كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

( الْخَامِسَةَ عَشَرَ ) فِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى ابْنَتِهِ الْمُتَزَوِّجَةِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عِنْدَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَلِيًا بِهَا لِحَاجَتِهِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .

( السَّادِسَةَ عَشَرَ ) فِيهِ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ بِالْقَوْلِ ، وَالْفِعْلِ ، وَالضَّرْبِ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ امْرَأَةً كَبِيرَةً مُتَزَوِّجَةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
( السَّابِعَةَ عَشَرَ ) قَوْلُهَا وَجَعَلَ يَطْعُنُ هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا هُوَ طَعْنٌ حِسِّيٌّ كَالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ ، وَأَمَّا الطَّعْنُ الْمَعْنَوِيُّ كَالطَّعْنِ فِي النَّسَبِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ يَطْعَنُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهِمَا وَقِيلَ هِيَ لُغَتَانِ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَالْخَاصِرَةُ فِي الْجَنْبِ ، وَهُوَ الْمَكَانُ الدَّاخِلُ الْخَالِي مِنْ الْعِظَامِ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ وَبَيْنَ عَظْمِ الْوَسْطِ .

( الثَّامِنَةَ عَشَرَ ) فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ عَلَى فَخِذِ امْرَأَتِهِ وَلَكِنْ ، هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَكُونُ حَقًّا لِلرَّجُلِ تُجْبَرُ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ كَسَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ فَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بَلْ هِيَ مُخَيَّرَةٌ فِي ذَلِكَ ؟ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ .

( التَّاسِعَةَ عَشَرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّبْرِ ، وَالثَّبَاتِ عَنْ الْحَرَكَةِ لِمَنْ نَالَهُ مَا يَقْتَضِي حَرَكَتَهُ إذَا كَانَ تَحْرِيكُهُ يَحْصُلُ بِهِ التَّشْوِيشُ لِغَيْرِهِ مِنْ نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ مُشْتَغِلٍ بِعِلْمٍ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ مَنَعَهَا مِنْ التَّحَرُّكِ خَشْيَةَ اسْتِيقَاظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) فِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إيقَاظُ النَّائِمِ مِنْ نَوْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْأَذَى فَامْتَنَعَ عَنْ التَّحَرُّكِ خَوْفَ اسْتِيقَاظِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُبَاشِرَ اسْتِيقَاظَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ آحَادِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ يُنَبِّهُهُ مَنْ حَضَرَ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُوقَظُ بِحَالٍ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ { فَإِذَا كُنْت نَائِمًا فَلَا تُوقِظُونِي } الْحَدِيثَ وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي نَوْمِهِ فَيَقْطَعُ الْإِيقَاظُ ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .

( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فِي قَوْلِهَا فَنَامَ حَتَّى أَصْبَحَ أَنَّهُ لَا ضَيْرَ وَلَا مُبَالَاةَ فِي النَّوْمِ إلَى وَقْتِ الصُّبْحِ وَتَرْكِ التَّهَجُّدِ مِنْ اللَّيْلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ غَلَبَةِ نَوْمٍ خُصُوصًا فِي السَّفَرِ الَّذِي خُفِّفَتْ فِيهِ الْفَرَائِضُ بِالْقَصْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَوْ كُنْت مُسَبِّحًا أَيْ مُتَطَوِّعًا لَأَتْمَمْت صَلَاتِي فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { فِي رَجُلٍ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ : ذَلِكَ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ } فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَقُومَ مِنْ اللَّيْلِ فَتَرَكَ ذَلِكَ تَكَاسُلًا .
كَمَا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ } وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى أَصْبَحَ لَيْسَ لِبَيَانِ غَايَةِ النَّوْمِ إلَى الصَّبَاحِ بَلْ لِبَيَانِ غَايَةِ فَقْدِ الْمَاءِ إلَى الصَّبَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ قَوْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ بَلْ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ أَيْ حَتَّى آلَ أَمْرُهُ أَنْ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْفِعْلِ عَلَى وَصْفٍ أَوْ حَالٍ دُونَ الْإِثْبَاتِ الْمُطْلَقِ .

( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَوْلُ عَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ هَلْ الْمُرَادُ آيَةُ الْمَائِدَةِ أَوْ آيَةُ النِّسَاءٍ ؟ جَوَّزَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ وَهِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَوْ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَالَ لَيْسَ التَّيَمُّمُ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْمُرَادِ مِنْ الِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ تَعْيِينُ إحْدَاهُمَا .
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ آيَةُ الْمَائِدَةِ مَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ فِيهَا فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } الْآيَةَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ آيَةُ الْمَائِدَةِ .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْوُضُوءِ ، وَالطَّهُورِ إلَّا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذُكِرَ فِيهِمَا التَّيَمُّمُ فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ الْوُضُوءُ قَبْلَ التَّيَمُّمِ حَتَّى إنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ .
وَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ قَالَ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ لِيَكُونَ فَرْضُهَا الْمُتَقَدِّمُ مَتْلُوًّا فِي التَّنْزِيلِ قَالَ وَفِي قَوْلِهِ { لَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ } .
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ كَانَ لَازِمًا لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ إلَّا بِوُضُوءٍ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ وَهِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَوْ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لَيْسَ التَّيَمُّمُ مَذْكُورًا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ بِالْكَلِمَةِ وَلَا الْكَلِمَتَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ الْكَلَامُ

الْمُجْتَمِعُ الدَّالُ عَلَى الْإِعْجَازِ الْجَامِعِ لِمَعْنًى مُسْتَفَادٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ لَمْ يُفْتَرَضْ قَبْلَ الْوُضُوءِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَنْ اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ لَمْ يُصَلِّ إلَّا بِوُضُوءٍ مِثْلَ وُضُوئِنَا الْيَوْمَ ، وَهَذَا مَا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ وَلَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُعَانِدٌ قَالَ وَفِي قَوْلِهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَقُلْ آيَةَ الْوُضُوءِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي طَرَأَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ لَا حُكْمُ الْوُضُوءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ السِّيَرِ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِغَيْرِ إسْنَادٍ .
وَقَدْ وَصَلَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَّمَهُ الْوُضُوءَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ أَخَذَ غُرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ } .
وَالْحَدِيثُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ لَكِنْ دُونَ قَوْلِهِ : إنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ، وَالْعِشْرُونَ ) وَقَوْلُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَهَلْ قَوْلُهَا فَتَيَمَّمُوا خَبَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ تَيَمَّمُوا أَوْ هُوَ بَيَانٌ لِآيَةِ التَّيَمُّمِ وَحِكَايَةٌ لِبَعْضِهَا أَرَادَتْ قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } ؟ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ .
( الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ إنَّ التَّيَمُّمَ الْقَصْدُ وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الْأَوْزَاعِيِّ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ النِّيَّةَ فِي التَّيَمُّمِ وَأَوْجَبَهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .

( السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) اُسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْلُ التُّرَابِ إلَى الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي أَنْ يَقِفَ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ وَيَنْوِي فَيُسْفِي الرِّيحُ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ فِي الْمَطَرِ أَوْ تَحْتَ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ وَنَوَى حَصَلَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ نَظَرٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهُبُوبِ التُّرَابِ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ مَعَ الْقَصْدِ فَقَدْ قَصَدَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى وُجُوبِ نَقْلِ الْمَاءِ إلَى الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ ، وَهُوَ تَحَكُّمٌ .

( السَّابِعَةُ ، وَالْعِشْرُونَ ) دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى تَعَيُّنِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِلتَّيَمُّمِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصَّعِيدِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ وَقَالُوا الصَّعِيدُ كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ وَرَمْلٍ وَحْصًا وَنَوْرَةٍ وَزِرْنِيخٍ وَجِصٍّ وَرُخَامٍ وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } قَالُوا وَهِيَ الْأَرْضُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى أَنَّ الصَّعِيدَ هُوَ التُّرَابُ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : الصَّعِيدُ الْحَرْثُ حَرْثُ الْأَرْضِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ { وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ تُرَابُهَا وَسَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ ) لَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّسَ بِأُولَاتِ الْجَيْشِ وَمَعَهُ عَائِشَةُ فَانْقَطَعَ عِقْدٌ لَهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارَ فَحُبِسَ النَّاسُ ابْتِغَاءَ عِقْدِهَا ذَلِكَ حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ وَلَيْسَ مَعَ النَّاسِ مَاءٌ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَقَالَ حَبَسْت النَّاسَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُخْصَةَ التَّطَهُّرِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ فَقَامَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبُوا بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ يَقْبِضُوا مِنْ التُّرَابِ شَيْئًا فَمَسَحُوا بِهَا وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَنَاكِبِ وَمِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ إلَى الْآبَاطِ } .
قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَذَكَرَ ضَرْبَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ يُونُسُ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ضَرْبَتَيْنِ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى مَنْ سَمَّيْت ( قُلْت ) وَهَكَذَا ذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا ضَرْبَتَيْنِ ابْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي ذُؤَيْبٍ وَيُونُسَ وَمَعْمَرًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرَهُ صَالِحٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَقُولُوا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَمَّارٍ .
ا هـ .
فَاحْتَجَّ الْأَكْثَرُونَ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةٍ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٍ لِلْيَدَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمِنْ التَّابِعِينَ

سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : الْوَاجِبُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَتَفَرَّدَ ابْنُ سِيرِينَ بِاشْتِرَاطِ ثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٍ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٍ لِلْكَفَّيْنِ وَضَرْبَةٍ لِلذِّرَاعِ .
وَتَفَرَّدَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا بِاشْتِرَاطِ بُلُوغِ الْمَنْكِبَيْنِ بِالْمَسْحِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَسْحُ مَا وَرَاءَ الْمِرْفَقَيْنِ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فَقَطْ وَأَنَّ مَا زَادَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ سُنَّةٌ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْيَدَيْنِ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فَقَطْ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَدَاوُد وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَهُوَ أَثْبَتُ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ وَحَدِيثِ عَمَّارٍ فِي الضَّرْبَتَيْنِ كَانَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حِينَ نُزُولِ آيَةِ التَّيَمُّمِ ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّيَمُّمِ فَأَمَرَنِي ضَرْبَةً وَاحِدَةً فِي الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَسُؤَالُهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقِصَّةِ عَمَّارٍ فِي تَمَعُّكِهِ فِي التُّرَابِ حِينَ أَجْنَبَ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْفِيك التَّيَمُّمُ ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَكُلُّ مَا يُرْوَى فِي هَذَا عَنْ عَمَّارٍ فَمُضْطَرِبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَكِنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى وُجُوبِ دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَإِسْمَاعِيلِ الْقَاضِي وَشَذَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ حُيَيِّ فِي اشْتِرَاطِهِمَا أَنْ يَمْسَحَ بِكُلٍّ مِنْ الضَّرْبَتَيْنِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ ، وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ

عَلَى بُلُوغِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ تَيَمَّمَ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ } .
وَرَفَعَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ وَتَعَارَضَتْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الرُّجُوعَ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ ؛ لِلْوَجْهِ ضَرْبَةٌ وَلِلْيَدَيْنِ أُخْرَى إلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ عِلْمُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَوْ ثَبَتَ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ أَنْ نَصَّ عَلَى حُكْمِ الْوُضُوءِ وَهَيْئَتِهِ بِالْمَاءِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِحُكْمِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَقَالَ أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } .
وَأَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي غَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ غَيْرُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الضَّرْبَةُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ غَيْرُ الضَّرْبَةِ لِلْيَدَيْنِ قِيَاسًا إلَّا أَنْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُ ذَلِكَ فَيَسْلَمُ لَهُ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْبُلُوغُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

( التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) اسْتَدَلَّ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَأَنَّهُ لَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَعِنْدَ عَدَمِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ أَوْ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَخَرَجَ الْوُضُوءُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاتَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى الْأَصْلِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ زَادَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ فَرِيضَةً وَنَافِلَةً إلَّا نَافِلَةً تَكُونُ بَعْدَهَا فَلَوْ صَلَّى بِتَيَمُّمِهِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ لِلصُّبْحِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَدَاوُد إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَجِدْ فَاقِدُ الْمَاءِ الْمَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَائِدَةُ الثَّلَاثُونَ ) اُسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ لِفَرْضٍ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ لِقَوْلِهِ { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } وَاغْتُفِرَ تَجْوِيزُ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ رُؤْيَةُ مَاءٍ يَتَوَضَّأُ بِهِ ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ تُبْطِلُهُ اتِّفَاقًا ، وَإِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَتَقَدَّمُ عَنْ وَقْتِهِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ لِفَرِيضَةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَهَذَا مِمَّا اُحْتُجَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى بِهِ فَرِيضَةً ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ فَرِيضَةٍ فَإِنَّ تَيَمُّمَهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهَا وَلَا يَرِدُ جَمْعُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ كَوْنُ الْفَرِيضَتَيْنِ تُصَلَّيَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَهَذَا وَقْتُ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ بِوَقْتٍ أَصْلِيٍّ لِإِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ نَعَمْ التَّيَمُّمُ لِلْحَاضِرَةِ وَلِلْفَائِتَةِ لَا يَصِحُّ مَعَ كَوْنِ الْوَقْتِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هُوَ وَقْتًا أَصْلِيًّا لِلْفَائِتَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : مَا أَعْرِفُ كَيْفَ أَقْدَمَ عَلَى أَنْ جَعَلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ مَعَ خِلَافِهِ جُمْهُورَ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةِ الْمَالِكِيَّةِ .
قَالَ : وَأَظُنُّهُ ذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ : وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَالَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا قَالَ : وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا إعَادَةً .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أُخَرُ وَهِيَ أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَصَحُّهَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ إذَا قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا مِمَّا يُسْقِطُ عَنْهُ الْقَضَاءَ ، وَالثَّانِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الْوَقْتِ وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ صَلَّى أَوْ لَمْ يُصَلِّ ، وَالثَّالِثُ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ لِقَوْلِهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ } وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ ، وَالرَّابِعُ تَجِبُ الصَّلَاةُ وَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ : وَهُوَ الْقِيَاسُ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّهُ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا قَالَ وَيُعَضِّدُهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ قَبْلَ نُزُولِ التَّيَمُّمِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أَمَرَهُمْ بِالْإِعَادَةِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ قَالَ

وَلِلْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّ الْإِعَادَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ .

( الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَسْتَبِيحُ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ وَكَذَلِكَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فَلَمْ يَرَوْا الْجُنُبَ دَاخِلًا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ لَوْلَا مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي ذَرٍّ قَالَ : وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ ، وَحَمَلَةُ الْآثَارِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَقِيلَ إنَّ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ قَالَ : وَأَجْمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ لِلْجُنُبِ ، وَالْحَائِضِ ، وَالنُّفَسَاءِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْخَلَفِ .
( قُلْت ) : وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَا وَاضِحٍ ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ غَسْلَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَيْضًا ثُمَّ ذَكَرَ طَهَارَةَ الْجُنُبِ ثُمَّ قَالَ { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فَسَوَاءٌ فِيهِ مَنْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَمَنْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ .

{ الثَّالِثَةُ ، وَالثَّلَاثُونَ } دَلَّتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَنْ الْوُضُوءِ وَعَنْ الْجَنَابَةِ أَيْضًا كَمَا ذُكِرَ فَمَنْ أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عَنْ النَّجَاسَةِ عَلَى الْبَدَنِ ، وَهُوَ أَحْمَدُ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ مِنْ الْآيَةِ وَلَمْ يَرِدْ أَيْضًا فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّيَمُّمِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَمْسَحُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ بِالتُّرَابِ وَيُصَلِّي ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَيَمُّمٍ ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ مَسْحِ النَّعْلِ مِنْ الْأَذَى وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى النَّجَاسَةَ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا يُسْتَقْذَرُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تُرَادَ النَّجَاسَةُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَفْوِ فِي النَّعْلِ وَالْخُفِّ الْعَفْوُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مِنْ الْبَدَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) فِيهِ فَضِيلَةُ عَائِشَةَ وَبَرَكَتُهَا وَتَكْرَارُ ذَلِكَ كَمَا شَهِدَ بِهِ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ ، وَالتَّنْزِيلَ بِسَبَبِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَوَّلِ بَرَكَةٍ لِآلِ أَبِي بَكْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَقَالَ أُسَيْدُ : لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيكُمْ مَا أَنْتُمْ إلَّا بَرَكَةٌ لَهُمْ .
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : إنَّ أُسَيْدًا قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا وَعِنْدَ مُسْلِمٍ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَك مِنْهُ مَخْرَجًا وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً وَالطَّبَرَانِيُّ إنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهَا : وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّةُ إنَّك لَمَا عَلِمْتُ مُبَارَكَةٌ .
( الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُ عَائِشَةَ : فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَوَجَدَهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَبَعَثَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي طَلَبِهَا وَلِأَبِي دَاوُد بَعَثَ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَأَنَسًا مَعَهُ فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمَبْعُوثُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَأَتْبَاعٌ لَهُ فَذَهَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا ثُمَّ وَجَدَهَا أُسَيْدُ بَعْدَ رُجُوعِهِ تَحْتَ الْبَعِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا يُرَاهُ سُفْيَانُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِزِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ { فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ : أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ } وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَقَالَ مُسْلِمٌ { وَجُعِلْت لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ { وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا } تَفَرَّدَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ بِذِكْرِ التُّرَابِ فِيهِ ، وَلِأَحْمَدَ ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ { وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا } وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ .

{ الْحَدِيثُ الثَّانِي } عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا يُرَاهُ سُفْيَانُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِزِيَادَةِ فِي أَوَّلِهِ فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَاللَّفْظُ لَهُ هَكَذَا مُخْتَصَرًا كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَزَادَ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي أَوَّلِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ } .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَتِهِ فِيمَا يُرَاهُ سُفْيَانُ هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يَظُنُّهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُفْيَانُ هُوَ الْقَائِلُ فِيمَا يُرَاهُ سُفْيَانُ يُرِيدُ فِيمَا رَأَيْت فَأَوْقَعَ الظَّاهِرَ مَوْقِعَ الْمُضْمِرِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْضِعَ الظَّنِّ مِنْ الْإِسْنَادِ كَوْنُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ شَيْخَ سُفْيَانَ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ عَنْ رَجُلَيْنِ عَنْ سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَكَأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ تَرَدَّدَ فِي شَيْخِ الزُّهْرِيِّ مَنْ هُوَ ؟ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا أَبُو سَلَمَةَ ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزَّبِيدِيِّ وَمَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ وَسَاقَهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظِ { بُعِثْت بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَّا نَائِمٌ أُتِيت بِمَفَاتِيحِ

خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعْت فِي يَدِي } وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيمَا يُرَاهُ سُفْيَانُ أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ وَمَعْمُولِ قَوْلِهِ يَبْلُغُ بِهِ فَكَأَنَّهُ يَكُونُ قَوْلُهُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُرَاهُ سُفْيَانُ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ فِيمَا يُرَاهُ فَعَوْدُهُ إلَى الْمَاضِي أَقْرَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا اُخْتُلِفَ فِي بَيَانِ مَا خُصِّصَ بِهِ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَهُ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ : إنَّ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةَ لَمْ تَكُنْ الصَّلَاةُ تُبَاحُ لَهُمْ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ كَالْبِيَعِ ، وَالْكَنَائِسِ وَقِيلَ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِيمَا تَيَقَّنُوا طَهَارَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ وَخُصِّصَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ إلَّا مَا تُيُقِّنَتْ نَجَاسَتُهُ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ .
{ الرَّابِعَةُ } عُمُومُ ذِكْرِ الْأَرْضِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ ، وَالْحَمَّامَ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ أَسَانِيدُهُ صَحِيحَةٌ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ ، وَكَذَا ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَاَلَّذِينَ ضَعَّفُوهُ أَتْقَنُ مِنْ الْحَاكِمُ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ فِي الْمَزْبَلَةِ ، وَالْمَجْزَرَةِ ، وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّه } قَالَ التِّرْمِذِيُّ إسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ .
وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ { النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ

فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ } .
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ { لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِل فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ } .
وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ { لَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ { لَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } .
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ { إنَّ حَبِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ } وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ سَبَبُ النَّهْيِ غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ كَالْمَزْبَلَةِ ، وَالْمَجْزَرَةِ ، وَالْمَقْبَرَةِ ، وَالْحَمَّامِ وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ أَوْ خَوْفُ التَّشْوِيشِ وَتَرْكُ اجْتِمَاعِ الْخَاطِرِ كَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ أَوْ حُضُورُ الشَّيَاطِينِ كَالْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلَى قَوْلٍ .
وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي بَطْنِ الْوَادِي كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَعَدَمُ الْقِبْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ حَيْثُ لَا شَاخِصَ هُنَاكَ ثَابِتٌ يُسْتَقْبَلُ وَبَعْضُهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْكَرَاهَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ .

{ الْخَامِسَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَارَ الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَكَذَلِكَ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ الْمُرَادُ لَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ .

{ السَّادِسَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مِنْ التُّرَابِ ، وَالرَّمْلِ ، وَالْحِجَارَةِ ، وَالْحَصْبَاءِ قَالُوا وَكَمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا بَيْنَ التُّرَابِ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ } .
وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رِوَايَةَ الْإِطْلَاقِ عَلَى رِوَايَةِ التَّقْيِيدِ وَاعْتَرَضَ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّ ذَلِكَ ذُهُولٌ مِنْ قَائِلِهِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ إخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ عَنْ الْحُكْمِ وَلَمْ يُخْرِجْ هَذَا الْخَبَرُ شَيْئًا وَإِنَّمَا عَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ وَاحِدًا مِمَّا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ الْأَوَّلُ مَعَ مُوَافَقَتِهِ فِي الْحُكْمِ وَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْله تَعَالَى { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وَقَوْلِهِ { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } فَعَيَّنَ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ ذِكْرُ التُّرَابِ وَإِنَّمَا عَيَّنَّهُ لِكَوْنِهِ أَمْكَنَ وَأَغْلَبَ قَالَ وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّ تُرَابَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ فَيُقَالُ تُرَابُ الزِّرْنِيخِ وَتُرَابُ النُّورَةِ انْتَهَى وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا أَنَّهُ اُعْتُرِضَ عَلَى الَّذِينَ خَصَّصُوا عُمُومَ الْأَرْضِ بِتُرْبَةِ الْأَرْضِ بِوُجُوهٍ مِنْهَا مَنْعُ كَوْنِ التُّرْبَةِ مُرَادِفَةً لِلتُّرَابِ وَادَّعَى أَنَّ تُرْبَةَ كُلِّ مَكَان مَا فِيهِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُقَارِبُهُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ مَفْهُومُ

لَقَبٍ أَعْنِي تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالتُّرْبَةِ وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْأُصُولِ وَقَالُوا لَمْ يَقُلْ بِهِ إلَّا الدَّقَّاقُ وَمِنْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي خُصَّتْ بِهِ التُّرْبَةُ بِالطَّهُورِيَّةِ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَفْهُومَهُ مَعْمُولٌ بِهِ لَكَانَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى طَهُورِيَّةِ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ أَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَإِذَا تَعَارَضَ فِي غَيْرِ التُّرَابِ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ الَّذِي يَقْتَضِي عَدَمَ طَهُورِيَّتِهِ وَدَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ الَّذِي يَقْتَضِي طَهُورِيَّتَهُ فَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ انْتَهَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ اعْتِرَاضِ الْقُرْطُبِيِّ الْأَوَّلِ مِنْ جَعْلِهِ ذَلِكَ ذِكْرًا لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ وَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا .
فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَنَازِعِ فِيهَا وَقَوْلُهُ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا دَعْوَى وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَهَلَّا جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ ذِكْرًا لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْآيَةِ الَّتِي أُطْلِقَ فِيهَا ذِكْرُ الرَّقَبَةِ بَلْ اشْتَرَطَ فِي الْكَفَّارَةِ إيمَانَ الرَّقَبَةِ حَمْلًا لِإِحْدَى الْآيَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى .
وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ فَهُوَ ذُهُولٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا صُورَةُ هَذَا أَنْ يَذْكُرَ مَعًا الْعَامَّ قَبْلَ الْخَاصِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ بَلْ أَطْلَقَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْأَرْضَ وَقَيَّدَ فِي الْآخَرِ ذَلِكَ بِتُرْبَةِ الْأَرْضِ وَبِتُرَابِ الْأَرْضِ .
وَأَمَّا جَعْلُهُ ذَلِكَ مِمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ خُصُوصًا مَا إذَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ إظْهَارِ التَّشْرِيفِ ، وَالتَّخْصِيصِ بِذَلِكَ ، فَلَوْ خُصِّصَ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى تُرَابِ الْأَرْضِ لَمَّا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ تُرَابَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ كَتُرَابِ الزِّرْنِيخِ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ إلَّا ذِكْرُ التُّرَابِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ مُقَيَّدٌ

كَالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ سَوَاءٌ فَهَلَّا قَالَ يَصِحُّ التَّطَهُّرُ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الْبَاقِلَّا ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي التَّيَمُّمِ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالتُّرَابِ الْمُطْلَقِ ، وَهُوَ تُرَابُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مِنْ أَنَّهُ اُعْتُرِضَ بِكَوْنِ التُّرْبَةِ لَيْسَتْ مُرَادِفَةً لِلتُّرَابِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَقَدْ ذَكَرَ الْهَرَوِيُّ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ التُّرَابَ وَالتُّرْبَةَ وَاحِدٌ وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَجَعَلَ تُرَابَهَا لَنَا طَهُورًا وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ كَمَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيُّ وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ لَفْظُهَا وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا قُلْت وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا أَبُو مَالِكٍ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ .
وَقَدْ رَوَاهَا غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُعْطِيت مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقُلْت : مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ { وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ التُّرَابُ وَأَنَّهُ مُرَادِفٌ لِلتُّرْبَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ اعْتَرَضَ بِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ فَإِنَّ الْقَرِينَةَ ، وَالسِّيَاقَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّيَمُّمِ بِهَا مُخَالِفٌ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَقَالَ وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا

لَنَا طَهُورًا فَلَوْ اشْتَرَكَ الْأَمْرَانِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ وَأَكَّدَ الصَّلَاةَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ كُلُّهَا وَأَوْرَدَ الْفِعْلَ عَلَى التُّرْبَةِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعَلَى التُّرَابِ كَمَا عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَلَوْ اسْتَوَيَا لَقَالَ مَسْجِدًا وَطَهُورًا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إلَى هَذَا الْجَوَابِ .
وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ بِكَوْنِ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَفْهُومِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ يَمْنَعُ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمَفْهُومَ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ قَالَ ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَعْنِي تَخْصِيصَ الْمَفْهُومِ لِلْعُمُومِ .

( السَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ ؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْأَرْضِ ، وَالْمَاءِ فِي قَوْلِهِ طَهُورًا وَهِيَ مِنْ بِنْيَةِ الْمُبَالَغَةِ كَقَتُولٍ وَضَرُوبٍ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَيْضًا ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ { الثَّامِنَةُ } قَدْ يَحْتَجُّ أَيْضًا بِصِيغَةِ طَهُورٍ مَنْ يَرَى التَّيَمُّمَ ثَانِيًا بِالتُّرَابِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعُولٍ دَالَّةٌ عَلَى التَّكْرَارِ كَمَا قَالُوا فِي الْمَاءِ وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهِ ثَانِيًا ، وَالْمُسْتَعْمَلُ هُوَ مَا لَصِقَ مِنْ التُّرَابِ بِالْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ فِي حَالِ التَّيَمُّمِ .
وَأَمَّا مَا تَنَاثَرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ كَالْمُتَقَاطِرِ مِنْ الْمَاءِ { التَّاسِعَةُ } قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ تُسْتَعْمَلُ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدَثِ وَلَا الْخَبَثِ ، وَقَالَ : إنَّ الصَّعِيدَ قَدْ سُمِّيَ طَهُورًا وَلَيْسَ عَنْ حَدَثٍ وَلَا عَنْ خَبَثٍ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ هَذَا .
وَمَعْنَاهُ جَعَلَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى نَجَاسَةِ فَمِ الْكَلْبِ بِقَوْلَةِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا } فَقَالُوا : طَهُورٌ يُسْتَعْمَلُ إمَّا عَنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ بِالضَّرُورَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ خَبَثٍ فَمَنَعَ هَذَا الْمَالِكِيُّ الْمُجِيبُ الْحَصْرَ وَقَالَ : إنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ تُسْتَعْمَلُ فِي إبَاحَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا فِي التُّرَابِ إذْ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا قُلْنَا فَيَكُونُ قَوْلَةُ : طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي إبَاحَةِ اسْتِعْمَالِهِ أَعْنِي الْإِنَاءَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي هَذَا :

عِنْدِي نَظَرٌ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَكِنَّهُ عَنْ حَدَثٍ أَيْ الْمُوجِبِ لِفِعْلِهِ الْحَدَثُ وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا : إنَّهُ عَنْ حَدَثٍ وَبَيْنَ قَوْلِنَا : إنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ .

{ الْعَاشِرَةُ } فِيهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ خُصُوصِيَّةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأَمَةَ تَخْفِيفًا عَنْهَا وَرَحْمَةً بِهَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَلَهُ الْفَضْلُ ، وَالْمَنُّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ فِي الْفَائِدَةِ الثَّالِثَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَ } فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فُضِّلْت عَلَى النَّاسِ بِسِتٍّ .
الْحَدِيثَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ { وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا } وَقَدَّمَ بَعْضُ الْخَصَائِصِ عَلَى بَعْضٍ .
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ { فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ } الْحَدِيثَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ السَّادِسَةِ وَلِأَحْمَدَ ، وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { أُعْطِيت مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقُلْنَا مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : نُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيت مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ وَسُمِّيت أَحْمَدَ وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ } فَجَعَلَهَا فِي حَدِيثٍ سِتًّا وَفِي آخَرَ خَمْسًا وَفِي آخَرَ ثَلَاثًا وَأَطْلَقَ فِي آخَرَ وَسَمَّى فِيهِ مَا لَيْسَ مُسَمًّى فِيمَا ذَكَرَ أَعْدَادَهُ .
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ ذِكْرَ الْأَعْدَادِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ فِي وَقْتٍ بِالثَّلَاثِ وَفِي وَقْتٍ بِالْخَمْسِ وَفِي وَقْتٍ بِالسِّتِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
فَحَصَلَ مَنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ إحْدَى

عَشْرَةَ خَصْلَةً تَقَدَّمَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَهِيَ إعْطَاؤُهُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنَصْرُهُ بِالرُّعْبِ وَإِحْلَالُ الْغَنَائِمِ وَجَعْلُ الْأَرْضِ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَإِرْسَالُهُ إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ وَجَعْلُ صُفُوفِ أُمَّتِهِ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَإِعْطَاؤُهُ الشَّفَاعَةَ وَتَسْمِيَتُهُ بِأَحْمَدَ وَجَعْلُ أُمَّتِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ ، وَالْحَادِيَةَ عَشَرَ إيتَاؤُهُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَسِيَاتِي فِي الْفَائِدَةِ الَّتِي تَلِيهَا .

{ الثَّانِيَةَ عَشَرَ } دَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ جَعْلَ الْأَرْضِ لَهُ مَسْجِدًا وَجَعْلَهَا طَهُورًا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَدَلَّ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّهُمَا خَصْلَتَانِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فَإِنَّهُ وَإِنْ فَضَّلَهَا وَسَمَّاهَا وَاقْتَضَى كَوْنَ هَاتَيْنِ خَصْلَتَيْنِ فَإِنَّ مُسْلِمًا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخِرَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَصْلَتَيْنِ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّالِثَةَ .
وَقَدْ سَمَّاهَا النَّسَائِيّ فِي رِوَايَتِهِ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى فَقَالَ وَأُوتِيت هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ خَوَاتِمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَلَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يُعْطَاهُنَّ أَحَدٌ بَعْدِي ، وَكَذَا سَمَّاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ فَقَالَ : وَأُعْطِيت هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْهُ قَبْلِي وَلَا يُعْطَى مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدِي .
{ الثَّالِثَةَ عَشَرَ } فِي بَيَانِ الْخَصَائِصِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَمَّا جَوَامِعُ الْكَلِمِ فَهُوَ جَمْعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ .
وَأَمَّا النَّصْرُ بِالرُّعْبِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ لِتَخْذِيلِهِمْ وَوَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ الرُّعْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ شَهْرًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا تَوَجَّهَ إلَى وَجْهٍ مِنْ الْأَرْضِ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ عَلَى مَنْ أَمَامَهُ إلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ .
وَأَمَّا إحْلَالُ الْغَنَائِمِ فَسَيَأْتِي فِي الْجِهَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّمَ جَعْلُ الْأَرْضِ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأَمَّا إرْسَالُهُ إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَاك

إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْفُلْكِ كَانَ مَبْعُوثًا إلَى كُلِّ أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مَعَهُ ، وَقَدْ كَانَ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ فِي الرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ الْبَعْثَةِ وَإِنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ الْحَادِثِ الَّذِي حَدَثَ ، وَهُوَ انْحِصَارُ الْخَلْقِ فِي الْمَوْجُودِينَ بِهَلَاكِ سَائِرِ النَّاسِ .
وَأَمَّا نَبِيُّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَعُمُومُ رِسَالَتِهِ فِي أَصْلِ الْبَعْثَةِ ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَعْثَةُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَامَّةً بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّوْحِيدِ لَا إلَى الْفُرُوعِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ خُتِمَ بِهِ النَّبِيُّونَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَبْعَثُ بَعْدَهُ نَبِيًّا .
وَأَمَّا نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ بِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَأَنَّهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَهُوَ تَابِعٌ لِأَحْكَامِ هَذِهِ الْمِلَّةِ وَكَذَلِكَ إلْيَاسُ أَيْضًا عَلَى مَا صَحَّحَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ حَيٌّ أَيْضًا وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَيَاتِهِمَا وَلَا فِي التَّنْصِيصِ عَلَى وَفَاتِهِمَا حَدِيثٌ إلَّا قَوْلُهُ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَوْتِ الْخَضِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ اللَّهُ بَعْدَ نَبِيِّنَا نَبِيًّا آخَرَ فَهَذَا قَوْلٌ مُنَابِذٌ لِلشَّرِيعَةِ وَمُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُشْتَهِرَةِ ، وَقَائِلُ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَدَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا هُمْ زَنَادِقَةٌ يَتَسَتَّرْنَ بِزِيِّ بَعْضِ أَهْلِ

الطَّوَائِفِ .
وَأَمَّا جَعْلُ صُفُوفِ أُمَّتِهِ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ إتْمَامُ الصُّفُوفِ الْأُوَلِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } وَهَذَا أَيْضًا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَكَانَتْ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ يُصَلُّونَ مُنْفَرِدِينَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى حُصُولَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ جَمَعَهُمْ { فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ } كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ { ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَجُمِعَ لِي الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَقَدَّمَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتهمْ } الْحَدِيثَ وَرَوَيْنَاهُ فِي مُعْجَمِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ { فَيَسَّرَ لِي رَهْطٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَكَلَّمْتُهُمْ } الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ ، { وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتهمْ } الْحَدِيثَ .
وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ بِالشَّفَاعَةِ فَالْمُرَادُ الشَّفَاعَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْحَشْرِ عِنْدَمَا يَفْزَعُ النَّاسُ لِلْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ لَسْتُ لَهَا حَتَّى يَأْتُوا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَ : أَنَا لَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْخَاصَّةُ فَقَدْ ثَبَتَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمَلَائِكَةِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقِيلَ الْمُرَادُ بِتَخْصِيصِهِ بِالشَّفَاعَةِ

الشَّفَاعَةُ الَّتِي لَا تُرَدُّ ، وَقَدْ تَكُونُ شَفَاعَتُهُ بِإِخْرَاجِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ مِنْ النَّارِ ؛ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ لِغَيْرِهِ إنَّمَا جَاءَتْ قَبْلَ هَذَا وَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ كَشَفَاعَةِ الْمَحْشَرِ وَذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الشَّفَاعَةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ : شَفَاعَةُ الْحَشْرِ وَهِيَ الْأُولَى لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا ، وَالثَّانِيَةُ الشَّفَاعَةُ لِإِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهِيَ أَيْضًا مُخْتَصَّةٌ بِهِ ، وَالثَّالِثَةُ الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيُشَفَّعُ فِيهَا هُوَ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَالرَّابِعَةُ الشَّفَاعَةُ فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ الْمُذْنِبِينَ فَيَشْفَعُ لَهُمْ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ .
وَالْخَامِسَةُ الشَّفَاعَةُ لِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ الشَّفَاعَةَ لِرَأْيِهِمْ فِي خُلُودِ الْمُوَحِّدِينَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الشَّفَاعَةَ الْأُولَى وَلَا الْخَامِسَةَ أَيْضًا وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّتِي يَبْلُغُ مَجْمُوعُهَا مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ ، وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِ مَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِأَحْمَدَ فَلَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا : فَمَنَعَ اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَلَا يُدْعَى بِهِ مَدْعُوٌّ قَبْلَهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ لَبْسٌ عَلَى ضَعِيفِ الْقَلْبِ أَوْ شَكٌّ ، وَهُوَ اسْمُهُ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتَى فِي الْكُتُبِ قَالَ وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ إلَى أَنْ شَاعَ قُبَيْلَ وُجُودِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِيلَادِهِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَمَّى قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ قَلِيلٌ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمْ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ

بْنِ الْجُلَاحُ الْأَوْسِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةً الْأَنْصَارِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَرَاءٍ الْبَكْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ الْجُعْفِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ السُّلَمِيُّ لَا سَابِعَ لَهُمْ قَالَ ثُمَّ حَمَى اللَّهُ كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا لَهُ أَحَدٌ حَتَّى حُقِّقَتْ السِّمَتَانِ لَهُ وَلَمْ يُنَازَعْ فِيهِمَا .
قُلْت : وَتَسْمِيَتُهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةً الْأَنْصَارِيَّ فِيهِمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَأَمَّا جَعْلُ أُمَّتِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ هُوَ كَمَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وَمِنْ فَضْلِهَا أَنَّهَا أَوَّلُ الْأُمَمِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَأَوَّلُ مَنْ يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ شَرَفِ أُمَّتِهِ فَهُوَ مِنْ شَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا إعْطَاؤُهُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا ذُخِرَتْ لَهُ وَكُنِزَتْ لَهُ فَلَمْ يُؤْتَهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ مَا هُوَ بِاللَّفْظِ وَمَا هُوَ بِالْمَعْنَى وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَمْ يُؤْتَهَا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَيْضًا مَا لَمْ يُؤْتَهُ غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خُصُوصِيَّةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ وَضْعُ الْإِصْرِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْته عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فَنَاسَبَ ذِكْرَهَا مِنْ الْخَصَائِصِ .
وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَصَائِصُ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ لَمْ تُجْمَعْ ، مِنْهَا الْغُرَّةُ ، وَالتَّحْجِيلُ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ وَمِنْهَا طِيبُ رَائِحَةِ خُلُوفِ فَم الصَّائِمِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ بِهِ هَذَا الْمَوْضِعُ وَهَذِهِ

مِنْ خَصَائِصِهِ وَخَصَائِصِ أُمَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَأَمَّا خَصَائِصُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِ فَكَثِيرَةٌ أَفْرَدَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّأْلِيفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الرَّابِعَةَ عَشَرَ } وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْد مُسْلِمٍ { وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا } الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةُ وَبِهِ فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى { صَعِيدًا طَيِّبًا } أَيْ طَاهِرًا وَفِي الْحَدِيثِ : إنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ حَتَّى تَتَحَقَّقَ النَّجَاسَةُ ، وَإِنْ غَلَبَتْ النَّجَاسَةُ كَالشَّوَارِعِ وَنَحْوِهَا ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِيمَا تَعَارَضَ فِيهِ الْأَصْلُ ، وَالظَّاهِرُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا عَلَى أَرْضٍ يَتَحَقَّقُونَ طَهَارَتَهَا وَخُفِّفَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَأُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُونَ نَجَاسَتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةَ عَشَرَ } ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ مَنْ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَإِنْ خَافَ التَّلَفَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَقَالَ : يَغْتَسِلُ وَإِنْ مَاتَ وَلِذَا قَالَ الْحَسَنُ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ عَطَاءٍ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُمَا وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي خَوْفِهِ مِنْ الْبَرْدِ وَتَيَمُّمِهِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَاسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَّا أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ لَمْ يُجِيزَا ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ عُذْرًا عَامًّا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَضَرِ أَوْ السَّفَرِ وَقِيلَ لَا يُقْضَى فِي السَّفَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالْأَمْرِ فَائْتَمِرُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ الشَّيْخَانِ : { فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، اُسْتُدِلَّ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ } عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتَمِرُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَقَالَ الشَّيْخَانِ { فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الشَّيْخَانِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ : ذَرُونِي أَيْ اُتْرُكُونِي ، وَقَدْ أُمِيتَ مِنْ هَذَا الْفِعْلُ الْمَاضِي ، وَالْمَصْدَرُ فَلَا يُقَالُ وَذَرَهُ وَلَا وَذَرَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَا تَرَكْتُكُمْ وَلَمْ يَقُلْ مَا وَذَرْتُكُمْ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : دَعَوْنِي إلَّا أَنَّ دَعْ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ الْمَاضِي عَلَى قِلَّةٍ وَقُرِئَ بِهِ فِي الشَّاذِّ قَوْله تَعَالَى { مَا وَدَعَكَ رَبُّك } بِالتَّخْفِيفِ { الثَّالِثَةُ } فِيهِ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَنْ سُؤَالِهِ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا الْحَدِيثَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّؤَالَ رُبَّمَا كَانَ سَبَبَ التَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } .
وَفِي

رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ وَنَفَرَ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَثَبَتَ فِي التَّنْزِيلِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ مُطْلَقٌ عَنْ السُّؤَالِ وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَمَّا هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَكِنْ قَدْ أَطْلَقَ أَنَسٌ النَّهْيَ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ : نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ .
الْحَدِيثَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَبِي قَالَ : أَبُوك حُذَافَةُ فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } } .
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ : سَلُونِي عَمَّ شِئْتُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي ؟ قَالَ أَبُوك حُذَافَةُ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ : مَنْ أَبِي ؟ فَقَالَ : أَبُوك سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَتُوبُ إلَى اللَّهِ } .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ فَقَيَّدَهُ وَلَمْ يَعُمَّ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدِهِ إلَيْهِ قَالَ { : كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أَيْنَ نَاقَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ } .
وَقِيلَ : إنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالُهُمْ عَنْ الْحَجِّ أَيَجِبُ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ

الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ فَسَكَتَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } } .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ : إنَّهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ نَقْلًا عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ حَدِيثُ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا { الرَّابِعَةُ } السَّبَبُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثَ سُؤَالُهُمْ عَنْ الْحَجِّ أَيْضًا هَلْ يَجِبُ كُلَّ سَنَةٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ } .
وَلِأَبِي دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ أَنَّ الَّذِي سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ وَلَا حَدِيثَ الْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةُ } الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ النَّهْيُ عَنْ السُّؤَالِ أَوْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَذَا ، وَكَذَا فَذَكَرَ فِي التَّعْلِيلِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ ، وَقَدْ يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ كَثْرَةُ السُّؤَالِ لَا مُطْلَقُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ الْحَدِيثَ .

{ السَّادِسَةُ } فِي قَوْلِهِ : فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَكَذَلِكَ شُرْبُهُ لِدَفْعِ الْعَطَشِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ { أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْد سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَى وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } وَقَالَ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ طَارِقُ بْنُ سُوَيْد أَوْ سُوَيْد بْنُ طَارِقٍ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوَيْد وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ .
وَلِأَبِي دَاوُد أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ { فَتَدَاوَوْا وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ } .

{ السَّابِعَةُ } قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَيْضًا مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَجُوزُ إسَاغَةُ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا شَرَابًا حَلَالًا يَسِيغُهَا بِهِ ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُهُ حِفْظًا لِلنَّفْسِ كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِحِفْظِ النَّفْسِ بِخِلَافِ التَّدَاوِي بِهَا لِنَفْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّوَاءَ عَنْهَا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الثَّامِنَةُ } اسْتَدَلَّ أَيْضًا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُبِيحُهَا وَأَحَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْإِكْرَاهَ عَلَى الزِّنَا ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ إلَيْهِ هِيَ الدَّاعِيَةُ لَا الْإِكْرَاهُ فَلَوْ لَمْ تَحْضُرْ الشَّهْوَةُ الدَّاعِيَةُ لَمَا تَصَوَّرَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ وَمُسْقِطٌ لِلْحَدِّ أَيْضًا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَضُرُّ فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } فَإِذَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ فِي الْكُفْرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَضُرَّ فِي الْمَعَاصِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ التَّاسِعَةُ } فِيهِ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوَاجِبِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ مُسْقِطٌ لِلْمَعْجُوزِ عَنْهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ إلَّا مَا دَخَلَ تَحْتَ الطَّاقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَّا أَنَّ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ إنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ فَأَتَى بِهِ كَالْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ مَثَلًا إذَا انْتَقَلَ الْمُكَلَّفُ إلَى الصَّلَاةِ قَاعِدًا أَوْ عَلَى جُنُبٍ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَصْلِ الْعِبَادَةِ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا كَالْمَرِيضِ يَعْجِزُ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمُبَاشَرَةُ حَالَةَ الْعَجْزِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ مَنُوطًا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَالَةَ الْوُجُوبِ فَقَطْ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ سَقَطَ رَأْسًا كَزَكَاةِ الْفِطْرِ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَوْمئِذٍ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ ، وَالدُّيُونِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْعَاشِرَةُ } اُسْتُدِلَّ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ قَوْلُهُ : فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيه مِنْ الْمَاءِ لِطَهَارَتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ سَوَاءٌ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ ، وَالْأَصْغَرُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى سَتْرِ بَعْضِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَطْعًا وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ كَمَالِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَانْتَقَلَ إلَى بَدَلِهِ ، وَهُوَ التُّرَابُ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ .
وَأَمَّا إذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَجِدْ التُّرَابَ فَأَظْهُرُ الطَّرِيقَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْبَعْضِ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ فَصَارَ كَالْعُرْيَانِ يَجِدُ بَعْضَ السُّتْرَةِ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ .

