كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْحَلِفِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ : وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ مَا أُوتِيَكُمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَا أَمْنَعُكُمُوهُ إنْ أَنَا إلَّا خَازِنٌ أَصْنَعُ حَيْثُ أُمِرْت } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ } يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ مَنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِهِ ، وَمِنْ يَتَجَدَّدُ وُجُودُهُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذِكْرُهُ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَرَبَ الَّذِينَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، وَحِينَئِذٍ فَعَطَفَ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ عَلَى بَابِهِ لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَتِنَا : وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ يُوَافِقُ ذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَعْذُورٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الصَّحِيحِ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ نَسْخُ الْمِلَلِ كُلِّهَا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( الْخَامِسَةُ ) وَفِيهِ الِانْتِفَاعُ بِالْإِسْلَامِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ فِي الْمَرَضِ الشَّدِيدِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْمُعَايَنَةِ .
( السَّادِسَةُ ) وَفِيهِ تَكْفِيرُ مَنْ أَنْكَرَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ

بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ ، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ مَا أُوتِيَكُمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَلَا أَمْنَعُكُمُوهُ إنْ أَنَا إلَّا خَازِنٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ فُلَيْحِ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظٍ { مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } .
( الثَّانِيَةُ ) أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْخُمُسِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بَابُ قَوْله تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ غَرَضُهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ لِلنَّبِيِّ خُمُسَ الْخَمْسِ مِلْكًا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَقِيلَ فِي الْغَنَائِمِ كُلِّهَا ( لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) كَمَا قِيلَ فِي الْخُمُسِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَكَانَتْ الْأَنْفَالُ كُلُّهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا مَرْدُودٌ إلَيْهِ فَقَسَّمَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ فِيهَا كَرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لَعَلَّ مَا أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ حَظِّ رَجُلٍ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَقِيلَ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّهُ لَا شِرْكَ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَإِنَّ مَا كَانَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ وَاحِدٌ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ طَاعَةُ رَسُولِهِ ، وَسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } قَالَ هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامِ وَلِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ

قَالَ الْمُهَلَّبُ : وَإِنَّمَا خَصَّ بِنِسْبَةِ الْخُمُسِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ دَعْوَى ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَإِنْ رَأَى دَفْعَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا يَخْشَى أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ دَفَعَهُ ، أَوْ يَجْعَلُهُ فِيمَا يَرَاهُ ، وَقَدْ يُقَسِّمُ مِنْهُ لِلْغَانِمِينَ كَمَا أَنَّهُ يُعْطِي مِنْ الْمَغَانِمِ لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَّمَ لِجَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ ، فَالْخُمُسُ وَغَيْرُهُ [ يَرْجِعُ ] إلَى قِسْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاجْتِهَادِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْخُمُسِ مِلْكٌ ، وَلَا يَتَمَلَّكُ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا قَدْرَ حَاجَتِهِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا مَعْنًى لِتَسْمِيَتِهِ الْقَاسِمَ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ بِمُوجِبَةٍ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَثَرَةٌ فِي اجْتِهَادِهِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ انْتَهَى .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ خُمُسَ الْخُمُسِ لِلرَّسُولِ مِلْكًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّامِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمِلْكِ فَصَرْفُهَا عَنْ مَدْلُولِهَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ فِي الْخُمُسِ فَكَيْفَ تَرِدُ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةِ بِمَا لَا دَلِيلَ فِيهِ ، وَهَلْ يَدُلُّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنَا قَاسِمٌ أَوْ أَنَا خَازِنٌ عَلَى أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي شَيْءٍ أَصْلًا ، وَهَذَا مِنْ أَيِّ الدَّلَالَاتِ .
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ افْتِتَاحُ كَلَامٍ فَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ سَهْمٍ لِلَّهِ وَلَهُ جَمِيعُ الْأُمُورِ ، وَلَوْ جُعِلَ لِلَّهِ سَهْمٌ لَكَانَتْ قِسْمَةُ الْخُمُسِ عَلَى سِتَّةٍ ، وَلَا قَائِلَ بِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ بَشَرٌ يَتَأَتَّى لَهُ الْمِلْكُ كَالْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَهْمٍ لِذَوِي قَرَّبَاهُ ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ يَشْتَرِكُ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى وَهُوَ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ بِشَرْطِ الْفَقْرِ ، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٍ لِابْنِ السَّبِيلِ .
فَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَصَالِحِهِ ، وَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي السِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ .
وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُصْرَفُ هَذَا السَّهْمُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ ، وَيُقَدَّمُ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ ، وَنَقَلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا السَّهْمَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ السِّهَامِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الزَّاز أَنَّ بَعْضَ الْأَصْحَابِ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ وَجْهًا أَنَّ هَذَا السَّهْمَ يُصْرَفُ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ ، وَهَذَانِ النَّقْلَانِ شَاذَّانِ مَرْدُودَانِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّ هَذَا السَّهْمَ يُصْرَفُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالْمُقَاتِلَةِ خَاصَّةً ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى سُقُوطِ سَهْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَوْتِهِ ، وَكَذَلِكَ أَسْقَطُوا سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بِمَوْتِهِ ، وَقَالَ إنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنُّصْرَةِ ، وَقَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَغَيْرُهُ يُعْطَى الْفَقِيرُ مِنْهُمْ مِنْ السَّهْمَانِ الثَّلَاثَةَ ، وَتَقَدَّمَ ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ : الْفَقِيرُ

مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا فَالْقِسْمَةُ الْآنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَقَطْ .
( الرَّابِعَةُ ) فِي رِوَايَتِنَا أَنَّهُ خَازِنٌ ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ( قَاسِمٌ ) وَالْأَمْرَانِ مَجْمُوعَانِ لَهُ الْيَدُ لَهُ حَيْثُ يَقْتَضِي الْحَالُ الْخَزْنَ ، وَالصَّرْفَ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ يَقْتَضِي الْحَالُ الْقَسْمَ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَنِدُ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُهُ مِنْ الْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ إلَى غَرَضِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَاقِفٌ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ فَيُعْطِي لِلَّهِ ، وَيَمْنَعُ لِلَّهِ ، وَلَا يَقْصِدُ بِكُلِّ أَفْعَالِهِ إلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } .
( الْخَامِسَةُ ) .
أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ مَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مِنْ أَمْرِ الرَّعِيَّةِ ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْأَئِمَّةَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ عَطَاؤُهُمْ وَمَنْعُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى .
( السَّادِسَةُ ) أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ ، وَعَلَى الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَقْوِيَتِهِ ، وَلَوْ أَوْرَدَهُ فِي الْإِمَارَةِ كَمَا فَعَلَ أَبُو دَاوُد لَكَانَ أَكْبَرَ فَائِدَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَللَّهِ { لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِهِ فَإِنَّهُ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا } .
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَلْجَجَ أَحَدُكُمْ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِهِ فَإِنَّهُ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .

الْحَدِيثُ السَّابِعُ : وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَلْجَجَ أَحَدُكُمْ بِالْيَمِينِ فِي أَهْلِهِ فَإِنَّهُ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، وَمُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِاللَّفْظِ الثَّانِي إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَقُلْ فِي أَهْلِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا لِيَبَرَّ يَعْنِي الْكَفَّارَةَ } ، وَلَمْ يَسُقْ ابْنُ مَاجَهْ لَفْظَهُ بَلْ قَالَ إنَّهُ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( لَأَنْ ) بِفَتْحِ اللَّامِ ، وَهِيَ لَامُ الْقَسَمِ ، وَقَوْلُهُ ( يَلَجُّ ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ يَتَمَادَى فِي يَمِينِهِ وَيُصِرُّ عَلَيْهَا وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ( اسْتَلْجَجَ ) هُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ ( اسْتَلَجَّ ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَالْإِدْغَامِ وَهِيَ أَشْهَرُ ، وَرِوَايَتُنَا هَذِهِ جَاءَتْ بِالْفَكِّ وَإِظْهَارِ الْإِدْغَامِ ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ يُظْهِرُونَهُ مَعَ الْجَزْمِ قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ ، وَهُوَ مِنْ اللَّجَاجِ بِفَتْحِ الْجِيمِ ، وَهُوَ التَّمَادِي عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ يُقَالُ لَجِجْت فِي الْأَمْرِ بِكَسْرِ الْجِيم الْأُولَى أَلَجُّ بِفَتْحِ اللَّامِ ، وَلَجَجْت بِفَتْحِ الْجِيمِ

أَلِجُّ بِكَسْرِ اللَّامِ لَجَجًا وَلَجَاجًا وَلَجَاجَةً ذَكَرَهُ فِي الْمُحْكَمِ ، وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِهِ يُرِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْيَمِينِ تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ ، وَيَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهَا ، وَقَوْلُهُ ( آثَمُ ) بِالْمَدِّ أَوَّلَهُ أَيْ أَكْثَرَ إثْمًا أَوْ أَقْرَبَ إلَى الْإِثْمِ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ تَمَادِيَ الْحَالِفِ عَلَى يَمِينِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْحِنْثِ مَعَ تَضَرُّرِ أَهْلِهِ بِبَقَائِهِ عَلَيْهَا شَرٌّ مِنْ حِنْثِهِ مَعَ قِيَامِهِ بِالْكَفَّارَةِ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ ، وَذَلِكَ لَا ضَرَرَ فِيهِ ، وَجَاءَ قَوْلُهُ آثَمُ عَلَى لَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ قَصَدَ مُقَابَلَةَ اللَّفْظِ عَلَى زَعْمِ الْحَالِفِ وَتَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَيْهِ إثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْإِثْمُ عَلَيْهِ فِي اللَّجَاجِ أَكْثَرُ لَوْ ثَبَتَ الْإِثْمُ ، وَحَكَى صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْلًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ مُصِيبٌ فَيَلَجُّ فِيهَا ، وَلَا يُكَفِّرُهَا ، وَالْمَشْهُورُ فِي مَعْنَاهُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ فِعْلًا وَتَرْكًا ؛ وَلَا تُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ حَرَامٍ فَيَمِينُهُ طَاعَةٌ وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ ، وَالْحِنْثُ مَعْصِيَةٌ ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ فَيَمِينُهُ مَعْصِيَةٌ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْلٍ كَصَلَاةِ تَطَوُّعٍ ، وَصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ فَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا طَاعَةٌ ، وَالْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةٌ ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ نَفْلٍ فَالْيَمِينُ مَكْرُوهَةٌ ، وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَحْنَثَ ، وَعَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَيِّبًا ، وَلَا يَلْبَسُ نَاعِمًا ، وَقَالَ الْيَمِينُ عَلَيْهِ مَكْرُوهَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهَا يَمِينُ طَاعَةٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ اخْتِيَارِ السَّلَفِ خُشُونَةَ الْعَيْشِ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَقُصُودِهِمْ وَفَرَاغِهِمْ لِلْعِبَادَةِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِالضِّيقِ وَالسَّعَةِ ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ ، وَهَذَا أَصْوَبُ .

وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْغَرَضِ كَدُخُولِ دَارٍ وَأَكْلِ طَعَامٍ ، وَلِبْسِ ثَوْبٍ ، وَتَرَكَهَا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْيَمِينِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْنَثَ ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ أَمْ الْحِنْثُ أَمْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَرْجِيحَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْيَمِينِ ( فِيهِ أَوْجُهٌ ) أَصَحُّهَا الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ فِي حَلِفِهِ وَاجِبٌ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْحِنْثُ وَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكُ مَنْدُوبٍ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَقَارِبِ الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَالْحِنْثُ مُسْتَحَبٌّ وَالْإِقَامَةُ عَلَى الْيَمِينِ مَكْرُوهَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُبَاحٍ فَقَدْ عَرَفْت الْخِلَافَ فِيهِ ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْحِنْثَ أَفْضَلُ ، وَقَدْ يُقَالُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالْأَهْلِ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ جَلْبِ ضَرَرٍ لَهُمْ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحِنْثُ فِيهِ مَطْلُوبٌ .
وَأَمَّا لَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْمَبِيتِ فِي بَيْتٍ مَخْصُوصٍ ، وَكَانَ لَا يَحْصُلُ لِأَهْلِهِ بِذَلِكَ ضَرَرٌ ، وَلَا نَفْعَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً ، وَلَوْ تَضَرَّرَ أَهْلُهُ بِبَقَائِهِ عَلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ ، وَلَا يَفْعَلُ مَصْلَحَةَ أَهْلِهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .

( الرَّابِعَةُ ) إنْ قُلْت كَيْفَ قَابَلَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى مُقْتَضَى الْيَمِينِ وَإِعْطَاءِ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنَّمَا الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ فِيهَا ( قُلْت ) لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَازِمًا لِلْحِنْثِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْحِنْثِ مِنْ إطْلَاقِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ ، وَأُشِيرَ بِذِكْرِ الْكَفَّارَةِ إلَى أَنَّهَا جَابِرَةٌ لِلْحِنْثِ رَافِعَةٌ لِمَفْسَدَةِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْإِثْمِ فَإِذَا قَابَلْنَا بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْيَمِينِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَبَيْنَ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَانْتِفَاعِ الْآخِذِينَ بِهَا النَّاشِئِ عَنْ الْحِنْثِ ، وَجَدْنَا إعْطَاءَ الْكَفَّارَةِ أَعْظَمَ مَصْلَحَةً وَأَتَمَّ نَفْعًا ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } .
( الْخَامِسَةُ ) لَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ الْأَهْلِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ نَفْعَ الْإِنْسَانِ وَضَرَرَهُ إنَّمَا يَعُودُ عَلَى أَهْلِهِ فَلَوْ عَادَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ عَادَ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا } الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَقَوْلُهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ كَذَا فِي رِوَايَتِنَا ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِنَا لِأَنَّ حَذْفَ الْعَائِدِ الْمَجْرُورِ فِي مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ بَلْ التَّقْدِيرُ فَرَضَهَا اللَّهُ لِأَنَّ حَذْف الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا جَائِزٌ .

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالْحَاكِمُ ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةِ ابْنِ دَاسَّةَ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظٍ مَنْ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْإِسْلَامُ سَالِمًا ، وَقَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ } أَيْ عَلَّقَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ عَلَى أَمْرٍ كَأَنْ قَالَ إنْ فَعَلَ يَعْنِي نَفْسَهُ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ مَنْ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ أَيْ عَلَّقَ عَلَى أَمْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا تَقْسِيمُ حَالِهِ إلَى كَاذِبٍ وَصَادِقٍ ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا مَعَ التَّعْلِيقِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ مِنْ الْمُسْنَدِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعَمْدِ الْحَلِفُ بِالشَّيْءِ حَقِيقَةً هُوَ الْقَسَمُ بِهِ ، وَإِدْخَالُ بَعْضِ حُرُوفِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ ، وَالرَّحْمَنِ ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّيْءِ يَمِينٌ كَمَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى كَذَا ، وَمُرَادُهُمْ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهِ

، وَهَذَا مَجَازٌ ، وَكَأَنَّ سَبَبَهُ مُشَابَهَةُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْيَمِينِ فِي اقْتِضَاءِ الْحَثِّ أَوْ الْمَنْعِ ثُمَّ جَوَّزَ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ إنَّ الثَّانِي أَقْرَبُ ، وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الثَّانِي كَمَا قَرَّرْته ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ أَيْ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ مَاضٍ ، وَعَلَّقَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ عَلَى كَذِبِهِ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ ، وَكَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ أَيْ مِنْ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كُفْرٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ أَوْ عِتْقَ عَبْدِهِ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ فِي الْمَاضِي وَكَانَ قَدْ دَخَلَ ، نَعَمْ لَوْ بَنَى إخْبَارَهُ بِذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكَفَّرَ لِأَنَّهُ رَبَطَ الْكُفْرَ بِأَمْرٍ يَظُنُّ أَنَّهُ غَيْرُ حَاصِلٍ فَلَا خَلَلَ فِي اعْتِقَادِهِ ، وَلَا فِي لَفْظِهِ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْحَدِيثَ هَذِهِ الصُّورَةَ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّعَمُّدَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ .
وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهُ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ { مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ } ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَقَصَ كَمَالُ إسْلَامِهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لَفْظَ ابْنِ مَاجَهْ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ الْإِسْلَامُ سَالِمًا ، وَاللَّفْظَانِ صَحِيحَانِ فَنَقَصَ هُوَ يَتَعَاطَى هَذَا اللَّفْظَ ، وَنَقَصَ إسْلَامُهُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي كَلَامِهِ ، وَقَدْ

اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ ، وَصَرَّحَ أَيْضًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنْهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي وَالنَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ ، وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ بَيَانُ غِلَظِ تَحْرِيمِ الْحَلِفِ بِمِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ كَانَ كَذَا أَوْ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى ، وَشِبْهِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُهُ كَاذِبًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّقْيِيدُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ الْحَلِفِ بِهَا صَادِقًا لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ الْحَالِفُ بِهَا عَنْ كَوْنِهِ كَاذِبًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَظِّمًا لِمَا حَلَفَ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا عَظَمَتَهُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الصُّورَةِ لِأَنَّهُ عَظَّمَهُ بِالْحَلِفِ بِهِ ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ كَوْنِهِ كَاذِبًا حَمَلَ التَّقْيِيدَ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِصُورَةِ الْحَالِ ، وَيَكُونُ التَّقْيِيدُ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى { وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَنَظَائِرِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مُعَظِّمًا لِمَا حَلَفَ بِهِ كَانَ كَافِرًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَظِّمًا بَلْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي حَلِفِهِ بِمَا لَا يُحْلَفُ بِهِ ، وَمُعَامَلَتُهُ إيَّاهُ مُعَامَلَةَ مَا يَحْلِفُ بِهِ ، وَلَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكُفْرِ ، وَيُرَادُ كُفْرُ النِّعْمَةِ انْتَهَى وَالتَّقْسِيمُ الَّذِي فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ يُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرَ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ أَيْضًا قَوْلَهُ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ كَانَ كَذَا .
( الْخَامِسَةُ ) تَقْسِيمُهُ إلَى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ

مَاضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُحْتَمِلُ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ أَمَّا إذَا وَقَعَ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيقِ عَلَى وُقُوعِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ يُقَالُ يَلْحَقُ بِالْمَاضِي ، وَيُقَالُ إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كُفْرٌ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ أَوَّلًا مُتَنَاوِلٌ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا فَصَلَ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ ، وَيُعْرَفُ مِنْهُ حُكْمُ الْقَسَمِ الْآخَرِ ، وَقَدْ يُقَالُ إذَا كَانَ عَنْ مَاضٍ فَقَدْ حَقَّقَ الْكُفْرَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ الْأَمْرُ ، وَقَدْ لَا يَقَعُ ، وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْآتِي بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ إبْعَادَ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِرَبْطِهِ بِأَمْرٍ لَا يَقَعُ مِنْهُ ، وَهَذَا أَقْرَبُ ، وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْإِسْلَامِ وَإِبْعَادَ النَّفْسِ عَنْ التَّهَوُّدِ ثُمَّ قَالَ هَذَا إذَا قَصَدَ الْقَائِلُ تَبْعِيدَ النَّفْسِ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَّا مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الرِّضَى بِالتَّهَوُّدِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْحَالِ ، وَسَكَتَ الرَّافِعِيُّ عَنْ حَالَةِ الْإِطْلَاقِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ تَبْعِيدَ النَّفْسِ عَنْ التَّهَوُّدِ وَلَا الرِّضَى بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَصْدَهُ بِمَوْتِهِ سَرِيعًا أَوْ تَعَذُّرِ مُرَاجَعَتِهِ ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ إنَّ الْقِيَاسَ التَّكْفِيرُ إذَا عَرِيَ عَنْ الْقَرَائِنِ الْحَامِلَةِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيه قَالَ : وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي الْأَذْكَارِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ ، وَالْقِيَاسُ خِلَافُهُ انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ الْإِسْلَامِ وَإِبْعَادَ النَّفْسِ عَنْ التَّهَوُّدِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْإِتْيَانُ بِهِ لَكِنْ تَقَدَّمَ عَنْ الْخَطَّابِيِّ إطْلَاقُ الْإِثْمِ ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ

الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ فَقَالَ يَحْرُمُ أَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلَتْ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَهُ ، وَأَرَادَ حَقِيقَةَ فِعْلِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ صَارَ كَافِرًا فِي الْحَالِ ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ لَمْ يَكْفُرْ لَكِنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ إنَّهُ مَعْصِيَةٌ .
( السَّادِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى قَائِلِ هَذَا اللَّفْظِ مُطْلَقًا قَالَ لِأَنَّهُ جَعَلَ عُقُوبَتَهُ فِي دِينِهِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي مَالِهِ شَيْئًا ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يَمِينٌ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهِ ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ، وَحَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إيجَابَهُمْ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هُوَ إذَا تَعَلَّقَ بِمُسْتَقْبَلٍ فَإِنَّ تَعَلَّقَ بِمَاضٍ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ .

بَابُ النَّفَقَاتِ .
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ هِنْدٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ خِبَاءٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِك ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِك ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَرَجَ عَلَيْك أَنْ تُنْفِقِي عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي ، وَيَكْفِي بَنِيَّ إلَّا مَا آخُذُهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيك ، وَيَكْفِي بَنِيك } .

بَابُ النَّفَقَاتِ .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ هِنْدٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ خِبَاءٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِك ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِك ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَيْضًا ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَرَجَ عَلَيْك أَنْ تُنْفِقِي عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ بِلَفْظِ مُمْسِكٌ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ قِصَّةُ الْخِبَاءِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ ، وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ ، وَلَفْظُ يُونُسَ ، وَابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ فَقَالَ لَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إلَّا مَا آخُذُهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيك ، وَيَكْفِي بَنِيك } فَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أَخَصْرَ مِنْ هَذَا .
( الثَّانِيَةُ ) ( هِنْدٌ ) هِيَ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ

بِنَسَبِهَا فِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ ، وَفِي لَفْظِهَا وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ الصَّرْفُ ، وَعَدَمُهُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهَا مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ خِبَاءٌ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَمْدُودٌ كَذَا رَوَيْنَاهُ عَنْ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ أَهْلِ خِبَاءٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ " أَهْلِ " فِي رِوَايَتِنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ( يُذِلُّهُمْ ) إنْ صَحَّ حَذْفُهُ فِي رِوَايَتِنَا ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بَعْدَهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إنْ أَرَادَتْ بِهِ نَفْسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَنَّتْ عَنْهُ بِهَذَا ، وَأَكْبَرَتْهُ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ وَتَعْيِينِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ بِأَهْلِ الْخِبَاءِ أَهْلَ بَيْتِهِ ، وَالْخِبَاءُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَسْكَنِ الرَّجُلِ ، وَدَارِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ هُوَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَكُونُ مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ ، وَلَا يَكُونُ مِنْ شَعْرٍ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ أَهْلُ بَيْتٍ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ، وَسُمِّيَ الْبَيْتُ خِبَاءً لِأَنَّهُ يُخَبِّئُ مَا فِيهِ ، وَالْخِبَاءُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ تَقُولُ خَبَأْت الشَّيْءَ خَبْئًا وَخِبَاءً انْتَهَى .
وَفِي الْمُحْكَمِ عَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ أَصْلُهُ مِنْ خَبَأْت خِبَاءً قَالَ : وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْخَبْأَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ إلَّا هُوَ بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ انْتَهَى قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، وَوَصْفُ هِنْدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَاءَ لَهَا فِي الْكُفْرِ ، وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبُغْضِ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَمَا آبَتْ إلَيْهِ حَالُهَا لَمَّا أَسْلَمَتْ ، تَذَكُّرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهَا بِمَا أَنْقَذَهَا اللَّهُ مِنْهُ ، وَبِمَا أَوْصَلَهَا إلَيْهِ ، وَتَعْظِيمٌ لِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِتَنْبَسِطَ فِيمَا تُرِيدُ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهُ ، وَلِتَزُولَ آلَامُ الْقُلُوبِ لِمَا كَانَ مِنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ فِي شَأْنِ حَمْزَةَ وَغَيْرِ

ذَلِكَ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَيْ سَتَزِيدِينَ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِك ، وَيَزِيدُ حُبُّك لِلَّهِ وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَقْوَى رُجُوعُك عَنْ بُغْضِهِ .
وَأَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظِ آضَ يَئِيضُ أَيْضًا إذَا رَجَعَ ، وَفِي هَذَا بُشْرَى لَهَا بِقُوَّةِ إيمَانِهَا وَتَمَكُّنِهِ وَمَنْقَبَةٌ لَهَا بِذَلِكَ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهَا ( إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ ) أَيْ شَحِيحٌ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَالشُّحُّ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْبُخْلِ ، وَقِيلَ الشُّحُّ لَازِمٌ كَالطَّبْعِ ، وَضُبِطَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِوَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ ( أَحَدُهُمَا ) مَسِيكٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ ، وَالثَّانِي بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَكَانُوا يُرَجِّحُونَ فَتْحَ الْمِيمِ ، وَالْآخَرُ جَائِزٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا : شِرِّيبٌ وَسِكِّيرٌ ، وَالْأَوَّلُ أَيْضًا مِنْ أَبْنِيَةِ جَمْعِ الْمُبَالَغَةِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَشْهَرُ فِي رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَمْ تُرِدْ أَنَّهُ شَحِيحٌ مُطْلَقًا فَتَذُمُّهُ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا وَصَفَتْ مَعَهَا فَإِنَّهُ كَانَ يُقَتِّرُ عَلَيْهَا ، وَعَلَى أَوْلَادِهَا كَمَا قَالَتْ لَا يُعْطِينِي وَبَنِي مَا يَكْفِينِي ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْبُخْلِ مُطْلَقًا فَقَدْ يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ هَذَا مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّهُ يَرَى غَيْرَهُمْ أَحْوَجَ مِنْهُمْ ، وَأَوْلَى لِيُعْطِيَ غَيْرَهُمْ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ بَخِيلًا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهَذَا .

( السَّادِسَةُ ) فِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ لِلِاسْتِفْتَاءِ وَالتَّشَكِّي وَنَحْوِهِمَا ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ .

( السَّابِعَةُ ) وَفِيهِ جَوَازُ سَمَاعِ كَلَامِ الْأَجْنَبِيَّةِ عِنْدَ الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا ، وَهَذَا إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ أَوْ عَلَى اسْتِثْنَاءِ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِثْلَ الْمَنْعِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ عَوْرَةٌ .

( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَقْدِيرِهَا بِالْإِمْدَادِ فَقَالَ عَلَى الْمُوسِرِ كُلَّ يَوْمٍ مُدَّانِ ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ مُدٌّ ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى أَصْحَابِنَا ، وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ ، وَقَدَّرَ مَالِكٌ الْمُدَّ فِي الْيَوْمِ ، وَقَدَّرَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَيْبَتَيْنِ وَنِصْفًا فِي الشَّهْرِ إلَى ثَلَاثٍ لِأَنَّ مَالِكًا بِالْمَدِينَةِ وَابْنَ الْقَاسِمِ بِمِصْرَ ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ .
( التَّاسِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ بِحَالِ الْمَرْأَةِ ، وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ( مَا يَكْفِيك ) لَكِنْ عَارَضَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى اعْتِبَارِ حَالِهِمَا مَعًا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ .

( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ وَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إلَى ذَلِكَ الْفَقْرُ فَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْغَنِيِّ ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ الصِّغَرُ ، وَالزَّمَانَةُ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ خِلَافٌ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ خَادِمِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ رَئِيسٌ فِي قَوْمِهِ وَيَبْعُدُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ نَفَقَتَهَا ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي نَفَقَةِ خَادِمِهَا فَأُضِيفَ ذَلِكَ إلَيْهَا إذْ كَانَتْ الْخَادِمُ فِي ضِمْنِهَا وَمَعْدُودَةً فِي جُمْلَتِهَا انْتَهَى .
وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ إيجَابُ نَفَقَةِ خَادِمِ الزَّوْجَةِ ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ، وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إيجَابِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا عَادَةً أَوْ تَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَرَضٍ ، وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُوسِرًا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَصَالِحِ الدَّاخِلِ وَإِلَى الْآخَرِ لِمَصَالِحِ الْخَارِجِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
( ثَالِثُهَا ) إنْ طَالَبَهَا بِأَحْوَالِ الْمُلُوكِيَّةِ لَزِمَهُ ، وَخَالَفَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي إيجَابِ نَفَقَةِ الْخَادِمِ ، وَقَالَ لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى خَادِمٍ لِزَوْجَتِهِ ، وَلَوْ أَنَّهُ ابْنُ الْخَلِيفَةِ ، وَهِيَ بِنْتُ خَلِيفَةٍ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ لَهَا بِمَنْ يَأْتِيَهَا بِالطَّعَامِ وَالْمَاءِ مُهَيِّئًا مُمْكِنًا لِلْأَكْلِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً ، وَمَنْ يَكْفِيهَا جَمِيعَ الْعَمَلِ مِنْ الْكَنْسِ وَالْفَرْشِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِكِسْوَتِهَا كَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ قَالَ : وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ قَطُّ بِإِيجَابِ نَفَقَةِ خَادِمِهَا عَلَيْهِ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَائِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ حَقِّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ وَمَنَعَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ، وَحَكَى الدَّاوُدِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لِأَنَّ مَنْزِلَ الشَّحِيحِ لَا يَجْمَعُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَسَائِرِ الْمَرَافِقِ الَّتِي تَلْزَمُهُ لَهُمْ ثُمَّ أُطْلِقَ الْإِذْنُ لَهَا فِي أَخْذِ كِفَايَتِهَا وَكِفَايَةِ أَوْلَادِهَا مِنْ مَالِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، وَأَنَّهُ لَا يُدْخِلُ عَلَى بَيْتِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ جَوَازُ إطْلَاقِ الْفَتْوَى ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ تَعْلِيقُهَا بِثُبُوتِ مَا يَقُولُهُ الْمُسْتَفْتِي ، وَلَا يَحْتَاجُ الْمُفْتِي أَنْ يَقُولَ إنْ ثَبَتَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَا ، وَكَذَا بَلْ يَجُوزُ لَهُ الْإِطْلَاقُ كَمَا أَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لَا بَأْسَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَفْظًا فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ مَعْنًى فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ صَحَّ مَا ذَكَرْتِ فَخُذِي .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ مَدْخَلًا فِي كَفَالَةِ أَوْلَادِهَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ أَبِيهِمْ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا امْتَنَعَ الْأَبُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ الصَّغِيرِ أَوْ كَانَ غَائِبًا أَذِنَ الْقَاضِي لِأُمِّهِ بِالْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْأَبِ أَوْ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَيْهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الصَّغِيرِ بِشَرْطِ أَهْلِيَّتِهَا لِذَلِكَ ، وَلَهَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْأَخْذِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ إذْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إفْتَاءً ، وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِنْ قُلْنَا كَانَ قَضَاءً فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ اعْتِمَادُ الْعُرْفِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا تَحْدِيدٌ شَرْعِيٌّ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لَهُ لَفْظًا الْآخِذِينَ لَهُ عَمَلًا انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا حَرَجَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ إلَّا بِالْمَعْرُوفِ أَيْ لَا تُنْفِقِي إلَّا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ لَا حَرَجَ إذَا لَمْ تُنْفِقِي إلَّا بِالْمَعْرُوفِ ( قُلْت ) وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا تُنْفِقِي إلَّا بِالْمَعْرُوفِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ هَذَا الِاسْتِدْلَال عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَغَيْرِهِمْ ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ كَانَتْ بِمَكَّةَ ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا بِهَا ، وَشَرْطُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ أَوْ مُسْتَتِرًا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَزِّزًا ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ فِي أَبِي سُفْيَانَ مَوْجُودًا فَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بَلْ هُوَ إفْتَاءٌ ، وَفِي كَوْنِ إذْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ إفْتَاءً أَوْ قَضَاءً وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ إفْتَاءٌ انْتَهَى .
وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْقَضَاءِ فِي الْغَائِبِ ، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِقَضِيَّةِ هِنْدٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مِنْهُ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي سُفْيَانَ ، وَهُوَ غَائِبٌ انْتَهَى .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إلَّا أَنَّ عَنْ مَالِكٍ قَوْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَاعِ ثُمَّ إنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْهَا الْبَيِّنَةَ فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ قَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ ، وَأَنَّهُ كَانَ كَالْمُسْتَفِيضِ عِنْدَهُمْ بُخْلُ أَبِي سُفْيَانَ انْتَهَى ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَشْهَرُ عَنْ أَحْمَدَ مَنْعُهُ إلَّا فِي عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَجَرْحِهِمْ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُحَاكَمَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فَلَوْ حَكَمَ بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِهِ فَفِي فَسْخِهِ قَوْلَانِ ، وَأَمَّا مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومَةِ فَحَكَمَ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ فَلَوْ أَنْكَرَ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ يَحْكُمُ فَلَوْ أَنْكَرَ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ لَمْ يُفِدْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ ، وَمِنْ الْعَجِيبِ جَمْعُ الْبُخَارِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ ، وَغَيْرِهِمَا بَيْنَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْفَتْوَى ، وَهَذَانِ : الِاسْتِدْلَال عَلَى الْقَضَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ قَالَ : وَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ( قُلْت ) لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ فِي ذَلِكَ الْإِذْنُ الصَّرِيحُ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيمَا تَقُومُ الْقَرَائِنُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِهِ .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ جَوَازُ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا لِحَاجَتِهَا إذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي ذَلِكَ أَوْ عَلِمَتْ رِضَاهُ بِهِ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } زَادَ الْبُخَارِيُّ ( تَقُولُ الْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي ، وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَيَقُولُ الِابْنُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي ، فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ لَا ، هَذَا مِنْ كَيْسِ أَبِي هُرَيْرَةَ ) .

