَا الْوَجْهَيْنِ بِالْوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ إلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ وَبِالْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ عَتَقَتْ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ وَلَمْ تَعْلَمْ عِتْقَهَا حَتَّى عَتَقَ الزَّوْجُ وَمُقْتَضَى التَّشْبِيهِ تَصْحِيحُ أَنَّهُ لَا خِيَارَ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ .
( الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) أَخَذَ أَصْحَابُنَا مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَصَلَ فِيهِ تَدْلِيسٌ وَتَغْرِيرٌ مِنْ الْبَائِعِ كَمَا لَوْ حَبَسَ مَاءِ الْقَنَاةِ أَوْ الرَّحَى ثُمَّ أَرْسَلَهُ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَظَنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَالُ أَوْ حَمَّرَ وَجْهَ الْجَارِيَةِ أَوْ سَوَّدَ شَعْرَهَا أَوْ جَعَّدَهُ أَوْ أَرْسَلَ الزُّنْبُورَ عَلَى وَجْهِهَا فَظَنَّهَا الْمُشْتَرِي سَمِينَةً ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَحَكَى أَصْحَابُنَا خِلَافًا فِيمَا لَوْ لَطَّخَ ثَوْبَ الْعَبْدِ بِمِدَادٍ أَوْ أَلْبَسَهُ ثَوْبَ الْكُتَّابِ أَوْ الْخَبَّازِينَ وَخُيِّلَ كَوْنُهُ كَاتِبًا أَوْ خَبَّازًا فَبَانَ خِلَافُهُ ، أَوْ أَكْثَرَ عَلَفَ الْبَهِيمَةِ حَتَّى انْتَفَخَ بَطْنُهَا فَظَنَّهَا الْمُشْتَرِي حَامِلًا أَوْ أَرْسَلَ الزُّنْبُورَ عَلَى ضَرْعِهَا فَانْتَفَخَ فَظَنَّهَا لَبُونًا

وَالْأَصَحُّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِتَقْصِيرِ الْمُشْتَرِي ، وَأَثْبَتَ الْمَالِكِيَّةُ الْخِيَارَ فِي تَلَطُّخِ الثَّوْبِ بِالْمِدَادِ .

( الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) فِيهِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ التَّصْرِيَةَ وَاخْتَارَ الرَّدَّ بَعْدَ أَنْ حَلَبَهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا أُلْحِقَ بِهِمَا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ قُوتَ الْبَلَدِ أَمْ لَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْجُمْهُورِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةُ : يَرُدُّ صَاعًا مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالتَّمْرِ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى التَّمْرِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَالِبَ قُوتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِصَاعٍ بَلْ يَتَقَدَّرُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِ اللَّبَنِ وَيَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ فَقَدْ يَزِيدُ الْوَاجِبُ عَلَى الصَّاعِ وَقَدْ يَنْقُصُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَرُدُّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهَا عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ قَدْ سَمِعْت ذَلِكَ وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ وَلَا الْمُوَطَّإِ عَلَيْهِ وَلَهُ اللَّبَنُ بِمَا عَلَفَ وَضَمِنَ ، قِيلَ لَهُ نَرَاك تُضَعِّفُ الْحَدِيثَ فَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ يُوضَعُ مَوْضِعُهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ وَالصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ نَأْخُذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ نَعَمْ أَوَلِأَحَدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَأْيٌ ؟ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَنَا آخُذُ بِهِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ لِي أَرَى لِأَهْلِ الْبُلْدَانِ إذَا نَزَلَ بِهِمْ هَذَا أَنْ يُعْطُوا الصَّاعَ مِنْ عَيْشِهِمْ ، وَأَهْلُ مِصْرَ عَيْشُهُمْ الْحِنْطَةُ .
وَوَافَقَ زُفَرُ الْجُمْهُورَ إلَّا أَنَّهُ خَيَّرَ بَيْنَ رَدِّ صَاعِ تَمْرٍ وَنِصْفِ صَاعِ بُرٍّ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا : يَرُدُّ قِيمَةَ

صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا } قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ جُمَيْعُ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ : كَانَ مِنْ أَكْذِبْ النَّاسِ كَانَ يَقُولُ الْكَرَاكِيُّ تُفَرِّخُ فِي السَّمَاءِ وَلَا تَقَعُ فِرَاخُهَا وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَقَالَ كَانَ رَافِضِيًّا يَضَعُ الْحَدِيثَ ، وَذَكَرَهُ فِي الثِّقَاتِ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ كُوفِيٌّ صَالِحُ الْحَدِيثِ عَنْ عُنُقِ الشِّيعَةِ .
( الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي رَدِّ الصَّاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ بَاقِيًا أَمْ لَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُكَلَّفُ رَدُّهُ ، وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا ؛ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَلَكَهُ وَاخْتَلَطَ بِالْمَبِيعِ وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزَ ، وَإِذَا أَمْسَكَهُ كَانَ كَمَا لَوْ تَلِفَ ، وَإِنْ أَرَادَ رَدَّهُ فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْبَائِعُ فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) نَعَمْ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ بَدَلِهِ ، وَأَصَحُّهُمَا لَا ؛ لِذَهَابِ طَرَاوَتِهِ وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَوْ حَمُضَ لَمْ يُكَلَّفْ أَخْذُهُ ، وَالْخِلَافُ فِي إخْبَارِ الْبَائِعِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ فَحَكَوْا اخْتِلَافًا فِي صِحَّةِ رَدِّهِ بِاتِّفَاقِهِمَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يَصِحُّ رَدُّهُ ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَقَالَ سَحْنُونٌ يَصِحُّ وَهُوَ إقَالَةٌ ؛ وَجَزَمَ أَصْحَابُنَا بِجَوَازِهِ بِالتَّرَاضِي وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ إنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِغَيْرِ التَّمْرِ مِنْ قُوتٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى رَدِّ اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ عِنْدَ

بَقَائِهِ جَازَ وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ إبْدَالِ التَّمْرِ بِالْبُرِّ إذَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَنَّ التَّمْرَ فِي مُقَابَلَةِ اللَّبَنِ بَلْ أَوْجَبَ رَدَّ التَّمْرِ مُطْلَقًا ، وَقَالَ فِي اللَّبَنِ الْحَاصِلِ وَقْتَ الْبَيْعِ يَرُدُّهُ وَلَوْ تَغَيَّرَ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ رَدَّ بَدَلَهُ لَبَنًا ، وَإِنْ نَقَصَ رَدَّ التَّفَاوُتَ وَلَا يَرُدُّ مَا حَدَثَ مِنْ اللَّبَنِ بَعْدَ الشِّرَاءِ .
( الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) الْحَدِيثُ سَاكِتٌ عَمَّا لَوْ عَجَزَ عَنْ التَّمْرِ ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَرُدُّ قِيمَتَهُ بِالْمَدِينَةِ كَذَا جَزَمَ بِهِ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ لَكِنَّهُ حَكَى فِي الْحَاوِي وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) هَذَا ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَتَهُ بِأَقْرَبِ بِلَادِ التَّمْرِ إلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ ، وَقَدْ يُقَالُ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ مِنْ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ ، وَقَدْ يُقَالُ إذَا قَدَرَ عَلَى التَّمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ دَفَعَهُ ، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ الَّتِي أَعْطَاهَا فَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ .
( الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَدْ عَرَفْت أَنَّ نَصَّ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى إلْحَاقِ الْبَقَرِ بِهِمَا فِي الْخِيَارِ وَفِي رَدِّ الصَّاعِ بَلْ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ تَعَدِّيهِ إلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ يَخْتَصُّ بِالْأَنْعَامِ .
وَلَوْ اشْتَرَى أَتَانًا فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا أَوْجُهٌ ( أَصَحُّهَا ) أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَلَا يَرُدُّ لِلَّبَنِ بَدَلًا ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ .
وَ ( الثَّانِي ) يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ بَدَلَهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ قَالَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ لِذَهَابِهِ إلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مَشْرُوبٌ .
وَ ( الثَّالِثُ ) لَا يَرُدُّهَا أَصْلًا لِحَقَارَةِ لَبَنِهَا وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً فَفِيهِ أَوْجُهٌ ( أَصَحُّهَا ) يَرُدُّهَا وَلَا يَرُدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ غَالِبًا وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ .
وَ (

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26