كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ بَدْرِيٌّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : خَرَجَ إلَيْهَا فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ مِنْ الرَّوْحَاءِ وَأَمَّرَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ غَيْرُهُ : مَاتَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ .
وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ أَخُو عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَبِيهِ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْهُ وَأَسْلَمَ قَبْلَهُ وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَحَزِنَ عَلَيْهِ عُمَرُ حُزْنًا شَدِيدًا .
( الثَّالِثَةُ ) الْحَيَّاتُ جَمْعُ حَيَّةٍ وَهُوَ الْجِنْسُ الْمَعْرُوفُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ نَوْعٌ دُونَ نَوْعٍ فَقَوْلُهُ بَعْدَهُ ( وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ ) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَتُطْلَقُ الْحَيَّةُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَإِنَّمَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسٍ كَبَطَّةٍ وَدَجَاجَةٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ الْعَرَبِ رَأَيْت حَيًّا عَلَى حَيَّةٍ أَيْ ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ الْحَيَاةِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلِهَذَا قَالُوا فِي النِّسْبَةِ إلَيْهَا حَيَوِيٌّ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْوَاوِيِّ لَقَالُوا : حَوَوِيٌّ وَالْحَيَّوْتُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ ذَكَرُ الْحَيَّاتِ .
.

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتٍ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لِلِاسْتِحْبَابِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْرِمًا أَمْ لَا وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّافِعِيُّ فِي الْحَجِّ لَكِنَّهُ قَالَ فِي أَوَائِلِ الْأَطْعِمَةِ : قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ وَسَاعِدُ الْأَصْحَابِ مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِهِ إسْقَاطٌ لِحُرْمَتِهِ وَمَنْعٌ مِنْ اقْتِنَائِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَأْكُولًا لَجَازَ اقْتِنَاؤُهُ لِلتَّسْمِينِ وَإِعْدَادُهُ لِلْأَكْلِ فَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ هَذَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ مَا تَقَدَّمَ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَطْعِمَةِ مَنْعُ اقْتِنَائِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ قَتْلِهِ فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْأَمْرُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ إلَى دَفْعِ الْمُضِرَّةِ الْمَخُوفَةِ مِنْ الْحَيَّاتِ فَمَا كَانَ مِنْهَا مُحَقَّقُ الضَّرَرِ وَجَبَتْ الْمُبَادَرَةُ إلَى قَتْلِهِ .
( قُلْت ) جَعَلَهُ أَوَّلًا مِنْ بَابِ الْإِرْشَادِ وَهُوَ مُنْحَطٌّ عَنْ الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ بِخِلَافِ الِاسْتِحْبَابِ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ دِينِيَّةً ثُمَّ جَعَلَ الْمُبَادَرَةَ لِقَتْلِهِ وَاجِبَةً وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرَرِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْدُوَ عَلَى الْإِنْسَانِ فَالْمُبَادَرَةُ إلَى قَتْلِهِ وَاجِبَةٌ فَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلْبَهِيمَةِ حَرَامٌ .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ } هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ هُمَا الْخَطَّانِ الْأَبْيَضَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ وَأَصْلُ الطُّفْيَةِ خُوصَةُ الْمُقْلِ وَجَمْعُهَا طُفًى شَبَّهَ الْخَطَّيْنِ عَلَى ظَهْرِهَا بِخُوصَتَيْ الْمُقْلِ .
انْتَهَى .
وَرُبَّمَا قِيلَ لِهَذِهِ الْحَيَّةِ : طُفْيَةٌ ، عَلَى مَعْنَى ذَاتِ طُفْيَةٍ ، قَالَ الشَّاعِرُ : كَمَا تَذِلُّ الطُّفَى مِنْ رُقْيَةِ الرَّاقِي أَيْ ذَوَاتُ الطُّفَى ، وَقَالَ الْخَلِيلُ فِي ذِي الطُّفْيَتَيْنِ هِيَ حَيَّةٌ لَيِّنَةٌ خَبِيثَةٌ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هِيَ شَرُّ الْحَيَّاتِ فِيمَا يُقَالُ .

( السَّادِسَةُ ) { الْأَبْتَرَ } بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ الْأَفْعَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِصَرِ ذَنَبِهَا وَذَكَرُ الْأَفْعَى أُفْعُوَانٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي الْأَبْتَرِ إنَّهُ صِنْفٌ مِنْ الْحَيَّاتِ أَزْرَقُ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ لَا تَنْظُرُ إلَيْهِ حَامِلٌ إلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الْبَتْرُ شِرَارُ الْحَيَّاتِ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ تَأْوِيلَانِ ذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ : ( أَحَدُهُمَا ) مَعْنَاهُ يَخْطَفَانِ الْبَصَرِ وَيَطْمِسَانِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إلَيْهِ لِخَاصَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بَصَرِهِمَا إذَا وَقَعَ عَلَى بَصَرِ الْإِنْسَانِ وَتُؤَيِّدُ هَذَا الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَلْتَمِعَانِ الْبَصَرَ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْبَصَرَ بِاللَّسْعِ وَالنَّهْشِ ، قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَفِي الْحَيَّاتِ نَوْعٌ يُسَمَّى النَّاظِرُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى عَيْنِ إنْسَانٍ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ .
انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ حَكَى أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِكَشْفِ الْمُشْكِلِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ بِعِرَاقِ الْعَجَمِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْحَيَّاتِ يَهْلَكُ الرَّائِي لَهَا بِنَفْسِ رُؤْيَتِهَا وَمِنْهَا مَا يَهْلَكُ الْمُرُورُ عَلَى طَرِيقِهَا .
( الثَّامِنَةُ ) { وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ } مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَامِلَ إذَا نَظَرَتْ إلَيْهِمَا وَخَافَتْ أَسْقَطَتْ الْحَمْلَ غَالِبًا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : نَرَى ذَلِكَ مِنْ سُمِّهِمَا .
انْتَهَى .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا لَحَظَتْ الْحَامِلَ أَسْقَطَتْ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَذَلِكَ بِالرَّوْعِ مِنْهُ أَوْ بِخَاصَّتِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ إذْ يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي الرَّوْعِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا يُلْتَفَتُ

إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ بِالتَّرْوِيعِ ؛ لِأَنَّ التَّرْوِيعَ لَيْسَ خَاصًّا بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحَيَّاتِ فَتَذْهَبُ خُصُوصِيَّةُ هَذَا النَّوْعِ بِهَذَا الِاعْتِنَاءِ الْعَظِيمِ وَالتَّحْذِيرِ الشَّدِيدِ ، ثُمَّ إنْ صَحَّ هَذَا فِي طَرْحِ الْحَبَلَ فَلَا يَصِحُّ فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ فَإِنَّ التَّرْوِيعَ لَا يُذْهِبُهُ

( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ تَمَسَّكَ ابْنُ عُمَرَ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتٍ وَطَرْدِهِ فِي كُلِّ حَيَّةٍ حَتَّى نُقِلَ لَهُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِغَيْرِ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ جَمَعَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : ( أَحَدُهَا ) قَتْلُهُنَّ مُطْلَقًا فِي الْبُيُوتِ وَالصَّحَارِي بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كُنَّ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِالْعُمُومَاتِ فِي قَتْلِهِنَّ مَعَ التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِهِ .
( ثَانِيهَا ) قَتْلُهُنَّ إلَّا مَا كَانَ مِنْهُنَّ فِي الْبُيُوتِ بِالْمَدِينَةِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كُنَّ فَلَا يُقْتَلْنَ إلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثًا ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَالْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُمْ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَأْذَنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا { إنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَتَعَوَّذُوا مِنْهُ فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِهِ إلَى بُيُوتِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إلَى جِنْسِ الْبُيُوتِ .
( ثَالِثُهَا ) اسْتِثْنَاءُ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ سَوَاءً كُنَّ بِالْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهَا إلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَاحِبِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ فَقَالَ : إذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ

شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا : أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ أَنْ لَا تُؤْذُونَا ، فَإِنْ عُدْنَ فَاقْتُلُوهُنَّ } فَلَمْ يَخُصَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بُيُوتَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ عِنْدِي مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ وَالْأَظْهَرُ فِيهِ الْعُمُومُ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِذَوَاتِ الْبُيُوتِ فِي الْمَدِينَةِ هُوَ الْأَوْلَى لِعُمُومِ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } وَذَكَرَ فِيهِنَّ الْحَيَّةَ وَلَا نَاقِدَ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ إلَى النَّوْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ قَدْ آمَنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّوْعَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُرُهُمْ بَلَدٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِمْ عَدَدٌ وَالْعَجَبُ مِنْ ابْنِ نَافِعٍ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْك نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } وَلَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ وَفْدَ جِنِّ نَصِيبَيْنِ آتَوْنِي وَنِعْمَ الْجِنُّ هُمْ فَسَأَلُونِي الزَّادَ } الْحَدِيثَ فَهَذِهِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ مِنْ جِنِّ غَيْرِ الْمَدِينَةِ مَنْ أَسْلَمَ فَلَا يُقْتَلُ شَيْءٌ مِنْهَا حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( رَابِعُهَا ) اسْتِثْنَاءُ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ مُطْلَقًا فَلَا يُقْتَلْنَ وَلَا بَعْدَ الْإِنْذَارِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ يَذْكُرْ إنْذَارَهُنَّ .
( خَامِسُهَا ) اسْتِثْنَاءُ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ فَلَا يُقْتَلْنَ إلَّا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يُقْتَلَانِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا بِلَا إنْذَارٍ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ

أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَقْتُلُوا الْحَيَّاتِ إلَّا كُلَّ أَبْتَرِ ذِي طُفْيَتَيْنِ } وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ طُرُقٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ قَتْلِ الْحَيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ وَيَطْرَحَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ حَيَّاتِ الصَّحَارِي صِغَارًا كُنَّ أَوْ كِبَارًا أَيَّ نَوْعٍ كُنَّ مِنْ الْحَيَّاتِ .
قَالَ : وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَهْذِيبُهَا بِاسْتِعْمَالِ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانًا لِنَسْخِ قَتْلِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا جُمْلَةً وَفِيهِ اسْتِثْنَاءُ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَهُوَ حَدِيثٌ مُفَسِّرٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ لِمَنْ فَهِمَ ، وَعَلِمَ فَهُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ وَعَلَيْهِ يَصِحُّ تَرْتِيبُ الْآثَارِ فِيهِ .
( سَادِسُهَا ) رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ قَالَ : اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلِّهَا إلَّا الْجِنَانَ الْأَبْيَضَ الَّذِي كَأَنَّهُ قَضِيبُ فِضَّةٍ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ .

الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مُخَصِّصٌ وَبِهَذَا قَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ الْمُخَصِّصِ إجْمَاعًا قَبْلَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ هَكَذَا نَقَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ الْمَقَالَتَيْنِ وَمَالَ لِمَقَالَةِ الصَّيْرَفِيِّ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ دَلِيلَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَسَكَتَ عَنْ دَلِيلِهِ ، فَلِهَذَا رَجَّحَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَكِنْ حَكَى الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ : يَبْحَثُ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُهُ ، وَقِيلَ : إلَى أَنْ يَقْطَعَ بِعَدَمِهِ ، وَقِيلَ : إلَى أَنْ يَعْتَقِدَ عَدَمَهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ .
قَالُوا : وَاخْتِلَافُ الصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ سُرَيْجٍ إنَّمَا هُوَ فِي اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ بَعْدَ وُرُودِهِ وَقَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ إجْمَاعًا ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِنَقْلِ الْخِلَافِ هَكَذَا فَقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) لَا يَضُرُّ الشَّكُّ فِي الْمُخْبِرِ لِابْنِ عُمَرَ هَلْ هُوَ أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَحَابِيَّانِ مَعْرُوفَانِ وَإِذَا دَارَ الْخَبَرُ بَيْنَ ثِقَتَيْنِ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْجَزْمَ بِأَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ بِذَلِكَ وَمَعَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { يُطَارِدُ حَيَّةً } أَيْ يَطْلُبُهَا وَيَتَتَبَّعُهَا لِيَقْتُلَهَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أَيْ يُخَادِعُهَا لِيَصِيدَهَا وَهُوَ مِنْ طِرَادِ الصَّيْدِ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { إنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ } كَذَا ضَبَطْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَمَرَ بِكَذَا وَنُهِيَ عَنْ كَذَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ لِانْصِرَافِهِ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ التَّابِعِيُّ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْغَزَالِيِّ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ وَفِي بَعْضٍ طُرُقُهُ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ جِنَانِ الْبُيُوتِ } وَهُوَ بِجِيمٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ مُشَدَّدَةٍ جَمْعُ جَانٍّ وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ ، وَقِيلَ : الدَّقِيقَةُ الْخَفِيفَةُ ، وَقِيلَ : الدَّقِيقَةُ الْبَيْضَاءُ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ يُقَالُ : إنَّ الْجِنَانَ هِيَ الْحَيَّاتُ الطِّوَالُ الْبِيضُ وَقِيلَ : مَا تَضُرُّ شَيْئًا فَلِذَلِكَ أَمْسَكَ عَنْ قَتْلِهَا ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : إنْ قِيلَ : قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَيَّةَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنْ عَصَا مُوسَى بِأَنَّهَا جَانٌّ وَأَنَّهَا ثُعْبَانٌ عَظِيمٌ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا كَانَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا فِي الْخِلْقَةِ وَمِثْلُ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ الدَّقِيقَةِ فِي الْخِفَّةِ وَالسُّرْعَةِ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ } هَكَذَا قَالَ : أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَرْبَابُ الْمَعَانِي .
انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجِنَانُ مَسْخُ الْجِنِّ كَمَا مُسِخَتْ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الْجِنُّ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِضُونَ لِلنَّاسِ وَالْخَيْلُ الَّذِينَ يَتَخَيَّلُونَ لِلنَّاسِ وَيُؤْذُونَهُمْ ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ : الْجِنَانُ مَا لَا يَعْتَرِضُ لِلنَّاسِ وَالْخَيْلُ مَا يَعْتَرِضُ لَهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ وَأَنْشَدَ تَنَاوُحُ جِنَانٍ وَجِنٍّ وَخَيْلٍ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) لِلنَّهْيِ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ شَرْطَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِنْذَارِ .
وَ ( الثَّانِي ) أَنْ لَا يَكُونَ ذَا طُفْيَتَيْنِ وَلَا أَبْتَرَ فَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُقْتَلُ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ بِغَيْرِ إنْذَارٍ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا وَإِنَّمَا تَتِمُّ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ إذَا جُمِعَتْ طُرُقُهُ وَقَدْ اجْتَمَعَ هَذَانِ الْقَيْدَانِ مِنْ طُرُقِهِ وَلِهَذَا صَوَّبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالْحَقِّ لِمَا بَيَّنَّاهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ الْإِنْذَارِ فِي حَدِيثِ أَبِي لَيْلَى وَذَكَرْنَاهُ فِي الْفَائِدَةِ التَّاسِعَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ أَنْشُدُكُنَّ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ أَنْ لَا تُؤْذُونَا ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : أَمَّا صِفَةُ الْإِنْذَارِ فَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ أَنْ لَا تُؤْذُونَا أَوْ تَظْهَرُوا لَنَا } وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ قَالَ : يَكْفِي فِي الْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولَ : أُحْرِجُ عَلَيْك بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ أَنْ لَا تَبْدُوَ لَنَا وَلَا تُؤْذِينَا وَأَظُنُّ مَالِكًا إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِقَوْلِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ .
( فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا ) فَلِهَذَا ذَكَرَ أُحْرِجُ عَلَيْك .
انْتَهَى .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ مَالِكٌ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُنْذَرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ تُنْذَرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فِي الْيَوْمِ مِرَارًا يُرِيدُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إنْذَارِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .

وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ فَلْتَكُنْ الْيُمْنَى أُولَهُمَا يَنْتَعِلُ وَآخِرُهُمَا يَنْزِعُ }
( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ فَلْتَكُنْ الْيُمْنَى أُولَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرُهُمَا تُنْزَعُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ لُبْسِ النِّعَالِ فِي الْجُمْلَةِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا اسْتَكْثِرُوا مِنْ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ } وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالرَّاكِبِ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ وَقِلَّةِ تَعَبِهِ وَسَلَامَةِ رِجْلِهِ مِمَّا يَعْرِضُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ خُشُونَةٍ وَشَوْكٍ وَأَذًى وَنَحْوِ ذَلِكَ .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الِابْتِدَاءٍ فِي لُبْسِ النَّعْلِ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى وَفِي نَزْعِهَا بِالرِّجْلِ الْيُسْرَى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَمَنْ ابْتَدَأَ فِي انْتِعَالِهِ بِشِمَالِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ وَبِئْسَ مَا صَنَعَ إذَا كَانَ بِالنَّهْيِ عَالِمًا وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ لُبْسُ نَعْلِهِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعُودَ وَالْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ .
( قُلْت ) كَانَ يَنْبَغِي إذَا بَدَأَ بِالْيُسْرَى أَنْ يَنْزِعَ النَّعْلَ مِنْهَا لِيَبْتَدِئَ بِالْيُمْنَى اسْتِدْرَاكًا لِمَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) أَكَّدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ { فَلْتَكُنْ الْيُمْنَى أُولَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرُهُمَا تُنْزَعُ } فَأَشَارَ إلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْيُسْرَى فِي النِّزَاعِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَهَا بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ إكْرَامِ الْيُمْنَى وَهُوَ زِيَادَةُ بَقَاءِ النَّعْلِ فِيهَا بَعْدَ صَاحِبَتِهَا وَضَبَطْنَا قَوْلَهُ أُولَهُمَا وَآخِرَهُمَا بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ ، وَقَوْلُهُ : تُنْعَلُ وَتُنْزَعُ ؛ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْيُمْنَى أُولَى فِي الِانْتِعَالِ وَأُخْرَى فِي النَّزْعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ تُنْعَلُ وَقَوْلَهُ تُنْزَعُ ، وَيَكُونَ قَوْلُهُ أُولَهُمَا وَآخِرُهُمَا مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْحَالِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أُولَهُمَا وَآخِرَهُمَا مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقَوْلُهُ : تُنْعَلُ وَتُنْزَعُ ، خَبَرَانِ لَهُمَا وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ .

( الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ التَّيَامُنُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِفَضْلِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ حِسًّا فِي الْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ وَشَرْعًا فِي النَّدْبِ إلَى تَقْدِيمِهَا وَصِيَانَتِهَا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَاسْتُحِبَّ الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالزِّينَةِ وَالنَّظَافَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَلُبْسِ النَّعْلِ وَالْخُفِّ وَالْمَدَاسِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْكُمِّ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَتَرْجِيلِهِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَالسِّوَاكِ وَالِاكْتِحَالِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ وَدَفْعِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الدَّفْعِ الْحَسَنَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِالْيَسَارِ فِي كُلِّ مَا هُوَ ضِدُّ السَّابِقِ فَمِنْ ذَلِكَ خَلْعُ النَّعْلِ وَالْخُفِّ وَالْمَدَاسِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْكُمِّ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَدُخُولِ الْخَلَاءِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَتَنَاوُلِ أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ وَالِامْتِخَاطِ وَالِاسْتِنْثَارِ وَتَعَاطِي الْمُسْتَقْذَرَاتِ وَأَشْبَاهِهَا .

( السَّادِسَةُ ) إذَا بَدَأَ بِلُبْسِ النَّعْلِ الْيُمْنَى أَوْ بِخَلْعِ الْيُسْرَى كَمَا هُوَ السُّنَّةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ لُبْسَ الْيُسْرَى أَوْ نَزْعَ الْيُمْنَى بَلْ يُبَادِرُ إلَى ذَلِكَ عَلَى الْوَلَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْمَشْيُ بِإِحْدَاهُمَا وَلِذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ { وَلِيَنْتَعِلهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا } وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْيَمِينَ مُكَرَّمَةٌ فَلِذَلِكَ يُبْدَأُ بِهَا إذَا انْتَعَلَ وَيُؤَخِّرُهَا إذَا خَلَعَ لِتَكُونَ الزِّينَةُ بَاقِيَةً عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَلَى الشِّمَالِ قَالَ : وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَبْقَى عَلَيْهَا النَّعْلُ دَائِمًا لِقَوْلِهِ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا .

وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلٍ أَحَدِكُمْ أَوْ شِرَاكُهُ فَلَا يَمْشِي فِي إحْدَاهُمَا بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةٌ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

( الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ) وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ أَوْ شِرَاكُهُ فَلَا يَمْشِي فِي إحْدَاهُمَا بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةٌ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رَزِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَهَا } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا خُفٍّ وَاحِدٍ } الْحَدِيثَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ كَمَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ النَّوَوِيُّ وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ وَلَا يَحِلُّ الْمَشْيُ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَلَا نَعْلٍ وَاحِدَةٍ .
( الثَّالِثَةُ ) بَوَّبَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَرَوَى فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ ( رُبَّمَا مَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ ) ثُمَّ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَائِشَةَ وَقَالَ : إنَّهُ أَصَحُّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ أَوْ

يَكُونُ يَسِيرًا ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لَعَلَّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ وَقَعَ مِنْهُ نَادِرًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِعُذْرٍ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِالْعُذْرِ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ رِوَايَةِ مَنْدَلٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْشِي فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى تَصْلُحَ } وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى وُقُوعِهِ نَادِرًا لِضَرُورَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( رُبَّمَا ) فَإِنَّهَا لِلتَّقْلِيلِ وَكَذَلِكَ فِعْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَعَلَّهُ لِعُذْرٍ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَمْشِي فِي خُفٍّ وَاحِدٍ ، وَتَقُولُ : لَأُخِيفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَقَالَ وَالِدِي : فَمَا الَّذِي أَرَادَتْ بِإِخَافَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مُخَالَفَتِهِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ لَأُخَالِفَنَّ وَلَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الْمَنْعِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يَلْتَفِتْ أَهْلُ الْعِلْمِ إلَى مُعَارَضَةِ عَائِشَةَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ لِضَعْفِ إسْنَادِ حَدِيثِهَا وَلِأَنَّ السُّنَنَ لَا تُعَارَضُ بِالرَّأْيِ .
قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا لَمْ تُعَارِضْ أَبَا هُرَيْرَةَ بِرَأْيِهَا وَقَالَتْ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ } قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
انْتَهَى .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ إذَا انْقَطَعَ شِسْعُهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُصْلِحَ شِسْعَهُ وَرَوَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ

عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةُ قَالَ : رَأَيْت عَلِيًّا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ بِالْمَدَائِنِ كَانَ يُصْلِحُ شِسْعَهُ قَالَ : وَالِدِي ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَقْصُورَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَمْشِي فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا مَعْنَاهُ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عَنْ ضَرُورَةٍ أَوْ كَانَ يَسِيرًا لِجَوَازِ أَنْ يُصْلِحَ الْأُخْرَى لَا أَنَّهُ أَطَالَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : وَلَا حُجَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ وَالِدِي : سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ هَذَا وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُوهُ ذَكَرَهُمْ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ ، وَوَثَّقَ الْعِجْلِيّ أَيْضًا أَبَاهُ عُمَرَ بْنَ عَلِيٍّ وَبَاقِيهِمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَأَى سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ أَوْ خُفٍّ وَاحِدٍ أَثَرٌ لَمْ يَصِحَّ أَوْ لَهُ تَأْوِيلٌ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُ الْأُخْرَى قَالَ : وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ هَلْ يَقِفُ حَتَّى يُصْلِحَهَا أَوْ يَمْشِي أَثْنَاءَ مَا يُصْلِحُهَا فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ حَارَّةٍ أَيْ مَنَعَ الْوُقُوفَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَالْمَشْيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ مَعًا كَمَا أَفْصَحَ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ : لِيُحْفِهِمَا وَلَا بُدَّ حَتَّى يُصْلِحَ الْأُخْرَى إلَّا فِي الْوُقُوفِ الْخَفِيفِ وَالْمَشْيِ الْيَسِيرِ ، لَكِنْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَنْقَطِعُ شِسْعُ نَعْلِهِ وَهُوَ فِي أَرْضٍ حَارَّةٍ هَلْ يَمْشِي فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا قَالَ : لَا وَلَكِنْ لِيُحْفِهِمَا

جَمِيعًا أَوْ لِيَقِفْ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَتْوَى وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْأَثَرِ وَعَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ : سَبَبُهُ أَنَّ ذَلِكَ تَشْوِيهٌ وَمَشَقَّةٌ وَمُخَالِفٌ لِلْوَقَارِ وَلِأَنَّ الْمُنْتَعِلَةَ تَصِيرُ أَرْفَعَ مِنْ الْأُخْرَى فَيَعْسُرُ مَشْيُهُ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْعِثَارِ .
انْتَهَى .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : قِيلَ : لِأَنَّهَا مِشْيَةُ الشَّيْطَانِ وَقِيلَ : لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الِاعْتِدَالِ فَهُوَ إذَا تَحَفَّظَ بِالرِّجْلِ الْحَافِيَةِ تَعَثَّرَ بِالْأُخْرَى أَوْ يَكُونُ أَحَدُ شِقَّيْهِ أَعْلَى فِي الْمَشْيِ مِنْ الْآخَرِ وَذَلِكَ اخْتِلَالٌ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالشُّهْرَةِ وَامْتِدَادِ الْأَبْصَارِ إلَى مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْهُ وَكُلُّ لِبَاسٍ صَارَ لِصَاحِبِهِ بِهِ شُهْرَةٌ فِي الْقُبْحِ فَحُكْمُهُ أَنْ يُتَّقَى وَيُجْتَنَبَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُثْلَةِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا قَدْ يَجْمَعُ أُمُورًا : ( مِنْهَا ) أَنَّهُ قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ أَحَدِ الْقَدَمَيْنِ مِنْهُ عَلَى الْحَفَاءِ إنَّمَا هُوَ مَوْضِعُ التَّوَقِّي وَالتَّهَيُّبِ لِأَذًى يُصِيبُهُ أَوْ حَجَرٍ يَصْدِمُهُ وَيَكُونُ وَضْعُهُ الْقَدَمَ الْآخَرَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِمَادِ بِهِ وَالْوَضْعِ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُحَاشَاةٍ أَوْ تَقِيَّةٍ فَيَخْتَلِفُ مِنْ ذَلِكَ مَشْيُهُ وَيَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ سَجِيَّةِ الْمَشْيِ عَلَى عَادَتِهِ الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَأْمَنُ عِنْدَ ذَلِكَ الْعِثَارَ وَالْعَنَتَ وَقَدْ يُتَصَوَّرُ فَاعِلُهُ عِنْدَ النَّاسِ بِصُورَةٍ مِنْ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَقْصَرَ مِنْ الْأُخْرَى وَلَا خَفَاءَ بِقُبْحِ مَنْظَرِ هَذَا الْفِعْلِ وَكُلُّ أَمْرٍ يَشْتَهِرُهُ النَّاسُ وَيَرْفَعُونَ إلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فَهُوَ مَكْرُوهٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ .

( الْخَامِسَةُ ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ النَّعْلُ مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْمَشْيِ تُسَمَّى الْآنَ تَاسُومَةُ انْتَهَى .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ اسْمَ النَّعْلِ لَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُلْبَسُ فِي الرِّجْلِ وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ النَّعْلَ لِبَاسُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا اتَّخَذَ النَّاسُ غَيْرَهُ لِمَا فِي بِلَادِهِمْ مِنْ الطِّينِ لَكِنْ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ : النَّعْلُ وَالنَّعْلَةُ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ : فَأَمَّا قَوْلُ كَثِيرٍ لَهَا نَعْلٌ فَإِنَّهُ حَرَّكَ حَرْفَ الْحَلْقِ لِانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : يَعْرَقُ وَهُوَ مَحْمُومٌ ؛ وَهَذَا لَا يُعَدُّ لُغَةً وَإِنَّمَا هُوَ مُتَّبِعٌ مَا قَبْلَهُ .
انْتَهَى .
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي شُمُولِ هَذَا الِاسْمِ لِكُلِّ مَا يُوقَى بِهِ الْقَدَمُ .

( السَّادِسَةُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ { لِيُنْعِلْهُمَا } أَرَادَ الْقَدَمَيْنِ وَهُمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمَا ذِكْرٌ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّعْلِ ، وَلَوْ أَرَادَ النَّعْلَيْنِ لَقَالَ لِيَنْتَعِلْهُمَا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَمُتَكَرِّرٌ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا أَنْ يَأْتِيَ بِضَمِيرِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَحْوَى الْخِطَابِ ، قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ : الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَى النَّعْلَيْنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا وَيُقَالُ : نَعَلْت وَانْتَعَلَتْ كَمَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ وَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ .
( قُلْت ) وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ قَوْلُهُ : لِيَخْلَعْهُمَا كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا مِنْ الْمُوَطَّإِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُصْعَبٍ وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ لِيَخْلَعْهُمَا ، وَكَذَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ الْمُوَطَّإِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَحْسَنُ .
انْتَهَى .
فَأَفَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : لِيُنْعِلْهُمَا عَلَى الْقَدَمَيْنِ لِعَوْدِهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ أَوْ لِيُحْفِهِمَا ، وَأَعَادَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّعْلَيْنِ لِعَوْدِهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ : أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ : نَعَلَ وَانْتَعَلَ أَيْ لَبِسَ النَّعْلَ ، ذَكَرَهُ أَيْضًا صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَكَذَا فِي الْمَشَارِقِ وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ضَبْطَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْفَتْحِ فَإِنَّهُ قَالَ : نَعَلْت ، إذَا لَبِسْت النَّعْلَ ، وَكَذَلِكَ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ فِي رِجْلَيْهِ .
انْتَهَى .
وَكَذَا فِي الْمُحْكَمِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَهُ مَكْسُورَ الْعَيْنِ فَقَالَ : وَنَعِلَ نَعْلًا وَتَنَعَّلَ وَانْتَعَلَ لَبِسَ النَّعْلَ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { لِيُنْعِلْهُمَا } قَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ

التِّرْمِذِيِّ فِيهِ نَظَرٌ .
( قُلْت ) إنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْقَدَمَيْنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِالضَّمِّ وَيَكُونَ مَعْنَى أَنْعَلُهُمَا أَيْ أَلْبَسُهُمَا نَعْلًا فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ : أَنْعَلَ دَابَّتَهُ رُبَاعِيٌّ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : أَنْعَلْتُ دَابَّتِي وَخُفِّي وَلَا يُقَالُ : نَعَلْت ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَنْعَلْتُ الْخَيْلَ بِالْهَمْزِ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ : أَنْعَلَ الدَّابَّةَ وَالْبَعِيرَ وَنَعَّلَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ : إنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ أَيْ تَجْعَلُ لَهَا نَعْلًا بِضَمِّ التَّاءِ يُقَالُ فِي هَذَا : أَنْعَلَ رُبَاعِيٌّ وَفِي السَّيْفِ كَذَلِكَ إذَا جَعَلْت لَهُ نِعَالًا وَلَا يُقَالُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ نَعَلَ ، وَقَدْ قِيلَ فِيهَا : نَعِلَ أَيْضًا .
انْتَهَى .
وَقَدْ يُقَالُ بِالْفَتْحِ وَلَوْ عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ إمَّا لِهَذِهِ اللُّغَةِ الَّتِي حَكَيْنَاهَا آنِفًا عَنْ الْمَشَارِقِ وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي أَنْعَلَ بِالْهَمْزِ إنَّمَا هُوَ جَعْلُ النَّعْلِ لَا أَلْبَسُهُ ، فَأَمَّا بِمَعْنَى اللُّبْسِ فَهُوَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الْمَشَارِقِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى النَّعْلَيْنِ كَمَا قَالَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ مَعَهُ الْفَتْحُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) { الشِّسْعُ } بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ وَيَدْخُلُ طَرَفُهُ فِي الثُّقْبِ الَّذِي فِي صَدْرِ النَّعْلِ الْمَشْدُودِ فِي الزِّمَامِ ، وَالزِّمَامُ السَّيْرُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ وَالشِّرَاكُ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ الَّذِي يَكُونُ عَلَى وَجْهِهَا وَكِلَاهُمَا يَخْتَلُّ الْمَشْيُ فِي النَّعْلِ بِفَقْدِهِ .

( التَّاسِعَةُ ) التَّقْيِيدُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ لِلْإِذْنِ فِي الْمَشْيِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ فَقْدِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِلْوَاقِعِ وَخَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ أَوْ يُقَالُ هَذَا مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا نُهِيَ عَنْهُ حِينَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ فَمَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ أَوْلَى وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ إلَى أَنْ يُصْلِحَ النَّعْلَ الَّتِي فَسَدَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .

( الْعَاشِرَةُ ) وَقَوْلُهُ { فَلَا يَمْشِي } عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ فَوُقُوفُهُ وَإِحْدَاهُمَا بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةٌ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ يُقَالُ : جُلُوسُهُ وَهُوَ لَابِسٌ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ : لَا يَلْحَقُ بِمَا تَقَدَّمَ لِانْتِفَاءِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِيهِ بَلْ قَدْ يُنَازِعُ فِي الْتِحَاقِ وُقُوفِهِ بِإِحْدَاهُمَا بِمَشْيِهِ بِإِحْدَاهُمَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ انْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ : النَّعْلُ زِينَةٌ وَفِيهِ تَزَيُّنُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يَلْحَقُ بِذَلِكَ حَالَةُ الْجُلُوسِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { وَالْأُخْرَى حَافِيَةٌ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً فَيَكُونَ الْخَبَرَانِ مَرْفُوعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْأُخْرَى مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ إحْدَاهُمَا وَقَوْلُهُ : حَافِيَةً ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ لَا يَمْشِيَنَّ فِي إحْدَاهُمَا بِنَعْلٍ وَالْأُخْرَى حَافِيَةً وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ضَبَطْنَاهُ وَقَوْلُهُ { لِيُحْفِهِمَا } هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ ، وَقَوْلُهُ أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ .

( الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ لِبَاسِ شَفْعٍ كَالْخُفَّيْنِ وَإِدْخَالِ الْيَدِ فِي الْكُمَّيْنِ وَالتَّرَدِّي بِالرِّدَاءِ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ فَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ وَعَرَّى مِنْهُ الْجَانِبَ الْآخَرَ كَانَ مَكْرُوهًا عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ ، وَلَوْ أَخْرَجَ إحْدَى يَدَيْهِ مِنْ كُمِّهِ وَتَرَكَ الْأُخْرَى دَاخِلَ الْكُمِّ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ قَدْ أَبْدَعَ عَوَامُّ النَّاسِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لُبْسَ الْخَوَاتِيمِ فِي الْيَدَيْنِ وَلُبْسُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْبَابِ ، وَلَا هُوَ بِحَمِيدٍ فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالنُّبْلِ وَرُبَّمَا ظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بِلُبْسِ الْعَدَدِ مِنْ الْخَوَاتِيمِ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ مِنْ لِبَاسِ الْعِلْيَةِ مِنْ النَّاسِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَتَخَتَّمَ الرَّجُلُ إلَّا بِخَاتَمٍ وَاحِدٍ مَنْقُوشٍ فَيَلْبَسَ لِلْحَاجَةِ إلَى نَقْشِهِ لَا لِحُسْنِهِ وَبَهْجَةِ لَوْنِهِ .
انْتَهَى .
وَقَالَ الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ فَوْقَ خَاتَمَيْنِ فِضَّةً ، وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيَّ فِي الْكَافِي : يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ زَوْجًا فِي الْيَدِ وَفَرْدًا فِي الْأُخْرَى فَإِنْ لَبِسَ فِي هَذِهِ زَوْجًا وَفِي الْأُخْرَى زَوْجًا ، فَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي الْفَتَاوَى : لَا يَجُوزُ ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ : الْمُتَّجَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْخَاتَمَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَا فِي يَدَيْنِ أَمْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَمْ تَرِدْ بِذَلِكَ وَلَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى نَقْلٍ .
انْتَهَى .
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةٌ ، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ يُشْعِرُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ خَوَاتِيمَ كَثِيرَةً أَوْ الْمَرْأَةُ خَلَاخِيلَ كَثِيرَةً لِلُبْسِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بَعْدَ الْوَاحِدِ جَازَ .
انْتَهَى .
فَقَوْلُهُ ( لِلُبْسِ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ ) يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ لُبْسَ وَاحِدٍ فَوْقَ آخَرَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَرْنُهُ بِالْخَلَاخِيلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ سِهَامٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا } .

( الْحَدِيثُ السَّادِسُ ) وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ سِهَامٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِزِيَادَةِ { كَيْ لَا تَخْدِشَ مُسْلِمًا } كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالنَّبْلِ فِي الْمَسْجِدِ أَلَّا يَمُرَّ بِهَا إلَّا وَهُوَ آخِذٌ بِنُصُولِهَا } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ إدْخَالِ النَّبْلِ الْمَسْجِدَ وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ يُدْخِلُهَا الْمَسْجِدَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ سَائِرُ السِّلَاحِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَمْرُ مُدْخِلِهَا الْمَسْجِدَ أَنْ يَمْسِكَ بِنِصَالِهَا وَقَدْ عَرَفْت تَعْلِيلَهُ فِي الْحَدِيثِ بِخَشْيَةِ خَدْشِ مُسْلِمٍ ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : هَذَا مِنْ تَأْكِيدِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ لِئَلَّا يُرَوِّعَ بِهَا أَوْ يُؤْذِيَ ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ مَوْرُودَةٌ لِلْخَلْقِ وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَخَشَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُؤْذِيَ بِهَا أَحَدًا وَهَذَا مِنْ كَرِيمِ خُلُقِهِ وَرَأْفَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ التَّعْظِيمُ لِقَلِيلِ الدَّمِ وَكَثِيرِهِ .
( الرَّابِعَةُ ) لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ بَلْ السُّوقِ وَكُلِّ مَوْضِعٍ جَامِعٍ لِلنَّاسِ يَنْبَغِي فِيهِ ذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا { إذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ }

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { إذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدٍ أَوْ فِي سُوقٍ وَبِيَدِهِ نَبْلٌ فَلْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا ثُمَّ لِيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا ثُمَّ لِيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى : وَاَللَّهِ مَا مُتْنَا حَتَّى سَدَّدْنَاهَا بَعْضُنَا فِي وُجُوهِ بَعْضٍ } وَقَوْلُهُ { سَدَّدْنَاهَا } بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ السَّدَادِ وَهُوَ الْقَصْدُ ، وَالِاسْتِقَامَةُ أَيْ قَوَّمْنَاهَا إلَى وُجُوهِهِمْ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا حَدَثَ مِنْ الْفِتَنِ وَذَكَرَ هَذَا فِي مَعْرَضِ التَّأَسُّفِ عَلَى تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَحُصُولِ الْخِلَافِ لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ مِنْ التَّعَاطُفِ وَدَفْعِ يَسِيرِ الْأَذَى مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ .

( الْخَامِسَةُ ) ( النِّصَالُ ) بِكَسْرِ النُّونِ وَ ( النُّصُولُ ) بِضَمِّهَا وَهُمَا بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ نَصْلٍ وَهُوَ حَدِيدَةُ السَّهْمِ ، وَالسِّهَامُ أَعَمُّ مِنْ النِّبَالِ لِاخْتِصَاصِ النِّبَالِ بِالسِّهَامِ الْعَرَبِيَّةِ وَمِنْ النُّشَّابِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ .

( السَّادِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ اجْتِنَابُ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ ضَرَرٌ .

( السَّابِعَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ اُسْتُدِلَّ بِهِ لِمَالِكٍ عَلَى أَصْلِهِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ .

( الثَّامِنَةُ ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَوْلُهُ { فِيهِ } كَيْ لَا تَخْدِشَ مُسْلِمًا ، مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسٍ وَتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ } .

( الْحَدِيثُ السَّابِعُ ) وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَأَيُّوبَ بْنِ مُوسَى كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ فَقُلْت لِابْنِ عُمَرَ .
( فَأَرْبَعَةٌ ) قَالَ : لَا يَضِيرُك وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ { كُنْت أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُتْبَةَ الَّتِي بِالسُّوقِ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ وَلَيْسَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَاهُ : اسْتَرْخِيَا شَيْئًا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا مِنْ ابْنِ عُمَرَ يُفَسِّرُ حَدِيثَهُ ، وَقَوْلُهُ : اسْتَرْخِيَا مَعْنَاهُ اجْلِسَا وَتَحَدَّثَا وَانْتَظِرَا قَلِيلًا وَقِيلَ : بَلْ مَعْنَى اسْتَرْخِيَا وَاسْتَأْخِرَا سَوَاءٌ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً } كَذَا ضَبَطْنَاهُ عَلَى أَنَّ " كَانَ نَاقِصَةٌ وَمَعَهَا اسْمُهَا وَخَبَرُهَا وَكَذَا هُوَ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ الْمُوَطَّإِ وَكَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ } .
عَلَى أَنَّهَا تَامَّةٌ بِمَعْنَى وُجِدَ ، وَقَوْلُهُ : ثَلَاثَةٌ ، اسْمُهَا وَهِيَ مُكْتَفِيَةٌ بِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ : ( فَلَا يَتَنَاجَى ) كَذَا ضَبَطْنَاهُ بِأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الْخَطِّ إلَّا أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي

اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، وَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ وَاسْتِعْمَالُ النَّهْيِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ } وَأَشْبَاهِهِ ، وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ قَالَ : وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلَا يَتَنَاجَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى النَّهْيِ وَهِيَ وَاضِحَةٌ وَالتَّنَاجِي التَّحَادُثُ سِرًّا .

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ دُونَ ثَالِثٍ وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ وَقَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ رِضَاهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : إلَّا أَنْ يَأْذَنَ وَالْإِذْنُ أَخَصُّ مِنْ الرِّضَا فَقَدْ يُعْلَمُ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِقَرِينَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَرِيحًا ، وَقَدْ يُقَالُ : الْمُرَادُ الْإِذْنُ الصَّرِيحُ أَوْ الْمَفْهُومُ بِالْقَرِينَةِ فَيَسْتَوِيَانِ وَلَا يُقَالُ : الرِّضَا أَخَصُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَأْذَنُ بِالْمُحَايَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِبَاطِنِهِ ؛ لِأَنَّ الرِّضَى أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِذْنِ الدَّالِّ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَاهُ ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَيْدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَرِيحُ حَقِّهِ .

( الْخَامِسَةُ ) مَفْهُومُ التَّقْيِيدِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً لَمْ يَمْتَنِعْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ مُتَمَكِّنَانِ مِنْ التَّنَاجِي وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
( السَّادِسَةُ ) عَلَّلَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِقَوْلِهِ { حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ } وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّمَا قَالَ : يُحْزِنُهُ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ نَجَوَاهُمَا إنَّمَا هِيَ لِتَبْيِيتِ رَأْيٍ أَوْ دَسِيسِ غَائِلَةٍ لَهُ وَالْمَعْنَى الْإِحْزَانُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الِاخْتِصَاصِ بِإِكْرَامِهِ وَهُوَ يُحْزِنُ صَاحِبَهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِتَلْخِيصٍ وَأَشَارَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ : يُحْزِنُهُ أَيْ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ مَا يَحْزَنُ لِأَجْلِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدِّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْهُ بِمَا يَكْرَهُ أَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ أَهْلًا ؛ لَأَنْ يُشْرِكُوهُ فِي حَدِيثِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُلْقِيَاتِ الشَّيْطَانِ وَحَدِيثِ النَّفْسِ .
انْتَهَى .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا وَفِيهِ { لَا تَدَعُوا صَاحِبَكُمْ نَجِيًّا لِلشَّيْطَانِ } وَقَالَ : قَوْلُهُ : نَجِيًّا لِلشَّيْطَانِ ، يُرِيدُ لِأَنَّهُ يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ مِنْ جِهَتِهِمَا مَا يُحْزِنُهُ .

( السَّابِعَةُ ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ عِنْدَنَا لَا يَتَنَاجَوْنَ دُونَ وَاحِدٍ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْهُ بِمَا يَكْرَهُ أَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ أَهْلًا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ إذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ الْحُزْنُ عَنْهُ بِالْمُشَارَكَةِ ، وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ وَتَبِعَهُمَا النَّوَوِيُّ فَقَالَ : وَكَذَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ بِحَضْرَةِ وَاحِدٍ ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كُلُّ الْأَعْدَادِ فَلَا يَتَنَاجَى أَرْبَعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ وَلَا عَشْرَةٌ وَلَا أَلْفٌ مَثَلًا لِوُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي حَقِّهِ بَلْ وُجُودُهُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَمْكَنُ وَأَوْقَعُ فَيَكُونُ بِالْمَنْعِ وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى .

( الثَّامِنَةُ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ حَمْلَهُ عَلَى عُمُومِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَسَمِعْت ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْكِي عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْه أَنَّهُ قَالَ : هَذَا فِي السَّفَرِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ فِيهِ صَاحِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ وَبَيْنَ ظَهْرَانِي الْعِمَارَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَعَبَّرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ وَقِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي السَّفَرِ وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ فِيهَا صَاحِبَهُ وَلَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَثِقُ بِهِ وَيَخْشَى غَدْرَهُ .
انْتَهَى .
فَعَطَفَ قَوْلَهُ فِي الْمَوَاضِعِ عَلَى السَّفَرِ بِالْوَاوِ فَاقْتَضَى أَنَّهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَالِمٍ الْجَيَشَانِيَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا } ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ : كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَأَمِنَ النَّاسُ سَقَطَ هَذَا الْحُكْمُ وَذَلِكَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُنَافِقُونَ بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : كُلُّ ذَلِكَ تَحَكُّمٌ وَتَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالصَّحِيحُ مَا صَارَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ نَقْلِهِ التَّخْصِيصَ بِالسَّفَرِ حَيْثُ يَخَافُ عَنْ جَمَاعَةٍ هَذَا خَبَرٌ عَامُّ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ الْحُزْنُ وَذَلِكَ

مَوْجُودٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّهُمَا النَّهْيُ جَمِيعًا .

( التَّاسِعَةُ ) مَحَلُّ النَّهْيِ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ دُونَ ثَالِثٍ إذَا كَانَ ذَلِكَ الثَّالِثُ مَعَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ النَّجْوَى ، فَأَمَّا إذَا انْفَرَدَ اثْنَانِ فَتَنَاجَيَا ثُمَّ جَاءَ ثَالِثٌ فِي أَثْنَاءِ تَنَاجِيهِمَا فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَطْعُ التَّنَاجِي بَلْ جَاءَ فِي حَدِيثِ مَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ مَعَهُمَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ : جِئْت ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ يُنَاجِي رَجُلًا فَجَلَسْت إلَيْهِ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : مَالَكَ أَمَا سَمِعْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا تَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُمَا } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مَعْنًى غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ لِلثَّلَاثَةِ أَنْ يَتَنَاجَى مِنْهُمْ اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُتَنَاجِيَيْنِ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمَا .
انْتَهَى .
( قُلْت ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ نَهْيَهُ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمَا فِيهِ ، وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ نَهْيُهُ عَنْ الدُّخُولِ مَعَهُمَا فِي التَّنَاجِي وَالسِّرِّ وَأَمَّا قُعُودُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُتَبَاعِدًا عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ سِرَّهُمَا فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْهُ وَقَدْ يُقَالُ لَمَّا افْتَتَحَا الْإِخْفَاءَ بِسِرِّهِمَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِ أَحَدٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمَا الِانْفِرَادُ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي صَوْتِ الْإِنْسَانِ جَهْوَرِيَّةٌ تَمْنَعُهُ الْإِخْفَاءَ مِنْ حَاضِرِي مَجْلِسِهِ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ ذَكَاءً يُفْهَمُ بِهِ مَا يُسَارُ بِهِ بِسَمَاعِ لَفْظَةٍ مِنْهُ ، يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا خَفِيَ عَنْهُ وَقَدْ يُقَالُ فِي جُلُوسِهِ مِنْ الْقُبْحِ التَّصَوُّرُ بِصُورَةِ النَّهْيِ فِي تَنَاجِي اثْنَيْنِ دُونَ ثَالِثٍ ، وَقَدْ لَا يَعْلَمُ مَنْ يَرَاهُمْ كَذَلِكَ أَنَّ الثَّالِثَ طَارِئٌ عَلَيْهِمْ فَالِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْعَاشِرَةُ ) هَلْ يُشْتَرَطُ فِي زَوَالِ النَّهْيِ بِحُضُورِ رَابِعٍ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا لَهُمْ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ بَلْ لَوْ كَانَ الثَّلَاثَةُ مُنْفَرِدِينَ فَاخْتَلَطُوا بِالنَّاسِ زَالَ النَّهْيُ لِإِمْكَانِ تَحْدِيثِ الْآخَرِ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفِيقًا لَهُ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ وَالْمَعْنَى يُسَاعِدُ عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ تَخَيَّلَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَمَكْرُوهٌ يُدَبَّرُ لَهُ أَوْ لِعَدَمِ تَأْهِيلِهِ لِلْكَلَامِ مَعَهُ لَا يَزُولُ بِكَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ رَفِيقِهِ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ جَوَازُ التَّنَاجِي فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ عَدَمُ الْمُنَاجَاةِ وَمُنَاجَاةُ الرَّجُلِ دُونَ الرَّجُلِ شَغْلٌ لِبَالِهِ وَلَوْ كَانُوا فِي أَلْفٍ بَيْدَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا مُحْتَاجًا إلَيْهِ ، وَكَانَ أَصْلُهُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ مِنْ مَصْلَحَةٍ كَالصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فَمِنْ الْحَقِّ أَنْ يَصُونَ الرَّجُلُ مُرُوءَتَهُ وَدِينَهُ فَلَا يَتَنَاجَى إلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ إمَّا فِي حَاجَةٍ لَهُ أَوْ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
انْتَهَى .
.