{ الْحَادِيَةَ عَشَرَ } مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي وُجُودِ بَعْضِ مَا يَكْفِيه مِنْ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ هُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَوْجُودُ يَصْلُحُ لِلْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَصْلُحُ لِلْمَسْحِ فَقَطْ بِأَنْ كَانَ ثَلْجًا أَوْ بَرْدًا لَا يَذُوبُ فَالْأَظْهَرُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْدِثِ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بَلْ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّا حَيْثُ أَوْجَبْنَا اسْتِعْمَالَ الْبَعْضِ أَوْجَبْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى التَّيَمُّمِ لِئَلَّا يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ الِابْتِدَاءُ بِمَسْحِ الرَّأْسِ مَعَ بَقَاءِ فَرْضِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ وَفِيهِ طَرِيقٌ آخَرُ لِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِمَاذَا ؟ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ عَلَى الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلِ الثَّلْجِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلرِّجْلَيْنِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الْأَقْوَى دَلِيلًا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ أَوْ الْمَسْحَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

{ الثَّانِيَةَ عَشَرَ } مَحَلُّ وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ هُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَأْتِيُّ بِهِ مِنْ الْقُرَبِ يَتَجَزَّأُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَإِذَا فَسَدَ بَعْضُهُ فَسَدَ كُلُّهُ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى عِتْقِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ ، وَالْإِطْعَامِ ، وَإِنْ كَانَ عِتْقُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ قُرْبَةً وَعَلَّلَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرَاخِي ، وَقَدْ تَطْرَأُ الْقُدْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ .

بَابُ غَسْلِ النَّجَاسَةِ } عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ فَلْيَرْقِهِ وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ : تَفَرَّدَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَذَكَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ : شَرِبَ ، وَأَنَّ غَيْرَهُ كُلَّهُمْ يَقُولُ وَلَغَ ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرُوا فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى لَفْظِهِ وَرْقَاءُ وَمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ .

{ بَابُ غَسْلِ النَّجَاسَةِ } عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَأَخْرَجُوهُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ هَكَذَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَابْنِ دَاسَةَ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ أَبِي دَاوُد ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ عَنْهُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي رَزِينٍ وَهَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ بَعْدَهُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتِ بْنِ عِيَاضٍ الْأَحْنَفِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رَزِينٍ عَنْهُ .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : هَكَذَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَبِغَيْرِهِ عَلَى تَوَاتُرِ طُرُقِهِ وَكَثْرَتِهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ كُلُّهُمْ يَقُولُ : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ وَلَا يَقُولُونَ شَرِبَ الْكَلْبُ ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ انْتَهَى .
وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْحَافِظَانِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ فَقَالَا : إنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ شَرِبَ وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرُوا فَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا عَلَى قَوْلِهِ شَرِبَ مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ وَوَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِمَامِ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْهُ بِلَفْظِ وَلَغَ كَمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ

رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ مَالِكٍ هَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ وَفِي بَعْضِهَا شَرِبَ .
وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الدَّانِيُّ فِي أَطْرَافِ الْمُوَطَّإِ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْحَنَفِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ وَلَغَ ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ شَرِبَ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ رُوَاةُ الْمُوَطَّإِ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ حُكْمَ سَائِرِ الْكِلَابِ فِي الْغُسْلِ مِنْ وُلُوغِهَا سَوَاءٌ ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ الْكَلْبِ وَغَيْرِ الْكَلْبِ وَفِي قَوْلٍ لِمَالِكٍ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي اتِّخَاذِهِ فَسُؤْرُهُ نَجِسٌ وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى التَّفْرِقَةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبَدَوِيِّ ، وَالْحَضَرِيِّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ الَّذِي أُبِيحَ اتِّخَاذُهُ هُوَ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا قَالَ : وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ الْمَعْقُولُ وَالنَّظَرُ ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُبَحْ اتِّخَاذُهُ وَأُمِرَ بِقَتْلِهِ مُحَالٌ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِ فَهُوَ مَعْدُومٌ لَا مَوْجُودٌ ، وَمَا أُبِيحَ لَنَا اتِّخَاذُهُ لِلصَّيْدِ ، وَالْمَاشِيَةِ أُمِرْنَا بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ .

{ الرَّابِعَةُ } اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَغْسِلُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ إذَا كَانَ وُلُوغُهُ فِي إنَاءٍ أَمَّا إذَا وَلَغَ فِي مَاءٍ مُسْتَنْقَعٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُغْسَلُ مِنْهُ وَلَا يُنَجِّسُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْقَيْدِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَوْنُ الْغَالِبِ وَضْعَ مِيَاهِهِمْ وَأَطْعِمَتِهِمْ فِي الْآنِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةُ } اسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ بِالْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ وَلُعَابِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَدَاوُد إلَى طَهَارَتِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : جُمْلَةُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ سُؤْرَ الْكَلْبِ طَاهِرٌ وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا تَعَبُّدًا وَاسْتِحْبَابًا أَيْضًا لَا إيجَابًا قَالَ : وَلَا بَأْسَ عِنْدَهُ بِأَكْلِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ اللَّبَنِ ، وَالسَّمْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُهْرِيقَ مَا وَلَغَ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ .
وَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : مَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ ؟ وَضَعَّفَهُ مِرَارًا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ إلَّا فِي الْمَاءِ وَحْدَهُ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهُ يُغْسَلُ مِنْ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ وَيُؤْكَلُ الطَّعَامُ وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ بَعْدَ تَعَبُّدٍ أَوْ لَا يُرَاقُ شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ وَإِنَّمَا لِيُهْرَاقَ الْمَاءُ عِنْدَ وُجُودِهِ لِيَسَارَةِ مُؤْنَتِهِ .
وَقَالَ دَاوُد : سُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَغَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْهُ سَبْعًا فَرْضٌ وَيُتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ وَيُؤْكَلُ الطَّعَامُ ، وَالشَّرَابُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ ، وَيَرُدُّ قَوْلَ مَالِكٍ وَدَاوُد مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ الْأَمْرِ بِإِرَاقَتِهِ رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَرْقِهِ ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } قَالَ النَّسَائِيُّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ عَلِيَّ بْنَ مُسْهِرٍ عَلَى قَوْلِهِ فَلْيَرْقِهِ .
وَكَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ

مُسْهِرٍ تَفَرَّدَ بِالْأَمْرِ بِالْإِرَاقَةِ فِيهِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ الْأَعْمَشِ الثِّقَاتُ الْحُفَّاظُ مِثْلُ شُعْبَةَ وَغَيْرِهِ .
وَكَذَا قَالَ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيُّ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ قَالَ : وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي قَوْلِهِ : فَلْيَرْقِهِ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ قُلْت : وَهَذَا غَيْرُ قَادِحٍ فِيهِ ، فَإِنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ، وَالْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الَّذِينَ احْتَجَّ بِهِمْ الشَّيْخَانِ ، وَمَا عَلِمْت أَحَدًا تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَضُرُّهُ تَفَرُّدُهُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَوْنِهِ ضَعَّفَ أَصْلَ الْحَدِيثِ فَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ ضَعْفِهِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ رَدَّهُمْ لِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ وَهَلْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ لِأَحَدٍ مَقَالٌ ؟ وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ أَصَحُّ أَسَانِيدِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْكِتَابِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَالْحَمْلُ عَلَى التَّنْجِيسِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَتَى دَارَ الْحُكْمُ بَيْنَ كَوْنِهِ تَعَبُّدًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَالْمَعْقُولُ الْمَعْنَى أَوْلَى لِنُدْرَةِ التَّعَبُّدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى .

{ السَّادِسَةُ } اسْتَدَلَّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِقَوْلِهِ : إذَا وَلَغَ أَوْ إذَا شَرِبَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَتَعَدَّى الْوُلُوغَ ، وَالشُّرْبَ ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ حُجَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ الْوُلُوغُ فَذَهَبَ قَائِلُ هَذَا إلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لُعَابُهُ فِي الْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلَغَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْهُ وَلَا يَنْجُسُ مَا فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ غَيْرُ فَمِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ لَا يَنْجُسُ ، وَكَذَا لَوْ بَالَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ تَغَوَّطَ فِيهِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا .
وَإِنَّمَا يُغْسَلُ مَرَّةً كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ لِتَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِالْوُلُوغِ أَوْ الشُّرْبِ ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي غَيْرِ لُعَابِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْهُ مَرَّةً ، وَإِنْ كَانَ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً أَوْ دَمًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ : إنَّهُ شَاذٌّ وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ اللُّعَابِ بِالْوُلُوغِ فَاقْتَضَى أَنَّ تَنَاثُرَ لُعَابِهِ يَكْفِي فِيهِ الْغُسْلُ مَرَّةً عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِقَوْلِهِ : إنَّهُ مُتَّجَهٌ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ سَبْعًا مِنْ الْوُلُوغِ إنَّمَا كَانَ لِتَنْفِيرِهِمْ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْكِلَابِ انْتَهَى .
وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَجَزَمَ بِهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وُجُوبُ التَّسْبِيعِ فِي سَائِرِ أَجْزَاءِ الْكَلْبِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا نَصَّ عَلَى الْوُلُوغِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فِيمَا تُصِيبُهُ الْكِلَابُ مِنْ الْأَوَانِي ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَقْصِدُ الْأَكْلَ ، وَالشُّرْبَ مِنْ الْأَوَانِي فَخَرَجَ بِذَلِكَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَجَمِيعُ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ يَدُهُ أَوْ ذَنَبُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ إذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ غُسِلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ

بَعْدَ هِرَاقَةِ مَا فِيهِ قَالَ وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ لَيْسَتْ تُنَجِّسُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْحَيَوَانِ مِنْ الْبَهَائِمِ مَا هُوَ نَجِسٌ ، وَهُوَ حَيٌّ ، وَمَا يُنَجِّسُ بِوُلُوغِهِ قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا الْكَلْبَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِنْزِيرَ هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْهِرَّةِ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا نَجِسًا وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ : إنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ مَشْهُورٌ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى زِيَادَةٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ فِي تَصَانِيفِهِمْ ، وَهِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَدُونَهُمْ دَارٌ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ وَلَا تَأْتِي دَارَنَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبًا قَالُوا ، فَإِنَّ فِي دَارِهِمْ سِنَّوْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ } .
فَلَوْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ هَكَذَا كَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ مَشْهُورًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَصْلًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ هَكَذَا ، وَقَدْ رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا فِيهِ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ، وَإِنَّمَا قَالَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّنَّوْرُ سَبُعٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ : عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ صَالِحُ الْحَدِيثِ وَقَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَعِيسَى

بْنُ الْمُسَيِّبِ يَنْفَرِدُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ إلَّا أَنَّهُ صَدُوقٌ وَلَمْ يُجَرَّحْ قَطُّ ( قُلْت ) : بَلَى جَرَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْكَلْبِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ اجْتِنَابُ دُخُولِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا كَلْبٌ ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِسَبُعٍ ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا طَهَارَةَ سُؤْرِ السِّبَاعِ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْهِرَّةَ سَبُعٌ لِيَعْلَمُوا طَهَارَةَ فَمِهَا بِخِلَافِ الْكَلْبِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِسَبُعٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ السَّابِعَةُ } فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي اكْتِفَائِهِ فِي الْغَسْلِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ وَاعْتَذَرَ أَصْحَابُهُ عَنْ الْحَدِيثِ بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ الرَّاوِي لِلْغَسْلِ مِنْ الْوُلُوغِ سَبْعًا فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِمَا رَأَى لَا بِمَا رَوَى تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ عَنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ فَعَمَلُهُ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ دَالٌّ عِنْدَهُمْ عَلَى النَّسْخِ وَخَالَفَهُمْ الْجُمْهُورُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَالْأُصُولِيِّينَ فَقَالُوا : الْعِبْرَةُ بِمَا رُوِيَ إذْ لَا حُجَّةَ فِي الْمَوْقُوفِ مَعَ صِحَّةِ الْمَرْفُوعِ وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ مَا رَوَى فَأَفْتَى بِخِلَافِهِ وَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ يُغْسَلُ بِلَا حَدٍّ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُق حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي الْكَلْبِ يَلَغُ فِي الْإِنَاءِ يَغْسِلُهُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا قَالُوا : فَلَوْ كَانَ التَّسْبِيعُ وَاجِبًا لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَمْسِ ، وَالثَّلَاثِ ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَحَدِ الضُّعَفَاءِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَرِوَايَةُ إسْمَاعِيلَ عَنْ الْحِجَازِيِّينَ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فَلَمَّا نَهَى عَنْ قَتْلِهَا نُسِخَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالْحَدْسِ ، وَالرَّأْيِ بَلْ ظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَمْرُهُ بِالتَّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِهَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : { أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، ثُمَّ قَالَ مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ؟

ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ ، وَالْغَنَمِ وَقَالَ : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّسْبِيعِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا إذْ الْأَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ حَتَّى يَصْرِفَ عَنْ الْوُجُوبِ صَارِفٌ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إلَى وُجُوبِ التَّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ قَالَ : وَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ بِالطُّرُقِ الصِّحَاحِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَطَاوُسٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَدَاوُد ، وَالطَّبَرِيُّ .

{ الثَّامِنَةُ } احْتَجَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّتْرِيبُ فِي الْغَسْلِ مِنْ الْوُلُوغِ إذْ لَمْ يَذْكُرْهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ فَقَدْ حَفِظَهُ غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ وَلَيْسَ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ حُجَّةً عَلَى مَنْ حَفِظَ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
{ التَّاسِعَةُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَسْبِيعِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ أَوْ مَعْقُولُ الْمَعْنَى ؟ فَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَمَّنْ ذَهَبَ إلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ أَنَّ الْعَدَدَ فِي الْغَسَلَاتِ تَعَبُّدٌ وَفِي كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَبُّدٌ وَأَنَّ أَصْلَ الْغَسْلِ مَعْقُولُ الْمَعْنَى ، وَهُوَ النَّجَاسَةُ قَالَ : وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا قُلْنَا بِهِ ، وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّفَاصِيلِ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فِي التَّفْصِيلِ لَمْ يُنْقَضْ لِأَجَلِهِ التَّأْصِيلُ وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ قَالَ : وَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ زِيَادَةُ التَّغْلِيظِ فِي النَّجَاسَةِ لَكِنَّا نَقْتَصِرُ فِي التَّعَبُّدِ عَلَى الْعَدَدِ وَنَكْتَفِي فِي أَصْلِ الْمَعْنَى عَلَى مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى انْتَهَى .
وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ تَعَبُّدٌ كَمَا سَيَأْتِي نَقْلُ كَلَامِهِ بَعْدَ هَذَا فِي الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ نَجَاسَةَ الْكَلْبِ ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ تَكَلَّفَ وَحَمَلَ هَذَا الْعَدَدَ عَلَى الْمَعْنَى الطِّبِّيِّ ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ مَا يُخَافُ مِنْ كَوْنِ الْكَلْبِ كَلْبًا وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ ، وَهُوَ السَّبْعُ قَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى جِهَةِ الطِّبِّ ، وَالتَّدَاوِي كَمَا قَالَ مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ { هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ } وَنَحْوِ هَذَا .
وَقَدْ عَزَاهُ

صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَغَيْرُهُ إلَى أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ، وَفِي هَذَا مِنْ التَّعَسُّفِ ، وَالرَّجْمِ بِالظَّنِّ مَا لَا يَخْفَى ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا عَلَى قَائِلِهِ بِجَوَابٍ طِبِّيٍّ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ لَا يَقْرَبُ الْمَاءَ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الطِّبِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَجَابَ حَفِيدُهُ عَنْ هَذَا أَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ تَمَكُّنِ الدَّاءِ مِنْهُ فَأَمَّا فِي مَبَادِئِهِ فَيَقْرَبُ الْمَاءَ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْعِلَّةَ فِي التَّسْبِيعِ كَوْنَهُ نَهْيًا عَنْ اتِّخَاذِهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ وَأَيُّ مَعْنًى مُنَاسِبٌ بَيْنَ كَوْنِهِ سَبْعًا أَوْ ثَلَاثًا ؟ نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ اقْتِنَائِهِ مُقْتَضِيًا لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ أَمَّا كَوْنُهُ سَبْعًا فَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ مُنَاسَبَةٍ .

{ الْعَاشِرَةُ } اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغَسْلُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّةَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي وُجُوبِ إرَاقَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْفَوْرِيَّةَ مُسْتَحَبَّةٌ ، فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْإِنَاءِ وَجَبَتْ الْإِرَاقَةُ .

{ الْحَادِيَةَ عَشَرَ } هَلْ تَتَعَدَّدُ الْغَسَلَاتُ الْوَاجِبَةُ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ بِتَعَدُّدِ الْوَلَغَاتِ مِنْ كَلْبٍ وَاحِدٍ أَوْ كَلْبَيْنِ فَأَكْثَرَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْفِي لِلْجَمِيعِ سَبْعٌ وَقِيلَ يَجِبُ لِكُلِّ وَلْغَةٍ سَبْعٌ وَقِيلَ يَكْفِي السَّبْعُ فِي وَلَغَاتِ الْكَلْبِ الْوَاحِدِ وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْكِلَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَجَّسَ بِنَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ غَيْرِ الْكَلْبِ لَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ عَلَى السَّبْعِ بَلْ يَنْدَرِجُ الْأَصْغَرُ فِي الْأَكْبَرِ كَالْحَدَثِ عَلَى الصَّحِيحِ وَادَّعَى النَّوَوِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ نَفْيَ الْخِلَافِ فِيهِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ لِلنَّجَاسَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الثَّانِيَةَ عَشَرَ } مَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي التَّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْ اتِّخَاذِهِ وَاقْتِنَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ عَدَّى حُكْمَ الْكَلْبِ إلَى الْخِنْزِيرِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ اقْتِنَائِهِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ بَعْضِ الْكِلَابِ الْمُتَّخَذَةِ لِلصَّيْدِ ، وَالزَّرْعِ فَهُوَ إذًا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْكَلْبِ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَجِبُ الْغَسْلُ مِنْهُ سَبْعًا كَالْكَلْبِ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّسْبِيعُ مِنْ نَجَاسَةِ الْخِنْزِيرِ وَيَقْتَصِرُ فِي التَّسْبِيعِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي الدَّلِيلِ .
وَكَذَا قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : إنَّهُ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ قَالَ : وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ حَتَّى يَرُدَّ الشَّرْعُ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّعَبُّدِ وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي شَرَحَ الْوَسِيطِ بَلْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى طَهَارَةِ الْخِنْزِيرِ وَمَنْ ادَّعَى مِنْ أَصْحَابِنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَجَاسَتِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الثَّالِثَةَ عَشَرَ } مَحَلُّ الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ سَبْعًا مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ ، وَكَذَلِكَ مَحَلُّ الْأَمْرِ بِالْإِرَاقَةِ هُوَ مَا إذَا كَانَ مَا فِي الْإِنَاءِ مَائِعًا أَمَّا إذَا كَانَ جَامِدًا ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ حِينَئِذٍ إلْقَاءُ مَا أَصَابَ الْكَلْبُ بِفَمِهِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ حِينَئِذٍ إلَّا إذَا أَصَابَهُ فَمُ الْكَلْبِ مَعَ وُجُودِ الرُّطُوبَةِ فَيَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ فَقَطْ سَبْعًا كَالْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ سَوَاءٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ دَاخِلَةً فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَا فِيهِ جَامِدًا لَا يُسَمَّى أَخْذُ الْكَلْبِ مِنْهُ شُرْبًا وَلَا وُلُوغًا بَلْ هُوَ أَكْمَلُ ، وَإِنَّمَا الْوُلُوغُ الْأَخْذُ بِطَرَفِ اللِّسَانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طُهْرُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ( طَهُورُ ) وَزَادَ { أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَنْفَرِدُ بِذِكْرِ التُّرَابِ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ فِي السُّنَنِ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، إنْ كَانَ حَفِظَهُ مُعَاذٌ فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ غَيْرُ ابْنِ سِيرِينَ ( قُلْت ) : تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سِيرِينَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ : { أُولَهُنَّ أَوْ آخِرُهُنَّ بِالتُّرَابِ } وَلِلْبَيْهَقِيِّ ( أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ ) وَلِأَبِي دَاوُد ( السَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ ) وَلِلْبَزَّارِ ( إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ) وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ إحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ { وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } .

{ الْحَدِيثُ الثَّانِي } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طُهْرُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ( طَهُورُ ) وَزَادَ { أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِهِ هَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ طَهُورٍ وَزَادَ فِي آخِره أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَتِهِ أُولَهُنَّ أَوْ قَالَ آخِرُهُنَّ بِالتُّرَابِ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
{ الثَّانِيَةُ } فِي قَوْلِهِ طُهْرُ وَطَهُورُ مَا يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ وَنَجَاسَتِهِ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَسٍ وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلنَّجَاسَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ .
{ الثَّالِثَةُ } اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ قَدْ تَكُونُ لَا عَنْ حَدَثٍ وَلَا عَنْ خُبْثٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا } قَالَ وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَيَمِّمِ نَجَاسَةٌ وَالطَّهُورُ يُطْلَقُ عَلَى إبَاحَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَالتَّيَمُّمِ ، وَهَذَا الَّذِي اعْتَرَضَ بِهِ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْحَدَثُ فَلَا يُقَالُ إنَّهَا طَهَارَةٌ لَا عَنْ حَدَثٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } اعْتَرَضَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى الْمُحْتَجِّينَ بِالْحَدِيثِ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ بِبَحْثٍ آخَرَ ذَكَرَهُ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ بِسَبَبِ الْوُلُوغِ ، وَذَلِكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ نَجَاسَةِ عَيْنِ اللُّعَابِ وَعَيْنِ الْفَمِ أَوْ تَنَجُّسِهِمَا

بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ غَالِبًا ، وَالدَّالُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ فَلَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفَمِ أَوْ عَيْنِ اللُّعَابِ فَلَا تَسْتَمِرُّ الدَّلَالَةُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْكَلْبِ كُلِّهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ تَنَجُّسَ اللُّعَابِ أَوْ الْفَمِ كَمَا أَشَرْتُمْ إلَيْهِ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ ، وَهُوَ إمَّا وُقُوعُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ أَوْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ ؛ لِأَنَّا إذَا فَرَضْنَا تَطْهِيرَ فَمِ الْكَلْبِ مِنْ النَّجَاسَةِ بِمَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ فَوَلَغَ فِي الْإِنَاءِ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ وُجُوبُ غَسْلِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَجَبَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ ، وَإِنْ ثَبَتَ لَزِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ : الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْغَالِبِ ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الصُّورَةِ نَادِرٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا الْبَحْثُ إذَا انْتَهَى إلَى هَهُنَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْغَسْلَ لِأَجْلِ قَذَارَةِ الْكَلْبِ انْتَهَى .
( قُلْت ) : لَيْسَ الْغَسْلُ مِنْ الْقَذَارَةِ طَهَارَةً شَرْعِيَّةً ، وَإِنَّمَا هِيَ لُغَوِيَّةٌ وَقَوْلُهُ طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِثْبَاتُ نَجَاسَةِ فَمِ الْكَلْبِ بِاحْتِمَالِ تَنْجِيسِهِ يُعَارِضُ خِلَافَ الْأَصْلِ ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْكَلْبِ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْقَذِرَةِ الَّتِي تَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالسِّبَاعِ ، وَالطُّيُورِ وَلَثَبَتَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْهِرِّ فَكَثِيرًا مَا يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ كَالْفَأْرَةِ ، وَالْحَشَرَاتِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ وَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْكَلْبِ أَصْلِيَّةٌ لَا عَارِضَةٌ بِاحْتِمَالِ نَجَاسَةٍ أُخْرَى وَاَللَّهُ

أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةُ } وَلَغَ يَلَغُ بِفَتْحِ اللَّامِ فِيهِمَا وَحُكِيَ فِي الْمُضَارِعِ كَسْرُ اللَّامِ أَيْضًا ، وَالْمَصْدَرُ وُلُوغٌ بِضَمِّ الْوَاوِ وَوَلْغٌ بِفَتْحِهَا وَسُكُونِ اللَّامِ ، وَالْوُلُوغُ هُوَ الشُّرْبُ بِطَرَفِ اللِّسَانِ قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ : وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْوُلُوغُ فِي السِّبَاعِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْوُلُوغُ لِلسِّبَاعِ وَالْكِلَابِ كَالشُّرْبِ لِبَنِي آدَمَ قَالَ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الشُّرْبُ لِلسِّبَاعِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْوُلُوغُ فِي الْآدَمِيِّ وَيُقَالُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الطُّيُورِ يَلَغُ غَيْرُ الذُّبَابِ .
( قُلْت ) وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ الْوُلُوغُ فِي الْآدَمِيِّ مَجَازًا فَقَالُوا فِيمَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَشَرِبَ دَمَهُ وَلَغَ فِي دَمِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالسِّبَاعِ ، وَأَمَّا الْوُلُوغُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهُوَ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ ، الْوُلُوغُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ كَالسَّعُوطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّادِسَةُ } اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّتْرِيبِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّتْرِيبُ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الْمَاءُ فَقَطْ وَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ التَّتْرِيبَ فِيمَا لَا يَفْسُدُ بِهِ كَالْإِنَاءِ دُونَ مَا يَفْسُدُ بِهِ كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا .

{ السَّابِعَةُ } اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِيهَا التُّرَابُ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ أُولَاهُنَّ أَوْ قَالَ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ إحْدَاهُنَّ بِالْحَاءِ ، وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْبَزَّارِ لَهَا فِي مُسْنَدِهِ .
وَقَدْ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ هَكَذَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ فَقَالَ فِيهِ إحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهَا رِوَايَةٌ ثَابِتَةٌ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ الشَّارِحِينَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهَا فَجَمَعَ النَّوَوِيُّ بَيْنَهَا بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْأُولَى وَبِغَيْرِهَا لَيْسَ عَلَى الِاشْتِرَاطِ بَلْ الْمُرَادُ إحْدَاهُنَّ قَالَ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ اغْسِلُوهُ سَبْعًا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِتُرَابٍ مَعَ الْمَاءِ فَكَأَنَّ التُّرَابَ قَائِمٌ مَقَامَ غَسْلَةٍ فَسُمِّيَتْ ثَامِنَةً لِهَذَا وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ فِيهِ اسْتِكْرَاهٌ .
وَهَكَذَا يَدُلُّ كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ فِي السُّنَنِ عَلَى تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَةِ الثَّامِنَةِ بِالتُّرَابِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ صَارَ إلَى التَّرْجِيحِ دُونَ الْجَمْعِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ فِي الثَّامِنَةِ مَا صُورَتُهُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى فَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَتَهُ بِكَوْنِهِ أَحْفَظَ وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ .
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إجْزَاءَ التَّرْتِيبِ فِي أَيِّ غَسْلَةٍ شَاءَ مِنْ الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ بِأَنَّ رِوَايَةَ إحْدَاهُنَّ عَلَى تَقْدِيرِ

ثُبُوتِهَا مُطْلَقَةً ، وَقَدْ قُيِّدَتْ فِي بَعْضِهَا بِأُولَاهُنَّ وَفِي بَعْضِهَا بِالسَّابِعَةِ فَلَا يُجْزِئُ التَّتْرِيبُ فِي غَيْرِهِمَا لِاتِّفَاقِ الْقَيْدَيْنِ عَلَى نَفْيِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ اسْتِشْكَالًا وَبَحْثًا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ .
فَقَالَ : وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ غُسِلَ سَبْعًا أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَلَا يُطَهِّرُهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ ، وَعِبَارَتُهُ فِي الْأُمِّ قَرِيبَةٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ تَبِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِالْأُولَى أَوْ الْأُخْرَى الزُّبَيْرِيُّ فِي الْكَافِي وَالْمَرْعَشِيُّ فِي كِتَابِ تَرْتِيبِ الْأَقْسَامِ وَنَقَلَهُ الدَّارِمِيُّ أَيْضًا فِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ ابْنِ جَابِرٍ ، وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الْحَنَفِيَّةِ الرِّوَايَةَ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التُّرَابَ بِهَذَا الِاضْطِرَابِ مِنْ كَوْنِهَا أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ أَوْ إحْدَاهُنَّ أَوْ السَّابِعَةَ أَوْ الثَّامِنَةَ فَقَالَ : إنَّ هَذَا الِاضْطِرَابَ يَقْتَضِي طَرْحَ ذِكْرِ التُّرَابِ رَأْسًا ، وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ إنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُضْطَرِبَةٌ وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْمُضْطَرِبَ إنَّمَا تَتَسَاقَطُ الرِّوَايَاتُ إذَا تَسَاوَتْ وُجُوهُ الِاضْطِرَابِ أَمَّا إذَا تَرَجَّحَ بَعْضُ الْوُجُوهِ فَالْحُكْمُ لِلرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا رِوَايَةُ مَنْ خَالَفَهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ أُولَاهُنَّ أَرْجَحُ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ ، فَإِنَّهُ رَوَاهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ثَلَاثَةٌ ، هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ وَحَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ فَتَتَرَجَّحَ بِأَمْرَيْنِ : كَثْرَةُ الرُّوَاةِ وَتَخْرِيجُ أَحَدِ الشَّيْخَيْنِ لَهَا وَهُمَا مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ أُخْرَاهُنَّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ،

وَالرَّاءِ فَلَا تُوجَدُ مُنْفَرِدَةً مُسْنَدَةً فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ذَكَرَ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّهُ رَوَاهَا خِلَاسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيهِ إلَّا أَنَّهَا رُوِيَتْ مَضْمُومَةً مَعَ أُولَاهُنَّ كَمَا سَيَأْتِي .
وَأَمَّا رِوَايَةُ السَّابِعَةِ بِالتُّرَابِ فَهِيَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَاهَا ، فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَتَادَةُ وَانْفَرَدَ بِهَا أَبُو دَاوُد ، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا عَلَى قَتَادَةَ فَقَالَ إبَّانُ عَنْهُ هَكَذَا ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْهُ الْأُولَى بِالتُّرَابِ فَوَافَقَ الْجَمَاعَةَ رَوَاهُ كَذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةِ أُولَاهُنَّ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْجَمَاعَةِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ إحْدَاهُنَّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَالدَّالِ فَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ، وَإِنَّمَا رَوَاهَا الْبَزَّارُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ فَقَدْ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَفِيهِ بَحْثٌ أَذْكُرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ لَا تَخْلُوَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَةً مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ أَوْ هُوَ شَكٌّ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَجْمُوعَةً مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا وَيَتَرَجَّحُ حِينَئِذٍ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ التَّقْيِيدِ بِهِمَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُولَى أَوْ السَّابِعَةِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ حُفِظَ مَرَّةً فَاقْتُصِرَ عَلَيْهَا وَحُفِظَ هَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُولَى ، وَالْأُخْرَى فَكَانَ أَوْلَى .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَالتَّعَارُضُ قَائِمٌ وَيَرْجِعُ إلَى التَّرْجِيحِ فَتُرَجَّحُ الْأُولَى كَمَا تَقَدَّمَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى

أَنَّ ذَلِكَ شَكٌّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ لَا مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ فِي رِوَايَتِهِ أُولَاهُنَّ أَوْ قَالَ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ شَكَّ فِيهِ فَيَتَرَجَّحُ حِينَئِذٍ تَعْيِينُ الْأُولَى وَلَهَا شَاهِدٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ خِلَاسٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيهِ .
وَإِذَا كَانَ ذِكْرُ الْأُولَى أَرْجَحَ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا مِنْ كَوْنِ التَّتْرِيبِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَوْلَى وَذَكَرُوا لَهُ مَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُدِّمَ التَّتْرِيبُ فِي الْأُولَى فَتَنَاثَرَ مِنْ بَعْضِ الْغَسَلَاتِ رَشَاشٌ إلَى غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمُتَلَوِّثِ بِالنَّجَاسَةِ الْكَلْبِيَّةِ لَمْ يَجِبْ تَتْرِيبُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُخِّرَ فَكَانَ هَذَا أَرْفَقَ لَكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ مُتَقَاصِرٌ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَرَّةِ الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّامِنَةُ } ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَنْفَرِدُ بِذِكْرِ التُّرَابِ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَهُ فَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ يَحْيَى الْهِلَالِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ فِيهِ الْأُولَى بِالتُّرَابِ وَخَالِدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ فِيهِ ابْنُ عَدِيٍّ أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنِّي لَمْ أَرَ فِي حَدِيثِهِ شَيْئًا مُنْكَرًا وَقَالَ الذَّهَبِيُّ صُوَيْلِحٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَوَرَدَ ذِكْرُ التُّرَابِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ ، وَالْحَسَنِ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ

أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ ، ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إنْ حَفِظَهُ مُعَاذٌ فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ غَيْرُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : وَإِنَّمَا رَوَاهُ غَيْرُ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّهُ رَوَاهُ خِلَاسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } قَالَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي حَدِيثِ خِلَاسٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ خِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ سَمِعَ خِلَاسٌ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ ذِكْرُ أَبِي رَافِعٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ الْمُتَقَدِّمَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ التَّاسِعَةُ } فِي قَوْلِهِ : طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ مَعَ ذِكْرِ التُّرَابِ فِي آخِرِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي التَّتْرِيبُ بِتُرَابٍ نَجِسٍ ؛ لِأَنَّ النَّجِسَ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ كَمَا لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ نَجِسٍ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَصِحُّ كَالدِّبَاغِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ وَبَنَى الرَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إذَا تَنَجَّسَتْ الْأَرْضُ التُّرَابِيَّةُ بِالْكَلْبِ ، فَإِنْ قُلْنَا لَا يَكْفِي التُّرَابُ النَّجِسُ فَلَا بُدَّ مِنْ تُرَابٍ آخَرَ وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تُرَابٍ آخَرَ إذْ لَا مَعْنَى لِتَتْرِيبِ التُّرَابِ .

{ الْعَاشِرَةُ } فِي قَوْلِهِ : فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ مَا قَدْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحَلِّ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْمَاءِ وَيُوَصِّلَهُ إلَى الْمَحَلِّ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ جَعَلَ مَرَّةَ التَّتْرِيبِ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْغَسَلَاتِ ، وَذَرُّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحَلِّ لَا يُسَمَّى غَسْلًا وَهَذَا مُمْكِنٌ ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَرَّ التُّرَابَ عَلَى الْمَحَلِّ وَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ غَسَلَ بِالتُّرَابِ .
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : وَعَفِّرُوهُ قَدْ يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالتَّتْرِيبِ بِطَرِيقِ ذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحَلِّ ، فَإِنْ كَانَ خَلْطُهُ بِالْمَاءِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ تَعْفِيرًا لُغَةً فَقَدْ ثَبَتَ مَا قَالُوهُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّعْفِيرِ حِينَئِذٍ يَنْطَلِقُ عَلَى ذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحَلِّ وَعَلَى إيصَالِهِ بِالْمَاءِ إلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ مُسَمَّى الْغَسْلَةِ يَدُلُّ عَلَى خَلْطِهِ بِالْمَاءِ وَإِيصَالِهِ إلَى الْمَحَلِّ بِهِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُقْتَضَى مُطْلَقِ التَّعْفِيرِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُمُولِ اسْمِ التَّعْفِيرِ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا أَعْنِي ذَرَّ التُّرَابِ وَإِيصَالَهُ بِالْمَاءِ انْتَهَى .
وَمَا أَبْدَاهُ الشَّيْخُ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي إجْزَاءِ ذَرِّ التُّرَابِ وَإِتْبَاعِهِ بِالْمَاءِ قَدْ صَرَّحَ بِالِاكْتِفَاءِ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيَّ صَرَّحَ فِي التَّبْصِرَةِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ .

{ الْحَادِيَةَ عَشَرَ } اسْتَدَلَّ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مَزْجُ التُّرَابِ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَلْيَغْسِلْهُ بِالْمَاءِ سَبْعًا وَإِلَّا لَجَازَ الْغَسْلُ سَبْعًا بِغَيْرِ الْمَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَكْفِي ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغَسْلَةِ السَّابِعَةِ التُّرَابُ ، وَهُوَ بَعِيدٌ .

{ الثَّانِيَةَ عَشَرَ } فِيهِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ سَبْعًا ، ثُمَّ مَزَجَ التُّرَابَ بِمَائِعٍ فَغَسَلَهُ بِهِ ثَامِنَةً أَنَّهُ لَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَيْسَ فِي أُولَى الْغَسَلَاتِ وَلَا فِي إحْدَاهُنَّ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ جَمْعِ التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ الْمُسَمَّى بِالتَّنْقِيحِ وَكَلَامُهُ فِي بَقِيَّةِ كُتُبِهِ مُحْتَمَلٌ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ أَمَّا إذَا غَسَلَهُ بِالْمَاءِ سَبْعًا وَمَزَجَ التُّرَابَ بِالْمَائِعِ وَغَسَلَهُ بِهِ مَعَ الْمَاءِ غَسْلَةً ثَامِنَةً فَفِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَطْعًا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ قَالَ : وَلَا يُتَّجَهُ فِيهِ خِلَافُ الْأَوْجُهِ بَعِيدٌ فِي أَنَّ التُّرَابَ تَزُولُ طَهُورِيَّتُهُ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ .

{ الثَّالِثَةَ عَشَرَ } اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَمْرِ بِالتَّتْرِيبِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ أَوْ مَعْقُولُ الْمَعْنَى فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ تَعَبُّدٌ جَعَلَهُ مُتَعَيِّنًا ، وَأَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، وَإِنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي الْإِزَالَةِ كَالصَّابُونِ ، وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِمَا وَمَنْ جَعَلَهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِلَّةُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ نَوْعَيْ الطَّهُورِ تَغْلِيظًا لِلنَّجَاسَةِ وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ الِاسْتِظْهَارَ مَعَ الْمَاءِ بِغَيْرِهِ فَمَنْ عَلَّلَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نَوْعَيْ الطَّهُورِ لَمْ يَكْتَفِ بِغَيْرِ التُّرَابِ وَمَنْ جَعَلَهُ لِلِاسْتِظْهَارِ اكْتَفَى بِأَمْرٍ آخَرَ مَعَ الْمَاءِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْغَسْلَةِ الثَّامِنَةِ إذْ لَا زِيَادَةَ عَلَى الْمَاءِ وَالْأَصَحُّ كَمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ تَعَيُّنُ التُّرَابِ ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الصَّابُونُ وَالْأُشْنَانُ وَنَحْوُهُمَا ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَكْفِي فِيمَا يَفْسُدُ بِالتُّرَابِ كَالثِّيَابِ خُصُوصًا النَّفِيسَةَ ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ لَا عِنْدَ وُجُودِهِ ، وَهَذَا الْأَخِيرُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ مَعَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِأَحَدِهِمَا ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَكْفِي مُطْلَقًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ ، وَإِنَّمَا فَرَضَهُ فِي الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ .

{ الرَّابِعَةَ عَشَرَ } فِيهِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَهُ مَرَّةً ثَامِنَةً بِالْمَاءِ بَدَلًا عَنْ التُّرَابِ لَا يَكْفِي ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ التُّرَابِ فَمَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ أَبْلَغَ مِنْ التُّرَابِ مُطْلَقًا لَجَازَ لِمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ لِأَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ دُونَ التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةَ عَشَرَ } ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالرَّمْلِ عَنْ التُّرَابِ فِي نَجَاسَةِ الْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ لَهُ اسْمًا يَخُصُّهُ دُونَ التُّرَابِ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا صَحَّحُوا جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِهِ إذَا كَانَ نَاعِمًا لَهُ غُبَارٌ بَلْ زَادَ النَّوَوِيُّ عَلَى هَذَا فَقَالَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ لَوْ سَحَقَ الرَّمْلَ حَتَّى صَارَ لَهُ غُبَارٌ جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وَمُقْتَضَى هَذَا الِاكْتِفَاءُ بِهِ فِي التَّتْرِيبِ مِنْ الْكَلْبِ ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ يُسَمَّى تُرَابًا .
وَفِي الْحَدِيثِ مَا قَدْ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِهِ عَلَى الْعُرَنِيِّينَ لِلْهَرَوِيِّ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ أَمْرَانِ تُكْفَأُ الْقُدُورُ ، وَأَنْ يُرَمَّلَ اللَّحْمُ بِالتُّرَابِ وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يُلَتُّ بِالتُّرَابِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُتَرَّبُ بِالتُّرَابِ فَأَتَى بِقَوْلِهِ يُرَمَّلُ ؛ لِأَنَّ الرَّمْلَ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ فَجَمَعَ بَيْنَ ذِكْرِ الرَّمْلِ ، وَالتُّرَابِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَصِيرَ التُّرَابُ لَهُ رِمَالًا كَمَا يُرَمَّلُ السَّرِيرُ فَيَلْتَصِقُ عَلَيْهِ التُّرَابُ فَشُبِّهَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَتِهِ بِالنَّسْجِ عَلَى السَّرِيرِ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ السَّادِسَةَ عَشَرَ } فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إلَى اشْتِرَاطِ الْغَسْلِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ ثَمَانِيًا وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّهُ يُغْسَلُ سَبْعًا بِالْمَاءِ وَمَرَّةً ثَامِنَةً بِالتُّرَابِ قَالَ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ غَيْرُهُ .
( قُلْت ) : قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَيْضًا كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَحَكَاهُ عَنْهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَالْحَدِيثُ قَوِيٌّ فِيهِ فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ فِيهِ اسْتِكْرَاهٌ .
وَقَالَ الطَّحْطَاوِيُّ : يَنْبَغِي لِهَذَا الْمُخَالِفِ لَنَا أَنْ يَقُولَ : لَا يَطْهُرُ الْإِنَاءُ حَتَّى يُغْسَلَ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ الثَّامِنَةُ بِالتُّرَابِ لِيَأْخُذَ بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا فِي الْفَائِدَةِ السَّابِعَةِ وَفِي الْعَاشِرَةِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ هَرِيقُوا عَلَيْهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ } ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : فَرَّقَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى قِصَّةِ الْبَوْلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ .

{ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ } عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَسْرَعَ النَّاسُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ هَرِيقُوا عَلَيْهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَرَّقَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَعِيدِ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَمَّا رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَأَخْرَجَهَا بِكَمَالِهَا أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهَا وَأَخْرَجَهَا النَّسَائِيّ مُقْتَصِرًا عَلَى أَوَّلِ الْحَدِيثِ دُونَ قِصَّةِ الْبَوْلِ .
( وَأَمَّا ) رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ مُفَرَّقَةً فِي مَوْضِعَيْنِ فَذَكَرَ قِصَّةَ الْبَوْلِ فِي الطَّهَارَةِ وَفِي الْأَدَبِ أَيْضًا وَذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ فِي الْأَدَبِ أَيْضًا .
وَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ فَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مُقْتَصِرِينَ عَلَى أَوَّلِ الْحَدِيثِ دُونَ قِصَّةِ الْبَوْلِ وَأَخْرَجَهَا ابْنُ مَاجَهْ وَذَكَرَ قِصَّةَ الْبَوْلِ أَيْضًا وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قِصَّةَ الْبَوْلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِتَمَامِهِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ .
{ الثَّانِيَةُ } الْأَعْرَابِيُّ هُوَ سَاكِنُ الْبَادِيَةِ وَقِيلَ مَنْ سَكَنَهَا مِنْ الْعَرَبِ وَجَمْعُ الْأَعْرَابِيِّ أَعْرَابٌ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَعْرَابِ وَهُمْ سُكَّانُ الْبَوَادِي قَالَ : وَقَعَتْ النِّسْبَةُ إلَى

الْجَمْعِ دُونَ الْوَاحِدِ فَقِيلَ : لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْقَبِيلَةِ كَأَثْمَارٍ وَقِيلَ : لِأَنَّهُ لَوْ نَسَبَ إلَى الْوَاحِدِ ، وَهُوَ عَرَبٌ لَقِيلَ عَرَبِيٌّ فَيَشْتَبِهُ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ كُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَوَاءٌ كَانَ سَاكِنًا بِالْبَادِيَةِ أَوْ بِالْقُرَى ، وَهَذَا غَيْرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ إنَّ الْأَعْرَابَ جَمْعُ عَرَبٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ جَمْعُ أَعْرَابِيٍّ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمُبْهَمَاتِ سَمَّى هَذَا الْأَعْرَابِيَّ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ تَحِيَّةً لَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ حَتَّى عِنْدَ الْأَعْرَابِيِّ الْغَرِيبِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا يَتْرُكُهَا الدَّاخِلُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَوْ دَخَلَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ يَخَافُ فَوْتَهَا ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْفَرْضَ أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهِ الطَّوَافُ وَتَتَأَدَّى التَّحِيَّةُ بِالْفَرْضِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ، فَإِنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَقَدْ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ الطَّوَافِ لِقُرْبِ الصَّلَاةِ أَوْ خُرُوجِ الْخَطِيبِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ رَكْعَتَا التَّحِيَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ لَيْسَتَا لِلتَّحِيَّةِ ، وَإِنَّمَا هُمَا فَرْضُ صَلَاتِهِ فَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَقَدْ حَجَّرْت وَاسِعًا } يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الْبَوْلِ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } كَيْفَ وَجَّهَ

الْجَمْعَ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ ، فَإِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ لِلرَّكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِهِ ، ثُمَّ قَالَ الدَّالَّةُ عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَالتَّرَاخِي وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ { دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَلِمُحَمَّدٍ وَلَا تَغْفِرْ لِأَحَدٍ مَعَنَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } الْحَدِيثَ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِلتَّحِيَّةِ ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَهُمْ وَقَالَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا قَدْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ دَخَلَ ، وَهُوَ جَالِسٌ فَقَالَ فَأَتَى بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَصَلَّى وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ فَقَدْ زَادَا ذِكْرَ الصَّلَاةِ كَحَدِيثِ الْبَابِ ، وَالْحُكْمُ لِمَنْ حَفِظَ وَزَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بِمَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَتَى بِالْفَاءِ .