الْحَدِيثُ الثَّانِي ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ ( أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غَنِيٌّ ) الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي [ أَوْ تُطَلِّقَنِي ] ، وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَيَقُولُ الِابْنُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَالَ لَا هَذَا مِنْ كَيْسِ أَبِي هُرَيْرَةَ ) ؟ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد الْمَوْقُوفَ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِيهِ فَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَنْ يَعُولُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ امْرَأَتُك تَقُولُ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي ، وَعَبْدُك يَقُولُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَابْنُك يَقُولُ إلَى مِنْ تَذَرُنِي ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رَفَعَ ذَلِكَ ، وَلَفْظُهُ فَقِيلَ مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ امْرَأَتُك مِمَّنْ تَعُولُ تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلَّا فَارِقْنِي ؛ خَادِمُك يَقُولُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَوَلَدُك يَقُولُ إلَى مَنْ تَتْرُكُنِي ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رَوَيْنَاهُمَا خَاصَّةً فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ غِنًى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ .
( الثَّانِيَةُ ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ) فَمَعْنَاهُ ( بِمَنْ تُمَوِّنُ ) وَيَلْزَمُك نَفَقَتُهُ مِنْ عِيَالِك فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلْيَكُنْ لِلْأَجَانِبِ يُقَالُ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ يَعُولُهُمْ وَأَعَالَهُمْ وَعُيَّلَهُمْ إذَا قَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ قُوتٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِهِمَا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ : وَعِيَالُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَتَكَفَّلُ بِهِمْ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ : هُمْ مَنْ يُقَوِّتُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَلَدٍ وَزَوْجَةٍ .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ لِأَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ ، وَفِيهِ الِابْتِدَاءُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ .
( الرَّابِعَةُ ) تَرْجَمَ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ بَعْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَفْسِيرِهِ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ ، قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ أَنْتَ أَبْصَرُ } ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ هَكَذَا ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، وَصَحَّحَهُ بِتَقْدِيمِ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْتِيبُ إذَا تَأَمَّلْته عَلِمْت أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى ، وَالْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِوَلَدِهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَبِضْعَتِهِ فَإِذَا ضَيَّعَهُ هَلَكَ وَلَمْ يَجِدْ مِنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ثُمَّ ثَلَّثَ بِالزَّوْجَةِ ، وَأَخْرَجَهَا عَنْ دَرَجَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقْ عَلَيْهَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ لَهَا مَنْ يُمَوِّنُهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي رَحِمٍ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْخَادِمَ لِأَنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ إذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهِ ، وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، وَإِذْ قَدْ اخْتَلَفَتْ الرَّوِيَّتَانِ ، وَكِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَدَّمَ السُّفْيَانَانِ ،

وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ ، وَرَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ حَمَّادٍ ذِكْرَ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْنَدِ ، وَأَبِي دَاوُد وَالْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ ، وَقَدَّمَ اللَّيْثُ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ عَنْ حَمَّادٍ الزَّوْجَةَ عَلَى الْوَلَدِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ ، وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ رِوَايَةَ تَقْدِيمِ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجَةِ انْتَهَى .
وَاَلَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَلَا بِالْإِعْسَارِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا لَكِنْ اعْتَرَضَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّ نَفَقَتَهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ كَالدُّيُونِ ، وَنَفَقَةُ الْقَرِيبِ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ تُقَدَّمُ عَلَى الدُّيُونِ ، وَخَرَجَ لِذَلِكَ احْتِمَالًا فِي تَقْدِيمِ الْقَرِيبِ ، وَأَيَّدَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْمُتَوَلَّيْ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ الطِّفْلِ تُقَدَّمُ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْخَطَّابِيَّ مَشَى عَلَيْهَا فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَعَلَّلَهُ بِمَا سَبَقَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَدْ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ كُلَّ مَنْ يُمَوِّنُهُ الْإِنْسَانُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ ، وَيُوَافِقُهُ تَفْسِيرُ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ الْعِيَالَ ، وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ الْإِمَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِيَالِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ مِمَّنْ تَقْضِي الْمُرُوءَةُ وَالْعَادَةُ بِقِيَامِهِ بِنَفَقَتِهِمْ مِمَّنْ يُمْكِنُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ حُرٍّ وَغَيْرِهِ ، وَكَذَا الزَّوْجَةُ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا آكَدُ ، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا فَإِنَّهَا تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا ، وَلَوْ جُعِلَتْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ

فَفِي تَمْيِيزِ نَصِيبِهَا مِنْهُ وَنَصِيبِهِ مِنْ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ عُسْرٌ أَوْ خِلَافٌ فِي الْأَخْذِ بِصِفَتَيْنِ ، وَفِي إفْرَادِ كُلٍّ بِالصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ تَبِعَةِ عُسْرٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مِسْكِينَةً ، وَلَهَا وَلَدٌ لَوْ كَانَتْ مُوسِرَةً لَزِمَهَا نَفَقَتُهُ فَهُوَ مِنْ عِيَالِهَا .

( السَّادِسَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِيثَارِ بِقُوتِهِ أَوْ قُوتِ عِيَالِهٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْبَدَاءَةِ بِمَنْ يَعُولُ ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ } ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لَكِنْ صَحَّحَ فِي الرَّوْضَةِ جَوَازَ الْإِيثَارِ بِقُوتِهِ دُونَ قُوتِ عِيَالِهِ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الضِّيَافَةِ الْفَضْلُ عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ لِتَأَكُّدِهَا وَكَثْرَةِ الْحَثِّ عَلَيْهَا قَالَ : وَلَيْسَتْ الضِّيَافَةُ صَدَقَةً ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ فَأَطْعَمَهُ قُوتَ صِبْيَانِهِ لَكِنَّهُ خَالَفَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، وَأَجَابَ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَنَّ الصِّبْيَانَ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ لِلْأَكْلِ ، وَإِنَّمَا طَلَبُوهُ عَلَى عَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } ، وَلَفْظُ الشَّيْخَيْنِ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ } ، وَزَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ { وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ } .

كِتَابُ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ ، وَأَنْفُسَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { أُمِرْت أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي ، وَبِمَا جِئْت بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا } الْحَدِيثَ ، وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَعْدَهُ ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَيْفَ نُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } الْحَدِيثُ وَجَعَلَهُ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عُمَرَ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ

النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ .
( الثَّانِيَةُ ) أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُقَاتَلَةِ النَّاسِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَامْتَثَلَ ذَلِكَ ، وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَفْعَلُهُ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ نَبِيَّ الْمَلْحَمَةِ أَيْ الْقِتَالِ ، وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا فَإِنَّ الْأَمْرَ لَهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ ، وَفَائِدَةُ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إلَيْهِ أَنَّهُ الدَّاعِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُبَيِّنُ عَنْهُ مَعْنَى مَا أَرَادَ ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِاسْمِهِ خُصُوصًا ثُمَّ خَاطَبَهُ وَسَائِرَ أُمَّتِهِ بِالْحُكْمِ عُمُومًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ الْقِتَالِ قَوْلُ ( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) فَظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فِي حُصُولِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَضُمَّ إلَيْهِ شَيْئًا ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا ، وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِالْوَثَنِيِّ وَالْمُعَطِّلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا كَانَ يَجْحَدُهُ ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ذَلِكَ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ مَنْ أَتَى مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ بِكَلِمَةٍ تُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَإِنْ أَتَى مِنْهُمَا بِمَا يُوَافِقُهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فَقَالَ فِي الْوَثَنِيِّ وَالْمُعَطِّلِ مَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ فِي الْيَهُودِيِّ إذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ قَالَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَوْ النَّصْرَانِيَّ إذَا

اعْتَرَفَ بِصَلَاةٍ تُوَافِقُ مِلَّتَنَا أَوْ حُكْمٍ يَخْتَصُّ بِشَرِيعَتِنَا هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا قَالَ وَمَيْلُ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ إلَى كَوْنِهِ إسْلَامًا ، وَعَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي ضَبْطِهِ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا كَفَرَ الْمُسْلِمُ بِجَحْدِهِ كَانَ الْكَافِرُ الْمُخَالِفُ لَهُ مُسْلِمًا بِعَقْدِهِ ثُمَّ إنْ كَذَّبَ مَا صَدَّقَ بِهِ كَانَ مُرْتَدًّا ، وَقَالَ أَصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إنَّمَا وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْعَرَبِ ، وَكَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ لَا يُوَحِّدُونَ فَاخْتَصَّ هَذَا الْحُكْمُ بِهِمْ ، وَبِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَّا بِنُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِيهِ اخْتِصَارًا ، وَحَذْفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ ، وَالْحَدِيثُ إذَا جُمِعَتْ طُرُقُهُ تَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَمَسَّكَ بِرِوَايَةٍ ، وَنَتْرُكَ بَقِيَّةَ الرِّوَايَاتِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ الْعَرَبَ ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ بَلْ ذَكَرَهُ شَرْعًا عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَاسْتَغْنَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِذِكْرِ إحْدَاهَا عَنْ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا ، وَشُهْرَتِهِمَا ، وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْإِسْلَامَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَبِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِهِ ، وَاشْتَرَطَ ذَلِكَ ، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كَافِرٍ يَعْتَرِفُ بِأَصْلِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ يَقُولُونَ إنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ فِي حَقِّهِمْ مِنْ

الْبَرَاءَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .

( الرَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ الْكَرَّامِيَّةُ ، وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ عَقْدِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْتَبَرْ سِوَى ذَلِكَ ، وَجَوَابُ الْجَمَاعَةِ عَنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَلَّقَهُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ ، وَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ .
وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ فَلَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ فِي الْبَاطِنِ مُسْلِمًا بِدُونِهِ ، وَلَوْ اعْتَرَفَ لَنَا بِاعْتِقَادِهِ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ ، وَمِنْ أَقْوَى مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى إكْفَارِ الْمُنَافِقِينَ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ، وَمِمَّا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي الصَّحِيحِ حَتَّى يَشْهَدُوا ، وَالشَّهَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لِلِّسَانِ بِدَلِيلِ تَكْذِيبِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ ( نَشْهَدُ إنَّك لِرَسُولِ اللَّهِ ) .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ حُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكُفْرَ يُقْبَلُ إسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا الْخَطَّابِيُّ إلَى أَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ ، وَهُوَ الَّذِي يُنْكِرُ الشَّرْعَ جُمْلَةً لَا تُقْبَلُ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنْ تَابَ مَرَّةً وَاحِدَةً قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تُقْبَلْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ ، وَإِلَّا قُبِلَ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ قَبُولُهَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ .

( السَّادِسَةُ ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَرِيحٌ فِي قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ ، وَمَانِعِ الزَّكَاةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْجَاحِدِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ .
وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ كَسَلًا فَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا تَارِكُ الزَّكَاةِ بُخْلًا فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا فَإِنْ امْتَنَعَ بِالْقِتَالِ قُوتِلَ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَلِهَذَا بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَحُكِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَامَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَرَائِضَ أَوْ وَاحِدَةً مِنْهَا فَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ ، وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي الدِّينِ ، وَلَا يُعْصَمُ دَمُهُ وَمَالُهُ قَالَ ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْصِمُ الدَّمَ وَالْمَالَ ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الْعِرْضُ ، وَبِهَذَا خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ } ، وَقَوْلُهُ ( إلَّا بِحَقِّهَا ) أَيْ بِحَقِّ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِأَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفْسَ لِكَوْنِهَا قَتَلَتْ مُكَافِئًا لَهَا عَمْدًا عُدْوَانًا أَوْ الْمَالَ بِطَرِيقٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَيُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مَا اسْتَحَقَّ ، وَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ الْعِصْمَةِ ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبُهُ ، وَتَارَةً إلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ لِتَعَلُّقِهِ بِهَا .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ ( وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) أَيْ فِيمَا يَسْتَتِرُونَ بِهِ ، وَيُخْفُونَهُ دُونَ

مَا يُخَلَّوْنَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَاجِبَةِ فَإِنَّ حُكَّامَ الْمُسْلِمِينَ يُقِيمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُجْرَى عَلَى الظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَمْ أُؤْمَرْ أَنْ أَشُقَّ عَلَى قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا عَنْ بُطُونِهِمْ } لَمَّا قَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ كَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ } فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ وَالْجَمَاهِيرِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَقَدَ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ كَفَاهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ ، وَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ ، وَقَدْ حَصَلَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَفَى بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْمَعْرِفَةَ بِالدَّلِيلِ ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهَذَا أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ يُحَصِّلُ مَجْمُوعُهَا التَّوَاتُرَ بِأَصْلِهَا وَالْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ انْتَهَى .
( الْعَاشِرَةُ ) أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ لِأَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومَةٌ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَحْكَامُ الْجِنَايَاتِ ، وَتَفَاصِيلُهَا مَعْرُوفَةٌ ( الثَّانِي ) دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ تَزُولُ بِارْتِكَابِ الْمُسْلِمِ مَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ قَتْلَهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْجَانِي مَعْصُومًا

بِالنِّسْبَةِ إلَى ، وَلِيِّ الدَّمِ ، وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) الْمُقَاتَلَةُ إلَى غَايَةِ الْإِسْلَامِ يُسْتَثْنَى مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ إلَى إحْدَى غَايَتَيْنِ إمَّا الْإِسْلَامُ أَوْ بَذْلُ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .

وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ إلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ نَارٍ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ إلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ نَارٍ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ بِلَفْظِ ( لَا يُشِيرُ ) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( لَا يَمْشِيَنَّ ) كَذَا ضَبَطْنَاهُ فِي أَصْلِنَا عِنْدَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَشْيِ ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يُشِيرُ مِنْ الْإِشَارَةِ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ ، وَكَذَا وَقَعَ فِيهِمَا بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ مَرْفُوعًا ، وَهُوَ نَهْيٌ بِلَفْظِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } وقَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ } ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ صِيغَةِ النَّهْيِ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى إنْ ثَبَتَتْ فَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرَاجِعَةٌ إلَيْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُهُ عَنْ الْمَشْيِ إلَى جِهَتِهِ مُشِيرًا لَهُ بِالسِّلَاحِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْمُسْلِمِ بِالسِّلَاحِ ، وَهُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فَإِنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ ، وَلَعْنُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَقٍّ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ إلَّا فَاعِلُ الْمُحَرَّمِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ أَوْ الْهَزْلِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُشِيرُ إلَى شَقِيقِهِ بِالسِّلَاحِ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَهُ هَزْلًا ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ

فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ أَغْلَظُ مِنْ تَحْرِيمِ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ غَايَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْهَزْلُ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَى طَرِيقِ الْجَدِّ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَ مُسْلِمٍ أَوْ جَرْحَهُ ، وَكِلَاهُمَا كَبِيرَةٌ ، وَأَمَّا الْهَزْلُ فَلِأَنَّهُ تَرْوِيعُ مُسْلِمٍ ، وَأَذًى لَهُ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا } .
( الرَّابِعَةُ ) الْمُرَادُ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الذِّمِّيُّ أَيْضًا لِتَحْرِيمِ أَذَاهُ ، وَخَرَجَ الْحَدِيثُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، وَدَخَلَ فِي السِّلَاحِ مَا عَظُمَ مِنْهُ وَصَغُرَ ، وَهَلْ تَدْخُلُ الْعَصَا فِي ذَلِكَ فِيهِ احْتِمَالٌ لِأَنَّ التَّرْوِيعَ حَاصِلٌ ، وَكَذَلِكَ احْتِمَالُ سُقُوطِهَا مِنْ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يُقَالُ لَا يُرَادُ بِذَلِكَ إلَّا مَا لَهُ نَصْلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِحَدِيدَةٍ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ بِكَسْرِ الزَّايِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَمَعْنَاهُ يَرْمِي فِي يَدِهِ ، وَيُحَقِّقُ ضَرْبَتَهُ كَأَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَهُ ، وَيُحَقِّقُ إشَارَتَهُ وَالنَّزْعُ الْعَمَلُ بِالْيَدِ كَالِاسْتِقَاءِ بِالدَّلْوِ وَنَحْوِهِ ، وَأَصْلُهُ الْجَذْبُ وَالْقَلْعُ قَالَ فِي الْمَشَارِقِ ، وَأَصْلُ فَعَلَ إذَا كَانَ عَيْنُهُ أَوْ لَامُهُ حَرْفَ حَلْقٍ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلُهُ كَذَلِكَ مَفْتُوحًا ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَكْسُورًا إلَّا يَنْزِعُ ، وَيُهَنِّئُ ( قُلْت ) ، وَمِثْلُهُ يَرْجِعُ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمِيعِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ ، وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ نُسَخِ بِلَادِنَا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا يَنْزَغُ بِفَتْحِ الزَّايِ وَبَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ ، وَمَعْنَاهُ يَحْمِلُهُ عَلَى تَحْقِيقِ ضَرْبِهِ ، وَيُزَيِّنُ ذَلِكَ لَهُ ، وَنَزْغُ الشَّيْطَانِ إغْرَاؤُهُ ، وَإِغْوَاؤُهُ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ فَيَقَعُ رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحِ

الْبُخَارِيِّ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ فِي جَوَابِ التَّرَجِّي ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا قَوْله تَعَالَى { لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ } قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ .
( السَّابِعَةُ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَعَاطَى بِيَدِهِ جُرْحَ الْمُسْلِمِ أَوْ يُغْرِي الْمُشِيرَ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَجَازٌ عَلَى طَرِيقِ نِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ الْمُسْتَنْكَرَةِ إلَى الشَّيْطَانِ ، وَالْمُرَادُ سَبْقُ السِّلَاحِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ .
( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ تَأَكُّدُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ ، وَالنَّهْيَ الشَّدِيدَ عَنْ تَرْوِيعِهِ ، وَتَخْوِيفِهِ ، وَالتَّعَرُّضِ لَهُ بِمَا قَدْ يُؤْذِيهِ .
( التَّاسِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ إلَى آخِرِهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَجْهُ إيرَادِهِ فِي الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ إذَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا قَدْ يَنْتَهِي إلَى الْجِنَايَةِ فَتَحْرِيمُ الْجِنَايَةِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى .
.

