كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَضُمَّ إلَيْهِمَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ الْحَنْتَمُ وَالنَّقِيرُ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَل فِي الْمَاءِ تَمْرًا وَزَبِيبًا وَنَحْوَهُمَا لِيَحْلُوَ وَيُشْرَبَ وَإِنَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يُسْرَعُ إلَى الْإِسْكَارِ فِيهَا فَيَصِيرَ حَرَامًا نَجِسًا وَتَبْطُلَ مَالِيَّتُهُ فَنُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا شَرِبَهُ بَعْدَ إسْكَارِهِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي أَسْقِيَةِ الْأَدَمِ بَلْ أَذِنَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لِرِقَّتِهَا لَا يَخْفَى فِيهَا الْمُسْكِرُ بَلْ إذَا صَارَ مُسْكِرًا شَقَّهَا غَالِبًا ثُمَّ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُسْتَمِرٌّ بِحَالِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ الْحَظْرُ بَاقٍ وَكَرِهُوا الِانْتِبَاذَ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ( قُلْت ) : وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَفِي النَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ نَظَرٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الِانْتِبَاذُ فِيهَا ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ عَنْ أَحْمَدَ وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ إنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ .
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ إلَّا فِي الْأَسْقِيَةِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا : } وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّهُ أَصَحُّ .
الْأَقَاوِيلِ ، قَالُوا وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْعَهْدُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَرِيبًا بِإِبَاحَةِ الْمُسْكِرِ فَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ وَاشْتَهَرَ

تَحْرِيمُ الْمُسْكِرَاتِ وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ لَهُمْ الِانْتِبَاذُ فِي كُلِّ وِعَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مُسْكِرًا وَكَأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الرُّخْصَةُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلْأَدَبِ وَالتَّنْزِيهِ وَلَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَشْرَحُهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ فَإِنَّ لَفْظَ النَّهْيِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّنْزِيهِ وَالْكَرَاهَةِ وَاَلَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ قَوْلُهُ ( لَا تَفْعَلْ ) وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الظُّرُوفِ فَشَكَتْ إلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالُوا لَيْسَ لَنَا وِعَاءٌ فَقَالَ فَلَا إذًا : } .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { لَمَّا قَفَّى وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ امْرِئٍ حَسِيبُ نَفْسِهِ لِيُنْبِذَ كُلُّ قَوْمٍ فِيمَا بَدَا لَهُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ فِي قِصَّةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ { فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النَّاسَ لَا ظُرُوفَ لَهُمْ قَالَ فَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ يَرْثَى لِلنَّاسِ فَقَالَ اشْرَبُوهُ إذَا طَابَ فَإِنْ خَبُثَ فَذَرُوهُ : } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ { ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَوْعِيَةَ الدُّبَّاءَ وَالْحَنْتَمَ وَالْمُزَفَّتَ وَالنَّقِيرَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ إنَّهُ لَا ظُرُوفَ لَنَا فَقَالَ اشْرَبُوا مَا حَلَّ } .
وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ عَنْ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ أَنَّهُ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُفْقَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ } الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ { مَالِي أَرَى وُجُوهَكُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَحْنُ بِأَرْضٍ وَخِمَةٍ وَكُنَّا نَتَّخِذُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْبِذَةِ مَا

يَقْطَعُ اللِّحَانَ فِي بُطُونِنَا فَلَمَّا نَهَيْتنَا عَنْ الظُّرُوفِ فَذَلِكَ الَّذِي تَرَى فِي وُجُوهِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ وَلَا تُحَرِّمُ وَلَكِنْ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } .
( الثَّالِثَةُ ) : ( الدُّبَّاءُ ) : بِضَمِّ الدَّالُ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَمْدُودٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوِعَاءُ مِنْ الْقَرْعِ الْيَابِسِ ( وَالْمُزَفَّتُ ) : هُوَ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقَارُ فَلِذَلِكَ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ( الْمُقَيَّرُ ) : وَقَالَ بَعْضُهُمْ الزِّفْتُ نَوْعٌ مِنْ الْقَارِ وَيَرُدّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْمُزَفَّتَ هُوَ الْمُقَيَّرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَأَمَّا ( الْحَنْتَمُ ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ فَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِأَنَّهُ الْجَرَّةُ وَالظَّاهِرُ صِدْقُ ذَلِكَ عَلَى الْجِرَارِ كُلِّهَا وَذَلِكَ مَحْكِيٌّ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَيُّ شَيْءٍ نَبِيذُ الْجُرِّ فَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ يُصْنَعُ مِنْ الْمَدَرِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ ( ثَانِيهَا ) : أَنَّهُ جِرَارٌ حُضْرٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الصَّحَابِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ أَوْ كَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ قَالَ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا ( ثَالِثُهَا ) : أَنَّهَا جِرَارٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ مُقَعَّرَةُ الْأَجْوَافِ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( رَابِعُهَا ) : أَنَّهَا جِرَارٌ حُمْرٌ كَانَ يُحْمَلُ فِيهَا الْخَمْرُ حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الصَّحَابِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ( خَامِسُهَا ) : أَنَّهَا جِرَارٌ حَفِيرُ أَعْنَاقِهَا فِي جَنُوبِهَا يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنْ مِصْرَ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ ( سَادِسُهَا ) أَجْوَافُهَا فِي جَنُوبِهَا يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنْ الطَّائِفِ وَكَانَ

نَاسٌ يَنْتَبِذُونَ فِيهَا يُضَاهُونَ بِهِ الْخَمْرَ حُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا ( سَابِعُهَا ) : أَنَّهَا جِرَارٌ كَانَتْ تُعْمَلُ مِنْ طِينٍ وَدَمٍ وَشَعْرٍ حُكِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَأَمَّا النَّقِيرُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْقَافِ فَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا وَتُنْقَرُ نَقْرًا وَقَوْلُهُ تُنْسَحُ بِسِينٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ أَيْ تُقَشَّرُ ثُمَّ تُنْقَرُ فَتَصِيرَ نَقِيرًا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَوَقَعَ فِي نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ وَبَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ تُنْسَجُ بِالْجِيمِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ النَّخْلَةُ كَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ أَصْلُ النَّخْلَةِ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ يُحْتَمَل أَنَّهُ يُقْلَعُ أَصْلُ النَّخْلَةِ فَيُقَشَّرُ وَيُنْقَرُ فَيَصِيرَ كَالدَّنِّ وَيُحْتَمَل أَنْ يُنْقَرَ أَصْلُ النَّخْلَةِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ وَحُكِيَ عَنْ امْرَأَةٍ يُقَال لَهَا أُمُّ مَعْبَدٍ أَنَّهَا قَالَتْ : وَأَمَّا النَّقِيرُ فَالنَّخْلَةُ الثَّابِتَةُ عُرُوقُهَا فِي الْأَرْضِ الْمَنْقُورَةِ نَقْرًا .

( الرَّابِعَةُ ) : فِيهِ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ إذَا أَسْكَرَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُسْكِرُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا : } وَهَذَا الَّذِي يُسْكِرُ الْكَثِيرُ مِنْهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَإِنَّهُ يُسْكِرُ حَالَ الْكَثْرَةِ وَإِذَا صَدَقَ الْمُقَيَّدُ صَدَقَ الْمُطْلَقُ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي شَرِبَهُ يَحْصُل لَهُ بِهِ السُّكْرُ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنَّمَا يَحْرُمُ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ النِّيءِ فَأَمَّا الْمَطْبُوخُ مِنْهُمَا وَالنِّيءُ وَالْمَطْبُوخُ مِمَّا سِوَاهُمَا فَحَلَالٌ مَا لَمْ يُشْرَبُ وَيُسْكِرْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يَحْرُمْ عَصِيرُ ثَمَرَاتِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ قَالَ فَسُلَافَةُ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إلَّا أَنْ تُطْبَخَ حَتَّى يَنْقُصَ ثُلُثَاهَا وَأَمَّا نَقِيعُ الرُّطَبِ فَقَالَ يَحِلُّ مَطْبُوخًا ، وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِحَدٍّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي سُلَافَةِ الْعِنَبِ قَالَ وَالنِّيءُ مِنْهُ حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ شَارِبُهُ هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَشْرَبْ وَيَسْكَرْ ، فَإِنْ سَكِرَ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ : } وَقَالَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ : } مَعَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَوْنُهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ فَوَجَبَ طَرْدُ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ ، فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِسْكَارِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ ( قُلْنَا ) : قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَإِنْ

لَمْ يُسْكِرْ وَقَدْ عَلَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَهُ بِمَا سَبَقَ ، فَإِذَا كَانَ مَا سِوَاهُ فِي مَعْنَاهُ وَجَبَ طَرْدُ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ وَيَكُونُ التَّحْرِيمُ لِلْجِنْسِ الْمُسْكِرِ وَعَلَّلَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ الْجِنْسِ فِي الْعَادَةِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال آكَدُّ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ وَلَنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ إذَا شُرِبَتْ سُلَافَةَ الْعِنَبِ عِنْدَ اعْتِصَارِهَا وَهِيَ حُلْوَةٌ لَمْ تُسْكِرْ فَهِيَ حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ اشْتَدَّتْ وَأَسْكَرَتْ حُرِّمَتْ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ تَخَلَّلَتْ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيلِ آدَمِيٍّ حَلَّتْ فَنَظَرْنَا إلَى تَبَدُّلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَتَجَدُّدِهَا عِنْدَ تَجَدُّدِ صِفَةٍ وَتَبَدُّلِهَا فَأَشْعَرَنَا ذَلِكَ بِارْتِبَاطِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالنُّطْقِ فَوَجَبَ جَعْلُ الْجَمِيعِ سَوَاءً فِي الْحُكْمِ وَأَنَّ الْإِسْكَارَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي التَّحْرِيمِ .

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا وَقَدْ وَعَيْت عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا " ذَكَرُوا أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْت شَأْنِي أَقْبَلْت إلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْت صَدْرِي ، فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْت فَالْتَمَسْت عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْت أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ ، قَالَتْ وَكَانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ .
إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ نَقْلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ وَكُنْت جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا وَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ

فَجِئْت مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ فَتَيَمَّمْت مَنْزِلِي الَّذِي كُنْت فِيهِ وَظَنَنْت أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُوا إلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ مُعَطَّلٍ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْت وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَاَللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْت حِينَ قَدِمْنَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْت أَرَاهُ مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ ؟ فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْت بَعْدَ مَا نَقِهْت وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَلَا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا فَانْطَلَقْت أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرٍ بْنِ عَامِرِ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ ابْنُ عَبَّادِ بْن

الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلْت أَنَا وَابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فَقُلْت لَهَا بِئْسَ مَا قُلْت تَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا قَالَتْ أَيْ هَنْتَاه أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ، قُلْت وَمَاذَا قَالَ ؟ فَأَخْبَرَتْنِي .
بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْت مَرَضًا إلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْت إلَى بَيْتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ ؟ قُلْت أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِي أَبَوَيَّ ؟ قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْت أَبَوَيَّ فَقُلْت لِأُمِّي يَا هَنْتَاه مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ فَقَالَتْ : أَيْ بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْك فَوَاَللَّهِ لَقَلَّ مَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا قَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَ قَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟ ، قَالَتْ فَبَكَيْت تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْت لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْت أَبْكِي وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ ، قَالَتْ : فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِاَلَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنْ الْوُدِّ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْك ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَإِنْ تَسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُك ، قَالَتْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْت مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُك مِنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنْ رَأَيْت عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ

عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنَ فَتَأْكُلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ أَعْذُرُك مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَك قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ ، قَالَتْ وَبَكَيْت يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ بَكَيْت لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يُرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَذِنْت لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي

مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إلَيْهِ : فِي شَأْنِي شَيْءٌ ، قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ : يَا عَائِشَةُ ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُك اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ ثُمَّ تُوبِي إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً ، فَقُلْت لِأَبِي أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ ، فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت لِأُمِّي أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَقُلْت وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ عَرَفْت أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، فَإِنْ قُلْت لَكُمْ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْت لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ تُصَدِّقُونِي وَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ : } قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْت فَاضْطَجَعْت عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا وَاَللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَاَللَّهُ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحَيٌّ يُتْلَى وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي بِأَمْرٍ يُتْلَى ، وَلَكِنْ كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا ،

قَالَتْ فَوَاَللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى إنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَك فَقَالَتْ لِي أُمِّي قَوْمِي إلَيْهِ فَقُلْت وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ : } عَشْرَ آيَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي قَالَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ وَاَللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ : } إلَى { أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ : } فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَّعَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي مَا عَلِمْت أَوْ مَا رَأَيْت قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاَللَّهِ مَا عَلِمْت إلَّا خَيْرًا قَالَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَهَذَا مَا انْتَهَى

إلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ وَفِي رِوَايَةٍ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ { وَكَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهِ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ وَحَسَّانُ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَحَمْنَةُ : } وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ { لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا يَعْنِي الْقُرْآنَ فَلَمَّا نَزَلَ مِنْ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ : } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ( قُلْت ) : فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ تَصْرِيحُ ابْنِ إِسْحَاقَ بِالتَّحْدِيثِ .

بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا وَقَدْ وَعَيْت عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا ذَكَرُوا أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ : } الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ أَصْحَابُ السُّنَنِ { فَلَمَّا نَزَلَ مِنْ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ : } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ( قُلْت ) : وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ بِالتَّحْدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ جَمْعِهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ لَا مَنْعَ مِنْهُ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَبَعْضَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ ثِقَاتٌ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ ، فَإِذَا تَرَدَّدْنَا فِي قِطْعَةٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ هِيَ عَنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَمْ يَضُرَّ وَجَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا ثِقَتَانِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدٌ أَوْ عُمَيْرٌ وَهُمَا ثِقَتَانِ مَعْرُوفَانِ بِالثِّقَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ انْتَقَدَ هَذَا عَلَى الزُّهْرِيِّ قَدِيمًا وَقَالَ كَانَ

الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ حَدِيثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِهَتِهِ قَالَ وَلَا دَرَكَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ وَالْكُلُّ ثِقَاتٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ .
.

( الثَّانِيَةُ ) : الْإِفْكُ الْكَذِبُ وَفِيهِ لُغَتَانِ كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانُ الْفَاءِ وَفَتْحِهِمَا مَعًا كَنَجَسٍ وَنَجِسَ حَكَاهُمَا فِي الْمُحْكَمِ وَالْمَشَارِقِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا كَذَبَ عَلَيْهَا مُمَارٍ مَيِّتٌ بِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ ( وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ ) : وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا أَيْ أَحْفَظُ وَأَحْسَنُ إيرَادًا وَسَرْدًا لِلْحَدِيثِ .
( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُهَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ : } هُوَ دَلِيلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَمَلِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَفِي الْعِتْقِ وَالْوَصَايَا وَالْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَمِلَ بِهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُونُسُ وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلِمْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاسْتِعْمَالُهَا كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا يُقْسَمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِ مَنْ رَدَّهَا وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إبْطَالُهَا وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّهُ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْخَطَرِ وَالْقِمَارِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَقَالُوا هِيَ كَالْأَزْلَامِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إجَازَتُهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِيَاسِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلْأَثَرِ وَمُقْتَضَى هَذَا قَصْرُهَا عَلَى الْمَوَاضِعِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ دُونَ تَعْدِيَتِهَا إلَى غَيْرِهَا وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْمُغِيرَةِ .

( الْخَامِسَةُ ) : وَفِيهِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ بِبَعْضِهِنَّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَمَنَعُوا السَّفَرَ بِبَعْضِهِنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْهُ رِوَايَةُ أَنَّ لَهُ السَّفَرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَنْفَعَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ وَالْأُخْرَى أَنْفَعُ لَهُ فِي بَيْتِهِ وَمَالِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَاَلَّذِي يَقَعُ لِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ فِي أَصْلِ الْقُرْعَةِ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا هَذَا لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ ، فَإِذَا كَانَ فِيهِنَّ مَنْ تَصْلُحُ لِلسَّفَرِ وَمَنْ لَا تَصْلُحُ تَعَيَّنَ مَنْ تَصْلُحُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَجِبُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ لَا تَصْلُحُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرَرٌ أَوْ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِ { وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ : } وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْقُرْعَةُ إذَا كَانَ كُلُّهُنَّ صَالِحَاتٌ لِلسَّفَرِ فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْقُرْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لَخِيفَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَيْلًا إلَيْهَا وَلَكَانَ لِلْأُخْرَى مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهَا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا خَرَجَ بِمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْأُخْرَى وَارْتَفَعَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ وَطَابَ قَلْبُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) : قَوْلُهَا { فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةِ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي : } فِيهِ خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي الْغَزْوِ ؛ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَخُرُوجُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْغَزْوِ مُبَاحٌ إذَا كَانَ الْعَسْكَرُ كَثِيرًا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَبَةُ وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لِيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى } .
( السَّابِعَةُ ) : هَذِهِ الْغَزَاةُ هِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ إيضَاحًا وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مَعَهُ وَحْدَهَا بَلْ خَرَجَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ أَيْضًا أُمُّ سَلَمَةَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيَرِ .

( الثَّامِنَةُ ) : قَوْلُهَا { فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا : } بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَفِيهِ جَوَازُ رُكُوبِ النِّسَاءِ فِي الْهَوَادِجِ وَجَوَازِ خِدْمَةِ الرِّجَالِ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَفِي الْأَسْفَارِ وَ ( الْهَوْدَجِ ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ الْقُبَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْمَرْأَةُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ .

( التَّاسِعَةُ ) : قَوْلُهَا { آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ : } رُوِيَ بِالْمَدِّ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ وَبِالْقَصْرِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ أَعْلَمَ وَفِيهِ أَنَّ ارْتِحَالَ الْعَسْكَرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْأَمِيرِ .
( الْعَاشِرَةُ ) : قَوْلُهَا { فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ وَقَدْ انْقَطَعَ : } ( الْعِقْدُ ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ كُلُّ مَا يُعْقَدُ وَيُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ وَهُوَ نَحْوُ الْقِلَادَةِ وَ ( الْجَزْعُ ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَآخِرُهُ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ خَرَزُ يَمَانٍ ( وَظَفَارِ ) : بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ تَقُولُ هَذِهِ ظَفَارِ وَدَخَلَتْ ظَفَارِ وَإِلَى ظَفَارِ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِلَا تَنْوِينٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَكَذَا فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ وَمَنْ قَيَّدَهُ جَزْعَ أَظْفَارٍ بِأَلْفٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَبِالْوَجْهِ الصَّحِيحِ رَوَيْتُهُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي : } ( الرَّهْطُ ) : جَمَاعَةٌ دُونَ الْعَشَرَةِ وَقَوْلُهُ { يَرْحَلُونَ : } بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ يَجْعَلُونَ الرَّحْلَ عَلَى الْبَعِيرِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهَا { فَرَحَلُوهُ } وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ أَيْضًا وَقَوْلُهَا { بِي : } كَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي أَصْلِنَا بِالْبَاءِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَقَالَ إنَّ الَّذِي فِي أَكْثَرِهَا { لِي : } وَهُوَ أَجْوَدُ ( قُلْت ) : بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ أَجْوَدُ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا وَضْعَ الرَّحْلِ عَلَى الْبَعِيرِ بَلْ وَضْعَهَا وَهِيَ فِي الْهَوْدَجِ عَلَى الْبَعِيرِ تَشْبِيهًا لِلْهَوْدَجِ الَّتِي هِيَ فِيهِ بِالرَّحْلِ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْبَعِيرِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { وَكَانَتْ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا لَا يَهْبُلْنَ : } ضُبِطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِأَوْجُهٍ ( أَشْهُرُهَا ) : كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَالْبَاءِ

الْمُشَدَّدَةِ أَيْ يُثْقَلْنَ بِاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ ( وَالثَّانِي ) : يَهْبَلْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْبَاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ بَيْنَهُمَا .
وَ ( الثَّالِثُ ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابِ أَيْ بِتَقْدِيرِ فَتْحِ أَوَّلِهِ قَالَ ؛ لِأَنَّ مَاضِيَهُ فَعَلَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَيَجُوزُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ هَبِلَهُ اللَّحْمُ وَأَهْبَلَهُ إذَا أَثْقَلَهُ وَكَثُرَ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { لَمْ يُثْقَلْنَ } وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ أَيْضًا الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا { وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ } ( قُلْت ) : لَا يَنْبَغِي عَلَى مَا جَوَّزَهُ النَّوَوِيُّ كَسْرُ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَلْ هِيَ مَفْتُوحَةٌ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَتْحُ الْهَاءِ فِي الرِّوَايَةِ وَتَشْدِيدُ الْبَاءِ وَفِي التَّجْوِيزِ الْهَاءُ سَاكِنَةٌ وَالْبَاءُ مُخَفَّفَةٌ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَكَيْفَ يُكْسَرُ مَعَ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ الْحَدَّاءِ { لَمْ يَهْبُلْهُنَّ اللَّحْمُ : } بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ فِي اللُّغَةِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ هَبِلَهُ اللَّحْمُ إذَا كَثُرَ عَلَيْهِ وَرَكِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَأَهْبَلَهُ أَيْضًا ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَمْ يُهَبِّلْهُنَّ اللَّحْمُ قُلْت اسْتِعْمَالُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُهُمْ هَبِلَهُ اللَّحْمُ لَا يُنَافِي الرِّوَايَةَ الْأُولَى الَّتِي قَدَّمْنَا عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّهَا أَشْهُرُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْفَاعِلِ تَعَيَّنَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي كُلِّ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ وَكَوْنُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ التَّصْرِيحُ بِالْفَاعِلِ لَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ فَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ لَا تُتَلَقَّى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ

وَإِنَّمَا تُتَلَقَّى عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَتُشْرَحُ بِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ يَشْهَدُ لِلَفْظِ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ : } هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ أَيْ الْقَلِيلُ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا ( الْبُلْغَةُ ) : قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَكَأَنَّهُ الَّذِي يَمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُعَلِّقُ النَّفْسَ .
لِلِازْدِيَادِ مِنْهُ أَيْ يُشَوِّفُهَا إلَيْهِ وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ التَّقَلُّلِ فِي الْعَيْشِ وَتَقْلِيلِ الْأَكْلِ .
.

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ ثِقْلَ الْهَوْدَجِ : } لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ حِينَ رَحَلُوهُ كَانَ ثَقِيلًا بَلْ الْمُرَادُ لَمْ يَسْتَنْكِرُوا قَدْرَ ثِقْلِهِ الَّذِي اعْتَادُوهُ لِخِفَّةِ بَدَنِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يَظْهَرُ بِفَقْدِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ الْهَوْدَجِ تَفَاوُتٌ فِي قَدْرِ ثِقَلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَ ) : قَوْلُهَا { فَتَيَمَّمْت مَنْزِلِي : } أَيْ قَصَدْته وَالتَّيَمُّمُ لُغَةً الْقَصْدُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { وَظَنَنْت أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُوا إلَيَّ : } كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا { فَيَرْجِعُوا } بِغَيْرِ نُونٍ وَالْوَجْهُ إثْبَاتُهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَةِ وَلَعَلَّهُ مِنْ الْجَزْمِ بِلَا جَازِمٍ كَقَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَعْقِبٍ إثْمًا مِنْ اللَّهِ وَلَا وَاغِلٍ ، أَوْ لَهُ تَخْرِيجٌ آخَرُ ؛ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ : } .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ : } هُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ بِلَا خِلَافٍ كَذَا ضَبَطَهُ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ وَالْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ وَآخَرُونَ وَقَوْلُهَا { قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ : } التَّعْرِيسُ هُوَ النُّزُولُ آخِرَ اللَّيْلِ فِي السَّفَرِ لِنَوْمٍ أَوْ اسْتِرَاحَةٍ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ هُوَ النُّزُولُ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهَا { ادَّلَجَ : } هُوَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ سَارَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، فَإِنْ سَارَ مِنْ أَوَّلِهِ قِيلَ أَدْلَجَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ جَوَازُ تَأَخُّرِ بَعْضِ الْجَيْشِ سَاعَةً وَنَحْوَهَا لِحَاجَةِ تَعْرِضُ لَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةً تَدْعُو إلَى الِاجْتِمَاعِ .

