كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } فَصَارَ مُمَدَّحًا شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ إزَالَتُهُ بِالسِّوَاكِ أَصْلُهُ دَمُ الشَّهِيدِ قَالَ فِيهِ { اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } فَلَا جَرَمَ لَا يَجُوزُ غَسْلُهُ ثُمَّ قَالَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا السِّوَاكُ لَا يُزِيلُ الْخُلُوفَ ثُمَّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَبِي الْحَرَمِ مَكِّيِّ بْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ أَفَادَنَا الْقَاضِي سَيْفُ الدِّينِ بِهَا فَقَالَ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ فَلَا يُكْرَهُ كَالْمَضْمَضَةِ لِلصَّائِمِ لَا سِيَّمَا وَهِيَ رَائِحَةٌ تَتَأَذَّى بِهَا الْمَلَائِكَةُ فَلَا تُتْرَكُ هُنَالِكَ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَفَائِدَتُهُ عَظِيمَةٌ بَدِيعَةٌ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا مَدَحَ الْخُلُوفَ نَهْيًا لِلنَّاسِ عَنْ تَقَذُّرِ مُكَالَمَةِ الصَّائِمِينَ بِسَبَبِ الْخُلُوفِ لَا نَهْيًا لِلصُّوَّامِ عَنْ السِّوَاكِ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ وُصُولِ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ إلَيْهِ فَعَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّهْيِ اسْتِبْقَاءَ الرَّائِحَةِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ نَهْيَ النَّاسِ عَنْ كَرَاهَتِهَا قَالَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ إكْرَامًا لِلصِّيَامِ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلسِّوَاكِ فَيَذْكُرُ أَوْ يَتَأَوَّلُ قَالَ وَأَمَّا دَمُ الشَّهِيدِ فَإِنَّمَا أَبْقَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا وَيَأْتِي خَصْمًا وَمِنْ شَأْنِ حُجَّةِ الْخَصْمِ أَنْ تَكُونَ بَادِيَةً وَشَهَادَتُهُ ظَاهِرَةٌ لَا سِيَّمَا وَفِي إزَالَةِ الْخُلُوفِ إخْفَاءُ الصِّيَامِ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّهُ يَمْنَعُ كَوْنَ السِّوَاكِ يُزِيلُ الْخُلُوفَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعِدَةِ وَالْحَلْقِ لَا مِنْ مَحَلِّ السِّوَاكِ ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَغَيَّرَ فَمُهُ وَاسْتَاكَ زَالَتْ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ ، وَأَمَّا كَوْنُ أَصْلِ التَّغَيُّرِ مِنْ الْمَعِدَةِ فَأَمْرٌ آخَرُ ، ثُمَّ

حُكِيَ عَنْ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ أَنَّهُ حَكَى عَنْ اللِّحْيَانِيِّ خُلْفُ الطَّعَامِ وَالْفَمِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَخْلُفُ خُلُوفًا إذَا تَغَيَّرَ وَأَكَلَ طَعَامًا فَبَقِيَتْ فِي فِيهِ خُلْفَةٌ فَتَغَيَّرَ فُوهُ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ ا هـ .
قَالَ وَالِدِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُلُوفَ الْفَمِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ الَّذِي بَيْنَ الْأَسْنَانِ لَا مِنْ الْمَعِدَةِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ ( قُلْت ) وَيُوَافِقُ ذَلِكَ قَوْلَ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ إنَّ الْبَخَرَ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ مَا كَانَ مِنْ الْمَعِدَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ قَلَحِ الْأَسْنَانِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُزِيلُهُ السِّوَاكُ بِخِلَافِ الَّذِي مِنْ الْمَعِدَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ لَك أَنْ تَقُولَ مَا الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ إزَالَةِ دَمِ الشَّهِيدِ مَعَ أَنَّ رَائِحَتَهُ مُسَاوِيَةٌ لِرَائِحَةِ الْمِسْكِ وَعَدَمُ تَحْرِيمِ إزَالَةِ الْخُلُوفِ مَعَ كَوْنِهِ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ( قُلْت ) وَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ حُجَّةٌ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ وَلَيْسَ لِلصَّائِمِ خَصْمٌ يَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْخُلُوفِ إنَّمَا هُوَ شَاهِدٌ لَهُ بِالصِّيَامِ وَذَلِكَ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ حَقٌّ لَهُ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ ، وَقَدْ كَانَ لَهُ غُسْلُهُ فِي حَيَاتِهِ وَالْخُلُوفُ حَقٌّ لِلصَّائِمِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ حَقِّهِ وَإِزَالَةِ مَا يَشْهَدُ لَهُ بِالْفَضْلِ .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّ كَوْنَ رَائِحَةِ دَمِ الشَّهِيدِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ وَكَوْنَ رَائِحَةِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ لَهُ تَأْوِيلٌ يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهَا .
( رَابِعُهَا ) أَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إزَالَةِ دَمِ الشَّهِيدِ مَعَ وُجُوبِ إزَالَةِ الدَّمِ وَمَعَ وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ فَمَا اُغْتُفِرَ تَرْكُ

هَذَيْنِ الْوَاجِبِينَ إلَّا لِتَحْرِيمِ إزَالَتِهِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِتَحْرِيمِهِ وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ فِي السِّوَاكِ ، وَإِنَّمَا قِيلَ بِالِاسْتِنْبَاطِ .
( خَامِسُهَا ) أَنَّهُ عَارَضَ ذَلِكَ فِي خُلُوفِ الصَّائِمِ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَهِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَاتِ وَمُلَاقَاةِ الْبَشَرِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُزَالَ الْخُلُوفُ لِمَا يُعَارِضُهُ بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
{ السَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { إنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ } إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَكَاهُ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ بِنِسْبَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ وَعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِيهِ ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِ بِحِكَايَتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى .
{ الثَّامِنَةُ } ذِكْرُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّهْوَةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِدُخُولِهِمَا فِيهَا وَذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمَا فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ بِهِمَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ تَكَرُّرًا مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشَّهَوَاتِ .
{ التَّاسِعَةُ } قَدْ يُشِيرُ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ { إنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ } إلَى أَنَّهُ إذَا أَشْرَكَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهُ مِنْ مُرَاعَاةِ تَرْكِ الْأَكْلِ لِتُخَمَةٍ وَنَحْوِهَا لَا يَكُونُ الصَّوْمُ صَحِيحًا ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا أُشِيرَ بِذَلِكَ إلَى الصَّوْمِ الْكَامِلِ وَالْمَدَارُ عَلَى الدَّاعِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَدُورُ مَعَهُ الْفِعْلُ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَقَدْ بَسَطَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَسَائِلَ تَشْرِيكِ النِّيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ .
{ الْعَاشِرَةُ } ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } مَعَ كَوْنِ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا أَقْوَالًا : أَحَدُهَا ) أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يُمْكِنُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ

وَحَالُ الْمُمْسِكِ شِبَعًا أَوْ فَاقَةً كَحَالِ الْمُمْسِكِ تَقَرُّبًا وَإِنَّمَا الْقَصْدُ وَمَا يُبْطِنُهُ الْقَلْبُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ أَعْمَالٌ بَدَنِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ فَلِذَلِكَ خَصَّ الصَّوْمَ بِمَا ذَكَرَهُ دُونَهَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ .
( ثَانِيهَا ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ حِكَايَتِهِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمَازِرِيِّ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْنَاهُ أَنَا أَتَوَلَّى جَزَاءَهُ إذْ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ إذْ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ نِيَّةٌ وَإِمْسَاكٌ فَأَنَا أُجَازِي بِهِ مِنْ التَّضْعِيفِ فِي جَزَائِهِ عَلَى مَا أُحِبُّ انْتَهَى وَأَوَّلُ كَلَامِهِ يُشِيرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمَازِرِيِّ وَآخِرُهُ يُشِير إلَى جَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ التَّضْعِيفَ فِي جَزَائِهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَقَدْ حَكَاهُ الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ وَقِيلَ لِي أَيُّ الْمُنْفَرِدِ يَعْلَمُ مِقْدَارَ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفَ حَسَنَاتِهِ كَمَا قَالَ { وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } قَالَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ اطَّلَعْت عَلَى مَقَادِيرِ أُجُورِهَا كَمَا قَالَ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا .
الْحَدِيثَ ، وَالصَّوْمُ مَوْكُولٌ إلَى سَعَةِ جُودِهِ وَغَيْبِ عِلْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ( قُلْت ) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا صَرِيحَةٌ فِي مُسَاعَدَةِ هَذَا الْجَوَابِ فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى فِيهَا الصِّيَامَ مِنْ التَّضْعِيفِ فَقَالَ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَاعْتَرَضَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةٍ وَأَنَّ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ قَالَ وَهَذِهِ نُصُوصٌ فِي إظْهَارِ التَّضْعِيفِ فَضَعُفَ هَذَا الْوَجْهُ بَلْ بَطَلَ .
( ثَالِثُهَا ) قَالَ الْقَاضِي أَيْضًا قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ { لِي } أَيْ لَيْسَ لِلصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ (

قُلْت ) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَاسْتَثْنَى الصِّيَامَ مِنْ كَوْنِ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ .
( رَابِعُهَا ) قَالَ لِلْقَاضِي أَيْضًا وَقِيلَ إنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الطَّعَامِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِشِبْهِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا شَبَهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ .
( خَامِسُهَا ) ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَى إضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الصَّائِمَ عَلَى صِفَةِ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهَوَاتِ .
( سَادِسُهَا ) أَنَّ فِي إضَافَةِ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَخْصِيصَهُ وَتَشْرِيفَهُ كَمَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ اللَّهِ وَمَسْجِدُ اللَّهِ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى حَكَاهُ الْقَاضِي أَيْضًا .
( سَابِعُهَا ) قِيلَ سَبَبُ إضَافَتِهِ إلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ فَلَمْ تُعَظِّمْ الْكُفَّارُ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ مَعْبُودًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالصَّدَقَةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَنَقَضَهُ بَعْضُهُمْ بِأَرْبَابِ الِاسْتِخْدَامَاتِ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ لِلْكَوَاكِبِ قَالَ وَلَيْسَ هَذَا بِنَقْضٍ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الِاسْتِخْدَامَاتِ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ آلِهَةٌ ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ إنَّهَا فَعَّالَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقَةً .
( ثَامِنُهَا ) أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْإِضَافَةِ أَنَّ سَائِرَ الْعَادَاتِ يُوَفَّى مِنْهَا مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْحُقُوقِ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ يَبْقَى مُوَفَّرًا لِصَاحِبِهِ لَا يُوَفَّى مِنْهُ حَقٌّ ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَدْ كُنْت أَسْتَحْسِنُهُ إلَى أَنْ فَكَّرْت فِي حَدِيثِ الْمُقَاصَّةِ

فَوَجَدْت فِيهِ ذِكْرَ الصَّوْمِ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَخْذِ مِنْهَا فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ { الْمُفْلِسُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا } الْحَدِيثَ قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ يُؤْخَذُ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ انْتَهَى .
( قُلْت ) إذَا صَحَّ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ أَقَلَّ التَّضْعِيفِ عَشْرَةُ أَمْثَالٍ وَغَايَتُهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } فَقِيلَ الْمُرَادُ يُضَاعِفُ هَذَا التَّضْعِيفَ وَهُوَ السَّبْعُمِائَةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ يُضَاعِفُ فَوْقَ السَّبْعِمِائَةِ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَقَدْ وَرَدَ التَّضْعِيفُ بِأَكْثَرَ مِنْ السَّبْعِمِائَةِ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ { صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ { أَنَّ مَنْ قَالَ فِي سُوقٍ مِنْ الْأَسْوَاقِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كُتِبَتْ لَهُ أَلْفُ أَلْفُ حَسَنَةٍ } الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ ، وَقَالَ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ لِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ كُلُّ حَسَنَةٍ مِثْلُ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ } أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَهَذَا

أَكْثَرُ مَا رَأَيْته وَرَدَ فِي التَّضْعِيفِ وَهُوَ أَنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعِينَ أَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ .
قَالَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ انْتِهَاءَ التَّضْعِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ فَقَدْ بَيَّنَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَنَّ التَّضْعِيفَ يُزَادُ عَلَى السَّبْعِمِائَةِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ { إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ } .

{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْلِهِ { إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ } يَعْنِي بِظَاهِرِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفِيهِ يَنْتَهِي التَّضْعِيفُ إلَى سَبْعِمِائَةٍ مِنْ الْعَدَدِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ { الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ } قَالَ فَهَذَانِ عَمَلَانِ انْتَهَى .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ( قُلْت ) ( وَعَمَلٌ ثَالِثٌ ) فَفِي الْحَدِيثِ النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ تُضَاعَفُ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الدِّرْهَمُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ( قُلْت ) رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ ( وَعَمَلٌ رَابِعٌ ) وَهُوَ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْجِهَادِ ( قُلْت ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ كَلِمَةُ عَدْلٍ قَالَ ( وَعَمَلٌ خَامِسٌ ) وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا .
قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنْ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ

حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ فِيهِ { وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالُوا وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ عَمَلِ آدَمِيٍّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالُوا وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ لَا إلَّا أَنْ تَضْرِبَ بِسَيْفِك حَتَّى يَنْقَطِعَ ثَلَاثَ مِرَارٍ } انْتَهَى .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَأَقْدِرُوا ثَلَاثِينَ } وَلِلْبُخَارِيِّ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } وَلِمُسْلِمٍ { فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : { فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقَالَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ عَقَدَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ } ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَقَالَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَقَالَ { فَاقْدِرُوا لَهُ } وَلَمْ يَقُلْ ثَلَاثِينَ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ إلَّا أَنْ يَغُمَّ عَلَيْكُمْ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ } وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ { إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ } وَلَهُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ طُرُقٌ أُخْرَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ

جَمَاعَةٌ أَصْحَابُ نَافِعٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالُوا فِيهِ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ } ، وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ ثَلَاثِينَ } لَمْ يَقُلْ فَاقْدِرُوا لَهُ وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { فَاقْدِرُوا لَهُ } ، وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ رَمَضَانَ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا ثُمَّ إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ } قَالَ وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } فَهَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو بَكْرَةَ وَطَلْقٌ الْحَنَفِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ ثَلَاثِينَ } بِمَعْنًى وَاحِدٍ انْتَهَى ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } فَكَيْفَ يَسْتَغْرِبُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا وَيَنْقُلُهُ مِنْ طُرُقٍ غَرِيبَةٍ وَلَمَّا ذَكَرَ هُوَ فِي التَّمْهِيدِ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَهَا بِلَفْظِ { فَاقْدِرُوا لَهُ } لَيْسَ فِيهَا فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ، وَقَالَ هَكَذَا هُوَ عِنْدَ جَمَاعَةِ

الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا عَلَيْهِ وَهَذَا الْبُخَارِيُّ قَدْ رَوَاهُ فِي صَحِيحه مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } ، وَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ عَنْهُ ، وَقَالَ فِي الْمَعْرِفَةِ هَكَذَا رَوَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَعْنَبِيِّ مِنْ جِهَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ مَحْفُوظَةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَالِكٌ رَوَاهُ عَلَى اللَّفْظَتَيْنِ جَمِيعًا انْتَهَى .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ رَمَضَانُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّهْرِ بِلَا كَرَاهَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ الصَّوَابُ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُقَالُ رَمَضَانُ عَلَى انْفِرَادِهِ بِحَالٍ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ إلَى الشَّهْرِ فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ .
قَالُوا فَيُقَالُ صُمْنَا رَمَضَانَ وَقُمْنَا رَمَضَانَ وَرَمَضَانُ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ وَيُنْدَبُ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَلَا كَرَاهَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ جَاءَ رَمَضَانُ وَدَخَلَ رَمَضَانُ وَحَضَرَ رَمَضَانُ وَأُحِبُّ رَمَضَانَ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ فَاسِدَانِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِنَهْيِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَهْيٌ ، وَقَوْلُهُمْ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تُطْلَقُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَلَوْ ثَبَتَ

أَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَرَاهَةٌ انْتَهَى .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَيْ إذَا لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ } لَحَصَّلَتْ الْغَرَضَ وَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ الصَّوْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ لَمْ يُرَ فِيهَا الْهِلَالُ لَكِنَّهُ زَادَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ } .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي لِلتَّأْكِيدِ أَوْرَثَتْ عِنْدَ الْمُخَالِفِ شُبْهَةً بِحَسَبِ تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ { فَاقْدِرُوا لَهُ } فَالْجُمْهُورُ قَالُوا مَعْنَاهُ قَدَرُوا لَهُ تَمَامَ الْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَيْ اُنْظُرُوا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَاحْسُبُوا تَمَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ قَدَرْت الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ أَقْدُرُهُ بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَقَدَّرْته بِالتَّشْدِيدِ وَأَقْدَرْته بِهَمْزَةِ أَوَّلِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مِنْ التَّقْدِيرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } .
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ { فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْحَدِيثُ إذَا جُمِعَتْ طُرُقُهُ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَلَيْسَ ذَلِكَ اضْطِرَابًا فِي الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ ، وَقَدْ { ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُورَةَ الْغَمِّ عَلَيْنَا بَعْدَ

قَوْلِهِ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَعَادَ إلَى الصُّورَتَيْنِ مَعًا } أَيْ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فِي صَوْمِكُمْ أَوْ فِطْرِكُمْ فَذَكَرَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصُّورَةُ الْأُخْرَى وَأَتَى فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِعِبَارَةٍ مُتَنَاوِلَةٍ لَهُمَا فَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ } وَمِنْ الْعَجِيبِ اعْتِرَاضُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ الْإِسْمَاعِيلِيَّ قَدْ أَخْرَجَهَا فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } ثُمَّ عَدَّ جَمَاعَةٌ رَوَوْهُ عَنْ شُعْبَةَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ هَذَا الْحَنْبَلِيُّ وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إيَاسٍ رَوَاهُ عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ عِنْدِهِ لِلْخَبَرِ انْتَهَى .
وَغَايَتُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ خَاصَّةٌ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي حَكَاهَا عَنْ غَيْرِهِ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهَا عَلَى رَمَضَانَ لَا سِيَّمَا وَهُمْ يُؤَوِّلُونَ قَوْلَهُ { فَاقْدِرُوا لَهُ } كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْهِلَالِ تَحْتَ السَّحَابِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ شَعْبَانُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ كَلَامِ هَذَا الْحَنْبَلِيِّ لِكَلَامِ أَئِمَّتِهِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يُحْمَلَ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ } عَلَى صُورَةٍ وَالْجَزَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ { فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ } عَلَى صُورَةٍ غَيْرِهَا .
وَلَقَدْ أَنْصَفَ الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ فِي تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّ أَيَّ شَهْرٍ غُمَّ أُكْمِلَ ثَلَاثِينَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَعْبَانُ وَرَمَضَانُ وَغَيْرُهُمَا وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ يَرْجِعُ إلَى

الْجُمْلَتَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أَيْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فِي صَوْمِكُمْ وَفِطْرِكُمْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اللَّفْظِ وَبَاقِي الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَالَ وَمَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ غَيْرُ قَادِحٍ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ اللَّفْظَيْنِ وَهَذَا مُقْتَضَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ أَحَدَهُمَا .
وَذَكَرَ الرَّاوِي اللَّفْظَ الْآخَرَ بِالْمَعْنَى فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ لِلشَّهْرَيْنِ } انْتَهَى .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِنَّ أَحْسَنَ مَا يُقَدَّرُ لَهُ إذَا رَأَيْنَا هِلَالَ شَعْبَانَ لِكَذَا وَكَذَا فَالصَّوْمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِكَذَا وَكَذَا إلَّا أَنْ يَرَوْا الْهِلَالَ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تُغْمَى عَلَيْكُمْ الْعِدَّةُ } .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَعَلَهُ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مُفَسِّرٌ لَهُ وَمُبَيِّنٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ { فَأَقْدِرُوا لَهُ } ( قُلْت ) وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ { فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد بِلَفْظِ { فَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَمَامَةٍ فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا } وَعِنْدَ النَّسَائِيّ بِلَفْظِ { فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابَةٌ أَوْ ظُلْمَةٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ عِدَّةَ شَعْبَانَ } .
وَهَذَا عَلَى مَا قَدَّمْته فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد صُورَةً وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ

أُخْرَى ، وَأَتَى فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَالتِّرْمِذِيِّ بِمَا يَشْمَلُ الصُّورَتَيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ اضْطِرَابًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ { أَهْلَلْنَا رَمَضَانَ وَنَحْنُ بِذَاتِ الْعِرْقِ فَأَرْسَلْنَا رَجُلًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَلَقِينَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْنَا ، وَذَكَرَهُ } وَهَذَا شَاهِدٌ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا { لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرُوا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد { عَنْ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ } .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عِنْدَ الْغَمِّ عَلَيْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْت { فَاقْدِرُوا لَهُ } إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَحْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَاقْدِرُوا لَهُ } ضَيِّقُوا لَهُ وَقَدِّرُوهُ تَحْتَ السَّحَابِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَوْجَبَ الصِّيَامَ مِنْ الْغَدِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا كَانَ فِي مَحَلِّ الْهِلَالِ مَا يَمْنَعُ رُؤْيَتَهُ مِنْ غَيْمٍ وَغَيْرِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ نَظَرَ لَهُ فَإِنْ

رَأَى فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هَذَا الصَّنِيعَ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الْحِسَابِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ ( قُلْت ) وَكَأَنَّ الرَّاوِيَ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى النَّقْضِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فِي كَوْنِهِ قَالَ بِمَا يَقْتَضِي حُمِلَ التَّقْدِيرُ عَلَى التَّضْيِيقِ وَتَقْدِيرُهُ تَحْتَ السَّحَابِ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى وَلَوْ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَصَّلَ بَيْنَهُمَا كَيْفَ { وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِنَهْيِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ } .
وَقَدْ تَبِعَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ سَمَّاهُ دَرْءُ اللَّوْمِ وَالضَّيْمِ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْغَيْمِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَالْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ الْغِفَارِيِّ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ وَقَالَ بِهِ مِنْ كُبَرَاءِ التَّابِعِينَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٌ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَمُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ فِي آخَرِينَ حَكَاهُ عَنْهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي حِكَايَتِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ فَذَكَرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ مُنْقَطِعَةٌ فَإِنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْهُ وَلَمْ يُدْرِكْهُ وَأَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ إنَّمَا نَقَلَ ذَلِكَ

عَنْ عَلِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَصُومُ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ .
قَالَ وَالِدِي وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ عِنْدَ شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا فِي الْغَيْمِ كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مُبَيِّنًا ، وَلَا يَحِلُّ الِاخْتِصَارُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَعْنَى قَالَ وَالِدِي وَالْمَعْرُوفُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ خِلَافُ ذَلِكَ فَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ إذَا حَضَرَ رَمَضَانُ فَيَقُولُ { أَلَا لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا الْعِدَّةَ .
} وَمُسْتَنَدُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ مَا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت الْهِلَالَ إمَّا عِنْدَ الظُّهْرِ وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْهُ فَأَفْطَرَ نَاسٌ مِنْ النَّاسِ فَأَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَأَخْبَرْنَاهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَبِإِفْطَارِ مَنْ أَفْطَرَ فَقَالَ هَذَا الْيَوْمُ يَكْمُلُ لِي أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَذَلِكَ أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ أَرْسَلَ إلَيَّ قَبْلَ صِيَامِ النَّاسِ إنِّي صَائِمٌ غَدًا فَكَرِهْت الْخِلَافَ عَلَيْهِ فَصُمْت وَأَنَا مُتِمٌّ صَوْمَ يَوْمِي هَذَا إلَى اللَّيْلِ ، قَالَ وَالِدِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ لِلْغَيْمِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ كَرَاهِيَةً لِلِاخْتِلَافِ عَلَى الْأَمِيرِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ ( إنَّ الْخِيَرَةَ إلَى الْأَمِيرِ فِي صِيَامِ لَيْلَةِ الْغَيْمِ ) فَلَمْ يَصُمْهُ أَنَسٌ عَنْ رَمَضَانَ ، وَقَدْ أَفْطَرَ النَّاسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَأَرَادَ أَنَسٌ تَرْكَ الْخِلَافِ عَلَى أَمْرِهِ .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ كَمَا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ نَهَى أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ

عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْهُ ( لَأَنْ أَصُومَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ) ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَرِوَايَةُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّقَدُّمِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَصَحَّ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا أَثَرُ مُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْهُ وَضَعَّفَهُ قَالَ : وَأَمَّا أَثَرُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَمْ أَرَ لَهُ إسْنَادًا قَالَ وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ أَيُّوبَ فَهُوَ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ قَالَ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءَ وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَعَوَامّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى بِنَا انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يُتَابِعْ ابْنَ عُمَرَ عَلَى تَأْوِيلِهِ ذَلِكَ فِيمَا عَلِمْت إلَّا طَاوُسٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلُهُ وَعَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ انْتَهَى وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ قَدِّرُوهُ بِحِسَابِ الْمَنَازِلِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَآخَرُونَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رُوِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْهُ وَلَوْ صَحَّ مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عَلَيْهِ لِشُذُوذِهِ فِيهِ وَلِمُخَالَفَةِ الْحُجَّةِ لَهُ ثُمَّ حَكَى عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ مِثْلَهُ ، وَقَالَ لَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَعْرُجُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ

ثُمَّ حَكَى عَنْ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ فِي كُتُبِهِ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافُهُ ( قُلْت ) لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَبَالَغَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمُعَارَضَةِ فِي إنْكَارِهِ مَقَالَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ هَذِهِ قَالَ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حِسَابَ الْمُنَجِّمِينَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَوْ كُلِّفُوا بِهِ ضَاقَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَفْرَادٌ وَالشَّرْعُ إنَّمَا يُعَرِّفُ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُهُ جَمَاهِيرُهُمْ وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْدِرُوا خِطَابٌ لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذَا الْعِلْمِ ، وَقَوْلُهُ { فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ } خِطَابٌ لِلْعَامَّةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَكَأَنَّ وُجُوبَ رَمَضَانَ جَعَلَهُ مُخْتَلِفَ الْحَالِ يَجِبُ عَلَى قَوْمٍ بِحِسَابِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَعَلَى آخَرِينَ بِحِسَابِ الْجُمَلِ ، إنَّ هَذَا لَبَعِيدٌ عَنْ النُّبَلَاءِ فَكَيْفَ عَنْ الْعُلَمَاءِ ؟ وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ مَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هُوَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الْأَهِلَّةِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ عَلَى مَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الدَّرْسِ فَالْحِسَابُ أَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْآحَادُ ، وَالْمَعْرِفَةُ بِالْمَنَازِلِ كَالْمَحْسُوسِ يَشْتَرِكُ فِي ذِكْرِهِ الْجُمْهُورُ مِمَّنْ يُرَاقِبُ النُّجُومَ ، انْتَهَى .
فَمَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هِيَ الَّتِي قَالَ بِهَا ابْنُ سُرَيْجٍ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهَا فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا خَاصَّةً وَلَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْعَارِفِ بِهَا ، وَإِنَّمَا قَالَ بِجَوَازِهِ لَهُ كَذَا ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ عَنْهُ وَنَقَلَ الْجَوَازَ أَيْضًا عَنْ اخْتِيَارِ الْقَفَّالِ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ ، وَحَكَى الشَّيْخُ فِي الْمَذْهَبِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ لُزُومَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِذَا

جَمَعْت بَيْنَ مَسْأَلَتَيْ الْحَاسِبِ وَالْمُنَجِّمِ وَنَظَرْت فِيهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا وَإِلَى غَيْرِهِمَا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ حَصَلَ لَك فِي ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْجُهٌ جَمَعَهَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُذْهَبِ مُلَخَّصَةً بَعْدَ بَسْطِهَا ( أَصَحُّهَا ) لَا يَلْزَمُ الْحَاسِبُ وَلَا الْمُنَجِّمُ وَلَا غَيْرُهُمَا بِذَلِكَ وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وَلَا يُجْزِيهِمَا عَنْ فَرْضِهِمَا .
( وَالثَّانِي ) تَجُوزُ لَهُمَا يُجْزِيهِمَا ( وَالثَّالِثُ ) يَجُوزُ لِلْحَاسِبِ وَيُجْزِيهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُنَجِّمِ ( وَالرَّابِعُ ) يَجُوزُ لَهُمَا وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا تَقْلِيدُهُمَا ( وَالْخَامِسُ ) يَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا تَقْلِيدُ الْحَاسِبِ دُونَ الْمُنَجِّمِ وَأَهْمَلَ النَّوَوِيُّ مِنْ الْأَوْجُهِ وُجُوبَ الصَّوْمِ ، وَقَدْ حَكَاهُ حِينَ بَسَطَ الْكَلَامَ قَبْلَ ذَلِكَ فَحَكَى عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ قَالَ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ وَعُرِفَ رَجُلٌ بِالْحِسَابِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجْهَانِ .
قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّهْرَ بِدَلِيلٍ فَأَشْبَهَ مَنْ عَرَفَهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يَصُومُ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَوَافَقَ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ جَمَاعَةٌ ثُمَّ حَكَى عَنْ صَاحِبِ الْبَيَانِ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَمَّا بِالْحِسَابِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي الْوُجُوبِ ثُمَّ حَكَى عَنْ الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجِبُ بِمَا يَقْتَضِيهِ حِسَابُ الْمُنَجِّمِ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ الصَّوْمُ قَالَ الرُّويَانِيُّ ، وَكَذَا مَنْ عَرَفَ مَنَازِلَ الْقَمَرِ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ قَالَ وَأَمَّا الْجَوَازُ فَتَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ الْجُمْهُورِ مَنْعَ الْحَاسِبِ وَالْمُنَجِّمِ مِنْ الصَّوْمِ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا عَلَى خِلَافِ مَا صَحَّحَهُ

النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَلِلْمَسْأَلَةِ نَظِيرٌ مَذْكُورٌ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُنَجِّمُ دُخُولَ الْوَقْتِ بِالْحِسَابِ .
فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ غَيْرُهُ كَمَا فِي التَّحْقِيقِ لِلنَّوَوِيِّ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْبَيَانِ وَمَعْنَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْجَوَازِ كَمَا فِي الصِّيَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَجَّحَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى الْحَاسِبِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ وَأَمَّا مَا دَلَّ الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ طَلَعَ مِنْ الْأُفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى لَوْلَا وُجُودُ الْمَانِعِ كَالْغَيْمِ فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ قَالَ وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ تُشْتَرَطُ فِي اللُّزُومِ ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إذَا عَلِمَ بِإِكْمَالِ الْمُدَّةِ أَوْ الِاجْتِهَادِ بِالْأَمَارَاتِ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ ، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ وَلَا أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ ، قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : الْمَحْبُوسُ فِي الْمَطْمُورَةِ مَعْذُورٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ أَعَادَ ، وَحُصُولُ الْغَيْمِ فِي الْمَطَالِعِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَالسَّبَبُ الشَّرْعِيُّ لِلْوُجُوبِ إنَّمَا هُوَ الرُّؤْيَةُ لَا عِلْمَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ } الْحَدِيثَ انْتَهَى .
وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا بَسَطَاهُ صِحَّةُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالرُّؤْيَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ

( الرَّابِعَةُ ) تَكَلَّمْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الصَّوْمُ وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ لَا بِتَقْدِيرٍ تَحْتَ السَّحَابِ فِي الْغَيْمِ وَلَا بِرُجُوعٍ إلَى حِسَابٍ ، بَقِيَ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ جَوَازُ صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ مَنْعُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ قَبَلَ الرُّؤْيَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَقَالُوا لَا يَنْعَقِدُ صَوْمُهُ وَلَا يُجْزِئُهُ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ وَاقْتَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَقَالُوا إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْهُ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ تَطَوُّعًا .
( الْخَامِسَةُ ) وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ مَنْعُ صَوْمِهِ عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ أَيْضًا ، وَقَدْ جَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَوْمَهُ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ وَتَطَوُّعًا إذَا وَافَقَ وِرْدَهُ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِصَوْمِهِ بِلَا سَبَبٍ فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَقَالُوا بِتَحْرِيمِهِ ، فَإِنْ صَامَهُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ بُطْلَانُهُ وَالْمَشْهُورُ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةً بِكَرَاهَتِهِ ، وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ صَوْمَهُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ ، وَلَمْ يَكْرَهُوا التَّطَوُّعَ لِصَوْمِهِ ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَفْرُوضٌ فِي يَوْمِ الشَّكِّ لَا فِي مُطْلَقِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَوْمُ الشَّكِّ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا تُحُدِّثَ بِرُؤْيَتِهِ أَوْ شَهِدَ بِهَا مَنْ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَحَدَّثْ بِرُؤْيَتِهِ أَحَدٌ فَلَيْسَ يَوْمَ شَكٍّ وَلَوْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً .

( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ } لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رُؤْيَةُ جَمِيعِ النَّاسِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ كُلُّ فَرْدٍ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ بَعْضِهِمْ وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ وَهُوَ عَدْلَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُدَّعِي { شَاهِدَاك } إلَّا أَنَّ هِلَالَ رَمَضَانَ يُكْتَفَى فِي ثُبُوتِهِ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا } وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْته فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الصِّيَامِ وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ انْتَهَى .
وَمَا حَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَأَصَحُّهُمَا لَكِنْ آخِرُ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدْلَيْنِ فَفِي الْأُمِّ قَالَ الرَّبِيعُ قَالَ الشَّافِعِيِّ بَعْدُ لَا يَجُوزُ عَلَى رَمَضَانَ إلَّا شَاهِدَانِ ، وَإِذَا قُلْنَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدُ فَهَلْ هُوَ رِوَايَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ شَهَادَةٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَهَلْ

يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ هُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً وَلَا فَرْقَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ عَلَى الِاكْتِفَاءٍ فِي ثُبُوتِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ لَكِنْ خَصُّوا ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ إلَّا مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ وَأَجْرَوْهُ مُجْرَى الرِّوَايَةِ فَقَبِلُوا فِيهِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ وَقَالُوا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَذَهَبَتْ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَسَائِرِ الشُّهُودِ ، وَقَالَ بِهِ أَيْضًا الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، وَعَدِيٌّ أَبُو ثَوْرٍ الثُّبُوتُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ إلَى شَوَّالٍ أَيْضًا وَعَدَّاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى ذِي الْحَجَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْحَجِّ وَذَلِكَ بِرَدِّ قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْإِفْطَارِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ .

( السَّابِعَةُ ) قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ بِبَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْ أَهْلُ بَلَدٍ أُخْرَى لَمْ يَرِدْ فِيهَا الصَّوْمُ لِقَوْلِهِ { حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ } وَأَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ يَرَوْهُ .
وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالَ بِتَعَدِّيهِ إلَى بَقِيَّةِ الْبِلَادِ فَإِنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَتَوَقَّفُ الْحَالُ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِهِ بِالْبَلَدِ بَلْ إذَا ثَبَتَ بِقَوْلِ مَنْ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ فِي الشَّرِيعَةِ تَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ فَبَعْضُهُمْ بَالَغَ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِمْ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي اسْتِهْلَالِهِ رَمَضَانَ بِالشَّامِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ الْعِدَّةَ أَوْ نَرَاهُ .
وَقَالَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثَ الْعَامَّ يَعْنِي قَوْلَهُ { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } لَا حَدِيثًا خَاصًّا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي انْتَهَى .
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ آخَرُونَ إذَا رُئِيَ بِبَلْدَةٍ لَزِمَ أَهْلَ جَمِيعِ الْبِلَادِ الصَّوْمُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قَالَ

بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا إنْ تَقَارَبَتْ الْبَلَدَانِ فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ تَبَاعَدَتَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ وَالثَّانِي الْوُجُوبُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ .
وَقَالَ إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَاخْتَارَهُ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَفِي ضَبْطِ الْبُعْدِ أَوْجُهٌ : ( أَحَدُهَا ) وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ التَّبَاعُدَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَطَالِعُ كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ ، وَالتَّقَارُبَ أَنْ لَا تَخْتَلِفَ كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالرَّيِّ وَقَزْوِينَ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ التَّبَاعُدَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَادَّعَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِهِ الصَّغِير وَالْمُحَرَّرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
( وَالثَّالِثُ ) اعْتِبَارُهُ بِاتِّحَادِ الْأَقَالِيمِ وَاخْتِلَافِهِ وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ كُلَّ بَلَدٍ لَا يُتَصَوَّرُ خَفَاؤُهُ عَنْهُمْ بِلَا عَارِضٍ يَلْزَمُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إنْ ثَبَتَ بِأَمْرٍ شَائِعٍ لَزِمَ الْبَعِيدَ وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ وِلَايَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءَ جَمَاعَتُهُمْ إذَا كَتَبَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ إلَى مَنْ لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ حَكَاهُ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ .
وَقَدْ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ .

( الثَّامِنَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَعَلَى وُجُوبِ الْإِفْطَارِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِفْطَارِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ وَحْدَهُ فَقَالَ الثَّلَاثَةُ لَا يُفْطِرُ بَلْ يَسْتَمِرُّ صَائِمًا احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَلْزَمُهُ الْفِطْرُ وَلَكِنْ يُخْفِيهِ لِئَلَّا يُتَّهَمَ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصُومُ بِرُؤْيَتِهِ وَحْدَهُ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ .

( التَّاسِعَةُ ) يَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ رُؤْيَتَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا لَكِنَّهُ إذَا رُئِيَ نَهَارًا فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَصُومُوا وَإِنْ كَانَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُفْطِرُوا وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ، وَذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهُ إنْ رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ الْهِلَالُ مَعْنَاهُ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ غَيْمٌ يُقَالُ غُمَّ وَأُغْمِيَ وَغُمِيَ وَغُمِّيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِهَا وَالْغَيْنُ مَضْمُومَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِك غَمَمْت الشَّيْءَ إذَا غَطَّيْته فَهُوَ مَغْمُومٌ وَيُقَالُ أَيْضًا غَبِيَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ خَفِيَ ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ غُبِّيَ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُمَا مِنْ الْغَبَاءِ بِالْمَدِّ وَهُوَ شِبْهُ الْغُبْرَةِ فِي السَّمَاءِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ فِيهِ أَيْضًا { فَإِنْ عُمِيَ عَلَيْكُمْ } بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْعَمَى قَالَ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَابُ الْبَصَرِ عَنْ الْمُشَاهَدَاتِ أَوْ ذَهَابُ الْبَصِيرَةِ عَنْ الْمَعْقُولَاتِ .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : بَدَأَ بِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك أَقْسَمْتَ أَلَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّك قَدْ دَخَلْت عَنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ ؟ فَقَالَ إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرِينَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بَدَأَ بِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّك قَدْ دَخَلْت عَنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ فَقَالَ إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرِينَ } كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّوْمِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَفِي الطَّلَاقِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّوْمِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ عَنْ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ شَهْرًا } قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَذَكَرَهُ فِي الطَّلَاقِ عَقِبَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُؤَالِهِ عُمَرَ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ وَفِي آخِرِهِ وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِنَحْوِهِ ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ إنَّك حَلَفْت أَنْ لَا تَدْخُلَ شَهْرًا فَقَالَ إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ

حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ { آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ } وَرُوِيَتْ الْقِصَّةُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَابِرٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَغَيْرِهِمَا .
( الثَّانِيَةُ ) اسْتَشْكَلَ قَوْلُهَا { فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَيَّ } لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ شَهْرٌ لَا عَلَى الْكَمَالِ وَلَا عَلَى النُّقْصَانِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا فَإِنَّ الْعَرَبَ تُؤَرِّخُ بِاللَّيَالِيِ وَتَكُونُ الْأَيَّامُ تَابِعَةً لَهَا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ( فَإِنْ قُلْت ) فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَخَرَجَ إلَيْنَا صَبَاحَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ دُخُولُهُ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ قُلْت قَدْ أَوَّلُهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ صَبَاحُ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَهِيَ صَبِيحَةُ ثَلَاثِينَ وَدَعَاهُ إلَى ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا يَقْطَعُ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ ذِكْرِهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ : مَعْنَاهُ كُلُّهُ بَعْدَ تَمَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ فَلَمَّا مَضَى تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا .
( الثَّالِثَةُ ) صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ حَلِفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى أَزْوَاجِهِ شَهْرًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا { آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مِنْ نِسَائِهِ } أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَلِفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَإِنَّ الْإِيلَاءَ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الْحَلِفِ لَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فِي حَلِفٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَا يُسْتَعْمَلُ الْإِيلَاءُ عِنْدَهُمْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَالْإِيلَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ الزَّوْجَةِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَمَا دُونَهَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا وَتَعْدِيَتُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهَا بِمَنْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ رَاعَى الْمَعْنَى وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الدُّخُولِ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِمِنْ .

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ جَوَازُ هِجْرَانِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا تَعَلَّقَتْ بِذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ مِنْ صَلَاحِ حَالِ الْمَهْجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ الْمَهْجُورُ مُبْتَدِعًا أَوْ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ فَلَا يَحْرُمُ مُهَاجَرَتُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا هِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } فَمَحَلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْهِجْرَانُ لِحُظُوظِ النَّفْسِ وَتَعَنُّتَاتِ أَهْلِ الدُّنْيَا .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ هَذَا فِي الْهِجْرَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ بِأَنْ كَانَ الْمَهْجُورُ مَذْمُومَ الْحَالِ لِبِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِدِينِ الْهَاجِرِ أَوْ الْمَهْجُورِ فَلَا يَحْرُمُ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ثَبَتَ مِنْ { هَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ وَنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَةَ عَنْ كَلَامِهِمْ } ، وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ هِجْرَانِ السَّلَفِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا انْتَهَى .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِبَدَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا قَبْلَ بَقِيَّةِ زَوْجَاتِهِ .
( السَّادِسَةُ ) هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْسَمَ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ عَلَى أَزْوَاجِهِ شَهْرًا بِعَيْنِهِ بِالْهِلَالِ وَجَاءَهُ ذَلِكَ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَلَوْ تَمَّ ذَلِكَ الشَّهْرُ وَلَمْ يَرَ الْهِلَالَ فِيهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ لَمَكَثَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَمَّا لَوْ أَقْسَمَ عَلَى تَرْكِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مُطْلَقًا لَمْ يَنْطَبِقْ الْحَلِفُ فِيهِ عَلَى أَوَّلِ الْهِلَالِ لَمْ يَبَرَّ إلَّا بِشَهْرٍ تَامٍّ بِالْعَدَدِ ، هَذَا هُوَ الَّذِي نَعْرِفُهُ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ بِالِاكْتِفَاءِ بِتِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ فَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَهُ ( فَإِنْ قُلْت ) إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ شَهْرًا بِعَيْنِهِ بِالْهِلَالِ ، وَقَدْ رُئِيَ لِتَمَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَمَا وَجْهُ السُّؤَالِ عَنْهُ ، وَقَدْ كَمُلَ الشَّهْرُ بِالرُّؤْيَةِ ؟ ( قُلْت ) يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا .
( أَحَدُهَا ) أَنَّ السَّائِلَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ شَهْرٌ يُعَيِّنُهُ بِالْهِلَالِ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ شَهْرٌ عَدَدِيٌّ فَبَنَى عَلَى ذَلِكَ سُؤَالَهُ .
( ثَانِيهَا ) لَعَلَّ السَّائِلَ لَمْ يَعْلَمْ قَبْلَ ذَلِكَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ الْمُعْتَبَرَ بِعَيْنِهِ بِالْهِلَالِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْهِلَالُ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُ الشَّارِعُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
( ثَالِثُهَا ) يُحْتَمَلُ أَنَّ السَّائِلَ عَرَفَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ شَهْرٌ بِعَيْنِهِ بِالْهِلَالِ وَعَرَفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْهِلَالُ دُونَ الْعَدَدِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَأَوْا الْهِلَالَ لِمَانِعٍ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَنْتَصِبُوا لِرُؤْيَتِهِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ رَمَضَانَ وَلَا شَعْبَانَ وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَيْبِ انْقِضَاءَ

الشَّهْرِ بِوَحْيٍ فَأَخْبَرَ بِهِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ { أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ } .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرِينَ ) كَذَا فِي أَصْلِنَا وَعِشْرِينَ وَكَأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمُقَدَّرَةِ تَقْدِيرُهُ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَحَذْفُ كَانَ وَاسْمِهَا وَإِبْقَاءُ عَمَلِهَا إنَّمَا هُوَ كَثِيرٌ بَعْد إنْ أَوْ لَوْ لَكِنَّهُ قَدْ وَرَدَ بَعْدَ غَيْرِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : مِنْ لَدُ شَوْلًا فَإِلَى ائْتِلَافِهَا أَيْ مِنْ لَدُنْ كَانَتْ هِيَ شَوْلًا فَإِلَى أَنْ تَلَاهَا وَلَدُهَا ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تِسْعٌ مَنْصُوبٌ وَاسْتَغْنَى عَنْ كِتَابَتِهِ بِالْأَلِفِ بِجَعْلِ فَتْحَتَيْنِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا .
( الثَّامِنَةُ ) إنْ قُلْت ظَاهِرُهُ حَصْرُ الشَّهْرِ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ ( قُلْت ) عَنْهُ أَجْوِبَةٌ .
( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَحِينَئِذٍ فَلَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي أَقْسَمَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى الْغَالِبِ الْأَكْثَرِ ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الشَّهْرِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ مَا صُمْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ ، وَكَذَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( رَابِعُهَا ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مَعْنَاهُ حَصْرُهُ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَهُوَ النُّقْصَانُ

أَيْ إنَّهُ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَهُوَ أَقَلُّهُ ، وَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَهُوَ أَكْثَرُهُ فَلَا تَأْخُذُوا أَنْتُمْ بِصَوْمِ الْأَكْثَرِ أَنْفُسَكُمْ احْتِيَاطًا وَلَا تَقْصُرُوا عَلَى الْأَقَلِّ تَخْفِيفًا وَلَكِنْ اُرْبُطُوا عِبَادَتَكُمْ بِرُؤْيَتِهِ وَاجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ مُرْتَبِطَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً بِاسْتِهْلَالِهِ انْتَهَى .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ يَوْمَئِذٍ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَهُ مِنْ الْفَضْلِ .
زَادَ مُسْلِمٌ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا إمَّا مَنْسُوخٌ كَمَا رَجَّحَهُ الْخَطَّابِيُّ أَوْ مَرْجُوحٌ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْبُخَارِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ { عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ( التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ ) وَعِنْدَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ يَوْمَئِذٍ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مَرْجُوحٌ ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا فَقَالَ ، وَقَالَ هَمَّامُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ } وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَالْقَارِئُ قَالَ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ ( لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا أَنَا قُلْت مَنْ أَدْرَكَهُ الصُّبْحُ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَا يَصُمْ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ ) لَفْظُ النَّسَائِيّ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْكُبْرَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( أَنَّهُ احْتَلَمَ لَيْلًا فِي رَمَضَانَ فَاسْتَيْقَظَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ ثُمَّ نَامَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ فَلَقِيت أَبَا هُرَيْرَةَ حِينَ أَصْبَحْت فَاسْتَفْتَيْته فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَفْطِرْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ إذَا أَصْبَحَ الرَّجُلُ جُنُبًا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَجِئْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ فَذَكَرْت لَهُ الَّذِي أَفْتَانِي بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَئِنْ أَفْطَرْت لَأُوجِعَنَّ مَتْنَيْك صُمْ فَإِنْ بَدَا لَك أَنْ تَصُومَ يَوْمًا آخَرَ فَافْعَلْ ) .
ثُمَّ رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ

فَذَكَرَ مِثْلَهُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : اخْتَلَفَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ فِي اسْمِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَلَمْ يُسَمِّهِ وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ أَشَارَ بِهِ إلَى مَا رَوَاهُ قَبْلَهُ { عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ } وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَعْلَمُ " .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَفِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَهُمَا قَالَتَاهُ لَك ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ هُمَا أَعْلَمُ ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَقَالَ سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ الْفَضْلِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ .
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ الْكُبْرَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ هِيَ يَعْنِي عَائِشَةَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا إنَّمَا كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي بِذَلِكَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِيهِ وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ فَقَالَ لَسْت مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا

أَتْقَاكُمْ } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ نَهْيُ مَنْ أَجْنَبَ لَيْلًا وَاسْتَمَرَّ جُنُبًا فَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ عَنْ الصَّوْمِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ كَالْجِمَاعِ أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِاحْتِلَامٍ وَلَا بَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ كَانَ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ إنَّهُ لَوْ صَامَ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَاهُ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَاَلَّذِي حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ مَا سَأَحْكِيهِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَفِيهِ ( قَوْلٌ ثَانٍ ) أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِجَنَابَتِهِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ فَهُوَ مُفْطِرٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى أَصْبَحَ فَهُوَ صَائِمٌ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَطَاوُسٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَفِيهِ قَوْلٌ ( ثَالِثٌ ) أَنَّهُ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَيَقْضِيهِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلٍ ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ حُكِيَ أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَفِيهِ قَوْلٌ ( رَابِعٌ ) أَنَّهُ يُجْزِئُهُ فِي التَّطَوُّعِ وَيَقْضِي فِي الْفَرْضِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِيهِ قَوْلٌ ( خَامِسٌ ) وَهُوَ صِحَّةُ صَوْمِهِ مُطْلَقًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ رَمَضَانُ وَغَيْرُهُ وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِجَنَابَتِهِ أَمْ لَا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ هُوَ قَوْلُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى ثُمَّ ارْتَفَعَ هَذَا الْخِلَافُ ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا عَلَى صِحَّتِهِ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَقِيلَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ وَفِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِأَهْلِ الْأُصُولِ قَالَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ صَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا أَوْ كَالْإِجْمَاعِ .
( الثَّالِثَةُ ) أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي تَأْوِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى النَّسْخِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمًا عَلَى الصَّائِمِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ الْجِمَاعَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لِلْجُنُبِ إذَا أَصْبَحَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِارْتِفَاعِ الْحَظْرِ الْمُتَقَدِّمِ فَيَكُونَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ أَيْ مَنْ جَامَعَ فِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ فَلَا يُجْزِئُهُ صَوْمُ غَدِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصْبِحُ جُنُبًا إلَّا وَلَهُ أَنْ يَطَأَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُفْتِي بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسْخِ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَرَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَجَعَ إلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ

أَنَّهُ قَالَ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ فُتْيَاهُ فِيمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَنَّهُ لَا يَصُومُ انْتَهَى وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَقَالَ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى النَّسْخِ ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْخَطَّابِيِّ ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْوَجْهُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّهُ مَرْجُوحٌ قَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْبُخَارِيُّ فَقَالَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ وَذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَتَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَعَانٍ : ( مِنْهَا ) أَنَّهُمَا زَوْجَتَاهُ وَزَوْجَتَاهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ رَجُلٍ إنَّمَا يَعْرِفُهُ سَمَاعًا أَوْ خَبَرًا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ عَائِشَةَ مُقَدَّمَةٌ فِي الْحِفْظِ وَأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَافِظَةٌ وَرِوَايَةُ اثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الَّذِي رَوَتَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَعْقُولِ وَالْأَشْبَهُ بِالسُّنَنِ حَكَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ قَالَ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذَا ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْغُسْلَ شَيْءٌ وَجَبَ بِالْجِمَاعِ وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ عَلَى صَائِمٍ ، وَقَدْ يَحْتَلِمُ بِالنَّهَارِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْ فِي نَهَارٍ ، وَجَعْلُهُ شَبِيهًا بِالْمُحْرِمِ يُنْهَى عَنْ الطِّيبِ ثُمَّ يَتَطَيَّبُ حَلَالًا ثُمَّ يُحْرِمُ وَعَلَيْهِ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ التَّطَيُّبِ كَانَ وَهُوَ مُبَاحٌ ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَدْ يَسْمَعُ الرَّجُلُ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ جَامَعَ بِلَيْلٍ

فَأَقَامَ مُجَامِعًا بَعْدَ الْفَجْرِ شَيْئًا فَأَمَرَ بِأَنْ يَقْضِيَ ( فَإِنْ قَالَ ) فَكَيْفَ إذَا أَمْكَنَ هَذَا عَلَى مُحَدِّثٍ ثِقَةٍ ثَبَتَ حَدِيثُهُ وَلَزِمَتْ بِهِ حُجَّةٌ ، قِيلَ كَمَا يَلْزَمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْحُكْمُ فِي الْمَالِ وَالدَّمِ مَا لَمْ يُخَالِفْهُمَا غَيْرُهُمَا ، وَقَدْ يُمْكِنُ عَلَيْهِمَا الْغَلَطُ وَالْكَذِبُ وَلَوْ شَهِدَ غَيْرُهُمَا بِضِدِّ شَهَادَتِهِمَا لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا كَمَا تُسْمَعُ إذَا انْفَرَدَ ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذَا انْتَهَى .
وَمِنْ الْعَجِيبِ إهْمَالُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ هَذَا الْجَوَابَ مَعَ كَوْنِهِ جَوَابَ صَاحِبِ مَذْهَبِهِ الَّذِي هُوَ مُقَلِّدُهُ .

( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْفَجْرِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ، وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَقَالَ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَنْ أَصْبَحَ مُجَامِعًا وَالشَّيْءُ يُسَمَّى بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مَآلُهُ فِي الْعَاقِبَةِ إلَيْهِ .
( رَابِعًا ) إنَّهُ إرْشَادٌ إلَى الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَوْ خَالَفَ جَازَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجَوَابُهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، ثُمَّ قَالَ ( فَإِنْ قِيلَ ) كَيْفَ يَقُولُونَ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَفْضَلُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُهُ ( فَالْجَوَابُ ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَيَكُونُ فِي حَقِّهِ حِينَئِذٍ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيَانَ لِلنَّاسِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ وَهَذَا كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَيَانًا لِلْجَوَازِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَ أَفْضَلُ وَهُوَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَطَافَ عَلَى الْبَعِيرِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّوَافَ مَاشِيًا أَفْضَلُ وَهُوَ الَّذِي تَكَرَّرَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ انْتَهَى .

( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَلَمَ فِي اللَّيْلِ وَأَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ وَأَصْبَحَ جُنُبًا بِالِاحْتِلَامِ أَوْ احْتَلَمَ بِالنَّهَارِ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صَوْمِ الْجُنُبِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى .
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَائِدَةِ قَبْلَهَا قَدْ تُوَافِقُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِتَصْوِيرِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالْجِمَاعِ وَلِقِيَاسِهِ عَلَى الِاحْتِلَامِ بِالنَّهَارِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ إجْمَاعًا قَدِيمًا قَبْلَ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ لَكِنَّ فَتْوَى أَبِي هُرَيْرَةَ لِوَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ فَتْوَاهُ بِالْجِمَاعِ بَلْ طَرَدَهُ فِي الِاحْتِلَامِ أَيْضًا ، وَكَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي نَقْلِ الْمَذَاهِبِ يُوَافِقُ ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلًا مُفَصَّلًا بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَنَابَتِهِ ثُمَّ يَنَامَ قَبْلَ الصُّبْحِ أَمْ لَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي إدْخَالِ صُورَةِ الِاحْتِلَامِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) فِي مَعْنَى مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا الْحَائِضٌ أَوْ النُّفَسَاءُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لَيْلًا ثُمَّ طَلَعَ الْفَجْرُ قَبْلَ اغْتِسَالِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِصِحَّةِ صَوْمِهَا وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّا لَا نَعْلَمُ أَصَحَّ عَنْهُ أَمْ لَا .
قَالَ وَسَوَاءٌ تَرَكَتْ الْغُسْلَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْجُنُبِ ( قُلْت ) فِي حِكَايَةِ النَّوَوِيِّ إجْمَاعَ الْكَافَّةِ إلَّا مَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ نَظَرٌ ، فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُ مُنْقَطِعَةِ الْحَيْضِ حَتَّى تَغْتَسِلَ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهَا إذَا أَخَّرَتْ غُسْلَهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَيَوْمُهَا يَوْمُ فِطْرٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي بَعْضِهِ غَيْرِ طَاهِرٍ وَلَيْسَتْ كَاَلَّذِي يُصْبِحُ جُنُبًا فَيَصُومُ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ لَا يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَالْحَيْضَ يَنْقُضُهُ ، وَقَالَ هَذِهِ غَفْلَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَيْفَ تَكُونُ فِي بَعْضِهِ حَائِضًا ، وَقَدْ كَمُلَ طُهْرُهَا قَبْلَ الْفَجْرِ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ أَنَّهُ رَأَى عَلَيْهَا قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا أَشْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ ، قَالُوا فَإِنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ إنِّي لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { إنِّي أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، قَالُوا إنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ إنِّي لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، قَالُوا فَإِنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنِّي لَسْت فِي ذَلِكَ مِثْلَكُمْ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَاكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ } زَادَ الشَّيْخَانِ فِي رِوَايَةٍ { فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِين أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ } وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ } وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { نَهَاهُمْ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ } .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْوِصَالِ ، قَالُوا فَإِنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ إنِّي لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، قَالُوا إنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ إنِّي لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ ، قَالُوا فَإِنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنِّي لَسْت فِي ذَلِكُمْ مِثْلَكُمْ ، إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي فَاكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ فِي رَمَضَانَ فَوَاصَلَ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ فَقِيلَ لَهُ إنَّك تُوَاصِلُ ، قَالَ إنِّي لَسْت مِثْلَكُمْ إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى } وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي رَمَضَانَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى قِيلَ إنَّهُ ابْنُ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ { فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ

لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ } كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي صَالِحٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ { إنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلِي } وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَتْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، وَعَزْوُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ لِمُسْلِمٍ وَهْمٌ .
( الثَّانِيَةُ ) الْوِصَالُ هُنَا أَنْ يَصُومَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَلَا يَتَنَاوَلُ فِي اللَّيْلِ لَا مَاءً وَلَا مَأْكُولًا فَإِنْ أَكَلَ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ شَرِبَ وَلَوْ قَطْرَةً فَلَيْسَ وِصَالًا ، وَكَذَا إنْ أَخَّرَ الْأَكْلَ إلَى السَّحَرِ لِمَقْصُودٍ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِوِصَالٍ كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ هُوَ أَنْ يَصِلَ صَوْمَ اللَّيْلِ بِصَوْمِ النَّهَارِ قَصْدًا فَلَوْ جَرَكَ الْأَكْلَ بِاللَّيْلِ لَا عَلَى قَصْدِ الْوِصَالِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ لَمْ يَحْرُمْ ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ الْعِصْيَانُ فِي الْوِصَالِ لِقَصْدِهِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَالْفِطْرُ حَاصِلٌ بِدُخُولِ اللَّيْلِ كَالْحَائِضِ إذَا صَلَّتْ عَصَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا صَلَاةٌ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهُوَ خِلَافُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ وَخِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْوِصَالَ تَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيْلِ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ عَمْدًا بِلَا عُذْرٍ ، قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْإِسْنَوِيُّ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَا عَدَا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ كَالْجِمَاعِ وَالِاسْتِقَاءَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْوِصَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْوِصَالِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الضَّعْفِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَزِيدُهُ أَوْ لَا تَمْنَعُ حُصُولَهُ لَكِنْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْهُمْ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ قَالَ الْوِصَالُ الْمَكْرُوهُ أَنْ لَا يَطْعَمَ