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلَاجَّهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا ، فَقَالَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ، قَالُوا نَعَمْ ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ هَؤُلَاءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْت عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَفَرَضِيتُمْ ، قَالُوا لَا ، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُفُّوا فَكَفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ ، وَقَالَ أَرَضِيتُمْ قَالُوا نَعَمْ ؛ قَالَ فَإِنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ ، وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ ، قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَرَضِيتُمْ ؟ قَالُوا نَعَمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلَاجَّهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا فَقَالَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ ، وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ هَؤُلَاءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْت عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَفَرَضِيتُمْ قَالُوا لَا فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُفُّوا فَكَفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ ، وَقَالَ أَرَضِيتُمْ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ ، وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ قَالُوا نَعَمْ ؛ فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَرَضِيتُمْ قَالُوا نَعَمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ .
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ تَفَرَّدَ بِهَذَا مَعْمَرٌ لَا أَعْلَمُ رَوَاهُ غَيْرُهُ .
( الثَّانِيَةُ ) أَبُو جَهْمٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ مُكَبَّرٌ قِيلَ اسْمُهُ عَامِرٌ ، وَقِيلَ عُبَيْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ قُرَشِيٌّ عَدَوِيٌّ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي قُرَيْشٍ مُعَظَّمًا ، وَكَانَتْ فِيهِ فِي بَيْتِهِ شِدَّةٌ ، وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ يُشِيرُ أَنَّ ضَرْبَهُ لِلنِّسَاءِ ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَنْسَابِ ، وَهُوَ مِنْ الْمُعَمِّرِينَ

شَهِدَ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَقِيلَ إنَّهُ مَاتَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِجَانِيَّةِ .
.
( الثَّالِثَةُ ) الْمُصَدِّقُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَتَخْفِيفِهَا ، وَكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا هُوَ عَامِلُ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَأْخُذُهَا ، وَأَمَّا بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فَهُوَ الْمُعْطِي ، وَأَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقُ أُدْغِمَتْ التَّاءُ فِي الصَّادِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجِهِمَا .
وَقَالَ ثَابِتٌ إنَّهُ يُقَالُ بِالتَّخْفِيفِ لِلَّذِي يَأْخُذُهَا ، وَاَلَّذِي يُعْطِيهَا ، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُ الْمُشَدَّدِ فِي طَالِبِ الصَّدَقَةِ أَيْضًا ، وَأَنْكَرَ ثَعْلَبٌ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( فَلَاجَّهُ رَجُلٌ ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ كَذَا ضَبَطْنَاهُ ، وَرَوَيْنَاهُ أَيْ تَمَادَى فِي خُصُومَتِهِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْمُلَاجَّةُ التَّمَادِي فِي الْخُصُومَةِ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ لَجَّ فِي الْأَمْرِ تَمَادَى عَلَيْهِ ، وَأَبَى أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْهُ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُد فَلَاحَّهُ بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَإِنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ بِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْإِلْحَاحِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أَلَحَّ السَّحَابُ أَيْ قَامَ مَطَرُهُ ، وَأَوْرَدَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ دَاسَّةَ عَنْ أَبِي دَاوُد فَلَاجَّهُ رَجُلٌ أَوْ لَاحَاهُ عَلَى الشَّكِّ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى الْأُولَى ، إنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ لَاحَاهُ ، وَقَالَ مَعْنَاهُ نَازَعَهُ ، وَخَاصَمَهُ ، وَفِي بَعْضِ الْأَمْثَالِ ( عَادَاك مِنْ لَاحَاك ) .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ ( فَشَجَّهُ ) بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْجِيمِ أَيْ جَرَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ ، وَالشَّجَّةُ الْجِرَاحَةُ فِي الرَّأْسِ أَوْ الْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْبَدَنِ كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، وَخَصَّصَهَا صَاحِبَا الصِّحَاحِ ، وَالْمَشَارِقِ بِجِرَاحَةِ الرَّأْسِ ، وَلَعَلَّهُمَا ذَكَرَا

الْغَالِبَ ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ الشَّجُّ فِي الرَّأْسِ خَاصَّةً فِي الْأَصْلِ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي غَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الْمَشْجُوجُ ، وَمَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِآخِرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي لَيْثٍ ، وَالْقَوَدُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْوَاوِ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ سَنُصَوِّبُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ فَطَلَبَ الْقَوَدَ .

( السَّابِعَةُ ) تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى طَلَبِ الْقَوَدِ وَمُرَاضَاتُهُ لَهُ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الْعِوَضِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ ، وَذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَبْوِيبِهِ فِي سُنَنِهِ ( الْعَامِلُ يُصَابُ عَلَى يَدِهِ الْخَطَأُ ) فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَوَدٌ .
( الثَّامِنَةُ ) قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ إلَّا فِي الْمُوضِحَةِ ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تَكْشِفُهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا قَبْلَهَا أَيْضًا مِنْ الْجِرَاحَاتِ ، وَهِيَ الْحَارِصَةُ ، وَالدَّامِيَةُ ، وَالْبَاضِعَةُ وَالْمُتَلَاحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا بَعْدَهَا مِنْ الْهَاشِمَةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَقَالَ أَشْهَبُ يَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ الْقِصَاصُ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مُنَقِّلَةً ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ تَصِيرَ مُنَقِّلَةً ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي سَائِرِ الْجُرُوحِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } فَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ يَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ أَنْ تَكُونَ مُوضِحَةً لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا سِوَاهَا ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ لَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ لِأَحَدِ الشِّقَّيْنِ لِأَنَّهَا ، وَاقِعَةٌ غَيْرُ مُحْتَمَلَةٍ فَلَا اسْتِدْلَالَ بِهَا .
( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَالِي كَغَيْرِهِ مِنْ الْجُنَاةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَادَا مِنْ الْعُمَّالِ ، وَمِمَّنْ رَأَى عَلَيْهِمْ الْقَوَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ( قُلْت ) لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا عِنْدَ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ الْخَطَأِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّأْدِيبُ وَالتَّعْزِيرُ .

( الْعَاشِرَةُ ) إنْ قُلْت أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مُقَدَّرٌ ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ ، فَلِمَ وَقَعَتْ الْمُمَاكَسَةُ فِي ذَلِكَ وَالْمُرَاوَضَةُ ، وَلِمَ لَا أُلْزِمُوا بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ؟ ( قُلْت ) هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ عَمْدًا فَكَانَتْ الْخِيَرَةُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ فَرُوضِيَ عَنْ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ عَلَى هَذَا لِيَعْفُوَ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إرْضَاءِ الْمَشْجُوجِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ الشَّجَّةِ إذَا طَلَبَ الْمَشْجُوجُ الْقِصَاصَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ رَأَى وُقُوفَ الْحَاكِمِ عَنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَضُوا بِمَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ لَمْ يُلْزِمْهُمْ بِرِضَاهُمْ الْأَوَّلِ حَتَّى كَانَ مَا رَضُوا ظَاهِرًا ( قُلْت ) ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُجَوِّزُ لِلْحُكْمِ بِالْعِلْمِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ أَوَّلًا تَصْرِيحٌ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُمْ رُكُونٌ لِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ يُقَالُ كَانَ قَصْدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْيِيبَ خَوَاطِرِهِمْ ، وَاسْتِمَالَتَهَا ، وَكَانَ يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَصَدَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُمْ الرِّضَى بِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ وَالِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ عُذِرَ الْجَاهِلُ ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ الْعَالِمُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لَكَانَ كَافِرًا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ اللَّيْثِيِّينَ كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبُهُ كُفْرٌ مُجَرَّدٌ بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّهُمْ عُذِرُوا بِالْجَهَالَةِ فَلَمْ يَكْفُرُوا ( قُلْت )

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ذَلِكَ الرِّضَى حَيْثُ يَجُوزُ لَهُمْ الرُّجُوعُ عَنْهُ إذَا لَمْ يَقَعْ تَصْرِيحٌ بِالْعَفْوِ أَوْ ظَنُّوا أَنَّ لَهُمْ الرُّجُوعَ بَعْدَ الْعَفْوِ الصَّرِيحِ لَا أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِلَا شَكٍّ كَمَا قَالَ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الصَّدَقَةِ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّاعِي ضَرْبُهُ ، وَإِكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِنْ مَالِهِ .

بَابُ اشْتِبَاهِ الْجَانِي بِغَيْرِهِ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا وَأَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ فِي النَّارِ ، قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ { فِي أَنْ قَرَصَتْك نَمْلَةٌ أَهْلَكْت أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ } ؟ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ( أُحْرِقَتْ ) .

( بَابُ اشْتِبَاهِ الْجَانِي بِغَيْرِهِ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُحْرِقَ مِنْ تَحْتِهَا ، وَأَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ فِي النَّارِ قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَلِأَنْ قَرَصَتْك نَمْلَةٌ } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ أَحْرَقَتْ وَقَالَ الْبَاقُونَ أَهْلَكْت أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ ، ، ( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ لَدَغَتْهُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَرَصَتْهُ ، وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ ذَوَاتِ السُّمُومِ أَمَّا بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ الْخَفِيفُ مِنْ إحْرَاقِ النَّارِ كَالْكَيِّ وَنَحْوِهِ ، وَالْجَهَازُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا الْمَتَاعُ ، وَقَوْلُهُ ( فَأَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ ) قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ تِلْكَ النَّمْلَةُ لَكِنْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الشَّجَرَةِ ، وَهِيَ الَّتِي عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ تَحْتِهَا ، وَالْمُرَادُ إحْرَاقُهَا لِتَحْرِقَ النَّمْلَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَرْيَةِ النَّمْلِ ، وَهِيَ مَنْزِلُهُنَّ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ ، وَقَوْلُهُ ( فَهَلَّا