( الثَّامِنَةَ عَشْرَ ) : قَوْلُهَا { فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ : } أَيْ شَخْصَهُ وَقَوْلُهَا { فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ : } أَيْ انْتَبَهْت مِنْ نَوْمِي بِقَوْلِهِ ( إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ) : وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ بِتَخَلُّفِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ الرُّفْقَةِ فِي مَضْيَعَةٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَهَذَا مِنْ صَفْوَانَ لِمَعْنَيَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهَا مُصِيبَةٌ لِنِسْيَانِ امْرَأَةٍ مُنْفَرِدَةٍ فِي قَفْرٍ وَلَيْلٍ مُظْلِمٍ وَالثَّانِي لَيُقِيمَهَا اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ نَوْمِهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ نِدَائِهَا وَكَلَامِهَا .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهَا { فَخَمَّرْت وَجْهِي بِجِلْبَابِي : } أَيْ غَطَّيْته بِثَوْبِي وَالْجِلْبَابُ كَالْمِقْنَعَةِ تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا يَكُونُ أَعْرَضُ مِنْ الْخِمَارِ قَالَهُ النَّضْرُ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ ثَوْبٌ وَاسِعٌ دُونَ الرِّدَاءِ تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ ظَهْرَهَا وَصَدْرَهَا وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ هُوَ الْإِزَارُ وَقِيلَ الْخِمَارُ هُوَ كَالْمَلَاءَةِ وَالْمِلْحَفَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَبَعْضُ هَذَا قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ ، وَفِيهِ تَغْطِيَةُ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا عَنْ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءً كَانَ صَالِحًا أَوْ غَيْرَهُ .

( الْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { وَاَللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً } إنَّمَا عَبَّرَتْ بِالْمُضَارِعِ إشَارَةً إلَى اسْتِمْرَارِ تَرْكِ الْكَلَامِ وَتَجَدُّدِ هَذَا الِاسْتِمْرَارِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي اخْتِصَاصُ النَّفْيِ بِحَالَةٍ بِخِلَافِ الْمُضَارِعِ وَقَوْلُهَا { وَلَا سَمِعْت مِنْهُ كَلِمَةً : } لَيْسَ تَكْرَارٌ ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُكَلِّمُهَا وَلَكِنْ يُكَلِّمُ نَفْسَهُ أَوْ يَجْهَرُ بِقِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ بَلْ اسْتَعْمَلَ الصَّمْتَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَدَبًا وَصِيَانَةً وَلِهَوْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَفِيهِ إغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ وَعَوْنُ الْمُنْقَطِعِ وَإِنْقَاذُ الضَّائِعِ وَإِكْرَامُ ذَوِي الْأَقْدَار وَحُسْنُ الْأَدَبِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْخَلْوَة بِهِنَّ عَنْ الضَّرُورَةِ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا فَعَلَ صَفْوَانُ مِنْ إبْرَاكِهِ الْجَمَلِ بِغَيْرِ كَلَامٍ وَلَا سُؤَالٍ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَمْشِيَ قُدَّامَهَا لَا بِجَانِبِهَا وَلَا وَرَاءَهَا وَاسْتِحْبَابُ الْإِيثَارِ بِالرُّكُوبِ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { وَبَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْوِ الظَّهِيرَةِ : } الْمُوغِرُ بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ النَّازِلُ فِي وَقْتِ الْوَغْرَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ .
وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ { مُوعِزِينَ } بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ هُوَ مِنْ وَعَزَتْ إلَيْهِ أَيْ تَقَدَّمَتْ يُقَالُ وَعَزْت إلَيْهِ بِالتَّخْفِيفِ وَعْزًا وَوَعَّزْت إلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ تَوْعِيزًا قَالَ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَوْلَى قَالَ وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ مُوعِرِينَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ انْتَهَى .
وَ { الظَّهِيرَةُ : } وَقْتُ الْقَائِلَةِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ { وَ نَحْرُهَا : } صَدْرُهَا أَيْ أَوَّلُهَا .
.

( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي : } أَيْ بِقَوْلِ الْبُهْتَانِ وَالْقَذْفِ وَقَوْلُهَا { وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ : } أَيْ مُعْظَمَهُ وَقِيلَ الْكِبْرُ الْإِثْمُ وَقِيلَ هُوَ الْكَبِيرَةُ كَالْخَطَأِ وَالْخَطِيئَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَقُرِئَ فِي الشَّاذِّ بِضَمِّهَا ، وَهِيَ لُغَةٌ وَقَوْلُهَا ( عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ) : هُوَ بِرَفْعِ ابْنِ سَلُولَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ صِفَةً لِأُبَيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ فَأُبَيٌّ أَبُوهُ وَسَلُولُ أُمُّهُ وَلِهَذَا يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ { و أُبَيٍّ : } بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ { وَ سَلُولُ : } بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَة وَضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ لَامٌ وَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ كِبْرَ الْإِفْكِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ إنَّهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِيمَتْ عَلَى دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَقَدْ تَوَلَّى كِبْرَهُ فَقَالَتْ { وَأَيَّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى ، } وَفِي رِوَايَةٍ { وَضُرِبَ الْحَدُّ } وَفِي رِوَايَةٍ { وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ } وَأَشَارَتْ بِضَرْبِهِ بِالسَّيْفِ إلَى أَنَّ صَفْوَانَ ضَرَبَ حَسَّانَ عَلَى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ وَقَالَ تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي غُلَامٌ إذَا هُوَ حَيِيت لَسْت بِشَاعِرِ وَسَيَأْتِي أَنَّ فِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَحَمْنَةُ وَحَكَى عَنْ قَوْمٍ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هُوَ الْبَادِئُ بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ وَاَلَّذِي اخْتَلَقَهَا قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ .
( الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ : } بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يَخُوضُونَ فِيهِ وَيُكْثِرُونَ الْقَوْلَ .
( الْخَامِسَةُ

وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { وَهُوَ يَرِيبُنِي : } بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ يُقَالُ رَابَنِي وَأَرَابَنِي إذَا شَكَّكَهُ وَأَوْهَمَهُ الْأُولَى لُغَةُ الْجُمْهُورِ وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ هُذَيْلٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ يُوهِمنِي وَيُشَكِّكُنِي حَتَّى أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَالُ أَرَابَنِي الْأَمْرُ يَرِيبُنِي إذَا تَوَهَّمْته وَشَكَكْت فِيهِ ، فَإِذَا اسْتَيْقَنْته قُلْت رَابَنِي كَذَا يَرِيبُنِي .
.

( السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : { اللُّطْفُ : } بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَيُقَالُ بِفَتْحِهِمَا مَعًا لُغَتَانِ وَهُوَ الْبِرُّ وَالرِّفْقُ وَقَوْلُهُ { كَيْفَ تِيكُمْ : } إشَارَةٌ إلَى الْمُؤَنَّثَةِ كَذَا كُمْ فِي الْمُذَكَّرِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الْإِنْسَانِ زَوْجَتَهُ وَحُسْنُ مُعَاشَرَتِهَا إلَّا أَنْ يَسْمَعَ عَنْهَا مَا يَكْرَهُ فَيُقَلِّلُ مِنْ اللُّطْفِ لِتَفْطِنَ هِيَ أَنَّ ذَلِكَ لِعَارِضٍ فَتَسْأَلَ عَنْ سَبَبِهِ فَتُزِيلُهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السُّؤَالِ عَنْ الْمَرِيضِ .
( السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { نَقَهْت : } هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفَتْحُ أَشْهُرُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّاقِهُ هُوَ الَّذِي أَفَاقَ مِنْ الْمَرَضِ وَبَرِئَ مِنْهُ وَهُوَ قَرِيبُ عَهْدٍ بِهِ لَمْ تَتَرَاجَعْ إلَيْهِ كَمَالُ صِحَّتِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الْكَسْرِ قَالَ أَمَّا بِكَسْرِ الْقَافِ فَهُوَ بِمَعْنَى فَهِمْت الْحَدِيثَ .
.

الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { وَخَرَجْت مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا : } مِسْطَحٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَ { الْمَنَاصِعُ : } بِفَتْحِ الْمِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ وَبَعْدَ الْأَلْفِ صَادٌ مُهْمَلَةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ مَوَاضِعُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَتَبَرَّزُونَ فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ كِتَابِ مُسْلِمٍ وَهِيَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَ { الْمُتَبَرَّزُ } : بِفَتْحِ الرَّاءِ مَوْضِعُ التَّبَرُّزِ وَهُوَ الْخُرُوجُ إلَى الْبِرَازِ وَهُوَ الْفَضَاءُ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي مَنْ خَرَجَ إلَيْهَا فَقَدْ بَرَزَ أَيْ ظَهَرَ وَكُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنْ الْخُرُوجِ لِلْحَدَثِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجُ لِحَاجَةٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَفِيقَةٌ لِتَتَآنَسَ بِهَا وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهَا أَحَدٌ .
( التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهَا { وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ : } هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَالنُّونِ جَمْعُ كَنِيفٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ السَّاتِرُ مُطْلَقًا وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَوْضِعُ الْمُتَّخَذُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ قَوْلُهَا { وَأَمْرُنَا أَمْرَ الْعَرَبِ الْأُوَلِ : } ضَبَطُوا قَوْلَهُ الْأُوَلِ بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : ضَمُّ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفُ الْوَاوِ وَالثَّانِي فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدُ الْوَاوِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ( قُلْت ) : هُوَ عَلَى الْأُوَلِ صِفَةٌ لِلْعَرَبِ وَعَلَى الثَّانِي صِفَةٌ لِلْأَمْرِ وَقَوْلُهَا { فِي التَّنَزُّهِ } أَيْ طَلَبُ النَّزَاهَةِ بِالْخُرُوجِ إلَى الصَّحْرَاءِ .

( الْفَائِدَةُ الثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ : } بِضَمِّ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَاسْمُهَا سَلْمَى وَتَقَدَّمَ ضَبْطُ مِسْطَحٍ وَهُوَ لَقَبٌ وَأَصْلُهُ عُودٌ مِنْ أَعْوَادِ الْخِبَاءِ وَاسْمُهُ عَامِرٌ وَقِيلَ عَوْفٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبَّادٍ وَقِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ قِيلَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَبُوهُ أُثَاثَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبَعْدَهَا ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ مُكَرَّرَةٌ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ .
( الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ : } أَمَّا عَثَرَتْ فَبِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِرْطُ بِكَسْرِ الْمِيم كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ وَ { تَعِسَ : } بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ اقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى الْفَتْحِ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَلَى الْكَسْرِ وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْفَتْحَ وَبَعْضُهُمْ الْكَسْرَ وَمَعْنَاهُ عَثَرَ وَقِيلَ هَلَكَ وَقِيلَ لَزِمَهُ الشَّرُّ وَقِيلَ بَعُدَ وَقِيلَ سَقَطَ لِوَجْهِهِ خَاصَّةً دَعَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَمَّا قَالَ ؛ وَسَمَّتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَبًّا ، وَفِيهِ كَرَاهَةُ الْإِنْسَانِ صَاحِبَهُ وَقَرِيبَهُ إذَا آذَى أَهْلَ الْفَضْلِ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ كَمَا فَعَلَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي دُعَائِهَا عَلَى وَلَدِهَا وَفِيهِ فَضِيلَةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَالذَّبُّ عَنْهُمْ كَمَا فَعَلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَبِّهَا عَنْهُ .
.

( الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { قَالَتْ أَيْ هَنْتَاه : } أَمَّا { أَيْ : } بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ فَحَرْفُ نِدَاءٍ لِلْبَعِيدِ أَوْ لَمُنَزَّلٍ مَنْزِلَتَهُ وَهِيَ هُنَا لِلْمُنَزَّلِ مَنْزِلَتَهُ وَكَأَنَّهَا عَدَّتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعِيدَةً عَنْهَا لِغَفْلَتِهَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَأَمَّا { هَنْتَاه : } فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَفَتْحِهَا ؛ وَالْإِسْكَانُ أَشْهَرُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَتُضَمُّ الْهَاءُ الْآخِرَةُ وَتُسَكَّنُ .
وَيُقَالُ فِي التَّثْنِيَةِ هَنْتَانِ وَفِي الْجَمْعِ هَنَاتٌ وَهَنَوَاتٌ وَفِي الْمُذَكَّرِ هَنٌ وَهَنَانِ وَهَنُونَ .
وَلَكَ أَنْ تُلْحِقَهَا الْهَاءَ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ فَتَقُولُ : يَا هَنَهْ ، وَأَنْ تُشْبِعَ حَرَكَةَ النُّونِ فَتَصِيرَ أَلِفًا فَتَقُولَ : يَا هَنَاهْ ، وَلَكَ ضَمُّ الْهَاءِ ، فَتَقُولُ : يَا هَنَاهُ أَقْبِلْ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَخْتَصُّ بِالنِّدَاءِ وَمَعْنَاهَا يَا هَذِهِ ، وَقِيلَ : يَا مَرْأَةُ ، وَقِيلَ : يَا بَلْهَاءُ ، كَأَنَّهَا نُسِبَتْ إلَى قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمَكَايِدِ النَّاسِ وَشُرُورِهِمْ ، وَمِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُذَكَّرِ حَدِيثُ الصُّبَيّ ابْنِ مَعْبَدٍ { فَقُلْتُ : يَا هَنَاهُ إنِّي حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ } ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَكِرَةٍ وَحَكَى الْهَرَوِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَشْدِيدَ نُونِهَا وَأَنْكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَرَ عَنْ الْإِنْسَانِ مَا يُقَالُ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ كَمَا كَتَمُوا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا الْأَمْرَ شَهْرًا وَلَمْ تَسْمَعْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِعَارِضٍ عَرَضَ وَهُوَ قَوْلُ أُمِّ مِسْطَحٍ تَعِسَ مِسْطَحٌ .

( الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { فَازْدَدْت مَرَضًا إلَى مَرَضِي : } أَيْ مَعَ مَرَضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } أَيْ مَعَهَا وقَوْله تَعَالَى { مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ } أَيْ مَعَهُ وَقَوْلُهَا { فَلَمَّا رَجَعْت إلَى بَيْتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَدَخَلَ عَلَيَّ زَائِدَةٌ وَقَوْلُهَا { أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ : } فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَذْهَبُ إلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا بِخِلَافِ ذَهَابِهَا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَلَا تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إذْنِهِ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ .

( الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { فَوَاَللَّهِ لَقَلَّ مَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا : } ( الْوَضِيئَةُ ) : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مَهْمُوزَةٌ مَمْدُودَةٌ هِيَ الْجَمِيلَةُ الْحَسَنَةُ وَالْوَضَاءَةُ الْحُسْنُ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَذَلِكَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { حَظِيَّةٌ } مِنْ الْحُظْوَةِ وَهِيَ الْوَجَاهَةُ وَارْتِفَاعُ الْمَنْزِلَةِ وَ " الضَّرَائِرُ " جَمْعُ ضَرَّةٍ وَزَوْجَاتُ الرَّجُلِ ضَرَائِرُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَضَرَّرُ بِالْأُخْرَى بِالْغَيْرَةِ وَالْقِسْمِ وَغَيْرِهِمَا وَالِاسْمُ مِنْهُ الضِّرِّ بِكَسْرِ الضَّادِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَقَوْلُهَا { إلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا : } هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ أَكْثَرْنَ الْقَوْلَ فِي عَيْبِهَا وَنَقْصِهَا وَأَرَادَتْ أُمُّهَا بِهَذَا الْكَلَامِ أَنْ تُهَوِّنَ عَلَيْهَا مَا سَمِعْت ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَسَّى بِغَيْرِهِ مَعَ تَطْيِيبِ خَاطِرِهَا بِجَمَالِهَا وَحُبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا .
.

( الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { قُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ : } فِيهِ جَوَازُ التَّعَجُّبِ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ .
( السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { لَا يُرْقَأُ لِي دَمْعٌ : } هُوَ بِالْهَمْزِ أَيْ لَا يَنْقَطِعُ وَقَوْلُهَا { وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ : } أَيْ لَا أَنَامُ .
( السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيَ : } ضَبَطْنَاهُ بِنَصَبِ قَوْلِهِ الْوَحْيَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِقَوْلِهِ اسْتَلْبَثَ أَيْ اسْتَبْطَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ ، فَإِنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهَا { اسْتَلْبَثَ : } بِقَوْلِهِ أَيْ ( أَبْطَأَ ) : وَلَبِثَ وَلَمْ يَنْزِلْ وَكَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ يُوَافِقُ مَا ضَبَطْنَاهُ وَيَقْتَضِي أَنَّ الرَّفْعَ تَجْوِيزٌ لَا رِوَايَةٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعُدَ ذِكْرُ النَّصْبِ وَيَصِحُّ رَفْعُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتَلْبَثَ بِمَعْنَى لَبِثَ كَمَا يُقَالُ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ وَهُوَ كَثِيرٌ .

( الثَّامِنَةَ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُهَا { يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ : } فِيهِ مُشَاوَرَةُ الْإِنْسَانِ بِطَانَتَهُ وَأَهْلَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ فِيمَا يَنْوِيهِ مِنْ الْأُمُورِ .

( التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) : قَوْلُ أُسَامَةَ { هُمْ أَهْلُك : } أَيْ الْعَفَائِفُ اللَّائِقَاتُ بِك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ الْإِشَارَةِ وَوَكَّلَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُ لِقَوْلِ عَائِشَةَ { فَأَشَارَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَلَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ } إلَى آخِرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ وَبَرَّأَهَا بِكَلَامِهِ هَذَا .
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْك وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ : } فَقَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ رَآهَا مَصْلَحَةً وَنَصِيحَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى انْزِعَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَقَلَقَهُ فَأَرَادَ إرَاحَةَ خَاطِرَهُ وَكَانَ ذَلِكَ أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهِ وَاسْتَأْنَسَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِقَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي التَّعْدِيلِ لَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا .
.

( الْفَائِدَةُ الْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُ عَلِيٍّ { وَإِنْ تَسْأَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْك : } أَيْ بَرِيرَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ : } وَهِيَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ ثُمَّ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَقَوْلُهَا { وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنْ رَأَيْت عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ } مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا تَسْأَلُونَ عَنْهُ أَصْلًا وَلَا فِيهَا شَيْءٌ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا نَوْمُهَا عَنْ الْعَجِينِ وَقَوْلُهَا { أَغْمِصُهُ : } بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ أَعِيبُهَا بِهِ مِنْ الْغَمَصُ وَهُوَ الْعَيْبُ وَ { الدَّاجِنُ : } بِكَسْرِ الْجِيمِ الشَّاةُ الَّتِي تَأْلَفُ الْبَيْتَ وَلَا تَخْرُجُ إلَى الْمَرْعَى وَأَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ صَحِيحِهِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بَابَ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
هَذَا لَيْسَ بَيِّنًا إذْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ إنَّمَا هِيَ فِي تَعْدِيلِهِنَّ لِلشَّهَادَةِ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَرْأَتَيْنِ وَالرَّجُلِ بِشَهَادَتِهِمَا فِي الْمَالِ وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ زَيْنَبَ فِي عَائِشَةَ وَقَوْلِ عَائِشَةَ فِي زَيْنَبَ { فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ : } قَالَ وَمَنْ كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهَا ، وَهَذَا رَكِيكٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ وَإِمَامَهُ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجِيزَانِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فَكَيْفَ يُطْلَقُ جَوَازُ تَزْكِيَتِهِنَّ انْتَهَى .

( الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) : فِيهِ جَوَازُ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ لَهُ بِذَلِكَ تَعَلُّقٌ كَسُؤَالِ الْإِنْسَانِ عَنْ زَوْجَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَعَنْ وَلَدِهِ الَّذِي يُرِيدُ تَرْبِيَتُهُ وَتَأْدِيبَهُ وَسُؤَالِ الْحَاكِمِ عَمَّنْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَالْمُحَدِّثُ عَمَّنْ يُرِيدُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ وَالْإِنْسَانُ عَمَّنْ يُرِيدُ مُصَاهَرَتَهُ أَوْ مُخَالَطَتَهُ أَوْ مُشَارَكَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ تَجَسُّسٌ وَفُضُولٌ .

( الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُهَا { فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ { فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : } وَفِيهِ خُطْبَةُ الْإِمَامِ النَّاسَ عِنْدَ نُزُولِ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَقَوْلُهَا { فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ : } مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ يَعْذِرُنِي فِيمَنْ آذَانِي فِي أَهْلِي } كَمَا بَيَّنْته فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَعْنَى { مَنْ يَعْذِرُنِي : } مَنْ يَقُومُ بِعُذْرِي إنْ كَافَأْته عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِ وَلَا يُمَنِّي وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ يَنْصُرُنِي وَالْعَذِيرُ النَّاصِرُ وَفِيهِ اشْتِكَاءُ وَلِيِّ الْأَمْرِ إلَى الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْتَرِضُ لَهُ بِأَذًى فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَاعْتِذَارُهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّبَهُ بِهِ .

( الثَّالِثَةَ وَالْأَرْبَعُونَ ) : فِيهِ فَضَائِلُ ظَاهِرَةٌ لِصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِمَا شَهِدَ وَبِفِعَالِهِ الْجَمِيلِ فِي إرْكَابِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحُسْنِ أَدَبِهِ فِي جُمْلَةِ الْقَضِيَّةِ .
.