بِاللَّيْلِ بَيْنَ يَوْمَيْ صَوْمٍ وَيَسْتَدِيمَ جَمِيعَ أَوْصَافِ الصَّائِمِينَ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي قَالَ الْوِصَالُ أَنْ يَتْرُكَ بِاللَّيْلِ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إفْطَارٍ ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ يَزُولُ بِمَا يَزُولُ بِهِ صُورَةُ الصَّوْمِ ، قَالَ شَيْخُنَا الْإِسْنَوِيُّ أَيْضًا وَتَعْبِيرُهُمْ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِمْسَاكِ كَتَارِكِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ بِاللَّيْلِ مِنْ تَعَاطِي الْمُفْطِرَاتِ وِصَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ صَوْمَيْنِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ انْتَهَى .
وَكَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوِصَالَ هُوَ الْإِمْسَاكُ بَعْدَ حَلِّ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ حَكَى فِي حُكْمِهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : التَّحْرِيمُ ، وَالْجَوَازُ ، وَثَالِثُهَا : أَنْ يُوَاصِلَ إلَى السَّحَرِ قَالَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ثُمَّ قَالَ وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُوَاصَلَةَ إلَى السَّحَرِ دَاخِلَةٌ فِي حَدِّ الْوِصَالِ وَأَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْوِصَالِ حَرَامٌ حَتَّى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاصِلَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِتَأْخِيرِ الْفِطْرِ قَلِيلًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ لَا أَهْلُ الظَّاهِرِ وَلَا غَيْرُهُمْ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا حَكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ كَإِمْسَاكِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ أَجْرُ الصَّائِمِ انْتَهَى وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْدُودٌ ، أَمَّا تَحْرِيمُ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إنَّمَا أَرَادَ تَحْرِيمَ الْإِمْسَاكِ الْمُسْتَمِرِّ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ وَلَمْ يُرِدْ تَحْرِيمَ مُطْلَقِ الْإِمْسَاكِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إلَى ذَلِكَ نِيَّةُ الصَّوْمِ وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ صَوْمًا شَرْعِيًّا

وَالْخَلَلُ فِي ذَلِكَ مِنْ عِبَارَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهَا غَيْرُ وَافِيَةٍ بِالْمَقْصُودِ ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ لَهُ أَجْرَ الصَّائِمِ فَكَيْفَ يَصِحُّ وَاللَّيْلُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ وَلَوْ نَوَاهُ فِيهِ لَمْ يَنْعَقِدْ فَكَيْفَ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَوْمِهِ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْوِصَالِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ وَالْكَرَاهَةَ لَكِنَّ قَوْلَهُ إيَّاكَ وَالْوِصَالَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لَا تُوَاصِلُوا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ كَرَاهَتَهُ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ ( أَصَحُّهُمَا ) عِنْدَهُمْ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ، وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ قَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ ثُمَّ اخْتَارَ جَوَازَهُ إلَى السَّحَرِ وَكَرَاهِيَتَهُ إلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ تَقْرِيرِهِ كَرَاهَتَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ } .
{ وَبِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا } .
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ أَنَسٍ { لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ } .
وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِهِ عَنْ قَوْلِهَا رَحْمَةً لَهُمْ بِأَنَّ

ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِلتَّحْرِيمِ وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ .
لِئَلَّا يَتَكَلَّفُوا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَعَنْ الْوِصَالِ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا بِأَنَّهُ احْتَمَلَ لِلْمَصْلَحَةِ فِي تَأْكِيدِ زَجْرِهِمْ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ تَمْكِينُهُمْ مِنْهُ تَنْكِيلٌ لَهُمْ وَمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا يَكُونُ مِنْ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي الْوِصَالِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَفْعَلُهُ ، وَرَوَى ابْنُ شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي نَوْفَلِ بْنِ عَقْرَبٍ قَالَ دَخَلْت عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ صَبِيحَةَ خَمْسَةَ عَشْرَ مِنْ الشَّهْرِ وَهُوَ مُوَاصِلٌ .
وَعَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا حَتَّى يُعَادَ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْوِصَالِ لِلصَّائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَهُوَ مُفْطِرٌ ثُمَّ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ سَبْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ قَالَ وَتَأَوَّلَ فِي السَّمْنِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْأَمْعَاءَ وَاللَّبَنُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ وَالصَّبِرُ يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ .
وَفِي الِاسْتِذْكَارِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثًا فَقِيلَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ؟ قَالَ لَا وَمَنْ يَقْوَى ، يُوَاصِلُ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةً ، وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ ابْنِ وَضَّاحٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ مَا احْتَجَّ بِهِ الذَّاهِبُونَ إلَى الْكَرَاهَةِ وَقَالُوا نَهْيُهُمْ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةٌ بِهِمْ وَرِفْقٌ لَا إلْزَامٌ وَحَتْمٌ .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ وَيَرُدُّهُ تَصْرِيحُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحِجَامَةِ وَالْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تُوَاصِلُ إلَى السَّحَرِ فَقَالَ إنَّنِي أُوَاصِلُ إلَى السَّحَرِ وَرَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } .
( الرَّابِعَةُ ) فِي قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك تُوَاصِلُ ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِوَاءِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَبَتَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فَطَلَبُوا الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي النَّهْيِ وَفِعْلِهِ الدَّالِ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ فَأَجَابَهُمْ بِاخْتِصَاصِ فِعْلِهِ بِهِ وَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَى غَيْرِهِ .
( الْخَامِسُ ) فِيهِ إنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إبَاحَةُ الْوِصَالِ لَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ وَفَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ رَسُولِهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أُمُورٍ أَبَاحَهَا لَهُ وَحَظَرَهَا عَلَيْهِمْ ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْوِصَالَ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الْوِصَالُ مِنْ خَصَائِصِ مَا أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى أُمَّتِهِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ اتِّفَاقَ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْخَصَائِصِ ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافًا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي حَقِّهِ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إنِّي لَسْت فِي ذَلِكُمْ مِثْلَكُمْ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَالِ } .
( السَّادِسَةُ ) فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ {

امْرَأَةِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَتْ كُنْت أَصُومُ فَأُوَاصِلُ فَنَهَانِي بَشِيرٌ ، وَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانِي عَنْ هَذَا قَالَ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصَارَى وَلَكِنْ صُومِي كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أَتَمِّي الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَأَفْطِرِي } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ مُخَالَفَةُ النَّصَارَى فِي فِعْلِهِمْ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حُجَّةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ أُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنْ الصِّيَامِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ أَوْ يَمَلَّهَا وَيَسْأَمَ لِضَعْفِهِ بِالْوِصَالِ إذْ يَتَضَرَّرُ بَدَنُهُ أَوْ بَعْضُ حَوَاسِّهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ انْتَهَى .
وَيُشِيرُ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ { فَاكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ } ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ خَوْفَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهُ كَمَا وَرَدَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَعَلَى هَذَا فَقَدْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .

( السَّابِعَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى } وَقَوْلِهِ { إنِّي أَبَيْت يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي } عَلَى أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ مَعْنَاهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ الطَّاعِمِ الشَّارِبِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إذْ لَوْ أَكَلَ حَقِيقَةً لَمْ يَبْقَ وِصَالٌ وَلَقَالَ مَا أَنَا بِمُوَاصِلٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي } وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ هُنَا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي التَّمَنِّي وَعَزْوُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَحْكَامِهِ الْكُبْرَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِلْبُخَارِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي أَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ كَمَا ذَكَرْته ، هَذَا هُوَ الَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ أَظَلُّ إلَّا فِي النَّهَارِ وَلَوْ أَكَلَ فِي النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا وَهَذَا أَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ ، وَقَالَهُ النَّوَوِيُّ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَقَالَ فَعَبَّرَ بِالطَّعَامِ وَالسُّقْيَا عَنْ فَائِدَتِهِمَا وَهِيَ الْقُوَّةُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُمَا .
( الثَّانِي ) أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهِ مِنْ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ مَا يُغْنِيهِ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ يُعْطَى قُوَّةَ الطَّاعِمِ الشَّارِبِ مِنْ غَيْرِ شِبَعٍ وَلَا رِيٍّ بَلْ مَعَ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ وَهَذَا أَكْمَلُ لِحَالِهِ ، وَعَلَى الثَّانِي يُخْلَقُ فِيهِ الشِّبَعُ بِلَا أَكْلٍ وَالرِّيُّ بِلَا شُرْبٍ وَهَذِهِ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ لَكِنَّهَا تُنَافِي حَالَةَ الصَّائِمِ وَتُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْ الصِّيَامِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُبْعِدُهُ النَّظَرُ إلَى حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ

كَانَ يَجُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْبَعُ وَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحِجَارَةَ مِنْ الْجُوعِ وَيُبْعِدُهُ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خُلِقَ فِيهِ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ لَمَا وَجَدَ لِعِبَادَةِ الصَّوْمِ رُوحَهَا الَّذِي هُوَ الْجُوعُ وَالْمَشَقَّةُ وَحِينَئِذٍ كَانَ يَكُونُ تَرْكُ الْوِصَالِ أَوْلَى انْتَهَى وَأَمَّا ابْنُ حِبَّانَ فَإِنَّهُ ضَعَّفَ حَدِيثَ وَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ الْجُوعِ بِهَذَا الْحَدِيثِ إمَّا حَمْلًا لَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجَوَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَإِمَّا تَمَسُّكًا بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ فَقَالَ هَذَا الْخَبَرُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ وَضْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ كُلُّهَا أَبَاطِيلُ ، قَالَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْحُجْزُ لَا الْحَجَرُ وَالْحُجْزُ طَرَفُ الْإِزَارِ إذْ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا كَانَ يُطْعِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْقِيهِ إذَا وَاصَلَ فَكَيْفَ يَتْرُكُهُ جَائِعًا مَعَ عَدَمِ الْوِصَالِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى شَدِّ حَجَرٍ عَلَى بَطْنِهِ ؟ وَمَا يُغْنِي الْحَجَرُ عَنْ الْجُوعِ ؟ انْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الرِّوَايَةِ وَبَعْضُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ صَرِيحَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُؤْتَى الطَّعَامَ مِنْ الْجَنَّةِ وَشَرِبَ مِنْهَا فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَرَامَةً لَهُ وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا وَبِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } وَلَفْظَةُ أَظَلُّ لَا تَكُونُ إلَّا فِي النَّهَارِ وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ الْحَقِيقِيُّ فِي النَّهَارِ بِلَا شَكٍّ وَمَنْ قَالَ هَذَا الْجَوَابُ لَعَلَّهُ يَخُصُّ مَنْعَ الْأَكْلِ نَهَارًا بِطَعَامِ الدُّنْيَا دُونَ طَعَامِ الْجَنَّةِ أَوْ يُؤَوِّلُ لَفْظَةَ أَظَلُّ عَلَى

مُطْلَقِ السُّكُونِ وَيَخْرُجهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا وَكُلًّا مِنْهَا بَعِيدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَشْغَلُنِي عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْحُبُّ الْبَالِغُ يَشْغَلُ عَنْهُمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ وَيَسْقِينِي بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ لُغَتَانِ أَشْهَرُهُمَا الْفَتْحُ ، وَقَوْلُهُ { فَاكْلَفُوا } بِفَتْحِ اللَّامِ مَعْنَاهُ خُذُوا وَتَحَمَّلُوا

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ أَوْ يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ ، وَأَيُّكُمْ كَانَ أَمْلَكَ لِإِرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ؟ زَادَ الشَّيْخَانِ فِي رِوَايَةٍ { وَيُبَاشِرُ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ } وَلِمُسْلِمٍ { فِي رَمَضَانَ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصه .

الْحَدِيثُ السَّابِعُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ أَوْ يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ وَأَيُّكُمْ كَانَ أَمْلَكَ لِإِرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لَفْظُ مُسْلِمٍ { يُقَبِّلُنِي } وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ { يُقَبِّلُ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ قُلْت لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ( أَسَمِعْتَ أَبَاك يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ نَعَمْ ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ كِلَاهُمَا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ } وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ ضُحِكَتْ } وَلَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ طُرُقٌ أُخْرَى ( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { وَأَيُّكُمْ كَانَ أَمْلَكَ لِإِرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ضُبِطَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهِمَا وَاخْتُلِفَ فِي الْأَشْهَرِ مِنْهُمَا فَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ أَشْهَرُهُمَا وَرِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ ، قَالَ وَكَذَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ وَحَكَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ الثَّانِيَ عَنْ رِوَايَةِ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ

مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ حَاجَةُ النَّفْسِ وَوَطَرُهَا يُقَالُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَرَبٌّ وَإِرْبٌ وَإِرْبَةٌ وَمَأْرَبَةٌ أَيْ حَاجَةٌ وَالْإِرْبُ أَيْضًا الْعُضْوُ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ وَمَعْنَاهُ بِالْكَسْرِ الْوَطَرُ وَالْحَاجَةُ وَكَذَلِكَ بِالْفَتْحِ وَلَكِنَّهُ يُطْلَقُ الْمَفْتُوحُ أَيْضًا عَلَى الْعُضْوِ ( قُلْت ) صَوَابُهُ الْمَكْسُورُ فَلَا نَعْلَمُ الْمَفْتُوحَ يُطْلَقُ عَلَى الْعُضْوِ ، وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ الْحَاجَةُ وَبِالْكَسْرِ فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ الْحَاجَةُ أَيْضًا ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ الْعُضْوُ وَعَنَتْ بِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ الذَّكَرَ خَاصَّةً ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ فِي رِوَايَةِ الْكَسْرِ فَسَّرُوهُ بِحَاجَتِهِ وَقِيلَ لِعَقْلِهِ وَقِيلَ لِعُضْوِهِ ثُمَّ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْخَطَّابِيُّ : كَذَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ وَالْأَرَبُ الْعُضْوُ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَرَبِهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَلِأُرْبَتِهِ أَيْ لِحَاجَتِهِ قَالُوا الْأَرَبُ أَيْضًا الْحَاجَةُ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُوَطَّإِ رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ { أَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِنَفْسِهِ } انْتَهَى .
وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ فَقَالَ وَمَعْنَى لِأَرَبِهِ تَعْنِي لِنَفْسِهِ ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ : وَهُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ أَوْلَى مَا فُسِّرَ بِهِ الْغَرِيبُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ ، وَفِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بَلَاغًا { وَأَيُّكُمْ أُمْلَكُ لِنَفْسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } انْتَهَى .
وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ أَنَّ الْأَرَبَ الْحَاجَةَ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ { كَانَ أَمْلَكَكُمْ لِأَرْبِهِ } أَيْ أَغْلَبَكُمْ لِهَوَاهُ وَحَاجَتِهِ ، وَقَالَ السُّلَمِيُّ الْأَرْبُ الْفَرْجُ هَهُنَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ا هـ وَتَخْصِيصُهُ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْفَرْجِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ كَمَا قَالَهُ وَلَكِنَّهُ لِمُطْلَقِ الْعُضْوِ وَأُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ

هُنَا عُضْوٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْفَرْجُ لِقَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْبُ الْعُضْوُ الْمُوَفَّرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ الْعُضْوُ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِأَنْ يَكُونَ مُوَفَّرًا كَامِلًا ( الثَّالِثَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ : ( أَحَدُهَا ) هَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَوَيْنَا الرُّخْصَةَ فِيهَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَا بَأْسَ بِهَا مَا لَمْ يُعِدْ ذَلِكَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَا بَأْسَ بِهَا وَإِنَّهَا لَبَرِيدُ سُوءٍ وَعَنْ مَسْرُوقٍ مَا أُبَالِي قَبَّلْتُهَا أَوْ قَبَّلْت يَدِي وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَرَجَّحَهُ وَاسْتَدَلَّ بِمَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ { أَنَّ رَجُلًا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ فَرَجَعَتْ فَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذَلِكَ فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا ، وَقَالَ لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ ثُمَّ رَجَعَتْ امْرَأَتُهُ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَوَجَدَتْ عِنْدهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَ أَلَا أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ قَدْ أَخْبَرْتُهَا فَذَهَبَتْ إلَى زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ فَزَادَهُ ذَلِكَ شَرًّا ، وَقَالَ

لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ يُحِلُّ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ هَلْ زَوْجُك شَيْخٌ أَوْ شَابٌّ وَلَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ مُرَادَهُ انْتَهَى .
وَالْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ رَوَاهَا أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَ عَطَاءً أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَاتَّصَلَ بِذَلِكَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَجَّحَهُ أَيْضًا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَقَالَ وَاَلَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ جَوَازُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ مُفْسِدٍ فَلَا يَلُمْ الشَّرِيعَةَ وَلَكِنْ لِيَلُمْ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الْمُسْتَرْسِلَةَ عَلَى الْمَخَاوِفِ .
( الثَّانِي ) كَرَاهَتُهَا لِلصَّائِمِ مُطْلَقًا وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطْلَقًا وَأَبِي قِلَابَةَ النَّهْيَ عَنْهَا وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ( مَا تَصْنَعُ بِخُلُوفِ فِيهَا ) وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَائِمٍ قَبَّلَ فَقَالَ أَفْطَرَ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَفَلَا يُقَبِّلُ جَمْرَةً ؟ وَعَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي يَتَّقِي اللَّهَ وَلَا يَعُودُ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ تُنْقِصُ صِيَامَهُ وَلَا يُفْطِرُ لَهَا ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ تَجْرَحُ الصَّوْمَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا الصَّوْمُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْقُبْلَةُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ اللَّيْلُ قَرِيبٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا

وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَغَيْرِهِمَا كَرَاهَتُهَا لِلصَّائِمِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ ( قُلْت ) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُصَنِّفِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَفْطَرَ وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ مَنْ قَبَّلَ فِي رَمَضَانَ قَضَى يَوْمًا مَكَانَهُ وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ ، وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الْقُبْلَةَ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا إنْزَالٌ ، وَرَوَى مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ لَمْ أَرَ الْقُبْلَةَ تَدْعُو إلَى خَيْرٍ وَبِالْكَرَاهَةِ يَقُولُ مَالِكٌ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ شَأْنُهُ فِي الِاحْتِيَاطِ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ فَتُكْرَهُ لِلشَّابِّ دُونَ الشَّيْخِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَكْحُولٍ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ مَا قَدَّمْته مِنْ الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقُبْلَةِ الْجِمَاعَ وَالْإِنْزَالَ فَتُبَاحَ ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَأْمَنَ فَتُكْرَهَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْقُبْلَةَ مَكْرُوهَةٌ فِي الصَّوْمِ لِمَنْ حَرَّكَتْ شَهْوَتَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا تُكْرَهُ لَهُ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهَا لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ الِاقْتِصَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْكَرَاهَةِ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ، وَقَدْ جَعَلَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ

الْقَوْلُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ وَأَنَّ التَّغَايُرَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَارَةِ وَالْمَعْنَى هُوَ وَاحِدٌ هُوَ الَّذِي تُفْهِمُهُ عِبَارَةُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَلَهُ وَجْهٌ وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالشَّيْخِ وَالشَّابِّ جَرْيٌ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَحْوَالِ الشُّيُوخِ فِي انْكِسَارِ شَهْوَتِهِمْ وَمِنْ أَحْوَالِ الشَّبَابِ فِي قُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ فَلَوْ انْعَكَسَ الْأَمْرُ كَشَيْخٍ قَوِيِّ الشَّهْوَةِ وَشَابٍّ ضَعِيفِ الشَّهْوَةِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ وَجَعَلْتهمَا مَذْهَبَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ اعْتَبَرَ الْمَظِنَّةَ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى نَفْسِ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِهَا ، وَصَاحِبَ الْقَوْلِ الرَّابِعِ نَظَرَ إلَى وُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى مَظِنَّتِهِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ فِي ذَلِكَ فَالِاعْتِبَارُ بِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْإِنْزَالِ فَإِنْ حَرَّكَتْ شَهْوَةَ شَابٍّ أَوْ شَيْخٍ قَوِيٍّ كُرِهَتْ وَإِنْ لَمْ تُحَرِّكْهَا كَشَيْخٍ أَوْ شَابٍّ ضَعِيفٍ لَمْ تُكْرَهْ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُقَبِّلُ ذَا شَهْوَةٍ مُفْرِطَةٍ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا قَبَّلَ أَنْزَلَ ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْقُبْلَةُ وَإِنْ كَانَ ذَا شَهْوَةٍ لَكِنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ التَّقْبِيلُ وَلَا يَحْرُمُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُحَرِّكُ الْقُبْلَةُ شَهْوَتَهُ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَفِي الْكَرَاهَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ .
( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) التَّفْرِقَةُ بَيْنَ صِيَامِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فَيُكْرَهُ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُقَبِّلُ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { كَانَ يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ } فَاحْتَجَّ مَنْ

أَبَاحَ مُطْلَقًا بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَالَ الْأَصْلُ اسْتِوَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّ أَفْعَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرْعٌ يُقْتَدَى بِهِ فِيهَا وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَ مُطْلَقًا بِأَنَّ غَيْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُسَاوِيهِ فِي حِفْظِ نَفْسِهِ عَنْ الْمُوَاقَعَةِ بَعْدَ مَيْلِهِ إلَيْهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا خَاصًّا بِهِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهَا وَأَيُّكُمْ كَانَ أَمْلَكَ لِإِرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرُدُّهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْ هَذِهِ لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لِأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ هَذَا هُوَ الْحِمْيَرِيُّ .
كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ وَلَيْسَ هُوَ ابْنُ أُمِّ سَلِمَةَ وَاحْتَجَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ أَوْ بَيْنَ مَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُوَاقَعَةَ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَأْمَنُهَا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ آمِنًا مِنْ ذَلِكَ لِشِدَّةِ تَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ فَكُلُّ مَنْ أَمِنَ ذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَالْتَحَقَ بِهِ فِي حُكْمِهِ وَمَنْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُغَايِرٌ لَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ شَابٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ

اللَّهِ أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ قَالَ لَا ، فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَالَ أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ فَنَظَرَ بَعْضُنَا إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ ، إنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ } فِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ مُخْتَلَفُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَلَكِنْ بَدَلُ الْقُبْلَةِ الْمُبَاشَرَةُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ كَرِهَ الْقُبْلَةَ لَمْ يَكْرَهَا لِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا كَرِهَهَا خَشْيَةَ مَا تَؤُولُ إلَيْهِ مِنْ الْإِنْزَالِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْمَذْيُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ مَنْ قَبَّلَ وَسَلَّمَ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَرْخَصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ إلَّا وَهُوَ يَشْتَرِطُ السَّلَامَةَ مِمَّا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا مِمَّا يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَلَوْ قَبَّلَ فَأَمْذَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنُ عُلَيَّةَ ، وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْبَغْدَادِيُّونَ يَقُولُونَ إنَّ الْقَضَاءَ هُنَا اسْتِحْبَابٌ انْتَهَى وَحَكَى ابْنُ قُدَامَةَ الْفِطْرُ فِي صُورَةِ مَا إذَا قَبَّلَ فَأَمْذَى عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
( الرَّابِعَةُ ) الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ الْقُبْلَةِ تَقْبِيلُ الْفَمِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ سَوَاءٌ قَبَّلَ الْفَمَ أَوْ الْخَدَّ أَوْ غَيْرَهُمَا .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهَا { يُقَبِّلُ أَوْ يُقَبِّلُنِي } الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي اللَّفْظِ الَّذِي قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ الْجَزْمُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْجَزْمُ بِقَوْلِهَا { يُقَبِّلُنِي } أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَلَهَا شَوَاهِدُ وَهِيَ أَخَصُّ وَمَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ وَفِيهَا

جَوَازُ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِلضَّرُورَةِ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَتَصْرِيحُهَا بِذِكْرِ نَفْسِهَا تَأْكِيدٌ لِمَا تُخْبِرُ بِهِ وَإِنَّهَا ضَابِطَةٌ لِذَلِكَ لِكَوْنِهَا صَاحِبَةَ الْوَاقِعَةِ لَمْ تُخْبِرْ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا وَهُوَ أَدْعَى لِقَبُولِ ذَلِكَ وَالْأَخْذِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ .
وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ } لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِذْنِ وَهُوَ شَاهِدٌ ، وَقَالَ { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ } الْحَدِيثُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { إذَا أَطْعَمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا ، وَلَهُ مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ } .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ } { مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَأَبُو دَاوُد عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { لَا تَصُمْ } بِلَفْظِ النَّهْيِ وَزَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُد { غَيْرَ رَمَضَانَ } وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الْجُمْلَةَ الثَّالِثَةَ فَقَطْ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إلَيْهِ شَطْرُهُ } ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْ لِلْبُخَارِيِّ { إذَا أَطْعَمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَإِنَّمَا وَقَفْت عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلْيُحَرَّرْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ } كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ النَّهْيِ { لَا تَصُمْ } كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ } وَهُوَ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَصْحَابِنَا وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ

الْمُهَذَّبِ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، قَالَ فَلَوْ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا صَحَّ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِمَعْنًى يَعُودُ إلَى نَفْسِ الصَّوْمِ فَهُوَ كَالصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ قَبُولُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّوَوِيُّ وَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ فِي نَظَائِرِهَا الْجَزْمُ بِعَدَمِ الثَّوَابِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ انْتَهَى .
وَمَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ { لَا يَحِلُّ } عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ حَلَالًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ بَلْ هُوَ رَاجِحُ التَّرْكِ مَكْرُوهٌ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مُسْتَنْكَرٌ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ فَلَفْظُ النَّهْيِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ ، وَكَذَا لَفْظُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ النَّهْيِ وَتَأَكُّدِهِ يَكُونُ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَسَبَبُهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ وَحَقُّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يَفُوتُهُ بِتَطَوُّعٍ وَلَا بِوَاجِبٍ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهَا الصَّوْمُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَيَفْسُدُ صَوْمُهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ صَوْمَهَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَهَابُ انْتِهَاكَ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ ) قَيَّدَ النَّهْيَ عَنْ الصَّوْمِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْلُهَا أَيْ زَوْجُهَا شَاهِدًا أَيْ حَاضِرًا مُقِيمًا فِي الْبَلَدِ وَمَفْهُومُهُ أَنَّ لَهَا صَوْمَ التَّطَوُّعِ فِي غَيْبَتِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهُوَ وَاضِحٌ لِزَوَالِ مَعْنَى النَّهْيِ ، وَمَا الْمُرَادُ بِغَيْبَتِهِ هُنَا ؟ هَلْ الْمُرَادُ الْغَيْبَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ

الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَوْ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى أَوْ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْغَيْبَةِ عَنْ الْبَلَدِ وَلَوْ قَلَّتْ الْمَسَافَةُ وَقَصُرَتْ مُدَّتُهَا ؟ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ تَرْجِيحُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ لَكِنْ لَوْ ظَنَّتْ قُدُومَهُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَيَنْبَغِي تَحْرِيمُ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ بَلْ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا فَمَتَى ظَنَّتْ قُدُومَهُ فِي يَوْمٍ حَرُمَ عَلَيْهَا صَوْمُهُ وَلَوْ بَعُدَتْ بَلَدُ الْغَيْبَةِ وَطَالَتْ مُدَّتُهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ اسْتِصْحَابًا لِلْغَيْبَةِ وَالْأَصْلُ اسْتِمْرَارُهَا .
( الرَّابِعَةُ ) فِي مَعْنَى غَيْبَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِزَوْجَتِهِ فَلَهَا حِينَئِذٍ الصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فِيمَا يَظْهَرُ .
( الْخَامِسَةُ ) هَلْ الْمُرَادُ إذْنُهُ صَرِيحًا أَوْ يَكْفِي مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ احْتِفَافِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ احْتِفَافَ الْقَرَائِنِ وَاطِّرَادَ الْعَادَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ .
( السَّادِسَةُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { غَيْرَ رَمَضَانَ } وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْ اسْتِثْنَائِهِ فَلَا يُحْتَاجُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إذْنِهِ وَلَا يُمْتَنَعُ بِمَنْعِهِ وَفِي مَعْنَى صَوْمِ رَمَضَانَ كُلُّ صَوْمٍ وَاجِبٍ مُضَيَّقٍ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا تَعَدَّتْ بِالْإِفْطَارِ أَوْ كَانَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ وَلَكِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إلَّا قَدْرُ الْقَضَاءِ أَوْ نَذَرَتْ قَبْلَ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَهُ بِإِذْنِهِ صِيَامَ أَيَّامٍ بِعَيْنِهَا ، وَالْمُوَسَّعُ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا كَانَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ وَلَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ وَالْكَفَّارَةُ وَالنَّذْرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ كَالتَّطَوُّعِ فِي أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْهُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَصْحَابُنَا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِ التَّطَوُّعِ

وَالْمَنْذُورَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ زَمَنٌ مُعَيَّنٌ ( قُلْت ) وَكَذَا صَوْمُ الْكَفَّارَةِ وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ بِعُذْرٍ وَلَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ تَصُومُ الْفُرُوضَ كُلَّهَا أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ .
قَالَ وَصِيَامُ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ وَكُلُّ نَذْرٍ تَقَدَّمَ لَهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا إيَّاهُ مَضْمُومٌ إلَى رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا افْتَرَضَ رَمَضَانَ ، وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فَأَسْقَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الِاخْتِيَارَ فِيمَا قَضَى بِهِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِئْذَانَ فِيمَا فِيهِ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةُ ) هَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ أَمَّا دَوَامُهُ كَمَا لَوْ نَكَحَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ فَهَلْ لَهُ حَقٌّ فِي تَفْطِيرِهَا ؟ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا إبْرَاهِيمُ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إجْبَارُهَا عَلَى الْإِفْطَارِ قَالَ وَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ .
( الثَّامِنَةُ ) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بَيَانُ سَبَبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ يَضْرِبُنِي إذَا صَلَّيْتُ وَيُفْطِرُنِي إذَا صُمْت وَلَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ قَالَ : وَصَفْوَانُ عِنْدَهُ .
فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَتْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفْطِرُنِي فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ فَتَصُومُ وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَا أَصْبِرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ لَا تَصُومُ امْرَأَةٌ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا } فَيَنْبَغِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَسْبَابِ الْحَدِيثِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ شَرَعَ فِي تَصْنِيفِ أَسْبَابِ الْحَدِيثِ كَأَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الْأَمَةُ الْمُسْتَبَاحَةُ لِسَيِّدِهَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ كَالزَّوْجَةِ ، وَأَمَّا الْأَمَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ لِسَيِّدِهَا بِأَنْ كَانَتْ مَحْرَمًا لَهُ كَأُخْتِهِ أَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً أَوْ غَيْرَهُمَا وَالْعَبْدُ فَإِنْ تَضَرَّرَا بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ بِضَعْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ بِنَقْصٍ لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرَا وَلَمْ يَنْقُصَا جَازَ وَأَطْلَقَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِذَاتِ السَّيِّدِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَالَ الْبَعْلُ اسْمٌ لِلسَّيِّدِ وَلِلزَّوْجِ فِي اللُّغَةِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ

{ وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ } هُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِالرَّفْعِ كَقَوْلِهِ { لَا تَصُومُ } لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ الصَّرِيحِ كَقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ { لَا تَصُمْ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَاتُ عَلَى الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَالِكِي الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا بِالْإِذْنِ فِي أَمْلَاكِهِمْ إلَّا بِإِذْنِهِمْ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ رِضَا الزَّوْجِ وَنَحْوُهُ ، فَإِنْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ وَنَحْوُهَا رِضَاهُ بِهِ جَازَ كَمَا سَبَقَ فِي النَّفَقَةِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ دُخُولِ الْبَيْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دُخُولٌ عَلَيْهَا بِأَنْ أَذِنَتْ فِي دُخُولِ شَخْصٍ فِي مَكَان لَيْسَتْ فِيهِ إمَّا مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا وَإِمَّا فِي دَارٍ أُخْرَى مُنْفَرِدَةٍ عَنْ سَكَنِهَا وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِكَوْنِ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَمُسْلِمٍ تَقْيِيدُ الْمَنْعِ بِكَوْنِ الزَّوْجِ شَاهِدًا أَيْ حَاضِرًا وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ لَهَا الْإِذْنَ فِي غَيْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَالْأَخْذُ بِالْإِطْلَاقِ هُنَا أَوْلَى فَإِنَّ غَيْبَتَهُ فِي ذَلِكَ كَحُضُورِهِ بَلْ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ، فَقَدْ يَسْمَحُ الْإِنْسَانُ بِدُخُولِ النَّاسِ مَنْزِلَهُ فِي حُضُورِهِ وَلَا يَسْمَحُ بِذَلِكَ فِي غَيْبَتِهِ وَحِينَئِذٍ فَذِكْرُ الْقَيْدِ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَمُسْلِمٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ الْإِذْنَ لِلضِّيفَانِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ حُضُورِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَالْغَالِبُ أَنْ لَا يُطْرَقَ مَنْزِلُهُ أَصْلًا وَلَوْ طُرِقَ لَمْ تَأْذَنْ الْمَرْأَةُ فِي دُخُولِهِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إيَّاكُمْ

وَالدُّخُولَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ } وَهُنَّ اللَّاتِي غَابَ عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا الْقَيْدُ مَعْمُولٌ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا حَضَرَ يَعْسُرُ اسْتِئْذَانُهُ وَإِذَا غَابَ تَعَذَّرَ ، وَقَدْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَى الدُّخُولِ عَلَيْهَا فَيُبَاحُ لَهَا حِينَئِذٍ ذَلِكَ لِلِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِئْذَانِ لِتَعَذُّرِهِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ وَيَكُونُ مَعَهَا إذْنٌ عَامٌّ سَابِقٌ مُتَبَادَلٌ لِهَذَا الْقَدْرِ وَغَيْرِهِ إمَّا بِالصَّرِيحِ وَإِمَّا بِالْعُرْفِ .
قَالَ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْأَجْرَ مُنَاصَفَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إذَا أَنْفَقَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ وَلَا مَعْرُوفٍ مِنْ الْعُرْفِ فَلَا أَجْرَ لَهَا بَلْ عَلَيْهَا وِزْرٌ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ .
قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَفْرُوضٌ فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ يُعْلَمُ رِضَى الْمَالِكِ بِهِ فِي الْعَادَةِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُتَعَارَفِ لَمْ يَجُزْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ } فَأَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنَّهُ قَدْرٌ يُعْلَمُ رِضَا الزَّوْجِ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَنَبَّهَ بِالطَّعَامِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُسْمَحُ بِهِ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ أَكْثَرِ النَّاسِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ انْتَهَى .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا الَّذِي اكْتَسَبَهُ وَأَعْطَاهُ لَهَا فِي نَفَقَتِهَا فَلَهَا الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي إنْفَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهَا وَلَهُ الْأَجْرُ بِاكْتِسَابِهِ وَدَفْعِهِ لَهَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَتَّى مَا تَجْعَلُهُ فِي فِي امْرَأَتِك } فَجَعَلَ لَهُ الْأَجْرَ فِيمَا أَعْطَاهُ لَهَا فَكَيْفَ مَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِهِ فَكَانَ بِاكْتِسَابِهِ سَبَبًا لِتِلْكَ الصَّدَقَةِ وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَقِبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَرْأَةِ تَصَدَّقُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا ؟ قَالَ لَا إلَّا مِنْ قُوتِهَا وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصَدَّقَ مِنْ

مَالِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَهَذَا إمَّا مَرْفُوعٌ إنْ كَانَ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَكِنَّهُ مِنْ كَلَامِ رَاوِي الْحَدِيثِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد عَقِبَ رِوَايَتِهِ هَذَا يُضَعِّفُ حَدِيثَ هَمَّامٍ كَذَا حَكَى الْمُزَنِيّ فِي الْأَطْرَافِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَصْلِنَا مِنْ السُّنَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ } أَيْ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَهَا ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ } فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ : كُنْت مَمْلُوكًا فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ نَعَمْ وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْته مِنْهُ فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ فَضَرَبَنِي فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَدَعَاهُ فَقَالَ لِمَ ضَرَبْته ؟ قَالَ يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ ، قَالَ الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا } وَهَذِهِ الْمُنَاصَفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَظَاهِرِهَا بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ لِهَذَا ثَوَابًا وَلِهَذَا ثَوَابًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ ثَوَابِهِمَا سَوَاءً بَلْ قَدْ يَكُونُ ثَوَابُ هَذَا أَكْثَرَ ، وَقَدْ يَكُونُ عَكْسَهُ ، وَقَوْلُهُ هُنَا نِصْفَانِ مَعْنَاهُ قِسْمَانِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ فَإِذَا أَعْطَى الْمَالِكُ لِخَازِنِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوَهَا لِيُوَصِّلَهَا إلَى مُسْتَحِقِّ الصَّدَقَةِ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَأَجْرُ الْمَالِكِ أَكْثَرُ وَإِنْ

أَعْطَاهُ رُمَّانَةً أَوْ رَغِيفًا وَنَحْوَهُمَا حَيْثُ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ قِيمَةٍ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى مُحْتَاجٍ فِي مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ بِحَيْثُ يُقَابَلُ مَشْيُ الذَّاهِبِ إلَيْهِ بِأُجْرَةٍ تَزِيدُ عَلَى الرُّمَّانَةِ وَالرَّغِيفِ فَأَجْرُ الْوَكِيلِ أَكْثَرُ ، وَقَدْ يَكُونُ عَمَلُهُ قَدْرَ الرَّغِيفِ مَثَلًا فَيَكُونُ مِقْدَارُ الْأَجْرِ سَوَاءً ، ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَالَ وَأَشَارَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَا سَوَاءً لِأَنَّ الْأَجْرَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُدْرَكُ بِقِيَاسٍ وَلَا هُوَ بِحَسْبِ الْأَعْمَالِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِنْ يَشَاءُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَعْنَى بِالْمُنَاصَفَةِ هَهُنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَثُوبَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَجْرٌ كَامِلٌ وَهُمَا اثْنَانِ فَكَأَنَّهُمَا نِصْفَانِ انْتَهَى .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ لَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) ذَكَرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ ؟ قَالَ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( فِي الْمَرْأَةِ تَصَدَّقُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا قَالَ لَا إلَّا مِنْ قُوتِهَا وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ ) وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ { لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ

زَوْجِهَا } وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لَهَا أَجْرٌ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَا يُنْقِصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا ، لَهُ بِمَا كَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ } وَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ عَنْ أَسْمَاءَ { أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ فَقَالَ ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْت وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْك } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَهُوَ أَتَمُّ وَمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَعْطَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِطِيبِ نَفْسٍ غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَإِنَّ لَهَا مِثْلَ أَجْرِهِ لَهَا مَا نَوَتْ حَسَنًا ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ } لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ ) وَهُوَ حَدِيثُ الْبَابِ وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ { لَمَّا بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ قَامَتْ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا } قَالَ أَبُو دَاوُد وَأَرَى فِيهِ { وَأَزْوَاجِنَا فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ؟ قَالَ الرُّطَبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ } ثُمَّ قَالَ : أَحَادِيثُ الْبَابِ ( مِنْهَا ) مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْمَرْأَةِ أَنْ تُنْفِقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَوَّلُ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو .
( وَمِنْهَا ) مَا يَدُلُّ عَلَى