نَمْلَةً وَاحِدَةً ) وَاحِدَةً مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَهَلَّا أَحْرَقْت أَوْ عَاقَبْت نَمْلَةً وَاحِدَةً ، وَهِيَ الَّتِي قَرَصَتْك لِأَنَّهَا الْجَانِيَةُ ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَيْسَتْ لَهَا جِنَايَةٌ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ ذَلِكَ النَّبِيِّ كَانَ فِيهِ جَوَازُ قَتْلِ النَّمْلِ ، وَجَوَازُ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ ، وَلَمْ يُعْتَبْ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ بَلْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّمْلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ لِلْحَيَوَانِ إلَّا إذَا أَحْرَقَ إنْسَانًا فَمَاتَ بِالْإِحْرَاقِ فَلِوَلِيِّهِ الِاقْتِصَاصُ بِإِحْرَاقِ الْجَانِي ، وَسَوَاءٌ فِي مَنْعِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ الْقُمَّلُ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا اللَّهُ } .
وَأَمَّا قَتْلُ النَّمْلِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِيهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ انْتَهَى ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِ النَّمْلِ وَكُلِّ مُؤْذٍ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَتَبَهُ عَلَى التَّشَفِّي لِنَفْسِهِ بِقَتْلِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْعَظِيمَةَ الْمُسَبِّحَةَ بِسَبَبِ وَاحِدَةٍ ، وَقِيلَ كَانَ عَتْبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا جَاءَ فِي خَبَرٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَرْيَةٍ أَهْلَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ يَا رَبِّ قَدْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَدَوَابُّ ، وَمَنْ لَمْ يَقْتَرِفْ ذَنْبًا ثُمَّ أَنَّهُ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَجَرَتْ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِهِ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ .
وَفِيهِ أَنَّ الْجِنْسَ الْمُؤْذِيَ يُقْتَلُ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذِ ، وَتُقْتَلُ أَوْلَادُهَا ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ الْأَذَى عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ الْمَاوَرْدِيِّ

أَنَّهُ قَالَ يُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُؤْذِيَ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى دَفْعِهِمْ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيُسْتَخَفَّ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ إنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ جَمْعٍ أَذَاهُ مِنْهُ وَاحِدٌ .
وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الصَّبْرَ وَالصَّفْحَ لَكِنْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُؤْذٍ لِبَنِي آدَمَ ، وَحُرْمَةُ بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ غَيْرِ النَّاطِقِ فَلَوْ انْفَرَدَ لَهُ هَذَا النَّظَرُ ، وَلَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ التَّشَفِّي الطَّبِيعِيُّ لَمْ يُعَاتَبْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَكِنْ لَمَّا انْضَافَ التَّشَفِّي الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عُوتِبَ عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا التَّمَسُّكُ بِأَصْلِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاَللَّهِ وَبِأَحْكَامِهِ ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّمْلِ عِنْدَنَا مَحَلُّهُ فِي النَّمْلِ الْكَبِيرِ الْمَعْرُوفِ بِالسُّلَيْمَانِيِّ كَذَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَغَوِيُّ فِي أَوَاخِرِ شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الْبَغَوِيّ .
وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُسَمَّى بِالنَّمْلِ فَاسْمُهُ الذَّرُّ ، وَقَتْلُهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ الْإِحْرَاقِ ، وَفِي الِاسْتِقْصَاءِ عَنْ الْإِيضَاحِ لِلصَّيْمَرِيِّ أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي مِنْهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ ، وَنَقَلَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ شَارِحُ التَّنْبِيهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ كَرَاهَةَ قَتْلِ النَّمْلِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْجَوَازِ فِي الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ إمَّا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ ، وَقَدْ بَوَّبَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ { قَتْلِ الذَّرِّ } .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ قِصَّةَ هَذَا النَّبِيِّ كَانَتْ فِي الذَّرِّ فَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي حُكْمُهَا عِنْدَنَا ، وَفِي شَرِيعَتِهِ .
( الرَّابِعَةُ ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي قَوْلِهِ { فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً

} تِلْكَ النَّمْلَةُ الَّتِي قَرَصَتْهُ أَيْ هَلَّا اقْتَصَرْت عَلَى مُعَاقَبَتِهَا وَحْدَهَا دُونَ مَنْ لَمْ يَجْنِ عَلَيْك ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَتِهَا بِعَيْنِهَا احْتَاجَ إلَى الِانْكِفَافِ عَنْ الْكُلِّ ، وَلِهَذَا بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( اشْتِبَاهُ الْجَانِي بِغَيْرِهِ ) وَيَكُونُ هَذَا وَجْهَ الْعَتْبِ .
وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ بَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لَكِنْ مَا أَدْرِي كَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا مَعَ جَوَازِ قَتْلِ النَّمْلِ فِي شَرِيعَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَإِحْرَاقِهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَلْدَغْهُ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ إنَّمَا ذُكِرَتْ ضَرْبَ مَثَلٍ لَهُ فِي سُؤَالِهِ عَنْ إهْلَاكِ الْقَرْيَةِ ، وَفِيهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ إنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ بِحُكْمِ الْمُلْكِ أَنْ يُهْلِكَ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ فَإِذَا اخْتَلَطَ الْمُذْنِبُ بِغَيْرِهِ ، وَأُهْلِكُوا بِعَامٍّ شَمِلَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلِهَذَا النَّبِيِّ عَلَى مَا قَرَّرُوهُ أَنْ يَحْرُقَ مِنْ النَّمْلِ مَا لَمْ يَلْدَغْهُ .
فَإِذَا اخْتَلَطَ مَا لَدَغَهُ بِغَيْرِهِ فَلَهُ إهْلَاكُ الْجَمِيعِ فَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ هَذَا الْوَحْيُ إنْكَارًا لِمَا فَعَلَ بَلْ جَوَابًا لَهُ وَإِيضَاحًا لِحِكْمَةِ شُمُولِ الْهَلَاكِ لِجَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ أَهْلَكْت أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ تَسْبِيحُ مَقَالٍ ، وَنُطْقٍ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ النَّمْلَةِ الَّتِي سَمِعَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهَا { اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } إلَى آخِرِهِ ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَهَا نُطْقًا لَكِنْ لَا يُسْمَعُ إلَّا بِخَرْقِ عَادَةٍ لِنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إدْرَاكِنَا لَهُ عَدَمُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَقَدْ يَجِدُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ قَوْلًا ، وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِنُطْقٍ ، وَقَدْ خَرَقَ اللَّهُ الْعَادَةَ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَسْمَعَهُ كَلَامَ النَّفْسِ مِنْ قَوْمٍ تَحَدَّثُوا مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِهِ وَكَذَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، وَإِيَّاهُ عَنَى بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ فِي أُمَّتِي مُحَدِّثِينَ وَإِنْ عُمَرُ مِنْهُمْ } انْتَهَى بِمَعْنَاهُ .

( كِتَابُ الْجِهَادِ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ ، وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِهِ { قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُول لَا تَسْتَطِيعُونَهُ } .

كِتَابُ الْجِهَادِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ .
عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ ، وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فَذَكَرَهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ } ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ لَا أَجِدُهُ قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَك فَتَقُومَ ، وَلَا تَفْتُرَ ، وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ ، قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَتَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٌ } وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجِهَادِ جِدًّا لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْقِيَامَ بِآيَاتِ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَقَدْ عَدَلَهَا الْمُجَاهِدُ ، وَصَارَتْ جَمِيعُ حَالَاتِهِ مِنْ تَقَلُّبِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ أَكْلِهِ وَنَوْمِهِ وَبَيْعِهِ وَشِرَائِهِ لِمَا يَحْتَاجُهُ ، وَأَجْرُهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْرِ الْمُثَابِرِ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُفْتَرُ ، وَقَلِيلٌ مَا يَقْدِرُ

عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ ، وَفِيهِ أَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ عَطَاءٌ وَإِحْسَانٌ قُلْت الْمُجَاهِدُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ فِي عِبَادَةٍ مَعَ الْمَشَقَّةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ ، وَمُخَاطَرَتِهِ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ ، وَبَذْلِهِ لَهَا فِي رِضَى اللَّهِ تَعَالَى .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ ( حَتَّى تَرْجِعَ ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ انْتِهَاءَ رُجُوعِهِ إلَى وَطَنِهِ ، وَأَكَّدَ بِهَذِهِ الْغَايَةِ اسْتِيعَابَ هَذَا الْفَضْلِ جَمِيعَ حَالَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ فِي حَالَةٍ مِنْ الْأَحْوَالِ عَنْ كَوْنِهِ مَثَلَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ رُجُوعِهِ ، وَهُوَ بَعِيدٌ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الْمُجَاهِدَ فِي حَالَةِ الْجِهَادِ ، وَفِي وَسَائِلِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِحَالَةِ مَنْ لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ فَكَانَ هُوَ بِمُفْرَدِهِ كَهَذِهِ الْأَعْمَالِ بِمَجْمُوعِهَا ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى عَمَلِ الْبَدَنِ ، وَالْمَالِ ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ ، وَوَسِيلَةٌ إلَى غَيْرِهِ ، وَفَضِيلَةُ الْوَسِيلَةِ بِحَسْبِ فَضِيلَةِ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ ، وَالْجِهَادُ وَسِيلَةٌ إلَى إعْلَانِ الدِّينِ وَنَشْرِهِ وَإِخْمَالِ الْكُفْرِ وَدَحْضِهِ فَفَضِيلَتُهُ بِحَسَبِ فَضِيلَةِ ذَلِكَ .

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } .
الْحَدِيثُ الثَّانِي ، وَعَنْهُ .
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَهُ عِنْدَهُمَا غَيْرُ هَذَا الطَّرِيقِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( تَكَفَّلَ اللَّهُ ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ تَضَمَّنَ اللَّهُ ، وَمَعْنَاهُمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ ، وَهَذَا الضَّمَانُ ، وَالْكَفَالَةُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } الْآيَةَ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَيْ كَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ فَيُعَادِي مَنْ أَبَاهُمَا ، وَقِيلَ تَصْدِيقُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لِلْمُجَاهِدِينَ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ اعْتِبَارُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ ، وَأَنَّهُ لَا يَزْكُو مِنْهَا إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ بَيْتِهِ إشَارَةٌ إلَى وُجُودِ هَذَا الْقَصْدِ مِنْ ابْتِدَاءِ ذَلِكَ الْعَمَلِ .

( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ ( أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُدْخِلَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاءِ { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، وَفِي الْحَدِيثِ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَخَرَ لَهُ الْجَنَّةَ عِنْدَ دُخُولِ السَّابِقِينَ ، وَالْمُقَرَّبِينَ بِلَا حِسَابٍ ، وَلَا عَذَابٍ ، وَلَا مُؤَاخَذَةٍ بِذَنْبٍ ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُكَفِّرَةً لِذَنْبِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ أَوْ يَرْجِعَهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ، وَقَوْلُهُ إلَى مَسْكَنِهِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِي خَرَجَ مِنْهُ تَأْكِيدٌ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَحَبَّةِ الْوَطَنِ .