( الرَّابِعَةَ وَالْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُهَا { فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ أَعْذُرُك مِنْهُ : } كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَيْ أَنَا أَعْذُرُك مِنْهُ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا مُشْكَلٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ سِتٍّ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَاتَ فِي أَثَرِ غُزَاةِ الْخَنْدَقِ مِنْ الرَّمْيَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السِّيَرِ إلَّا شَيْئًا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَحْدَهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ بَعْضُ شُيُوخُنَا ذِكْرُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي هَذَا وَهْمٌ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ غَيْرُهُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيَرِ وَإِنَّمَا قَالَ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَوَّلًا وَآخِرًا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْخَنْدَقِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ اخْتِلَافَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَابْنِ عُقْبَةَ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ الْمُرَيْسِيعَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ قَالَ وَكَانَتْ الْخَنْدَقُ وَقُرَيْظَةُ بَعْدَهَا وَذَكَرَ إسْمَاعِيلُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْمُرَيْسِيعُ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَقَالَ الْقَاضِي ، وَهَذَا لِذِكْرِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَكَانَتْ فِي الْمُرَيْسِيعِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ فِيهِ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلُ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي وَقْتِ الْمُرَيْسِيعِ أَصَحُّ ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي حَكَاهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ قَالَ وَهُوَ صَحِيحٌ ( قُلْت ) : وَقَدْ سَبَقَ الْقَاضِي إلَى ذَكَرِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةَ وَالْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُهَا { فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ : } كَذَا فِي رِوَايَتِنَا اجْتَهَلَتْهُ بِالْجِيمِ وَالْهَاءِ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُعْظَمِ رُوَاةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمَعْنَاهُ اسْتَخَفَّتْهُ وَأَغْضَبَتْهُ وَحَمَلَتْهُ عَلَى الْجَهْلِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { احْتَمَلَتْهُ : } بِالْحَاءِ وَالْمِيمِ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ وَصَالِحٌ وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَعْنَاهُ أَغْضَبَتْهُ فَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ .
( السَّادِسَةَ وَالْأَرْبَعُونَ ) : فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنِ حَضِير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَبَيْنَ السَّعْدَيْنِ مَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَاَللَّهُ يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ أَنَّ التَّعَصُّبَ فِي الْبَاطِلِ يَخْرُجُ عَنْ اسْمِ الصَّلَاحِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ { فَاحْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا : } الصَّلَاحُ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ حُقُوقِ عِبَادِهِ قَالَ وَفِيهِ جَوَازُ سَبِّ الْمُتَعَصِّبِ فِي الْبَاطِلِ وَالْمُتَكَلِّمِ بِنُكُرِ الْقَوْلِ وَالْإِغْلَاظِ فِي سَبِّهِ بِمَا يُشْبِهُ صِفَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقِيقَةٌ لِقَوْلِ أُسَيْدٍ { كَذَبْت إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : } .
وَحَاشَا سَعْدًا مِنْ النِّفَاقِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ ظَاهِرِ التَّعَصُّبِ لِابْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ عَرَّضَ لَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْغَلِيظِ .
وَقَالَ الدَّاوُدِيِّ إنَّمَا أَنْكَرَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مِنْ قَوْلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ تَحَكُّمُهُ فِي قَوْمِهِ بِحُكْمِ أَنَفَةِ الْعَرَبِ وَمَا كَانَ قَدِيمًا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ لَا أَنَّهُ رَضِيَ فِعْلَ ابْنِ أُبَيٍّ وَقَوْلُهُ { كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ : } أَيْ لَا يَجْعَلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهُ إلَيْك ( قُلْت ) : الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ ابْنَ مُعَاذٍ لَمْ يَقُلْ

هَذَا الْكَلَامَ أَنَفَةً لِمَا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِإِخْلَاصٍ نَصْرًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَانْظُرْ إنْصَافَهُ فِي تَقْدِيمِهِ ذِكْرَ قَوْمِهِ الْأَوْسَ وَجَزْمِهِ بِضَرْبِ عُنُقِهِ إنْ كَانَ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ فِي الْخَزْرَجِ الَّذِينَ لَيْسُوا قَوْمَهُ { أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَك : } .
وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْإِنْصَافِ وَلَا يَتَوَقَّفُ أَحَدٌ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ حَتْمٌ لَازِمٌ { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا : } وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُبَادَةَ { لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ : } فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَمِيَّةً وَلَا انْتِصَارًا لِابْنِ أُبَيٍّ كَيْفَ وَابْنُ أُبَيٍّ مِنْ الْخَزْرَجِ وَابْنُ مُعَاذٍ لَمْ يَقُلْ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا وَعَدَ بِقَتْلِ الْأَوْسِيِّ ، وَهَذَا يُحَقِّقُ أَنَّ ابْنَ عُبَادَةَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَمِيَّةً وَلَوْ كَانَتْ هُنَاكَ حَمِيَّةٌ لَمَا وَجَبَهَا لِرَهْطِ ابْنِ مُعَاذٍ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ قَوْمَهُ يَمْنَعُونَهُ مِنْهُ ، حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ لَا تَقُلْ مَا لَا تَفْعَلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ لِعَدَمِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَنْتَ لَا يُمْكِنُك إلَّا الْوُقُوفَ عِنْدَهُ وَلَوْ لَمْ تَقِفْ لَمَنَعَك أَصْحَابُك وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ مُعَاذٍ فِي الْخَزْرَجِ فَأَمْرٌ لَا يَقْبَلُ النِّزَاعَ .
وَهَذَا مَخْلَصٌ حَسَنٌ هُدَانَا اللَّهُ لَهُ وَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَفِي آخَرِ كَلَامِ الدَّاوُدِيِّ إشَارَةٌ إلَى بَعْضِهِ

حَيْثُ قَالَ أَيْ لَا يَجْعَلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهُ إلَيْك لَكِنْ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ مَا لَا يُرْضِي ( فَإِنْ قُلْت ) : هَذَا يُخَالِفُ مَا فَهِمَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَتْ { وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ } ( قُلْت ) : كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَاءَ حِجَابٍ وَمُنْزَعِجَةَ الْخَاطِرِ لِمَا دَهَمَهَا مِنْ الْخَطْبِ الْعَظِيمِ وَالِاخْتِلَاقِ الْجَسِيمِ عَلَيْهَا فَقَدْ يَقَعُ فِي فَهْمِهَا لِبَعْضِ مَا وَقَعَ مَا يَكُونُ غَيْرُهُ أَرْجَحَ مِنْهُ .
( فَإِنْ قُلْت ) : نَزَّهْت سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِالتَّعَرُّضِ لِعَائِشَةَ ( قُلْت ) : حَاشَ لِلَّهِ مَا ذَكَرْته فِي عَائِشَةَ لَا يَقْدَحُ فِي شَيْءٍ مِنْ جَلَالَتِهَا ، وَالْخَطَأُ جَائِزٌ عَلَى الْبَشَرِ لَا سِيَّمَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْمَقْصُودِ فَقَدْ يَقَعُ الْخَلَلُ فِي فَهْمِهِ وَقَدْ قَالَتْ هِيَ فِي حَقِّ ابْنِ عُمَرَ { مَا كَذَبَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ وَلَا سِيَّمَا } وَلَيْسَ هَذَا خَطَأً فِي فَهْمِ كَلَامِ النُّبُوَّةِ وَلَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ الْآحَادِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ .
وَأَمَّا حَمْلُ كَلَامِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى مَا حَمَلُوهُ عَلَيْهِ فَهُوَ شَدِيدٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا لَا أَتَفَوَّهُ بِهِ .
( فَإِنْ قُلْت ) : وَهَذَا يُخَالِفُ فَهْمَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حَاضِرٌ مَعَ الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ وَلَا انْزِعَاجٍ قُلْت إنَّمَا انْتَصَرَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَلَامِ ابْنِ مُعَاذٍ وَسَاعَدَهُ عَلَى قَتْلِ الْقَائِلِ لِهَذَا الْكَلَامِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ وَقَالَ : إنَّهُمَا قَادِرَانِ عَلَى قَتْلِهِ وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ شِدَّةُ نُصْرَتِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي طَلَبَ فِيهَا مَنْ يَعْذِرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُبَادَةَ ظَاهِرَ لَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ لِبَاطِنِهِ مُخْلَصٌ حَسَنٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَابَ عَنْ أُسَيْدٍ ذَلِكَ

الْمُخْلَصُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَهُ وَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُبَادَةَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَكَمْ مِنْ لَفْظٍ يُنْكَرُ إطْلَاقُهُ عَلَى قَائِلِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَهُ مُخْلَصٌ فَهَذَا مَا سَمَحَ بِهِ الْخَاطِرُ فِي تَنْزِيهِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : قَوْلُ أُسَيْدٍ لِسَعْدٍ { يَا مُنَافِقُ } .
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمْثَالِهِ إذَا وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِمْ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ أُسَيْدًا إنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ وَبَالَغَ فِي زَجْرِ سَعْدٍ وَلَمْ يُرِدْ النِّفَاقَ الَّذِي هُوَ إظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبْطَانُ الْكُفْرِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ سَعْدًا كَانَ يُظْهِرُ لَهُ وَلِلْأَوْسِ مِنْ الْمَوَدَّةِ مَا يَقْتَضِي عِنْدَهُ أَنْ لَا يَقُولَ فِيهِمْ مَا قَالَ فَلَاحَ لَهُ أَنَّ بَاطِنَهُ فِيهِمْ خِلَافُ مَا ظَهَرَ وَالنِّفَاقُ فِي اللُّغَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى إظْهَارِ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ دِينًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجَلِ هَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إنْ كَانَ سَمِعَ قَوْلَهُ هَذَا انْتَهَى .
وَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ إنْكَارَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَزْرَجِ وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوْسِ وَجَزْمُهُ بِقَتْلِ الْقَائِلِ إنْ كَانَ مِنْهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : أَرَادَ أَنَّك تَفْعَلُ فِعْلَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُرِدْ النِّفَاقَ الْحَقِيقِيَّ .

( السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُهَا { فَثَارَ الْحَيَّانِ : } هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ تَنَاهَضُوا لِلنِّزَاعِ وَالْعَصَبِيَّةِ كَمَا قَالَتْ { حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا } وَقَوْلُهَا { فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ : } فِيهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى قَطْعِ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ وَتَسْكِينِ الْغَضَبِ .
.

( الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُهَا { فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ : } فِيهِ ابْتِدَاءُ الْخُطَبِ وَالْكَلَامِ الْمُهِمِّ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ( التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) : قَوْلُهَا : { ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ : يَا عَائِشَةُ ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْك كَذَا وَكَذَا : } فِيهِ أَنَّ الْخَطِيبَ وَالْمُتَكَلِّمَ بِالْمُهِمِّ يَأْتِي بَعْدَ الْحَمْدِ وَالشَّهَادَتَيْنِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَهِيَ أَمَّا بَعْدُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ وَأَصْلُهُ بَعْدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَمْدِ وَالشَّهَادَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ إلَى آخِرِ الْكَلَامِ وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَجَمَعَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَوْرَاقًا وَقَوْلُهُ { كَذَا وَكَذَا : } هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ مِنْ الْإِفْك ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَذَا وَكَذَا يُكَنَّى بِهِ عَنْ الْأَحْوَالِ كَمَا يُكَنَّى بِهِ عَنْ الْأَعْدَادِ .

( الْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَإِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ : } مَعْنَاهُ فَعَلْت ذَنْبًا وَلَيْسَ ذَلِكَ لَك بِعَادَةٍ ، وَهَذَا أَصْلُ اللَّمَمِ وَهُوَ مِنْ الْإِلْمَامِ وَهُوَ النُّزُولُ النَّادِرُ غَيْرُ الْمُتَكَرِّرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا : أَيْ مَتَى يَقَعُ مِنْك هَذَا النَّادِرُ وَقَوْلُهُ { فَاسْتَغْفِرِي : اللَّهَ ثُمَّ تُوبِي إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ : } فِيهِ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَالْحَثُّ عَلَيْهَا ، وَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِرَافِ لَا يُغْنِي عَنْ التَّوْبَةِ بَلْ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ مُتَفَصِّلًا نَادِمًا وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاعْتِرَافَ بِذَلِكَ لِلنَّاسِ بَلْ الِاعْتِرَافُ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ وَأَمَّا قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ إنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِنَّ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ الِاعْتِرَافُ بِمَا يَكُونُ مِنْهُنَّ إذْ لَا يَحِلُّ لِلنَّبِيِّ إمْسَاكُهُنَّ وَهُنَّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَقَدْ رَدَّهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مُنَزَّهَاتٌ عَنْ صُدُورِ الْفَاحِشَةِ مِنْهُنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهَا { فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي : } هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ أَيْ ارْتَفَعَ وَقَدْ أَوْضَحَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا { حَتَّى مَا أَحُسُّ مِنْهُ قَطْرَةً : } وَذَلِكَ لِاسْتِعْظَامِ مَا بَغَتَهَا مِنْ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ الْحُزْنَ قَدْ انْتَهَى نِهَايَتَهُ وَبَلَغَ غَايَتَهُ وَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ جَفَّ الدَّمْعُ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ عَيْنَيَّ شُحَّا أَوْ لَا تَشُحَّا جَلَّ مُصَابِي عَنْ الدَّوَاءِ أَنَّ الْأَسَى وَالْبُكَا جَمِيعًا ضِدَّانِ كَالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ .
( الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهَا لِأَبَوَيْهَا { أَجِيبَا عَنِّي : } فِيهِ تَفْوِيضُ الْكَلَامِ إلَى الْكِبَارِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِهِ وَاللَّائِقِ بِالْمَوَاطِنِ مِنْهُ وَأَبَوَاهَا يَعْرِفَانِ حَالَهَا وَأَمَّا قَوْلُ أَبَوَيْهَا { لَا نَدْرِي مَا نَقُولُ } فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي سَأَلْتهمَا عَنْهُ لَا يَقِفَانِ مِنْهُ عَلَى زَائِدٍ عَلَى مَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِهَا وَالسَّرَائِرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْعَاقُولِيِّ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا بُنَيَّةَ وَكَيْفَ أَعْذُرُك بِمَا لَا أَعْلَمُ وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْت مَا لَا أَعْلَمُ ، .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا لَمَّا أُنْزِلَ عُذْرُهَا قَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَهَا فَقَالَتْ أَلَا عَذَرْتَنِي فَقَالَ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ قُلْت مَا لَا أَعْلَمُ .
.

( الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : فِيهِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ لِقَوْلِهَا مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ جَمِيلٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَكَذَا فِي رِوَايَتِنَا { صَبْرٌ جَمِيلٌ } بِدُونِ فَاءٍ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ بِالْفَاءِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ : } قَالُوا وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فِي حُكْمِ الِانْفِصَالِ ، فَإِنَّهُ كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ وَقَوْلُهُ { صَبْرٌ جَمِيلٌ } : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَخْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرِي أَوْ صَبْرِي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ .

( الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهَا { وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي بِأَمْرٍ يُتْلَى } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَنْزِلَةِ احْتِقَارُ أَنْفُسِهِمْ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَتَحْوِيرِ النَّظَرِ إلَى لُطْفِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَرْمِهِ وَقَدْ اغْتَرَّ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ بِالْأَعْمَالِ فَلَاحَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَيْنِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَاتِ وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِلِقَائِهِمْ وَيُغْتَنَمُ صَالِحُ دُعَائِهِمْ وَأَنَّهُ يَجِبُ احْتِرَامُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ وَيَرَوْنَ أَنَّ لَهُمْ مِنْ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِحَيْثُ يَنْتَقِمُ لَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَقِصُهُمْ فِي الْحَالِ ، وَأَنْ يَأْخُذَ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إمْهَالٍ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا نَتَائِجُ الْجَهْلِ .
( الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهَا { مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ : } أَيْ مَا فَارَقَهُ يُقَالُ رَامَهُ يَرِيمُهُ رَيْمًا أَيْ بَرِحَهُ وَلَازَمَهُ وَأَمَّا رَامَ بِمَعْنَى طَلَبَ فَيُقَالُ مِنْهُ رَامَ يَرُومُ رَوْمًا .
( السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهَا { فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ : } هِيَ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ وَهِيَ الشِّدَّةُ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا بَرْحٌ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَقَوْلُهَا { حَتَّى إنَّهُ لَيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ : } مَعْنَى { لَيَتَحَدَّرُ : } لَيَتَصَبَّبُ وَهُوَ بِالتَّاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قِيلَ لَيَنْحَدِرُ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِهَا وَ { الْجُمَانُ : } بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَآخِرُهُ نُونٌ هُوَ الدُّرُّ شَبَّهَتْ قَطَرَاتِ عَرَقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَبَّاتِ اللُّؤْلُؤِ فِي الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ وَقَوْلُهَا {

فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : } بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ كُشِفَ وَأُزِيلَ .
.

( السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ : } فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُبَادَرَةِ لِتَبْشِيرِ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ انْدَفَعَتْ عَنْهُ بَلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ .
.

( الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهُ { أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَك : } أَيْ بِمَا أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَصَارَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ الْإِفْكِ بَرَاءَةً قَطْعِيَّةً بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَوْ شَكَّ فِيهَا إنْسَانٌ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى صَارَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَلْ يَكُونُ قَذْفُهَا كُفْرًا فِيهِ قَوْلَانِ فَمَنْ قَالَ بِالتَّكْفِيرِ نَظَرَ إلَى مَا فِيهِ مِنْ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ لَمْ يَرَ فِيهِ مُخَالَفَةَ قَاطِعٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ لَمْ تَزْنِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ قَطُّ ، وَهَذَا إكْرَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ .
( التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) : قَوْلُهَا { فَقَالَتْ لِي أُمِّي قَوْمِي إلَيْهِ ، فَقُلْت وَاَللَّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي : } مَعْنَاهُ قَالَتْ لَهَا أُمُّهَا قَوْمِي فَاحْمَدِيهِ وَقَبِّلِي رَأْسَهُ وَاشْكُرِيهِ لِنِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي بَشَّرَك بِهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ : مَا قَالَتْ إدْلَالًا عَلَيْهِمْ وَعَتَبًا لِكَوْنِهِمْ شَكُّوا فِي حَالِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِحُسْنِ طَرَائِقِهَا وَجَمِيلِ أَحْوَالِهَا وَارْتِفَاعِهَا عَنْ هَذَا الْبَاطِلِ الَّذِي افْتَرَاهُ قَوْمٌ ظَالِمُونَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ فِيهِ قَالَتْ : وَإِنَّمَا أَحْمَدُ رَبِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِمَا لَمْ أَكُنْ أَتَوَقَّعُهُ كَمَا قَالَتْ { وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بِأَمْرٍ يُتْلَى : } .
.

( السِّتُّونَ ) : قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } أَيْ لَا يَحْلِفُ الْأَوْلِيَةُ الْحَلِفَ يُقَالُ آلَى يُولِي وَائْتَلَى يَأْتَلِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَالْفَضْلُ هُنَا الْمَالُ وَالسَّعَةُ فِي الْعَيْشِ وَالرِّزْقِ ( قُلْت ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْإِفْضَالُ وَالْإِعْطَاءُ وَالتَّصْدِيقُ ، وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَلِيقُ بِالسَّعَةِ وَيُوَافِقُ مَا ذَكَرْتُهُ ، قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ : } الْآيَةُ انْتَهَى .
وَلَوْ أُرِيدَ بِالْفَضْلِ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ لَهُ .
.

( الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَإِنْ كَانُوا مُسِيئِينَ وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنْ الْمُسِيءِ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .

( الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ ) : قَوْلُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي : } أَيْ أَصُونُ سَمْعِي مِنْ أَنْ أَقُولَ سَمِعْت وَلَمْ أَسْمَعْ وَبَصَرِي مِنْ أَنْ أَقُولَ أَبْصَرْت وَلَمْ أُبْصِرْ وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَحْمِيهِمَا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ بِذَلِكَ ( الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ ) : قَوْلُهَا { وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي : } بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تُفَاخِرُنِي وَتُضَاهِينِي بِجَمَالِهَا وَمَكَانَتِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُفَاعِلَةٌ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِزَيْنَبِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ .
( الرَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ ) : قَوْلُهَا { وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ } هِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ وَ ( طَفِقَ ) : مِنْ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ وَالْمَشْهُورُ كَسْرُ فَائِهِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَقَوْلُهَا { تُحَارِبُ لَهَا : } أَيْ تَتَعَصَّبُ لَهَا فَتَحْكِي مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِفْكِ نُصْرَةً لِأُخْتِهَا لِتَعْلُوَ مَنْزِلَتُهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَقَوْلُهَا { فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ : } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ حُدَّتْ حَدَّ الْقَذْفِ فِيمَنْ حُدَّ انْتَهَى .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ الْإِثْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ ) : هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَوَصَلَهَا مُسْلِمٌ هِيَ عِنْدَهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فَقَوْلُهَا { وَكَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ وَحَسَّانُ : } يَجُوزُ رَفْعُ مِسْطَحٍ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى اسْمِيَّةِ كَانَ وَنَصْبُهَا عَلَى الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى مُسْتَقِيمٌ عَلَيْهِمَا مَعًا وَقَدْ ضَبَطَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِالْوَجْهِ الثَّانِي { وَقَوْلُهَا وَأَمَّا الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَهُوَ الَّذِي كَانَ

يَسْتَوْشِيهِ : } هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَإِسْكَانِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَسْتَخْرِجُهُ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ ثُمَّ يُفْشِيهِ وَيُشِيعُهُ وَيُحَرِّكُهُ وَلَا يَدَعُهُ يَخْمُدُ يُقَالُ فُلَانٌ يَسْتَوْشِي فَرَسَهُ أَيْ يَطْلُبُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْجَرْيِ وَيَسْتَخْرِجُهُ .
.

( السَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ ) : وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا { فَلَمَّا نَزَلَ مِنْ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ } عَزَاهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَبَيَّنَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ تَصْرِيحُ ابْنِ إِسْحَاقَ بِالتَّحْدِيثِ فَزَالَ بِذَلِكَ مَا يُخْشَى مِنْ تَدْلِيسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ قَبُولُ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ إلَّا أَنَّهُ مُدَلِّسٌ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ كَانَ حَدِيثُهُ مَقْبُولًا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرَةَ مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { فَأَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ مِمَّنْ تَكَلَّمَ بِالْفَاحِشَةِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ } قَالَ النُّفَيْلِيُّ وَيَقُولُونَ : الْمَرْأَةُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَفِي كِتَابِ الطَّحَاوِيِّ { ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ : } ( السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ ) : قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَفِيهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْعَارِفِينَ قِيلَ وَفِيهِ تَرْكُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ مَنَعَةٌ وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ إقَامَتِهِ تَفْرِيقُ كَلِمَةٍ وَظُهُورُ فِتْنَةٍ كَمَا لَمْ يُحَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَكَانَ رَأْسُ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَمُتَوَلِّيَ كِبْرَهُ وَعِنْدِي أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ { كَانَ يُشَاعُ عِنْدَهُ فَيُقِرُّهُ وَيَسْمَعُهُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِنْدَهُ وَيَسْتَوْشِيهِ } وَمِثْلُ هَذَا لَا يَلْزَمُهُ حَدٌّ عِنْدَ الْجَمِيعِ حَتَّى يَقْذِفَ بِنَفْسِهِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الظَّاهِرُ مِنْ الْأَخْبَارِ أَنَّ ابْنَ أُبَيٍّ لَمْ يُحَدَّ وَإِنَّمَا لَمْ يُحَدَّ عَدُوُّ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ لَهُ فِي

الْآخِرَةِ عَذَابًا عَظِيمًا فَلَوْ حُدَّ فِي الدُّنْيَا لَكَانَ نَقْصًا مِنْ عَذَابِهِ الْأُخْرَوِيِّ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ { وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ : } مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ وَبِكَذِبِ كُلِّ مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ حَصَلَتْ فَائِدَةُ الْحَدِّ أَوْ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ وَبَرَاءَةِ الْمَقْذُوفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ : } وَإِنَّمَا حُدَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ لِيُكَفَّرَ عَنْهُمْ إثْمُ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ الْقَذْفِ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِمْ تَبِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدُودِ إنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ } وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ حَدَّهُ اسْتِئْلَافًا لِقَوْمِهِ وَاحْتِرَامًا لِابْنِهِ وَإِطْفَاءً لِثَائِرَةِ الْفِتْنَةِ الْمُنْدَفِعَةِ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
( قُلْت ) : لَمَّا تَوَقَّفَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى طَلَبِ الْمَقْذُوفِ سَهُلَ الْخَطْبُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تُقَامُ وَلَا بُدَّ فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ تَصْرِيحُ ابْنِ أُبَيٍّ بِالْقَذْفِ لَمْ تُطَالِبْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالْحَدِّ إمَّا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَإِمَّا لِطَلَبِ تَغْلِيظِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْرِيرِ طَلَبِ عَائِشَةَ حَدَّ الْمَحْدُودِينَ لِمَا بَيِّنَاهُ مِنْ أَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ لَا يُقَامُ إلَّا بِطَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ عَنْ { عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنِّي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً فَآلَيْت أَنْ أَقُولَهَا لَك زَعَمُوا أَنَّك غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَهُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْفَظُ دِينَهُ وَإِنِّي لَا أَسْتَخْلِفُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ اسْتَخْلَفَ ، قَالَ فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْدِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ } زَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ : زَعَمُوا أَنَّك غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ ( وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَك رَاعِي إبِلٍ أَوْ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ إنَّهُ جَاءَك وَتَرَكَهَا ، رَأَيْت أَنْ قَدْ ضَيَّعَ ، فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ ، قَالَ فَوَافَقَهُ قَوْلِي ) : وَلَهُمَا فِي رِوَايَةٍ ( وَدِدْت أَنِّي نَجَوْت مِنْهَا كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ ، لَا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا ) : .

بَابُ الْإِمَامَةِ وَالْإِمَارَةِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ { عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنِّي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً فَآلَيْت أَنْ أَقُولَهَا لَك ، زَعَمُوا أَنَّك غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَهُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْفَظُ دِينَهُ وَإِنِّي إنْ لَا أَسْتَخْلِفُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ اسْتَخْلَفَ قَالَ ، فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْدِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ : } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ وَفِيهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ ( زَعَمُوا أَنَّك غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَك رَاعِي إبِلٍ أَوْ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ أَنَّهُ جَاءَك وَتَرَكَهَا رَأَيْت أَنْ قَدْ ضَيَّعَ فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ ؛ قَالَ فَوَافَقَهُ قَوْلِي ) : وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ( حَضَرْت أَبِي حِينَ أُصِيبَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَقَالَ رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ فَقَالُوا اسْتَخْلَفَ فَقَالَ أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا لَوَدِدْت أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي ) : وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ ، لَفْظُ مُسْلِمٍ ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ ( وَدِدْت بِأَنِّي نَجَوْت مِنْهَا كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ لَا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا ) : .
( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ ( فَآلَيْت ) : أَيْ حَلَفْت وَفِيهِ تَلَطُّفٌ مَعَهُ لِهَيْبَتِهِ وَأَنَّهُ لَوْلَا تَوَرُّطُهُ فِي الْيَمِينِ لَمَا جَسَرَ عَلَيْهِ

بِمُخَاطَبَتِهِ فِي ذَلِكَ ( الثَّالِثَةُ ) : إنْ قُلْت كَيْفَ يَجْتَمِعُ قَوْلُهُ ( فَوَافَقَهُ قَوْلِي ) : مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا قَالَ ( قُلْت ) : لَمَّا وَافَقَهُ قَوْلُهُ وَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةَ لِيَتَرَوَّى فِي ذَلِكَ فَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بَعْدَ التَّرَوِّي عَلَى أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ لَهُ فِيهِ سَلَفٌ صَالِحٌ وَإِنَّ تَرْكَهُ أَرْجَحُ لِلِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ وَتَرْكُهُ وَعَلَى انْعِقَادِ الْخِلَافَةِ .
بِالِاسْتِخْلَافِ وَعَلَى انْعِقَادِهَا بِعَقْدِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِإِنْسَانٍ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ الْخَلِيفَةُ وَعَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْخَلِيفَةُ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ جَمَاعَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسِّتَّةِ .

( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ { وَإِنِّي إنْ لَا أَسْتَخْلِفُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ : } قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَمْ يُسَمِّ رَجُلًا بِعَيْنِهِ لِلْخِلَافَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُرْشِدْ إلَيْهِ وَأَهْمَلَ الْأَمْرَ بِلَا رَاعٍ يَرْعَاهُمْ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } فَكَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِإِمَامٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَلِذَلِكَ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْضُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دَفْنِهِ وَتَجْهِيزِهِ حَتَّى أَحْكَمُوا أَمْرَ الْبَيْعَةِ وَنَصَّبُوا أَبَا بَكْرٍ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَانَ فِعْلُهُمْ صَادِرًا عَنْهُ وَمُضَافًا إلَيْهِ .
وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الْخِلَافَةِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إمَامٍ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ وَيُمْضِي فِيهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَرْدَعُهُمْ عَنْ الشَّرِّ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّفَاسُدِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَضِيَّةُ مَوْتِهِ وَنَصْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمِيرًا بَعْدَ أَمِيرٍ ، وَهَذَا اتِّفَاقُ الْأَمَةِ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا الْخَوَارِجُ وَالْمَارِقَةُ الَّذِينَ شَقُّوا الْعَصَا وَخَلَعُوا رِبْقَةَ الطَّاعَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجِبُ نَصْبُ خَلِيفَةٍ فَبَاطِلٌ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي بَقَاءِ الصَّحَابَةِ بِلَا خِلَافَةٍ فِي مُدَّةِ التَّشَاوُرِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ وَأَيَّامَ الشُّورَى بَعْدَ وَفَاةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِنَصْبِ الْخَلِيفَةِ بَلْ كَانُوا سَاعِينَ فِي النَّظَرِ فِيمَنْ يُعْقَدُ لَهُ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ نَصْبَ الْخَلِيفَةِ وَاجِبٌ بِالْعَقْلِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَفَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَا

يُحَسِّنُهُ وَلَا يُقَبِّحُهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ لَا بِذَاتِهِ .
( الْخَامِسَةُ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى خَلِيفَةٍ وَهُوَ إجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَخَالَفَ بَكْرُ بْنُ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَزَعَمَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ نَصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ ؛ وَقَالَتْ الشِّيعَةُ وَالرَّافِضَةُ عَلَى عَلِيٍّ ، وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ وَجَسَارَةٌ عَلَى الِافْتِرَاءِ وَوَقَاحَةٌ فِي مُكَابَرَةِ الْحِسِّ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى اخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى تَنْفِيذِ عَهْدِهِ إلَى عُمَرَ وَعَلَى تَنْفِيذِ عَهْدِ عُمَرَ إلَى الشُّورَى وَلَمْ يُخَالِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَمْ يَدْعُ عَلِيٌّ وَلَا الْعَبَّاسُ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَصِيَّةً فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَات وَقَدْ اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ عَلَى جَمِيعِ هَذَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ ذِكْرِ وَصِيَّةٍ لَوْ كَانَتْ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَصِيَّةٌ فَقَدْ نَسَبَ الْأَمَةَ إلَى اجْتِمَاعِهَا عَلَى الْخَطَأِ وَاسْتِمْرَارِهَا عَلَيْهِ وَكَيْفَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنْ يَنْسِبَ الصَّحَابَةَ إلَى الْمُوَاطَأَةِ عَلَى الْبَاطِلِ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ لَنُقِلَ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ انْتَهَى .
( قُلْت ) : لَمْ يَقَعْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا إشَارَاتٌ لَا تَنْصِيصَ فِيهَا ( مِنْهَا ) : تَقْدِيمُهُ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ أَحَدُ وَظَائِفِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَ ( قَوْلُ ) : { يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ } وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا وَ ( مِنْهَا ) : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ

لَمَّا قَالَتْ لَهُ أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْك تَعْنِي الْمَوْتَ ائْتِ أَبَا بَكْرٍ } .
( السَّادِسَةُ ) : قَوْلُهُ ( فَعَلِمْت أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ ) : أَيْ عَلَى التَّعْيِينِ لَكِنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ الْأَمْرَ وَلَمْ يُبْطِلْ الِاسْتِخْلَافَ بَلْ جَعَلَهُ شُورَى فِي قَوْمٍ مَعْدُودِينَ لَا يَعْدُوهُمْ فَكُلُّ مَنْ قَامَ بِهَا مِنْهُمْ كَانَ رِضًى وَلَهَا أَهْلًا فَاخْتَارُوا عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَقَدُوا لَهُ الْبَيْعَةَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْت أَنِّي أَنْزِعُ عَلَى حَوْضٍ أَسْقِي النَّاسَ فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدَيْ لَيُرَوِّحَنِّي فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ ، قَالَ فَأَتَانِي ابْنُ الْخَطَّابِ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا فَلَمْ يَنْزِعْ لَهُ رَجُلٌ حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ : } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْت أَنِّي أَنْزِعُ عَلَى حَوْضٍ أَسْقِي النَّاسَ فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدَيَّ لَيُرَوِّحَنِّي فَنَزَعَ دَلْوَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ قَالَ فَأَتَانِي ابْنُ الْخَطَّابِ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا فَلَمْ يَنْزِعْ رَجُلٌ نَزْعَهُ حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا .
الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ وَأَبِي يُونُسَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ { أَنْزِعُ : } بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ أَسْقِي وَأَصْلُ النَّزْعِ الْجَذْبُ وَقَوْلُهُ { عَلَى حَوْضٍ : } كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { عَلَى قَلِيبٍ } وَهِيَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ يُسَمَّى الْقَلِيبُ حَوْضًا ، فَإِنَّ الْحَوْضَ مُجْتَمَعُ الْمَاءِ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدَيَّ لَيُرَوِّحَنِّي : } قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نِيَابَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ وَخِلَافَتُهُ بَعْدَهُ وَرَاحَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَفَاتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ : } وَ { الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ : } .
{ وَلَا كَرْبَ عَلَى أَبِيك بَعْدَ الْيَوْمَ : } وَالدَّلْوُ فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ .
( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ { فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ : } الذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ وَآخِرُهُ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ الدَّلْوُ الْمَمْلُوءَةُ وَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى مِقْدَارِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا قَوْلُهُ { وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ : } هُوَ بِضَمِّ الضَّادِ

وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَطٌّ مِنْ فَضِيلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا إثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعُمَرَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ مُدَّةِ وِلَايَتِهِمَا وَكَثْرَةُ انْتِفَاعِ النَّاسِ وَفِي وِلَايَةِ عُمَرَ لِطُولِهَا وَلِاتِّسَاعِ الْإِسْلَامِ وَبِلَادِهِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا وَكَثْرَةِ الْغَنَائِمِ وَالْفُتُوحَاتِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي مَصَّرَ الْأَمْصَارَ وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ .
.

( الْخَامِسَةُ ) : قَوْلُهُ { فَأَتَانِي ابْنُ الْخَطَّابِ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ : } كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالْمَشْهُورُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مَقُولٌ فِي الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَنْقِيصٌ لِمَنْ قِيلَ فِيهِ ذَلِكَ ، وَلَا إشَارَةٌ إلَى ذَنْبٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُدَعِّمُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ وَنِعْمَتْ الدِّعَامَةُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَهَا افْعَلْ كَذَا وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَك ؛ وَهَذَا كَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ تَرِبَتْ يَمِينُهُ وَقَاتَلَهُ اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ وَجَازَاهُ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْأَمَةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُدَّةَ الصِّدِّيقِ قَصِيرَةً قَالَ { وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ : } أَيْ يَرْضَى عَنْهُ فَيُعْطِيهِ ثَوَابَ طُولِ مُدَّةٍ وَأَكْثَرَ عَمَلٍ وَكَيْفَ تَكُونُ مُدَّتُهُ قَصِيرَةً وَمُدَّةُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَكَذَلِكَ الْوُلَاةُ الْعُدُولُ بَعْدَهُ .
السَّادِسَةُ ) : قَوْلُهُ { فَلَمْ يَنْزِعْ رَجُلٌ } كَذَا فِي رِوَايَتِنَا وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَلَمْ يَنْزِعْ رَجُلٌ نَزْعَهُ وَكَذَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ .
( السَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ { حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ } أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ أَخْذِ الْمَاءِ لِفَرَاغِ حَوَائِجِهِمْ وَاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُ وَقَوْلُهُ { وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ : } بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ .
( الثَّامِنَةُ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْمَقَامُ مِثَالٌ وَاضِحٌ لِمَا جَرَى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِمَا وَحُسْنِ سِيرَتَهُمَا وَظُهُورِ آثَارِهِمَا وَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتِهِ وَآثَارِ صُحْبَتِهِ

فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَاحِبُ الْأَمْرِ فَقَامَ بِهِ أَكْمَلَ قِيَامٍ وَقَرَّرَ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَمَهَّدَ أُمُورَهُ وَأَوْضَحَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي : } ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا وَحَصَلَ فِي خِلَافَتِهِ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقَطْعُ دَابِرِهِمْ وَاتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَخَلَفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاتَّسَعَ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِهِ وَتَقَرَّرَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فَعَبَّرَ بِالْقَلِيبِ عَنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ حَيَاتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَشَبَّهَ أَمِيرَهُمْ بِالْمُسْتَقِي لَهُمْ وَسَقْيُهُ هُوَ قِيَامُهُ بِمَصَالِحِهِمْ وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ وَفِي هَذَا إعْلَامٌ بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَصِحَّةِ وِلَايَتِهِمَا وَبَيَانِ صِفَتِهِمَا وَانْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ الْمَاءُ خَيْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْضَافَ إلَيْهِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ غَالِبِ أَمْرِهِ أَوْ عَنْ وَضْعِهِ فِي أَصْلِهِ وَالدَّلْوُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِهِ ضُرِبَ فِي الْمَنَامِ مَثَلًا لِلْحَظِّ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَنَا وَلَيْسَ تَقْدِيرُهُ بِالدَّلْوِ دَلِيلًا عَلَى صِغَرِ الْحَظِّ وَإِنَّمَا قَدَّرَ بِهِ عِبَارَةً عَنْ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ وَإِلَّا فَحَظُّنَا فِي الْخَيْرِ يَمْلَأُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ .
( التَّاسِعَةُ ) : الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ { حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ } عَائِدٌ إلَى خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَاصَّةَ وَقِيلَ يَعُودُ إلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَنَّهُ بِنَظَرِهِمَا وَتَدْبِيرِهِمَا وَقِيَامِهِمَا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ ؛

لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَمَعَ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَجَمَعَ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَلَّفَهُمْ وَابْتَدَأَ الْفُتُوحَ وَمَهَّدَ الْأُمُورَ وَتَمَّتْ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ وَتَكَامَلَتْ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( الْعَاشِرَةُ ) : وَفِي قَوْلِهِ { يَتَفَجَّرُ : } إشَارَةٌ إلَى اسْتِمْرَارِ بَقَاءِ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَزِيَادَةِ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مُتَّصِلَةً بَعْدَ وَفَاةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ كَانَ .
.

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِقُرَيْشٍ لَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِأَحَدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُمْ وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ أَوْ عَرَضَ بِخِلَافٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا هُوَ مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً قَالَ وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ .
قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِيهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ قَالَ وَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِ النَّظَّامِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ وَلَا بِسَخَافَةِ ضِرَارَ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ إنَّ غَيْرَ الْقُرَشِيِّ مِنْ النَّبَطِ وَغَيْرِهِمْ يُقَدَّمُ عَلَى الْقُرَشِيِّ لِهَوَانِ خَلْعِهِ إنْ عُرِضَ مِنْهُ أَمْرٌ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَ مِنْ بَاطِلِ الْقَوْلِ وَزُخْرُفِهِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قُرَشِيٌّ مُسْتَجْمِعُ الشُّرُوطِ فَكِنَانِيٌّ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنْ لَمْ

يُوجَدْ فِيهِمْ مُسْتَجْمِعُ الشَّرَائِطِ فَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيبِ إنَّهُ يُوَلَّى رَجُلٌ مِنْ الْعَجَمِ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ يُوَلَّى جُرْهُمِيٌّ وَجُرْهُمٌ أَصْلُ الْعَرَبِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ جُرْهُمِيٌّ فَرَجُلٌ مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قُلْت ) : وَهَذَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ كَعَادَتِهِمْ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ اثْنَانِ : } وَفِي رِوَايَةٍ { مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ : } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُسْتَمِرٌّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ آخِرَ الدُّنْيَا مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ اثْنَانِ وَقَدْ ظَهَرَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ زَمَنِهِ إلَى الْآنَ الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمَةٍ لَهُمْ فِيهَا وَتَبْقَى كَذَلِكَ مَا بَقِيَ اثْنَانِ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قُلْت ) : وَالْمُتَغَلَّبُونَ عَلَى النَّظَرِ فِي أُمُورِ الرَّغْبَةِ بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُمْ وَلَمَّا تَغَلَّبَ الْعُبَيْدِيُّونَ عَلَى الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْمَغْرِبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَادَّعُوا الْخِلَافَةَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنْ طَعَنَ غَيْرُهُمْ فِي نَسَبِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُونُوا خُلَفَاءَ الْجَمَاعَةِ فَمَا كَانَتْ خِلَافَةُ الْجَمَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بِبَغْدَادَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا خَبَرٌ عَنْ الْمَشْرُوعِيَّةِ أَيْ لَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ الْكُبْرَى إلَّا لَهُمْ مَهْمَا وُجِدَ مِنْهُمْ أَحَدٌ انْتَهَى .
وَهَذَا صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ

بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ : } هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ : } وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ رُؤَسَاءَ الْعَرَبِ وَأَصْحَابَ حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْلِ حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِمْ أَهْلَ اللَّهِ وَانْتَظَرُوا إسْلَامَهُمْ فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَفُتِحَتْ مَكَّةُ تَبِعَهُمْ النَّاسُ وَجَاءَتْ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ هُمْ أَصْحَابُ الْخِلَافَةِ وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَعَلَّ هَذَا فِي أَمْرِ الْجَوْرِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُصَلِّينَ وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ اسْمُ الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ حَالَتِهِمْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا أَشْرَافَ النَّاسِ وَقَادَتِهِمْ .

( الرَّابِعَةُ ) : قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اسْتَدَلَّتْ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ } وَقَوْلِهِ { قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تُقَدِّمُوهَا وَتَعْلَمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلَا تُعَلِّمُوهَا : } عَلَى إمَامَةِ الشَّافِعِيِّ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ إذْ الْمُرَادُ بِالْأَئِمَّةِ هُنَا الْخُلَفَاءُ وَكَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ .
{ وَلِتَقْدِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا مَوْلَى بْنِ حُذَيْفَةَ يُؤَمُّ فِي مَسْجِدِ قَبَاءَ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَتَقْدِيمُهُ زَيْدًا وَابْنَهُ أُسَامَةَ وَمُعَاذًا وَغَيْرَ وَاحِدٍ وَقُرَيْشٌ مَوْجُودُونَ } وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي التَّعْلِيمِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِ قُرَشِيٍّ وَمِنْ الْمَوَالِي وَتَعَلُّمُ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ وَتَعَلُّمُ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدِ بْنُ الْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي يَحْيَى وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِقُرَشِيٍّ قَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ حُجَّةٌ فِي مَزِيَّةَ قُرَيْشٍ عَلَى غَيْرِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ قُرَشِيٌّ ( قُلْت ) : قَدْ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى فَضْلِ قُرَيْشٍ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ظَاهِرٌ لَا يُنْكَرُ وَلَيْسَ مُرَادُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْفَضْلُ وَالتَّقَدُّمُ إلَّا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَيْضًا الْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ وَالْوَرَعُ وَالسُّنَنُ وَغَيْرُهَا فَالْمُسْتَوِيَانِ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ إذَا تَمَيَّزَ أَحَدُهُمَا بِكَوْنِهِ قُرَشِيًّا كَانَ ذَلِكَ مُقَدِّمًا لَهُ عَلَى الْآخَرِ فَمَقْصُودُهُمْ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَقْدِيمِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ سَاوَاهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِكَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكَرُ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنَّ

الْمُسْتَدِلَّ بِهَذَا صَحِبَتْهُ غَفْلَةٌ قَارَنَهَا مِنْ تَصْمِيمِ التَّقْلِيدِ طَيْشَةٌ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْغَفْلَةَ إنَّمَا هِيَ مِنْ مُنْكَرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ غَفَلَ عَنْ مُرَادِ الْمُسْتَنْبِطِ وَلَمْ يَفْهَمْ مَغْزَاهُ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ صَمَّمَ عَلَى تَقْلِيدِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي } .
.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه ، وَمِنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَا اللَّه ، وَمِنْ يُطِعْ الْأَمِير فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمِنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي } .
فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ وَأَبِي عَلْقَمَةَ وَأَبِي يُونُسَ كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { أَمِيرِي : } بَدَل { الْأَمِيرَ : } .
( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ { مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ : } مُنْتَزِعٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ : } وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ مُبَلِّغًا أَمْرَ اللَّهِ وَحُكْمِهِ ، أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَفَّذَ حُكْمَهُ وَقَوْلُهُ { وَمَنْ يَعْصِنِي : } فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدَا : } .

( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي : } فِيهِ وُجُوبُ طَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ، وَهَذَا مَجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَجِبُ الطَّاعَةُ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ : } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مُقَيِّدٌ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّبَبُ فِي الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِمْ اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَيُسْتَنْتَجُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ؛ لِأَنَّهُ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ : } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ فَخَالَفَهُ بَعْضُهُمْ وَأَنِفَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْنَفُونَ مِنْ الطَّاعَةِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ } قَالَ الشَّافِعِيُّ كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْنَفُ مِنْ الطَّاعَةِ لِلْأُمَرَاءِ فَلَمَّا أَطَاعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ الْأُمَرَاءِ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءُ وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَشْهُرُهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : هَذَا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ الْعُلَمَاءُ وَلَهُ وَجْهٌ ، وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَأْمُرُوا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ وَكَذَلِكَ كَانَ أُمَرَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فَلَوْ أَمَرُوا بِمَا لَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ حُرِّمَتْ

طَاعَتُهُمْ ، فَإِذَا الْحُكْمُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْأَمْرُ لَهُمْ بِالْأَصَالَةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَهُمْ الْفُتْيَا مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ وَلِلْأَمِيرِ الْفُتْيَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَالْجَبْرُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى { أَمِيرِي } يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ بَاشَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَايَتَهُ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ فَكُلُّ أَمِيرٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَدْلٌ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { الْأَمِيرُ } وَتَخْصِيصُ أَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ وَقْتَ الْخِطَابِ ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصُ مَنْ بَاشَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالتَّوْلِيَةِ بَلْ كُلُّ أَمِيرٍ عَدْلٍ وُلِّيَ بِحَقٍّ فَهُوَ أَمِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ تَوَلَّى وَبِشَرِيعَتِهِ قَامَ وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ رِوَايَتِي أَمِيرِيٌّ وَالْأَمِيرُ ، وَإِنْ تَفَاوَتَا لَفْظًا فَهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْقَضَاءِ وَالدَّعَاوَى ) ( بَابُ تَسْجِيلِ الْحَاكِمِ عَلَى نَفْسِهِ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي } .

كِتَابُ الْقَضَاءِ وَالدَّعَاوَى بَابُ تَسْجِيلِ الْحَاكِمِ عَلَى نَفْسِهِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ مِينَا كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ { سَبَقَتْ غَضَبِي } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : أَيْ لَمَّا أَظْهَرَ قَضَاءَهُ وَأَبْرَزَهُ كَيْفَ شَاءَ ( قُلْت ) وَإِنَّمَا أَحْوَجَهُ إلَى تَأْوِيلٍ قَضَى بِأَظْهَرَ وَأَبْرَزَ ، ظَنُّهُ أَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ ، وَهُوَ أَعْنِي ، التَّقْدِيرُ قَدِيمٌ فَاحْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِظُهُورِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْخَلْقُ أَيْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ { لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ } وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْخَلْقُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهِ بِمَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { فِي كِتَابِهِ : } يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ وَقَوْلُهُ { فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ } لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ ظَاهِرِ لَفْظِهِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا حَضْرَةُ الشَّيْءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ فَالْعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ حَضْرَةِ الْمَكَانِ بَلْ مِنْ حَضْرَةِ الشَّرَفِ أَيْ وَضَعَ ذَلِكَ الْكِتَابَ فِي مَحَلٍّ مُعَظَّمٍ عِنْدَهُ .

( الرَّابِعَةُ ) : قَالَ الْمَازِرِيُّ غَضَبُ اللَّهِ وَرِضَاهُ يَرْجِعَانِ إلَى إرَادَتِهِ لِإِثَابَةِ الْمُطِيعِ وَمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ وَعِقَابِ الْعَاصِي وَضَرَرِ الْعَبْدِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا يُسَمَّى رَحْمَةً وَالثَّانِي يُسَمَّى غَضَبًا وَإِرَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ بِهَا يُرِيدُ سَائِرَ الْمُرَادَاتِ فَيَسْتَحِيلُ فِيهَا الْغَلَبَةُ وَالسَّبْقُ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا مُتَعَلَّقُ الْإِرَادَةِ مِنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ فَكَانَ رِفْقُهُ بِالْخَلْقِ وَنِعَمُهُ عِنْدَهُمْ أَغْلَبَ مِنْ نِقَمِهِ وَسَابِقَةً لَهَا وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَقَدْ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِي مَعْنَى الرَّحْمَةِ هَلْ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى نَفْسِ الْإِرَادَةِ لِلتَّنْعِيمِ أَوْ إلَى التَّنْعِيمِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى نَفْسِ الْإِرَادَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْغَلَبَةُ هُنَا ، وَالسَّبْقُ بِمَعْنًى وَالْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ وَالشُّمُولُ كَمَا يُقَالُ غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ حُبُّ الْمَالِ أَوْ الْكَرَمُ أَوْ الشَّجَاعَةُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ خِصَالِهِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنْ الْمَازِرِيِّ مُخْتَصَرًا عَنْ الْعُلَمَاءِ وَعَبَّرَ عَنْ الْكَلَامِ الْمَنْقُولِ عَنْ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ قَالُوا وَذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ وَزَادَهُ إيضَاحًا بِقَوْلِهِ كَيْفَ لَا وَابْتِدَاؤُهُ الْخَلْقَ وَتَكْمِيلُهُ وَإِتْقَانُهُ وَتَرْتِيبُهُ وَخَلْقُ أَوَّلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْجَنَّةِ كُلُّ ذَلِكَ بِرَحْمَتِهِ السَّابِقَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ وَالْأَلْطَافِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رَحَمَاتٌ مُتَلَاحِقَةٌ وَلَوْ بَدَأَ بِالِانْتِقَامِ لَمَا كَمُلَ لِهَذَا الْعَالَمِ نِظَامٌ ثُمَّ الْعَجَبُ أَنَّ الِانْتِقَامَ بِهِ كَمُلَتْ الرَّحْمَةُ وَالْإِنْعَامُ وَذَلِكَ أَنَّ بِانْتِقَامِهِ مِنْ الْكَافِرِينَ كَمُلَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بِذَلِكَ حَصَلَ خَلَاصُهُمْ وَإِصْلَاحُهُمْ وَتَمَّ لَهُمْ دِينُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ فَظَهَرَ

لَهُمْ قَدْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي صَرْفِ ذَلِكَ الِانْتِقَامِ عَنْهُمْ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، وَإِنْعَامَهُ غَلَبَ انْتِقَامَهُ ( قُلْت ) : وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا الْغَضَبُ الْمَحْضُ فَبِاعْتِبَارِهِمْ يَكُونُ الْغَضَبُ أَغْلَبَ مِنْ الرَّحْمَةِ فَإِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إشْكَالٌ وَقَدْ يُقَالُ إذَا ضَمَّ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ رَحْمَتَهُ الدُّنْيَوِيَّةَ لِلْكُفَّارِ صَارَتْ الرَّحْمَةُ أَغْلَبَ مِنْ الْغَضَبِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا سِيقَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَعْرِضِ الرَّجَاءِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَالْوَعْدِ بِرَحْمَتِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّمَا تَقَعُ الْمُقَايَسَةُ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ فِي حَقِّ مَنْ يَحْتَمِلُهَا ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا حَظَّ لَهُ فِي دَارِ الْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ فِي الرَّحْمَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُقَايَسَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِهَا فِي حَقِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) : اسْتَأْنَسَ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْحُكَّامُ مِنْ تَسْجِيلِ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْكُمُونَ بِهَا وَجَعَلَ نُسْخَةً فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ وَأُخْرَى مَعَ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ غَنِيٌّ عَنْ التَّذْكِيرِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى كِتَابَةِ تَقْدِيرَاتِهِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَقْتَدِيَ بِهِ خَلَفُهُ مِنْ حُكَّامِ الدُّنْيَا فِي ضَبْطِ حُقُوقِ النَّاسِ بِكِتَابَتِهَا وَتَسْجِيلِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى تَذَكُّرِهَا وَأَقْرَبُ إلَى حِفْظِهَا كَمَا قِيلَ فِي خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِخَلْقِهِ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ وَالتُّؤَدَةَ فِيهَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهَا وَخَلْقِ أَمْثَالِهَا فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ } .

بَابُ مَنْ قَالَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ عِيسَى سَرَقْت ؟ قَالَ كَلًّا ، وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، قَالَ عِيسَى آمَنْت بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت بَصَرِي }
بَابُ مَنْ قَالَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ عِيسَى سَرَقْت ؟ قَالَ كَلًّا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَالَ عِيسَى آمَنْت بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت عَيْنَيَّ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { وَكَذَّبْت نَفْسِي : } .
( الثَّانِيَةُ ) : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ظَاهِرُ قَوْلِهِ سَرَقْت أَنَّهُ خَبَرٌ وَكَأَنَّهُ حَقَّقَ السَّرِقَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ قَدْ أَخَذَ مَالًا لِغَيْرِهِ مِنْ حِرْزٍ فِي خُفْيَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفْهِمًا لَهُ عَنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ فَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ وَحَذْفُهَا قَلِيلٌ وَقَوْلُ الرَّجُلِ كَلًّا نَفْيٌ لِذَلِكَ ثُمَّ أَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ ( قُلْت ) : احْتِمَالُ الِاسْتِهَامِ بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ أَوْ لَا { رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ : } فَجَزَمَ بِتَحْقِيقِ سَرِقَتِهِ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : ظَاهِرُهُ صَدَّقْت مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ وَكَذَّبْت مَا ظَهَرَ لِي مِنْ ظَاهِرِ سَرِقَتِهِ .
فَلَعَلَّهُ أَخَذَ مَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْأَخْذَ إلَّا لِلتَّقْلِيبِ وَالنَّظَرِ وَصَرْفِهِ إلَى مَوْضِعِهِ ، أَوْ ظَهَرَ لِعِيسَى أَوَّلًا بِظَاهِرِ مَدِّ يَدِهِ وَإِدْخَالِهَا فِي مَتَاعِ غَيْرِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمَّا حَلَفَ لَهُ أَسْقَطَ ظَنَّهُ وَتَرَكَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا دَرْءُ الْحَدِّ بِالشُّبُهَاتِ .

( الْخَامِسَةُ ) : اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَنْعُهُ مُطْلَقًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ إلَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً فَيَمْتَنِعُ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْعِلْمِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَامْتِنَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الْحُكْمِ فِيهَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مُحْتَمَلٌ لَأَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُهُ مَنْعَ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ مُطْلَقًا وَلَأَنْ [ تَكُونَ ] شَرِيعَتُهُ مَنْعَ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مِنْهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّرِقَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ احْتِمَالًا ثُمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ أَصْلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الِاسْتِهَامِ عَلَى الْيَمِينِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أُكْرِهَ الِاثْنَانِ عَلَى الْيَمِينِ وَاسْتَحَبَّاهَا فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا } لَفْظُ أَبِي دَاوُد .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَهِمُوا بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ } .
بَابُ الِاسْتِهَامِ عَلَى الْيَمِينِ وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أُكْرِهَ الِاثْنَانِ عَلَى الْيَمِينِ وَاسْتَحَبَّاهَا فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظٍ آخَرَ فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَلَمَةَ بْنِ شُعَيْبٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ { أَوْ اسْتَحَبَّاهَا : } وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ عَنْهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ } .
( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ { إذَا أُكْرِهَ الِاثْنَانِ عَلَى الْيَمِينِ وَاسْتَحَبَّاهَا : } كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا بِالْوَاوِ وَالظَّاهِرُ إنْ صَحَّ ذَلِكَ أَنَّهَا بِمَعْنَى أَوْ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْإِكْرَاهَ الْحَقِيقِيَّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُكْرَهُ عَلَى الْيَمِينِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إذَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرَادَا الْحَلِفَ سَوَاءٌ كَانَا غَيْرَ مُخْتَارَيْنِ كَذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ أَوْ غَيْرَ مُخْتَارَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا ، وَهُوَ مَعْنَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَتَنَازَعَا فِي الِابْتِدَاءِ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ بِالْقُرْعَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِهَامِ يُقَالُ اسْتَهَمُوا أَيْ اقْتَرَعُوا .

( الثَّالِثَةُ ) : حَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا إذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ عَيْنًا لَيْسَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُقِرُّ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا ، فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ حَلَفَ وَأَخَذَهَا وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ { رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَتَاعٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ مَا كَانَ ، أَحَبَّا ذَلِكَ أَوْ كَرِهَا } قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى الِاسْتِهَامِ هُنَا الِاقْتِرَاعُ يُرِيدُ أَنَّهُمَا يَقْتَرِعَانِ فَأَيُّهُمَا خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ حَلَفَ وَأَخَذَ مَا ادَّعَاهُ وَرُوِيَ مَا يُشْبِهُ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ حَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ أُوتِيَ عَلِيٌّ بِبَغْلٍ وُجِدَ فِي السُّوقِ يُبَاعُ فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا بَغْلِي لَمْ أَبِعْهُ وَلَمْ أَهَبْهُ قَالَ وَنَزَعَ مَا قَالَ بِخَمْسَةٍ يَشْهَدُونَ قَالَ وَجَاءَ آخَرُ يَدَّعِيهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ بَغْلُهُ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ قَالَ فَقَالَ عَلِيٌّ إنَّ فِيهِ قَضَاءً وَصُلْحًا وَسَوْفَ أُبَيِّنُ لَكُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ أَمَّا صُلْحُهُ أَنْ يُبَاعَ الْبَغْلُ فَيُقْسَمُ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِهَذَا خَمْسَةٌ وَلِهَذَا اثْنَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحُوا إلَّا الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ بَغْلُهُ مَا بَاعَهُ وَلَا وَهَبَهُ فَإِنْ تَشَاحَحْتُمَا أَيُّكُمْ يَحْلِفُ أَقْرَعْت بَيْنَكُمَا عَلَى الْحَلِفِ فَأَيُّكُمَا قَرَعَ حَلَفَ ، قَالَ قَضَى بِهَا وَأَنَا شَاهِدٌ .
( الرَّابِعَةُ ) : وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا : } فَيُحْتَمَلُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا مُتَنَازِعِينَ بِحَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدَّعِي نَقِيضَ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ بَلْ كَانُوا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ كَوَضْعِ أَيْدِيهِمْ عَلَى عَيْنٍ وَنَحْوِهَا فَأَجَابُوا بِالْإِنْكَارِ

وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ الْيَمِينُ فَصَارُوا مُتَسَرِّعِينَ إلَى الْحَلِفِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَقَعَ حَلِفُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ مُعْتَبَرًا بِهِ إذَا صَدَرَ بِتَلْقِينِ الْحَاكِمِ فَقَطَعَ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ بِالْقُرْعَةِ فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ بُدِئَ بِهِ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الَّذِي فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَأَبِي دَاوُد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ : } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّنَا الَّذِي لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ ؟ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ : } إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ } .
.

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَأَيُّنَا الَّذِي لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ ، قَالَ إنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ : إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ : } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَكَذَا وَقَعَ الْحَدِيثُ هُنَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } } وَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الظُّلْمَ الْمُطْلَقَ هُنَاكَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْمُقَيَّدُ ، وَهُوَ الشِّرْكُ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ الظُّلْمُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ كَمَا ظَنَنْتُمْ إنَّمَا الشِّرْكُ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَمَلُوا الظُّلْمَ عَلَى عُمُومِهِ وَالْمُتَبَادَرُ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْهُ ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ أَعْلَمَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُرَادِ بِهَذَا الظُّلْمِ انْتَهَى .
( قُلْت ) : وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ حَمْلُ الْإِيمَانِ هُنَا عَلَى التَّصْدِيقِ فَهُوَ الَّذِي يُلْبِسُهُ أَيْ يَخْلِطُهُ وَيَمْنَعُ وُجُودَهُ الشِّرْكُ أَمَّا لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَعْمَالِ ، فَإِنَّهُ يَخْلِطُهَا غَيْرُ الشِّرْكِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ )

: فِيهِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَكُونُ كُفْرًا .

( الرَّابِعَةُ ) : لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَبْدِ الصَّالِحِ لُقْمَانُ ، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ خَاصَّةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيًّا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا إلَّا عِكْرِمَةَ فَإِنَّهُ قَالَ كَانَ نَبِيًّا وَتَفَرَّدَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَمَّا ابْنُ لُقْمَانَ الَّذِي قَالَ لَهُ { لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ } فَقِيلَ اسْمُهُ ( أَنْعَمُ ) : وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) : أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الشَّهَادَاتِ كَأَنَّهُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الظُّلْمِ وَالْمَعْصِيَةِ لَا يُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْعَدَالَةِ وَلَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { فَأَيُّنَا الَّذِي لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ وَتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ } ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْإِصْرَارُ عَلَيْهَا لَا تُخْرِجُ عَنْ الْعَدَالَةِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَمْحَضُ الطَّاعَةَ حَتَّى لَا يَخْلِطَهَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَا يَمْحَضُ الْمَعْصِيَةَ حَتَّى لَا يَخْلِطَهَا بِطَاعَةٍ فَمَنْ غَلَبَتْ طَاعَتُهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فَهُوَ الْعَدْلُ وَمَنْ غَلَبَتْ مَعَاصِيهِ عَلَى طَاعَتِهِ فَهُوَ الْفَاسِقُ .

( السَّادِسَةُ ) : وَكَانَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْرَدَ أَوَّلًا هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ فِي الْعِبَادَةِ مُفْسِدٌ لَهَا كَمَا أَنَّ التَّشْرِيكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ مُفْسِدٌ لِلْإِيمَانِ ثُمَّ نَقَلَهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ هَذِهِ التَّرَاجِمَ الْمَحْصُورَةَ الَّتِي قِيلَ فِيهَا ( إنَّهَا أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ ) : وَقَعَتْ لَهُ فِيهَا أَحَادِيثُ لَيْسَتْ فِقْهِيَّةً فَاحْتَاجَ إلَى مِثْلِ هَذَا ، وَهُوَ فِقْهٌ دَقِيقٌ إنْ أَنْصَفْت وَتَكَلَّفْت إنْ أَسْرَفْت وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ .

وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ : } .
.

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ : } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ { إنَّ أَشَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ : } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي زُرْعَةَ بْنِ عُمَرَ وَبِلَفْظِ { تَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ } الْحَدِيثَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ وَبَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ فِي الْبَيَانِ عَنْ ذَمِّ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ الَّذِي يُرَائِي بِعَمَلِهِ وَيُرِي لِلنَّاسِ خُشُوعًا وَاسْتِكَانَةً وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ حَتَّى يُكْرِمُوهُ وَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ { يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ : } يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { لَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا : } وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مِنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : } قَالَ وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ الْقَائِلُ قَوْلَهُ : يُكَشِّرُ لِي حِينَ يَلْقَانِي وَإِنْ غِبْت شَتَمَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَوْجِيهِ الْحَدِيثِ سَبَبُهُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ نِفَاقٌ مَحْضٌ وَكَذِبٌ وَخِدَاعٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا وَيُظْهِرُ لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بَابُ ذَمِّ ذِي الْوَجْهَيْنِ وَتَحْرِيمِ فِعْلِهِ قَالَ وَالْمُرَادُ مَنْ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ

وَمُخَالِفٌ لِلْآخَرِينَ مُبْغِضٌ فَإِنْ أَتَى كُلَّ طَائِفَةٍ بِالْإِصْلَاحِ وَنَحْوِهِ فَمَحْمُودٌ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّمَا كَانَ ذُو الْوَجْهَيْنِ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ حَالُ الْمُنَافِقِينَ إذْ هُوَ مُتَمَلِّقٌ بِالْبَاطِلِ وَبِالْكَذِبِ مُدْخِلٌ لِلْفَسَادِ بَيْنَ النَّاسِ وَالشُّرُورِ وَالتَّقَاطُعِ وَالْعُدْوَانِ وَالْبَغْضَاءِ وَالتَّنَافُرِ .
( الثَّالِثَةُ ) : ( فَإِنْ قُلْت ) : كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْآخَرِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْت لَهُ الَّذِي قُلْت ثُمَّ أَلَنْت لَهُ الْقَوْلَ ؟ قَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ } ( قُلْت ) : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُثْنِ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا قَالَ كَلَامًا يُضَادُّ مَا قَالَهُ فِي حَقِّهِ فِي غَيْبَتِهِ إنَّمَا تَأَلَّفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا مَعَ لِينِ الْكَلَامِ لَهُ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَأَلُّفًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ فِي الْبَاطِنِ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيُعْرَفَ وَلَا يُغْتَرَّ بِهِ وَتَأَلَّفَهُ رَجَاءَ صِحَّةِ إيمَانِهِ وَقَدْ كَانَ مِنْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ مَا دَلَّ عَلَى ضَعْفِ إيمَانِهِ وَارْتَدَّ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ وَجِيءَ بِهِ أَسِيرًا إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
.

( الرَّابِعَةُ ) : أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ : لِأَنَّهُ إنْ كَانَ شَرَّ النَّاسِ أَوْ مِنْ شَرِّ النَّاسِ فَلَيْسَ مِمَّنْ يَرْضَى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ : } وَلَا شَكَّ فِي دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا الْفِعْلِ ، وَأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ .
( الْخَامِسَةُ ) : وَصْفُهُ بِأَنَّهُ شَرُّ النَّاسِ ذَمٌّ عَظِيمٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُؤَوَّلُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِيهَا { مِنْ شَرِّ النَّاسِ } وَقَدْ يُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ شَرُّ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْمُتَضَادِّينَ فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ الْمُتَعَانِدَتَيْنِ مُجَانِبَةٌ لِلْأُخْرَى مُظْهِرَةٌ لِعَدَاوَتِهَا لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهَا وَهَذَا بِفِعْلِهِ يُخَادِعُ الْفِرْقَتَيْنِ وَيَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِهِمْ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ مَعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ : } فَذَكَرَهُ دُونَ قَوْلِهِ { وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا : } وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ } فَذَكَرُوهُ دُونَ قَوْلِهِ { وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا : } الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا : وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ } ( فِيهِمَا ) : فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ طُرُقٌ أُخْرَى ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد أَيْضًا وَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ جَمَاعَةٌ وَلَفْظُ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ { أَنْ يُهَاجِرَ : } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَسَائِرُ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ يَقُولُونَ { يَهْجُرُ : } قَالَ وَقَدْ زَادَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَالِكٍ { وَلَا تَنَافَسُوا : } وَقَالَ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ مَالِكٍ { وَلَا تَنَافَسُوا : } غَيْرَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ وَقَدْ رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ { وَلَا تَنَافَسُوا : } عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ وَعَدَّ الْخَطِيبُ ذَلِكَ مِنْ الْمُدْرَجِ وَقَالَ قَدْ وَهِمَ فِيهَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَلَى مَالِكٍ ، وَإِنَّمَا يَرْوِيهَا مَالِكٌ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ : } قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ إيَّاكُمْ وَسُوءَ الظَّنِّ وَتَحْقِيقَهُ دُونَ مَبَادِئِ الظُّنُونِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ قَالَ

النَّوَوِيُّ وَمُرَادُ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الظَّنِّ مَا يُصِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَمِرُّ فِي قَلْبِهِ دُونَ مَا يَعْرِضُ فِي الْقَلْبِ وَلَا يَسْتَقِرُّ فَإِنَّ هَذَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ { تَجَاوَزَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا تَحَدَّثَتْ بِهِ الْأُمَّةُ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ } وَسَبَقَ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْخَوَاطِرِ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الظَّنَّ الَّذِي يَأْثَمُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ ظَنًّا وَيَتَكَلَّمَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَأْثَمْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ بِالظَّنِّ الْمُجَرَّدِ دُونَ بِنَاءٍ عَلَى أَصْلٍ وَلَا تَحْقِيقِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ .
.

( الثَّالِثَةُ ) : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الظَّنُّ هُنَا هُوَ التُّهْمَةُ وَمَحَلُّ التَّحْذِيرِ وَالنَّهْيِ إنَّمَا هُوَ تُهْمَةٌ لَا سَبَبَ لَهَا بِوَجْهٍ كَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَدَلِيلُ كَوْنِ الظَّنِّ هُنَا بِمَعْنَى التُّهْمَةِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا { وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا : } وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ ابْتِدَاءً فَيُرِيدُ أَنْ يَتَجَسَّسَ خَبَرَ ذَلِكَ وَيَبْحَثَ عَنْهُ وَيَتَبَصَّرَ وَيَتَسَمَّعَ لِيُحَقِّقَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَةِ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ { إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ : } وَقَالَ تَعَالَى { وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ تَطَيَّرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَصْحَابِهِ حِينَ انْصَرَفُوا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالُوا إنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكْلَةُ رَأْسٍ فَلَنْ يَرْجِعُوا إلَيْكُمْ أَبَدًا فَذَلِكَ ظَنُّهُمْ السَّيِّئّ الَّذِي وَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ أَقْبَحُ النَّوْعِ فَأَمَّا الظَّنُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْمُجَوَّزَيْنِ أَوْ بِمَعْنَى الْيَقِينِ فَغَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْحَدِيثِ وَلَا مِنْ الْآيَةِ يَقِينًا فَلَا يُلْتَفَتُ لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إنْكَارِ الظَّنِّ الشَّرْعِيِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْأُصُولِ .

( الرَّابِعَةُ ) : هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } وَقَدْ تَبَيَّنَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّنِّ فِي الْحَدِيثِ بَعْضُهُ لِقَوْلِهِ { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ : } وَالْمُرَادُ انْتِهَاكُ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ بِظَنِّ السَّوْءِ فِيهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ صَوْنِ الْأَعْرَاضِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ بِالظَّنِّ ، فَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ أَنَا لَا أَقُولُ بِالظَّنِّ وَلَكِنْ أَتَجَسَّسُ فَأَتَكَلَّمُ عَنْ تَحْقِيقٍ فَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَجَسَّسُوا } وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ لَا أَتَجَسَّسُ بَلْ ظَهَرَ لِي هَذَا الْأَمْرُ وَتَحْقِيقُهُ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّسٍ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } .

( الْخَامِسَةُ ) : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ احْتَجَّ قَوْمٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِثْلِهِ فِي إبْطَالِ الذَّرَائِعِ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا قَالُوا وَأَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَقَائِقِ لَا عَلَى الظُّنُونِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا أَرَدْت بِهَذَا الْبَيْعِ كَذَا بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ لِإِنْكَارِ فَاعِلِهِ أَنَّهُ أَرَادَهُ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً أَنْ يَظُنَّ بِهَا سُوءًا ، وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ مَصْدَرًا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِنْ حُجَّةِ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِالذَّرَائِعِ وَهُمْ أَصْحَابُ الرَّأْيِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، وَهُوَ حَدِيثٌ يَدُورُ عَلَى امْرَأَةٍ مَجْهُولَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِحُجَّةٍ .

( السَّادِسَةُ ) : إنْ قُلْت كَيْفَ يَكُونُ الظَّنُّ أَكْذَبَ الْحَدِيثِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّعَمُّدُ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إلَى ظَنٍّ أَصْلًا أَشَدَّ فِي الْكَذِبِ وَأَبْلَغَ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ( قُلْت ) : لَعَلَّ الْمُرَادَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَهُ اسْتِنَادٌ إلَى شَيْءٍ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فَبُولِغَ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ بِأَنْ جُعِلَ أَكْذَبَ الْحَدِيثِ زَجْرًا عَنْهُ وَتَنْفِيرًا ؛ وَأَمَّا الِاخْتِلَاقُ النَّاشِئُ عَنْ تَعَمُّدٍ فَأَمْرُهُ وَاضِحٌ .
.

( السَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ { وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا : } الْأَوَّلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِالْجِيمِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَكِلَاهُمَا بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْأُولَى وَفِيهِمَا مَعًا حَذْفُ إحْدَى التَّاءَيْنِ ، وَأَصْلُهُ وَلَا تَتَحَسَّسُوا وَلَا تَتَجَسَّسُوا فَحُذِفَتْ إحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا وَاخْتُلِفَ فِي التَّحَسُّسِ وَالتَّجَسُّسِ فَذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَا تَبْحَثُوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَلَا تَتَّبِعُوا أَخْبَارَهُمْ وَالتَّحَسُّسُ طَلَبُ الْخَيْرِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ : } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ الْبَحْثُ وَالتَّطَلُّبُ لِمَعَايِبِ النَّاسِ وَمَسَاوِئِهِمْ إذَا غَابَتْ وَاسْتُرِيبَتْ ، وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِك حَسَّ الثَّوْبَ أَيْ أَدْرَكَهُ بِحِسِّهِ وَجَسَّهُ مِنْ الْمَحَسَّةِ وَالْمَجَسَّةِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّ ذَلِكَ أَشْهَرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ التَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ الِاسْتِمَاعُ لِحَدِيثِ الْقَوْمِ وَبِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ الْعَوْرَاتِ وَقِيلَ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ ، وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَالنَّامُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ ، وَبِالْحَاءِ الْبَحْثُ عَمَّا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ بِالْعَيْنِ أَوْ الْأُذُنِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّهُ أَعْرَفُ وَقِيلَ بِالْجِيمِ أَنْ تَطْلُبَ لِغَيْرِك وَبِالْحَاءِ أَنْ تَطْلُبَ لِنَفْسِك قَالَهُ ثَعْلَبٌ .
( الثَّامِنَةُ ) : فِيهِ تَحْرِيمُ التَّحَسُّسِ ، وَهُوَ الْبَحْثُ عَنْ مَعَايِبِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَاضِينَ وَالْعَصْرِيِّينَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَذَلِكَ حَرَامٌ كَالْغِيبَةِ أَوْ أَشَدُّ مِنْ الْغِيبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ

بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } الْآيَةَ قَالَ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَرَدَا جَمِيعًا بِأَحْكَامِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ قَدْ اُشْتُهِرَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقِيلَ لَهُ هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ وَلَكِنْ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ نَأْخُذُ بِهِ ، قَالَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَجَسَّسُوا } قَالَ خُذُوا مَا ظَهَرَ وَدَعُوا مَا سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
.