الْإِبَاحَةِ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْأَوَّلُ وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ .
( وَمِنْهَا ) مَا قُيِّدَ فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ بِكَوْنِهِ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَبِكَوْنِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ وَهُوَ أَصَحُّهَا .
( وَمِنْهَا ) مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّانِي .
( وَمِنْهَا ) مَا قُيِّدَ الْحِلُّ فِيهِ بِكَوْنِهِ رُطَبًا وَهُوَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ .
قَالَ وَكَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ الْبِلَادِ وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ فِي مُسَامَحَتِهِ بِذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ لَهُ وَبِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِي الشَّيْءِ الْمُنْفَقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا يُتَسَامَحُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَطَرٌ فِي النَّفْسِ يُبْخَلُ بِمِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ رُطَبًا يُخْشَى فَسَادُهُ إنْ تَأَخَّرَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ يُدَّخَرُ وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْفَسَادُ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ عَقِبَ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا الْكَلَامُ خَارِجٌ عَلَى مَذْهَبِ النَّاسِ بِالْحِجَازِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ فِي أَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ قَدْ يَأْذَنُ لِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَلِلْخَادِمِ فِي الْإِنْفَاقِ مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ مِنْ طَعَامٍ وَإِدَامٍ وَنَحْوِهِ وَيُطْلِقُ أَمْرَهُمْ فِي الصَّدَقَةِ مِنْهُ إذَا حَضَرَهُمْ السَّائِلُ وَنَزَلَ بِهِمْ الضَّيْفُ فَحَضَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ الْعَادَةِ وَاسْتِدَامَةِ ذَلِكَ الصَّنِيعِ وَوَعَدَهُمْ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاسْمِهِ لِيَتَسَارَعُوا إلَيْهِ وَلَا يَتَقَاعَدُوا عَنْهُ .
قَالَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ تَفْتَاتَ الْمَرْأَةُ وَالْخَازِنُ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ بِشَيْءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا فِيهِ وَلَمْ يُطْلِقْ لَهُمَا الْإِنْفَاقَ مِنْهُ بَلْ يُخَافُ أَنْ يَكُونَا آثِمَيْنِ إذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَمِنْهُمْ

مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ نُقْصَانُهُ وَلَا يَظْهَرُ ، وَقِيلَ فِي الثَّانِي : ذَلِكَ إذَا أَذِنَ الزَّوْجُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدِي مَحْمُولًا عَلَى الْعَادَةِ وَأَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْعَطَاءَ وَالصَّدَقَةَ وَفَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلَ وَلَمْ تُجْحِفْ وَعَلَى ذَلِكَ عَادَةُ النَّاسِ فِي غَيْرِ بِلَادِنَا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ بِطِيبِ نَفْسٍ وَمَعْنَى غَيْرِ مُفْسِدَةٍ فَطِيبُ النَّفْسِ يَقْتَضِي إذْنَهُ صَرِيحًا أَوْ عَادَةً ، وَقَوْلُهُ { غَيْرَ مُفْسِدَةٍ } يَقْتَضِي الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُجْحِفُ بِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي حَوَاشِيهِ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ بِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا حَقٌّ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَلَهَا النَّظَرُ فِي بَيْتِهَا فَجَازَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِمَا لَا يَكُونُ إسْرَافًا لَكِنْ بِمِقْدَارِ الْعَادَةِ وَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْلِمُ زَوْجَهَا ، فَأَمَّا الْخَادِمُ فَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَتَاعِ مَوْلَاهُ

بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي فِي الْوِتْرِ مِنْهَا } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } .

بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي فِي الْوِتْرِ مِنْهَا } الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ وَالنَّاقِدِ وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا } ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلَيْلَةِ الْقَدْر إنَّ نَاسًا مِنْكُمْ قَدْ أُرُوا أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأُوَلِ وَأُرِيَ نَاسٌ مِنْكُمْ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْغَوَابِرِ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { لِأَنَّ نَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَأَنَّ نَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } وَيُوَافِقُ الْأَوَّلَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ

عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { مَنْ كَانَ مُلْتَمِسَهَا فَلْيَلْتَمِسْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ جَبَلَةَ وَمُحَارِبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { تَحَيَّنُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَوْ قَالَ فِي التِّسْعِ الْأَوَاخِرِ } وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ عَنْ مَالِكٍ بَلَاغًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ نَافِعٍ وَلَا ابْنِ عُمَرَ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَابَعَهُ قَوْمٌ قَالَ وَهُوَ مَحْفُوظٌ مَعْلُومٌ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لِمَالِكٍ وَغَيْرِهِ انْتَهَى .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي قَالَ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ { مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ .
قَالَ شُعْبَةُ فَذَكَرَ لِي رَجُلٌ ثِقَةٌ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّمَا قَالَ مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي فَلَا أَدْرِي ذَا أَمْ ذَا } .
شَكَّ شُعْبَةُ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ الصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ دُونَ رِوَايَةِ شُعْبَةَ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ { فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { أَرَى } بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى أَعْلَمُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ مَجَازًا ، وَقَوْلُهُ رُؤْيَاكُمْ أَيْ فِي الْمَنَامِ

وَالْمَشْهُورُ اخْتِصَاصُ الرُّؤْيَا بِالْمَنَامِ فَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا لِرَأَى مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَتْ فِي الْيَقِظَةِ وَهِيَ هُنَا لِلْمَنَامِ قَطْعًا ، وَقَوْلُهُ { قَدْ تَوَاطَأَتْ } أَيْ تَوَافَقَتْ وَالْمُوطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطِئَ مَا وَطِئَهُ الْآخَرُ ، وَرُوِيَ تَوَاطَتْ بِتَرْكِ الْهَمْزِ ، وَقَوْلُهُ { فَالْتَمِسُوهَا } أَيْ اُطْلُبُوهَا اسْتَعَارَ لَهُ اللَّمْسَ ، وَقَوْلُهُ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي أَيْ فِي اللَّيَالِيِ الْعَشْرِ الْبَوَاقِي مِنْ الشَّهْرِ وَهِيَ الْعَشْرُ الْأَخِيرَةُ مِنْ الشَّهْرِ ، وَقَوْلُهُ { فِي الْوِتْرِ } بَدَلٌ مِنْ الْعَشْرِ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ ، وَالْوِتْرُ الْفَرْدُ وَفِي وَاوِهِ لُغَتَانِ الْكَسْرُ وَالْفَتْحُ ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ { رَأَوْا كَذَا } فِي رِوَايَتِنَا بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ أُرُوا بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا وَضَمِّ الرَّاءِ ، وَقَوْلُهُ { فَلْيَتَحَرَّهَا } أَيْ فَلْيَتَعَمَّدْ طَلَبَهَا وَالتَّحَرِّي الْقَصْدُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ وَالْعَزْمُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ .
( الثَّالِثَةُ ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا كَمَا سَأُبَيِّنُهُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِهَا لِمَا لَهَا مِنْ الْفَضَائِلِ أَيْ ذَاتُ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ أَوْ لِمَا يَحْصُلُ لِمُحْيِيهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ الْقَدْرِ الْعَظِيمِ ، أَوْ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُقَدَّرُ فِيهَا وَتُقْضَى أَقْوَالٌ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَيْنِ قَوْله تَعَالَى { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ قَوْلُهُ { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } وَقَوْلُهُ { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وَإِنَّمَا جَوَّزْتُ فَتْحَ الدَّالِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِهَا فَقَدْ قَالَ فِي الصِّحَاحِ قَدْرُ الشَّيْءِ مَبْلَغُهُ وَقَدْرُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ بِمَعْنًى وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ

وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أَيْ مَا عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ التَّقْدِيرِ فَقَدْ قَالَ فِي الصِّحَاحِ عَقِبَهُ وَالْقَدْرُ ، وَالْقَدَرُ أَيْضًا مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ أَلَا يَا لَقَوْمٍ لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدْرِ وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي وَكَذَا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْقَدْرُ وَالْقَدَرُ الْقَضَاءُ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَالْقَدَرِ فَأَمَّا .
( الْأَوَّلُ ) فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّرَفُ كَقَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ قَدْرٌ فِي النَّاسِ يَعْنُونَ بِذَلِكَ مَزِيَّةً وَشَرَفًا ( وَالثَّانِي ) الْقَدْرُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا يُلْقِي اللَّهُ فِيهَا لِمَلَائِكَتِهِ دِيوَانَ الْعَامِ انْتَهَى .
وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ تَسْكِينِ الدَّالِ إرَادَةُ التَّقْدِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَلِمْت وَقَدْ جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْآيَةِ إرَادَةَ الشَّرَفِ وَالتَّقْدِيرِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُقْرَأْ إلَّا بِالْإِسْكَانِ وَجَزَمَ الْهَرَوِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا بِالتَّقْدِيرِ فَقَالَا وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تُقَدَّرُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ وَتُقْضَى وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَيْ لَيْلَةَ الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَحَكَاهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ فَضْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَذَلِكَ مِنْ اسْمِهَا وَمِنْ الْأَمْرِ بِتَحَرِّيهَا وَطَلَبِهَا وَقَدْ أَفْصَحَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } الْآيَةَ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ فَلَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ { إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ } يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ وَنَزَلَتْ { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } } يَمْلِكُهَا بَعْدَك بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيِّ أَحَدُ رُوَاتِهِ فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ لَا تَنْقُصُ يَوْمًا وَلَا تَزِيدُ يَوْمًا ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } الَّتِي لَبِسَ فِيهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ } وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَاَلَّذِي رَوَى مَالِكٌ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ } أَصَحُّ مِنْهُ وَأَوْلَى ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ لِيُبَيِّنَ بِذَلِكَ الْفَائِدَةَ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْبَلَاغَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ هَذَا الْحَدِيثَ يُرْوَى مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَّا مَا

فِي الْمُوَطَّإِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمُوَطَّإِ قَالَ وَلَيْسَ مِنْهَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَلَا مَا يَدْفَعُهُ أَصْلٌ ( قُلْت ) حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ أَصْلٌ نَعَمْ الْمُرْسَلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عِنْدِ الْبَيْهَقِيّ يَشْهَدُ لَهُ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ بَقَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَاسْتِمْرَارُهَا وَأَنَّهَا لَمْ تُرْفَعْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى وُجُودِهَا وَدَوَامِهَا إلَى آخِرِ الدَّهْرِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا رُفِعَتْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حِينَ تَلَاحَى الرَّجُلَانِ فَرُفِعَتْ } وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّاذِّينَ ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ } هَكَذَا هُوَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِرَفْعِهَا رَفْعُ بَيَانِ عِلْمِ عَيْنِهَا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ رَفْعَ وُجُودِهَا لَمْ يَأْمُرْ بِالْتِمَاسِهَا انْتَهَى وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَكَذَا حَكَى أَصْحَابُنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ الْجُمْهُورُ وَسَمَّاهُمْ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فَقَالَ هُوَ قَوْلُ الرَّوَافِضِ .
( السَّادِسَةُ ) فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْأَمْرُ بِطَلَبِهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الْأَمْرُ بِطَلَبِهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَإِنْ اتَّفَقَتَا عَلَى أَنَّ مَحَلَّهَا مُنْحَصِرٌ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَالْأَوَّلُ وَهُوَ انْحِصَارُهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ قَوْلٌ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، فَقَالَ هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ مِنْ اللَّيَالِيِ لَا يُخْطِئُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا انْحِصَارُهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَلَا نَعْلَمُ الْآنَ قَائِلًا بِهِ وَلْنَحْكِ الْمَذَاهِبَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : ( فَأَحَدُهَا ) أَنَّهَا فِي السَّنَةِ كُلِّهَا وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَابَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ لَكِنْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ وَغَيْرِهِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ ( سَأَلْت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْت إنَّ أَخَاك ابْنَ مَسْعُودٍ

يَقُولُ مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ أَمَّا إنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقُلْت بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؟ قَالَ بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا ) وَيَشْهَدُ لِمَا فَهِمَهُ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي عَقْرَبَ قَالَ غَدَوْتُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ذَاتَ غَدَاةٍ فِي رَمَضَانَ فَوَجَدْتُهُ فَوْقَ بَيْتٍ جَالِسًا فَسَمِعْنَا صَوْتَهُ وَهُوَ يَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ فَقُلْنَا سَمِعْنَاكَ تَقَوُّلُ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ فَقَالَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي النِّصْفِ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ غَدَاتَئِذٍ صَافِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ فَنَظَرْتُ إلَيْهَا فَوَجَدْتُهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِنَحْوِهِ .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَذْكُرُ لَيْلَةَ الصَّهْبَاوَاتِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَذَلِكَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ } وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ لَكِنْ لَمْ أَرَ التَّصْرِيحَ بِلَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ إلَّا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرْتُ عَلَى عَزْوِهِ إلَيْهِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ

قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ هِيَ فِي رَمَضَانَ } وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ( قُلْتُ ) وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَتَكَرَّرُ وَتُوجَدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ لَا أَنَّهَا وُجِدَتْ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ لِهَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الْحَسَنِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ قَالَ ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ ) مُحْتَمِلٌ لِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ فِي التَّجْرِيدِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تُلْتَمَسُ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَآكَدُهُ الْعَشْرُ الْأُخَرُ وَآكَدُهُ لَيَالِيِ الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ انْتَهَى .
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اخْتِصَاصُهَا بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كَمَا سَيَأْتِي .
( الثَّالِثُ ) ( أَنَّهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ) وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ وَالْأَوَاخِرِ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَيَرُدُّهُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { مِنْ قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَك } .
( الْخَامِسُ ) أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَقَطْ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي أَعْتَكَفْت الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ إنِّي أَعْتَكَفْت الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ } ثُمَّ أَتَيْت فَقِيلَ لِي إنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ .
( السَّادِسُ ) أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِأَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ كَمَا تَقَدَّمَ

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَقَالَ : فِي رَمَضَانَ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنَّهَا فِي وِتْرٍ فِي إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ فَمَنْ قَامَهَا ابْتِغَاءَهَا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَفِي قَوْلِهِ أَوْ فِي آخِر لَيْلَةٍ سُؤَالٌ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وِتْرًا إنْ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا ، وَقَدْ قَالَ أَوَّلًا فَإِنَّهَا فِي وَتْرٍ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهِيَ لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَلَا مَعْنَى لِعَطْفِهَا عَلَيْهَا وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهَا فِي وِتْرٍ لَا عَلَى قَوْلِهِ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلْوِتْرِ بَلْ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ .
( السَّابِعُ ) إنَّهَا تَخْتَصُّ بِإشْفَاعِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الصَّحِيحِ { الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ } فَقِيلَ لَهُ يَا أَبَا سَعِيدٍ إنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا قَالَ أَجَلْ نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ قَالَ قُلْت مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ ؟ قَالَ إذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ وَهِيَ التَّاسِعَةُ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ .
( الثَّامِنُ ) أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ مَا أَشُكُّ وَمَا أَمْتَرِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ

وَيَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فَقِيلَ لَهُ : تُحْيِي لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ ؟ قَالَ : إنَّ فِيهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ ، وَفِي صَبِيحَتِهَا فُرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكَانَ يُصْبِحُ فِيهَا بَهِيجَ الْوَجْهِ .
( التَّاسِعُ ) : أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا .
( الْعَاشِرُ ) أَنَّهَا تُطْلَبُ فِي لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ اُطْلُبُوهَا لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ سَكَتَ } .
( الْحَادِيَ عَشَرَ ) أَنَّهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ { وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ وَإِنِّي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَأُصْبِحُ مِنْ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَقَدْ قَامَ إلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فَأَبْصَرْت الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَجَبِينُهُ وَأَرْنَبَةُ أَنْفِهِ فِيهَا الطِّينُ وَالْمَاءُ وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } .
( الثَّانِي عَشَرَ ) أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ قَوْلُ جَمْعٍ كَثِيرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أُرِيت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ قَالَ فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد

عَنْهُ أَيْضًا قَالَ { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ فِيهَا وَأَنَا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُهَا إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ أَنْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ } .
( الثَّالِثَ عَشَرَ ) أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بِلَالٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ( الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ) ذَكَرَهُ عَقِبَ حَدِيثِهِ { هِيَ فِي الْعَشْرِ فِي سَبْعٍ تَمْضِينَ أَوْ سَبْعٍ تَبْقَيْنَ } وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْحَدِيثِ فَيَكُونُ عُمْدَةً ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ } .
( الرَّابِعَ عَشَرَ ) إنَّهَا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ ، وَفِي ذَلِكَ أَثَرٌ .
( الْخَامِسَ عَشَرَ ) أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هِيَ فِي الْعَشْرِ فِي سَبْعٍ تَمْضِينَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ } يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ .
( السَّادِسَ عَشَرَ ) أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ كَثِيرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ يَحْلِفُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَرِّ بْنِ حُبَيْشٍ كَانَ عُمَرُ وَحُذَيْفَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّونَ فِيهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَحَكَاهُ الشَّاشِيُّ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَقْلِ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا { لَيْلَةُ الْقَدْرِ

لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ } ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ } ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا { الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ } وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا وَالْأَيَّامَ سَبْعًا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنْ سَبْعٍ وَجُعِلَ رِزْقُهُ فِي سَبْعٍ وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَالطَّوَافُ سَبْعٌ وَالْجِمَارُ سَبْعٌ وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَدَدَ كَلِمَاتِ السُّورَةِ إلَى قَوْلِهِ { هِيَ } سَبْعٌ وَعِشْرُونَ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ قُدَامَةَ ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ وَنَظِيرَيْنِ لَهُ وَهَذَا مِنْ مُلَحِ التَّفْسِيرِ وَلَيْسَ مِنْ مُتَعَيِّنِ الْعِلْمِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ ابْنِ بُكَيْر الْمَالِكِيِّ وَبَالَغَ فِي إنْكَارِهِ ، وَقَالَ إنَّهُ مِنْ طَوَائِفِ الْوَسْوَاسِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
( السَّابِعَ عَشَرَ ) : أَنَّهَا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ .
( الثَّامِنَ عَشَرَ ) أَنَّهَا آخِرُ لَيْلَةٍ حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ وَيَتَدَاخَلُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ إذَا كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا { الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ } ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِي الْأَمْرُ { بِتَحَرِّيهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } وَلَمْ أَرَ قَائِلًا بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَا عَدَدْنَاهُ قَوْلًا كَانَ .
( تَاسِعَ عَشَرَ ) وَإِنْ نَظَرْنَا لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ

لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ اجْتَمَعَتْ مِنْ ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخَرُ فَنَذْكُرُهَا مَعَ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا .
( الْعِشْرُونَ ) إنَّهَا لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ قَالَ { كُنْت فِي مَجْلِسِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ ، فَقَالُوا مَنْ يَسْأَلُ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَذَلِكَ صَبِيحَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ فَخَرَجْت فَوَافَيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ { أَرْسَلَنِي إلَيْك رَهْطٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَسْأَلُونَك عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَقَالَ كَمْ اللَّيْلَةَ قُلْت اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ قَالَ هِيَ اللَّيْلَةُ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ أَوْ الْقَابِلَةُ يُرِيدُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ } .
( الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ ) لَيْلَةُ إحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ ، فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا أَنَا بِمُلْتَمِسِهَا لِشَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنِّي سَمِعْته يَقُولُ { الْتَمِسُوهَا لِتِسْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
( الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ ) لَيْلَةُ إحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي خَرَجْت لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ } فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي التَّاسِعَةِ تَبْقَى لِتَقْدِيمِ التَّاسِعَةِ عَلَى