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ }

( الْحَدِيثُ الثَّامِنُ ) وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ { اُنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَلَّا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ } هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَقَوْلُهُ { فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ } أَيْ أَسْفَلَ مِنْ النَّاظِرِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ وَقَوْلُهُ { مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ } أَيْ فُضِّلَ النَّاظِرُ عَلَيْهِ وَخَرَجَ بِذِكْرِ الْمَالِ وَالْخَلْقِ مَا إذَا نَظَرَ لِمَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَمُعَالَجَةِ النَّفْسِ بِدَفْعِ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ وَجَلْبِ الْحَسَنَةِ فَهَذَا يَنْبَغِي النَّظَرُ فِيهِ إلَى الْفَاضِلِ لِيُقْتَدَى بِهِ دُونَ الْمَفْضُولِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَاسَلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِيهِ إلَى الْفَاضِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِقَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نِعْمَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْفَاضِلِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي هَذَا إلَى الْمَفْضُولِ لِيَعْرِفَ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ أَدَّبَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ مَصْلَحَةُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَعُقُولِنَا وَأَبْدَانِنَا وَرَاحَةِ

قُلُوبِنَا فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ نَصِيحَتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى بِهِ نَبِيًّا .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا حَدِيثٌ جَامِعٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْرِ : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَادِ لِيَلْحَقَ بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبَهُ هَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي غَالِبِ النَّاسِ ، وَأَمَّا إذَا نَظَرَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِيهَا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللَّهِ فَشَكَرَهَا وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ الْخَيْرَ .
انْتَهَى .
وَمِنْ هُنَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ اجْتِنَابُ الِاخْتِلَاطِ بِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالتَّوَسُّعُ مِنْهَا وَمِنْ كَسْبِهَا وَنَعِيمِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : جَالَسْت الْأَغْنِيَاءَ فَاحْتَقَرْت لِبَاسِي إلَى لِبَاسِهِمْ وَدَابَّتِي إلَى دَوَابِّهِمْ ، وَجَالَسْت الْفُقَرَاءَ فَاسْتَرَحْت .

وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ : الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ } .
( الْحَدِيثُ التَّاسِعُ ) وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ { سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ ، فَقَالَ : الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانٍ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ .
( الثَّانِيَةُ ) الْحَيَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ الِاسْتِحْيَاءُ ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ الْحَيَاةِ وَاسْتِحْيَاءُ الرَّجُلِ مِنْ قُوَّةِ الْحَيَاةِ فِيهِ لِشِدَّةِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الْعَيْبِ ، قَالَ : فَالْحَيَاءُ مِنْ قُوَّةِ الْحِسِّ وَلُطْفِهِ وَقُوَّةِ الْحَيَاةِ ، وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ الْجُنَيْدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ أَيْ النِّعَمِ وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ ، وَعَرَّفَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْحَيَاءَ بِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ تَخَوُّفِ مَا يُعَابُ بِهِ أَوْ يُذَمُّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : أَصْلُ الْحَيَاءِ الِامْتِنَاعُ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ مَعْنَى الِانْقِبَاضِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : صَوَابُهُ الِانْكِسَارُ بَدَلَ الِامْتِنَاعِ ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاءِ فَيُطْلَقُ الْحَيَاءُ عَلَى الِامْتِنَاعِ إطْلَاقَ الِاسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ .
انْتَهَى .
فَكَيْفَ يَكُونُ لَازِمُ الشَّيْءِ هُوَ أَصْلُ مَدْلُولِهِ .

( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ } مَعْنَاهُ يَعْذُلُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَذْكُرُ لَهُ مَفَاسِدَهُ { فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ } وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ وَهِيَ دَعْهُ انْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ : إنَّمَا كَانَ الْحَيَاءُ وَهُوَ فِي الْأَكْثَرِ غَرِيزَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ اكْتِسَابٌ ؛ لِأَنَّ الْحَيَاءَ يَمْنَعُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا يَمْنَعُ الْإِيمَانُ مِنْهَا ، وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ مَبْسُوطًا فَقَالَ : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَيَاءَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي كَمَا يَمْنَعُ الْإِيمَانَ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى إيمَانًا ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا قَامَ مَقَامَهُ أَوْ كَانَ شَبِيهًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ صَلَاةً ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الدُّعَاءُ فَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ سُمِّيَتْ صَلَاةً ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَهِيَ تَثْمِيرُ الْمَالِ وَنَمَاؤُهَا فَلَمَّا كَانَ النَّمَاءُ يَقَعُ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ عَنْ الْمَالِ سُمِّيَ زَكَاةً حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ بَطَّالٍ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الشُّرَّاحِ : إنَّمَا جُعِلَ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَإِنْ كَانَ غَرِيزَةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَخَلُّقًا وَاكْتِسَابًا كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً وَلَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى قَانُونِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إلَى اكْتِسَابٍ وَنِيَّةٍ وَعِلْمٍ فَهُوَ مِنْ الْإِيمَانِ لِهَذَا وَلِكَوْنِهِ بَاعِثًا عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ وَمَانِعًا مِنْ الْمَعَاصِي .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَأَمَّا كَوْنُ الْحَيَاءِ خَيْرًا كُلُّهُ وَلَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ فَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ صَاحِبَ الْحَيَاءِ قَدْ يَسْتَحْيِ أَنْ يُوَاجِهَ بِالْحَقِّ مَنْ يُجِلُّهُ فَيَتْرُكُ أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيَهُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ

الْحَيَاءُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْحُقُوقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعَادَةِ ، قَالَ : وَجَوَابُ هَذَا مَا أَجَابَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الْمَانِعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ عَجْزٌ وَخَوَرٌ وَمُهَانَةٌ وَإِنَّمَا تَسْمِيَتُهُ حَيَاءً مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِ أَهْلِ الْعُرْفِ أَطْلَقُوهُ مَجَازًا لِمُشَابَهَتِهِ الْحَيَاءَ الْحَقِيقِيَّ ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خَلْقٌ يُبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ وَنَحْوِ هَذَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ قَبَائِحِ الْأُمُورِ وَرَذَائِلِهَا وَكُلَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ فِعْلِهِ وَالِاعْتِذَارِ عَنْهُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَسْتَحْيِيَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ : لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقُّ الْحَيَاءِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَيَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : إنَّمَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

( الْأَسْمَاءُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ } وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { أَخْنَأُ الْأَسْمَاءِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { أَخْنَعُ الْأَسْمَاءِ } .

( الْأَسْمَاءُ ) .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ } قَالَ سُفْيَانُ : مِثْلُ ( شَاهَانْ شَاهْ ) وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : سَأَلْت أَبَا عَمْرٍو عَنْ أَخْنَعَ فَقَالَ ( أَوْضَعَ ) لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ الْأَمْلَاكِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ سُفْيَانُ : فَقَوْلُ غَيْرِهِ شَاهَانْ شَاهْ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ سُفْيَانُ : شَاهَانْ شَاه ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ ( وَأَحْرَجُ ) يَعْنِي أَقْبَحُ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ { أَخْنَى الْأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِتَكْرِيرِ أَغْيَظَ قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ تَكْرِيرُهُ وَجْهَ الْكَلَامِ ، قَالَ : وَفِيهِ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بِتَكْرِيرِهِ أَوْ تَغْيِيرِهِ قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : لَعَلَّ أَحَدَهُمَا أَغْنَطُ بِالنُّونِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَشَدُّهُ عَلَيْهِ وَالْغَنَطُ شِدَّةُ الْكَرْبِ وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ مُشْكِلُ الْمَعْنَى ، وَحَكَاهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ وَلَمْ

يَعْتَرِضْهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ مُشْكِلُ الْمَعْنَى ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ أَغْنَطَ بِالنُّونِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالصَّوَابُ التَّمَسُّكُ بِالرِّوَايَةِ وَتَطْرِيقُ الْوَهْمِ لِلْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ وَهْمٌ لَا يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إلَيْهِ مَا وُجِدَ لِلْكَلَامِ وَجْهٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إفَادَةِ تَكْرَارِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ ، وَتَعْظِيمُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْيَهُودِ { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } أَيْ بِمَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ عَاقَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ، قَالَ : وَحَاصِلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ قَدْ انْتَهَى مِنْ الْكِبْرِ إلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ قَدْ تَعَاطَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْإِلَهِ الْحَقِّ إذْ لَا يَصْدُقُ هَذَا الِاسْمُ بِالْحَقِيقَةِ إلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَعُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْإِذْلَالِ وَالْإِخْسَاسِ وَالِاسْتِرْذَالِ بِمَا لَمْ يُعَاقَبْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ .
انْتَهَى .

( الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْمَازِرِيُّ أَغْيَظُ هُنَا مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْغَيْظِ فَيُتَأَوَّلُ هُنَا الْغَيْظُ عَلَى الْغَضَبِ وَسَبَقَ شَرْحُ مَعْنَى الْغَضَبِ وَالرَّحْمَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
( الرَّابِعَةُ ) وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ } فَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَقَطْ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ بِمَعْنَى أَوْضَعَ وَأَبُو عَمْرٍو هَذَا إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ قِتَالٍ ، وَقِيلَ : مَرَّارٌ بِفَتْحِهَا وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ كَعَمَّارِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ كَغَزَالِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمَشْهُورُ ، وَلَيْسَ بِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ ذَاكَ تَابِعِيٌّ كُوفِيٌّ قَبْلَ وِلَادَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ .
( قُلْت ) هَذِهِ عِبَارَةٌ مُوهِمَةٌ تُوهِمُ أَنَّهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ شَيْخُهُ ، وَتُوهِمُ أَنَّ هَذَا اللُّغَوِيَّ لَيْسَ شَيْبَانِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَشْهُورٌ بِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ شَيْبَانِيًّا وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤَدِّبًا لِأَوْلَادِ نَاسٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانُ فَنُسِبَ إلَيْهِمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ التِّرْمِذِيَّ فَسَّرَ أَخْنَعَ بِأَقْبَحَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي فَسَّرَهُ أَبُو عَمْرٍو مَشْهُورٌ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ قَالُوا : وَمَعْنَاهُ أَشَدُّ ذُلًّا وَصَغَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُرَادُ صَاحِبُ الِاسْمِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَغْيَظُ رَجُلٍ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ ، وَقِيلَ : أَخْنَعُ بِمَعْنَى أَفْجَرُ ، يُقَالُ : خَنَعَ الرَّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ

وَالْمَرْأَةُ إلَيْهِ أَيْ دَعَاهَا إلَى الْفُجُورِ وَهُوَ بِمَعْنَى أَخْبَثَ أَيْ أَكْذَبَ الْأَسْمَاءِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَخْنَى قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاهُ أَفْحَشُ الْأَسْمَاءِ وَأَقْبَحُهَا مِنْ الْخَنَا وَهُوَ الْفُحْشُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ أَيْ أَفْحَشَ وَأَفْجَرَ وَالْخَنَا الْفُحْشُ قَالَ : وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَهْلَكَ لِصَاحِبِهِ الْمُسَمَّى بِهِ ، وَالْإِخْنَاءُ الْإِهْلَاكُ يُقَالُ : أَخْنَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ أَيْ أَهْلَكَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَرُوِيَ أَنْخَعُ أَيْ أَقْتَلُ وَالنَّخْعُ الْقَتْلُ الشَّدِيدُ .
انْتَهَى .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { رَجُلٌ كَانَ تَسَمَّى } كَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُ غَيْرُهُ بِذَلِكَ وَيَرْضَى هُوَ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا أَيْضًا بِرِضَاهُ بِذَلِكَ أَمَّا لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَرْضَى بِهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : ( مَلِكَ ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْأَمْلَاكِ جَمْعُهُ قَالَ فِي الصِّحَاحِ : هُوَ مَلِيكٌ وَمَلْكٌ وَمَلِكٌ مِثْلَ فَخْذٍ وَفَخِذٍ كَأَنَّ الْمَلْكَ مُخَفَّفٌ مِنْ مَلِكٍ وَالْمَلِكُ مَقْصُورٌ مِنْ مَالِكٍ أَوْ مَلِيكٍ وَالْجَمْعُ الْمُلُوكُ وَالْأَمْلَاكُ وَالِاسْمُ الْمُلْكُ وَالْمَوْضِعُ مَمْلَكَةٌ .
انْتَهَى .

( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ { لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ } كَذَا فِي رِوَايَتِنَا وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى وَفِي الرِّوَايَةِ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ لَا مَالِكَ إلَّا اللَّهُ وَالْمَلِكُ مَنْ لَهُ الْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْمَالِكُ مَنْ لَهُ الْمِلْكُ بِكَسْرِهَا وَالْمَلِكُ أَمْدَحُ وَالْمَالِكُ أَخَصُّ وَكِلَاهُمَا وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِي التَّنْزِيلِ { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ مَالِكِ بِالْأَلِفِ .

( السَّابِعَةُ ) قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِثْلَ شَاهَانْ نَشَاه هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى مَلِكِ الْأَمْلَاكِ وَمَا كَانَ أَغْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِاشْتِهَارِ هَذَا اللَّفْظِ بَيْنَ مُلُوكِ الْعَجَمِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ أَنَّهُ سَمَّى نَفْسَهُ مَلِكَ الْأَمْلَاكِ وَقَالَ فِي شِعْرٍ لَهُ مَلِكُ الْأَمْلَاكِ غَلَّابُ الْقَدَرْ فَكَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ يُنَادِي مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ، وَالْوَاقِعُ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَا ذَكَرْته مِنْ شَاهَانْ شَاهْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ شَاهٍ شَاهْ قَالَ : وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَصْوَبَ شَاهٍ شَاهَانْ وَكَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ فِي كِسْرَى قَالُوا : شَاهٍ مَلِكُ وَشَاهَانْ الْمُلُوكُ وَكَذَا يَقُولُونَ لِقَاضِي الْقُضَاةِ موزموندان قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يُنْكَرُ صِحَّةُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَجَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَقُولُونَ فِي غُلَامِ زَيْدٍ " زَيْدٍ غُلَامُ " فَهَذَا أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ فَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ صَحِيحَةٌ .
انْتَهَى .

( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ تَحْرِيمُ التَّسَمِّي بِهَذَا الِاسْمِ سَوَاءً كَانَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ لِتَرْتِيبِ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسَمَّى بِهِ أَشَدُّ مِنْ غَضَبِهِ عَلَى غَيْرِهِ .
( التَّاسِعَةُ ) وَيَلْحَقُ بِهِ التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ كَالرَّحْمَنِ وَالْقُدُّوسِ وَالْمُهَيْمِنِ وَخَالِقِ الْخَلْقِ وَنَحْوِهَا .

( الْعَاشِرَةُ ) اسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ أَنْ يُقَالَ لِلْإِنْسَانِ أَقْضَى الْقُضَاةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَسَمِعْت وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي عَنْ شَيْخِنَا قَاضِي الْقُضَاةِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَأَى وَالِدَهُ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ مَا كَانَ أَضَرَّ عَلِيَّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ يَعْنِي قَاضِي الْقُضَاةِ فَلِذَلِكَ مَنَعَ الْمُوَقِّعِينَ أَنْ يَكْتُبُوا لَهُ فِي التَّسْجِيلَاتِ الْحُكْمِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكْتُبُوا إلَّا قَاضِيَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَمَرَّ هَذَا إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ حَسَنٌ وَفِي الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ يُكْتَبُ لِأَكْبَرِ الْقُضَاةِ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَيُقَالُ فِي الْيَمَنِ قَاضِي الْأَقْضِيَةِ وَلَا قُبْحَ فِيهِ أَيْضًا ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْمُفَسِّرُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } أَيْ أَعْلَمُ الْحُكَّامِ وَأَعْدَلُهُمْ إذْ لَا فَضْلَ لِحَاكِمٍ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِالْعَدْلِ وَالْعِلْمِ وَرُبَّ عَرِيقٍ فِي الْجَهْلِ مِنْ مُتَقَلِّدِي زَمَانِنَا قَدْ لُقِّبَ أَقْضَى الْقُضَاةِ وَمَعْنَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَاعْتَبَرَ وَاسْتَعْبَرَ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي نَقْدِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيّ رَأَى أَنَّ أَقْضَى الْقُضَاةِ أَرْفَعُ مِنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ، وَاَلَّذِي يُلَاحِظُونَهُ الْآنَ فِي عَكْسِهِ أَنَّ الْقُضَاةَ يُشَارِكُونَ أَقْضَاهُمْ فِي الْوَصْفِ ، وَإِنْ تَرَفَّعَ عَلَيْهِمْ فَتَرَفَّعُوا أَنْ يُشَارِكَهُمْ أَحَدٌ فَأَفْرَدُوا رَئِيسَهُمْ بِنَعْتِهِ بِقَاضِي الْقُضَاةِ الَّذِي هُوَ يَقْضِي بَيْنَ الْقُضَاةِ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي وَصْفِهِ وَجَعَلُوا أَقْضَى الْقُضَاةِ يَلِيهِ فِي الْمَرْتَبَةِ ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْضَى الْقُضَاةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ } فَلَا حَرَجَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى أَعْدَلِ قُضَاةِ الزَّمَانِ أَوْ الْإِقْلِيمِ أَوْ أَعْلَمِهِمْ أَقْضَى الْقُضَاةِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَيْ فِي زَمَنِهِ وَبَلَدِهِ ، قَالَ الشَّاعِرُ وَكُلُّ قَرْنٍ نَاجِمٌ فِي زَمَنٍ فَهْوَ شَبِيهٌ فِي زَمَنٍ

فِيهِ بَدَا وَقَالَ الْعَلَمُ الْعِرَاقِيُّ الصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ مِنْ مَنْعِ الِاتِّصَافِ بِأَقْضَى الْقُضَاةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُنِيرِ : إنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ فِي حَقِّهِ : أَقْضَى الْقُضَاةِ لَيْسَ بِمَجِيدٍ فَإِنَّ التَّفْضِيلَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ مُخَاطَبِينَ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ } وَالشَّهَادَةُ لَهُ بِذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
وَأَمَّا إطْلَاقُ التَّفْضِيلِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْكُمُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { إنَّ رَبَّك يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ } وَقَالَ { وَقَضَيْنَا إلَيْهِ } وَقَالَ { وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ أَنْ لَا يُدْعَى أَحَدٌ إلَى فَضِيلَةٍ وَالتَّقَدُّمِ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الْجُرْأَةِ وَسُوءِ الْأَدَبِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ مَرَّةً وَنُعِتَ بِذَلِكَ وَلَدَّ فِي سَمْعِهِ فَتَحَيَّلَ لِنَفْسِهِ فِي إجَازَةِ إطْلَاقِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ يُسَمَّ خَضِرٌ إلَّا أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ } الْفَرْوَةُ الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَظُنُّ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ يُسَمَّ خَضِرٌ إلَّا أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ } الْفَرْوَةُ الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : أَظُنُّ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَقَالَ : صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْسِيرُ الْفَرْوَةِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ : ( لَمْ يُسَمَّ خَضِرٌ ) كَذَا ضَبَطْنَا الْفِعْلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَخَضِرٌ نَائِبُ الْفَاعِلِ أَيْ لَمْ يُسَمَّ بِهَذَا الِاسْمِ إلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَقَبٌ لُقِّبَ بِهِ دَالٌّ عَلَى رِفْعَتِهِ وَأَنَّ الْأَرْضَ الْبَيْضَاءَ بِبَرَكَتِهِ تَخْضَرُ بِمُجَرَّدِ جُلُوسِهِ عَلَيْهَا وَاسْمُهُ ( بَلِيَّا ) بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ لَامٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتَ ( ابْنُ مَلْكَانِ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَقِيلَ : كُلِّيَّانِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخَضِرِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا فَاخْتَلَفُوا أَوَّلًا فِي نَسَبِهِ وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ وَأَنَّهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِيلَ : كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ تَزَهَّدُوا فِي الدُّنْيَا ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ : قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : اسْمُ الْخَضِرِ بَلِيَّا بْنُ مَلْكَانِ بْنِ فَالِغِ بْنِ غَابِرِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ فِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَمْ بِكَثِيرٍ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي نُبُوَّتِهِ

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَكَثِيرُونَ : هُوَ وَلِيٌّ وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالذَّاهِبُونَ إلَى نُبُوَّتِهِ اخْتَلَفُوا فِي رِسَالَتِهِ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي حَيَاتِهِ فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى وَفَاتِهِ وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ } وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ هُوَ حَيٌّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْعَامَّةِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ قَالَ : وَإِنَّمَا شَذَّ بِإِنْكَارِهِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَحِكَايَاتُهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ وَالْأَخْذِ عَنْهُ وَسُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ وَوُجُودِهِ فِي الْمَوْضِعِ الشَّرِيفَةِ وَمَوَاطِنِ الْخَيْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُشَهَّرَ قَالَ : وَيَتَأَوَّلُونَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَحْرِ لَا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ .
وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ : الْخَضِرُ نَبِيٌّ مُعَمَّرٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ مَحْجُوبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ يَعْنِي عَنْ أَبْصَارِ أَكْثَرِ النَّاسِ قَالَ : وَقِيلَ : إنَّهُ لَا يَمُوتُ إلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ يُرْفَعُ الْقُرْآنُ وَصَنَّفَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا فِي حَيَاتِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) هَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَبَبِ تَلْقِيبِهِ خَضِرًا وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ ثُمَّ قَالَ : وَقِيلَ : لِأَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ قَالَ : وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِهَذَا الْحَدِيثِ .
( قُلْت ) وَالْقَوْلُ الثَّانِي مَحْكِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ .
( الرَّابِعَةُ ) هَلْ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ اخْضِرَارُ مَا تَحْتَهُ

بِجُلُوسِهِ عَلَيْهِ وَقَعَ لَهُ مَرَّةً عَلَى سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ أَوْ الْكَرَامَةِ فَلُقِّبَ بِهِ أَوْ هُوَ وَصْفٌ مُسْتَمِرٌّ لَهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ لَهُ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ .
.

( الْخَامِسَةُ ) تَفْسِيرُ الْفَرْوَةِ هُنَا بِأَنَّهَا الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ هُوَ الْمَشْهُورُ قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الْفَرْوَةُ قِطْعَةُ نَبَاتٍ مُجْتَمِعَةٍ يَابِسَةٍ وَكَذَا حَكَاهُ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ قِطْعَةٌ يَابِسَةٌ مِنْ حَشِيشٍ ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ الْمُطَرِّزُ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ : الْفَرْوَةُ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ ، وَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْفَرْوَةُ جِلْدَةُ وَجْهِ الْأَرْضِ أَنْبَتَتْ وَصَارَتْ خَضْرَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ جَرْدَاءَ ، ثُمَّ قَالَ : وَيُقَالُ فَذَكَرَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ الْهَرَوِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ فَرَجَّحَا أَنَّهَا هُنَا الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ .
( السَّادِسَةُ ) إنَّمَا فَسَّرَ الْفَرْوَةَ بِالْحَشِيشِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْيَابِسِ فَإِنْ كَانَ رَطْبًا قِيلَ لَهُ : خَلَاء بِفَتْحِ الْخَاءِ مَقْصُورٌ ، وَيُقَالُ لَهُمَا جَمِيعًا : الْكَلَأُ مَقْصُورٌ مَهْمُوزٌ وَقَوْلُهُ الْأَبْيَضُ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا يَبِسَ ابْيَضَّ .
( السَّابِعَةُ ) مَا ظَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( حِفْظُ الْمَنْطِقِ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَقُلْ ابْنُ آدَمَ وَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ إنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُرْسِلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَإِذَا شِئْت قَبَضْتُهُمَا } .
وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } .

( حِفْظُ الْمَنْطِقِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقُلْ ابْنُ آدَمَ : يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ إنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُرْسِلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَإِذَا شِئْت قَبَضْتُهُمَا } وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَمُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ، كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُمَا جَمِيعًا صَحِيحَانِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمَّا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى : هَكَذَا هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُوَطَّإِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ جَمَاعَةِ الرُّوَاةِ فِيمَا عَلِمْت ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالصَّوَابُ فِيهِ إسْنَادُ الْمُوَطَّإِ قَالَ وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ جَمَاعَةٍ رِوَايَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { : لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ } وَقَالَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ بِإِسْنَادِ

الْمُوَطَّإِ { : لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ } وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَلْفَاظِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالصَّحِيحُ فِي لَفْظِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الْأَلْبَابِ انْتَهَى .
( الثَّانِيَةُ ) الْخَيْبَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ ، بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ الْحِرْمَانُ وَالْخُسْرَانُ وَعَدَمُ نَيْلِ الْمَطْلُوبِ ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ : يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ أَوْ وَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النُّدْبَةِ وَهِيَ نِدَاءُ مُتَفَجَّعٍ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَوْ مُتَوَجَّعٍ مِنْهُ ، كَأَنَّهُ فَقَدَ الدَّهْرَ لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْرَهُهَا فَنَدَبَهُ .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَعْمِلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ عَقِيدَةِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّمَانَ هُوَ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِتَعْطِيلِهِمْ وَنَفْيِهِمْ الْإِلَهَ ، وَاسْتَعْمَلَ السَّلَامِيُّونَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ قَاصِدِينَ بِهِ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُمْ يَذُمُّونَ الدَّهْرَ إذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ أَغْرَاضُهُمْ ، وَيَمْدَحُونَهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُمْ ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ مَنْ نَسَبَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا لِلدَّهْرِ حَقِيقَةً ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى لِسَانِهِ وَلَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ تَشَبَّهَ بِأَهْلِ الْكُفْرِ وَبِالْجَاهِلِيَّةِ فِي الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ ارْتَكَبَ مَا نَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، فَلْيَتُبْ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ ، وَالدَّهْرُ وَالزَّمَانُ وَالْأَبَدُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى حَرَكَاتِ الْفَلَكِ وَهِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا : لَيْسَ هَذَا النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا اللَّفْظِ بَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ : خُرِقَ الْفَلَكُ وَانْعَكَسَ الدَّهْرُ وَتَعِسَ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { : فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : هُوَ مَجَازٌ وَسَبَبُهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ شَأْنُهَا أَنْ تَسُبَّ الدَّهْرَ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَالْحَوَادِثِ وَالْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ بِهَا مِنْ مَوْتٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ تَلَفِ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَيَقُولُونَ : يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، وَنَحْوَ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ سَبِّ الدَّهْرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ } أَيْ لَا تَسُبُّوا فَاعِلَ النَّوَازِلِ ، فَإِنَّكُمْ إذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلَهَا وَقَعَ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ فَاعِلُهَا وَمُنَزِّلُهَا .
وَأَمَّا الدَّهْرُ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ فَلَا فِعْلَ لَهُ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى فَإِنَّ { اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } أَيْ فَاعِلُ النَّوَازِلِ وَالْحَوَادِثِ ، وَخَالِقُ الْكَائِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ أَنَّ الدَّهْرَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ وَذَرِيعَةٌ إلَى مُضَاهَاةِ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ ، وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { : فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ } فَهَذَا هُوَ مَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ فِي الدَّهْرِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّهْرُ بِيَدِهِ زَمَانَ الدُّنْيَا ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ أَحَدُ مَفْعُولَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ بَلْ هُوَ فِعْلُهُ كَمَا قِيلَ ( أَنَا الْمَوْتُ ) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَإِنَّمَا رَأَوْا أَسْبَابَهُ ، وَقَدْ شَبَّهَ جَهَلَةُ الدَّهْرِيَّةِ وَكَفَرَةُ الْمُعَطِّلَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الدَّهْرَ عِنْدَهُمْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ وَأَمَدُ الْعَالَمِ ، وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ سِوَاهُ وَلَا صَانِعَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مِنْهُمْ سِوَاهُ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُرَادُ بِاَللَّهِ ، فَكَيْفَ يُصَرِّفُ وَيُقَلِّبُ الشَّيْءَ نَفْسَهُ ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ انْتَهَى .

( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { : يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ } قَالَ الْمَازِرِيُّ : هُوَ مَجَازٌ وَالْبَارِئُ تَعَالَى لَا يَتَأَذَّى مِنْ شَيْءٍ فَيُحْمَلُ أَنْ يُرِيدَ ، أَنَّ هَذَا عِنْدَكُمْ إذًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَحَبَّ آخَرَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَسُبَّهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ السَّبَّ يُؤْذِيهِ ، وَالْمَحَبَّةُ تَمْنَعُ مِنْ الْأَذَى وَمِنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْبُوبُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَفْعَلُ مَا أَنْهَاهُ عَنْهُ وَمَا يُخَالِفُنِي فِيهِ ، وَالْمُخَالَفَةُ فِيهَا أَذًى فِيمَا بَيْنَكُمْ فَتَجُوزُ فِيهَا فِي حَقِّ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ انْتَهَى .
وَأَحْسَنَ النَّوَوِيُّ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا بِقَوْلِهِ : مَعْنَاهُ يُعَامِلُنِي مُعَامَلَةً تُوجِبُ الْأَذَى فِي حَقِّكُمْ .

( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ { : وَأَنَا الدَّهْرُ } هُوَ بِرَفْعِ الرَّاءِ عَلَى الْخَبَرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاهِيرُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ الظَّاهِرِيُّ إنَّمَا هُوَ الدَّهْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ أَنَا مُدَّةُ الدَّهْرِ ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَيَكُونُ الْخَبَرُ إمَّا قَوْلُهُ : بِيَدِي الْأَمْرُ ، وَإِمَّا قَوْلُهُ : أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ النَّحَّاسُ : يَجُوزُ النَّصْبُ أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ بَاقٍ مُقِيمٌ أَبَدًا لَا يَزُولُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ ، قَالَ وَالظَّرْفُ أَيْ بِتَقْدِيرِ النَّصْبِ أَصَحُّ وَأَصْوَبُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ : إنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ فِيهِ الرَّفْعُ ، وَاَلَّذِي حَمَلَ رَاوِي النَّصْبِ عَلَى ذَلِكَ خَوْفَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا صَحَّ إلَى مَا لَا يَصِحُّ مَخَافَةَ مَا لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ بِالضَّمِّ ، وَلَمْ يَرْوِ الْفَتْحَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الضَّمِّ أَنْ يَكُونَ الدَّهْرُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّوْقِيفِ عَلَيْهَا أَوْ اسْتِعْمَالِهَا اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ مِنْ الْكَثْرَةِ وَالتَّكْرَارِ ، فَيُخْبِرُ بِهِ وَعَنْهُ ، وَيُنَادِي بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدَّهْرِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ثُمَّ لَوْ سَلَمَ صِحَّةُ النَّصْبِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا { : لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ }

وَلَمْ يَذْكُرْ { أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُطْلَقَةٌ وَالْأُخْرَى مُقَيَّدَةٌ ؛ لِأَنَّا إنْ صِرْنَا إلَى ذَلِكَ لَزِمَ نَصْبُ الدَّهْرِ بِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَزِمَ حَذْفُ الْخَبَرِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا .

وَعَنْهُ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ مَرَّةً رَفَعَهُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ مَرَّةً يَبْلُغُ بِهِ يَقُولُونَ الْكَرْمُ إنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ فَإِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ { وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبُ وَالْحَبَلَةُ } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ مَرَّةً رَفَعَهُ قَالَ نَعَمْ وَقَالَ مَرَّةً يَبْلُغُ بِهِ يَقُولُونَ الْعِنَبُ الْكَرْمُ إنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ فَإِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ { لَا تَقُولُوا الْكَرْمُ وَلَكِنْ قُولُوا الْعِنَبُ وَالْحَبَلَةُ } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : هُوَ عَلَى جِهَةِ الْإِرْشَادِ لِمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي الْإِطْلَاقِ انْتَهَى .
وَفِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِرْشَادِ هُنَا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِرْشَادَ مَا تَعَلَّقَ بِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ، وَالْمَصْلَحَةُ هُنَا دِينِيَّةٌ كَمَا سَتَعْرِفُهُ فَاسْتِعْمَالُ النَّوَوِيِّ لَفْظَ الْكَرَاهَةِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَرَاهِيَةُ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا وَكَرَاهِيَةُ تَسْمِيَةِ شَجَرِ الْعِنَبِ كَرْمًا ، بَلْ يُقَالُ عِنَبٌ أَوْ حَبَلَةٌ ( قُلْت ) لَيْسَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَةِ شَجَرِ الْعِنَبِ كَرْمًا إلَّا أَنْ يُقَالَ الْعِنَبُ يُطْلَقُ عَلَى الثَّمَرَةِ

نَفْسِهَا وَعَلَى الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ كَذَلِكَ ، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَيْهَا عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ يَكُونُ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَعَلَى الْآخَرِ مَجَازًا فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، وَيَكُونُ حُكْمُ أَحَدِهِمَا مَأْخُوذًا مِنْ النَّصِّ ، وَالْآخَرُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّمَا سَمَّتْ الْعَرَبُ الْعِنَبَ بِالْكَرْمِ لِكَثْرَةِ حَمْلِهِ وَسُهُولَةِ قِطَافِهِ وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ ، وَأَصْلُ الْكَرْمِ الْكَثْرَةُ وَالْكَرِيمُ مِنْ الرِّجَالِ هُوَ الْكَثِيرُ الْعَطَاءِ وَالنَّفْعِ ، يُقَالُ : رَجُلٌ كَرِيمٌ وَكَرَّامٌ لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَكَرَّامٌ لِمَنْ كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَيُقَالُ أَيْضًا : رَجُلٌ كَرَمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَامْرَأَةٌ كَرَمٌ وَرِجَالٌ كَرَمٌ وَنِسَاءٌ كَرَمٌ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ عَلَى حَدِّ عَدْلٍ وَزُورٍ وَفِطْرٍ انْتَهَى .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ سَبَبُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَةَ الْكَرْمِ كَانَتْ الْعَرَبُ تُطْلِقُهَا عَلَى شَجَرَةِ الْعِنَبِ وَعَلَى الْعِنَبِ وَعَلَى الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْعِنَبِ سَمَّوْهَا كَرْمًا لِكَوْنِهَا مُتَّخَذَةً مِنْهَا ؛ وَلِأَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ فَكَرِهَ الشَّرْعُ إطْلَاقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى الْعِنَبِ وَشَجَرِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا اللَّفْظَةَ رُبَّمَا تَذَكَّرُوا الْخَمْرَ ، وَهَيَّجَتْ نُفُوسَهُمْ إلَيْهَا فَوَقَعُوا فِيهَا ، أَوْ قَارَبُوا ذَلِكَ وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ نَحْوًا مِنْهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْكَرْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَ الْخَمْرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ طِبَاعُهُمْ تَحُثُّهُمْ عَلَى الْكَرْمِ كُرِهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْمُحَرَّمَ بِاسْمٍ يُهَيِّجُ طِبَاعَهُمْ إلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْمُحَرِّكِ عَلَى الْوُقُوعِ فِي

الْمُحَرَّمَاتِ ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ إنَّمَا هُوَ تَسْمِيَةُ الْعِنَبِ بِالْكَرْمِ وَلَيْسَتْ الْعِنَبَةُ مُحَرَّمَةً ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمَةُ الْخَمْرُ ، وَلَمْ تُسَمَّ الْخَمْرُ عِنَبًا حَتَّى يُنْهَى عَنْهَا ، وَإِنَّمَا الْعِنَبُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى خَمْرًا بِاسْمِ مَا يَئُولَ إلَيْهِ مِنْ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ { كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَمِّيَ هَذَا الْمُحَرَّمَ بِاسْمٍ يُهَيِّجُ الطِّبَاعَ إلَيْهِ } لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ بِالْعِنَبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْكَرْمِ ، فَتَأَمَّلْهُ تَرْشُدْ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَتِمَّةِ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ : إنَّمَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ؛ لِأَنَّ الْكَرْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَرَمِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } فَسُمِّيَ كَرْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّقْوَى وَالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِهَذَا الِاسْمِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ : وَإِنَّمَا مَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي مَحْمَلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ } .
{ وَلَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } أَيْ الْأَحَقُّ بِاسْمِ الْكَرْمِ الْمُسْلِمُ أَوْ قَلْبُ الْمُسْلِمِ ، وَذَلِكَ لِمَا حَوَاهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَرِيمِ وَالْكَرْمِ مِنْ الْعِنَبِ ( قُلْت ) : وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ

فَقَالَ بَابُ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ } وَقَدْ قَالَ { : إنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } كَقَوْلِهِ { : إنَّمَا الصُّرْعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَكَقَوْلِهِ { لَا مَلِكَ إلَّا اللَّهُ } فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا فَقَالَ { إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } .

( السَّابِعَةُ ) الْحَبَلَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِإِسْكَانِهَا وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ وَأَفْصَحُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ : أَصْلُ الْكَرْمَةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ شَجَرَةُ الْعِنَبِ ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ الْقَضِيبُ مِنْ الْكَرْمِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْأَصْلُ أَوْ الْقَضِيبُ مِنْ شَجَرِ الْأَعْنَابِ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ : الْحَبَلَةُ أَيْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ وَالْحُبْلَةُ أَيْ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْكَرْمُ وَقِيلَ الْأَصْلُ مِنْ أُصُولِ الْكَرْمِ وَالْحَبَلُ أَيْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ شَجَرُ الْعِنَبِ الْوَاحِدَةُ حَبَلَةٌ ، وَحَبَلَةُ عَمْرٍو ضَرْبٌ مِنْ الْعِنَبِ بِالطَّائِفِ بَيْضَاءُ مُحَدَّدُ الْأَطْرَافِ مُتَدَاحِضَةُ الْعَنَاقِيدِ انْتَهَى .
وَأَمَّا الْحُبْلَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ فَهِيَ ثَمَرُ السَّمَرِ ، وَقِيلَ : ثَمَرُ الْعِضَاهِ مُطْلَقًا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَمِنْهُ حَدِيثُ وَمَا لَنَا طَعَامٌ إلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَذَّبَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، تَكْذِيبُهُ إيَّايَ أَنْ يَقُولَ فَلْيُعِدْنَا كَمَا بَدَأَنَا وَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَذَّبَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، تَكْذِيبُهُ إيَّايَ أَنْ يَقُولَ فَلْيُعِدْنَا كَمَا بَدَأَنَا .
وَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ { أَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ أَنْ يَقُولَ إنِّي لَمْ أُعِدْهُ كَمَا بَدَأْته } وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا هُوَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ } .
( الثَّانِيَةُ ) الْمُرَادُ هُنَا عَبِيدٌ مَخْصُوصُونَ وَهُمْ مُنْكِرُو بَعْثِ الْأَجْسَامِ وَهُمْ كَفَرَةُ الْعَرَبِ ، وَجُعِلُوا مُكَذِّبِينَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتَكْرَارِ إخْبَارِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بِبَعْثِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ وَإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ إلَى أَجْسَادِهَا ، وَقَوْلُهُ { فَلْيُعِدْنَا كَمَا بَدَأَنَا } لَفْظُهُ طَلَبٌ وَمَعْنَاهُ التَّكْذِيبُ كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي طَبَقَاتِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ لِلتَّكْذِيبِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُهَا .

( الثَّالِثَةُ ) وَالْقَائِلُونً اتَّخَذَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَدًا هُمْ مَنْ قَالَ مِنْ الْيَهُودِ بِأَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْ النَّصَارَى بِأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعَرَبِ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ .

( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ الْعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا الصَّمَدَ وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمُفَسِّرُ : الصَّمَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْأُمُورِ وَيَسْتَقِلُّ بِهَا وَأَنْشَدَ أَلَا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدْ بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ وَبِهَذَا تَتَفَسَّرُ هَذِهِ الْآيَةُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ هُوَ مُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ ، وَإِلَيْهِ يُصْمَدُ وَبِهِ قِوَامُهَا ، وَلَا غِنَى بِنَفْسِهِ إلَّا هُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ كَأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُصْمَتِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ كُلِّهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الصَّمَدُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ صَمَدَ إلَيْهِ إذَا قَصَدَهُ ؛ وَهُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ قَالَ : وَقَوْلُهُ { لَمْ أَلِدْ } لِأَنَّهُ لَا يُجَانَسُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ صَاحِبَةٌ فَيَتَوَالَدَا وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ { أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } وَقَوْلُهُ { وَلَمْ يُولَدْ } ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ مُحْدَثٌ وَجِسْمٌ ، وَهُوَ قَدِيمٌ لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ ( وَلَمْ يُكَافِئْهُ أَحَدٌ ) أَيْ لَمْ يُمَاثِلْهُ وَلَمْ يُشَاكِلْهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ نَفْيًا لِلصَّاحِبَةِ وَالْكَلَامُ إنَّمَا سِيقَ لِنَفْيِ الْمُكَافَأَةِ عَنْ ذَاتِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَصَبُّهُ وَمَرْكَزُهُ هَذَا الطَّرَفُ ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ وَقُرِئَ كُفُؤًا بِضَمِّ الْكَافِ وَالْفَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ ، وَقَرَأَ حَفْصٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِسْكَانِ الْفَاءِ مَعَ الْهَمْزَةِ فِي الْوَصْلِ فَإِذَا وَقَفَ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ وَاوًا مَفْتُوحَةً

اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُلْقَى حَرَكَتُهَا عَلَى الْفَاءِ وَقُرِئَ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَزَالُونَ يَسْتَفْتُونَ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ } زَادَ الشَّيْخَانِ { فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ } زَادَ فِي رِوَايَةٍ { وَرُسُلِهِ }

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُونَ تَسْتَفْتُونَ حَتَّى يَقُولَ أَحَدُكُمْ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : .
( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّك فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ وَلْيَنْتَهِ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ } زَادَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { وَرُسُلِهِ } وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا يُزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنْ الْعِلْمِ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ قَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَدْ سَأَلَنِي اثْنَانِ وَهَذَا الثَّالِثُ أَوْ قَالَ سَأَلَنِي وَاحِدٌ وَهَذَا الثَّانِي } وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَك يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا اللَّهُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ قَالَ فَأَخَذَ حَصًى بِكَفِّهِ فَرَمَاهُمْ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : قُومُوا قُومُوا صَدَقَ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَيَسْأَلُنَّكُمْ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولُوا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَهُ } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَمِّ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ

إلَيْهَا ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَى السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَجُوزُ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ اجْتِنَابُهُ حَذَرًا مِمَّا يَجُرُّ إلَيْهِ .
( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ النُّطْقُ بِهِ وَيَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ ، وَدَفْعُهُ عَنْ الْخَاطِرِ وَأَنْ يَلْجَأَ الْإِنْسَانُ إلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَكْفِيَهُ شَرَّ وَسْوَسَتِهِ وَفِتْنَتِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مُحَاسَنَةِ الشَّيْطَانِ لِتَأَصُّلِ عَدَاوَتِهِ وَتَأَكُّدِهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ كَيْدَهُ إلَّا الِاسْتِعَاذَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ وَالِانْتِهَاءِ عَنْهُ النُّطْقُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْرِيحُ بِهِ فَيَقُولُ آمَنْت بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الْخَوَاطِرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالرَّدِّ لَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَلَا نَظَرٍ فِي إبْطَالِهَا .
قَالَ وَاَلَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا : إنَّ الْخَوَاطِرَ عَلَى قِسْمَيْنِ فَأَمَّا الَّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَقِرَّةٍ وَلَا اجْتَلَبَتْهَا شُبْهَةٌ طَرَأَتْ فَهِيَ تُدْفَعُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ وَعَلَى مِثْلِهَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْوَسْوَسَةِ فَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْرًا طَارِئًا بِغَيْرِ أَصْلٍ دُفِعَ بِغَيْرِ نَظَرٍ فِي دَلِيلٍ إذْ لَا أَصْلَ لَهُ يُنْظَرُ فِيهِ .
وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ الْمُسْتَقِرَّةُ الَّتِي أَوْجَبَتْهَا الشُّبْهَةُ فَإِنَّهَا لَا تُدْفَعُ إلَّا بِاسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ فِي إبْطَالِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ تَرْكُ الْفِكْرِ فِيمَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِهَا وَاللِّيَاذُ بِاَللَّهِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَالْكَفِّ عَنْ مُجَارَاتِهِ فِي حَدِيثِ النَّفْسِ ، وَمُطَاوَلَتِهِ فِي الْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْجَوَابِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حَقُّ النَّظَرِ فِي مِثْلِهِ لَوْ كَانَ الْمُنَاظَرُ عَلَيْهِ بَشَرًا ، وَكَلَّمَكَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ نَاظَرَك وَأَنْتَ تُشَاهِدُهُ وَتَسْمَعُ كَلَامَهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَك لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُغَالِطَكَ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَكُمَا مِنْ الْكَلَامِ حَتَّى يُخْرِجَكَ كَلَامُهُ مِنْ حُدُودِ النَّظَرِ وَرُسُومِ الْجَدَلِ فَإِنْ بَانَ السُّؤَالُ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ مَعْلُومٌ وَالْأَمْرُ فِيهِ مَحْدُودٌ مَحْصُورٌ ، فَإِذَا رَعَيْت الطَّرِيقَةَ وَأَصَبْت الْحُجَّةَ وَأَلْزَمْتهَا خَصْمَك انْقَطَعَ ، وَكُفِيتَ مُؤْنَتَهُ وَحَسَمْت شَغَبَهُ .
وَبَابُ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ إلَيْك غَيْرُ مَحْدُودٍ وَلَا مُتَنَاهٍ ؛ لِأَنَّك كُلَّمَا أَلْزَمْته حُجَّةً وَأَفْسَدْت عَلَيْهِ مَذْهَبًا زَاغَ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ الْوَسْوَاسِ الَّتِي أُعْطِيَ التَّسْلِيطَ فِيهَا عَلَيْك ، فَهُوَ لَا يَزَالُ يُوَسْوِسُ إلَيْك حَتَّى يُؤَدِّيَك إلَى الْحِيرَةِ وَالْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ فَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَا يَعْرِضُ مِنْ وَسَاوِسِهِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَى الِاسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مُرَاجَعَتِهِ وَحُسِمَ الْبَابُ فِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَمْرٍ سِوَاهُ .
وَهَذِهِ حِيلَةٌ بَلِيغَةٌ وَجُنَّةٌ حَصِينَةٌ يَخْزَى مَعَهَا الشَّيْطَانُ ، وَيَبْطُلُ كَيْدُهُ وَلَوْ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاجَّتَهُ وَأَذِنَ فِي مُرَاجَعَتِهِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ فِيمَا يُوَسْوِسُ بِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى كُلِّ مُوَحِّدٍ سَهْلًا فِي قَمْعِهِ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونَ

السَّائِلُ عَنْ مِثْلِ هَذَا وَاحِدًا مِنْ الْبَشَرِ لَكَانَ جَوَابُهُ وَالنَّقْضُ عَلَيْهِ مُتَلَقًّى مِنْ سُؤَالِهِ وَمَأْخُوذًا مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ الَّذِي خَلَقَهُ ، فَقَدْ نَقَضَ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ آخِرَهُ ، وَأَعْطَى أَنْ لَا شَيْءَ يُتَوَهَّمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجَانٍّ وَنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ فِعْلٌ ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ وَاقِعٌ تَحْتَ اسْمِ الْخَلْقِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُطَالَبَةِ مَعَ هَذَا مَحَلٌّ وَلَا قَرَارٌ ، وَأَيْضًا لَوْ جَازَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَسْأَلَ فَيُقَالُ : مَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَيُسَمِّي شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ يَدَّعِي لَهُ هَذَا الْوَصْفَ لَلَزِمَ أَنْ يُقَالَ وَمَنْ خَلَقَ ذَلِكَ الشَّيْءَ ، وَلَامْتَدَّ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ، وَالْقَوْلُ بِمَا لَا يَتَنَاهَى فَاسِدٌ فَسَقَطَ السُّؤَالُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَمِمَّا كَانَ يُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ هَذَا السُّؤَالَ إنَّمَا وَجَبَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ الْوَاحِدِ لِمَا اقْتَضَاهُ أَوْصَافُ الْخَلِيقَةِ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ الْمُوجِبَةِ أَنَّ لَهَا مُحْدِثًا فَقُلْنَا إنَّ لَهَا خَالِقًا ، وَنَحْنُ لَمَّا نُشَاهِدْ الْخَالِقَ عِيَانًا فَنُحِيطَ بِكُنْهِهِ ، وَلَمْ يَصِحَّ لَنَا أَنْ نَصِفَهُ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ لَهُ خَالِقًا .
وَالشَّاهِدُ لَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْغَائِبِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ دُونَ الْمُشْتَبِهَاتِ ، وَالْمَفْعُولُ لَا يُشْبِهُ فَاعِلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ نُعُوتِهِ الْخَاصَّةِ فَبَطَلَ مُطْلَقًا مَا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ مِنْ اقْتِضَاءِ خَالِقٍ لِمَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ كُلَّهُ ، وَلَوْ أَكْثَرْنَا فِي هَذَا لَدَخَلْنَا فِي نَوْعِ مَا نُهِينَا عَنْهُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِذًا نَنْتَهِي إلَى مَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ حَسْمِ هَذَا الْبَابِ فِي مُنَاظَرَةِ الشَّيْطَانِ لِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ إنْصَافِهِ وَكَثْرَةِ شَغَبِهِ ، وَقَدْ تَوَاصَى الْعُلَمَاءُ وَالْحُكَمَاءُ