( التَّاسِعَةُ ) : قَوْلُهُ { وَلَا تَنَافَسُوا : } هُوَ بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْضًا وَأَصْلُهُ تَتَنَافَسُوا وَمَعْنَى التَّنَافُسِ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَفِي الِانْفِرَادِ بِهِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ قَالَ وَقِيلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّمَادِي فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَحُظُوظِهَا انْتَهَى .
وَأَمَّا التَّنَافُسُ فِي الْخَيْرِ فَمَأْمُورٌ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ : } أَيْ فِي الْجَنَّةِ وَثَوَابِهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَكَأَنَّ الْمُنَافَسَةَ هِيَ الْغِبْطَةُ وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْحَسَدِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَدْ قَرَنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَسَدِ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ .
.

( الْعَاشِرَةُ ) : فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْحَسَدِ ، وَهُوَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } فَقَدْ تُجُوِّزَ فِيهِ بِإِطْلَاقِ الْحَسَدِ عَلَى هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَالْوَاقِعُ فِيهِمَا لَيْسَ حَسَدًا حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ غِبْطَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ زَوَالَ تِلْكَ الْخَصْلَةِ عَنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ ، وَإِنَّمَا تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُهَا وَهَذَا لَيْسَ حَسَدًا وَلَوْ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) : إنْ قُلْت إذَا وَقَعَ فِي خَاطِرِ إنْسَانٍ كَرَاهَةُ آخَرَ بِحَيْثُ بَلَغَتْ بِهِ كَرَاهَتُهُ إلَى أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يُشِعْ ذَلِكَ وَلَا أَظْهَرَهُ وَلَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ كَيْفَ يَكُونُ مَأْثُومًا بِذَلِكَ ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْخَوَاطِرَ مَرْفُوعَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ( قُلْت ) : إذَا لَمْ يَسْتَرْسِلْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَسَبَّبْ فِي تَأْكِيدِ أَسْبَابِ الْكَرَاهَةِ الْمُؤَدِّيَةِ لِذَلِكَ وَكَانَ مَعَ هَذَا التَّمَنِّي بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ إزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لَمْ يُزِلْهَا وَلَمْ يَسْعَ فِي إخْرَاجِهَا عَنْهُ ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُ خَوَاطِرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا وَلَا يَسْعَى فِي تَنْفِيذِ مَقْصُودِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إلَّا وَقَدْ خُلِقَ مَعَهُ الْحَسَدُ فَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ إلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُ شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ لَا أَحْفَظُهُ فِي وَقْتِي هَذَا أَنَّهُ قَالَ { إذَا حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا ، وَإِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ

فَتَوَكَّلُوا : } ثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالْحَسَدُ ، قِيلَ فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إذَا تَطَيَّرْت فَلَا تَرْجِعْ ، وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ ، وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ : } .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { وَلَا تَبَاغَضُوا } أَيْ لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ ؛ لِأَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ مَعَانٍ قَلْبِيَّةٌ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى اكْتِسَابِهَا وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ : } يَعْنِي الْحُبَّ وَالْبُغْضَ قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ الْقَاضِي قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي { تَبَاغَضُوا : } إشَارَةٌ إلَى النَّهْيِ عَنْ الْأَهْوَاءٍ الْمُضِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّبَاغُضِ .
.

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { وَلَا تَدَابَرُوا : } قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَا تُهَاجِرُوا بِالتَّصَارُمِ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّجُلِ دَبَرَهُ أَخَاهُ إذَا رَآهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْهُ .
وَقَالَ الْمُؤَرِّخُ قَوْلُهُ { وَلَا تَدَابَرُوا : } مَعْنَاهُ تَوْلِيَةُ أَنِيبُوا وَلَا تَسْتَأْثِرُوا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْأَعْشَى وَمُسْتَدْبِرٌ بِاَلَّذِي عِنْدَهُ عَنْ الْعَاذِلَاتِ وَإِرْشَادِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّمَا قِيلَ لِلْمُسْتَأْثِرِ مُسْتَدْبِرًا ؛ لِأَنَّهُ يُوَلِّي عَنْ أَصْحَابِهِ إذَا اسْتَأْثَرَ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ التَّدَابُرُ الْمُعَادَاةُ يُقَالُ دَابَرْتُ الرَّجُلَ عَادَيْته وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تُقَاطِعُوا وَلَا تُهَاجِرُوا ؛ لِأَنَّ الْمُهَاجِرَيْنِ إذَا وَلَّى أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَقَدْ وَلَّاهُ دُبُرَهُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّدَابُرُ الْإِعْرَاضُ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَنَحْوِ هَذَا ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ تَدَابُرٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضْته أَعْرَضْت عَنْهُ وَمَنْ أَعْرَضْت عَنْهُ وَلَّيْته دُبُرَك ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ هُوَ بِك وَمَنْ أَحْبَبْته أَقْبَلْت عَلَيْهِ وَوَاجِهَته تَسُرُّهُ وَيَسُرُّك فَمَعْنَى تَدَابَرُوا وَتَقَاطَعُوا وَتَبَاغَضُوا مَعْنًى مُتَدَاخِلٌ مُتَقَارِبٌ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قِيلَ { لَا تَدَابَرُوا } أَيْ لَا تَخَاذَلُوا وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ الْغَوَائِلَ بَلْ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ { لَا تَدَابَرُوا } أَيْ لَا تَفْعَلُوا فِعْلَ الْمُتَبَاغِضِينَ الَّذِينَ يُدْبِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ أَيْ يُوَلِّيهِ دُبُرَهُ فِعْلَ الْمُعْرِضِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبْغِضَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ وَلَا يُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ إذَا رَآهُ وَلَا يَقْطَعَهُ بَعْدَ صُحْبَتِهِ لَهُ فِي غَيْرِ حُرْمَةٍ أَوْ فِي حُرْمَةٍ يَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا يَحْسُدُهُ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ حَسَدًا يُؤْذِيهِ بِهِ وَلَا يُنَافِسُهُ فِي دُنْيَاهُ وَحَسْبُهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
.

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا : } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ كُونُوا كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحِ { كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ : } يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ كُونُوا إخْوَانًا ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ أَمْرُ اللَّهِ ، وَهُوَ مُبَلِّغٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ : } فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَشْرُوعِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهَا فَفِيهَا مَعْنَى الْأَمْرِ .
.

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ : } قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَإِبَاحَتُهَا فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ وَالثَّانِي بِمَفْهُومِهِ قَالُوا ، وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعُفِيَ عَنْ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلَاثِ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ وَقِيلَ إنَّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْهِجْرَةِ ثَلَاثًا وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ لَا يُحْتَجُّ بِالْمَفْهُومِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ ( قُلْت ) : وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشْدِيدِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ } .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْمُعْتَبَرُ ثَلَاثُ لَيَالٍ فَإِنْ بَدَأَ بِالْهِجْرَةِ فِي بَعْضِ يَوْمٍ فَلَهُ أَنْ يُلْغِيَ ذَلِكَ الْبَعْضَ وَيَعْتَبِرَ لَيْلَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَكُونُ أَوَّلُ الزَّمَانِ الَّذِي أُبِيحَتْ فِيهِ الْهِجْرَةُ تَمَّ بِانْفِصَالِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ ( قُلْت ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا فَإِنَّ الْعَرَبَ تُؤَرِّخُ بِاللَّيَالِيِ وَالْأَيَّامُ تَبَعٌ لَهَا وَلَيْسَتْ اللَّيَالِي مَقْصُودَهُ فِي الْكَلَامِ فِيهَا فَإِنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ مَحَلَّ الْكَلَامِ غَالِبًا ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ التَّهَاجُرِ فِي وَقْتِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَلِقَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، وَهُوَ النَّهَارُ غَالِبًا فَإِذَا بَدَأَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ السَّبْتِ اسْتَمَرَّ جَوَازُهَا إلَى ظُهْرِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ كَمَا قَالُوهُ فِي مُدَّةِ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) : هَذَا التَّحْرِيمُ مَحَلُّهُ فِي هِجْرَانٍ يَنْشَأُ عَنْ غَضَبٍ لِأَمْرٍ جَائِزٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ فَأَمَّا الْهِجْرَانُ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِنْ مَعْصِيَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ وَقَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِجْرَانِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَمُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَفِي حَدِيثِ كَعْبٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَهْجُرَ الْمَرْءُ أَخَاهُ إذَا بَدَتْ لَهُ مِنْهُ بِدْعَةٌ أَوْ فَاحِشَةٌ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هِجْرَانُهُ تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا عَنْهَا وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فَأَمَّا الْهِجْرَانُ لِأَجْلٍ الْمَعَاصِي وَالْبِدْعَةِ فَوَاجِبٌ اسْتِصْحَابُهُ إلَى أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُخْتَلَفُ فِي هَذَا وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ وَصِلَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يُوَلِّدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَضَرَّةً فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ رُخِّصَ لَهُ فِي مُجَانَبَتِهِ وَرُبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فَأَمَّا هِجْرَانُ الْوَالِدِ الْوَلَدَ وَالزَّوْجِ الزَّوْجَةَ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا فَلَا يَضِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ وَقَدْ { هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا } .

( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) : قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَتَزُولُ الْهِجْرَةُ بِمُجَرَّدِ سَلَامِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ : } وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ مَعَهُ إلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِقْبَالِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ يَقْطَعْ السَّلَامُ هِجْرَتَهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَعِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا اعْتَزَلَ كَلَامَهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَاسَلَهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ هَلْ يَزُولُ إثْمُ الْهِجْرَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَأَصَحُّهُمَا يَزُولُ لِزَوَالِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ .

( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ : } قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْبَلُ خِطَابَ الشَّرْعِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ .
.

( الْعِشْرُونَ ) : قَوْلُهُ { أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ : } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ هِجْرَانَ الْكَافِرِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا مُوَالَاةَ وَلَا مُنَاصَرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .

( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) : أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا عَلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَاتَّصَفَ بِغَيْرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَرْدُودَةً إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عَلَى مَنْ عَادَاهُ وَأَبْغَضَهُ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى ضَمِيمَةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ ضَمِيمَةِ الْإِصْرَارِ وَكَوْنِ ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَبِيرَةً وَاقْتَدَى الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِأَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ عَدُّوا الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ .

( بَابُ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ ) : عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ : } لَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ { الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ : } وَإِنَّمَا قَالَ { الْمَاشِي : } وَلَهُمَا فِي رِوَايَةٍ { يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي : } .

بَابُ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) : عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ : } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ بِلَفْظِ { يُسَلِّمُ } وَكَذَلِكَ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بِلَفْظِ { يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ } وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ إنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) : قَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ وَالصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ فَأَمَّا تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي فَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ ذَلِكَ لِفَضْلِ الرَّاكِبِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الدُّنْيَا فَعَدَلَ الشَّرْعُ بِأَنْ جَعَلَ لِلْمَاشِي فَضِيلَةَ أَنْ يُبْدَأَ وَاحْتِيَاطًا عَلَى الرَّاكِبِ مِنْ الْكِبْرِ وَالزَّهْوِ إذَا حَازَ الْفَضِيلَتَيْنِ قَالَ : وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا .
وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ فَقَالَ الْمَازِرِيُّ لَمْ أَرَ فِي تَعْلِيلِهِ نَصًّا وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَ فِي تَعْلِيلِهِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَيُقَالُ إنَّ الْقَاعِدَ قَدْ يَتَوَقَّعُ شَرًّا مِنْ الْوَارِدِ

عَلَيْهِ أَوْ يُوجِسُ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً فَإِذَا ابْتَدَأَهُ بِالسَّلَامِ أَنِسَ إلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَ وَالتَّرَدُّدَ فِي الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَامْتِهَانُ النَّفْسِ فِيهَا يُنْقِصُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمُتَمَاوِتِينَ الْآخِذِينَ بِالْعُذَلَةِ تَوَرُّعًا فَصَارَ لِلْقَاعِدِينَ مِنْ الْمَزِيَّةِ فِي بَابِ الدَّيْنِ ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ بِبُدَاءَتِهِمْ ؛ أَوْ لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْمَارِّينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَالتَّشَوُّفِ إلَيْهِمْ فَسَقَطَتْ الْبُدَاءَةُ عَنْهُ وَأَمَرَ بِهَا الْمَارَّ لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ .
وَهَذَّبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ مَعَ اخْتِصَارٍ فَقَالَ : وَأَمَّا الْمَاشِي فَقَدْ قِيلَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْ مِثْلُ مَا قِيلَ فِي الرَّاكِبِ مِنْ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَأَنَّهُ أَبْعَدُ لَهُ عَنْ الزَّهْوِ قَالَ : وَفِيهِ بُعْدٌ إذْ الْمَاشِي لَا يَزْهُو بِمَشْيِهِ غَالِبًا وَقِيلَ هُوَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ الْقَاعِدَ قَدْ يَقَعُ لَهُ خَوْفٌ مِنْ الْمَاشِي فَإِذَا بَدَأَهُ بِالسَّلَامِ أَمِنَ ذَلِكَ وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ إذْ لَا خُصُوصِيَّةَ لِلْخَوْفِ بِالْقَاعِدِ فَقَدْ يَخَافُ الْمَاشِي مِنْ الْقَاعِدِ وَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْقَاعِدَ عَلَى حَالِ وَقَارٍ وَسُكُونٍ وَثُبُوتٍ فَلَهُ بِذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلَى الْمَاشِي ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَأَمَّا تَسْلِيمُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ فَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا الْفَضِيلَةُ لِلْجَمَاعَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّرْعُ { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ } .
{ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ : } فَأَمَرَ بِبُدَاءَتِهِمْ لِفَضْلِهِمْ ؛ أَوْ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا بَدَءُوا الْوَاحِدَ خِيفَ عَلَيْهِ الْكِبْرُ وَالزَّهْوُ فَاحْتِيطَ لَهُ بِأَنْ لَا يُبْدَأَ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُمْ مِنْ التَّعْلِيلِ انْتَهَى .
وَأَمَّا تَسْلِيمُ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَسَبَبُهُ

أَنَّهُ إجْلَالٌ مِنْ الصَّغِيرِ لِلْكَبِيرِ وَتَعْظِيمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ السِّنَّ الْحَاصِلَ فِي الْإِسْلَامِ مَرْعِيٌّ فِي الشَّرْعِ يَحْصُلُ بِهِ التَّقْدِيمُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَا حَاجَةَ إلَى الْأَخْذِ فِي حِكْمَتِهِ وَعَارَضْت الْحَالُ أَنَّ الْمَفْضُولَ بِنَوْعٍ مِنْ الْفَضَائِلِ قَدْ يَبْدَأُ الْفَاضِلَ بِهِ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ وَلَا تَحْسُنُ مُعَارَضَةُ مِثْلِ هَذِهِ التَّعَالِيلِ بِآحَادِ مَسَائِلَ شَذَّتْ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْكُلِّيَّ لَا يُطْلَبُ فِيهِ أَنْ لَا يَشِذَّ عَنْهُ بَعْضُ الْجُزْئِيَّاتِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَكَلَّفَ الْعُلَمَاءُ إبْرَازَهَا هِيَ حُكْمٌ يُنَاسِبُ الْمَصَالِحَ الْمُحَسِّنَةَ وَالْمُكَمِّلَةَ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا نُصِبَتْ نَصْبَ الْعِلَلِ الْوَاجِبَةِ الِاعْتِبَارَ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا فَنَقُولُ : إنَّ ابْتِدَاءَ الْقَاعِدِ لِلْمَاشِي لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ ابْتِدَاءُ الْمَاشِي الرَّاكِبَ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلسَّلَامِ وَمُفْشٍ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ : } وَبِقَوْلِهِ { إذَا لَقِيت أَخَاك فَسَلِّمْ عَلَيْهِ : } .
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكُلٌّ مِنْ الْمَاشِي وَالْقَاعِدِ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ إذَا لَقِيَهُ غَيْرَ أَنَّ مُرَاعَاةَ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْت ) : مَتَى تَمَكَّنَ الْمَأْمُورُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالِابْتِدَاءِ مِنْهُ فَلَمْ يَبْتَدِئْ كَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْمُبَادَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِابْتِدَاءِ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ وَقَدْ بَادَرَ إلَى فِعْلِ خَيْرٍ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { لِيُسَلِّمَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ : } صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ وَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا { يُسَلِّمُ } لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ

تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ : } ، وَهُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا كُلُّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ فَلَوْ عُكِسَ جَازَ وَكَانَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ ( قُلْت ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي مُخَالَفَةِ الْأَفْضَلِ إنَّمَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِالِابْتِدَاءِ دُونَ الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْته وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الرَّابِعَةُ ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الصِّغَرُ فِي السِّنِّ وَقَدْ يُرَادُ الصِّغَرُ فِي الْقَدْرِ فَقَدْ يَتَمَيَّزُ صَغِيرُ السِّنِّ عَلَى كَبِيرِهِ بِأُمُورٍ تُرَجِّحُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ صِغَرُ السِّنِّ وَأَمَّا صِغَرُ الْقَدْرِ فَمُلْحَقٌ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَوْ تَعَارَضَا قُدِّمَ صِغَرُ السِّنِّ الْمَنْصُوصُ عَلَى صِغَرِ الْقَدْرِ : الْمَقِيسِ وَالْمُرَادُ السِّنُّ الْحَاصِلُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا اعْتَبَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي التَّقْدِيمِ لِلْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ بِكِبَرِ السِّنِّ قَالَ الْمَازِرِيُّ ، وَإِذَا تَلَاقَى رَجُلَانِ كِلَاهُمَا مَارٌّ فِي الطَّرِيقِ بَدَأَ الْأَدْنَى مِنْهُمَا الْأَفْضَلَ إجْلَالًا لِلْفَضْلِ وَتَعْظِيمًا لِلْخَيْرِ ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ الدِّينِ مَرْعِيَّةٌ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّمَةٌ .

( الْخَامِسَةُ ) : هَلْ يَسْتَوِي الرَّاكِبَانِ أَوْ يُرَاعَى عُلُوُّ أَحَدِهِمَا فَيُسَلِّمَ حِينَئِذٍ رَاكِبُ الْجَمَلِ عَلَى رَاكِبِ الْفَرَسِ وَرَاكِبُ الْفَرَسِ عَلَى رَاكِبِ الْحِمَارِ ، لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ لِذَلِكَ تَعَرُّضًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْمَرْكُوبَيْنِ أَعَلَا مِنْ الْآخَرِ مَعَ اسْتِوَاءِ جِنْسِهِمَا وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) : فَلَوْ تَسَاوَى الْمُتَلَاقِيَانِ فِي الْأُمُورِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحْثُوثًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِلِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ : } وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ النَّاسُ فِي الِابْتِدَاءٍ بِالسَّلَامِ إمَّا أَنْ تَتَسَاوَى أَحْوَالُهُمْ أَوْ تَتَفَاوَتَ فَإِنْ تَسَاوَتْ فَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلَامِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى مُبَادَرَةُ ذَوِي الْمَرَاتِبِ الدِّينِيَّةِ كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ احْتِرَامًا لَهُمْ وَتَوْقِيرًا وَأَمَّا ذَوُو الْمَرَاتِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَإِنْ سَلَّمُوا رُدَّ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ إعْجَابٌ أَوْ كِبْرٌ فَلَا يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعُونَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَازَ أَنْ يُبْدَءُوا بِالسَّلَامِ وَابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ أَوْلَى بِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَوَاضُعِهِمْ انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ إعْجَابٌ أَنْ يَتْرُكَ الرَّدَّ مُحْتَمَلٌ وَقَدْ يُقَالُ بَلْ الْأَوْلَى السَّلَامُ عَلَيْهِمْ إقَامَةً لِمَشْرُوعِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِرْغَامًا لَهُمْ وَالْمَعْصِيَةُ بِتَرْكِ الرَّدِّ هِيَ مِنْهُمْ لَا مَدْخَلَ لَنَا فِيهَا وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ فِي الْمُلُوكِ الَّذِينَ اعْتَادُوا أَنْ لَا يُشَمَّتُوا إذَا عَطَسُوا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ تَرْكُ تَشْمِيتِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُمْ ، وَالْحَظُّ لَهُمْ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَرْضَوْهُ لَمْ يُعْطَوْهُ وَيُحْتَمَلُ فِعْلُهُ مَعَهُمْ إقَامَةً لِلسُّنَّةِ وَإِرْغَامًا لَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّابِعَةُ ) : لَوْ تَعَارَضَتْ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يَمُرَّ كَبِيرٌ بِصَغِيرٍ قَاعِدٍ فَهَلْ تَكُونُ السُّنَّةُ ابْتِدَاءَ الْمَارِّ مَعَ كَوْنِهِ كَبِيرًا أَوْ ابْتِدَاءَ الصَّغِيرِ مَعَ كَوْنِهِ قَاعِدًا ؟ وَكَذَا لَوْ مَرَّ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ بِجَمْعٍ قَلِيلٍ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا إلَى النَّظَرِ إلَى الْمُرُورِ ، فَقَالَ فَلَوْ وَرَدَ عَلَى قَاعِدٍ أَوْ قُعُودٍ فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا .
.

( الثَّامِنَةُ ) : فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَهُ سُنَّةٌ وَأَنَّ رَدَّهُ فَرْضٌ وَكَلَامُ الْمَازِرِيِّ يُشْعِرُ بِخِلَافٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَلِكَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَثْبَتَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ذَلِكَ قَوْلًا لِلْعُلَمَاءِ وَمَتَى كَانَ الْمُسَلِّمُ جَمَاعَةً فَهُوَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ إذَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ حَصَلَتْ سُنَّةُ السَّلَامِ فِي حَقِّ جَمِيعِهِمْ وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً كَانَ الرَّدُّ فَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّهِمْ فَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْجَمِيعُ بِالسَّلَامِ وَأَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعُ .

( التَّاسِعَةُ ) : كَيْفِيَّةُ السَّلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَهُ أَقَلُّ وَأَكْمَلُ فَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا فَيَكْفِي سَلَامٌ عَلَيْك وَالْأَفْضَلُ عَلَيْكُمْ لِيَتَنَاوَلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَلَوْ قَالَ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ كُرِّهَ لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سَلَامٌ يَسْتَحِقُّ جَوَابًا وَقِيلَ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْك تَحِيَّةَ الْمَوْتَى : } وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَيَأْتِي بِالْوَاوِ فَلَوْ حَذَفَهَا جَازَ ، وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَوْ عَلَى عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَجْزَأَهُ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى عَلَيْكُمْ لَمْ يُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ قَالَ وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ فَفِي إجْزَائِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا .

( الْعَاشِرَةُ ) : اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّلَامِ فَقِيلَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ مُنْقِذٍ { أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ إلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ } .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَمَعَالِمِ السُّنَنِ لِلْخَطَّابِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ : } وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْك أَيْ أَنْتَ فِي حِفْظِهِ كَمَا يُقَالُ اللَّهُ مَعَك وَاَللَّهُ يَصْحَبُك وَقِيلَ مَعْنَاهُ اللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ فَلَا تَغْفُلُوا وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمْ أَيْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَيْ إذَا كَانَ اسْمُ اللَّهِ يُذْكَرُ عَلَى الْأَعْمَالِ تَوَقُّعًا لِاجْتِمَاعِ مَعَانِي الْخَيْرَاتِ فِيهَا وَانْتِفَاءِ عَوَارِضِ الْفَسَادِ عَنْهَا وَقِيلَ السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ أَيْ السَّلَامَةُ مُلَازِمَةٌ لَك وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَأَنَّ الْمُسَلِّمَ بِسَلَامِهِ عَلَى غَيْرِهِ مُعْلِمٌ لَهُ بِأَنَّهُ مُسَالِمٌ لَهُ حَتَّى لَا يَخَافَهُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك قَالَ فَذَهَبَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ قَالَ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ : قَالَ وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمْ يَزَلْ يَنْقُصُ الْخَلْقُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ : } .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) : وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك بِهِ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك قَالَ فَذَهَبَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ : قَالَ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ : وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَلَمْ يَزَلْ يَنْقُصُ الْخَلْقُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ } ( فِيهِ ) : فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( الثَّانِيَةُ ) : قَوْلُهُ { خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ : } الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ ، وَهُوَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي عَوْدِ الضَّمَائِرِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي خَلَقَهُ عَلَيْهَا لَمْ يَنْتَقِلْ فِي النَّشْأَةِ أَحْوَالًا وَلَا تَرَدَّدَ فِي الْأَرْحَامِ أَطْوَارًا كَذُرِّيَّتِهِ يُخْلَقُ أَحَدَهُمْ صَغِيرًا فَيَكْبُرُ وَضَعِيفًا فَيَقْوَى وَيَشْتَدُّ بَلْ خَلَقَهُ رَجُلًا كَامِلًا سَوِيًّا قَوِيًّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ يَوْمَ خَلَقَهُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا بِالْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْجَنَّةِ عَلَى صُورَةٍ أُخْرَى وَلَا اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُ وَلَا صُورَتُهُ كَمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ عَوْدَ الضَّمِير عَلَى آدَمَ تَعْقِيبُهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُشَبِّهَةِ إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ مِنْ التَّشْبِيهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الَّذِينَ

يُؤَوِّلُونَ مِثْلَ هَذَا إمَّا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا لِلتَّشْرِيفِ وَالِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { نَاقَةَ اللَّهِ : } وَكَمَا يُقَالُ فِي الْكَعْبَةِ ( بَيْتُ اللَّهِ ) : وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِمَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الصُّورَةَ بِمَعْنَى الصِّفَةِ أَيْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَرْضَاهَا وَهِيَ الْعِلْمُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنْ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَالْإِيمَانِ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ وَلَهَا مَعَانٍ تَلِيقُ بِهَا فَوُكِّلَ عِلْمُهَا إلَى عَالِمِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي بَابِ اتِّقَاءِ الْوَجْهِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ .
( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا : } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ مِنْ ذِرَاعِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذِّرَاعُ مُقَدَّرًا بِأَذْرِعَتِنَا الْمُتَعَارَفَةِ عِنْدَنَا .
.

( الرَّابِعَةُ ) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأَكُّدِ حُكْمِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ مِمَّا شُرِعَ وَكُلِّفَ بِهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ لَمْ يُنْسَخْ فِي شَرِيعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا تَحِيَّتُهُ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ فِي الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ شَرَائِعِهَا إلَى أَنْ انْتَهَى .
ذَلِكَ إلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ وَبِإِفْشَائِهِ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَحَبَّةِ الدِّينِيَّةِ وَلِدُخُولِ الْجَنَّةِ الْعَلِيَّةِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَهَذَا كُلُّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ .

( الْخَامِسَةُ ) : قَوْلُهُ { فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَك : } بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ التَّحِيَّةِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ وَيُرْوَى { يُجِيبُونَك } مِنْ الْجَوَابِ .
( السَّادِسَةُ ) : فِيهِ سَلَامُ الْوَارِدِ عَلَى الْجَالِسِ وَالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
( السَّابِعَةُ ) : فِيهِ أَنَّ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا اللَّفْظَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ : } قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِالتَّنْوِينِ كَفَى وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَفْضَلُ .

( الثَّامِنَةُ ) : فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي رَدِّ السَّلَامِ زِيَادَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِقَوْلِهِمْ { وَرَحْمَةُ اللَّهِ : } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا : } وَيَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ أَيْضًا ( وَبَرَكَاتُهُ ) : وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ لِزِيَادَةِ اللَّفْظَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ( السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) : وَبِقَوْلِ الْمُصَلِّي فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
.

( التَّاسِعَةُ ) : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ فَيَأْتِي بِالْوَاوِ وَيُقَدِّمُ لَفْظَةَ عَلَيْكُمْ وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ : } وَلَوْ قَالَ وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ لَفْظِ السَّلَامِ ، فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الرَّأْيُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَوَابًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلسَّلَامِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ جَوَابًا لِلْعَطْفِ فَلَوْ قَالَ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ فَلَيْسَ جَوَابًا قَطْعًا .

( الْعَاشِرَةُ ) : فِيهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي جَوَابِ الْوَاحِدِ أَنْ يُقَالَ عَلَيْك السَّلَامُ فَيَأْتِي بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ ، وَكَذَا فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ عَلَى الْوَاحِدِ لَوْ قَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْك كَفَى أَيْضًا وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا قَالُوا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ عَلَيْكُمْ لِيَتَنَاوَلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ : } أَيْ عَلَى صِفَتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْآدَمِيِّينَ فِي الدُّنْيَا مِنْ السَّوَادِ وَنَحْوِهِ تَنْتَفِي عَنْهُ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلَا يَكُونُ الْأَعْلَى أَكْمَلَ الْحَالَاتِ وَأَحْسَنَ الْهَيْئَاتِ وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ } .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا : } الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَأَنَّ الْمُرَادَ هَذِهِ الصِّفَةُ الْمَخْصُوصَةُ دُونَ غَيْرِهَا فَلَمَّا أَتَى بِالْوَاوِ انْتَفَى ذَلِكَ ، وَإِذَا حُمِلَتْ الصُّورَةُ عَلَى مُطْلَقِ الصِّفَةِ كَانَ قَوْلُهُ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِ ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى صُورَةِ الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) : قَوْلُهُ { فَلَمْ يَزَلْ يَنْقُصُ الْخَلْقُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ : } يَعْنِي أَنَّ كُلَّ قَرْنٍ تَكُونُ نَشْأَتُهُ فِي الطُّولِ أَقْصَرَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الَّذِي قَبْلَهُ فَانْتَهَى تَنَاقُصُ الطُّولِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَلَى طُولِهَا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا تَفَاوُتٌ فِي الْخَلْقِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ بَلْ النَّاسُ الْآنَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلُهُمْ كَطَوِيلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَقَصِيرُهُمْ كَقَصِيرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا هَذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، تَرَى مَا لَا نَرَى : } الصَّوَابُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَمَّا رِوَايَةُ عُرْوَةَ فَرَوَاهَا النَّسَائِيّ وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ .
.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا هَذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ ، فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ تَرَى مَا لَا نَرَى } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ يُرِيدُ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ نُوحِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ لِذِكْرِ عُرْوَةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رِوَايَتُهُ لَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ عَلَى إخْرَاجِهِ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) : فِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِسَلَامِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا لَكِنَّ مَنْقَبَةَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ وَهِيَ سَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا وَالْمَشْهُورُ تَفْضِيلُ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
.

( الثَّالِثَةُ ) : قَوْلُهُ { يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ : } بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يُسَلِّمُ عَلَيْك يُقَالُ قَرَأْت عَلَى فُلَانٍ السَّلَامَ فَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ عَلَى ، كَانَ رُبَاعِيًّا نَقُولُ أَقْرَأْته السَّلَامَ ، وَهُوَ يُقْرِئُك السَّلَامَ فَتُضَمُّ يَاءُ الْمُضَارَعَةِ مِنْهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ .
( الرَّابِعَةُ ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ بَعْثِ السَّلَامِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُهُ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ وَيَجِبُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا الْتَزَمَ وَقَالَ لِلْمُرْسِلِ إنِّي تَحَمَّلْت ذَلِكَ وَسَأُبَلِّغُهُ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ كَمَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) : وَفِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَامَ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ الصَّالِحَةِ إذَا لَمْ يَخَفْ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ( سَلَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ ) .

( السَّادِسَةُ ) : وَفِيهِ أَنَّ الَّذِي يُبَلِّغُ سَلَامَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ قَالَ أَصْحَابُنَا وَهَذَا الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلَامٌ فِي وَرَقَةٍ مِنْ غَائِبٍ لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْرِ إذَا قَرَأَهُ .
( السَّابِعَةُ ) : ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبَلِّغِ أَيْضًا فَيَقُولُ وَعَلَيْهِ وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَيَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَصَاحِبُهُ ابْنُ السُّنِّيِّ كِلَاهُمَا فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّ { رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَبْلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبِيهِ فَقَالَ وَعَلَيْك وَعَلَى أَبِيك السَّلَامُ } لَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِيهِ تَقْدِيمُ الرَّدِّ عَلَى الْغَائِبِ وَاَلَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَقْدِيمُ الرَّدِّ عَلَى الْحَاضِرِ وَلَمْ يَقَعْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الرَّدُّ عَنْهَا الرَّدُّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مُبَلِّغُ السَّلَامَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَقَدْ يُقَالُ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إبْلَاغُ السَّلَامِ عَنْ حَاضِرٍ إلَّا أَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ الْعَيْنِ وَلِهَذَا { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرَى مَا لَا نَرَى : } أَيْ إنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ لَا نَرَاهُ بِخِلَافِ قَضِيَّةِ التَّمِيمِيِّ فَإِنَّهُ إبْلَاغُ سَلَامٍ عَنْ غَائِبٍ وَقَدْ يُقَالُ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي رَدِّ السَّلَامِ عَلَى الْمُبَلِّغِ وَتَرْكِهِ .

( الثَّامِنَةُ ) : فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ فِي الرَّدِّ : بِالْوَاوِ فَيَقُولُ فِي جَوَابِ الْحَاضِرِ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَفِي جَوَابِ الْغَائِبِ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا يُجْزِيهِ .

( التَّاسِعَةُ ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الزِّيَادَةِ فِي رَدِّ السَّلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ .
( الْعَاشِرَةُ ) : كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ { وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ } وَكَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةُ { وَرَحْمَةُ اللَّهِ } فَقَطْ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ وَاجِبٌ وَهَذَا غَايَةُ السَّلَامِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ { انْتِهَاءُ السَّلَامِ إلَى الْبَرَكَةِ : } .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ .
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : فَفَهِمْتهَا فَقُلْت عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ .
قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ، قَالَتْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُلْت عَلَيْكُمْ : } .
.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَعَنْهَا قَالَتْ { دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتهَا فَقُلْت عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ .
قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ، قَالَتْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُلْت عَلَيْكُمْ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ بِلَفْظِ { كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ السَّامُ عَلَيْك فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إلَى قَوْلِهِمْ : } الْحَدِيثَ وَآخِرُهُ فَأَقُولُ { وَعَلَيْكُمْ : } كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَفِيهِ { وَعَلَيْكُمْ : } بِالْوَاوِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ بِلَفْظِ { عَلَيْكُمْ : } بِدُونِ وَاوٍ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { وَعَلَيْكُمْ } وَفِيهِ { قَالَتْ عَائِشَةُ قُلْت بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُّ : } وَفِيهِ { فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِذَا جَاءُوك حَيَّوْك بِمَا لَمْ يُحَيِّك بِهِ اللَّهُ : } } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
( الثَّانِيَةُ ) : الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَكُونُ فِيهِمْ امْرَأَةٌ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الرَّهْطُ عَدَدٌ جَمْعٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى عَشَرَةٍ وَقِيلَ مِنْ سَبْعَةٍ إلَى عَشْرَةٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَقِيلَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى عَشَرَةٍ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الرَّهْطُ مِنْ الرِّجَالِ مَا دُونَ

الْعَشَرَةِ وَقِيلَ إلَى الْأَرْبَعِينَ انْتَهَى .
فَحُصِّلَ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا الْأَوَّلُ ( الثَّالِثَةُ ) : اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السَّامِ فِي قَوْلِ الْيَهُودِ { السَّامُ عَلَيْكُمْ : } فَقَالَ الْجُمْهُورُ مُرَادُهُمْ بِهِ الْمَوْتُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً إلَّا السَّامُ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا السَّامُ قَالَ الْمَوْتُ : } وَقِيلَ مُرَادُهُمْ بِالسَّامِ السَّآمَةُ وَهِيَ الْمَلَالُ وَأَنَّ مَعْنَاهُ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ وَهَذَا تَأْوِيلُ قَتَادَةَ ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَئِمْت سَآمَةً وَسَآمًا مِثْلَ لَدَادَةٍ وَلَدَادٍ وَرَضَاعَةٍ وَرَضَاعٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذَا مُفَسَّرًا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَخْلَدٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَاهُ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَتُسَهَّلُ هَمْزَةُ سَآمٍ وَسَآمَةٍ .
( الرَّابِعَةُ ) : قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { فَفَهِمْتهَا : } إنَّمَا عَبَّرَتْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ ؛ لِأَنَّ حَذْفَ اللَّامِ فِي مِثْلِ هَذَا يَخْفَى غَالِبًا وَبِتَقْدِيرِ الْفِطْنَةِ لَهُ فَلَا يَظُنُّ السَّامِعُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْتِفَافِ الْحَرْفِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَذْفَ هَذَا الْحَرْفِ وَأَنَّهُ عَنْ قَصْدٍ وَأَنَّهُمْ لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ التَّحِيَّةَ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِهِ الدُّعَاءُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا تَعْلَمُ مِنْ خُبْثِ بَاطِنِهِمْ وَقُبْحِ طَوِيَّتِهِمْ وَسُوءِ مَقَاصِدِهِمْ ( الْخَامِسَةُ ) : زَادَتْهُمْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى مَا قَالُوهُ اللَّعْنَةَ وَهُمْ مُسْتَحِقُّونَ لَهَا إنْ مَاتُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْكُفْرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ إطْلَاقِهَا لَعْنَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ هَذَا التَّقْيِيدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ إرَادَةَ

مُلَاطَفَتِهِمْ وَاسْتِئْلَافَ قُلُوبِهِمْ رَجَاءَ إيمَانِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ حِفْظَ اللِّسَانِ وَصَوْنَهُ عَنْ الْفُحْشِ وَلَوْ مَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَلِلْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي جَوَازِ لَعْنِ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْمَوْتِ عَلَى كُفْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُّ : } الْمَشْهُورُ فِيهِ أَنَّهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ، وَهُوَ الذَّمُّ وَيُقَالُ بِالْهَمْزِ أَيْضًا وَالْأَشْهَرُ تَرْكُ الْهَمْزِ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ وَالذَّامُّ وَالذَّيْمُ وَالذَّمُّ بِمَعْنَى الْعَيْبِ وَرُوِيَ { الدَّامُ : } بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ بِالْمُهْمَلَةِ ابْنُ الْأَثِيرِ حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ ، وَهُوَ حِينَئِذٍ بِغَيْرِ وَاوٍ فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلسَّامِ وَفِي نَقْلِهِ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا إنَّمَا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّ الدَّامَ بِمَعْنَى الدَّائِمِ ؛ لِأَنَّهُ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ كَذَلِكَ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ قَبْلَهُ لَمْ تَخْتَلِفْ الرِّوَايَةُ فِيهِ أَنَّهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَوْ كَانَ بِالْمُهْمَلَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ .

( السَّادِسَةُ ) : وَفِيهِ الِانْتِصَارُ مِنْ الْمَظَالِمِ وَالِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ .
.

( السَّابِعَةُ ) : قَوْلُهُ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ : } هُوَ مِنْ عَظِيمِ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَمَالِ حِلْمِهِ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الرِّفْقِ وَالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَمُلَاطَفَةِ النَّاسِ مَا لَمْ تَدْعُ حَاجَةٌ إلَى الْمُخَاشَنَةِ .
( الثَّامِنَةُ ) : وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَغَافُلِ أَهْلِ الْفَضْلِ عَنْ سَفَهِ الْمُبْطِلِينَ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ وَفِي التَّنْزِيلِ { وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ : } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ ، عَظِّمُوا مَقَادِيرَكُمْ بِالتَّغَافُلِ وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا كَانَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤَدِّبُنِي بِهِ فِي مَبْدَأِ شَبَابِي حِينَ يَرَى غَضَبِي مِنْ كَلِمَاتٍ تَرِدُ عَلَيَّ .
.

( التَّاسِعَةُ ) : فِيهِ الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا سَلَّمُوا وَقَدْ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِوُجُوبِهِ وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا : لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَمَّا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ : فَمَنَعَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى جَوَازِهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ لَكِنَّهُ قَالَ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك وَلَا يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمْعِ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِعُمُومِ أَحَادِيثِ إفْشَاءِ السَّلَامِ وَكَيْفَ يَصِحُّ التَّمَسُّك بِهَا مَعَ وُرُودِ الْمُخَصِّصِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ : } وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ وَلَا يُحَرَّمُ وَيَرُدُّهُ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ ، وَهُوَ الصَّوَابُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ سَبَبٍ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ إنْ سَلَّمْت فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ ، وَإِنْ تَرَكْت فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ .
( الْعَاشِرَةُ ) : وَفِيهِ أَنَّهُ يَقْتَصِرُ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْكُمْ وَلَا يَأْتِي بِلَفْظِ السَّلَامِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ( وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ ) : وَلَكِنْ لَا يَقُولُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) : فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ { عَلَيْكُمْ : } بِدُونِ وَاوٍ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي إثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ بِإِثْبَاتِهَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ يَرْوُونَهُ بِالْوَاوِ وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ بِغَيْرِ

وَاوٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَذَفَ الْوَاوَ صَارَ كَلَامُهُمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّةً ، وَإِذَا أَثْبَتَ الْوَاوَ اقْتَضَى الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّوَابُ أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ وَإِثْبَاتَهَا جَائِزَانِ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَنَّ الْوَاوَ أَجْوَدُ كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ؛ لِأَنَّ السَّامَ الْمَوْتُ ، وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَقَالُوا عَلَيْكُمْ الْمَوْتُ فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ كُلُّنَا نَمُوتُ وَ ( الثَّانِي ) : أَنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ وَتَقْدِيرُهُ وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمِّ وَأَمَّا مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ فَتَقْدِيرُهُ عَلَيْكُمْ السَّامُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ حَذْفَ الْوَاوِ لِئَلَّا يَقْتَضِيَ التَّشْرِيكَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هُوَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَقُولُ عَلَيْكُمْ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ الْحِجَارَةُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا ضَعِيفٌ انْتَهَى .
وَفِيمَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ حَذْفِ الْوَاوِ نَظَرٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رِوَايَتَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ هِيَ الرِّوَايَةُ الْوَاضِحَةُ الْمَعْنَى وَأَمَّا مَعَ إثْبَاتِ الْوَاوِ فَفِيهَا إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِيمَا دَعَوْا بِهِ عَلَيْنَا مِنْ الْمَوْتِ أَوْ مِنْ سَآمَةِ دِينِنَا وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي هَذَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْوَاوُ زَائِدَةٌ كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى أَيْ لَمَّا أَجَزْنَا انْتَحَى فَزَادَ الْوَاوَ وَقِيلَ إنَّ الْوَاوَ

فِي الْحَدِيثِ لِلِاسْتِئْنَافِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَالسَّامُ عَلَيْكُمْ وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ بُعْدٌ ، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاوَ عَلَى بَابِهَا مِنْ الْعَطْفِ غَيْرَ أَنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَةُ حَذْفِ الْوَاوِ أَحْسَنُ مَعْنًى وَإِثْبَاتُهَا أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَشْهَرُ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ طَاوُسٍ يَقُولُ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَاك السَّلَامُ أَيْ ارْتَفَعَ عَنْك .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) : فَإِنْ قُلْت إنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَقْتَصِرَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ عَلَى قَوْلِنَا عَلَيْكُمْ بِدُونِ لَفْظَةِ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي ابْتِدَائِهِمْ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَلَمْ يَأْتُوا بِلَفْظِ السَّلَامِ فَلَوْ تَحَقَّقْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَتَى بِلَفْظِ السَّلَامِ مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ نُجِيبَهُ بِقَوْلِنَا عَلَيْكُمْ السَّلَامُ ؟ ( قُلْت ) : وَلَوْ تَحَقَّقْنَا ذَلِكَ لَا نَعْدِلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ الْوَارِدَةِ مِنْ الشَّارِعِ فَلَعَلَّهُ حَرَّفَهُ تَحْرِيفًا خَفِيًّا أَوْ أَرَادَ بِقَلْبِهِ غَيْرَ مَا نَطَقَ بِهِ لِسَانُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) : بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ ( بَابُ إذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ نَحْوُ قَوْلِهِ السَّامُ عَلَيْكُمْ ) : وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ قَالَ { مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ السَّامُ عَلَيْك فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْك ثُمَّ قَالَ أَتَدْرُونَ مَاذَا يَقُولُ قَالَ السَّامُ عَلَيْك قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ ، قَالَ لَا ، إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ : } .

وَعَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ ، وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ إنَّهَا إذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَذَا : } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ { قَالَتْ فَحَجَبُوهُ : } وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ { وَوَصَفَ الْمَرْأَةَ الَّتِي نَعَتَهَا أَنَّهَا ابْنَةُ غَيْلَانَ : } .
.

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَعَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ ، وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ إنَّهَا إذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَذَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : الْأُولَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ { قَالَتْ فَحَجَبُوهُ : } وَرَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَيْضًا أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ رَبَاحِ بْنِ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ .
وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ عِنْدَهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ قَالَ لِأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الطَّائِفَ غَدًا فَإِنِّي أَدُلُّك عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ قَالَتْ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا يَدْخُلْ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ } .
( الثَّانِيَةُ ) : الْمُخَنَّثُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ النِّسَاءَ فِي أَخْلَاقِهِ وَكَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ فَيَلِينُ فِي

قَوْلِهِ وَيَتَكَسَّرُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَنْثَنِي فِيهَا وَقَدْ يَكُونُ هَذَا خِلْقَةً لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَقَدْ يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَصَنَّعُهُ فَالْأَوَّلُ لَا ذَمَّ عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ وَلَا عُقُوبَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِلَعْنِهِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ } .
وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُخَنَّثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلُقَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ حِينَ كَانَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ وَأَقَرَّهُ عَلَى الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِنَّ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَسَنَةِ مِنْهُنَّ وَالْقَبِيحَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ خِلْقَةً أَنَّهُ كَذَلِكَ فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ مَنَعَهُ الدُّخُولَ عَلَيْهِنَّ .
( الثَّالِثَةُ ) : اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأَشْهَرُ أَنَّهُ ( هِيتٌ ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَآخِرُهُ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقٍ ، وَقِيلَ صَوَابُهُ ( هِنْبٌ ) : بِالنُّونِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَهُ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ وَقَالَ إنَّ مَا سِوَاهُ تَصْحِيفٌ قَالَ وَالْهَنَبُ الْأَحْمَقُ وَقِيلَ ( تَابِعٌ ) : بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ مَوْلَى أَبِي فَاخِتَةَ الْمَخْزُومِيَّةِ .

( الرَّابِعَةُ ) : قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ سَبَبَ دُخُولِهِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ أَيْ الْحَاجَةِ إلَى النِّسَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي أَوْصَافِهِنَّ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ مِنْهُنَّ وَلَا شَهْوَةَ لَهُ أَصْلًا وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِبُ الِاحْتِجَابُ مِنْهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ حُجِبَ وَمُنِعَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ كَغَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ فَفِيهِ أَنَّ التَّخَنُّثَ وَلَوْ كَانَ أَصْلِيًّا لَا يَقْتَضِي الدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ وَأَنَّهُ كَانَ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِهِ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ لَا كَوْنِهِ مُخَنَّثًا .
( الْخَامِسَةُ ) : قَوْلُهَا { ، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ } .
قَدْ تَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَوْلُهَا { ، وَهُوَ يَنْعَتُ } بِالنُّونِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ أَيْ يَصِفُ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمَنْعُوتَةُ قَدْ تَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا بِنْتُ غَيْلَانَ وَاسْمُهَا ( بَادِيَةُ ) : بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَقِيلَ بِالنُّونِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ الصَّوَابُ بِالْبَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ .
( السَّادِسَةُ ) : قَوْلُهُ { إذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ : } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ عُكَنٍ وَأَدْبَرَتْ بِثَمَانِ عُكَنٍ ، وَالْعُكَنُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْكَافِ جَمْعُ عُكْنَةٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَعْكَانٍ قَالُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ عُكَنٍ تُقْبِلُ بِهِنَّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ثِنْتَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ طَرَفَانِ فَإِذَا أَدْبَرَتْ صَارَتْ الْأَطْرَافُ ثَمَانِيَةً قَالُوا ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ فَقَالَ ثَمَانٍ وَكَانَ

الْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ ( بِثَمَانِيَةٍ ) : فَإِنَّ الْمُرَادَ الْأَطْرَافُ وَهِيَ مُذَكَّرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذَكَّرْ لَفْظُهُ وَمَتَى حُذِفَ الْمَعْدُودُ جَازَ حَذْفُ التَّاءِ وَلَمْ يَلْزَمْ إثْبَاتُهَا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ } هَذَا كَلَامُ الْمَازِرِيِّ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّثَ الْعَدَدَ لِتَأْنِيثِ الْمَعْدُودِ ، وَهُوَ الْعُكَنُ جَمْعُ عُكْنَةٍ .
( السَّابِعَةُ ) : رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاقِدِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْمُخَنَّثُ ( هِيتٌ ) : وَكَانَ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ لِأَبِيهَا وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ إنْ جَلَسَتْ تَثَنَّتْ ، وَإِنْ تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ بَيْنَ رِجْلَيْهَا كَالْإِنَاءِ الْمَكْفُو ، وَهِيَ كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ تَعْتَرِفُ الطَّرْفَ وَهِيَ لَاهِيَةٌ كَأَنَّمَا شَفَّ وَجْهَهَا شَرَفُ بَيْنَ شُكُولِ النِّسَاءِ خِلْقَتُهَا قَصْدًا فَلَا عَبْلَةُ وَلَا نِصْفُ تَنَامُ عَنْ كِبَرِ شَأْنِهَا فَإِذَا قَامَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْقَصِفُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ غَلَّظْت النَّظَرَ إلَيْهَا يَا عَدُوَّ اللَّهِ ثُمَّ أَجَلَاهُ عَنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْحِمَى } قَالَ فَلَمَّا فُتِحَتْ الطَّائِفُ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَلَدَتْ لَهُ فِي قَوْلِ الْكَلْبِيِّ ، وَلَمْ يَزَلْ ( هِيتٌ ) : بِذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ كُلِّمَ فِيهِ فَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ كُلِّمَ فِيهِ فَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ ثُمَّ كُلِّمَ فِيهِ بَعْدُ وَقِيلَ إنَّهُ قَدْ كَبُرَ وَضَعُفَ وَضَاعَ فَأُذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ كُلَّ جُمُعَةٍ فَيَسْأَلَ وَيَرْجِعَ إلَى مَكَانِهِ .