السَّابِعَةِ وَهِيَ عَلَى الْخَامِسَةِ وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى } ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ } فَأَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ التَّاسِعَةَ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَالسَّابِعَةَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَالْخَامِسَةَ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يُرِيدُ فِي هَذَا عَلَى نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ .
( الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ ) لَيْلَةُ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَقَالَ هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ قُمَّ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الْخَامِسَةِ } ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ قُمْ فِي الثَّالِثَةِ تَمْضِي لِتَقْدِيمِهِ لَهَا عَلَى الْخَامِسَةِ .
( الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ ) لَيْلَةُ السَّابِعِ أَوْ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : إنَّهَا لَيْلَةٌ سَابِعَةٌ أَوْ تَاسِعَةٌ وَعِشْرِينَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى } ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ { مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ } .
( الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ ) أَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوْ فِي لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ ، فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ

وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ } .
( السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ ) أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ لَيْلَةُ التَّاسِعِ أَوْ الرَّابِعَ عَشَرَ أَوْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ ، رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَفِي تِسْعَةٍ ، وَفِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَفِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ } وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ لَيْلَةً بِعَيْنِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَأَنَّهَا فِي الْأَوْتَارِ أَرْجَى مِنْهَا فِي الْأَشْفَاعِ وَأَرْجَاهَا لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَالثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ كَانَ هَذَا عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ نَلْتَمِسُهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا فَيَقُولُ الْتَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَقْوَى الرِّوَايَاتِ عِنْدِي فِيهَا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ وَكَأَنِّي رَأَيْت وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَقْوَى الْأَحَادِيثِ فِيهِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ انْتَهَى .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فَتَكُونُ سَنَةً فِي لَيْلَةٍ وَسَنَةً فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى وَهَكَذَا وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ وَعَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ لِلشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْرِفُهُ عَنْهُ وَلَكِنْ قَالَ بِهِ مِنْ

أَصْحَابِهِ الْمُزَنِيّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهَا اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا إلَّا بِذَلِكَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَغْلَبُ مِنْ قَوْلِهِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِئَلَّا يَتَضَادَّ مَعَ قَوْلِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَيَكُونُ قَالَهُ ، وَقَدْ مَضَى مِنْ الشَّهْرِ مَا يُوجِبُ قَوْلَ ذَلِكَ انْتَهَى وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى انْتِقَالِهَا فَعَلَيْهِ أَقْوَالٌ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ تَنْتَقِلُ فَتَكُونُ إمَّا فِي لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ أَوْ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ أَوْ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ .
( الثَّانِي ) أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ أَوْ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ أَوْ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَكِلَاهُمَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا فِي جَمِيعِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ أَوْ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ ضَعِيفٌ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِانْتِقَالِهَا مِنْ الشَّافِعِيَّةِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّهَا تَنْتَقِلُ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي يُسْتَحَبُّ طَلَبُهَا فِي جَمِيعِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ آكَدُ ، وَفِي لَيَالِيِ الْوِتْرِ مِنْهُ آكَدُ ثُمَّ حَكَى قَوْلَ أَحْمَدَ هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ مِنْ اللَّيَالِيِ لَا تُخْطِئُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَقَدْ قَدَّمْت ذَلِكَ عَنْهُ وَمُقْتَضَاهُ اخْتِصَاصُهَا بِأَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِهَا صَارَ هَذَا قَوْلًا خَامِسًا عَلَى الِانْتِقَالِ فَتَنْضَمُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ لِمَا تَقَدَّمَ فَتَكُونُ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ قَوْلًا ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَوْلًا مِمَّا حَكَيْنَاهُ وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهَا

لَا تُعْلَمُ انْتَهَى .
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخْفَى اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَنْ عِبَادِهِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى فَضْلِهَا وَيُقَصِّرُوا فِي غَيْرِهَا فَأَرَادَ مِنْهُمْ الْجِدَّ فِي الْعَمَلِ أَبَدًا وَهَذَا يُحْسِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا ثَانِيًا وَثَلَاثِينَ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْخَوْضِ فِيهَا وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ : هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا لَا تَنْتَقِلُ أَبَدًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ مِنْهُ إلَّا أَنَّهَا فِي وِتْرٍ مِنْهُ وَلَا بُدَّ فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةُ عِشْرِينَ مِنْهُ فَهِيَ إمَّا لَيْلَةُ عِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْتَارَ مِنْ الْعَشْرِ وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ فَهِيَ أَمَّا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَإِمَّا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَوْتَارُ الْعَشْرِ بِلَا شَكٍّ ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَسْلَكٌ غَرِيبٌ بَعِيدٌ وَبِهِ كَمُلَتْ الْأَقْوَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الرُّؤْيَا وَالِاسْتِنَادِ إلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّاتِ وَعَلَى مَا لَا يُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَأَمَرَهُ بِأَمْرٍ هَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ ؟ وَقِيلَ فِيهِ إنَّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا

ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْيَقِظَةِ أَوَّلًا ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا عُمِلَ بِمَا ثَبَتَ فِي الْيَقِظَةِ ؛ لِأَنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْقُولِ مِنْ صِفَتِهِ فَرُؤْيَاهُ حَقٌّ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ وَالْعَمَلِ بِأَرْجَحِهِمَا وَمَا ثَبَتَ فِي الْيَقِظَةِ فَهُوَ أَرْجَحُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الْيَقِظَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَالِاسْتِنَادُ إلَى الرُّؤْيَا هُنَا فِي أَمْرٍ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ السَّبْعُ الْأَوَاخِرُ بِسَبَبِ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَزِمَهُ اسْتِحْبَابٌ شَرْعِيٌّ مَخْصُوصٌ بِالتَّأْكِيدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ اللَّيَالِيِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُنَافٍ لِلْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ اسْتِحْبَابِ طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ انْتَهَى .
وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ الرِّحْلَةِ عَنْ كِتَابِ آدَابِ الْجَدَلِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا رَأَى شَخْصٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ ، وَقَالَ لَهُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يُعْمَلُ بِهِ أَمْ لَا ؟ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ .

وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ } وَزَادَ أَحْمَدُ فِي ذِكْرِ الصِّيَامِ { وَمَا تَأَخَّرَ } وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ } وَإِنْ كَانَ الْمِزِّيُّ ذَكَرَ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ } فَهُوَ وَهْمٌ ، وَقَدْ تَبِعَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ } انْتَهَى .
فَاقْتَضَى أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ كَرِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَمَا سَأَذْكُرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْجُمْلَتَيْنِ إلَّا أَنَّ لَفْظَهُ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ } وَاقْتَصَرَ مُسْلِمٌ عَلَى الْأُولَى وَلَفْظُهُ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ } ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْت

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِرَمَضَانَ { مَنْ قَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } ، وَقَدْ وَرَدَ غُفْرَانُ مَا تَأَخَّرَ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْضًا لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيٍّ آخَرَ وَسَأَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا أَرَاهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { إيمَانًا } أَيْ تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حَقٌّ وَطَاعَةٌ ، وَقَوْلُهُ وَاحْتِسَابًا أَيْ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ لَا بِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ وَالِاحْتِسَابُ مِنْ الْحَسَبِ وَهُوَ الْعَدُّ كَالِاعْتِدَادِ مِنْ الْعَدِّ وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ احْتَسَبَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَهُ فَجُعِلَ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ قِيَامُ جَمِيعِ لَيْلِهِ بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقِيَامٍ يَسِيرٍ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا فِي مُطْلَقِ التَّهَجُّدِ وَبِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَالْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ وَبِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ

صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَأَبُو دَاوُد بِلَفْظِ { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ } .
وَكَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ { وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ } .
، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ فِي ذَلِكَ مَحْمُولَةٌ عَلَى رِوَايَتِهِمَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ { وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ } أَيْ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ يَأْتِي فِي تَحْصِيلِ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ } لَكِنْ فِي إسْنَادِهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : مِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ رَأْيًا وَلَا يُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا ، وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الْجَدِيدِ مَا يُخَالِفُهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْجَدِيدِ بِمُوَافَقَةٍ وَلَا بِمُخَالَفَةٍ فَهُوَ مَذْهَبُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَجَعَ مِنْ الْقَدِيمِ عَنْ قَدِيمِ نَصٍّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ كَانَ كَعَدْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ تَحْصِيلُ فَضِيلَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَمَا الظَّنُّ بِمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيهَا .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْمُرَادُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ صَلَاتُهَا مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ الْأَفْضَلُ صَلَاتُهَا جَمَاعَةً كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ فَأَشْبَهَ صَلَاةَ الْعِيدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ الْأَفْضَلُ فُرَادَى فِي الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَخْتَصُّ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ كَمَا ذَكَرَتْهُ ثُمَّ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ : هَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يُخَالِفُ الْكَسَلَ عَنْهَا وَلَا يَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِتَخَلُّفِهِ فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ هَذَا فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ قَطْعًا وَأَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا هَذَا الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ظَاهِرُهُ تَنَاوُلُهُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، فَقَالَ هُوَ قَوْلٌ عَامٌّ يُرْجَى لِمَنْ قَامَهَا إيمَانًا وَاحْتِسَابًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ

صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ إذَا لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ كُلُّ مَا يَرِدُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ فَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى الصَّغَائِرِ دُونَ الْمُوبِقَاتِ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مَا يُؤَيِّدُهُ فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إلَّا كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا مِنْ الذُّنُوبِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَأْوِيلَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) تُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِشَرْطِ أَلَا يَكُونَ هُنَاكَ كَبَائِرُ فَإِنْ كَانَتْ كَبَائِرُ لَمْ يُكَفَّرْ شَيْءٌ لَا الْكَبَائِرُ وَلَا الصَّغَائِرُ وَ ( الثَّانِي ) وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ وَتَقْدِيرُهُ تُغْفَرُ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا إلَّا الْكَبَائِرَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ غُفْرَانِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ الْكَبَائِرَ إنَّمَا تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى .
( السَّادِسَةُ ) فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ { فَمَنْ قَامَهَا ابْتِغَاءَهَا إيمَانًا وَاحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } .
فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ { وَمَا تَأَخَّرَ } وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ مَعْنَى مَغْفِرَةِ مَا تَأَخَّرَ مِنْ الذُّنُوبِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ { صِيَامُ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ } فَتَكْفِيرُ السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهُ كَمَغْفِرَةِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَقَدْ قَالَ السَّرَخْسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إذَا ارْتَكَبَ فِيهَا مَعْصِيَةً جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ عَرَفَةَ الْمَاضِي كَفَّارَةً لَهَا كَمَا جَعَلَهُ مُكَفِّرًا لِمَا قَبْلَهُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عَنْ ارْتِكَابِ مَا يُحْوِجُهُ إلَى كَفَّارَةٍ وَأَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي فِي السَّنَتَيْنِ مَعًا تَأْوِيلَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ يَعْصِمُهُ فِي هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ فَلَا يَعْصِي فِيهِمَا ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِدَّةِ فِي تَكْفِيرِ السَّنَةِ الْأُخْرَى يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) الْمُرَادُ السَّنَةُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ مَاضِيَتَيْنِ وَ ( الثَّانِي ) أَنَّهُ أَرَادَ سَنَةً مَاضِيَةً وَسَنَةً مُسْتَقْبَلَةً قَالَ وَهَذَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الزَّمَانَ الْمُسْتَقْبَلَ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ

وَهَذَا يَأْتِي مِثْلُهُ هُنَا فَيَكُونُ مَغْفِرَةُ مَا تَأَخَّرَ مِنْ الذُّنُوبِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعِصْمَةُ مِنْ الذُّنُوبِ حَتَّى لَا يَقَعُ فِيهَا وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ تَكْفِيرُهَا وَلَوْ وَقَعَ فِيهَا وَيَكُونُ الْمُكَفِّرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُكَفَّرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ } مَعَ قَوْلِهِ { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَدْ يُقَالُ إنَّ أَحَدَهُمَا يُغْنِي عَنْ الْآخَرِ ( وَجَوَابُهُ ) أَنْ يُقَالَ قِيَامُ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَعْرِفَتِهَا سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِمَنْ وَافَقَهَا وَعَرَفَهَا سَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرَهَا ( قُلْت ) الْأَحْسَنُ عِنْدِي الْجَوَابُ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ لِلْغُفْرَانِ طَرِيقِينَ .
( أَحَدُهُمَا ) يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا يَقِينًا إلَّا أَنَّهَا طَوِيلَةٌ شَاقَّةٌ وَهِيَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِكَمَالِهِ .
وَ ( الثَّانِي ) لَا سَبِيلَ إلَى الْيَقِينِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ وَالتَّخْمِينُ إلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ قَصِيرَة وَهِيَ قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَاصَّةً وَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى مَعْرِفَتِهَا بَلْ لَوْ قَامَهَا غَيْرَ عَارِفٍ بِهَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا قَامَ بِقَصْدِ ابْتِغَائِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا { فَمَنْ قَامَهَا ابْتِغَاءَهَا إيمَانًا وَاحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } ( فَإِنْ قُلْت ) قَدْ اُعْتُبِرَ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ تُوَفَّقَ لَهُ وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ { مِنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَعْنَى يُوَافِقُهَا يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( قُلْت ) إنَّمَا مَعْنَى تَوْفِيقُهَا لَهُ أَوْ مُوَافَقَتُهُ لَهَا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ أَنَّ

تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي قَامَهَا بِقَصْدِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْمُوَافَقَةُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَرْدُودٌ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي هَذَا وَلَا الْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ .

بَابُ الِاعْتِكَافِ وَالْمُجَاوَرَةِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى } .
زَادَ الشَّيْخَانِ { ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ } .

بَابُ الِاعْتِكَافِ وَالْمُجَاوَرَةِ .
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِزِيَادَةِ { ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ } وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ طُرُقٌ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ { ثُمَّ اعْتَكَفَهُنَّ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَتْبَعُ جِنَازَةً وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا وَلَا يَلْمِسُ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرُهَا ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَيُؤْمَرُ مَنْ اعْتَكَفَ أَنْ يَصُومَ } قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ وَأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُعْتَكِفِ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ وَهَمَ ، وَهِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ لَمْ يَذْكُرْهُ انْتَهَى ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا } ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ فِيهِ قَالَتْ السُّنَّةُ ، جَعَلَهُ قَوْلَ عَائِشَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا إلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ وَلَا يَصِحُّ الْكَلَامُ عِنْدَهُمْ إلَّا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ انْتَهَى .
( الثَّانِيَةُ ) الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ

وَالْمُكْثُ وَاللُّزُومُ ، وَفِي الشَّرْعِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُلَازِمَةِ الْمَسْجِدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } وَقَالَ { فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي سُنَنِ حَرْمَلَةَ : الِاعْتِكَافُ لُزُومُ الْمَرْءِ شَيْئًا وَحَبْسُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ بِرًّا كَانَ أَوْ إثْمًا وَأَمَّا الْمُجَاوَرَةُ فَهِيَ بِمَعْنَاهُ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ بِأَنَّهَا الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْهُمْ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مَعْنَى لِعَطْفِهَا عَلَيْهِ فِي تَبْوِيبِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهَا لِذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ حِرَاءَ فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَاوَرْت بِحِرَاءَ شَهْرًا } وَلَيْسَ حِرَاءُ مَسْجِدًا فَلَا يَكُونُ فِيهِ اعْتِكَافٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ فِيهِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى الِاعْتِكَافِ ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ إنَّهَا بِمَعْنَى الْمُلَازَمَةِ وَالِاعْتِكَافِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِمَسْجِدٍ لَكِنْ قَالَ بَعْدَهُ وَالْجِوَارُ الِاعْتِكَافُ هُنَا انْتَهَى .
وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَازِمُهُ مِنْ حِرَاءَ مَسْجِدٌ أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِمَنْ جَوَّزَ اعْتِكَافَ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ وَهُوَ الْمَكَانُ أَعَدَّهُ فِيهِ لِلصَّلَاةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَلَا تَكُونُ الْمُجَاوَرَةُ فِيهِ إلَّا فِي مَسْجِدٍ كَالِاعْتِكَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَحَكَى وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ الِاعْتِكَافُ أَوْ غَيْرُهُ ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالْجِوَارُ وَالِاعْتِكَافُ وَاحِدٌ وَسُئِلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَرَأَيْت الْجِوَارَ وَالِاعْتِكَافَ أَمُخْتَلِفَانِ هُمَا أَمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ ؟ قَالَ بَلْ

هُمَا مُخْتَلِفَانِ كَانَتْ بُيُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا اعْتَكَفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَرَجَ مِنْ بُيُوتِهِ إلَى بَطْنِ الْمَسْجِدِ فَاعْتَكَفَ فِيهِ ، قِيلَ لَهُ فَإِنْ قَالَ إنْسَانٌ عَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ فَفِي جَوْفِهِ لَا بُدَّ ؟ قَالَ نَعَمْ وَإِنْ قَالَ عَلَيَّ جِوَارُ أَيَّامٍ فَبَابُهُ أَوْ فِي جَوْفِهِ إنْ شَاءَ ؛ كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْهُمَا .
قَالَ وَالِدِي وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَحَادِيثِ انْتَهَى وَذَهَبَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ إلَى الثَّانِي ، فَقَالَ فِي الرَّوْضِ إنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إلَّا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَالْجِوَارُ قَدْ يَكُونُ خَارِجَهُ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ انْتَهَى .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاعْتِكَافِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي كُتُبِهِمْ : الِاعْتِكَافُ جَائِزٌ قَالَ وَهُوَ جَهْلٌ انْتَهَى .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَلَا مِمَّنْ أَدْرَكْته اعْتَكَفَ إلَّا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَكِنْ لِشِدَّتِهِ وَأَنَّ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ سَوَاءٌ فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِيَ بِشُرُوطِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمُعْتَكِفِ ، هُوَ يَعْكُفُ الذُّنُوبَ وَيُجْرَى لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا } ، فِيهِ فَرْقَدٌ السِّنْجِيُّ ضَعِيفٌ ، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ خَبَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { مَنْ اعْتَكَفَ يَوْمًا وَلَيْلَةً يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَيْضًا } وَهُوَ ضَعِيفٌ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِي تَأَكُّدِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَسَبَبُهُ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ ، فَقَالَ إنِّي أُرِيت لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَإِنِّي نَسِيتهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وِتْرٍ فَإِنِّي أُرِيت أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ وَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَرْجِعْ فَرَجَعَ النَّاسُ إلَى الْمَسْجِدِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَجَاءَتْ

سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطِّينِ وَالْمَاءِ حَتَّى رَأَيْت الطِّينَ فِي أَرْنَبَتِهِ وَجَبْهَتِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ } ، وَفِي لَفْظِ لِمُسْلِمٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ } الْحَدِيثُ ، وَفِيهِ ، فَقَالَ { إنِّي اعْتَكَفْت الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْت الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ أَتَيْت فَقِيلَ لِي إنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ } الْحَدِيثَ ، وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا { اعْتِكَافُ عَشْرٍ فِي رَمَضَانَ بِحَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ } وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِدُونِ لَفْظَةِ { عَشْرٍ } .
( الْخَامِسَةُ ) الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ هِيَ اللَّيَالِيُ وَكَانَ يَعْتَكِفُ الْأَيَّامَ مَعَهَا أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ عَلَى اعْتِكَافِ اللَّيَالِيِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْرِيخِ بِهَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ مَحَلَّ الِاعْتِكَافِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ اعْتَكَفَ عَشْرًا أَوْ شَهْرًا وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَبْدَأُ الْعَشْرَ بِكَمَالِهَا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَنْ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ بِهِ إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ وَاللَّيْثَ ، وَقَالَ

بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ انْتَهَى وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ } وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْمُعْتَكَفَ وَانْقَطَعَ فِيهِ وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ بَعْدَ صَلَاتِهِ الصُّبْحَ لَا أَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ ابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ بَلْ كَانَ مِنْ قَبْلِ الْمَغْرِبِ مُعْتَكِفًا لَابِثًا فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ انْفَرَدَ .