{ الْخَامِسَةُ } فِيهِ أَنَّ مِنْ أَدَبِ الدُّعَاءِ أَنَّ مَنْ دَعَا بِمَجْلِسِ جَمَاعَةٍ لَا يَخُصُّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ مِنْ بَيْنِهِمْ أَوْ لَا يَخُصُّ نَفْسَهُ وَبَعْضَهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ بِأَنَّهُ لَا يَرْحَمُ الْبَاقِينَ أَوْ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَهَذَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ جَهْلًا بِآدَابِ الدُّعَاءِ ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَأَكَّدُ اسْتِيعَابُ الْحَاضِرِينَ عَلَى إمَامِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَخُصُّ نَفْسَهُ دُونَ الْمَأْمُومِينَ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَؤُمُّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْمَأْمُومُونَ كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا مَا يَدْعُو كُلُّ أَحَدٍ بِهِ كَقَوْلِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمَأْمُومِينَ يَدْعُو بِذَلِكَ فَلَا حَرَجَ حِينَئِذٍ فِي الْإِفْرَادِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ بَعْضَ الْمَأْمُومِينَ يَتْرُكُ ذَلِكَ نِسْيَانًا أَوْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِاسْتِحْبَابِهِ فَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَنْ يَجْمَعَ الضَّمِيرَ لِذَلِكَ فَأَمَّا دُعَاءُ الدَّاعِي لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَالرَّحْمَةِ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ عَذَابِ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْهِ لِوُرُودِ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ وَخُرُوجُهُمْ مِنْ النَّارِ بَعْدَ الْعَذَابِ إنَّمَا هُوَ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَالرَّحْمَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَعْمِيمِ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ السَّادِسَةُ } فِيهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى إنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ، فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الْإِنْكَارَ إلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُنْكِرُ لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ نَحْوُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمَّا لَوْ تَعَدَّى ضَرَرُهُ كَأَنْ رَآهُ يَقْتُلُ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَيَجِبُ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَإِزَالَةُ مَا قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّابِعَةُ } قَوْلُهُ لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَيْ ضَيَّقْت مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ وَخَصَصْت بِهِ نَفْسَك دُونَ غَيْرِك انْتَهَى وَالْمَعْنَى أَرَدْت ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَحْجِيرُ مَا أَرَادَ تَحَجُّرَهُ وَالتَّفَعُّلُ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ تَكَلُّفُ الشَّيْءِ وَبُلُوغُهُ بِمَشَقَّةٍ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى تَكَلُّفِ مَا لَا يَنَالُهُ وَلَا يُطِيقُهُ نَحْوُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَكَقَوْلِهِ مَنْ تَحَلَّمَ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ فَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ حَلَمْت بِكَذَا ، وَكَذَا وَلَمْ يَكُنْ حَلَمَ وَلَا رَأَى شَيْئًا فَهُوَ تَفَعَّلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِيهِ وَلَا بُلُوغٍ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ بِغَيْرِ تَاءِ التَّفَعُّلِ لَقَدْ حَجَرْت أَوْ حَجَّرْت وَاسِعًا رُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ ، وَالْمَعْنَى أَرَدْت ذَلِكَ وَدَعَوْت بِهِ وَلَنْ تَبْلُغَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الثَّامِنَةُ } وَفِيهِ أَنَّ جَاهِلَ الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ إذَا خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ لَا يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إنْ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ فِيهَا حَدٌّ ، وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ هَذَا أَعْرَابِيٌّ نَشَأَ بِالْبَادِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يَجُوزُ الْبَوْلُ فِيهَا فَلَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤَنِّبْهُ ، ثُمَّ عَلَّمَهُ الْحُكْمَ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْوُقُوعِ بِهِ وَعَنْ الصِّيَاحِ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : وَيْحُك أَوْ وَيْلُك ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ ذَلِكَ وَلَا تُرِيدُ بِهِ الدُّعَاءَ بَلْ قَدْ وَرَدَ أَنَّ وَيْحَ كَلِمَةُ رَحْمَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ التَّاسِعَةُ } وَقَوْلُهُ : فَأَسْرَعَ النَّاسُ إلَيْهِ أَيْ بَادَرُوا إلَيْهِ وَمُبَادَرَتُهُمْ إلَيْهِ إمَّا لِلْوُقُوعِ بِهِ كَمَا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ فَثَارَ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ ، وَإِمَّا أَسْرَعُوا إلَيْهِ لِزَجْرِهِ ، وَالصِّيَاحِ عَلَيْهِ فَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فَزَجَرَهُ النَّاسُ وَلِمُسْلِمٍ فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ : لَا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ } الْحَدِيثَ .

{ الْعَاشِرَةُ } فِيهِ الرِّفْقُ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ بِاسْتِعْمَالِ التَّيْسِيرِ وَتَرْكِ التَّعْسِيرِ وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ فَقَامَ إلَيَّ بِأَبِي وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ فَقَالَ : إنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا هَذَا الْمَسْجِدُ أَرَادَ بِهِ جِنْسَ الْمَسَاجِدِ لَا خُصُوصِيَّةَ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ الْحَادِيَةَ عَشَرَ } فِيهِ احْتِمَالُ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي أَشَدِّهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ لَا كَثِيرُهُ وَلَا قَلِيلُهُ وَأَمْرُهُمْ بِتَرْكِهِ فِيهِ فَائِدَتَانِ ( إحْدَاهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ أَصْلُ التَّنْجِيسِ قَبْلَ قِيَامِهِمْ إلَيْهِ فَلَوْ قَطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ وَأَخْرَجُوهُ لَأَدَّى إلَى تَنْجِيسِ مَوَاضِعَ مِنْ الْمَسْجِدِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِلَى تَنْجِيسِ ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ فَكَانَ إكْمَالُهُ لِلْبَوْلِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنَجَّسَ أَخَفَّ ضَرَرًا .
( وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ حَبْسَ الْبَوْلِ يُحَصِّلُ لِصَاحِبِهِ ضَرَرًا فَكَانَ فِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَهَذَا مِنْ رِفْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ وَحُسْنِ نَظَرِهِ لَهُمْ وَرُبَّمَا اُبْتُلِيَ مَنْ تَجَاوَزَ أَمْرَهُ وَتَأْدِيبَهُ بِأَشَدَّ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْجَاهِلُ كَمَا حَكَى لِي صَاحِبُنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ صِدِّيقٍ الْجَنَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ قَالَ : كُنْت فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرَأَيْت رَجُلًا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَغَيَّظْتُ عَلَيْهِ وَزِدْت فِي تَعْنِيفِهِ ، ثُمَّ أَلْزَمْتُهُ أَنْ حَمَلَ ذَلِكَ الْحَصْبَاءَ الَّذِي تَنَجَّسَ بِبَوْلِهِ فِي ثَوْبِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي زَحْمَةِ الْمَوْسِمِ فَخَشِيت أَنْ يَطَأَهُ النَّاسُ وَيَتَنَجَّسُوا بِهِ قَبْلَ تَطْهِيرِهِ قَالَ : ثُمَّ تَذَكَّرْت قَوْلَهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزْرِمُوهُ فَنَدِمْت عَلَى إفْحَاشِي عَلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ جَاهِلًا أَوْ سَبَقَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ قَالَ : فَابْتُلِيت فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنْ سَبَقَنِي الْبَوْلُ فِي إزَارِي وَرِدَائِي وَأَنَا مُحْرِمٌ وَكَانَ عِنْدَهُ تَحَرُّزٌ فِي الطَّهَارَةِ ، وَرُبَّمَا جَاوَزَهَا إلَى الْوَسْوَسَةِ قَالَ فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ وَبَقِيت حَائِرًا أَيْنَ أَتَطَهَّرُ وَأُطَهِّرُ إحْرَامِي مَعَ

اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَثْرَتِهِمْ عَلَى الْمِيَاهِ بِمَكَّةَ فَذَهَبْت إلَى فَسَاقِي بَابِ الْمُعَلَّى ، وَالزِّحَامُ عَلَيْهَا فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنْ السَّقَّايِينَ الَّذِينَ فِي الرَّكْبِ لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَذْكُرُ أَنِّي رَأَيْته قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لِي أَهْلًا وَسَهْلًا بِحُبِّنَا الْمُوَسْوِسِ كَأَنَّك تُرِيدُ تَتَطَهَّرُ ؟ فَقُلْت لَهُ : نَعَمْ فَأَعْطَانِي شَيْئًا اسْتَتَرْت بِهِ ، ثُمَّ نَزَعَ إزَارِي وَرِدَائِي وَدَعَا صِبْيَانَهُ فَأَمْسَكَ بَعْضَهُمْ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَأَمَرَ بَعْضَهُمْ فَطَهَّرَ بَدَنَهُ وَأَفْرَغَ بِالدَّلْوِ مِنْ مَاءٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِمَا حَتَّى طَابَتْ نَفْسِي بِتَطْهِيرِهِمَا وَوَقَفَ الصِّبْيَانُ بِهِمَا فِي الْهَوَاءِ حَتَّى جَفَّا وَأَمَرَهُمْ فَصَبُّوا عَلَيَّ حَتَّى طَابَتْ نَفْسِي بِحُصُولِ الطَّهَارَةِ ، ثُمَّ أَلْبَسُونِي إحْرَامِي وَقَالَ لِي آنَسْتنَا الْيَوْمَ وَرَحَّبَ بِي فَصِرْت مُتَعَجِّبًا مِنْ وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَعَلِمْت أَنَّ ذَلِكَ بِنَدَمِي عَلَى إفْحَاشِي عَلَى الَّذِي سَبَقَهُ الْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
{ الثَّانِيَةَ عَشَرَ } قَوْلُهُ هَرِيقُوا عَلَيْهِ هُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ بَعْدَ الرَّاءِ وَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنْ الْبُخَارِيِّ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ أُهْرِيقُوا بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ وَهَكَذَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِزِيَادَةِ الْهَمْزِ ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ يُحْذَفُ الْهَمْزُ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَفِي الْمَاضِي مِنْهُ لُغَاتٌ أَفْصَحُهَا أَهَرَاقَ الْمَاءَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَالْهَاءِ مَعًا يُهْرِيقُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ ، وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ هَرَاقَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَالثَّالِثَةُ هَرَقَ بِغَيْرِهَا أَيْضًا وَبِغَيْرِ أَلِفٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالْقَافِ ، وَالرَّابِعَةُ أَهْرَاقَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَمَعْنَاهُ الْإِرَاقَةُ ، وَالصَّبُّ .

( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) فِيهِ نَجَاسَةُ بَوْلِ الْآدَمِيِّ ، وَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد فِي بَوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْإِجْمَاعَ أَيْضًا فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ الصَّبِيِّ .
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَالْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَهَارَةِ بَوْلِ الصَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ عَنْهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ وَهْبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ : وَرَوَاهَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ وَحَكَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَتَادَةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى قَالَ : وَهُوَ شَاذٌّ فِي النَّقْلِ .

( الرَّابِعَةَ عَشَرَ ) فِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنْ الْبَوْلِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَلْوِيثِهَا بِالنَّجَاسَةِ ، فَإِنْ لَمْ تَتَلَوَّثْ كَأَنْ بَالَ فِي إنَاءٍ أَوْ افْتَصَدَ فِي إنَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ فَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُ الْبَوْلِ وَكَرَاهَةُ الِافْتِصَادِ دُونَ تَحْرِيمِهِ ، وَقَدْ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِكَرَاهَةِ الْفَصْدِ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي الِاعْتِكَافِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَرَاهَةِ وَجَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ بِعَدَمِ جَوَازِ الْفَصْدِ ، وَالْحِجَامَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّسْتِ انْتَهَى .
وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ إذَا أَمِنَ تَلَوُّثَ الْمَسْجِدِ بِهَا جَازَ دُخُولُهُ ، وَإِنْ خَافَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ .
وَأَمَّا الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَبَاحَهُ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ إلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي مَكَان يَبُلُّهُ وَيَتَأَذَّى النَّاسُ بِهِ ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ جَوَازَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَكَى عَنْ مَالِكٍ وَسَحْنُونٍ كَرَاهَتَهُ تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِي الِاعْتِكَافِ عَنْ صَاحِبِ التَّمْهِيدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَضْحُ الْمَسْجِدِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ تَعَافُهُ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ هُنَا وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ فِي الرَّوْضَةِ فِي زَوَائِدِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْوُضُوءِ فِيهِ إذَا لَمْ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ ، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ حَمْلُ الصَّنَائِعِ فِيهِ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ : إنَّ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ وَالْحِرْفَةِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إذْ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ تَأْبَى اتِّخَاذَهُ حَانُوتًا .
وَفَرَّقَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةِ بَيْنَ الْحِرَفِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ فِيهِ صَنْعَةٌ خَسِيسَةٌ تُزْرِي بِهِ قَالَ : وَأَمَّا

الْكِتَابَةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا لَا يُزْرِي ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَبَذَّلَ ابْتِذَالَ الْحَوَانِيتِ ، وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ حَسَنَةٌ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يُفْعَلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إلَّا أَنْ تَدْعُوا ضَرُورَةٌ أَوْ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَقَطْ كَنَوْمِ الْغَرِيبِ فِيهِ وَأَكْلِهِ .

( الْخَامِسَةَ عَشَرَ ) قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي مَنْعِ إدْخَالِ الْمَيِّتِ الْمَسَاجِدَ وَتَنْزِيهِهَا عَنْ الْأَقْذَارِ جُمْلَةً فَلَا يُقَصُّ فِيهَا شَعْرٌ وَلَا ظُفْرٌ وَلَا يُتَسَوَّكُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَذَرِ وَلَا يُتَوَضَّأُ فِيهَا وَلَا يُؤْكَلُ فِيهَا طَعَامٌ مُنْتِنُ الرَّائِحَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى انْتَهَى .
( قُلْت ) : وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ الدَّلَالَةِ ، وَمَا وَجْهُ جَعْلِ الْمَيِّتِ قَذِرًا إذَا لَمْ يُخْشَ تَلْوِيثُهُ لِلْمَسْجِدِ ، وَقَدْ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ } كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ وَأَيْضًا ، فَإِنَّمَا يَحْرُمُ رَمْيُ الشَّعْرِ وَالْقُلَامَةِ فِيهِ ، فَأَمَّا قَصُّهُ وَعَدَمُ إلْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِخْرَاجُهُ فَلَا قَذَارَةَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ فَهُوَ لَا يُلْقِيهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا يُزِيلُهُ فِي السِّوَاكِ ، فَإِذَا كَانَ السِّوَاكُ مَحْفُوظًا مَعَهُ فَلَا بَأْسَ ، وَقَدْ نُدِبَ إلَى السِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَيُؤْمَرُ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يَسْتَاكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةَ عَشَرَ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْمَاءِ الْوَارِدِ عَلَى النَّجَاسَةِ فَيُطَهِّرُهَا وَبَيْنَ الْمَاءِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ فَتُنَجِّسُهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَتَغَيَّرَ بِهَا وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ خَالَطَ الْبَوْلَ وَنَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ فَلَوْ اسْتَوَى الْوَارِدُ ، وَالْمَوْرُودُ لَمَا أَمَرَ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَنَهَى عَنْ إيرَادِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ .
قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : وَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ إذْ الْمُخَالَطَةُ قَدْ حَصَلَتْ فِي الصُّورَتَيْنِ وَتَفْرِيقُهُمْ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَوُرُودِهَا عَلَيْهِ فَرْقٌ صُورِيٌّ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ شَيْءٌ قَالَ : وَلَيْسَ الْبَابُ بَابَ التَّعَبُّدِ بَلْ مِنْ بَابِ عَقْلِيَّةِ الْمَعَانِي ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَأَحْكَامِهَا قَالَ : ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ انْتَهَى .
وَفِي كَلَامِهِ هَذَا تَعَصُّبٌ وَمُجَازَفَةٌ وَتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ الْوَارِدِ وَالْمَوْرُودِ هُوَ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ .
وَقَدْ فَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ هَذَا فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ ؟ هَذَا مَا لَا يُعْقَلُ وَلَيْسَ دَفْعُ الْمَاءِ لِلنَّجَاسَةِ بِوُرُودِهِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ صَبِّ النَّجَاسَةِ وَوُرُودِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ ، وَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْنَا فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا سَوَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةَ عَشَرَ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي اشْتِرَاطِهِ فِي تَطْهِيرِ الْأَرْضِ حَفْرَ مَا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَخَالَفَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَالْجُمْهُورُ فَاكْتَفَوْا بِأَنْ يُصَبَّ عَلَى النَّجَاسَةِ مَا يَغْمُرُهَا مِنْ الْمَاءِ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتَدَلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُقْرِنٍ قَالَ صَلَّى أَعْرَابِيٌّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فِيهِ وَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ فَأَلْقُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا مُرْسَلُ ابْنِ مَعْقِلٍ لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ نَقْلُ التُّرَابِ وَاجِبًا فِي التَّطْهِيرِ لَاكْتَفَى بِهِ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِصَبِّ الْمَاءِ حِينَئِذٍ يَكُونُ زِيَادَةَ تَكْلِيفٍ وَتَعَبٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ .

( الثَّامِنَةَ عَشَرَ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِأَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْضِ بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا نُضُوبُ الْمَاءِ وَلَا جَفَافُ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا لَا يُطَهِّرُهَا إلَّا بِشَرْطِ نُضُوبِ الْمَاءِ لِأَمْرِهِمْ أَنْ لَا يَجْلِسُوا عَلَيْهَا وَلَا يَمْشُوا عَلَيْهَا حَتَّى يَحْصُلَ الشَّرْطُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَسَاجِدَهُمْ كَانَتْ مَبْطُوحَةً بِالْحَصْبَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّلْوَ إذَا صُبَّ عَلَى الْحَصْبَاءِ لَا يَمْكُثُ عَلَى الْأَرْضِ خُصُوصًا مَعَ حَرَارَةِ أَرْضِهِمْ فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ ذَلِكَ لِحُصُولِ النُّضُوبِ عَقِبَ الصَّبِّ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَطْهِيرِ الْأَرْضِ إذَا أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ أَمْرُ تَشْرِيعٍ يَعْلَمُونَ مِنْهُ عُمُومَ الْحُكْمِ فِي الْأَرَاضِيِ كُلِّهَا فَلَوْ كَانَ حُكْمُ بَعْضِ الْأَرْضِ مُخَالِفًا لِبَعْضِهَا لَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَوٍ فِي الْأَرْضِ الْمَبْطُوحَةِ بِالْحَصْبَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَأَخَّرُ نُضُوبُ الْمَاءِ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ ذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَرَاضِيِ عَلَى الْعُمُومِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةَ عَشَرَ ) فِيهِ أَنَّ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا جَازَ إبْقَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَوْلَ قَدْ اخْتَلَطَ بِإِجْزَاءِ الْمَاءِ وَلَكِنْ لَمَّا حَصَلَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ بِكَثْرَتِهِ وَوُرُودِهِ بَطَلَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بِشَرْطِ عَدَمِ تَغَيُّرِهَا وَبِشَرْطِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ كَانَتْ نَجِسَةً إجْمَاعًا ، وَإِنْ لَمْ يَطْهُرْ الْمَحَلُّ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ فَلَمْ يُزِلْهَا الْمَاءُ وَانْفَصَلَ عَنْهَا ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ أَيْضًا وَزَادَ الرَّافِعِيُّ شَرْطًا آخَرَ ، وَهُوَ أَلَّا يَزْدَادَ وَزْنُ الْغُسَالَةِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَلَى قَدْرِهِ قَبْلَ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِهِ .
وَأَشَارَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ إلَى اعْتِبَارِ إسْقَاطِ مَا يَشْرَبُهُ الْمَغْسُولُ مِنْ الْمَاءِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغُسَالَةَ نَجِسَةٌ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ لَهُ : إنَّ الْغُسَالَةَ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ أَيْضًا مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَحَكَى النَّوَوِيُّ هَذَا الْخِلَافَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وُجُوهًا ، وَإِنَّمَا هُوَ أَقْوَالٌ كَمَا صَدَّرَ بِهِ الرَّافِعِيُّ كَلَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُصَبَّ عَلَى الْبَوْلِ ذَنُوبٌ أَوْ سَجْلٌ هَلْ هُوَ بَيَانٌ لِلْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يَكْفِي فِي بَوْلِ الْوَاحِدِ غَيْرُهُ أَوْ الْمُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ ، وَأَنْ يَصِيرَ الْبَوْلُ مَغْمُورًا مُسْتَهْلَكًا فِيهِ ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَصْبُوبُ عَلَى الْمَوْضِعِ غَالِبًا عَلَى النَّجَاسَةِ غَامِرًا لَهَا وَلَا تَقْدِيرَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ رُوِيَا عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ سَبْعَةَ أَضْعَافِ الْبَوْلِ ، وَالثَّانِي : يَجِبُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْوَاحِدِ ذَنُوبٌ وَعَلَى بَوْلِ الِاثْنَيْنِ ذَنُوبَانِ ، وَعَلَى هَذَا أَبَدًا وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ بُعْدٌ لَا سِيَّمَا الثَّانِي فَتَأَمَّلْهُ انْتَهَى .
( قُلْت ) : وَمَا اسْتَبْعَدَهُ شَيْخُنَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ فَقَالَ مَا نَصُّهُ : فَإِذَا بِيلَ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ الْبَوْلُ رَطْبًا مَكَانَهُ أَوْ نَشَّفَتْهُ الْأَرْضُ وَكَانَ مَوْضِعُهُ يَابِسًا فَصُبَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مَا يَغْمُرُهُ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَهْلَكًا فِي التُّرَابِ ، وَالْمَاءُ جَارِيًا عَلَى مَوَاضِعِهِ كُلِّهَا مُزِيلًا لِرِيحِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ جَسَدٌ قَائِمٌ وَلَا شَيْءٌ فِي مَعْنَى جَسَدٍ مِنْ رِيحٍ أَوْ لَوْنٍ فَقَدْ طَهُرَ وَأَقَلُّ قَدْرِ ذَلِكَ مَا يُحِيطُ الْعِلْمَ أَنَّهُ كَالدَّلْوِ الْكَبِيرِ عَلَى بَوْلِ الرَّجُلِ ، وَإِنْ كَثُرَ ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْهُ أَضْعَافًا لَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ سَبْعُ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرُ لَا يُطَهِّرُهُ شَيْءٌ غَيْرُهُ .
قَالَ : فَإِنْ بَالَ عَلَى بَوْلِ الْوَاحِدِ آخَرُ لَمْ يُطَهِّرْهُ إلَّا دَلْوَانِ ، فَإِنْ بَالَ اثْنَانِ مَعَهُ لَمْ يُطَهِّرْهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ ، فَإِنْ كَثُرُوا لَمْ يَطْهُرْ الْمَوْضِعُ حَتَّى يُفْرَغَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مَا يُعْلَمُ أَنْ قَدْ صُبَّ مَكَانَ كُلِّ رَجُلٍ دَلْوٌ عَظِيمٌ أَوْ كَبِيرٌ هَذِهِ عِبَارَتُهُ فِي