( الثَّامِنَةُ ) : قَوْلُهُ { لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا : } كَذَا رُوِّينَاهُ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ { هَذَا : } فَاعِلًا وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ لَهُنَّ وَيَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا مَفْعُولًا وَيَدُلُّ لِلرِّوَايَةِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ { لَا يَدْخُلُ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ } ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ الْمُخَنَّثِينَ لَمَّا رَأَى مِنْ وَصْفِهِمْ النِّسَاءَ وَمَعْرِفَتِهِمْ مَا يَعْرِفُهُ الرِّجَالُ مِنْهُنَّ فَكَانَ هَذَا سَبَبًا لِوُرُودِ هَذَا الْأَمْرِ ثُمَّ إنَّهُ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَنْ وَصْفُهُ كَوَصْفِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) : تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ السَّابِعَةِ زِيَادَةٌ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ وَهِيَ نَفْيُهُ إلَى الْحِمَى وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَرَّبَ هِيتًا : وَمَاتِعًا : إلَى الْحِمَى } ، ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَارُودِيُّ نَحْوَ الْحِكَايَةِ عَنْ { مُخَنَّثٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ أَنَّةَ : وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَاهُ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ } حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَقَالَا وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ ( هِيتٌ ) : قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِخْرَاجُهُ وَنَفْيُهُ كَانَ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ : ( أَحَدُهَا ) : الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وَكَانَ مِنْهُمْ وَيَتَكَتَّمُ ذَلِكَ ( وَالثَّانِي ) : وَصْفُهُ النِّسَاءَ وَمَحَاسِنَهُنَّ وَعَوْرَاتِهِنَّ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ وَقَدْ نُهِيَ أَنْ تَصِفَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا فَكَيْفَ إذَا وَصَفَهَا الرَّجُلُ لِلرِّجَالِ وَ ( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَطَّلِعُ مِنْ النِّسَاءِ وَأَجْسَامِهِنَّ وَعَوْرَاتِهِنَّ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ فَكَيْفَ الرِّجَالُ لَا سِيَّمَا عَلَى مَا جَاءَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ وَصَفَهَا حَتَّى وَصَفَ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا أَيْ

فَرْجَهَا وَمَا حَوَالَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالنَّفْيِ عَنْ الْوَطَنِ لِمَنْ يُخَافُ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْفِسْقُ وَعَلَى تَحْرِيمِ ذِكْرِ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ إطْلَاعَ النَّاسِ عَلَى عَوْرَتِهَا وَتَحْرِيكَ النُّفُوسِ إلَى مَا لَا يَحِلُّ مِنْهَا وَأَمَّا ذِكْرُ مَحَاسِنِ مَنْ لَا تُعْرَفُ مِنْ النِّسَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَدْعُ إلَى مَفْسَدَةٍ مِنْ تَهْيِيجِ النُّفُوسِ عَلَى الْوُقُوعِ فِي مُحَرَّمٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( أَبْوَابُ الْأَدَبِ ) عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رِوَايَةً وَقَالَ مَرَّةً يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ } .

( أَبْوَابُ الْأَدَبِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رِوَايَةً وَقَالَ مَرَّةً يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا النَّسَائِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ عَنْ أَبِيهِ .
( الثَّانِيَةُ ) هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ وَلَا لِلْكَرَاهَةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِرْشَادِ فَهُوَ كَالْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ لِلنَّدْبِ فِي الْفِعْلِ وَلِلْكَرَاهَةِ فِي التَّرْكِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَالْإِرْشَادَ يَرْجِعُ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { وَأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ } وَأَرَادَ بِالْفُوَيْسِقَةِ الْفَأْرَةَ لِخُرُوجِهَا عَلَى النَّاسِ مِنْ جُحْرِهَا بِالْفَسَادِ وَقَوْلُهُ ( تُضْرِمُ ) بِضَمِّ التَّاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ أَيْ تُحْرِقُ سَرِيعًا وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّهْنِ فَتَمُرُّ بِالشَّيْءِ فَتُحْرِقُهُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ لَا يُبَادِرُونَ إلَى طَفْئِهَا فَتَنْتَشِرُ النَّارُ وَتُحْرِقُ أَهْلَ الْبَيْتِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ فَقَالَ : إذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقُكُمْ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَأْنِهِمْ قَالَ :

إنَّ هَذِهِ النَّارَ إنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ } وَمَعْنَى كَوْنِهَا عَدُوًّا لَنَا ، أَنَّهَا تُنَافِي أَبْدَانَنَا وَأَمْوَالَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مُنَافَاةَ الْعَدُوِّ وَلَكِنْ تَتَّصِلُ مَنْفَعَتُهَا بِنَا بِوَسَائِطَ فَذَكَرَ الْعَدَاوَةَ مَجَازًا لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فِيهَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ نَارُ السِّرَاجِ وَغَيْرُهَا .
وَأَمَّا الْقَنَادِيلُ الْمُعَلَّقَةُ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ خِيفَ حَرِيقٌ بِسَبَبِهَا دَخَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْإِطْفَاءِ ، وَإِنْ أُمِنَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِالْإِطْفَاءِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ فَإِذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ زَالَ الْمَنْعُ .

وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الشُّومُ فِي ثَلَاثٍ : الْفَرَسُ وَالْمَرْأَةُ وَالدَّارُ } قَالَ سُفْيَانُ إنَّمَا نَحْفَظُهُ عَنْ سَالِمٍ يَعْنِي الشُّومَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { إنْ كَانَ الشُّومُ فِي شَيْءٍ فَفِي } وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي أَوَّلِهِ { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { وَالْخَادِمِ } بَدَلَ الْمَرْأَةِ وَفِي رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ لِلنَّسَائِيِّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى { وَالسَّيْفِ } فَجَعَلَهَا أَرْبَعًا وَلِابْنِ مَاجَهْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَزِيدَ مَعَهُنَّ { السَّيْفَ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ مِخْمَرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ { لَا شُومَ وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي ثَلَاثَةٍ } الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ حَكِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الشُّومُ فِي ثَلَاثٍ : الْفَرَسُ وَالْمَرْأَةُ وَالدَّارُ } قَالَ سُفْيَانُ : إنَّمَا نَحْفَظُهُ عَنْ سَالِمٍ يَعْنِي الشُّومَ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سَالِمٍ وَحَمْزَةَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِمَا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى هَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيِّ وَالْحُمَيْدِيَّ رَوَيَا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ : لَمْ يَرْوِ لَنَا الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا عَنْ سَالِمٍ لَكِنْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَفِي أَوَّلِهِ { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ } وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَحَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِمَا وَهَذَا يُخَالِفُ مَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ وَحْدَهُ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قُنْفُذٍ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَسْكَنِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالسَّيْفِ } فَأَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَالِمٍ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ وَأَرْسَلَ الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ { السَّيْفَ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ حَمْزَةَ وَحْدَهُ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ { إنْ كَانَ الشُّومُ فِي شَيْءٍ } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ وَالنَّسَائِيُّ

مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { إنْ كَانَ الشُّومُ فِي شَيْءٍ } وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { إنْ يَكُنْ مِنْ الشُّومِ شَيْءٌ حَقٌّ } وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ وَذَكَرَ أَنَّ رِوَايَةَ حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَحَمْزَةَ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : وَمَاذَا فِي أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ رَجُلَيْنِ عَنْ رَجُلٍ فَيَجْمَعَهُمَا تَارَةً وَيُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُخْرَى .
( الثَّانِيَةُ ) ( الشُّومُ ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْوَاوِ وَأَصْلُهَا الْهَمْزَةُ وَلَكِنَّهَا خُفِّفَتْ فَصَارَتْ وَاوًا وَغَلَبَ عَلَيْهَا التَّخْفِيفُ حَتَّى لَمْ يُنْطَقْ بِهَا مَهْمُوزَةً وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا فِي النِّهَايَةِ فِي الشِّينِ مَعَ الْوَاوِ وَذَكَرَهَا غَيْرُهُ فِي الشِّينِ مَعَ الْهَمْزَةِ عَلَى أَصْلِهَا وَالشُّومُ ضِدُّ الْيُمْنِ ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ وَالْمُحْكَمِ وَالنِّهَايَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الشُّومُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ النَّحْسُ وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } قَالُوا مَشَائِيمَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ نَحِسَاتٍ ذَاتُ نُحُوسٍ مَشَائِيمَ .
.

( الثَّالِثَةُ ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) إنْكَارُهُ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا حَكَاهُ عَنْ مُعْتَقَدِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَارَتْ شُقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ وَشُقَّةٌ فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ قَالَتْ : كَذَبَ وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ بِهَذَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ : الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ } ثُمَّ قَرَأَتْ عَائِشَةُ { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : ( وَكَذَبَ ) فِي كَلَامِهَا بِمَعْنَى غَلِطَ ، ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ خَبَرًا عَمَّا كَانَتْ تَعْتَقِدُهُ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا عَلَى مَا قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ نَسَخَ وَأَبْطَلَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنْ كَانَ الشُّومُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ فِيمَا بَيْنَ اللَّحْيَيْنِ يَعْنِي اللِّسَانَ ، وَمَا شَيْءٌ أَحْوَجُ إلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَمَّا حُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ بَعْضِهِمْ هُوَ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُبْعَثْ لِيُخْبِرَ عَنْ النَّاسِ بِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ بِمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ ، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ عَادَةِ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ لَا أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الشَّرْعِ قَالَ : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعْطِيلٌ لِكَلَامِ الشَّارِعِ

عَنْ الْفَوَائِدِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لِبَيَانِهَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا فِي الشُّومِ فَيُجْرِي : اللَّهُ تَعَالَى الشُّومَ عِنْدَ وُجُودِهَا بِقَدَرِهِ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ قَرَأَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ أَخْبَرَك ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ : سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الشُّومِ فِي الْفَرَسِ وَالدَّارِ فَقَالَ : كَمْ مِنْ دَارٍ سَكَنَهَا نَاسٌ فَهَلَكُوا ثُمَّ سَكَنَهَا آخَرُونَ فَهَلَكُوا فَهَذَا تَفْسِيرُهُ فِيمَا نَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرْضٌ عِنْدَنَا يُقَالُ لَهَا : أَرْضُ أَبَيْنَ هِيَ أَرْضُ رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا وَإِنَّهَا وَبِيئَةٌ أَوْ قَالَ : وَبَاؤُهَا شَدِيدَةٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهَا عَنْك فَإِنَّ مِنْ الْقَرَفِ التَّلَفَ } ثُمَّ رَوَى أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا وَكَثِيرٌ فِيهَا أَمْوَالُنَا فَتَحَوَّلْنَا إلَى دَارٍ أُخْرَى فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَرُوهَا ذَمِيمَةً } .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ فَرْوَةَ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَدْوَى وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الطِّبِّ فَإِنَّ اسْتِصْلَاحَ الْأَهْوِيَةِ مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْأَبَدَانِ وَفَسَادَ الْهَوَاءِ مِنْ أَسْرَعِهَا إلَى إسْقَاطِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهَا إبْطَالًا لِمَا وَقَعَ مِنْهَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ الْمَكْرُوهَ إنَّمَا أَصَابَهُمْ بِسَبَبِ سُكْنَاهَا ، فَإِذَا تَحَوَّلُوا عَنْهَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ ذَلِكَ الْوَهْمِ وَزَالَ عَنْهُمْ مَا خَامَرَهُمْ مِنْ الشُّبْهَةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ كَلَامَ مَالِكٍ وَلَيْسَ مِنْهُ إضَافَةُ الشُّومِ إلَى الدَّارِ وَلَا

تَعْلِيقُهُ بِهَا وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَرْيِ الْعَادَةِ فِيهَا فَيَخْرُجُ الْمَرْءُ عَنْهَا صِيَانَةً لِاعْتِقَادِهِ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِهَا التَّعَلُّقَ الْبَاطِلَ وَالِاهْتِمَامَ بِغَيْرِهِمْ قَالَ : وَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْخَبَرُ فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شُومَ وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ } وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مِخْمَرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ نَفَى نِسْبَةَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ إلَى الدُّورِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَهَائِمِ وَأَجَازَ نِسْبَةَ الْيُمْنِ إلَيْهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْأَبَدَانِ وَفَرَاغِ الْقُلُوبِ عَنْ الِاهْتِمَامِ ، قَالَ وَقَوْلُهُ دَعُوهَا ذَمِيمَةً إخْبَارٌ بِأَنَّ وَصْفَهَا بِذَلِكَ جَائِزٌ وَذِكْرَهَا بِقَبِيحِ مَا جَرَى فِيهَا سَائِغٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ كَائِنًا مِنْهَا وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَمُّ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْهُ شَرْعًا .
أَلَا تَرَى أَنَّا نَذُمُّ الْعَاصِيَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ حُكْمٌ عَقْلِيٌّ ، وَجَوَازُ ذَمِّهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَاجْتَمَعَا وَاتَّفَقَا ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ تَخَيَّلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّطَيُّرَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَا طِيَرَةَ وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا طِيَرَةَ إلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَمَنْ تَشَاءَمَ بِشَيْءٍ مِنْهَا نَزَلَ بِهِ مَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ وَمِمَّنْ صَارَ إلَى هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ وَعَضَّدَهُ بِمَا يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ } .
ثُمَّ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ كَلَامَ مَالِكٍ ثُمَّ قَالَ : وَلَا يُظَنُّ بِمَنْ قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ مِنْ الطِّيَرَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ فِيهَا وَتَفْعَلُ عِنْدَهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ لَا

تَقْدَمُ عَلَى مَا تَطَيَّرَتْ بِهِ وَلَا تَفْعَلُهُ بِوَجْهٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطِّيَرَةَ تَضُرُّ قَطْعًا ، فَإِنَّ هَذَا الظَّنَّ خَطَأٌ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَكْثَرُ مَا يَتَشَاءَمُ النَّاسُ بِهَا لِمُلَازَمَتِهِمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَبَاحَ الشَّرْعَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ خَاطِرُهُ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الشَّرْعُ أَنْ يُقِيمَ فِي مَوْضِعٍ يَكْرَهُهُ أَوْ مَعَ امْرَأَةٍ يَكْرَهُهَا بَلْ قَدْ فَسَّحَ لَهُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ لَكِنْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَثَرٌ فِي الْوُجُودِ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعْنَى قَوْلِهِ { الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ } أَنَّ إثْمَهَا عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا قَالَ : وَقَوْلُهُ { ذَرُوهَا ذَمِيمَةً } قَالَهُ لَهُمْ لِمَا رَسَخَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الطِّيَرَةِ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ بَيَّنَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ لَا طِيَرَةَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ إبْطَالِ الطِّيَرَةِ إنْ كَانَتْ لِأَحَدِكُمْ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا أَوْ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا أَوْ فَرَسٌ لَا يُعْجِبُهُ ارْتِبَاطَهُ فَلْيُفَارِقْهَا بِأَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الدَّارِ [ وَيُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ ] وَيَبِيعَ الْفَرَسَ وَمَحَلُّ هَذَا الْكَلَامِ مَحَلُّ اسْتِثْنَاءِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْخَطَّابِيَّ نَقَلَ هَذَا عَنْ كَثِيرِينَ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَنْ الصَّحِيحَيْنِ { إنْ كَانَ الشُّومُ فِي شَيْءٍ } فَفِي قَوْلٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُذْكَرْ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ بِهِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ

وَالتَّقْرِيبِ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَيْسَ لِشُومِهَا مَا يُتَوَقَّعُ بِسَبَبِ اقْتِنَائِهَا مِنْ الْهَلَاكِ بَلْ شُومُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا وَأَذَاهُمْ وَقِيلَ : بُعْدُهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ وَعَدَمُ سَمَاعِ الْأَذَانِ مِنْهَا ، وُشُومُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَتَعَرُّضُهَا لِلرَّيْبِ ، وُشُومُ الْفَرَسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا وَقِيلَ : حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا ، وُشُومُ الْخَادِمِ سُوءُ خُلُقِهِ وَقِلَّةُ تَعَهُّدِهِ لِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت مَنْ يُفَسِّرُ هَذَا الْحَدِيثَ يَقُولُ : شُومُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ غَيْرَ وَلُودٍ وُشُومُ الْفَرَسِ إذَا لَمْ يُغْزَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وُشُومُ الدَّارِ جَارُ السُّوءِ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالشُّومِ هُنَا عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { سَعَادَةُ ابْنِ آدَمَ فِي ثَلَاثَةٍ وَشِقْوَةُ ابْنِ آدَمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَمِنْ سَعَادَتِهِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ ، وَمِنْ شِقْوَتِهِ الْمَرْأَةُ السُّوءُ وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ } وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الرَّابِعِ بِأَنْ قَرَنَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ } وَذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ { مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضُرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ } وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنِسْبَتُهُ إلَى أَنَّهُ مُرَادُ الشَّرْعِ فَاسِدَةٌ .

( الرَّابِعَةُ ) حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْفِرَارِ مِنْ بَلَدِ الطَّاعُونِ وَأَبَاحَ الْفِرَارَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ } فَمَا الْفَرْقُ ثُمَّ حَكَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَامِعَ لِهَذِهِ الْفُصُولِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ .
( أَحَدُهَا ) مَا لَمْ يَقَعْ الضَّرَرُ بِهِ وَلَا اطَّرَدَتْ بِهِ عَادَةٌ خَاصَّةً وَلَا عَامَّةً فَهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَأَنْكَرَ الشَّرْعُ الِالْتِفَاتَ إلَيْهِ وَهُوَ الطِّيَرَةُ .
( وَالثَّانِي ) مَا يَقَعُ الضَّرَرُ عِنْدَهُ عُمُومًا لَا يَخُصُّهُ وَنَادِرًا لَا مُتَكَرِّرًا كَالْوَبَاءِ فَلَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ .
( وَالثَّالِثُ ) مَا يَخُصُّ وَلَا يَعُمُّ كَالدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ فَهَذَا يُبَاحُ الْفِرَارُ مِنْهُ .

( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ ( الشُّومُ فِي ثَلَاثٍ ) حَصَرَ الشُّومَ فِيهَا بِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا : إنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةٌ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ سُنَنِ النَّسَائِيّ مُرْسَلًا ذَكَرَ السَّيْفَ أَيْضًا ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : فَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ جَدَّتَهُ زَيْنَبَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعُدْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَ وَتَزِيدَ مَعَهُنَّ السَّيْفَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الرَّبْعِ وَالْخَادِمِ وَالْفَرَسِ } فَلَمْ يَذْكُرْ الْمَرْأَةَ ، وَذَكَرَ الْخَادِمَ بَدَلَهَا وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ مَعَ الثَّلَاثِ شَيْئَانِ آخَرَانِ الْفَرَسُ وَالْخَادِمُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثِ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : هُوَ حَصْرُ عَادَةٍ لَا خِلْقَةٍ فَإِنَّ الشُّومَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الِاثْنَيْنِ فِي الصُّحْبَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي السَّفَرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ يَسْتَجِدُّهُ الْعَبْدُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا لَبِسَ أَحَدُكُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ } وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ سَأَلَ مَا وَجْهُ خُصُوصِيَّةِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ هَذِهِ ضَرُورِيَّةٌ فِي الْوُجُودِ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُلَازَمَتِهَا غَالِبًا فَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ التَّشَاؤُمُ بِهَا فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِذَلِكَ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ ( الْفَرَسُ ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ ( الدَّابَّةُ ) بَدَلَ الْفَرَسِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ الدَّابَّةَ وَأَرَادَ بِهَا الْفَرَسَ

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَبَّهَ بِالْفَرَسِ عَلَى مَا عَدَاهَا مِنْ الدَّوَابِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( وَالْمَرْأَةُ ) ذَكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ وَالْمَمْلُوكَةَ ، قَالَ : وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ( وَالْخَادِمِ ) يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ .
( الثَّامِنَةُ ) ( الرَّبْعُ ) الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ هُوَ بِمَعْنَى الدَّارِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِهِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الصِّحَاحِ الرَّبْعُ الدَّارُ بِعَيْنِهَا حَيْثُ كَانَتْ ثُمَّ قَالَ : وَالرَّبْعُ الْمَحَلَّةُ يُقَالُ : مَا أَوْسَعَ رَبْعِ بَنِي فُلَانٍ .
انْتَهَى .
فَإِنَّ حَمْلَ الْحَدِيثَ عَلَى الثَّانِي كَانَ أَعَمَّ مِنْ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْمُرَادُ بِالرَّبْعِ الدَّارُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ وَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ فِيهِ الدُّكَّانُ وَالْفُنْدُقُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يَصْلُحُ الرَّبْعُ لَهُ .

وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا فَرَآهُ أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً فَقَالَ : إنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ يَجِدُهَا فَرَآهُ أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً فَقَالَ : إنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاقِدِ ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ مُسَدَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِيِّ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَمَعْمَرٍ وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ { حَتَّى رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَا : إنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ } وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِيهِ فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ لَا تَقْتُلْهَا ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ : فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ وَالزُّبَيْرِيُّ وَقَالَ صَالِحٌ وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَابْنُ مُجَمِّعٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
( رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ ) وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعُمَرَ بْنِ نَافِعٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ

طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْنِي بَعْدَ مَا حَدَّثَهُ أَبُو لُبَابَةَ حَيَّةً فِي دَارِهِ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ يَعْنِي إلَى الْبَقِيعِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ عَنْ نَافِعٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ نَافِعٌ ثُمَّ رَأَيْتهَا بَعْدُ فِي بَيْتِهِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ قَالَ : فَلَقِيت أَبَا لُبَابَةَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَقْتُلُوا مِنْ الْحَيَّاتِ إلَّا كُلَّ أَبْتَرِ ذِي طُفْيَتَيْنِ } وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَصَوَّبَ قَوْلَ مَنْ قَالَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ نَافِعًا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَبِي لُبَابَةَ قَالَ : وَكُلُّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ لَمْ يَزِدْ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ إلَّا الْقَعْنَبِيُّ فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ فَإِنَّهُمَا يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ وَيَطْرَحَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَرْوِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ إلَّا الْقَعْنَبِيُّ وَهُوَ وَهْمٌ وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ ( قُلْت ) لَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) أَبُو لُبَابَةَ بِضَمِّ اللَّامِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ ثُمَّ أَلْفٌ ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ أَيْضًا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ : بَشِيرٌ ، وَقِيلَ : رِفَاعَةُ وَقِيلَ :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26