( السَّادِسَةُ ) فِيهِ جَوَازُ أَنْ يُقَالَ رَمَضَانُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّهْرِ وَبِهِ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يُقَالُ رَمَضَانُ عَلَى انْفِرَادِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِقَيْدٍ ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ كَانَ مِثَالُ قَرِينَةٍ تَصْرِفُهُ إلَى الشَّهْرِ فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ ، فَيُقَالُ صُمْنَا رَمَضَانَ وَنَحْوَهُ وَيُكْرَهُ جَاءَ رَمَضَانُ وَنَحْوُهُ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَالْمَذْهَبَانِ الْأَخِيرَانِ فَاسِدَانِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا تَثْبُت بِنَهْيٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَهْيٌ ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تُطْلَقُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَرَاهَةٌ انْتَهَى .
( السَّابِعَةُ ) فِي { قَوْلِهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ } اسْتِمْرَارُ هَذَا الْحُكْمِ وَعَدَمُ نَسْخِهِ وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَأَشَارَتْ إلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ حَتَّى فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْتَكِفْنَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي حَيَاتِهِ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِنَّ الِاعْتِكَافَ بَعْدَ إذْنِهِ لِبَعْضِهِنَّ كَمَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَذَاكَ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ كَمَا قِيلَ خَوْفُ أَنْ يَكُنَّ غَيْرَ مُخْلِصَاتٍ فِي الِاعْتِكَافِ بَلْ أَرَدْنَ الْقُرْبَ مِنْهُ لِغَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ أَوْ ذَهَابِ الْمَقْصُودِ مِنْ الِاعْتِكَافِ بِكَوْنِهِنَّ مَعَهُ فِي الْمُعْتَكَفِ أَوْ لِتَضْيِيقِهِنَّ

الْمَسْجِدَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَهُ } .
( التَّاسِعَةُ ) يُسْتَثْنَى بِمَا ذَكَرْته مِنْ اسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ إلَى وَفَاتِهِ سَنَةَ تَرَكَ ذَلِكَ لِمَعْنًى وَعُوِّضَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ لَمَّا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَتْ زَيْنَبَ بِخِبَائِهَا فَضَرَبَ وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الْأَخْبِئَةَ ، فَقَالَ آلْبِرَّ تُرِدْنَ ؟ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ } لَفْظُ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ .
{ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ } ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ { اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ } .
( الْعَاشِرَةُ ) فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ } وَهَذَا لَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُرْ اعْتِكَافَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يَعْتَكِفُ غَيْرَهَا وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِمُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يُنَافِي فِعْلَهَا مَعَ زِيَادَةٍ أُخْرَى ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ التَّعْوِيضُ عَنْ عَامٍّ قَبْلَهُ لَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ ،

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ لَيْلَةً } قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعَشْرُ الَّتِي تَرَكَ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِ فَاعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ وَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ مِنْ الْعَامِ الثَّانِي لِيَقْضِيَ الْعَشْرَ فِي الشَّهْرِ كَمَا كَانَ بَدَأَهَا فِيهِ ( قُلْت ) يَرُدُّ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ الْمَذْكُورِ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ { فَسَافَرَ عَامًا فَلَمْ يَعْتَكِفْ } وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَانِعَهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَلِكَ الْعَامِ السَّفَرُ ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ مُقِيمًا يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَإِذَا سَافَرَ اعْتَكَفَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عِشْرِينَ } وَيُحْتَمَلُ أَنَّ سَبَبَ اعْتِكَافِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عِشْرِينَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقَرُّبِ لِاسْتِشْعَارِهِ قُرْبَ وَفَاتِهِ كَمَا { كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ } وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ } .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) ( فِيهِ ) رَدٌّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إمَامَةُ الْمُعْتَكِفِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ يَعْتَكِفُ كَانَ مُسْتَمِرًّا عَلَى إمَامَتِهِ بِالنَّاسِ بِلَا شَكٍّ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ جَوَازُ اعْتِكَافِ النِّسَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ لِلنِّسَاءِ مَكْرُوهٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَائِدَةِ التَّاسِعَةِ لَكَانَ مَذْهَبًا وَلَوْلَا أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَهُوَ حَافِظٌ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُنَّ اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ لَقَطَعْت بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لِلنِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ غَيْرُ جَائِزٍ وَمَا أَظُنُّ اسْتِئْذَانَهُنَّ مَحْفُوظًا وَلَكِنَّ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَافِظٌ ، وَقَدْ تَابَعَهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ فُضَيْلٍ عَلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَهُنَّ لَا يَرْفَعُ مَا ظَنَّهُ بِهِنَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِنَّ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فَبِهَذَا كَرِهْت اعْتِكَافَ الْمَرْأَةِ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَذَلِكَ بِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ إلَى مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ الْمَأْهُولِ لَيْلًا وَنَهَارًا كَثُرَ مَنْ يَرَاهَا وَمَنْ تَرَاهُ انْتَهَى .
وَبَوَّبَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ .
( بَابُ مَنْ كَرِهَ اعْتِكَافَ الْمَرْأَةِ ) .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) لَا شَكَّ فِي أَنَّ اعْتِكَافَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي مَسْجِدِهِ وَكَذَا اعْتِكَافُ أَزْوَاجِهِ فَأُخِذَ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الِاعْتِكَافِ بِالْمَسَاجِدِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مَسْجِدِ الْبَيْتِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ لَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ إذْ لَوْ جَازَ فِي الْبَيْتِ لَفَعَلُوهُ وَلَوْ مَرَّةً لِمَا فِي مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَشَقَّةِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ ، وَقَدْ أَرَانِي عَبْدُ اللَّهِ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَالْجُمْهُورُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ مُطْلَقًا أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَعْتَكِفُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ثُمَّ حَكَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ زَوْجِهَا وَجَوَّزَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِلرَّجُلِ أَيْضًا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْخَطَّابِيِّ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اعْتِكَافَهُ فِي بَيْتِهِ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ الْمُشْتَرِطُونَ لِلْمَسْجِدِ الْعَامِّ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُهُمْ يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَصِحُّ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَرَحْبَتِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَخْتَصُّ بِمَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ إلَّا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَاةُ كُلُّهَا أَيْ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَآخَرُونَ يَخْتَصُّ بِالْجَامِعِ

الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَخْتَصُّ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ نَبِيٍّ وَهُوَ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ وَلِهَذَا جَعَلَهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَقَالَ عَطَاءٌ لَا يَعْتَكِفُ إلَّا فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ اعْتَكَفَ لَيْلًا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ فِيهِ غَيْرَ صَائِمٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ صَوْمَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِلشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ الْمُزَنِيّ وَالْخَطَّابِيُّ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الصَّوْمُ وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ وَعَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { وَهُوَ مُجَاوِرٌ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْهَا { أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ وَهُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ ، وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
وَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ طُرُقٌ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَفِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ .
وَكَذَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ رِوَايَةَ مَالِكٍ ، وَفِيهَا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ هَلْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ أَوْ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ أَوْ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مَالِكٍ يَعْنِي عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
وَالصَّحِيحُ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَهَكَذَا رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
انْتَهَى .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ هُوَ صَحِيحٌ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ غَيْرَ مَالِكٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ؛ وَقَالَ أَبُو دَاوُد لَمْ يُتَابِعْ أَحَدٌ مَالِكًا عَلَى عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو أُوَيْسٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي

الْمُوَطَّإِ رَوَاهُ عَنْهُ الْقَعْنَبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى يَعْنِي النَّيْسَابُورِيَّ وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى وَأَبُو مُصْعَبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ وَخَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ وَمَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ الطَّبَّاعِ وَخَالَفَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعِيسَى بْنُ خَالِدٍ وَالْحَجَبِيُّ فَرَوَوْهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَمْرَةَ ( قُلْت ) .
رَوَاهُ هَكَذَا النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَقُتَيْبَةَ وَمَعْنٍ ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقِيلَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عُرْوَةُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ فَوَهَمَ فِيهِ وَهْمًا قَبِيحَا ، فَقَالَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أُدْخِلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ جَمْعُ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ لِيُونُسَ وَاللَّيْثِ لَا لِمَالِكٍ وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَأَنَّهُ حَمَلَ رِوَايَةَ مَالِكٍ عَلَى رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَيُونُسَ ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَلِكَ قَالَ شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ يُونُسَ وَكَذَا قَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ رُمْحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ كُلُّهُمْ قَالُوا عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَرَوَاهُ زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلُ بْنِ وَرْقَاءَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَذَا رَوَاهُ جُمْهُورُ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ

عَمْرَةَ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ لِمَالِكٍ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاتِهِ ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ثُمَّ حَكَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ .
قُلْت لِمَالِكٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ وَأَعَدْت عَلَيْهِ .
فَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ أَوْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ ثُمَّ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي عِلَلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ يُونُسُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَمَعْمَرٌ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَالزُّبَيْدِيُّ .
ثُمَّ قَالَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ مَالِكٍ فَجَمَعَ يُونُسُ وَاللَّيْثُ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ وَاجْتَمَعَ مَعْمَرٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَنَا حَدِيثُ هَؤُلَاءِ قَالَ وَاَلَّذِي أُنْكِرُ عَلَى مَالِكٍ ذِكْرُ عَمْرَةَ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّ تَرْجِيلَ عَائِشَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ وَحْدَهُ ( قُلْت ) وُجِدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرَةَ أَيْضًا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْهُمَا وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ هِشَامٌ وَتَمَّامُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَفِي حَدِيثِهِمَا { وَأَنَا حَائِضٌ } .
وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ ( قُلْت ) الرِّوَايَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِيهَا وَهِيَ حَائِضٌ ، وَقَدْ رَوَاهَا غَيْرُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ رِوَايَةِ عُرْوَةَ سَوَاءً ، إلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ الْأَسْوَدِ { يُخْرِجُ إلَيَّ رَأْسَهُ } ، وَفِي حَدِيثِ عُرْوَةَ { يُدْنِي } ( قُلْت ) رِوَايَةُ الْأَسْوَدِ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ كِلَاهُمَا فِي

الصَّحِيحَيْنِ ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ أَيْضًا ، وَفِيهِ { وَأَنَا حَائِضٌ } مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهَا { تُرَجِّلُ } بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ تُسَرِّحُ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ شَعْرَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِيهِ مَحْذُوفَانِ كَمَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَقَبَضْت قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } أَيْ مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلْهَرَوِيِّ : التَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَحْسِينُهُ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ رَجَّلَ شَعْرَهُ أَيْ مَشَطَهُ وَأَرْسَلَهُ وَيُقَالُ شَعْرٌ رَجِلٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ إذَا كَانَ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ ( قُلْت ) وَفِيهِ لُغَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ إسْكَانُ الْجِيمِ حَكَاهَا فِي الْمُحْكَمِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ التَّرْجِيلُ بَلْ الشَّعْرُ ثُمَّ يُمَشِّطُ ( قُلْت ) لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي الصِّحَاحِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الِاعْتِكَافِ مَعَ قِصَرِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِالْعِبَادَةِ فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ } ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ النَّهْيُ عَنْ التَّرْجِيلِ إلَّا غِبًّا ، وَرَوَى ابْنُ طَاهِرٍ فِي كِتَابِ صِفَةِ التَّصَوُّفِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُفَارِقُ مُصَلَّاهُ سِوَاكُهُ وَمِشْطُهُ } ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِسْنَادُهُمَا ضَعِيفٌ .
( الرَّابِعَةُ ) لَفْظُ رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ مُحْتَمِلٌ لِتَسْرِيحِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَلِتَسْرِيحِ شَعْرِ

اللِّحْيَةِ وَكَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ { أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } لَكِنْ بَقِيَّةُ أَلْفَاظِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَعَيِّنَةٌ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ كَقَوْلِهَا { يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ } فَإِنْ حَمَلْت الْأُولَى عَلَى بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ وَفَسَّرْت بِهَا فَتَسْرِيحُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ بِالْقِيَاسِ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ ، لَكِنْ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكِلُ تَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ إلَى أَحَدٍ وَإِنَّمَا كَانَ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ شَعْرِ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ يَعْسُرُ مُبَاشَرَةُ تَسْرِيحِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي مُؤَخَّرِهِ فَلِهَذَا كَانَ يَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِزَوْجَاتِهِ } .
( الْخَامِسَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِتَسْرِيحِ الشَّعْرِ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَفِي مَعْنَاهُ حَلْقُ الرَّأْسِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَتَنْظِيفُ الْبَدَنِ مِنْ الشَّعَثِ وَالدَّرَنِ انْتَهَى وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ فِعْلِ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَلَامِ الدُّنْيَا وَعَمَلِ الصَّنْعَةِ مِنْ خِيَاطَةٍ وَغَيْرِهَا وَبِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ ، وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَلَا يَكْتُبُهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ وَكِتَابَتِهِ أَهَمُّ مِنْ تَسْرِيحِ الشَّعْرِ .

( السَّادِسَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ مُمَاسَّةَ الْمُعْتَكِفِ لِلنِّسَاءٍ وَمُمَاسَّتَهُنَّ لَهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يُنَافِي اعْتِكَافَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَهَلْ يَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِكَافُ ؟ يُنْظَرُ فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ إنْزَالٌ أَبْطَلَ الِاعْتِكَافَ وَإِلَّا فَلَا ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَالَ مَالِكٌ يَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِكَافُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ وَأَمَّا الْجِمَاعُ فِي الِاعْتِكَافِ فَهُوَ حَرَامٌ مُفْسِدٌ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ التَّعَمُّدِ فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ يُفْسِدُ .

( السَّابِعَةُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ أَنَّ الْيَدَيْنِ مِنْ الْمَرْأَةِ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ وَلَوْ كَانَتَا عَوْرَةً مَا بَاشَرَتْهُ بِهِمَا فِي اعْتِكَافِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَاعْتَرَضَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، فَقَالَ : إنْ كَانَتْ الْمُبَاشَرَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا تَخْتَصُّ بِالْعَوْرَةِ ؛ فَلَوْ قَبَّلَ الْمُعْتَكِفُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ آتِيًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَ إمَامِهِ أَنَّ الْقُبْلَةَ مُبْطِلَةٌ لِلِاعْتِكَافِ أَمَّا مَنْ يَحْمِلُ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْإِنْزَالُ فَالْمُرَجَّحُ حِينَئِذٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْبُطْلَانُ ، وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ هُوَ عَلَى الْخُصُوصِ فِي الْوَطْءِ ، ثُمَّ قَالَ وَعَجِبْنَا لَهُ كَيْفَ يُحْمَلُ اللَّمْسُ هُنَاكَ عَلَى اللَّمْسِ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ وَيَقُولُ الْمُبَاشَرَةُ هُنَا عَلَى الْجِمَاعِ قَالَ وَهَذِهِ الْمُنَاقَضَةُ لَيْسَ لَهُ عَنْهَا مَرَامٌ ، هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مَرْدُودٌ وَأَيُّ مُنَاقَضَةٍ فِي هَذَا وَالْمُبَاشَرَةُ وَاللَّمْسُ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى اللَّائِقِ بِهِ ، أَمَّا حَمْلُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ فَهُوَ قَوْلُ تُرْجَمَانِ الْقُرْآنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ بِهِ أَيْضًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَآخَرُونَ وَكَفَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ ، فَقَالَ فِي الْإِشْرَافِ : الْمُبَاشَرَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا الْمُعْتَكِفَ الْجِمَاعُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَعْلَمُهُ انْتَهَى .
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَرَى النَّقْضَ بِاللَّمْسِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَالْأَحْدَاثُ كُلُّهَا كَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ حَدَثُهُ بِلَا قَصْدٍ

انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَغَايَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنْ بَابِهَا كَقَوْلِهِ عَاقَبْت اللِّصَّ وَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَهِيَ هُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمَسَ امْرَأَتَهُ بِلَا حَائِلٍ مُتَلَذِّذًا بِهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَلَوْ جَامَعَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَخُصُّ الْمُبَاشَرَةَ الْمُحَرَّمَةَ فِي الِاعْتِكَافِ بِالْجِمَاعِ بَلْ يُعَدِّيهِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ بِشَهْوَةٍ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِمَاعٌ كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ فَيَحْرُمُ ذَلِكَ وَهَلْ يَفْسُدُ بِهِ الِاعْتِكَافُ إنْ فَعَلَهُ ؟ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ اقْتَرَنَ بِهِ إنْزَالٌ أَفْسَدَ الِاعْتِكَافَ وَإِلَّا فَلَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .

( الثَّامِنَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِخْدَامِ الزَّوْجَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا هَتْكُ حُرْمَةٍ وَلَا إضْرَارٌ بِهَا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ جَوَازُ اسْتِخْدَامِ الزَّوْجَةِ فِي الْغُسْلِ وَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَغَيْرِهَا بِرِضَاهَا وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ السُّنَّةِ وَعَمَلُ السَّلَفِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَأَمَّا بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا وَمُلَازَمَةُ بَيْتِهِ فَقَطْ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَنْصُوصًا وَشَرْطُ الْقِيَاسِ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ ، وَفِي الْفَرْعِ هُنَا زِيَادَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ الْإِلْحَاقِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْغُسْلِ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِخْدَامِهَا فِي الْأَمْرِ الْخَفِيفِ احْتِمَالُ ذَلِكَ فِي الثَّقِيلِ الشَّدِيدِ وَلَسْنَا نُنْكِرُ هَذَا الْحُكْمَ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمَا احْتَاجَ إلَى إخْرَاجِ رَأْسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ خَاصَّةً وَلَكَانَ يَخْرُجُ بِجُمْلَتِهِ لِيَفْعَلَ حَاجَتَهُ مِنْ تَسْرِيحِ رَأْسِهِ فِي بَيْتِهِ ، وَقَدْ أَكَّدَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا فِعْلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ بَيَّنَ بِهِ الِاعْتِكَافَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الِاعْتِكَافِ وَهَيْئَتُهُ الْمَشْرُوعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ إخْرَاجَ الرَّأْسِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِكَافُ وَتُقَاسُ بِهِ بَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فِي الْأَيْمَانِ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضَ أَعْضَائِهِ كَرَأْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَبِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا ، فَقَالُوا لَوْ أَدْخَلَ فِي الدَّارِ يَدَهُ أَوْ رَأْسَهُ أَوْ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَا لَوْ مَدَّ رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهُمَا الدَّارَ وَهُوَ خَارِجُهَا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا وَضَعَهُمَا فِي الدَّارِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا أَوْ حَصَلَ فِي الدَّارِ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ وَكَذَا فِي الْحَلِفِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ فِيمَا لَوْ أَدْخَلَ رِجْلًا وَاحِدَةً إنْ اعْتَمَدَ عَلَى الْخَارِجَةِ أَيْ كَانَ قَوَّاهُ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ الدَّاخِلَةَ لَمْ يَسْقُطْ فَلَمْ يَدْخُلْ وَإِنْ اعْتَمَدَ عَلَى الدَّاخِلَةِ فَقَدْ دَخَلَ وَهُوَ حَسَنٌ ، وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ .
لَوْ اضْطَجَعَ وَأَخْرَجَ بَعْضَ بَدَنِهِ فَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ الْأَكْثَرِ بِالْمِسَاحَةِ وَيُتَّجَهُ اعْتِبَارُهُ بِالْفِعْلِ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الِاعْتِمَادَ عَلَى الرِّجْلِ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ تَعْتَكِفُ مَعَهُ كُلَّمَا كَانَ يَعْتَكِفُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِالرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ أَنَّهَا كَانَتْ حِينَئِذٍ حَائِضًا وَلَعَلَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ اعْتِكَافِهَا ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِمُمَاسَّةِ الْحَائِضِ فِي تَرْجِيلِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَسْلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْحُجْرَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ الْبَيْتُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبِنَائِهَا بِالْحِجَارَةِ أَوْ لِمَنْعِهَا الْمَالَ ، قَوْلَانِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ وَأَضَافَ الْحُجْرَةَ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ سَكَنِهَا بِهَا وَإِلَّا فَهِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26