فِيمَا دَوَّنُوهُ وَرَسَمُوهُ مِنْ حُدُودِ الْجَدَلِ وَآدَابِ النَّظَرِ بِتَرْكِ مُنَاظَرَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَأَمَرُوا بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ انْتَهَى .
( السَّابِعَةُ ) وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ مَغِيبٍ قَدْ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قِيلَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ { اُدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ }

( الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : قِيلَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ { اُدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ، فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ { فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِنْطَةٌ حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ } ( الثَّانِيَةُ ) هَذَا الْبَابُ قِيلَ هُوَ الْبَابُ الثَّامِنُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقِيلَ بَابُ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِدُخُولِهَا وَهِيَ قَرْيَةُ الْجَبَّارِينَ وَهِيَ أَرِيحَاءُ فِي الْمَشْهُورِ وَقِيلَ كَانَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ بَابُ قَرْيَةٍ فِيهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ { سُجَّدًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مُنْحَنِينَ رُكُوعًا : وَقَالَ غَيْرُهُ خُضُوعًا وَشُكْرًا لِتَيْسِيرِ الدُّخُولِ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ قِيلَ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَاسْجُدُوا وَاشْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ( وَحِطَّةٌ ) بِمَعْنَى حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ مَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَارُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا تَحُطُّ الذُّنُوبَ ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ التَّوْبَةُ قَالَ الشَّاعِرُ فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفُورًا ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ تَعَبَّدُوا بِقَوْلِهَا كَفَّارَةً انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { حِطَّةٌ } مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ أَيْ أَنْ تَحُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَقْدِيرُهُ أَمْرُنَا حِطَّةٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ رَفْعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ (

فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ ) أَيْ يَنْجَرُّونَ عَلَى أَلَيَاتِهِمْ فِعْلَ الْمُقْعَدِ الَّذِي يَمْشِي عَلَى أَلْيَتِهِ ، يُقَالُ : زَحَفَ الصَّبِيُّ إذَا مَشَى كَذَلِكَ وَالْأَسْتَاءُ جَمْعُ أَسْتً وَهُوَ الدُّبُرُ .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ } أَيْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ كَلَامٌ خُلْفٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قِيلَ حِنْطَةٌ فَزَادُوا فِي لَفْظَةِ الْحِطَّةِ نُونًا ، وَغَيَّرُوهُ بِذَلِكَ عَنْ مَدْلُولِهِ ، ثُمَّ ضَمُّوا إلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ الْخَالِيَ عَنْ الْفَائِدَةِ تَتْمِيمًا لِلِاسْتِهْزَاءِ وَزِيَادَةً فِي الْعُتُوِّ ، وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ قَالُوا حُطَّانَا سِمِقَّانَا يَعْنُونَ حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فَعَاقَبَهُمْ بِالرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ الْمُقْتَرِنُ بِالْهَلَاكِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ كَانَ طَاعُونًا أَهْلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا .

( السَّادِسَةُ ) فِي قَوْله تَعَالَى { نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ فِي الْمَشْهُورِ ( إحْدَاهَا ) قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْفَاءِ .
( الثَّانِيَةُ ) قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْفَاءِ .
( الثَّالِثَةُ ) قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الْفَاءِ .

( الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ وَالتَّوَاضُعُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَيْنَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { إنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ }

( الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ وَالتَّوَاضُعُ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنًا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا حَتَّى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَبَخْتَرُ فِي حُلَّةٍ } الْحَدِيثَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جَمَّتَهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْن مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جَمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ } وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ هَذَا ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَمَّنْ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَهَذَا أَظْهَرُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ مَعْنَى إدْخَالِ الْبُخَارِيِّ لَهُ فِي ذِكْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ ( قُلْت ) : وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا { : إنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ كُرَيْبٌ قَالَ { كُنْت أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي زُقَاقِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ : يَا كُرَيْبٌ بَلَغْنَا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا ؟ قُلْت : أَنْتَ عِنْدَهُ الْآنَ فَقَالَ حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ

الْمُطَّلِبِ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ بُرْدَيْنِ ، وَيَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .

( الثَّالِثَةُ ) الْبُرْدُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ نَوْعٌ مِنْ الثِّيَابِ مَعْرُوفٌ .
قَالَ فِي الْمُحْكَمِ : ثَوْبٌ فِيهِ خُطُوطٌ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْوَشْيَ وَالْجَمْعُ أَبْرَادٌ وَأَبْرُدٌ وَبُرُودٌ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْبُرْدَانِ الرِّدَاءُ وَالْإِزَارُ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ تَثْنِيَةِ الْعُمَرَيْنِ وَالْقَمَرَيْنِ انْتَهَى .
وَفِي تَعْيِينِهِ أَنَّ الْبُرْدَيْنِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ نَظَرٌ ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ كَالْعُمَرَيْنِ وَالْقَمَرَيْنِ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِيهِ تَغْلِيبٌ وَهَذَا لَا تَغْلِيبَ فِيهِ بَلْ كُلٌّ مِنْ مُفْرَدَيْهِ بُرْدٌ ، وَلَوْ قِيلَ لِلْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ إزَارَانِ أَوْ رِدَاءَانِ لَكَانَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ .

( الرَّابِعَةُ ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَفِي الْأُخْرَى { قَدْ أَعْجَبَتْهُ جَمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ } .
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إعْجَابُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ هُوَ مُلَاحَظَتُهُ لَهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَعَ نِسْيَانِ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ رَفَعَهَا عَلَى الْغَيْرِ وَاحْتَقَرَهُ فَهُوَ الْكِبْرُ الْمَذْمُومُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ يَتَجَلْجَلُ بِالْجِيمِ وَاللَّامِ الْمُكَرَّرَتَيْنِ أَيْ يَتَحَرَّكُ وَيَنْزِلُ مُضْطَرِبًا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ .
وَقَوْلُهُ { يَوْمِ الْقِيَامَةِ } مَجْرُورٌ بِحَتَّى وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَجْرُورِ بِهَا آخِرَ جُزْءٍ أَوْ مُكَافِئَ آخِرِ جُزْءٍ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَغَارِبَةِ وَابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي التَّسْهِيلِ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يُفِيدُ هَذَا الْحَدِيثُ تَرْكَ الْأَمْنٍ مِنْ تَعْجِيلِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذُّنُوبِ ، وَأَنَّ عُجْبَ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَثَوْبِهِ وَهَيْئَتِهِ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ .

وَعَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كُلُّهُمْ يُخْبِرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ } زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ { قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إزَارِي تَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَسْت مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ } وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ { فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ قَالَ يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ إذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ ، قَالَ فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ } وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إلَى الْمُسْبِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لَمْ يُخَرِّجْ وَاحِدٌ مِنْ الشَّيْخَيْنِ هَذَا اللَّفْظَ الْأَخِيرَ وَمَعْنَاهُ يُؤَدِّيهِ الْمَتْنُ الَّذِي قَبْلَهُ وَلِمُسْلِمٍ { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ : وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كُلِّهِمْ يُخْبِرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ } ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إلَى الْمُسْبِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ الثَّلَاثَةِ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا { فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ ؟ فَقَالَ يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ إذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ قَالَ فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ خَمْسَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ وَزَادُوا فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَفِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ ثَوْبِي يُسْتَرْخَى إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ : إنَّك لَسْت تَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ } وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ وَمُسْلِمِ بْنِ يَنَاقٍ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيَّ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَجَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ مِنْ الْخُيَلَاءِ .
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ وَاحِدٌ مِنْ الشَّيْخَيْنِ هَذَا اللَّفْظَ الْأَخِيرَ وَمَعْنَاهُ يُؤَدِّيهِ الْمَتْنُ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } هَذَا كَلَامُهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مِنْ رِوَايَةِ خَرْشَةَ بْنِ الْحُرِّ عَنْهُ فَلِهَذَا وَجَدْت فِي نُسْخَتِي مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُبْرَى الَّتِي قَرَأْت فِيهَا عَلَى وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ ضَرْبًا عَلَى قَوْلِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَعِبَارَتُهُ تُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) ( الْخُيَلَاءُ ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا فِي الْمُحْكَمِ وَغَيْرِهِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ مَمْدُودَةٍ قَالَ

النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْخُيَلَاءُ وَالْمَخِيلَةُ وَالْبَطَرُ وَالْكِبْرُ وَالزَّهْوُ وَالتَّبَخْتُرُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ حَرَامٌ وَيُقَالُ : خَالَ الرَّجُلُ خَالًا وَاخْتَالَ اخْتِيَالًا إذَا تَكَبَّرَ ، وَهُوَ رَجُلٌ خَالٌ أَيْ مُتَكَبِّرٌ وَصَاحِبُ خَالٍ أَيْ صَاحِبُ كِبْرٍ انْتَهَى .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّخَيُّلِ أَيْ الظَّنِّ ، وَهُوَ أَنْ يُخَيَّلَ لَهُ أَنَّهُ بِصِفَةٍ عَظِيمَةٍ بِلِبَاسِهِ ، لِذَلِكَ اللِّبَاسِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَيُقَالُ لِلْكِبْرِ أَيْضًا خَيَلٌ وَأَخْيَلُ وَخِيلَةٌ بِكَسْرِ الْخَاءِ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْمُحْكَمِ .

( الثَّالِثَةُ ) مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ أَيْ لَا يَرْحَمُهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ ، وَنَظَرُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ رَحْمَتُهُ لَهُمْ وَلُطْفُهُ بِهِمْ .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَبَّرَ عَنْ الْمَعْنَى الْكَائِنِ عَنْ النَّظَرِ بِالنَّظَرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ إلَى مُتَوَاضِعٍ رَحِمَهُ وَمَنْ نَظَرَ إلَى مُتَكَبِّرٍ مُتَجَبِّرٍ مَقَتَهُ فَالنَّظَرُ إلَيْهِ اقْتَضَى الرَّحْمَةَ أَوْ الْمَقْتَ .
( الرَّابِعَةُ ) فَإِنْ قُلْت مَا مَعْنَى التَّقْيِيدِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( قُلْت ) ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ بِخِلَافِ رَحْمَةِ الدُّنْيَا فَقَدْ تَنْقَطِعُ عَنْ الْمَرْحُومِ وَيَأْتِي لَهُ مَا يُخَالِفُهَا .
( الْخَامِسَةُ ) يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ ثَوْبُهُ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ وَالْقَمِيصُ وَالسَّرَاوِيلُ وَالْجُبَّةُ وَالْقَبَاءُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى ثَوْبًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ شُعْبَةَ { قُلْت لِمُحَارِبٍ : أَذَكَرَ إزَارَهُ ؟ قَالَ مَا خَصَّ إزَارًا وَلَا قَمِيصًا } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ كَمَا جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْإِزَارِ وَهِيَ فِي الصَّحِيحِ فَخَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ لِبَاسِ الْعَرَبِ وَهُوَ الْأُزُرُ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ ذِكْرَ الْإِزَارِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامَّةَ لِبَاسِهِمْ وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنْ الْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ حُكْمُهُ ، ثُمَّ اعْتَرَضَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ جَاءَ مُبَيَّنًا مَنْصُوصًا فَذَكَرَ رِوَايَةَ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ الْمُتَقَدِّمَةَ ( فَإِنْ قُلْت ) مَا الْمُرَادُ بِإِسْبَالِ الْعِمَامَةِ

هَلْ هُوَ جَرُّهَا عَلَى الْأَرْضِ مِثْلَ الثَّوْبِ أَوْ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَطْوِيلِ عَذَبَتِهَا بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْمُعْتَادِ ؟ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : هُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ جَرُّهَا عَلَى الْأَرْضِ مَعْهُودًا مُسْتَعْمَلًا فَالْمُرَادُ الثَّانِي ، وَأَنَّ الْإِسْبَالَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِجَرِّ الذُّيُولِ أَوْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا كَالْأَكْمَامِ إذَا خَرَجَتْ عَنْ الْمُعْتَادِ .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : لَا شَكَّ فِي تَنَاوُلِ التَّحْرِيمِ لِمَا مَسَّ الْأَرْضَ مِنْهَا لِلْخُيَلَاءِ ، وَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِ مَا زَادَ عَنْ الْمُعْتَادِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا فَقَدْ { كَانَ كُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الرُّسْغِ } وَأَرَادَ عُمَرُ قَصَّ كُمِّ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ فِيمَا خَرَجَ عَنْ الْأَصَابِعِ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ فِي قَمِيصٍ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ قَدْ حَدَثَ لِلنَّاسِ اصْطِلَاحٌ بِتَطْوِيلِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْخُيَلَاءِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوَائِدِ الْمُتَجَدِّدَةِ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُكْرَهُ كُلُّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ الطُّولِ وَالسَّعَةِ .

( السَّابِعَةُ ) هَذَا الْوَعِيدُ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ ، وَالْكِبْرُ عُجْبٌ وَزِيَادَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلًا إزَارَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَك أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ سَكَتَّ عَنْهُ قَالَ إنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إزَارَهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ } وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ { فَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ وَأَنَّهُ لَا يَجِدُهَا عَاقٌّ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا شَيْخٌ زَانٍ وَلَا جَارٌّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إنَّمَا الْكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .

( الثَّامِنَةُ ) قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ دَخَلَ فِي قَوْمِهِ { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ } الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَلِذَلِكَ سَأَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْإِسْبَالِ لِلنِّسَاءٍ ( قُلْت ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْخُيَلَاءَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَإِنَّمَا سَأَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَمَّا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ فَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ فَهْمُ أُمِّ سَلَمَةَ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُنَّ لَقَالَ لَهَا لَيْسَ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الرِّجَالِ وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ الْقَاضِي وَالنَّوَوِيُّ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخُيَلَاءِ ( فَإِنْ قُلْت ) حَالَةُ غَيْرِ الْخُيَلَاءِ لَا تَحْرِيمَ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي وَالْقَاضِي قَالَ إنَّهُ مَمْنُوعٌ ( قُلْت ) لَعَلَّهُ أَرَادَ الْكَرَاهَةَ فَإِنَّ فِيهَا مَنْعًا غَيْرَ جَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْمَكْرُوهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةُ ) التَّقْيِيدُ بِالْخُيَلَاءِ يَخْرُجُ مَا إذَا جَرَّهُ بِغَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَحْرِيمَ فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ ثَوْبِي يُسْتَرْخَى إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك لَسْت تَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ } وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابَ مَنْ جَرَّ إزَارَهُ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ { خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلًا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ } الْحَدِيثَ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْيِيدِهَا بِالْجَرِّ خُيَلَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِالْخُيَلَاءِ وَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْفَرْقِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ فِيمَا يُتْرَكُ إلَيْهِ طَرْفُ الْقَمِيصِ أَوْ الْإِزَارِ فَنِصْفُ السَّاقَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ } فَالْمُسْتَحَبُّ نِصْفُ السَّاقَيْنِ وَالْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ مَا تَحْتَهُ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَمَا نَزَلَ عَنْ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مَنْعَ تَحْرِيمٍ ، وَإِلَّا فَمَنْعُ تَنْزِيهٍ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ بِأَنَّ مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِلْخُيَلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يُجَاوِزَ بِثَوْبِهِ كَعْبَيْهِ وَيَقُولَ لَا أَتَكَبَّرُ بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظًا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ حُكْمًا فَيَقُولُ إنِّي لَسْتُ مِمَّنْ

يُسْبِلُهُ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ فِي فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ وَدَعْوَى لَا تُسَلَّمُ لَهُ بَلْ مِنْ تَكَبُّرِهِ يُطِيلُ ثَوْبَهُ وَإِزَارَهُ فَكَذِبُهُ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا انْتَهَى .
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَقْيِيدِ الْحَدِيثِ بِالْخُيَلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْعَاشِرَةُ ) يُسْتَثْنَى مِنْ جَرِّهٍ خُيَلَاءَ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ حَالَةَ الْقِتَالِ فَيَجُوزُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : إنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَأَنْ يَتَبَخْتَرَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ } الْحَدِيثَ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَالْجَرُّ خُيَلَاءَ هُنَا فِيهِ إعْزَازُ الْإِسْلَامِ وَظُهُورُهُ وَاحْتِقَارُ عَدُوِّهِ وَغَيْظُهُ بِخِلَافِ مَا فِيهِ احْتِقَارُ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْظُهُمْ وَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَيْهِمْ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا جَوَازُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ دَفْعًا لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لَهُ كَأَنْ يَكُونَ تَحْتَ كَعْبَيْهِ جِرَاحٌ أَوْ حَكَّةٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُغَطِّهَا تُؤْذِهِ الْهَوَامُّ كَالذُّبَابِ وَنَحْوِهِ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَلَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُهَا بِهِ إلَّا رِدَاءَهُ أَوْ إزَارَهُ أَوْ قَمِيصَهُ فَقَدْ أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ قَمِيصِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا وَأَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبٍ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ لَمَّا أَذَاهُ الْقَمْلُ مَعَ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِغَيْرِ عَارِضٍ وَتَحْرِيمِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْمُحْرِمِ ، وَهَذَا كَمَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّرَخُّصِ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) إنْ قُلْت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } فَالْجَارُّ لِثَوْبِهِ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُظْهِرًا لِلتَّجَمُّلِ بِذَلِكَ مُعْجِبًا يَحْسُنُ مَلْبَسُهُ وَنَضَارَةُ رَوْنَقِهِ لَمْ يَتَكَبَّرْ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ ، وَلَمْ يَحْتَقِرْ أَحَدًا فَكَيْفَ جُعِلَ كِبْرًا مَذْمُومًا ( قُلْت ) الذَّمُّ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كِبْرًا بِأَنْ يَفْعَلَهُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّصِيحَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا مُكْتَرِثًا بِالتَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ أَوْ مُحْتَقِرًا لِمَنْ لَيْسَ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي رَآهَا حَسَنَةً بَهْجَةً فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَعْجَبَهُ رَوْنَقُهُ غَافِلًا عَنْ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْعُجْبُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَإِنْ اسْتَحْضَرَ مَعَ اسْتِحْسَانِهِ لِهَيْئَتِهِ وَإِعْجَابِهِ بِمَلْبُوسِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَخَضَعَ لَهَا فَلَيْسَ هَذَا تَكَبُّرًا وَلَا إعْجَابًا ، وَلَمْ يُرِدْ فِي الْحَدِيثِ ذَمَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : الذِّرَاعُ الَّذِي رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِيهِ أَيْ مَا كَانَ أَوَّلُهُ مِمَّا يَلِي جِسْمَ الْمَرْأَةِ هَلْ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ الْحَدِّ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ الرِّجَالُ ، وَهُوَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنْ الْحَدِّ الْمُسْتَحَبِّ ، وَهُوَ أَنْصَافُ السَّاقَيْنِ أَوْ حَدُّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَمَسُّ الْأَرْضَ ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّالِثُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَتْ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ تَجُرُّ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَيْلِهَا قَالَ شِبْرًا قَالَتْ : إذًا يَنْكَشِفُ عَنْهَا قَالَ فَذِرَاعٌ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ } فَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهَا أَنْ تَجُرَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُ ( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ وَالِدِي أَيْضًا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ ذِرَاعُ الْيَدِ ، وَهُوَ شِبْرَانِ بِدَلِيلِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ النَّاجِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا ، ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا فَكُنَّ يُرْسِلْنَ إلَيْنَا فَنَذْرَعُ لَهُنَّ ذِرَاعًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الذِّرَاعَ الْمَأْذُونَ لَهُنَّ فِيهِ شِبْرَانِ ، وَهُوَ الذِّرَاعُ الَّذِي تُقَاسُ بِهِ الْحُصْرُ الْيَوْمَ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ وَالِدِي أَيْضًا : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْخُنْثَى الْمُشْكِلِ جَرُّ الذَّيْلِ وَقَدْ يُقَالُ لَمَّا كَانَ حُكْمُ عَوْرَتِهِ حُكْمَ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْقَدْرِ احْتِيَاطًا كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَرْأَةِ فِي السِّتْرِ ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ سِتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ وَقَدْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ جَرِّ الذَّيْلِ ، وَالْمَرْأَةُ قَدْ رُخِّصَ لَهَا فِي جَرِّ الذَّيْلِ فَلَا تَبْلُغُ الرُّخْصَةُ غَيْرَهَا بَلْ حَقُّ الْخُنْثَى أَنْ يَسْتُرَ قَدْرَ عَوْرَةِ الْحُرَّةِ .
وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِالْمَرْأَةِ فَقَدْ يُمْنَعُ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رَجُلًا ، وَقَدْ يُقَالُ يُمْنَعُ أَيْضًا مِنْ زِيِّ الرِّجَالِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ امْرَأَةً ، فَقَدْ نُهِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْآخَرِ انْتَهَى .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) إذَا كَانَ عَلَى الْمَرْأَةِ ثَوْبَانِ فَأَكْثَرُ ، وَكُلٌّ سَاتِرٌ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَجُرَّ جَمِيعَ ذُيُولِهَا عَلَى الْأَرْضِ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ أَوْ تَقْتَصِرُ عَلَى جَرِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ؟ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ فِي حَقِّهِنَّ لِلسِّتْرِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ فِيهِ احْتِمَالٌ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْت بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَفَلُهُمْ وَغَوِيُّهُمْ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ إنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَقَالَ لِلنَّارِ إنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا } وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ أُوثِرْت بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَتْ الْجَنَّةُ فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَفَلُهُمْ وَغَوِيُّهُمْ ؟ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ إنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَقَالَ لِلنَّارِ إنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا } ، وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ { فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رِجْلَهُ فِيهَا تَقُولُ : قَطُّ قَطُّ قَطُّ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا .
وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا } وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّبْوِيبِ بِصَدْرِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَمِّ الْكِبْرِ وَاسْتِحْقَاقِ فَاعِلِهِ النَّارَ ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ الْمُشْكِلَةِ الْمُحْتَاجَةِ إلَى التَّأْوِيلِ وَقَدْ زَعَمَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ { : حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ رِجْلَهُ } غَيْرَ ثَابِتَةٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ وَلَكِنْ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ قَدْ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا فَهِيَ صَحِيحَةٌ وَتَأْوِيلُهَا مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ رِجْلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ فِي رِجْلِهِ إلَى ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ الْمَعْلُومِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يُسَمَّى بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْلِ الْجَمَاعَةُ مِنْ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ رِجْلٌ

مِنْ جَرَادٍ أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّ الْمُرَادَ بِوَضْعِ الرِّجْلِ نَوْعُ زَجْرٍ لَهَا كَمَا تَقُولُ جَعَلْته تَحْتَ رِجْلِي .
( الْخَامِسُ ) أَنَّ الرِّجْلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ وَالْإِلْحَاحِ كَمَا تَقُولُ : قَامَ فِي هَذَا الْأَمْرِ عَلَى رِجْلٍ وَالْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ وَفِيهَا التَّأْوِيلَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَأَشْهَرُ مِنْهَا تَأْوِيلٌ آخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى طَرِيقَةِ التَّأْوِيلِ وَهِيَ طَرِيقَةُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهَا بَلْ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ ، وَلَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِهَا وَظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلِ إنَّمَا هُوَ فِي الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَأَمَّا الْوَارِدَةُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ أَصْلٌ ، فَإِنَّهَا تُؤَوَّلُ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا حَدِيثَ تَحَاجِّ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَمِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .

( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ : ( تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَمْيِيزًا يُدْرِكَانِ بِهِ فَتَحَاجَّتَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ التَّمْيِيزُ فِيهِمَا دَائِمًا .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : ظَاهِرُ هَذِهِ الْمُحَاجَّةِ ( أَنَّهَا لِسَانُ مَقَالٍ ) فَيَكُونُ خَزَنَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هُمْ الْقَائِلُونَ ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَنَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ عَقْلًا فِي الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهَا حَيًّا خِلَافًا لِمَنْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْجَمَادِيَّةِ حَيَاةً بِحَيْثُ يَصْدُرُ ذَلِكَ الْقَوْلُ عَنْهُ لَا سِيَّمَا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } إنَّ كُلَّ مَا فِي الْجَنَّةِ حَيٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ( لِسَانَ حَالٍ ) فَيَكُونُ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ حَالَتَيْهِمَا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ ( تَحَاجَّتْ ) أَيْ ( تَخَاصَمَتْ ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ التَّحَاجُّ التَّخَاصُمُ ، قَالَ فِي الْمُحْكَمِ حَاجَّهُ نَازَعَهُ الْحُجَّةَ ، وَحَجَّهُ غَلَبَهُ عَلَى حُجَّتِهِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } الْمُحَاجَّةُ التَّحَاوُرُ بِالْحُجَّةِ وَالْخُصُومَةِ انْتَهَى .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِتَحَاجِّ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ تَخَاصُمُهُمَا فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا وَإِقَامَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْحُجَّةَ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا ، فَاحْتَجَّتْ النَّارُ بِقَهْرِهَا لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَاحْتَجَّتْ الْجَنَّةُ بِكَوْنِهَا مَأْوَى الضُّعَفَاءِ فِي الدُّنْيَا عَوَّضَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ضَعْفِهِمْ الْجَنَّةَ فَقَطَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّخَاصُمَ بَيْنَهُمَا ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْجَنَّةَ رَحْمَتُهُ أَيْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْخَلْقِ إنْ جَعَلْت الرَّحْمَةَ صِفَةَ فِعْلٍ أَوْ أَثَرَ إرَادَةِ الْخَيْرِ بِمَنْ يَشَاءُ إنْ جَعَلْتهَا صِفَةَ ذَاتٍ ، وَأَنَّ النَّارَ عَذَابُهُ النَّاشِئُ عَنْ غَضَبِهِ وَإِرَادَةِ انْتِقَامِهِ جَلَّ وَعَلَا .

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ ذَمُّ التَّكَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ ، وَأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنْ وَصَلَ الْكِبْرُ بِالْإِنْسَانِ إلَى الْكُفْرِ لِتَكَبُّرِهِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخُلُوصِ مِنْهَا ، وَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِهَا أَيْضًا بَلْ هُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ فَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ وَلَا يَدْخُلُهَا .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ ( وَسُفْلُهُمْ ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ كَذَا ضَبَطْنَاهُ عَنْ شَيْخِنَا وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ جَمْعُ سِفْلَةٍ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ ، وَهُوَ الرَّجُلُ الْوَضِيعُ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ صَاحِبِ الصِّحَاحِ ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ رَجُلٌ سِفْلَةٌ مِنْ قَوْمٍ سُفْلٍ ، وَكَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ ثُمَّ قَالَ وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ صَدَّرَا كَلَامَهُمَا بِأَنَّ السَّفِلَةَ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْفَاءِ السِّقَاطُ مِنْ النَّاسِ ، وَأَنَّهُ يُقَالُ هُوَ مِنْ السَّفَلَةِ وَلَا يُقَالُ سَفَلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ ، ثُمَّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُخَفِّفُ فَيَقُولُ فُلَانٌ مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ فَيَنْقُلُ كَسْرَةَ الْفَاءِ إلَى السِّينِ ، وَحَكَاهُ فِي الصِّحَاحِ عَنْ ابْنِ السِّكِّيتِ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ سَفِلَةُ النَّاسِ أَيْ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَسِفْلَتُهُمْ أَيْ بِكَسْرِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ أَسَافِلُهُمْ وَغَوْغَاؤُهُمْ .

( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ ( وَغَوِيُّهُمْ ) كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا أَنَّهُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ هُنَا مَعْنًى وَلِهَذَا كَانَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَعَلَّهُ وَغَوْغَاؤُهُمْ وَكَتَبَهُ بِخَطِّهِ كَذَلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَتِهِ ، وَلَعَلَّهُ تَصَحَّفَ بِقَوْلِهِمْ وَغَرْثُهُمْ ، وَهُوَ الَّذِي فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْقَافِ وَهُوَ بِمَعْنَى الضُّعَفَاءِ وَالْمُحْتَقَرِينَ ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الضُّعَفَاءُ جَمْعُ ضَعِيفٍ يَعْنِي بِهِ الضُّعَفَاءَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هُنَا الْفُقَرَاءَ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْنَى الضُّعَفَاءِ مَعْنَى الْعَجَزَةِ الْمَذْكُورِينَ بَعْدُ .
وَسَقَطُهُمْ جَمْعُ سَاقِطٍ وَهُوَ النَّازِلُ الْقَدْرِ ، وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، وَأَصْلُهُ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ وَهُوَ رَدِيئُهُ انْتَهَى .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقِيلَ مَعْنَى الضُّعَفَاءِ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَهْلُ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ أَنَّهُ الْخَاضِعُ لِلَّهِ تَعَالَى الْمُذِلُّ نَفْسَهُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضِدَّ الْمُتَبَخْتِرِ الْمُسْتَكْبِرِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ : الضَّعِيفُ هُنَا الَّذِي يُبَرِّئُ نَفْسَهُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِينَ مَرَّةً إلَى خَمْسِينَ ، وَلَمْ يُرِدْ التَّحْدِيدَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اتِّصَافَهُ بِالتَّبْرِئَةِ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَاللَّجَأِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَتَى تَذَكَّرَ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ انْتَهَى .
وَهُوَ عَجِيبٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ فِي الصَّحَابِيِّ لَا فِي مُطْلَقِ النَّاسِ ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بَعْدَ

ذَلِكَ وَغَرْثُهُمْ وَرُوِيَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النُّسَخِ : ( أَحَدُهَا ) غَرَثُهُمْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ شُيُوخِنَا وَمَعْنَاهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَالْجُوعِ ، وَالْغَرَثُ الْجُوعُ .
( وَالثَّانِي ) عَجَزَتُهُمْ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَجِيمٍ وَزَايٍ وَتَاءٍ جَمْعُ عَاجِزٍ .
( وَالثَّالِثُ ) غِرَّتُهُمْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَرَاءٍ مُشَدَّدَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا أَيْ الْبُلْهُ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فَنَكٌ وَحِذْقٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَهُوَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ { ، أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ } .
قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ سَوَادُ النَّاسِ وَعَامَّتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ لَا يَفْطِنُونَ لِلشُّبَهِ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الْفِتْنَةُ أَوْ تُدْخِلُهُمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَهُمْ ثَابِتُو الْإِيمَانِ صَحِيحُو الْعَقَائِدِ ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
وَأَمَّا الْعَارِفُونَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالصَّالِحُونَ الْمُتَعَبِّدُونَ فَهُمْ قَلِيلُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى انْتَهَى .
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَسَقَطُهُمْ ، وَعَجَزُهُمْ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ جَمْعُ عَاجِزٍ وَمَعْنَاهُ الْعَاجِزُونَ عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا وَالتَّمَكُّنِ فِيهَا وَالثَّرْوَةِ وَالشَّوْكَةِ كَذَا ضَبَطَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِالتَّاءِ كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ وَحَاسِبٍ وَحَسَبَةٍ وَسُقُوطُ التَّاءِ فِي مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ نَادِرٌ ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُونَهَا إذَا سَلَكُوا بِالْجَمْعِ مَسْلَكَ اسْمِ الْجِنْسِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي سَقَطِهِمْ .
وَصَوَابُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ عَجَّزَهُمْ بِضَمِّ الْعَيْنِ

وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ كَنَحْوِ شَاهِدٍ وَشُهَّدٍ ، وَكَذَلِكَ أَذْكُرُ أَنِّي قَرَأْته .

وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ { سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ { قُلْت لِعَائِشَةَ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ؟ قَالَتْ : كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ } وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ { كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ يُفَلِّي ثَوْبَهُ وَيَحْلِبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ } .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ { سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا { كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ { سُئِلَتْ عَائِشَةُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ } وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ { قِيلَ لِعَائِشَةَ مَاذَا ؟ كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ : كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ يُفَلِّي ثَوْبَهُ وَيَحْلِبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( يَخْصِفُ نَعْلَهٌ ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَخْرُزُهَا طَاقَةً عَلَى الْأُخْرَى مِنْ الْخَصْفِ وَهُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ .

( الثَّالِثَةُ ) ( الْمَهْنَةُ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَحَكَى فِيهِ أَبُو زَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا كَسْرَ الْمِيمِ أَيْضًا ، وَأَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَكَانَ الْقِيَاسُ لَوْ قِيلَ مِثْلُ جِلْسَةٍ وَخِدْمَةٍ إلَّا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى فَعْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَدْ تُكْسَرُ .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : وَهُوَ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ خَطَأٌ وَحَكَى فِي الْمَشَارِقِ عَنْ شَمِرٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ الْفَتْحَ وَصَحَّحَ الْكَسْرَ ، وَحَكَى فِي الْمُحْكَمِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَزَادَ فِيهِ لُغَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ( إحْدَاهُمَا ) الْمَهَنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ .
( وَالثَّانِيَةُ ) الْمَهِنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْهَاءِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا الْخِدْمَةُ وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبَا الصِّحَاحِ وَالنِّهَايَةِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ { فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ } يَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ أَيْ عَمَلِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ هِيَ الْحَذْقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْعَمَلِ .

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ بَيَانُ تَوَاضُعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمِهْنَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مُفَسَّرَةٌ بِمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنْ خَصْفِ نَعْلِهِ وَخِيَاطَةِ ثَوْبِهِ ، وَبِمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ { مِنْ فَلِّ ثَوْبِهِ وَحَلْبِ شَاتِهِ وَخِدْمَةِ نَفْسِهِ } أَمَّا خِدْمَةُ أَهْلِهِ فِي الْحَاجَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِنَّ فَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي الْحَدِيثِ فِيمَا يَظْهَرُ وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ وَالْمُوَافَقَةُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رَجَّحَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الزَّوْجَةِ الَّتِي يَجِبُ إخْدَامُهَا أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ أَنَا أَخْدُمُهَا لِتَسْقُطَ مُؤْنَةُ الْخَادِمِ عَنِّي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْهُ وَتُعَيَّرُ بِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَهُ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَقَالَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا يُسْتَحَى مِنْهُ كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَالطَّبْخِ دُونَ مَا يَرْجِعُ إلَى خِدْمَتِهَا كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِهَا وَحَمْلِهِ إلَى الْمُسْتَحَمِّ انْتَهَى .
فَإِذَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي الْآحَادِ فَكَيْفَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الشَّمَائِلِ لِأَبِي الْحَسَنِ الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مُتَوَاضِعٌ فِي غَيْرِ مَذَلَّةٍ } قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَفِيهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالْعُلَمَاءَ يَتَنَاوَلُونَ خِدْمَةَ أُمُورِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الصَّالِحِينَ .
( الْخَامِسَةُ ) بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَخَرَجَ } قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَزَاحَ عَنْ نَفْسِهِ هَيْئَةَ مِهْنَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُشَمِّرًا ، وَكَيْفَ كَانَ مِنْ حَالَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ

لَهُ التَّشْمِيرُ وَكَفُّ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ إذَا كَانَ يَقْصِدُ ذَلِكَ لِلصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى هَيْئَةِ جُلُوسِهِ وَبِذْلَتِهِ ( قُلْت ) لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ بِهَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ عَنْ عَمَلِهِ وَيُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ الْأُمُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الطِّبُّ وَالرُّقَى ) عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَهِيَ الشُّونِيزُ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ { مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ } .

( الطِّبُّ وَالرُّقَى ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ بُرَيْدَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَهِيَ الشُّونِيزُ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) لَمْ يُخَرِّجْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَزْوِهِ لِرِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَلَى إخْرَاجِ هَذَا الْمَتْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّامُ الْمَوْتُ إلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَحْدَهُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ وَحْدَهُ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ هِيَ الشُّونِيزُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ الْأَشْهَرُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ عَنْ الْحَسَنُ أَنَّهَا الْخَرْدَلُ وَحَكَى الْهَرَوِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ قَالَ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَخْضَرَ أَسْوَدَ وَالْأَسْوَدَ أَخْضَرَ ، وَالْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ ثَمَرَةُ الْبُطْمِ أَيْ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ : وَهُوَ شَجَرُ الضِّرْوُ ( قُلْت ) هُوَ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ وَاوٌ ، وَقَالَ فِي

الصِّحَاحِ : هُوَ صَمْغُ شَجَرَةٍ تُدْعَى الْكِمْكَامُ تُجْلَبُ مِنْ الْيَمَنِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهَا إنَّهَا الشُّونِيزُ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ .
( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّهُ أَكْثَرُ مَنَافِعَ مِنْ الْخَرْدَلِ ، وَحَبُّ الضِّرْوِ مُتَعَيَّنٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ إذْ مَقْصُودُهُ الْإِخْبَارُ بِأَكْثَرِيَّةِ فَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) ( الشُّونِيزُ ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَآخِرُهُ زَايٌ مُعْجَمَةٌ كَذَا ضَبَطْنَاهُ وَرَوَيْنَاهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : قَيَّدَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِفَتْحِ الشِّينِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِالضَّمِّ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ هُوَ الشَّيْنِيزُ أَيْ بِيَاءٍ بَعْدَ الشِّينِ بَدَلَ الْوَاوِ ، وَقَالَ كَذَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ .
قَالَ الْقَاضِي وَرَأَيْت غَيْرَهُ قَالَهُ الشُّونِيزُ ( قُلْت ) هِيَ كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ وَشَأْنُ الْعَرَبِ عِنْدَ النُّطْقِ بِمِثْلِهَا التَّلَاعُبُ بِهَا وَإِيرَادُهَا كَيْفَ اتَّفَقَ .

( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ ، وَأَنَّ فِيهَا شِفَاءً قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ فِي مَنْفَعَةِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي هِيَ الشُّونِيزُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَخَوَاصَّ عَجِيبَةً يُصَدِّقُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا فَذَكَرَ جَالِينُوسُ أَنَّهَا تَحُلُّ النَّفْخَ وَتَقْتُلُ دِيدَانَ الْبَطْنِ إذَا أُكِلَتْ أَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْبَطْنِ وَتَنْفِي الزُّكَامَ إذَا قُلِيَتْ وَصُرَّتْ فِي خِرْقَةٍ وَشُمَّتْ وَتُزِيلُ الْعِلَّةَ الَّتِي يَنْقَشِرُ مِنْهَا الْجِلْدُ ، وَتَقْلَعُ الثآليل الْمُتَعَلِّقَةَ وَالْمُنَكَّسَةَ وَالْحَبْلَانَ وَتُدِرُّ الطَّمْسَ الْمُنْحَبِسَ إذَا كَانَ انْحِبَاسُهُ مِنْ أَخْلَاطٍ غَلِيظَةٍ لَزِجَةٍ وَتَنْفَعُ الصُّدَاعَ إذَا طُلِيَ بِهَا الْجَبِينُ وَتَقْلَعُ الْبُثُورَ وَالْجَرَبَ ، وَتُحَلِّلُ الْأَوْرَامَ الْبَلْغَمِيَّةَ إذَا تُضَمَّدَ بِهَا مَعَ الْخَلِّ ، وَتَنْفَعُ مِنْ الْمَاءِ الْعَارِضِ فِي الْعَيْنِ إذَا اسْتَعَطَ بِهَا مَسْحُوقَهُ بِدُهْنٍ إلَّا بِرِشَاءٍ ، وَتَنْفَعُ مِنْ إيضَابِ النَّفَسِ ، وَيُتَمَضْمَضُ بِهَا مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ ، وَتُدِرُّ الْبَوْلَ وَاللَّبَنَ وَتَنْفَعُ مِنْ نَهْشَةِ الرُّوتِيلَا وَإِذَا بُخِّرَ بِهَا طَرَدَتْ الْهَوَامَّ .
قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ غَيْرُ جَالِينُوسَ خَاصِّيَّتُهَا إذْهَابُ حُمَّى الْبَلْغَمِ وَالسَّوْدَاءِ ، وَتَقْتُلُ حَبَّ الْقَرَعِ وَإِذَا عُلِّقَتْ فِي عُنُقِ الْمَزْكُومِ نَفَعَتْهُ وَتَنْفَعُ مِنْ حُمَّى الرِّبْعِ ( الْخَامِسَةُ ) أَطْلَقَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّ فِيهَا شِفَاءً وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ هَذَا مِنْ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ إذْ لَيْسَ يَجْتَمِعُ فِي طَبْعِ شَيْءٍ مِنْ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ جَمِيعُ الْقُوَى الَّتِي تُقَابِلُ الطَّبَائِعَ كُلَّهَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَدْوَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَبَايُنِ طَبَائِعِهَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ يَحْدُثُ مِنْ

الرُّطُوبَةِ أَوْ الْبَلْغَمِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَارٌّ يَابِسٌ فَهُوَ شِفَاءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى لِلدَّاءِ الْمُقَابِلِ لَهُ فِي الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّوَاءَ أَبَدًا بِالْمُضَادِّ وَالْغِذَاءَ بِالْمُشَاكِلِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : الْعَسَلُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ إلَى أَنْ يَكُونَ دَوَاءً لِكُلِّ دَاءٍ أَقْرَبُ مِنْ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ الْأَمْرَاضِ مَا إذَا شَرِبَ صَاحِبُهُ الْعَسَلَ خَلَقَ اللَّهُ الْأَلَمَ بَعْدَهُ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْعَسَلِ { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } إنَّمَا هُوَ فِي الْأَغْلَبِ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلَلِ الْبَارِدَةِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي الْقِسْطِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَصِفُ بِحَسَبِ مَا شَاهَدَهُ مِنْ غَالِبِ حَالِ الصَّحَابَةِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يُخَالِطُهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ نَقَلَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُبْعِدُ مَنْفَعَةَ الْحَارِّ مِنْ أَدْوَاءٍ حَارَّةٍ لِخَوَاصَّ فِيهَا فَقَدْ نَجِدُ ذَلِكَ فِي أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَكُونُ الشُّونِيزُ مِنْهَا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ ، وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ أَحْيَانًا مُنْفَرِدًا وَأَحْيَانًا مُرَكَّبًا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْآخَرِ تُحْمَلُ كُلِّيَّةُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهَا ، وَإِحَاطَتِهَا وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ الْأَدْوَاءِ شَيْءٌ إلَّا الدَّاءُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ذَلِكَ الْعُمُومُ مَحْمُولًا عَلَى الْأَكْثَرِ وَالْأَغْلَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّدَاوِي وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلَفِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التَّدَاوِيَ مِنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ ، وَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّدَاوِي وَحُجَّةُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ أَبْرَأَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ { قَالَتْ الْأَعْرَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى ؟ قَالَ نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إلَّا دَاءً وَاحِدًا وَهُوَ الْهَرَمُ } قَالُوا وَيَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ ، وَأَنَّ التَّدَاوِيَ أَيْضًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا كَالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَكَالْأَمْرِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ وَبِالتَّحْصِينِ وَمُجَانَبَةِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَتَغَيَّرُ وَالْمَقَادِيرَ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ أَوْقَاتِهَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الْمُقَدَّرَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) ( قَوْلُهُ ) إلَّا السَّامَ يَقْتَضِي أَنَّ السَّامَ وَهُوَ الْمَوْتُ دَاءٌ ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَيْسَ دَاءً ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدَمٌ وَفَنَاءٌ فَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ سَمَّاهُ دَاءً عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنْ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ دَاءٌ يُضْعِفُ وَالْمَوْتُ يُعْدِمُ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنَّ السَّامَ لَا دَوَاءَ لَهُ كَمَا قَالَ وَدَاءُ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُنْقَطِعِ مَجَازٌ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيمَا قَبْلَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْمَرَضِ الَّذِي عِنْدَ الْمَوْتِ وَفَرَاغِ الْأَجَلِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الدَّوَاءُ .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ } زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَوْ قَالَ بِمَاءِ زَمْزَمَ } شَكَّ هَمَّامٌ .
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ { اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ } ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ { فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلَاهُمَا بِلَفْظِ { إنَّ شِدَّةَ الْحُمَّى } وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ شِدَّةُ حَرِّهَا وَلَهَبِهَا وَانْتِشَارِهَا ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ } وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنَّا الرِّجْزَ ) وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَجَازٌ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ بِحَرِّ جَهَنَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .

( الثَّالِثَةُ ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إثْبَاتُ ذَلِكَ لِلْحُمَّى وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { إنَّ شِدَّةَ الْحُمَّى } فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْحُمَّى فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شِدَّةُ الْحُمَّى لَا مُطْلَقُ الْحُمَّى ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَفَاوُتٌ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ الشِّدَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ الْحُمَّى هِيَ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ وَهَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ لِلْحُمَّى إذْ لَا تَخْلُو عَنْ شِدَّةٍ وَإِنْ قَلَّتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { : فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ } هُوَ بِهَمْزَةٍ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { فَابْرُدُوهَا } فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِضَمِّ الرَّاءِ يُقَالُ بَرَدْت الْحُمَّى اُبْرُدْهَا بَرْدًا عَلَى وَزْنِ قَتَلْتهَا اُقْتُلْهَا قَتْلًا أَيْ أَسْكَنْت حَرَارَتَهَا وَأَطْفَأْت لَهَبَهَا ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ وَكُتُبِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا ، وَحَكَى صَاحِبُ الْمَشَارِقِ أَنَّهُ يُقَالُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي لُغَةٍ وَقَدْ حَكَاهَا الْجَوْهَرِيُّ وَقَالَ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ مُدَاوَاةُ الْحُمَّى بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَنَّهُ اعْتَرَضَ ذَلِكَ وَقَالَ : الْأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَحْمُومِ الْمَاءَ الْبَارِدَ مُخَاطَرَةٌ وَقَرِيبٌ مِنْ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَسَامَّ وَيَحْقِنُ الْبُخَارَ الْمُتَحَلِّلَ ، وَيَعْكِسُ الْحَرَارَةَ إلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ ؛ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَنَقُولُ فِي إبْطَالِ اعْتِرَاضِهِ إنَّ عِلْمَ الطِّبِّ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلُومِ احْتِيَاجًا إلَى التَّفْصِيلِ حَتَّى أَنَّ الْمَرِيضَ يَكُونُ الشَّيْءُ دَوَاءَهُ فِي سَاعَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ دَاءً لَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِعَارِضٍ يَعْرِضُ مِنْ غَضَبٍ يُحْمِي مِزَاجَهُ فَيَتَغَيَّرُ عِلَاجُهُ ، أَوْ هَوَاءٍ يَتَغَيَّرُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُحْصَى كَثْرَتُهُ ، فَإِذَا وُجِدَ الشِّفَاءُ بِشَيْءٍ فِي حَالَةٍ مَا لِشَخْصٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ الشِّفَاءُ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ ، وَجَمِيعُ الْأَشْخَاصِ وَالْأَطِبَّاءِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ الْوَاحِدَ يَخْتَلِفُ عِلَاجُهُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ وَالزَّمَانِ وَالْعَادَةِ وَالْغِذَاءِ الْمُتَقَدِّمِ وَالتَّأْثِيرِ الْمَأْلُوفِ وَقُوَّةِ الطِّبَاعِ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَنَقُولُ : إنَّ الْمُعْتَرِضَ تَقَوَّلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ اُبْرُدُوهَا بِالْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ صِفَتَهُ وَحَالَتَهُ وَالْأَطِبَّاءُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةَ يُدَبَّرُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ ، وَيَسْقُونَهُ الثَّلْجَ وَيَغْسِلُونَ أَطْرَافَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْحُمَّى ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هُنَا فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِي الْمَرْأَةَ الْمَوْعُوكَةَ فَتَصُبُّ الْمَاءَ فِي جَيْبِهَا وَتَقُولُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبْرِدُوهَا

بِالْمَاءِ } فَهَذِهِ أَسْمَاءُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ ، وَقُرْبُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ تَأَوَّلَتْ الْحَدِيثَ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُلْحِدِ الْمُعْتَرِضِ إلَّا اخْتِرَاعُهُ الْكَذِبَ وَاعْتِرَاضُهُ بِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ انْتَهَى .
وَأَخَذَ كَلَامَهُ هَذَا مِنْ الْخَطَّابِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا ، فَقَالَ غَلِطَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فَاحْتَقَنَتْ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ فَأَصَابَتْهُ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ كَادَ أَنْ يَهْلِكَ مِنْهَا ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا فَاحِشًا لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ ، وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ وَتَبْرِيدِ الْحُمَّيَاتِ الصَّفْرَاوِيَّةِ أَنْ يَسْقِيَ الْمَاءَ الصَّادِقَ الْبَرْدَ ، وَيُوضَعُ أَطْرَافُ الْمَحْمُومِ فِيهِ وَأَنْفَعُ الْعِلَاجِ وَأَسْرَعُهُ إلَى إطْفَاءِ نَارِهَا وَكَسْرِ لَهِيبِهَا فَإِنَّمَا أَمْرُنَا بِإِطْفَاءِ الْحُمَّى وَتَبْرِيدِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دُونَ الِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ وَغَطِّ الرَّأْسِ فِيهِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَسْمَاءَ الْمُتَقَدِّمَ ، وَقَالَ الْقَاضِي بَعْدَ ذِكْرِهِ حَدِيثَ أَسْمَاءَ هَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الْأَطِبَّاءِ وَيُصَحِّحُ حُصُولَ الْبُرْءِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَحْمُومِ الْمَاءَ ، وَأَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمَازِرِيِّ قَالَ : وَلَوْلَا تَجْرِبَةُ أَسْمَاءَ وَالْمُسْلِمِينَ لِمَنْفَعَتِهِ مَا اسْتَعْمَلُوهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحُمَّيَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ خَلْطِ بَارِدٍ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَنْ حَارٍّ وَفِيهِ يَنْفَعُ الْمَاءُ وَهِيَ حُمَّيَاتُ الْحِجَازِ وَعَلَيْهَا خُرِّجَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ حَتَّى قَالَ { صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحَلَّلْ أَوْكِيَتُهُنَّ } فَتَبَرَّدَ وَخَفَّ حَالُهُ ، وَذَلِكَ فِي أَطْرَافِ الْبَدَنِ وَهُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ

أَنْ يُرَشَّ بَعْضُ جَسَدِ الْمَحْمُومِ أَوْ يُفْعَلَ بِهِ كَمَا كَانَتْ أَسْمَاءُ تَفْعَلُ ، فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مَاءً يَسِيرًا تَرُشُّ بِهِ فِي جَيْبِ الْمَحْمُومِ أَوْ يُنْضَحُ بِهِ وَجْهُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ ، وَيُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النُّشْرَةِ الْجَائِزَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الطِّبِّ فَقَدْ يَنْفَعُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْحُمَّيَاتِ فَإِنَّ الْأَطِبَّاءَ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةَ يُدَبَّرُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ حَتَّى يُسْقَى الثَّلْجَ ، وَتُغْسَلُ أَطْرَافُهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالْحَدِيثِ ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ جَسَدِ الْمَحْمُومِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ اسْتِعْمَالَهُ بَعْدَ أَنْ تُقْلَعَ الْحُمَّى وَتَسْكُنَ حَرَارَتُهَا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَبِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخَوَاصِّ الَّتِي قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدْ رَوَى قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ { أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُمَّى فَقَالَ لَهُ اغْتَسِلْ ثَلَاثًا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ اذْهَبِي يَا أُمَّ مِلْدَمٍ فَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ فَاغْتَسِلْ سَبْعًا } ( قُلْت ) وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا عَلَى قَرْنِهِ فَاغْتَسَلَ } فِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا حُمَّ أَحَدُكُمْ فَلْيَسُنَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي السَّحَرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ جَهَالَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {

إنَّ الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَبَرِّدُوا لَهَا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ وَصُبُّوهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَأَذَانِ الْعِشَاءِ فَفَعَلُوا فَذَهَبَتْ عَنْهُمْ } .
وَذَكَرَ حَدِيثًا وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدٍ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ حَدَّثَنَا ثَوْبَانُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ الْحُمَّى فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي مَاءٍ جَارٍ ، وَلْيَسْتَقْبِلْ جِرْيَتَهُ فَيَقُولُ بِاسْمِ اللَّهِ اشْفِ عَبْدَك وَصَدِّقْ رَسُولَك بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلْيَنْغَمِسْ فِيهِ ثَلَاثَ غَمَسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي ثَلَاثٍ فَخَمْسٌ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٌ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٌ فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ( قُلْت ) وَسَعِيدٌ هَذَا هُوَ ابْنُ زُرْعَةَ الشَّامِيُّ الْحِمْصِيُّ الْجَزَّارُ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مَجْهُولٌ لَكِنْ رَوَى عَنْهُ مَرْزُوقٌ الشَّامِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ هَمَّامٍ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَسَمِعْت وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ يَحْكِي أَنَّهُ فِي شَبَابِهِ أَصَابَتْهُ حُمَّى ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى النِّيلِ فَاسْتَقْبَلَ جِرْيَةَ الْمَاءِ وَانْغَمَسَ فِيهِ فَأَقْلَعَتْ عَنْهُ الْحُمَّى ، وَلَمْ تَعُدْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تُوُفِّيَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِي مِنْ الْعُمْرِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَلَمْ أُفَارِقْهُ إلَّا مُدَّةَ إقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ وَمُدَّةَ رِحْلَتِي إلَى الشَّامِ وَهِيَ دُونَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ أَرَهُ حُمَّ قَطُّ حَتَّى وَلَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إنَّمَا كَانَ يَشْكُو انْحِطَاطَ قُوَاهُ ، وَكَانَ قَدْ جَاوَزَ إحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً وَذَلِكَ لِحُسْنِ مَقْصِدِهِ وَامْتِثَالِهِ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِدٍّ وَتَصْدِيقٍ

وَحُسْنِ نِيَّةٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرِضًى عَنْهُ .
( السَّادِسَةُ ) رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ كُنْت أُجَالِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ وَأَخَذَتْنِي الْحُمَّةُ ، فَقَالَ اُبْرُدْهَا عَنْك بِمَاءِ زَمْزَمَ { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّهَا مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ } شَكَّ هَمَّامٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ رَوَى مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَأَبْرِدُوهَا بِمَاءِ زَمْزَمَ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاءِ زَمْزَمَ { إنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ } .
( السَّابِعَةُ ) حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ { فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ } أَيْ تَصَدَّقُوا بِالْمَاءِ عَنْ الْمَرِيضِ يَشْفِهِ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ { إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ سَقْيُ الْمَاءِ } انْتَهَى .
وَهُوَ شُذُوذٌ وَمُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِصَرِيحِ بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ ، وَلِمَا فَهِمَتْهُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ أَسْمَاءُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ وَرَاوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ عُرْوَةَ أَوْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ { صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحَلَّلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَسْتَرِيحُ فَأَعْهَدَ إلَى النَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ مِنْ نُحَاسٍ وَسَكَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ فِي الْكُبْرَى مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فَقَالَ { صُبُّوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ عُرْوَةَ أَوْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ صُبُّوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحَلَّلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لِعَلِيٍّ أَسْتَرِيحُ فَأَعْهَدَ إلَى النَّاسِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ مِنْ نُحَاسٍ وَسَكَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ فِي الْكُبْرَى مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ " .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ الْجَزْمَ بِهِ ، فَإِنَّ مَنْ ضَبَطَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَضْبِطْ ، وَيُفْهَمُ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَذَكَرَهُ وَالْمَتْنُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَفِي بَعْضِهَا بَعْدَ قَوْلِهِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ إنَّمَا أَمَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُهْرَاقَ عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي كَمَا صَبَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَكَمَا أَمَرَ الْمُعَيَّنَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ مَنْ غَلِطَ ، فَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ مِنْ إغْمَائِهِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَصْرٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْغُسْلُ .
وَقَالَ

ابْنُ حَبِيبٍ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إذَا طَالَ ذَلِكَ بِهِ ، وَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَجْنُبَ انْتَهَى .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَ الِاغْتِسَالُ ، وَلَكِنْ إذًا الِاغْتِسَالُ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ إغْمَاءً ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ بِهِ النَّشَاطَ وَالْقُوَّةَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { لَعَلِّي أَسْتَرِيحُ } .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ خَصَّ السَّبْعَ مِنْ الْعَدَدِ تَبَرُّكًا ؛ لِأَنَّ لَهُ شَأْنًا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْدَادِ فِي مُعْظَمِ الْخَلِيقَةِ وَبَعْضِ أُمُورِ الشَّرِيعَةِ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ قَصْدُهُ إلَى سَبْعِ قِرَبٍ تَبَرُّكًا بِهَذَا الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كَثِيرًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ سَبْعًا سَبْعًا .
( قُلْت ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِذَلِكَ مَدْخَلًا فِي الطِّبِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ } وَمِنْهُ تَكْرِيرُ عَائِدِ الْمَرِيضِ الدُّعَاءَ لَهُ بِالشِّفَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ { فَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ فَاغْتَسِلْ سَبْعًا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ أَنْ لَا تَكُونَ حُلَّتْ أَوْكِيَتُهُنَّ لِطَهَارَةِ الْمَاءِ ، وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَيْدِي خَالَطَتْهُ وَمَرَسَتْهُ ، وَأَوَّلُ الْمَاءِ أَطْهَرُهُ وَأَصْفَاهُ ( قُلْت ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَكْثِيرَ الْمَاءِ ، وَأَنْ تَكُونَ الْقِرَبُ السَّبْعُ مَلْأَى لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُنَّ شَيْءٌ وَلَمْ يَنْقُصْنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) الْأَوْكِيَةُ جَمْعُ وِكَاءٍ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهُوَ مَا يُرْبَطُ بِهِ رَأْسُ السِّقَاءِ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ { فَأَعْهَدَ إلَى النَّاسِ } أَيْ أُوصِيهِمْ وَمِنْ مَعَانِي الْعَهْدِ الْوَصِيَّةُ وَيَجُوزُ فِي هَذَا الْفِعْلِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ كَمَا قُرِئَ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعُ } قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ يَجُوزُ النَّصْبُ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ التَّرَجِّي كَجَوَابِ التَّمَنِّي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَا لَيْتَنِي كُنْت مَعَهُمْ فَأَفُوزَ } .

( السَّابِعَةُ ) ( الْمِخْضَبُ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ : الرَّكْوَةُ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْمُحْكَمِ : شَبَهُ الرَّكْوَةِ وَهِيَ الْأَجَانَةُ الَّتِي يُغْسَلُ فِيهَا الثِّيَابُ وَيُقَالُ لَهَا الْقَصْرِيَّةُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ شَبَهُ الْأَجَانَةِ يُغْسَلُ فِيهَا الثِّيَابُ .
( الثَّامِنَةُ ) الْمِخْضَبُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حِجَارَةٍ وَمِنْ صُفْرٍ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ جِنْسِهِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مِنْ نُحَاسٍ فَفِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ آنِيَةِ النُّحَاسِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي طَسْتٍ ، وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُهُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَأَيْت عُثْمَانَ يَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ إبْرِيقٍ ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ قَالَ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا كَرِهَ النُّحَاسَ وَالرَّصَاصَ وَشَبَهَهُ إلَّا ابْنَ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ فِي الصُّفْرِ ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ فِي حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ أَدَمٍ .
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ " نُهِيتُ أَنْ أَتَوَضَّأَ بِالنُّحَاسِ " وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ذَكَرْت لِعَطَاءٍ كَرَاهِيَةَ ابْنِ عُمَرَ لِلصُّفْرِ فَقَالَ إنَّا نَتَوَضَّأُ بِالنُّحَاسِ وَمَا نَكْرَهُ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا رَائِحَتَهُ فَقَطْ .
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَقَدْ وَجَدْت عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِيهِ ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَمَا عَلَيْهِ النَّاسُ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَرَاهَةُ ابْنِ عُمَرَ لِلنُّحَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمَّا كَانَ جَوْهَرًا مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعَادِنِ الْأَرْضِ شُبِّهَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَرِهَهُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا الْوُضُوءَ فِي آنِيَةِ

الْفِضَّةِ وَهُمْ يَكْرَهُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِيهَا انْتَهَى .

( التَّاسِعَةُ ) وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الرَّجُلِ مَتَاعَ امْرَأَتِهِ بِرِضَاهَا وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ .

( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ { طَفِقَ يُشِيرُ إلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ } أَيْ كَرَّرَ ذَلِكَ وَوَاصَلَهُ ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا إذَا وَاصَلَ الْفِعْلَ انْتَهَى .
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ فَلَا حَاجَةَ لِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ فِي مُسْنَدِهِ { مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى } أَيْ مُتَفَرِّقَةٍ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ تَفَرُّقُهَا خَاصَّةً فَعَلَى الْأُولَى فِي تِلْكَ الْآبَارِ الْمُعَيَّنَةِ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا وَعَلَى الثَّانِي الْخُصُوصِيَّةُ فِي تَفَرُّقِهَا ، الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ إنَّ الْآبَارَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا وَيَغْتَسِلُ وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا سَبْعَةٌ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْإِحْيَاءِ وَهِيَ بِئْرُ رَيْسٍ وَبِئْرُ حَاءٍ وَبِئْرُ رُومَةَ وَبِئْرُ غَرْسٍ وَبِئْرُ بُضَاعَةَ وَبِئْرُ الْبَصَّةِ وَبِئْرُ السُّقْيَا أَوْ بِئْرُ جَمَلٍ ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ وَذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فَجَزَمَ بِالسِّتَّةِ الْأُولَى مِنْهَا ، وَتَرَدَّدَ فِي السَّابِعَةِ هَلْ هِيَ بِئْرُ السُّقْيَا أَوْ بِئْرُ جَمَلٍ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَنَا مِتُّ فَاغْسِلُونِي بِسَبْعِ قِرَبٍ مِنْ بِئْرِي بِئْرِ غَرْسٍ } .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ } .

( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْت أَنَا أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا ، فَسَأَلْت ابْنَ شِهَابٍ كَيْفَ كَانَ يَنْفِثُ قَالَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ } وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَمُسْلِمٍ وَحْدَهُ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنْ يَرْقِيَ الْمَرِيضُ نَفْسَهُ بِالْمُعَوِّذَاتِ لِبَرَكَتِهَا وَحُصُولِ الشِّفَاءِ بِهَا ( فَإِنْ قُلْت ) : كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ { لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } فَإِنَّ ظَاهِرَهُ مُنَافَاةُ ذَلِكَ لِلتَّوَكُّلِ وَالْأَكْمَلِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ حَالًا وَأَعْظَمُهُمْ تَوَكُّلًا ، وَلَمْ يَزَلْ حَالُهُ فِي ازْدِيَادٍ إلَى أَنْ قُبِضَ وَقَدْ رَقَى نَفْسَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ؟ ( قُلْت ) : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الرُّقَى الَّتِي وَرَدَ الْمَدْحُ فِي تَرْكِهَا هِيَ الَّتِي مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَالرُّقَى الْمَجْهُولَةُ وَاَلَّتِي بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ فَهَذِهِ مَذْمُومَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا كُفْرًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ مَكْرُوهًا .
وَأَمَّا الرُّقَى الَّتِي بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَبِالْأَذْكَارِ الْمَعْرُوفَةِ فَلَا نَهْيَ فِيهَا بَلْ هِيَ سُنَّةٌ .
( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ الْمَدْحَ

فِي تَرْكِ الرُّقَى لِلْأَفْضَلِيَّةِ وَبَيَانِ التَّوَكُّلِ وَمَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الرُّقَى أَوْ أَذِنَ فِيهِ فَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَعَ أَنَّ تَرْكَهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّنَا ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَحَكَاهُ عَنْ طَائِفَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ قَالَ وَقَدْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى بِالْآيَاتِ وَأَذْكَارِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْمَازِرِيُّ جَمِيعُ الرُّقَى جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِذِكْرِهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا إذَا كَانَتْ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِمَا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شِرْكٌ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك نَهَيْت عَنْ الرُّقَى } فَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهُمَا ) كَانَ نَهَى أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأَذِنَ فِيهَا وَفَعَلَهَا وَاسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَى الْإِذْنِ وَ ( الثَّانِي ) أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الرُّقَى الْمَجْهُولَةِ كَمَا سَبَقَ ( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ النَّهْيَ لِقَوْمٍ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مَنْفَعَتَهَا وَتَأْثِيرَهَا بِطَبْعِهَا كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ .

( الثَّالِثَةُ ) ( الْمُعَوِّذَاتُ ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَيَعْنِي بِهَا { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } وَنَحْوَ قَوْله تَعَالَى { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِك رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } ( قُلْت ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُعَوِّذَتَانِ مَعَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَأَطْلَقَهَا عَلَيْهَا اسْمَهُمَا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقِلِّ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ } قَالَ يُونُسُ كُنْت أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إذَا آوَى إلَى فِرَاشِهِ ، وَالْحَدِيثُ وَاحِدٌ وَطُرُقُهُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُعَوِّذَاتِ سُورَتَا الْفَلَقِ وَالنَّاسِ خَاصَّةً ، وَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى تَعَاوِيذَ مُتَعَدِّدَةٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَخْصِيصُهُ بِالْمُعَوِّذَاتِ لِشُمُولِهَا الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ أَكْثَرِ الْمَكْرُوهَاتِ مِنْ شَرِّ السَّوَاحِرِ النَّفَّاثَاتِ وَمِنْ شَرِّ الْحَاسِدِينَ وَوَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَشَرِّ شِرَارِ النَّاسِ وَشَرِّ كُلِّ مَا خَلَقَ وَشَرِّ كُلِّ مَا جَمَعَهُ اللَّيْلُ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالطَّوَارِقِ انْتَهَى .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( يَنْفِثُ ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَالنَّفْثُ نَفْخٌ لَطِيفٌ بِلَا رِيقٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ وَاسْتَحَبَّهُ الْجُمْهُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ النَّفْثَ وَالتُّفْلَ فِي الرُّقَى وَأَجَازُوا فِيهِ النَّفْخَ بِلَا رِيقٍ ، قَالَ : وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَالْفَرْقُ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ إنَّ النَّفْثَ مَعَهُ رِيقٌ قَالَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي النَّفْثِ وَالتُّفْلِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَلَا يَكُونَانِ إلَّا بِرِيقٍ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يُشْتَرَطُ فِي التُّفْلِ رِيقٌ يَسِيرٌ وَلَا يَكُونُ فِي النَّفْثِ وَقِيلَ عَكْسُهُ قَالَ { وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ نَفْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّقْيَةِ فَقَالَتْ كَمَا يَنْفِثُ آكِلُ الزَّبِيبِ } قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَكْفِي الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيقِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ نَافِثَ الزَّبِيبِ لَا بُزَاقَ مَعَهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ مِنْ بَلِّهِ وَلَا يَقْصِدُ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الَّذِي رَقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَجَعَلَ يَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَائِدَةُ التُّفْلِ التَّبَرُّكُ بِتِلْكَ الرُّطُوبَةِ أَوْ الْهَوَاءِ أَوْ النَّفَسِ الْمُبَاشِرِ لِلرُّقْيَةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ وَالْكَلَامِ الطَّيِّبِ كَمَا يُتَبَرَّكُ بِغُسَالَةِ مَا يُكْتَبُ مِنْ الذِّكْرِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي النُّشُرِ ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاؤُلِ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْأَلَمِ عَنْ الْمَرِيضِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهُ كَانْفِصَالِ ذَلِكَ النَّفْثِ عَنْهُ فِي الرَّاقِي وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَنْفِثُ إذَا رَقَى نَفْسَهُ وَكَانَ يَكْرَهُ الرُّقْيَةَ بِالْحَدِيدَةِ وَالْمِلْحِ ، وَاَلَّذِي يُعْقَدُ وَاَلَّذِي يَكْتُبُ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ وَكَانَ الْعَقْدُ عِنْدَهُ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُشَابَهَةِ السَّحَرَةِ كَأَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى { النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } .

( السَّادِسَةُ ) إنْ قُلْت كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ { فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ } ( قُلْت ) كَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ وَفِعْلُهَا ذَلِكَ بَعْدَ اشْتِدَادِ الْمَرَضِ كَمَا بُيِّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابٌ فِي الْمَرْأَةِ تَرْقِي الرَّجُلَ .

( السَّابِعَةُ ) وَقَوْلُهَا { فِي الْمَرَضِ } الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ لَمْ تُرِدْ بِهِ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِحَالَةِ الْمَرَضِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ فِي الصِّحَّةِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ وَفِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلِهَا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذُكِرَ فِي أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ كُلِّهَا أَنَّ الرُّقْيَةَ إنَّمَا جَاءَتْ بَعْدَ الشَّكْوَى وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فَحَكَى الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ ثُمَّ حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ الْقَوْلَ بِهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ بِجَوَازِ الِاسْتِرْقَاءِ لِلصَّحِيحِ لِمَا يَخَافُ أَنْ يَغْشَاهُ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْهَوَامِّ وَدَلِيلُهُ أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا }

( الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ) وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ { وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ } وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا } وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ الْعَيْنُ حَقٌّ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { الْعَيْنُ حَقٌّ } أَيْ الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ حَقٌّ أَيْ ثَابِتٌ مَوْجُودٌ قَالَ الْمَازِرِيُّ أَخَذَ الْجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَأَنْكَرَهُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَيْسَ بِمُحَالٍ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى قَلْبِ حَقِيقَةٍ وَلَا إفْسَادِ دَلِيلٍ فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ ، فَإِذَا أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ فَلَا مَعْنَى لِتَكْذِيبِهِ .
وَهَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ بِهَذَا وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا يُخْبَرُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ؟ قَالَ : وَزَعَمَ بَعْضُ الطَّبَائِعِيِّينَ الْمُثْبِتِينَ لِلْعَيْنِ أَنَّ الْعَائِنَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِهِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْمُعَيَّنِ فَيَهْلِكُ أَوْ يَفْسُدُ ، قَالُوا : وَلَا يُسْتَنْكَرُ هَذَا كَمَا لَا يُسْتَنْكَرُ انْبِعَاثُ قُوَّةٍ سُمِّيَّةٍ مِنْ الْأَفْعَى وَالْعَقْرَبِ تَتَّصِلُ بِاللَّدِيغِ فَيَهْلِكُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ لَنَا فَكَذَلِكَ الْعَيْنُ قَالَ وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا فَاعِلَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَّا فَسَادَ الْقَوْلِ بِالطَّبَائِعِ

، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا يَفْعَلُ فِي غَيْرِهِ شَيْئًا ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَطَلَ مَا قَالُوهُ ثُمَّ نَقُولُ هَذَا الْمُنْبَعِثُ مِنْ الْعَيْنِ إمَّا جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ فَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ عَرَضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ وَأَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا ؛ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَجَانِسَةٌ فَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِبَعْضٍ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُفْسِدًا لَهُ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ وَأَقْرَبُ طَرِيقَةٍ سَلَكَهَا مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ مِنْهُمْ أَنْ قَالُوا : لَا يَبْعُدُ أَنْ تَنْبَعِثَ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ مِنْ الْعَائِنِ فَتَتَّصِلُ بِالْمُعَيَّنِ وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَّ جِسْمِهِ فَيَخْلُقُ الْبَارِئُ عَزَّ وَجَلَّ الْهَلَاكَ عِنْدَهَا كَمَا يَخْلُقُ الْهَلَاكَ عِنْدَ شُرْبِ السَّمُومِ عَادَةً أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَتْ ضَرُورَةً وَلَا طَبِيعَةً أَلْجَأَ الْعَقْلَ إلَيْهَا .
وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُعَيَّنَ إنَّمَا يَفْسُدُ وَيَهْلِكُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ بِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْلُقَ الضَّرَرَ عِنْدَ مُقَابَلَةِ هَذَا الشَّخْصِ لِشَخْصٍ آخَرَ ، وَهَلْ ثَمَّ جَوَاهِرُ خَفِيَّةٌ أَوَّلًا هَذَا مِنْ مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ لَا نَقْطَعُ فِيهَا بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَإِنَّمَا نَقْطَعُ بِنَفْيِ الْفِعْلِ عَنْهَا وَبِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ قَطَعَ مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِسْلَامِ بِانْبِعَاثِ الْجَوَاهِرِ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي قَطْعِهِ ، وَإِنَّمَا التَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ تَفْصِيلِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ وَالتَّجْوِيزِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ الْعَيْنُ حَقٌّ أَيْ الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ حَقٌّ ، وَأَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ وَالطَّبَائِعِ ، وَفِيهِ إبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ إلَّا مَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ وَالْمَشَاعِرُ الْخَمْسَةُ ، وَمَا عَدَاهَا فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ ( قُلْت ) وَيَجُوزُ فِي لَفْظِ التَّأْثِيرِ وَمُرَادُهُ بِهِ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ فِي النُّفُوسِ وَالطَّبَائِعِ

فَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَذْهَبِهِ وَعَقِيدَتِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ ذَهَبَتْ الْفَلَاسِفَةُ إلَى أَنَّ مَا يُصِيبُ الْمُعَيَّنَ مِنْ جِهَةِ الْعَائِنِ إنَّمَا هُوَ صَادِرٌ عَنْ تَأْثِيرِ النَّفْسِ بِقُوَّتِهَا فِيهِ فَأَوَّلُ مَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهَا ، ثُمَّ تَقْوَى فَتُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهَا وَقِيلَ إنَّمَا هُوَ سُمٌّ فِي عَيْنِ الْعَائِنِ يُصِيبُ لَفْحُهُ الْعَيْنَ عِنْدَ التَّحْدِيقِ إلَيْهِ كَمَا يُصِيبُ لَفْحُ سُمِّ الْأَفْعَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ ، وَهَذَا يَرُدُّهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ .
( الْأَوَّلُ ) مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ .
( الثَّانِي ) إبْطَالُ التَّوَلُّدِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ كَذَا كَذَا وَلَيْسَ يَتَوَلَّدُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ بَلْ الْمُوَلِّدُ وَالْمُتَوَلَّدُ عَنْهُ كُلُّ ذَلِكَ صَادِرٌ عَنْ الْقُدْرَةِ دُونَ وَاسِطَةٍ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَا يُصِيبُ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ وَلَا مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ ، وَلَوْ كَانَ بِرَسْمِ التَّوَلُّدِ لَكَانَتْ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً ، وَلَبَقِيَتْ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهَا قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ كَقُوَّةِ سُمِّ الْأَفْعَى فَإِنَّهَا طَائِفَةٌ جَهِلَتْهُ قَدْ وَقَعَتْ عَلَى عَمِيَةٍ لَا عَلَى عَقْلٍ حَصَلَتْ ، وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ دَخَلَتْ ، وَلَا بِالطِّبِّ قَالَتْ ، وَهَلْ سُمُّ الْأَفْعَى إلَّا جُزْءٌ مِنْهَا فَكُلُّهَا قَاتِلٌ وَالْعَائِنُ لَيْسَ شَيْءٌ يَقْتُلُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ إلَّا نَظَرُهُ ، وَهُوَ مَعْنًى خَارِجٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَالْحَقُّ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ إلَيْهِ وَإِعْجَابِهِ بِهِ إذَا شَاءَ مَا شَاءَ مِنْ أَلَمٍ أَوْ هَلَكَةٍ ، وَكَمَا لَا يَخْلُقُهُ بِإِعْجَابِهِ بِهِ وَبِقَوْلِهِ فِيهِ فَقَدْ يَخْلُقُهُ ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ دُونَ سَبَبٍ وَقَدْ يَصْرِفُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِالِاسْتِعَاذَةِ فَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِ أَبُو إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ }

وَقَدْ يَصْرِفُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِالِاغْتِسَالِ ، وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَسَنَحْكِيهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَهَبَ شُيُوخُ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْبَاطِنِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الْعَيْنُ حَقٌّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَدَرَ وَالْعَيْنَ الَّذِي يَجْرِي مِنْهُ الْأَحْكَامُ وَالْقَضَاءُ السَّابِقُ ، وَأَنَّ مَا أَصَابَ بِالْعَادَةِ مِنْ ضَرَرٍ عِنْدَ نَظَرِ النَّاظِرِ إنَّمَا هُوَ بِقَدَرِ اللَّهِ السَّابِقِ لَا بِشَيْءٍ يُحْدِثُهُ النَّاظِرُ فِي الْمَنْظُورِ .
إذْ لَا يُحْدِثُ الْمُحْدَثُ فِي غَيْرِهِ شَيْئًا لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ تَحْدِيدِ النَّظَرِ وَإِدَامَتِهِ لَا سِيَّمَا مَعَ جَرْيِ عَادَتِهِ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَمْتَثِلْ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ التَّبَرُّكِ وَالدُّعَاءِ كَانَ مَذْمُومًا مُؤَاخَذًا بِنَظَرِهِ انْتَهَى .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ بِالْأَنْفُسِ } قَالَ الْبَزَّارُ يَعْنِي بِالْعَيْنِ ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِ رِجَالِهِ ثِقَاتٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ الْعَيْنَ لَتُولِعُ الرَّجُلَ بِإِذْنِ اللَّهِ حَتَّى يَصْعَدَ حَالِقًا ثُمَّ يَتَرَدَّى مِنْهُ } .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { نِصْفُ مَا يُحْفَرُ لِأُمَّتِي مِنْ الْقُبُورِ مِنْ الْعَيْنِ } .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَيْنُ حَقٌّ وَيُحَضِّرُهَا الشَّيْطَانُ وَجَسَدُ ابْنِ آدَمَ } ( قُلْت ) وَيَخْطِرُ لِي أَنَّ الشَّيْءَ إذَا ارْتَفَعَ وَرَمَقَتْهُ الْأَعْيُنُ حَطَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ سَبَبَ ذَلِكَ بَعْضَ الْأَعْيُنِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تُسْبَقُ ، وَأَنَّ أَعْرَابِيًّا سَبَقَهَا عَلَى قَعُودٍ ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا وَضَعَهُ } .

( الثَّالِثَةُ ) قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ الْعَيْنُ حَقٌّ أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا بِإِصَابَةِ عَيْنِهِ ضَمِنَهُ وَإِذَا قَتَلَ قَتِيلًا ضَمِنَهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ لَوْ انْتَهَتْ إصَابَةُ الْعَائِنِ إلَى أَنْ يَعْرِفَ بِذَلِكَ وَيَعْلَمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مُعَظِّمًا لَهُ أَوْ مُتَعَجِّبًا مِنْهُ أُصِيبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً فَمَا أَتْلَفَهُ بِعَيْنِهِ غَرِمَهُ وَإِنْ قَتَلَ أَحَدًا بِعَيْنِهِ عَامِدًا لِقَتْلِهِ قُتِلَ بِهِ كَالسَّاحِرِ الْقَاتِلِ بِسِحْرِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْتُلُهُ كُفْرًا وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَتَلَ بِسِحْرِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ انْتَهَى .
وَظَاهِرُ جَزْمِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ فَلْيُحَقَّقْ ذَلِكَ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إذَا أَصَابَ غَيْرَهُ بِالْعَيْنِ وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْعَيْنِ فَلَا قِصَاصَ وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ حَقًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا ، وَلَا يُعَدُّ مُهْلِكًا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَلَا دِيَةَ فِيهِ أَيْضًا وَلَا كَفَّارَةَ انْتَهَى .
وَقَدْ يُنَازِعُ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا وَلَا يُعَدُّ مُهْلِكًا ، وَيُقَالُ التَّصْوِيرُ فِي شَخْصٍ انْتَهَى أَمْرُهُ إلَى أَنَّ نَظَرَهُ الْمَذْكُورَ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا ، وَيُعَدُّ مُهْلِكًا وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا يُرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى مُنْضَبِطٍ عَامٍّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ ، وَلَا انْضِبَاطَ لَهُ كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَالِ النِّعْمَةِ ، وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَنْشَأُ عَنْ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ حُصُولُ مَكْرُوهٍ لِذَلِكَ الشَّخْصِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ فِي زَوَالِ الْحَيَاةِ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَكْرُوهٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْعَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ

الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُ مَنْ عُرِفَ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ ، وَأَمْرُهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَقُومُ بِهِ وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ ، فَضَرَرُهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ آكِلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَ عُمَرُ وَالْعُلَمَاءُ اخْتِلَاطَهُ بِالنَّاسِ وَمِنْ ضَرَرِ الْعَوَادِي الَّتِي أُمِرَ بِتَغْرِيبِهَا حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى مِنْهَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ وَلَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ } يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ سَابَقَ الْقَدَرَ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِهَا وَهِيَ تَامَّةٌ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا إغْبَاءٌ فِي تَحْقِيقِ إصَابَةِ الْعَيْنِ وَمُبَالَغَةٌ تَجْرِي مَجْرَى التَّمْثِيلِ لَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَرُدَّ الْقَدَرَ شَيْءٌ ، فَإِنَّ الْقَدَرَ عِبَارَةٌ عَنْ سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ ، وَلَا رَادَّ لِأَمْرِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَإِنَّمَا هَذَا خُرِّجَ مَخْرَجَ قَوْلِهِمْ لَأَطْلُبَنَّكَ وَلَوْ تَحْتَ الثَّرَى وَلَوْ صَعِدْت إلَى السَّمَاءِ ، وَنَحْوَهُ مِمَّا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَهُوَ حَقٌّ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِيهِ صِحَّةُ أَمْرِ الْعَيْنِ وَأَنَّهَا قَوِيَّةُ الضَّرَرِ .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا } خِطَابٌ لِلْعَائِنِ وَأَمْرٌ لَهُ بِأَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَ طَلَبِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ فِيهِ خِلَافًا ، وَقَالَ الصَّحِيحُ عِنْدِي الْوُجُوبُ وَيَبْعُدُ الْخِلَافُ فِيهِ إذَا خَشَى عَلَى الْمَعِينِ الْهَلَاكَ ، وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْبُرْءِ بِهِ أَوْ كَانَ الشَّرْعُ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا وَلَمْ يُمْكِنْ زَوَالُ الْهَلَاكِ إلَّا بِوُضُوءِ الْعَائِنِ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ ، فَهَذَا أَوْلَى وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ فِيهِ انْتَهَى .
( السَّادِسَةُ ) لَمْ يُبَيَّنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَيْفِيَّةُ الْغُسْلِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمُعَيَّنُ } .
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ { مَرَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ ، فَقَالَ : لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا قَالَ مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ قَالُوا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ عَلَيَّ مَاذَا يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ } قَالَ سُفْيَانُ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ { وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفَأَ الْإِنَاءَ مِنْ خَلْفِهِ } وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الْمُوَطَّإِ وَسُنَنِ النَّسَائِيّ الْكُبْرَى وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ كَمَا ذَكَرْته أَوْ

مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَوْ مِنْ رِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ الْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ صِفَةُ وُضُوءِ الْعَائِنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُؤْتَى بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ غُرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ بِهَا ثُمَّ يَمُجُّهَا فِي الْقَدَحِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَغْسِلُ بِهِ وَجْهَهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِشِمَالِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُمْنَى ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُسْرَى ثُمَّ بِشِمَالِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ مِرْفَقَهُ الْأَيْمَنَ ، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ مِرْفَقَهُ الْأَيْسَرَ ، وَلَا يَغْسِلُ مَا بَيْنَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ ، ثُمَّ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى ثُمَّ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْقَدَحِ ثُمَّ دَاخِلَةَ إزَارِهِ ، وَهُوَ الطَّرَفُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَلِي حَقْوَهُ الْأَيْمَنَ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ دَاخِلَةَ إزَارِهِ كِنَايَةٌ عَنْ الْفَرْجِ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذَا صَبَّهُ خَلْفَهُ مِنْ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَ نَقْلِهِ هَذَا الْكَلَامَ : بَقِيَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْغُسْلِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَمَا فَسَّرَ بِهِ الزُّهْرِيُّ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعُلَمَاءَ يَصِفُونَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا ، وَمَضَى بِهِ الْعَمَلُ أَنَّ غَسْلَ الْعَائِنِ وَجْهَهُ إنَّمَا هُوَ صَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْضَائِهِ إنَّمَا هُوَ صَبَّةً صَبَّةً عَلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ فِي الْقَدَحِ لَيْسَ عَلَى صِفَةِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ يَدَيْهِ وَكَذَلِكَ غَسْلُ دَاخِلَةِ الْإِزَارِ إنَّمَا هُوَ إدْخَالُهُ وَغَمْسُهُ فِي الْقَدَحِ ، ثُمَّ يَقُومُ الَّذِي فِي يَدِهِ الْقَدَحُ فَيَصُبُّهُ عَلَى رَأْسِ الْمُعَيَّنِ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ ثُمَّ يَكْفَأُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَقِيلَ يَعْتَقِلُهُ بِذَلِكَ حِينَ

صَبَّهُ عَلَيْهِ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ رِوَايَةِ عَقِيلٍ بِمِثْلِ هَذِهِ إلَّا أَنَّ فِيهِ الْبُدَاءَةَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ ، وَفِيهِ صِفَةُ غَسْلِ كَفِّهِ الْيُمْنَى بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْقَدَحِ ، وَهُوَ ثَانٍ يَدَهُ وَذَكَرَ فِي غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ جَمِيعَهُمَا ، وَإِنَّمَا قَالَ ثُمَّ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى مِنْ عِنْدِ أُصُولِ أَصَابِعِهِ وَالْيُسْرَى كَذَلِكَ وَدَاخِلَةُ الْإِزَارِ هُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ ، وَالْإِزَارُ هُنَا الْمِئْزَرُ وَدَاخِلَتُهُ مَا يَلِي جَسَدَهُ وَقِيلَ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْضِعِهِ مِنْ الْجَسَدِ فَقِيلَ أَرَادَ مَذَاكِيرَهُ ، كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ عَفِيفُ الْإِزَارِ يُرَادُ بِهِ الْفَرْجُ ، وَقِيلَ أَرَادَ وِرْكَهُ إذْ هُوَ مَقْعَدُ الْإِزَارِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَائِنِ اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ ، وَمِنْ رِوَايَةِ مَعْبَدٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ ، وَغَسَلَ صَدْرَهُ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ قَدَمَيْهِ ظَاهِرُهُمَا فِي الْإِنَاءِ ، وَقَالَ وَحَسِبْته قَالَ وَأَمَرَهُ فَحَسَا مِنْهُ حَسَوَاتٍ انْتَهَى .
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا الْكَلَامَ كُلَّهُ وَاقْتَصَرَ فِي الْأَذْكَارِ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الِاسْتِغْسَالُ أَنْ يُقَالَ لِلْعَائِنِ وَهُوَ الصَّائِبُ بِعَيْنِهِ النَّاظِرُ بِهَا بِالِاسْتِحْسَانِ اغْسِلْ دَاخِلَةَ إزَارِك مِمَّا يَلِي الْجِلْدَ بِمَاءٍ ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَصَفَ النَّاسُ الْغُسْلَ وَأَحْصَى الْخَلْقَ لَهُ مِلْكٌ ؛ لِأَنَّ النَّازِلَةَ كَانَتْ فِي بَلَدِهِ ، وَوَقَعَتْ لِجِيرَانِهِ فَتَقُولُهَا وَقَدْ حَصَّلَهَا مُشَاهَدَةً وَخَبَرًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ

رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ ، وَهُوَ مَا يَلِي الْبَدَنَ مِنْ الْإِزَارِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِ وَمَنْ قَالَ لَا يَجْعَلُ الْإِنَاءَ فِي الْأَرْضِ وَيَغْسِلُ كَذَا بِكَذَا فَهُوَ كُلُّهُ تَحَكُّمٌ وَزِيَادَةٌ .

{ السَّابِعَةُ } قَالَ الْمَازِرِيُّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ قُوَّةِ الْعَقْلِ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ الْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا فَلَا يُدْفَعُ هَذَا بِأَنْ لَا يُعْقَلَ مَعْنَاهُ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاغْتِسَالِ وَصَبِّ مَائِهِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا ؟ ( قُلْنَا ) إنْ قَالَ : هَذَا مُسْتَفْسَرٌ ، قُلْنَا لَهُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، وَإِنْ قَالَهُ مُتَفَلْسِفٌ قِيلَ لَهُ انْكِصْ الْقَهْقَرَى أَلَيْسَ عِنْدَكُمْ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ قَدْ تَفْعَلُ بِقُوَاهَا وَطِبَاعِهَا ، وَقَدْ تَفْعَلُ بِمَعْنًى لَا يُعْقَلُ فِي الطَّبِيعَةِ وَيَدْعُونَهَا الْخَوَاصُّ ، وَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا زُكَاءُ خَمْسَةِ آلَافٍ فَمَا أَنْكَرْتُمْ مِنْ هَذَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْخَاصَّةِ لَا سِيَّمَا وَالتَّجْرِبَةُ قَدْ عَضَّدَتْهُ ، وَالْمُشَاهَدَةُ فِي الْعَيْنِ وَالْمُعَايَنَةُ قَدْ صَدَّقَتْهُ ، وَكَذَلِكَ الرُّقْيَةُ تُصَدِّقُهُ .
{ الثَّامِنَةُ } فَائِدَةُ هَذَا الِاغْتِسَالِ وَاسْتِعْمَالِ فَضْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ إزَالَةُ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ حُلُولِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ فِي قِصَّةِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَثَمَّ طَرِيقٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ ، وَهُوَ التَّبْرِيكُ عَلَيْهِ فَفِي قِصَّةِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إذَا رَأَى مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَنْ يُبَرِّكَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُمَا .
وَرَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ ابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { : مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ } .
وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَافَ أَنْ يُصِيبَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَلَا تَضُرُّهُ } .
وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ أَيْضًا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَعْجَبَهُ مَا أَعْجَبَهُ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ } .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّبْرِيكَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنْ يَقُولَ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ التَّعْلِيقِ فِي الْمَذْهَبِ ( أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ نَظَرَ إلَى قَوْمِهِ يَوْمًا فَاسْتَكْثَرَهُمْ وَأَعْجَبُوهُ فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ سَبْعُونَ أَلْفًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَنَّك عِنْتهمْ وَلَوْ أَنَّك إذْ عِنْتهمْ حَصَّنْتهمْ لَمْ يَهْلِكُوا قَالَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ أُحَصِّنُهُمْ ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ تَقُولُ : حَصَّنْتُكُمْ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَا يَمُوتُ أَبَدًا ، وَدَفَعْت عَنْكُمْ السُّوءَ بِأَلْفِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ) .
قَالَ الْمُعَلِّقُ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَكَانَ عَادَةُ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَعْجَبَهُ سَمْتُهُمْ وَحُسْنُ حَالِهِمْ حَصَّنَهُمْ بِهَذَا ( قُلْت ) لَوْ نَقَلْت لَنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَتَلَقَّيْنَاهَا بِالْقَبُولِ ، وَتَأَوَّلْنَا قَوْلَهُ عِنْتهمْ أَوْ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إنَّهُ يُحَضِّرُهَا حِينَئِذٍ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَتْ الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ مُتَضَمِّنَةً لِحَسَدٍ لَا يَجُوزُ صُدُورُهَا مِنْ نَبِيٍّ لِاسْتِحَالَةِ الْمَعَاصِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَذْكُورَةٌ بِغَيْرِ إسْنَادٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُتَلَقَّاةٌ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَلَا

يَجُوزُ قَبُولُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَضَاضَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا كَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهَا لِلْقَاضِي وَلَا لِلنَّوَوِيِّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتهَا لِلذِّكْرِ الَّذِي فِيهَا فَإِنَّهُ حَسَنٌ يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ فَيَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ التَّاسِعَةُ } وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ يُزَالُ بِهِ الضَّرَرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الِاسْتِرْقَاءُ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سُفْعَةٌ ، فَقَالَ : اسْتَرِقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : النَّظْرَةُ الْعَيْنُ .
يُقَالُ : صَبِيٌّ مَنْظُورٌ أَيْ أَصَابَتْهُ عَيْنٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَيُقَالُ عُيُونُ الْجِنِّ أَنْفَذُ مِنْ أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ وَقَدْ رَوَيْنَا ( أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سَمِعُوا قَائِلًا مِنْ الْحَيِّ يَقُولُ : قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ تُخْطِ فُؤَادَهُ ) فَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ أَيْ أَصَبْنَاهُ بِعَيْنَيْنِ ، وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ ، وَيَقُولُ إنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا ، وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى { مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَيْنُ .

( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْوَشْمِ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَنْ تُغْرَزَ إبْرَةٌ أَوْ مِسَلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُمَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْبَدَنِ كَالشَّفَةِ أَوْ الْمِعْصَمِ أَوْ غَيْرِهِمَا حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ ثُمَّ يُحْشَى ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِالْكُحْلِ أَوْ النُّورَةِ فَيُحَضَّرُ ، وَقَدْ يُفْعَلُ ذَلِكَ بِدَارَاتٍ وَنُقُوشٍ وَقَدْ يُقَلَّلُ وَقَدْ يَكْثُرُ وَهُوَ حَرَامٌ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيَصِيرُ الْمَوْضِعُ الْمَوْشُومُ مِجَسًّا فَإِنْ أَمْكَنَتْ إزَالَتُهُ بِالْعِلَاجِ وَجَبَتْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْجَرْحِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُ التَّلَفَ أَوْ فَوَاتَ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةَ عُضْوٍ أَوْ شَيْئًا فَاحِشًا فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ لَمْ تَجِبْ إزَالَتُهُ ، وَإِذَا تَابَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إثْمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَتْهُ إزَالَتُهُ وَيُعْصَى بِتَأْخِيرِهِ ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فَإِنْ قُلْت مُجَرَّدُ النَّهْيِ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ( قُلْت ) هُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لُعِنَ فَاعِلُهُ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ الرَّاوِي فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ لَفْظَ النُّبُوَّةِ فِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الرُّؤْيَا عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، وَلَمْ يَسُقْ مَالِكٌ لَفْظَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { رُؤْيَا الْمُسْلِمِ يَرَاهَا أَوْ تُرَى لَهُ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } وَالْمَتْنُ الْأَوَّلُ أَكْثَرُ طُرُقًا فَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ

الرُّؤْيَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ ، وَلَمْ يَسُقْ مَالِكٌ لَفْظَهُ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَمِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَذِهِ خَمْسَةٌ .
( الثَّانِيَةُ ) الرُّؤْيَا مَقْصُورَةٌ مَهْمُوزَةٌ وَيَجُوزُ تَرْكُ هَمْزِهَا كَنَظَائِرِهَا قَالَ الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤْيَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ كَمَا يَخْلُقُهَا فِي قَلْبِ الْيَقْظَانِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا يَقَظَةٌ فَإِذَا خَلَقَ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ تَلْحَقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ أَوْ كَانَ قَدْ خَلَقَهَا فَإِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِ النَّائِمِ الطَّيَرَانَ وَلَيْسَ بِطَائِرٍ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَمْرًا عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ عَلَمًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا يَكُونُ خَلْقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْغَيْمَ عَلَمًا عَلَى الْمَطَرِ وَالْجَمِيعُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يَخْلُقُ الرُّؤْيَا وَالِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى مَا يَسُرُّ بِغَيْرِ حَضْرَةِ

الشَّيْطَانِ وَيَخْلُقُ مَا هُوَ عَلَمٌ عَلَى مَا يَضُرُّ بِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ فَيُنْسَبُ إلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا لِحُضُورِهِ عِنْدَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا فِعْلَ لَهُ حَقِيقَةً وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ } لَا عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا فَالرُّؤْيَا اسْمٌ لِلْمَحْبُوبِ وَالْحُلْمُ اسْمٌ لِلْمَكْرُوهِ وَإِنَّمَا كَانَتَا جَمِيعًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ وَبِإِرَادَتِهِ وَلَا فِعْلَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِمَا لَكِنَّهُ يَحْضُرُ الْمَكْرُوهَةَ وَيَرْتَضِيهَا وَيُسَرُّ بِهَا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هِيَ إدْرَاكَاتٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ عَلَى يَدِ الْمَلَكِ أَوْ الشَّيْطَانِ إمَّا بِأَسْمَائِهَا وَإِمَّا أَمْثَالًا يُكَنِّي بِهَا وَإِمَّا تَخْلِيطًا وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ الْخَوَاطِرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي عَلَى نَسَقٍ وَتَأْتِي مُسْتَرْسِلَةً غَيْرَ مُحَصَّلَةٍ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ عَلَى يَدِ الْمَلَكِ شَيْئًا كَانَ وَحْيًا مَنْظُومًا وَبُرْهَانًا مَفْهُومًا هَذَا نَحْوُ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَصَارَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهَا اعْتِقَادَاتٌ وَإِنَّمَا دَارَ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى نَفْسَهُ بَهِيمَةً أَوْ مَلَكًا أَوْ طَائِرًا وَلَيْسَ هَذَا إدْرَاكًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَقِيقَةً فَصَارَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهَا اعْتِقَادَاتٌ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ قَدْ يَأْتِي عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَقِدِ وَذَهَلَ عَنْ التَّفَطُّنِ لِأَنَّ هَذَا الْمَرْئِيَّ مَثَلٌ فَالْإِدْرَاكُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَثَلِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الْمَازِرِيِّ وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا مُوَكَّلًا يَعْرِضُ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُدْرِكِ مِنْ النَّائِمِ فَيُمَثِّلُ أَمْثِلَةً لِمَعَانِي مَعْقُولَةٍ غَيْرِ مَحْسُوسَةٍ ، وَفِي الْحَالَتَيْنِ تَكُونُ مُبَشِّرَةً وَمُنْذِرَةً قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ قَضِيَّةَ الْمَلَكِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26