الْأُمِّ وَمِنْهَا نَقَلْت فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يُطَهِّرُ بَوْلَ الرَّجُلِ دَلْوٌ كَبِيرٌ ، وَبَوْلَ الرَّجُلَيْنِ دَلْوَانِ وَهَكَذَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُكَاثَرَةِ ، وَالْغَلَبَةِ ، وَمَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُكَاثَرَةُ ، وَالْغَلَبَةُ عَلَى بَوْلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْغَلَبَةُ ، وَالْمُكَاثَرَةُ عَلَى بَوْلِ الِاثْنَيْنِ ، وَالْجَمَاعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ أَنَّ فِيهِ حُجَّةً لِلْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُطَهِّرُهَا الْجَفَافُ بَلْ الْمَاءُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَوْ أُخِّرَ فَجَفَّ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَقُلْنَا بِطَهَارَتِهِ بِذَلِكَ جَوَازُ تَأْخِيرِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الْإِزَالَةُ عَلَى الْفَوْرِ فَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّمَا بَادَرَ إلَى إزَالَتِهِ خَشْيَةَ تَنَجُّسِ أَحَدٍ بِهِ أَوْ أَنْ يَتَنَقَّلَ بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
وَقَدْ خَالَفَ زُفَرُ فِي ذَلِكَ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فَقَالَ لَا تَطْهُرُ بِجَفَافِهَا بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَنَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ مَا أَصَّلَاهُ فِي طَهَارَتِهِمَا فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ مَعَ حُكْمِهِمْ بِطَهَارَتِهِ وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ النَّجَاسَةِ بِزَوَالِ أَثَرِهَا بِالشَّمْسِ ، وَالرِّيحِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ { كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ زَادَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ وَرَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ لَا بِقَوْلِهِ تَبُولُ يُرِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ وَرُبَّمَا تَرَشَّشَتْ بِالْبَوْلِ وَتُقْبِلُ مَعَ ذَلِكَ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُونُوا يَغْسِلُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَجَاسَةَ بَيْنَ جَافَّيْنِ وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا أَنَّهَا مَرَّتْ فِي حَالِ الْبَلَلِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي أَجْسَادِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَإِنَّمَا إقْبَالُهَا وَإِدْبَارُهَا فِي أَوْقَاتٍ نَادِرَةٍ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَسْجِدِ أَبْوَابٌ

تَمْنَعُ مِنْ عُبُورِهَا فِيهِ ( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَوْلُهُ : دَلْوًا مِنْ مَاءٍ أَوْ سَجْلًا وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَأَتَى بِالذَّنُوبِ مَوْضِعَ الدَّلْوِ وَهَلْ الْمَجْمُوعُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُ خَيْرُ الْمَأْمُورِ بَيْنَ السَّجْلِ ، وَالذَّنُوبِ أَوْ أَنَّ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ أَحَدُهُمَا فَقَطْ تَشُكُّ بَعْضُ الرُّوَاةِ ؟ .
وَالظَّاهِرُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ قَالَ ذُنُوبًا مِنْ مَاءٍ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَالرَّاجِحُ فِيهِ ذِكْرُ الذَّنُوبِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ذِكْرُ الدَّلْوِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ .
وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ ، وَالذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ ، وَهِيَ الدَّلْوُ الْمَمْلُوءَةُ مَاءً وَقِيلَ هُوَ الدَّلْوُ الْعَظِيمُ وَقِيلَ لَا يُسَمَّى ذَنُوبًا حَتَّى يَكُونَ فِيهَا مَاءٌ ، وَالسَّجْلُ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ الدَّلْوُ الْمَلْأَى مَاءً أَيْضًا وَفِي الدَّلْوِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ ، وَالتَّأْنِيثُ .

كِتَابُ الصَّلَاةِ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ ، وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ }

كِتَابُ الصَّلَاةِ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ } ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَبَيْنَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ أَوْ الْمُنَافِقِينَ مَعْنَاهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْكَافِرِينَ ، وَالْمُنَافِقِينَ تَرْكُ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ } فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا دَامُوا يُصَلُّونَ فَالْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ بَاقٍ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي حَدِيثِ أُمِّ أَيْمَنَ { : مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ ، وَهُوَ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ { رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَسَارَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ قَالَ : أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا صَلَاةَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ

قَتْلِهِمْ } رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا لَهَا ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ ، وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ ، وَالْكُفْرِ أَوْ الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِ خِلَالٍ فَقَالَ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنْ قُطِّعْتُمْ أَوْ حُرِّقْتُمْ أَوْ صُلِبْتُمْ وَلَا تَتْرُكُوا الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدِينَ فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْمِلَّةِ } الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : { أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنْ حُرِّقْت ، وَأَنْ لَا أَتْرُكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ } وَفِي إسْنَادِهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ : إنَّهُ

حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي أَكْبَرِ مَعَاجِمِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ الْحَدِيثَ فَذَكَرَ مِنْهَا الصَّلَاةَ ، ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ كَانَ كَافِرًا حَلَالَ الدَّمِ } وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ : مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيُّ بْنِ خَلَفٍ } .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ غَيْرَ جَاحِدٍ لِوُجُوبِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَيْضًا وَأَجَابُوا عَمَّا صَحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا : أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَسْتَحِقُّ عُقُوبَةَ الْكَافِرِ وَهِيَ الْقَتْلُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ اسْتَحَلَّ تَرْكَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، .
( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَئُولَ بِفَاعِلِهِ إلَى الْكُفْرِ كَمَا قِيلَ : الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ .
( وَالرَّابِعُ ) أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ الْكُفَّارِ وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ غَيْرُ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ الْأَشْبَهِ بِالصَّوَابِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مُرْسَلًا ، وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ تَقَدَّمَ تَضْعِيفُهُ ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ : فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْمِلَّةِ فَالرَّاوِي لَهُ عَنْ عُبَادَةَ سَلَمَةُ بْنُ شُرَيْحٍ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ

قَالَهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ .
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ : وَلَا يُحَدِّثُ عَنْ سَلَمَةَ غَيْرُ يَزِيدَ بْنِ قُوذٍ ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ شَكَّ الرَّاوِي لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَفْعِهِ ، وَهُوَ أَبُو الْجَوْزَاءِ الرَّبَعِيُّ ، وَحَدِيثُ أُمِّ أَيْمَنَ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ فِي إسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ ، وَهُوَ الدِّمَشْقِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ مُعَاذٍ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ إنَّهُ لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْهُ .
وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ إنَّهُ فَاتَهُ مُعَاذٌ وَأَثْبَتَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ سَمَاعَهُ مِنْهُ ، وَكَذَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَدْرَكَهُ ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَهُوَ ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيُّ بْنِ خَلَفٍ أَنْ يَكُونَ مُخَلَّدًا فِي النَّارِ مَعَهُمْ بَلْ قَدْ يُعَذَّبُ مَعَهُمْ فِي النَّارِ وَيَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ يُغْفَرُ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَبِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ مِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَمِنْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ

لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَالْجَنَّةَ ، وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ عَلَيْهِ النَّارَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مَالِكٍ { لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَيَدْخُلَ النَّارَ أَوْ تَطْعَمَهُ النَّارُ } وَفِي الصَّحِيحِ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ

( الرَّابِعَةُ ) الْأَلِفُ ، وَاللَّامُ فِي الصَّلَاةِ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلْعَهْدِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ ، وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، ثُمَّ هَلْ يُصَدَّقُ التَّرْكُ لَهَا بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَرْكِ الْخَمْسِ وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ إذَا أَخْرَجَهَا عَنْ آخِرِ وَقْتِهَا ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَيَدُلُّ لَهُمْ حَدِيثُ { مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ قَالَ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِذَا تَضَيَّقَ وَقْتَهَا طَالَبْنَاهُ بِفِعْلِهَا وَقُلْنَا لَهُ : إنْ أَخْرَجْتهَا عَنْ وَقْتِهَا قَتَلْنَاك ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ وَلَا يُعْتَبَرُ بِضِيقِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ إذَا ضَاقَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ ، وَعَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتْرُكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ وَيَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ وَعَنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ إذَا تَرَكَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ وَامْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ ، وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِعَدَدٍ وَلَكِنْ إذَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ قَدْرَ مَا يَظْهَرُ لَنَا اعْتِيَادُهُ لِلتَّرْكِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ .
قَالَ : وَالِاعْتِبَارُ بِإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِ الْعُذْرِ ، وَالضَّرُورَةِ ، فَإِذَا تَرَكَ الظُّهْرَ لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمَغْرِبَ لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ حَكَاهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَتَابَعَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَيْهِ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ حَيْثُ ذَهَبَا إلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ بَلْ يُحْبَسُ وَيُعَزَّرُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُقْتَضٍ لِلْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ بِالتَّكْفِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِعَدَمِ تَكْفِيرِهِ فَحَمَلْنَا الْكُفْرَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ عُقُوبَةُ الْكَافِرِ ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَيَدُلُّ لِلْقَائِلِينَ بِقَتْلِهِ حَدِيثُ { نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ : فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّرْكِ هُنَا عُمُومُ التَّرْكِ بَلْ الْمُرَادُ التَّرْكُ عَمْدًا قَطْعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ أَيْضًا ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى } وَقَوْلُهُ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ } ، وَقَوْلُهُ { : مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } .

( السَّابِعَةُ ) اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِقَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْمَالِكِيَّةِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِتَابَةِ قَبْلَ الْقَتْلِ وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ تُنْدَبُ الِاسْتِتَابَةُ وَلَا تَجِبُ وَقِيلَ تَجِبُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ ، فَإِنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ فِي الْحَالِ ، فِيهِ قَوْلَانِ .
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ أَمَّا وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ فَلَمْ يَحْكِ فِيهِ الرَّافِعِيُّ خِلَافًا فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْوُجُوبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا سُقُوطَ الْقَتْلِ بِالتَّوْبَةِ فِي حَقِّ تَارِكِ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا ، وَالتَّوْبَةُ لَا تُسْقِطُ الْحُدُودَ كَمَنْ سَرَقَ نِصَابًا ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ ، فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ .

( الثَّامِنَةُ ) الصَّلَاةُ الْمَتْرُوكَةُ عَمْدًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قَضَائِهَا فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَى وُجُوبِ قَضَائِهَا وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ، وَقَدْ قَيَّدَ الشَّارِعُ الْمَأْمُورَ بِالْقَضَاءِ بِالنَّائِمِ ، وَالنَّاسِي فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } ، وَهَذَا مَفْهُومُ شَرْطٍ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ .
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ كَقَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ الْأَعْرَابُ فَادَّعَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْضَى وَنَاقَضَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ فَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقَضَاءِ خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَذَا الظَّاهِرِيُّ وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { : سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ لَمَا أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ حَدِيثَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ فِيمَا حَكَاهُ لِي صَاحِبُنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ الْمَغْرِبِيُّ أَنَّهُ تَكَلَّمَ يَوْمًا فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا فَرَضَهَا الْعُلَمَاءُ وَلَمْ تَقَعْ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَعَمَّدُ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَالَمُ غَيْرَ مُخَالِطٍ لِلنَّاسِ وَنَشَأَ عِنْدَ أَبِيهِ مُشْتَغِلًا بِالْعِلْمِ مِنْ صِغَرِهِ حَتَّى كَبِرَ وَدَرَسَ فَقَالَ ذَلِكَ فِي دَرْسِهِ

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي الْحَدِيثِ إنَّهُ نَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِ { وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } فَإِذَا أُمِرَ الْمَعْذُورُ بِالْقَضَاءِ فَأَوْلَى أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ مَنْ تَعَدَّى بِالتَّأْخِيرِ كَمَنْ أَخَّرَ حَقًّا عَلَيْهِ عَنْ وَقْتِهِ وَدِينُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّمَا قُيِّدَ الْقَضَاءُ بِالنَّائِمِ ، وَالنَّاسِي فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وَاجِبَهُ الْإِتْيَانَ بِهِ إذَا ذَكَرَ مَا نَسِيَهُ أَوْ نَامَ وَلَا كَذَلِكَ التَّارِكُ عَمْدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ النِّسْيَانِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } فَإِنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَيْسَ مَعْمُولًا بِهِ لَا نَهْيَ إذَا لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ فَلَا إكْرَاهَ حِينَئِذٍ بَلْ زِنَاهُنَّ اخْتِيَارِيٌّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُؤْمَرَ السَّادَاتُ بِصِيغَةِ الْإِكْرَاهِ إذْ لَا إكْرَاهَ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَبْرِدُوا عَنْ الْحَرِّ فِي الصَّلَاةِ } فَذَكَرَهُ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذِكْرٌ لِلظُّهْرِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْإِبْرَادُ بِالْجُمُعَةِ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ } يَعْنِي الْجُمُعَةَ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ } ؛ وَفِي عِلَلِ الْخَلَّالُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ " مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ " قَالَ أَحْمَدُ : لَا أَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ فَوْحُ غَيْرَ الْأَعْمَشِ وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبْرِدْ أَبْرِدْ ، وَقَالَ : انْتَظِرْ انْتَظِرْ ، وَقَالَ : شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ ، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ } ، وَفِي طَرِيقٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَفِيهِ حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ .

( بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ ) عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .
وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَبْرِدُوا عَنْ الْحَرِّ فِي الصَّلَاةِ } فَذِكْرُهُ ، فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِبْرَادِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ تَأْخِيرُهَا إلَى أَنْ يَبْرُدَ الْوَقْتُ وَيَنْكَسِرَ وَهَجُ الْحَرِّ ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِبْرَادِ بِالْجَمَاعَةِ .
فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ : إنَّهُ يَخْتَصُّ الْإِبْرَادُ بِالْجَمَاعَةِ وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الظُّهْرَ تُصَلَّى إذَا فَاءَ الْفَيْءُ ذِرَاعًا فِي الشِّتَاءِ ، وَالصَّيْفِ لِلْجَمَاعَةِ ، وَالْمُنْفَرِدِ عَلَى مَا كَتَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عُمَّالِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرُهُ مَعْنَى كِتَابِ عُمَرَ مَسَاجِدُ الْجَمَاعَةِ فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَوْلَى بِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَإِلَى هَذَا مَالَ الْفُقَهَاءُ الْمَالِكِيُّونَ مِنْ الْبَغْدَادِيِّينَ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ بِشُرُوطٍ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ حَارٍّ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْبِلَادِ الْمُعْتَدِلَةِ ، وَالْبَارِدَةِ أَيْضًا إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ .
( الثَّانِي ) أَنْ تُصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ فَلَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَتَقْدِيمُ الصَّلَاةِ لَهُ أَفْضَلُ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَقْصِدَ النَّاسُ الْجَمَاعَةَ مِنْ بُعْدٍ فَلَوْ كَانُوا

مُجْتَمَعِينَ فِي مَوْضِعٍ صَلَّوْا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ .
( الرَّابِعُ ) أَنْ لَا يَجِدُوا كِنًّا يَمْشُونَ تَحْتَهُ يَقِيهِمْ الْحَرَّ ، فَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ وَقَالَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ اسْتِحْبَابُ الْإِبْرَادِ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ قَالَ الْأَثْرَمُ : وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ يُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا فِي الشِّتَاءِ ، وَالْإِبْرَادُ بِهَا فِي الْحَرِّ ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : إذَا اشْتَدَّ الْحَرَّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ، وَهَذَا عَامٌّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ شِدَّةُ الْحَرِّ ، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْبُلْدَانِ الْحَارَّةِ وَمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ فَأَمَّا مَنْ صَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَسْجِدٍ بِفِنَاءِ بَيْتِهِ فَالْأَفْضَلُ تَعْجِيلُهَا وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبُلْدَانِ الْحَارَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الْمَسْجِدِ يَنْتَابُهُ النَّاسُ أَوْ لَا ، فَإِنَّ أَحْمَدَ كَانَ يُؤَخِّرُهَا فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى انْتَهَى .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ مُطْلَقًا وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْهُمْ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ .
وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مُوَافَقَةُ الْجُمْهُورِ .
( الثَّانِيَةُ ) فَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ سِوَى شِدَّةِ الْحَرِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا سِوَى ذَلِكَ وَاسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الشُّرُوطَ الَّتِي اعْتَبَرَهَا مِنْ الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ تَخْصِيصًا لِلنَّصِّ بِالْمَعْنَى فَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِبْرَادِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ لِشِدَّةِ

حَرِّ الْحِجَازِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مَسْجِدٌ غَيْرُ مَسْجِدِهِ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ يَنْتَابُ مِنْ الْبُعْدِ فَيَتَأَذَّوْنَ بِشِدَّةِ الْحَرِّ فَأَمَرَهُمْ بِالْإِبْرَادِ لِمَا فِي الْوَقْتِ مِنْ السَّعَةِ .
حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاسْتَدَلَّ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْرِدْ أَبْرِدْ أَوْ قَالَ : انْتَظِرْ انْتَظِرْ وَقَالَ : شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَفَرٍ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ : لَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِبْرَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْنًى لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي السَّفَرِ وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يَنْتَابُوا مِنْ الْبُعْدِ انْتَهَى .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي السَّفَرِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مَشَقَّةً مِنْهُ فِي الْحَضَرِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي خِبَائِهِ أَوْ مُسْتَقِرًّا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ وَيُؤْذِيهِ حَرُّ الرَّمْضَاءِ إذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَيْسَ هُنَاكَ ظِلٌّ يَمْشُونَ فِيهِ وَأَيْضًا فَلَيْسَ هُنَاكَ خِبَاءٌ كَبِيرٌ يَجْمَعُهُمْ فَيَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُصَلُّوا فِي الشَّمْسِ .
وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ أَخْبِيَتَهُمْ كَانَتْ قَصِيرَةً لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْقِيَامِ فِيهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقُولَ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ } فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ أَوْ الْمَطَرِ فِي السَّفَرِ مُرَخِّصًا فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ كَذَلِكَ وُجُودُ الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي السَّفَرِ مُقْتَضٍ لِلْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ } .
وَبِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقُولُ ، وَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ لَا سَبِيلَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ انْتَهَى .
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا هُوَ بِالْمَعْنَى ، وَالصَّحِيحُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَأَذِّيهِمْ بِالْحَرِّ فِي طَرِيقِهِمْ فَقَدْ تَكُونُ الْعِلَّةُ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ حَرِّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِهِمْ فِي حَالَةِ السُّجُودِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { : كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّهَائِرِ جَلَسْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ } وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ سَجَدْنَا بَدَلَ جَلَسْنَا ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { كُنْت أُصَلِّي الظُّهْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآخُذُ قَبْضَةً مِنْ الْحَصَى لِتَبْرُدَ فِي كَفِّي أَضَعُهَا لِجَبْهَتِي أَسْجُدُ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ الْحَرِّ } وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ { ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ } .
فَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ شَكَوْا مَشَقَّةَ الْمَسَافَةِ وَلَا بُعْدَ الطَّرِيقِ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَقْتٌ يَفُوحُ فِيهِ حَرُّ جَهَنَّمَ وَلَهِيبُهَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ { : فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .
وَكَوْنُهَا سَاعَةً يَفُوحُ فِيهَا لَهَبُ جَهَنَّمَ وَحَرُّهَا يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنْ الصَّلَاةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ ، فَإِذَا اعْتَدَلَ النَّهَارُ فَأَقْصِرْ يَعْنِي عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُسْجَرُ فِيهَا جَهَنَّمُ .
( الثَّالِثَةُ ) وَاَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَحِبُّوا الْإِبْرَادَ مُطْلَقًا أَجَابُوا عَنْ

هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ صَلُّوهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَخْذًا مِنْ بَرْدِ النَّهَارِ وَهُوَ أَوَّلُهُ .
وَيُبْطِلُ هَذَا قَوْلُهُ { : فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ آخِرِهِ ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْفَائِدَةِ قَبْلَهَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْرَادِ التَّأْخِيرُ إلَى وَقْتِ الْبَرْدِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ عَلَى بَرْدِ النَّهَارِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَحِبُّوا الْإِبْرَادَ مُطْلَقًا بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَبِحَدِيثِ خَبَّابُ { شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يَشْكُنَا } .
وَالْجَوَابُ عَنْ أَحَادِيثِ أَوَّلِ الْوَقْتِ أَنَّهَا عَامَّةٌ فَنُقَدِّمُ عَلَيْهَا هَذَا الْحَدِيثَ لِخُصُوصِهِ ، وَعَنْ حَدِيثِ خَبَّابُ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجِبْهُمْ لِمَا سَأَلُوا وَتَرَكَ شَكْوَاهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّهُ لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِبْرَادِ إلَيْهِ وَيَزِيدُوا عَلَى الْوَقْتِ الْمُرَخَّصِ لَهُمْ فِيهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَرَّ الرَّمْضَاءِ الَّذِي يَسْجُدُ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كُلِّهِ ذَكَرَ الْمَازِرِيُّ هَذَا الْجَوَابَ وَقَالَ : إنَّهُ الْأَشْبَهُ يَعْنِي أَشْبَهَ الْأَجْوِبَةَ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْدِيمِ مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ الْإِبْرَادِ ؛ لِأَنَّهَا رُوِيَتْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ بِخِلَافِ أَحَادِيثِ التَّعْجِيلِ كَحَدِيثِ خَبَّابُ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ بِالْهَاجِرَةِ فَقَالَ لَنَا : أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } وَرَوَاهُ الطَّحْطَاوِيُّ بِلَفْظِ ، ثُمَّ قَالَ : أَبْرِدُوا وَأَعَلَّهُ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّهُ رَوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهِ وَذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُمْ ذَاكَرُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَقَالَ أَسَانِيدُ جِيَادٌ ، ثُمَّ قَالَ خَبَّابُ يَقُولُ { : شَكَوْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَشْكُنَا } ، وَالْمُغِيرَةُ كَمَا تَرَى رَوَى الْقِصَّتَيْنِ جَمِيعًا قَالَ : وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْمَيْمُونِيِّ وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِبْرَادَ وَقَالَ الْأَثْرَمُ بَعْدَ ذِكْرِ أَحَادِيثِ التَّعْجِيلِ ، وَالْإِبْرَادِ : فَأَمَّا الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا التَّعْجِيلَ فِي غَيْرِ الْحَرِّ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا حَدِيثُ خَبَّابُ وَجَابِرٍ ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْإِبْرَادِ ، وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ بَيَانٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ { : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَقَالَ لَنَا : أَبْرِدُوا } فَتَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْإِبْرَادَ كَانَ بَعْدَ التَّهْجِيرِ ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ أَبُو خَلْدَةَ قَالَ سَمِعْت أَنَسًا يَقُولُ { كَانَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ ، وَإِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ } ( ثَالِثُهَا ) أَنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ وَتَقْدِيمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ كَانَ أَخْذًا بِالْأَشَقِّ وَالْأَوْلَى .
وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ لَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِنَا

أَنَّ الْإِبْرَادَ هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يَمْشِي عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابُ ( رَابِعُهَا ) أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : فَلَمْ يَشْكُنَا لَمْ يُحْوِجْنَا إلَى شَكْوَى بَلْ رَخَّصَ لَنَا فِي الْإِبْرَادِ حَكَاهُ لِلْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ وَيَرُدُّهُ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَمَا أَشْكَانَا ، وَقَالَ : إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلُّوا رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ .
( خَامِسُهَا ) أَنَّ الْإِبْرَادَ أَفْضَلُ وَحَدِيثُ خَبَّابُ فِيهِ بَيَانُ جَوَازِ التَّعْجِيلِ دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ الْإِبْرَادِ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا لَمْ نَحْمِلْ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ لِحَدِيثِ خَبَّابُ لَكِنْ فِي هَذَا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ خَبَّابُ الْمَنْعُ مِنْ التَّأْخِيرِ أَوْ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّقْدِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ) لَفْظُ الصَّلَاةِ عَامٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ ، وَاللَّامِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ كُلٍّ مِنْهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ فِي الظُّهْرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ بِهِ أَشْهَبُ وَحْدَهُ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالَ تُؤَخَّرُ رُبْعُ الْقَامَةِ وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَرَأَى تَأْخِيرَهَا فِي الصَّيْفِ وَتَعْجِيلَهَا فِي الشِّتَاءِ وَعَكَسَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فَرَأَى تَأْخِيرَهَا فِي الشِّتَاءِ لِطُولِ اللَّيْلِ وَتَعْجِيلَهَا فِي الصَّيْفِ لِقِصَرِهِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِالْإِبْرَادِ فِي الْمَغْرِبِ وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِضِيقِ وَقْتِهَا وَلَا فِي الصُّبْحِ وَكَأَنَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا أَبْرَدُ الْأَوْقَاتِ مُطْلَقًا .
فَلَا مَعْنَى لِلْإِبْرَادِ بِهَا وَجَوَابُ الْجُمْهُورِ عَنْ تَرْكِ الْقَوْلِ بِالْإِبْرَادِ فِي الْعَصْرِ ، وَالْعِشَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا صَلَاةُ الظُّهْرِ كَمَا وَرَدَ بَيَانُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَقَالَ : { أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَتَكُونُ الْأَلِفُ ، وَاللَّامُ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَهْدِ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ وَأَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ أَشَدَّ حَرًّا مِنْ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ ، فَإِذَا فُعِلَتْ الظُّهْرُ فِي آخِرِ وَقْتِهَا فَفِعْلُ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ، وَالْعِشَاءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَهُمَا أَقَلُّ حَرًّا أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَيْضًا ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي خَبَرِ الْإِبْرَادِ لَا بِالْعَصْرِ وَلَا بِالْعِشَاءِ بَلْ كَانَ يَأْتِي بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً ، وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ الْعِشَاءَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ إمَّا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ كَمَا وَرَدَ بَيَانُهُ أَوْ لِمَا فِي تَأْخِيرِهَا مِنْ الْفَضْلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِبْرَادِ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ

الصَّيْفِ ، وَالشِّتَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِدُخُولِهَا فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ وَأَيْضًا ، فَإِنَّهَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا ، وَالْعِلَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ ، وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ مَوْجُودَةٌ فِي وَقْتِهَا ، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي خَلْدَةَ ، وَهُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ } يَعْنِي الْجُمُعَةَ ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُبَرِّدُ بِهَا وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الظُّهْرُ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِبْرَادِ ، وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ أَنَّهُ لَيْسَ النَّظَرُ لِمُجَرَّدِ شِدَّةِ الْحَرِّ بَلْ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ، وَالْمَشَقَّةُ فِي الْجُمُعَةِ لَيْسَتْ فِي التَّعْجِيلِ بَلْ فِي التَّأْخِيرِ ، فَإِنَّ النَّاسَ نُدِبُوا لِلتَّبْكِيرِ لَهَا ، وَإِذَا حَضَرُوا كَانَتْ رَاحَتُهُمْ فِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ لِيَنْصَرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَسْتَرِيحَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ لَا فِي التَّأْخِيرِ ، فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِطُولِ الِاجْتِمَاعِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَانْعَكَسَ الْحُكْمُ ، وَعَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَقْلِ الصَّحَابِيِّ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي ؛ وَلِهَذَا قَالَ يَعْنِي الْجُمُعَةَ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ أَنَسٍ لَمْ يَحْتَجْ لِقَوْلِهِ يَعْنِي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَجَبَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى وَمُلَاحَظَتُهُ ، وَالْمَعْنَى مُقْتَضٍ لِلتَّعْجِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ

الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَوْنِهِ لَيْسَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَهُ فِي الْإِبْرَادِ شِدَّةَ الْحَرِّ بَلْ الْمَشَقَّةُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ؛ وَلِهَذَا شُرِطَ فِي الْإِبْرَادِ أَوْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ كَوْنُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَكَوْنُ الْمُصَلِّينَ يَقْصِدُونَهَا مِنْ بُعْدٍ وَلَا يَجِدُونَ كِنًّا يَمْشُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ : فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ يَحْتَمِلُ عَنْ هُنَا أَوْجُهًا : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا أَنَّ الْبَاءَ تَكُونُ بِمَعْنَى عَنْ فَمِنْ الْأَوَّلِ فِيمَا قِيلَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى } أَيْ بِالْهَوَى وَمِنْ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } وَتُسَمَّى هَذِهِ بَاءَ الْمُجَاوَزَةِ .
ثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ أَبْرِدُوا الصَّلَاةَ يُقَالُ : أَبْرَدَ الرَّجُلُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ فِي بَرْدِ النَّهَارِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ عَنْ تَأْتِي زَائِدَةً قَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ تُزَادَ لِلتَّعْوِيضِ مِنْ أُخْرَى مَحْذُوفَةٍ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ : أَتَجْزَعُ إنْ نَفْسٌ أَتَاهَا حِمَامُهَا فَهَلَّا الَّتِي عَنْ بَيْنِ جَنْبَيْك تَدْفَعُ قَالَ أَبُو الْفَتْحِ أَرَادَ تَدْفَعُ عَنْ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك فَحُذِفَتْ عَنْ مِنْ أَوَّلِ الْمَوْصُولِ وَزِيدَتْ بَعْدَهُ .
( ثَالِثُهَا ) تَضْمِينُ أَبْرِدُوا مَعْنَى أَخِّرُوا وَحَذْفُ مَفْعُولِهِ تَقْدِيرُهُ أَخِّرُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : مَعْنَى قَوْلِهِ أَبْرِدُوا أَخِّرُوا إلَى زَمَانِ الْبَرْدِ وَلَا يَنْتَظِمُ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ عَنْ ، فَإِنَّ صُورَتَهُ أَخِّرُوا عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا بِإِضْمَارٍ وَتَقْدِيرُهُ أَخِّرُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْخَطَّابِيِّ : مَعْنَى قَوْلِهِ أَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ تَأَخَّرُوا عَنْهَا مُبَرِّدِينَ ( قُلْت ) أَيْ دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ انْتَهَى .
وَهُوَ مِثْلُ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَلَا إنَّهُ ضَمَّنَ أَبْرِدُوا مَعْنَى فِعْلٍ قَاصِرٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى

تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ وَهُوَ تَأَخَّرُوا .
( السَّابِعَةُ ) وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَبْرِدُوا عَنْ الْحَرِّ أَيْ أَخِّرُوا الصَّلَاةَ عَنْ الْحَرِّ إلَى الْبَرْدِ وَقَوْلُهُ فِي الصَّلَاةِ يَحْتَمِلُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ فِعْلُكُمْ أَيْ أَخِّرُوا عَنْ الْحَرِّ فِعْلَكُمْ فِي الصَّلَاةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ ، وَالْكُلَى .

( الثَّامِنَةُ ) فَيْحُ جَهَنَّمَ وَفَوْحُهَا بِالْيَاءِ ، وَالْوَاوِ مَعَ فَتْحِ الْأَوَّلِ فِيهِمَا وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ سُطُوعُ حَرِّهَا وَانْتِشَارُهُ يُقَالُ فَاحَتْ الْقِدْرُ تَفِيحُ وَتَفُوحُ إذَا غَلَتْ ، وَجَهَنَّمُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ ، وَالتَّأْنِيثِ ، وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ هَلْ هِيَ عَرَبِيَّةٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا وَمِنْهُ رَكِيَّةُ جِهْنَامٍ أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ أَوْ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ ، وَقِيلَ : هِيَ تَعْرِيبُ كَهِنَامٍ بِالْعِبْرَانِيِّ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ : فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَقَالُوا : إنَّ وَهَجَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي { اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ } .
وَقِيلَ : إنَّهُ كَلَامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّشْبِيهِ أَيْ كَأَنَّهُ نَارُ جَهَنَّمَ فِي الْحَرِّ فَاجْتَنِبُوا ضَرَرَهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ وَحَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَعْضُدُهُ عُمُومُ الْخِطَابِ وَظَاهِرُ الْكِتَابِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ انْتَهَى .
وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَفِيهِ أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ الْآنَ مَوْجُودَةٌ ، وَهَذَا إجْمَاعٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ إلَّا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا : إنَّهَا إنَّمَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ مُتَوَافِرَةٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ

( التَّاسِعَةُ ) هَذَا الْمُؤَذِّنُ الْمُبْهَمُ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ هُوَ بِلَالٌ كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي جَامِعِهِ وَأَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ ( الْعَاشِرَةُ ) الْفَيْءُ بِفَتْحِ الْفَاءِ مَهْمُوزٌ الظِّلُّ الَّذِي يَكُونُ بِعِلْمِ الزَّوَالِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِرُجُوعِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَأَصْلُ الْفَيْءِ الرُّجُوعُ ، وَالتُّلُولُ بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ جَمْعُ تَلٍّ بِفَتْحِهَا ، وَهِيَ الرَّوَابِي الْمُرْتَفِعَةُ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : كُلُّ شَيْءٍ بَارِزٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى .
وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَبْرِدْ .
أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبْرَادِ رَاجِعٌ إلَى الصَّلَاةِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ قَدْ وَقَعَ وَانْقَضَى وَفِي رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لِلْبُخَارِيِّ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ الظُّهْرَ فَقَالَ أَبْرِدْ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبْرَادِ رَاجِعٌ إلَى الْأَذَانِ أَيْضًا ، وَأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الْأَذَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى : وَفِي هَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبْرَادِ كَانَ بَعْدَ التَّأْذِينِ ، وَأَنَّ الْأَذَانَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِالْأَذَانِ ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ عَنْ بَعْضِهِمْ ( قُلْت ) : وَيَنْبَغِي بِنَاءُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مَشْرُوعٌ لِلْوَقْتِ أَوْ لِلصَّلَاةِ ، فَإِنْ قُلْنَا لِلْوَقْتِ أَذَّنَ ، وَإِنْ قُلْنَا لِلصَّلَاةِ فَلَا ، وَقَدْ بَنَى أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْخِلَافَ فِي الْأَذَانِ لِلْفَائِتَةِ فَالْجَدِيدُ وَرَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا

يُؤَذَّنُ لَهَا ، وَالْقَدِيمُ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُؤَذَّنُ لَهَا ، وَنَصُّ الْإِمْلَاءِ إنْ رَجَا اجْتِمَاعَ طَائِفَةٍ يُصَلُّونَ مَعَهُ أَذَّنَ وَإِلَّا فَلَا قَالَ أَصْحَابُنَا : الْأَذَانُ فِي الْجَدِيدِ حَقُّ الْوَقْتِ وَفِي الْقَدِيمِ حَقُّ الْفَرِيضَةِ ، وَفِي الْإِمْلَاءِ حَقُّ الْجَمَاعَةِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ إمَّا بِحَمْلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَذَّنَ عَلَى مَعْنَى أَرَادَ الْأَذَانَ كَمَا فَسَّرَتْهُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، وَإِمَّا بِحَمْلِ الْأَذَانِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَوْلُهُ : فَأَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ أَيْ يُقِيمَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ : فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ فَقَالَ : أَبْرِدْ وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى .
وَكَذَا حَكَى ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ حَمَلَ تَأْخِيرَ الْأَذَانِ هُنَا عَلَى الْإِقَامَةِ لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ : حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَذَّنَ أَوَّلًا أَوْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَذَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَتِهِ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَالْجُمْهُورِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَا أَذَانَ عَلَى مُسَافِرٍ إنَّمَا الْأَذَانُ عَلَى مَنْ يَجْتَمِعُ إلَيْهِ لِتَأْذِينِهِ وَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ يُقِيمُ الْمُسَافِرُ وَلَا يُؤَذِّنُ مِنْهُمْ مَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُرْوَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ إنْ شَاءَ أَذَّنَ ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ إلَّا فِي الصُّبْحِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ لَهَا وَيُقِيمُ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إذَا كُنْت فِي سَفَرٍ فَلَمْ تُؤَذِّنْ وَلَمْ تُقِمْ فَأَعِدْ الصَّلَاةَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إذَا نَسِيَ الْإِقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَالْحُجَّةُ لَهُمَا { قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرَّجُلَيْنِ : أَذِّنَا وَأَقِيمَا } قَالَا : وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَالْعُلَمَاءُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ لَا مُنَازِعَ فِيهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَضَرِ فَالسَّفَرُ الَّذِي قُصِرَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ عَنْ هَيْئَتِهَا أَوْلَى بِذَلِكَ انْتَهَى .

( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) قَوْلُهُ : حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ التَّأْخِيرِ بِالْإِبْرَادِ إذْ التُّلُولُ لَا يَظْهَرُ ظِلُّهَا إلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِ الْفَيْءِ وَطُولِهِ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْبَسِطَةِ ، فَإِنَّ ظُهُورَ ظِلِّهَا سَرِيعٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْإِبْرَادَ بِالظُّهْرِ يَكُونُ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يَمْشِي فِيهِ السَّاعِي لِلْجَمَاعَةِ قَالُوا : وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَقْتِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ : وَلَا يَبْلُغُ بِتَأْخِيرِهَا آخِرَ وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا مَعًا وَلَكِنْ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا مُتَمَهِّلًا فَيَنْصَرِفُ مِنْهَا قَبْلَ آخِرِ وَقْتِهَا لِيَكُونَ بَيْنَ انْصِرَافِهِ مِنْهَا وَبَيْنَ آخِرِ وَقْتِهَا فَصْلٌ .
وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَقَدَّرَ الْمَالِكِيَّةُ التَّأْخِيرَ بِزِيَادَةٍ عَلَى رُبْعِ الْقَامَةِ إلَى نِصْفِ الْوَقْتِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَنْتَهِي بِالْإِبْرَادِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ أَمْ لَا فَمَنَعَهُ أَشْهَبُ وَأَجَازَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لِأَشْهَبَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا أَخَّرَ إلَى أَنْ كَانَ لِلتُّلُولِ ، وَالْجُدْرَانِ فَيْءٌ يُسْتَظَلُّ بِهِ ، وَذَلِكَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ فِي التُّلُولِ لَا يُسْتَظَلُّ بِهِ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَخَلْطُهُ الْجُدْرَانَ مَعَ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفَرِ وَلَا جُدْرَانَ هُنَاكَ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ الظُّهْرَ وَالظِّلُّ قَامَةٌ وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إذَا زَالَ الْفَيْءُ عَنْ طُولِ الشَّيْءِ فَذَاكَ حِينَ تُصَلَّى الظُّهْرُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ تُصَلَّى الظُّهْرُ إذَا كَانَ الظِّلُّ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ صَلَّيْتُ مَعَ ابْنِ

عُمَرَ الظُّهْرَ فَقِسْت ظِلِّي فَوَجَدْته ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَتْ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَتْ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفْسَيْنِ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ لِكَوْنِهِ صَرَّحَ فِيهِ بِشَكْوَى النَّارِ إلَى رَبِّهَا مِنْ أَكْلِ بَعْضِهَا بَعْضًا وَإِذْنِهِ لَهَا بِنَفْسَيْنِ ، وَأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ ذَلِكَ النَّفَسِ ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ ، وَلَوْ حَمَلْنَا شَكْوَى النَّارِ عَلَى الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهَا فِي التَّنَفُّسِ وَنَشْأَةِ شِدَّةِ الْحَرِّ عَنْهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّجَوُّزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) إنْ قُلْت : قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ؛ لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ فَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ إلَّا مَا هُوَ أَشَدُّ .
( قُلْت ) لَا يُرَادُ بِأَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَرِّ التَّحْقِيقُ ، فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَلَا يُؤْمَرُ حِينَئِذٍ بِالْإِبْرَادِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِذَلِكَ التَّقْرِيبُ فَمَا قَارَبَ مَا هُوَ أَشَدُّ جُعِلَ مِنْ الْأَشَدِّ أَوْ يُرَادُ الْأَشَدُّ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا دُونَ الْأَشَدِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا فَيَسْتَوِي حِينَئِذٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شِدَّةُ الْحَرِّ وَأَشَدُّ الْحَرِّ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ

أَنَّهُ قَالَ : فَمَا كَانَ مِنْ بَرْدٍ يُهْلِكُ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا ، وَمَا كَانَ مِنْ سَمُومٍ يُهْلِكُ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ حَرِّهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالشِّدَّةُ أَيْ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ انْتَهَى فَبَيَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ ضَابِطَ شِدَّةِ الْبَرْدِ ، وَالْحَرِّ مَا يُهْلِكُ شَيْئًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
" الثَّالِثَةُ " كَوْنُ شِدَّةِ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ هَلْ اقْتَضَى تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِمَا فِي إيقَاعِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ أَوْ أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا أَثَرُ الْعَذَابِ لَا يَنْبَغِي التَّعَبُّدُ بِالصَّلَاةِ فِيهَا ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَوْلَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ فَلَوْ تَكَلَّفَ الْمَشَقَّةَ وَصَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَكَانَ أَفْضَلَ ، وَأَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَوْلَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ ، وَقَدْ يَكُونُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ يَعْتَبِرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَيْضًا وَيَقُولُ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ تَقْتَضِي مَرْجُوحِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِمَا يَحْصُلُ مِنْ الِاضْطِرَابِ السَّالِبِ لِلْخُشُوعِ .
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَوْنُ الْحَالَةِ الَّتِي يَنْتَشِرُ فِيهَا أَثَرُ الْعَذَابِ لَا يَنْبَغِي الصَّلَاةُ وَيُقَالُ الصَّلَاةُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ فَيَنْبَغِي فِعْلُهَا لِطَرْدِ الْعَذَابِ وَلَكِنَّ التَّعْلِيلَ إذَا جَاءَ مِنْ الشَّارِعِ يَجِبُ تَلَقِّيه بِالْقَبُولِ ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَاهُ لَكِنَّا نُرَجِّحُ بِهَذَا الْإِشْكَالِ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَيَتَرَجَّحُ مَعَ ذَلِكَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِسَلْبِ الْخُشُوعِ .

( الرَّابِعَةُ ) حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ خِلَافًا فِي قَوْلِهِ : اشْتَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَأَنَّهَا تَنْطِقُ يُنْطِقُهَا الَّذِي يُنْطِقُ الْجُلُودَ وَيُنْطِقُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَهَا لِسَانٌ كَمَا شَاءَ اللَّهُ وَاسْتَشْهَدُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْت وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } وَبِقَوْلِهِ { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ عَلَى الْمَجَازِ كَقَوْلِهِ : شَكَا إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى فِي أَمْثِلَةٍ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ الْأَوَّلَ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّهُ الْأَوْلَى وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ .
( الْخَامِسَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ النَّارَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ الْآنَ ، وَهُوَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لِلتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّهَا إنَّمَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

( السَّادِسَةُ ) النَّفَسُ بِفَتْحِ الْفَاءِ أَصْلُهُ لِلْإِنْسَانِ وَذَوَاتِ الرُّوحِ ، وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْجَوْفِ وَدَاخِلٌ إلَيْهِ مِنْ الْهَوَاءِ فَشَبَّهَ الْخَارِجَ مِنْ حَرَارَةِ جَهَنَّمَ وَبَرْدِهَا إلَى الدُّنْيَا بِالنَّفَسِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ الْإِنْسَانِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : النَّفَسُ التَّنَفُّسُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ النَّفَسَ اسْمٌ ، وَالتَّنَفُّسَ مَصْدَرٌ ( السَّابِعَةُ ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَشَدُّ مَا يَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ .
( فَإِنْ قُلْتَ ) : فَلِمَ لَا أَخَّرْت الصَّلَاةَ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْبَرْدِ كَمَا أُخِّرَتْ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَرِّ .
( قُلْت ) : شِدَّةُ الْبَرْدِ تَكُونُ غَالِبًا وَقْتَ الصُّبْحِ وَلَا تَزُولُ إلَّا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَلَوْ أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ لَخَرَجَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ .

وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى قُبَاءَ فَيَأْتِيهِمْ ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ { كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى قُبَاءَ فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ } .
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ الصَّحِيحَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ إلَى قُبَاءَ وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ يَقُولُونَ فِيهِ ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي ، وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ : ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى قُبَاءَ كَذَا رَوَاهُ الْمُوَطَّأُ عَنْهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : هَذَا مِمَّا اُنْتُقِدَ عَلَى مَالِكٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ ، وَقَالَ إلَى قُبَاءَ وَخَالَفَهُ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَقَالُوا الْعَوَالِي قَالَ غَيْرُهُ : مَالِكٌ أَعْلَمُ بِبَلَدِهِ وَأَمْكِنَتِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ أَثْبَتُ فِي ابْنِ شِهَابٍ مِمَّنْ سِوَاهُ .
وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ إلَى الْعَوَالِي كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ إلَى قُبَاءَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ انْتَهَى .
وَبَيَّنَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي ذَلِكَ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الْبَزَّارِ أَنَّهُ قَالَ : الصَّوَابُ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ ، وَهُوَ مِمَّا يُعَدُّ عَلَى مَالِكٍ

أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَقَدْ رَوَى خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ مَالِكٍ إلَى الْعَوَالِي كَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ ابْنِ شِهَابٍ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَلَمْ يَهِمْ فِيهِ مَالِكٌ انْتَهَى .
وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ فِي عِلَلِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَرَوَاهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا انْتَهَى فَلَمْ يُحْكَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ أَنَّهُ رَوَى عَنْ مَالِكٍ إلَى الْعَوَالِي ، وَإِنَّمَا خَالَفَ الْأَكْثَرِينَ فِي تَصْرِيحِهِ بِالرَّفْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ مَالِكًا وَقَفَهُ أَيْ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ .
وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِنَاءً عَلَى الْمُرَجَّحِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُ بِإِضَافَةِ ذَلِكَ إلَى عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ لَكِنْ ذَهَبَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ إلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ كَمَا إذَا لَمْ يُضِفْ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الثَّانِيَةُ ) قُبَاءَ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَأَصْلُهُ اسْمُ بِئْرٍ هُنَاكَ ، وَفِيهِ الْمَدُّ ، وَالْقَصْرُ وَالصَّرْفُ وَعَدَمُهُ ، وَالتَّذْكِيرُ ، وَالتَّأْنِيثُ ، وَالْأَفْصَحُ فِيهِ الْمَدُّ وَالصَّرْفُ ، وَالتَّذْكِيرُ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَالِي ، فَإِنَّهَا الْقُرَى الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ أَعْلَاهَا وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ أَدْنَاهَا مِيلَانِ وَأَبْعَدَهَا ثَمَانِيَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَبُعْدُ الْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ وَبُعْدُ بَدَلُ بَعْضٍ ، وَقَالَ : هَذَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ

عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَأَسْنَدَهَا الْبَيْهَقِيُّ وَبُعْدُ الْعَوَالِي أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَالْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ إلَّا بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَصَلَ الْمُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ إلَى قُبَاءَ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الشَّمْسِ وَآكَدُ مِنْ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الَّتِي قَالَ فِيهَا إلَى الْعَوَالِي وَلَا سِيَّمَا الرِّوَايَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا ، وَالْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الْجُمْهُورُ حَتَّى صَاحِبَاهُ فَقَالُوا بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ غَيْرَ ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ بَلْ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِخُرُوجِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى خُرُوجِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ .

( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَالْجُمْهُورُ خِلَافًا لِلْحَنِيفَةِ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِهَا وَذَهَبَ إلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَحَاوَلَ الطَّحْطَاوِيُّ تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْجِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةً قَدْ اصْفَرَّتْ .
فَرُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ { مَا كَانَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِصَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ أَبْعَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ دَارًا مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَأَبُو عَبْسِ بْنِ حَبْرٍ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ دَارُ أَبِي لُبَابَةَ بِقُبَاءَ وَدَارُ أَبِي عَبْسٍ فِي بَنِي حَارِثَةَ ، ثُمَّ إنْ كَانَا لَيُصَلِّيَانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَأْتِيَانِ قَوْمَهُمَا ، وَمَا صَلَّوْهَا لِتَبْكِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا } .
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَيَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ هَذَا ، ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي الْأَبْيَضِ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا الْعَصْرَ ، وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ ، ثُمَّ أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ فَأَقُولُ لَهُمْ قُومُوا فَصَلُّوا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى } .
ثُمَّ قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ : فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَكَانَ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الْأَبْيَضِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْجِيلِ

بِهَا ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُصَلِّيهَا ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَكَرُوا فَيَجِدُهُمْ لَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَهَا إلَّا قَبْلَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَهَذَا دَلِيلُ التَّعْجِيلِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ قَدْ اصْفَرَّتْ فَقَدْ اضْطَرَبَ حَدِيثُ أَنَسٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا رَوَى إِسْحَاقُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو الْأَبْيَضِ عَنْهُ هَذَا كَلَامُ الطَّحَاوِيِّ ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِهِ يَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ قَدْ اصْفَرَّتْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ دَاسَةَ عَنْ أَبِي دَاوُد وَقَالَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ فَيَأْتِيهَا ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ انْتَهَى .
وَحَيَاتُهَا بَقَاءُ حَرِّهَا وَلَوْنِهَا ، وَهَذَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ قَدْ اصْفَرَّتْ .
ثَانِيهِمَا لَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ ، وَهِيَ حَيَّةٌ وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا لَا يُنَافِي صُفْرَتَهَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الطَّحْطَاوِيُّ فَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ إذَا وَصَلَ إلَى قُبَاءَ الَّتِي هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَذَلِكَ دَلِيلُ التَّعْجِيلِ ، وَلَوْ كَانَتْ الشَّمْسُ مُصْفَرَّةً وَلَا سِيَّمَا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا الْعَوَالِي وَقْتُهَا أَنَّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَفِي رِوَايَةٍ سِتَّةُ أَمْيَالٍ ، وَلَوْ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعَصْرِ أَوَّلَ وَقْتِهَا لَمَا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْمَسَافَةِ إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ ( ثَالِثُهَا ) كَيْفَ يَجْعَلُ حَدِيثَ أَنَسٍ مُضْطَرِبًا مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ اخْتِلَافُهَا

وَغَايَةُ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ تَحْتَمِلُ مُخَالَفَةَ رِوَايَةِ الْبَاقِينَ .
وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ قَدْ اصْفَرَّتْ وَمَعَ احْتِمَالِ الْمُخَالَفَةِ ، وَالْمُوَافَقَةِ لَا يَكُونُ اضْطِرَابًا بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُ الرِّوَايَةِ الْمُحْتَمِلَةِ عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ وَجَعْلُهَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهَا وَلَا تَضَادَّ وَكَيْفَ نَجِيءُ إلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحَةٌ فِي الْمَقْصُودِ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَنَرُدُّهَا بِوُرُودِ رِوَايَةٍ أُخْرَى تَحْتَمِلُ أَنْ تُخَالِفَهَا احْتِمَالًا مَرْجُوحًا بَلْ لَوْ كَانَ احْتِمَالُ الْمُخَالَفَةِ رَاجِحًا لَكَانَ الْوَاجِبُ الْحَمْلَ عَلَى الْمَرْجُوحِ لِيُوَافِقَ بَقِيَّةَ الرِّوَايَاتِ فَكَيْفَ وَاحْتِمَالُ الْمُخَالَفَةِ هُوَ الْمَرْجُوحُ أَوْ الِاحْتِمَالَانِ مُسْتَوِيَانِ إنْ تَنَزَّلْنَا .
وَالْوَاقِفُ عَلَى كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَفْهَمُ مِنْهُ التَّعَصُّبَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ مُحْتَمَلَةٌ لَأَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ اصْفَرَّتْ ، ثُمَّ إنَّهُ نَزَّلَ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَنْزِلَةَ الْمَجْزُومِ بِهِ ، وَقَالَ فَقَدْ اضْطَرَبَ حَدِيثُ أَنَسٍ ، ثُمَّ جَزَمَ بِأَنَّ مَعْنَى مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلًا إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمُخَالَفَةَ فَقَطْ ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ حَدِيثَ أَبِي الْأَبْيَضِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُحَلِّقَةٌ ، وَقَالَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُؤَخِّرُهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ فَرْسَخَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَذَكَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّأْخِيرِ أَيْضًا ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الشَّمْسُ مِنْ حُجْرَتِي طَالِعَةً } .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الشَّمْسُ مِنْ حُجْرَتِي طَالِعَةً } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) الْحُجْرَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ الْبَيْتُ وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَجَرَ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَهُوَ حُجْرَةٌ قَالَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَأَصْلُهُ كَمَا ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ حَظِيرَةٌ لِلْإِبِلِ وَقَوْلُهُ طَالِعَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْحُجْرَةِ إلَّا طَالِعَةً .
وَالْمُرَادُ بِالشَّمْسِ شُعَاعُهَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَيْضًا كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ أَيْ تَعْلُوَ عَلَى الْحِيطَانِ وَلِلْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَلْفَاظٌ أُخْرَى مُتَّفِقَةُ الْمَعْنَى وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ ، وَالشَّمْسُ فِي قَعْرِ حُجْرَتِي وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّمْسِ فِي الْحُجْرَةِ أَنْ تَكُونَ فِي قَعْرِهَا .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْجِيلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا أَيْضًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا رُوِيَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ حُجَرَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ مُنْخَفِضٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَتْ بِالْوَاسِعَةِ ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ لَهَا مِنْ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ مِنْهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَكَانَتْ الْحُجْرَةُ ضَيِّقَةَ الْعَرْصَةِ قَصِيرَةَ الْجِدَارِ بِحَيْثُ يَكُونُ طُولُ جِدَارِهَا أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْعَرْصَةِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ الْجِدَارِ مِثْلَهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَتَكُونُ الشَّمْسُ بَعْدُ فِي أَوَاخِرِ الْعَرْصَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْفَيْءُ فِي الْجِدَارِ الشَّرْقِيِّ وَكُلُّ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى .

وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ الْعَرْصَةَ كَانَتْ ضَيِّقَةً قَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَيْسَتْ بِالْوَاسِعَةِ وَصَرَّحَ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ : إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، وَالشَّمْسُ فِي وَسَطِ الْحُجْرَةِ لَمْ يَصْعَدْ فَيْؤُهَا فِي جُدُرِهَا ، وَذَلِكَ لِسَعَةِ سَاحَتِهَا وَقِصَرِ جُدْرَانِهَا انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ سِعَةِ سَاحَتِهَا خِلَافُ الْمَعْرُوفِ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ بَقَاءُ الشَّمْسِ فِيهَا أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ عَلَى سَعَةِ سَاحَتِهَا بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْعَرْصَةُ أَوْسَعَ مِنْ طُولِ الْجِدَارِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ النَّوَوِيِّ ، وَذَلِكَ لَا يُصَيِّرُهَا وَاسِعَةً ، وَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّعْجِيلِ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ قَدْ فَهِمَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاسْتَدَلَّتْ بِهِ عَلَى ذَلِكَ وَفَهِمَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رِوَايَةً عَنْهَا ، وَأَنْكَرَ بِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَأْخِيرَهُ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَشَذَّ الطَّحَاوِيُّ فَنَاضَلَ عَنْ مَذْهَبِهِ فِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ بِأَنْ حَاوَلَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ أَخَّرَ الْعَصْرَ لِقِصَرِ حُجْرَتِهَا فَلَمْ تَكُنْ الشَّمْسُ تَنْقَطِعُ عَنْهَا إلَّا بِقُرْبِ غُرُوبِهَا فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَصْرِ انْتَهَى .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُمْكِنُ مَعَ ضِيقِ الْحُجْرَةِ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ صِفَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قِصَرِ بُنْيَانِهِمْ وَحِيطَانِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ قِصَرِ الْحِيطَانِ ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أَدْخُلُ بُيُوتَ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُحْتَلِمٌ فَأَنَالُ سَقْفَهَا بِيَدِي ، وَذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَوْمَ الْخَنْدَقِ : مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا حَبَسُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ } وَفِي طَرِيقِ لِلْبُخَارِيِّ { وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ } وَلِمُسْلِمٍ { شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ } وَفِيهِ ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الْمَغْرِبِ ، وَالْعِشَاءِ .
( الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ) وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ { مَا لَهُمْ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا حَبَسُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) يَوْمَ الْخَنْدَقِ إحْدَى غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَالُ لَهُ يَوْمُ الْأَحْزَابِ ، وَقَدْ عَبَّرَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ وَقِيلَ فِي الْخَامِسَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِيَوْمِ الْخَنْدَقِ يَوْمًا بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ إشَارَةٌ إلَى الْغُزَاةِ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ أُحُدٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِلْخَنْدَقِ الَّذِي حُفِرَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ كِنْدَةٌ أَيْ مَحْفُورٌ .
( الثَّانِيَةُ ) الضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ مَا لَهُمْ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَغَلُوهُ عَنْ الصَّلَاةِ بِمُقَاتَلَتِهِمْ ، وَهُوَ دُعَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ : { اللَّهُمَّ امْلَأْ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا } فَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ هَذَا ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَبُطُونَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ أَوْ أَجْوَافَهُمْ شَكَّ يَحْيَى نَارًا وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ بُيُوتَهُمْ أَوْ بُطُونَهُمْ شَكَّ شُعْبَةُ فِي الْبُيُوتِ ، وَالْبُطُونِ .

( الثَّالِثَةُ ) مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ اشْتِغَالُهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَيُعَارِضُهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ { حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ حَشَى اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا } ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : انْحَبَسَ انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْ الْحُمْرَةِ أَوْ الصُّفْرَةِ وَلَمْ تَقَعْ الصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلِاشْتِغَالِ بِأَسْبَابِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا انْتَهَى وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا أَوْ قُلُوبَهُمْ } قَالَ ، وَلَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَئِذٍ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ بَعْدَ الْمَغِيبِ سِوَى الصَّلَاةِ فَقَطْ مَعَ تَقْدِيمِ الْأَسْبَابِ عَلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ .
وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْجَوَابَ الْمُتَقَدِّمَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ بَقِيَتْ أَيَّامًا فَأَخَّرَ فِي بَعْضِهَا الصَّلَاةَ إلَى الْحُمْرَةِ أَوْ الصُّفْرَةِ وَفِي بَعْضِهَا إلَى الْغُرُوبِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ رَاوِيَ التَّأْخِيرِ إلَى الْغُرُوبِ غَيْرُ رَاوِي التَّأْخِيرِ إلَى الْحُمْرَةِ أَوْ الصُّفْرَةِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ .
( الرَّابِعَةُ ) مُقْتَضَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَفُتْ غَيْرُ الْعَصْرِ وَفِي الْمُوَطَّإِ الظُّهْرُ ،

وَالْعَصْرُ وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ الْحَدِيثَ وَقَالَ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ إلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ فَمَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إلَى التَّرْجِيحِ ، وَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّ الَّتِي شُغِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْعَصْرُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ بَقِيَتْ أَيَّامًا فَكَانَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا فِي بَعْضِهَا .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : وَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ الْعُلَمَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا نَسِيَانَا لَا عَمْدًا وَكَانَ السَّبَبُ فِي النِّسْيَانِ الِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ الْعَدُوِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَمْدًا لِلِاشْتِغَالِ بِالْعَدُوِّ وَكَانَ هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ .
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِ الْعَدُوِّ ، وَالْقِتَالِ بَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ ، وَلَهَا أَنْوَاعٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ ذِكْرِهِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَذَهَبَ مَكْحُولٌ إلَى تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهَا مَعَهُ إلَى وَقْتِ الْأَمْنِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ صَلَاتُهَا عَلَى سُنَّتِهَا إذَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهَا ، ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ تَرْكُ مَا هُمْ فِيهِ لِلْوُضُوءِ ، وَالتَّيَمُّمِ وَلَا الصَّلَاةُ دُونَ طَهَارَةٍ وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ التَّأْخِيرَ عَلَى

ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَكْحُولٍ ، وَالشَّامِيِّينَ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى كَذَا الرِّوَايَةُ ، وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُهُ وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَأَوَّلُوا مَا كَانَ نَحْوَ هَذَا بِأَنْ قَدَّرُوا فِيهِ مَوْصُوفًا مَحْذُوفًا فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ فِي الْآيَةِ { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ } وَفِي الْحَدِيثِ حَبَسُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى أَيْ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى .

( السَّابِعَةُ ) الْوُسْطَى فَعَلَى وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ فَعَلَى مِنْ الْعَدَدِ الْمُتَوَسِّطِ ، وَهُوَ مُسَاوٍ فِي الْبُعْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَيْ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مُتَوَسِّطَةٌ فِي الْعَدَدِ بَيْنَ شَيْءٍ قَبْلَهَا وَشَيْءٍ بَعْدَهَا أَوْ مِنْ الْوَسَطِ ، وَهُوَ الْفَاضِلُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } فَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا وُسْطَى أَيْ فُضْلَى قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ احْتِمَالَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ، وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } .
أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ إذْ أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَقَوْلُهُ ، وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى يَدُلُّ عَلَى صَلَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ جَوْهَرِ اللَّفْظِ إذْ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ، وَالْأُخْرَى مِنْ لَازِمِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَمِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا وَسَطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ أُخْرَى إلَيْهَا حَتَّى تَصِيرَ خَمْسَةً فَيَكُونُ لَهَا وَسَطٌ .
( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ قَوْلَهُ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَقَوْلَهُ : وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى شَرَفِهِ ، وَالِاهْتِمَامِ بِهِ ، وَهَذَا الثَّانِي أَرْجَحُ ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ ذَكَرَهَا الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ وَالِدِهِ ، وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ إذَا عُقِّبَ بِذِكْرِ مَنْ كَانَ مِنْ حَقِّ الْعُمُومِ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ هَلْ يَدُلُّ هَذَا التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا لَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِفْرَادِ فَائِدَةٌ أَوْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَمَثَّلَ لَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ قَالَ قَوْمٌ سُمِّيَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ الْوُسْطَى ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ

النَّهَارِ وَقَالَ آخَرُونَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِشَةَ قَالَ { : إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تُلِيَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفَجْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَارَتْ الصُّبْحَ وَفُدِيَ إِسْحَاقُ عِنْدَ الظُّهْرِ فَصَلَّى إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعًا فَصَارَتْ الظُّهْرَ وَبُعِثَ عُزَيْرٌ فَقِيلَ كَمْ لَبِثْت فَقَالَ يَوْمًا فَرَأَى الشَّمْسَ فَقَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَصَلَّى أَرْبَعًا فَصَارَتْ الْعَصْرَ وَغُفِرَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْمَغْرِبِ فَقَامَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَجُهِدَ فَجَلَسَ فِي الثَّالِثَةِ فَصَارَتْ الْمَغْرِبُ ثَلَاثًا وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَلِذَلِكَ قَالُوا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ فَهَذَا عِنْدَنَا مَعْنًى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ أُولَى الصَّلَوَاتِ إنْ كَانَتْ الصُّبْحُ وَآخِرَهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ فَالْوُسْطَى فِيمَا بَيْنَ الْأُولَى ، وَالْأَخِيرَةِ ، وَهِيَ الْعَصْرُ انْتَهَى وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذِكْرُ الْوُسْطَى إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوَسُّطُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ فِي الْعَدَدِ أَوْ فِي الزَّمَانِ فَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ، فَإِنَّ حُكْمَ الصَّلَوَاتِ فِيهَا وَاحِدٌ فَهَذَا الْقِسْمُ لَا يُرَاعَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ ، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْعَدَدَ أَدَّى إلَى مَذْهَبِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّهَا الْمَغْرِبُ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَأَقَلَّهَا اثْنَتَانِ ، وَالْوَسَطُ ثَلَاثٌ فَهِيَ الْمَغْرِبُ ، وَإِنْ رَاعَيْنَا الْأَوْسَطَ فِي الزَّمَانِ كَانَ الْأَبْيَنُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ إمَّا الصُّبْحُ وَإِمَّا الْعَصْرُ فَأَمَّا الصُّبْحُ ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْسَ مِنْ النَّهَارِ وَلَا مِنْ اللَّيْلِ كَانَتْ هِيَ الْوُسْطَى ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنْ النَّهَارِ ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ مِنْ اللَّيْلِ وَبَقِيَ وَقْتُ الصُّبْحِ مُشْتَرَكًا فَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَ

الْوَقْتَيْنِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ النَّهَارِ يَكُونُ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْوُسْطَى الْعَصْرُ ؛ لِأَنَّ الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ سَابِقَتَانِ لِلْعَصْرِ ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ مُتَأَخِّرَانِ عَنْ الْعَصْرِ فَهِيَ إذًا وَسَطٌ بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا يَصْلُحُ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْخِلَافِ فِيهَا إذْ لَا مُنَاسَبَةَ لِمَا ذُكِرَ لِكَوْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَفْضَلَ وَأَوْكَدَ مِنْ غَيْرِهَا أَمَّا أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ فَالْمُنَاسِبُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّبَاعِيَةُ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ رَكَعَاتٍ وَأَكْثَرُ عَمَلًا ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا كَثُرَ عَمَلُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ .
وَأَمَّا مُرَاعَاةُ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ صَلَاةٍ هِيَ الْوُسْطَى ، وَهُوَ الَّذِي أَبْطَلْنَاهُ وَأَيْضًا فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَكْثَرِيَّةِ الثَّوَابِ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهَا مِنْ حَيْثُ الْأَزْمَانِ فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الصَّلَاةِ إلَى الزَّمَانِ كُلِّهَا مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِيَّةُ وَاحِدَةٌ ، فَإِنْ فُرِضَ شَيْءٌ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ أَفْضَلَ فَذَلِكَ لِأَمْرٍ خَارِجِ الْأَزْمَانِ قَالَ : وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ السَّبَبَ فِي خِلَافِهِمْ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ الْمُنْذِرِيُّ فِي الْمُرَادِ بِالْوُسْطَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَوْسَطُ الصَّلَوَاتِ مِقْدَارًا ، وَالثَّانِي أَنَّهَا أَوْسَطُهَا مَحَلًّا وَالثَّالِثُ أَنَّهَا أَفْضَلُهَا وَأَوْسَطُ كُلِّ شَيْءٍ أَفْضَلُهُ فَمَنْ قَالَ الْوُسْطَى الْفُضْلَى جَازَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ أَنْ يَدَّعِيَهُ وَمَنْ قَالَ مِقْدَارًا فَهِيَ الْمَغْرِبُ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ وَأَكْثَرَهَا أَرْبَعٌ وَمَنْ قَالَ مَحَلًّا ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مُنَاسَبَةً تَوَجَّهَ بِهَا قَوْلُهُ ، ثُمَّ حَكَى مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي .
( الثَّامِنَةُ ) فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ

شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَهِيَ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَعَزَاهُ لِلْجُمْهُورِ أَيْضًا الْمَاوَرْدِيُّ ، وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَقَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي إنَّهَا الصُّبْحُ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَالْمَكِّيِّينَ وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ نَعَمْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا الْعَصْرُ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ قَالَ : وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّهَا الصُّبْحُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الْعَصْرِ وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا نَقْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّهَا الْعَصْرُ فَهُوَ وَهْمٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ وَحَكَى الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ

فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا الصُّبْحُ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ذَكَرَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقُولَانِ : الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ قَالَ مَالِكٌ : وَذَلِكَ رَأْيِي وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا خِلَافَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا الْعَصْرُ .
قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةَ الصُّبْحِ قَالَ : وَحُسَيْنٌ هَذَا مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ مَدِينِيٌّ وَلَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ : وَقَالَ قَوْمٌ إنَّ مَا أَرْسَلَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَلِيٍّ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ ضُمَيْرَةَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ عَنْ عَلِيٍّ إلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى صِحَاحُ أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةَ الْعَصْرِ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّهَا الْمَغْرِبُ قَالَهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ قَتَادَةَ .
( الْخَامِسُ ) أَنَّهَا الْعِشَاءُ حَكَاهَا أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ .
( السَّادِسُ ) أَنَّهَا إحْدَى الْخَمْسِ مُبْهَمَةٌ وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَافِعٍ وَشُرَيْحٍ ، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيَّ وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ : لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي سَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ لَمْ يُصَحِّحْهَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26