( السَّابِعَةُ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ { مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ } أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ فَمَتَى حَصَلَتْ لِلْمُجَاهِدِ غَنِيمَةٌ لَا أَجْرَ لَهُ ، وَلَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُنْقِصُ مِنْ أَجْرِ الْغَانِمِ لِحَدِيثٍ رَوَوْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا مِنْ سَرِيَّةٍ أَسَرَتْ فَأَخْفَقَتْ أَيْ لَمْ تَغْنَمْ شَيْئًا إلَّا كُتِبَ لَهَا أَجْرُهَا مَرَّتَيْنِ } قَالُوا وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَسْكَرَ إذَا لَمْ يَغْنَمْ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِهِ ، قَالُوا وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتُصِيبُ غَنِيمَةً إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنْ الْآخِرَةِ ، وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُثُ فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ } ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهَذَا إنَّمَا فِيهِ تَعْجِيلُ بَعْضِ الْأَجْرِ مَعَ التَّسْوِيَةِ فِيهِ لِلْغَانِمِ وَغَيْرِ الْغَانِمِ إلَّا أَنَّ الْغَانِمَ عُجِّلَ لَهُ ثُلُثَا أَجْرِهِ ، وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي جُمْلَتِهِ ، وَقَدْ عَوَّضَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ فِي الْآخِرَةِ مَا فَاتَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ : الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْغُزَاةَ إذَا سَلِمُوا وَغَنِمُوا يَكُونُ أَجْرُهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَجْرِ مَنْ لَمْ يَسْلَمْ ، أَوْ سَلِمَ وَلَمْ يَغْنَمْ ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْرِ غَزْوِهِمْ فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَقَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْغَزْوِ ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْغَنِيمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْرِ ، وَهَذَا يُوَافِقُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِهِ { مِنَّا مَنْ مَاتَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ

شَيْئًا ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدَبُهَا } أَيْ يَجْنِيهَا ، قَالَ : وَلَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ يُخَالِفُ هَذَا ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ مَعْنَى مَا ذَكَرْته بَعْدَ حِكَايَتِهِ أَقْوَالًا فَاسِدَةً ( مِنْهَا ) قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ ثَوَابُهُمْ بِالْغَنِيمَةِ كَمَا لَمْ يُنْقَصُ ثَوَابُ أَهْلِ بَدْرٍ ، وَهُمْ أَفْضَلُ الْمُجَاهِدِينَ ، وَهِيَ أَفْضَلُ غَنِيمَةٍ قَالَ : وَزَعَمَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبَا هَانِئٍ حُمَيْدٍ بْنَ هَانِئٍ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ ، وَرَجَّحُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي أَنَّ الْمُجَاهِدَ يَرْجِعُ بِمَا يَنَالُ مِنْ أَجْرٍ ، وَغَنِيمَةٍ فَرَجَّحُوهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِشُهْرَتِهِ وَشُهْرَةِ رِجَالِهِ ، وَلِأَنَّهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَهَذَا فِي مُسْلِمٍ خَاصَّةً ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ فَإِنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ رُجُوعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الْغَنِيمَةَ تُنْقِصُ الْأَجْرَ أَمْ لَا ، وَلَا قَالَ أَجْرُهُ كَأَجْرِ مَنْ لَمْ يَغْنَمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَبُو هَانِئٍ مَجْهُولٌ فَغَلَطٌ فَاحِشٌ بَلْ هُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ رَوَى عَنْهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَحَيْوَةُ ، وَابْنُ وَهْبٍ ، وَخَلَائِقُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَيَكْفِي فِي تَوْثِيقِهِ احْتِجَاجُ مُسْلِمٍ بِهِ فِي صَحِيحِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ كَوْنُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَلَا فِي أَحَدِهِمَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ فَلَيْسَ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ نَصٌّ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَغْنَمُوا لَكَانَ أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَجْرِهِمْ ، وَقَدْ غَنِمُوا فَقَطْ ، وَكَوْنُهُمْ مَغْفُورًا لَهُمْ مَرْضِيًّا عَنْهُمْ ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ وَرَاءَ هَذَا مَرْتَبَةٌ أُخْرَى هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْفَضْلِ عَظِيمُ الْقَدْرِ ،

وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَعَلَّ الَّذِي تَعَجَّلَ ثُلُثَيْ أَجْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي غَنِيمَةٍ أُخِذَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا ، وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ إذْ لَوْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ وَجْهِهَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتَ الْأَجْرِ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الَّتِي أَخْفَقَتْ يَكُونُ لَهَا أَجْرٌ بِالْأَسَفِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهَا كَمَا يُضَاعِفُ لِمَنْ أُصِيبَ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ مُبَايِنٌ لِصَرِيحِ الْحَدِيثِ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ الْغَزْوِ وَالْغَنِيمَةِ مَعًا يَنْقُصُ ثَوَابُهُ ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ انْتَهَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَعْنَاهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ بِلَا غَنِيمَةٍ إنْ لَمْ يَغْنَمْ أَوْ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ مَعًا إنْ غَنِمَ فَالْأَجْرُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مَعَ الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِهِ ، وَكَيْفَ [ يَكُونُ ] الْمُجَاهِدُ الْمُخْلِصُ بِلَا أَجْرٍ مَعَ كَوْنِهِ كَالصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ فَمَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِلَا أَجْرٍ ، وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْغَنَائِمِ لَنَا ، وَلَوْ كَانَ حُصُولُهَا مَانِعًا مِنْ الْأَجْرِ لَمْ تَحْصُلْ بِهَا الْمِنَّةُ بَلْ هِيَ حِينَئِذٍ نِقْمَةٌ ، وَقَدْ { ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ } ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اجْتِمَاعِهِمَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ ( أَوْ ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَكَذَا وَقَعَ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ .

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلَاثًا أُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى } .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ .
وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلَاثًا أُشْهِدُ اللَّهَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ بِمَعْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْيَمِينِ وَانْعِقَادِهَا بِقَوْلِهِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، وَمَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الْيَمِينُ تَكُونُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ .

( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَعْظِيمِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى ذَلِكَ فِي خُصُومَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ الِاسْتِخْفَافُ بِالْيَمِينِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ نَفْسِي بِإِسْكَانِ الْفَاءِ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ بِفَتْحِ الْفَاءِ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا لَكِنْ لَا يَجُوزُ النُّطْقُ بِالْحَدِيثِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَرْوِيٍّ ، وَالْيَدُ هُنَا الْقُدْرَةُ وَالْمِلْكُ قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ تَمَنٍّ الْإِنْسَانِ الْخَيْرَ ، وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي الْعَادَةِ وَالْمَكْرُوهُ إنَّمَا هُوَ التَّمَنِّي فِي الشَّهَوَاتِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا .
( السَّادِسَةُ ) لَمْ يَتَمَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا بَعْدَ الْمُقَاتَلَةِ لِيَكُونَ مِنْهُ عَمَلٌ وَإِقَامَةٌ لِلدِّينِ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( أُحْيَا ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْفَتْحُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ، وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَلَاثًا أَيْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، وَقَوْلُهُ أُشْهِدُ اللَّهَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ تَأْكِيدٌ لِمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ تَمَنِّيه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثَلَاثًا ، وَقَدْ وَرَدَ تَمَنِّيه ذَلِكَ أَرْبَعًا ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ } .
( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ فَضْلُ الْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ .

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ } ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إذَا طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ } قَالَ قَالَ أَبِي يَعْنِي ( الْعَرْفَ الرِّيحَ ) .

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إذَا طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ ، قَالَ أَبِي يَعْنِي الْعَرْفَ الرِّيحَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( لَا يُكْلَمُ ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً أَيْ لَا يُجْرَحُ ، وَالْكَلْمُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ الْجُرْحُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ نَبَّهَ بِهَا عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْغَزْوِ ، وَأَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ أَخْلَصَ فِيهِ وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( يَثْعَبُ ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ يَجْرِي مُنْفَجِرًا كَثِيرًا ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَفَجَّرُ دَمًا ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِهَا ، وَأَصْلُهُ تَتَفَجَّرُ فَحُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ كُلُّ كَلْمٍ

يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَحَدٌ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُسْلِمِ الْكَامِلُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَا يَكُونُ كَلْمُهُ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَكُونُ هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ ، وَجَاءَ عَلَى التَّأْنِيثِ فِيهِ ، وَفِي قَوْلِهِ ( كَهَيْئَتِهَا ) وَفِي قَوْلِهِ ( إذَا طُعِنَتْ ) وَفِي قَوْلِهِ تَفَجَّرُ مَعَ تَقْدِيمِ التَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْجِرَاحَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَإِذَا طُعِنَتْ بِالْأَلِفِ بَعْدَ الدَّالِ كَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ ( قُلْت ) وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ إذْ بِدُونِ أَلِفٍ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالَةٍ مَاضِيَةٍ ، وَكَانَ التَّعْبِيرُ بِإِذَا لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَأَنَّهَا فِي الْقِيَامَةِ كَحَالَةِ الْجِرَاحَةِ .
( السَّادِسَةُ ) إنْ قُلْت أَيْنَ خَبَرُ قَوْلِهِ كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ ( قُلْت ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَامِلُ الْإِسْلَامِ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ جَمِيعَ كُلُومِ الْمُسْلِمِ الْكَامِلِ الْإِسْلَامِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى آخِرِهِ ، وَثُمَّ زَائِدَةٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ لَك مِنْ تَتِمَّةِ أَوْصَافِ الْمُبْتَدَأِ فَمَحَطُّ الْفَائِدَةِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ جِرَاحَاتِ سَبِيلِ اللَّهِ تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ رَائِحَتُهَا كَالْمِسْكِ .
( السَّابِعَةُ ) ( الْعَرْفُ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الرِّيحُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالْقَائِلُ قَالَ أَبِي هُوَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ، وَلَوْ قَالَ يَعْنِي بِالْعَرْفِ الرِّيحَ لَكَانَ أَوْلَى ، وَكَأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ قَوْلِهِ الْعَرْفَ عَلَى طَرِيقِ

التَّوَسُّعِ فَانْتَصَبَ .

( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْمَجْرُوحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَحْيَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ حَالَةَ الْجِرَاحَةِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ أَوْ تَبْرَأَ جِرَاحَتُهُ لِقَوْلِهِ كُلُّ كَلْمٍ ، ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَاهِدُ فَضِيلَتِهِ ، وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى .

( التَّاسِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالُوا وَهَذَا الْفَضْلُ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَتْلِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَفِي إقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِالْمَعْنَى هَذِهِ الْأُمُورُ ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } ( قُلْت ) وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي دُخُولِ الْمُقَاتِلِ دُونَ مَالِهِ فِي هَذَا الْفَضْلِ لِإِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى اعْتِبَارِ الْإِخْلَاصِ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ، وَالْمُقَاتِلُ دُونَ مَالِهِ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ إنَّمَا يَقْصِدُ صَوْنَ مَالِهِ ، وَحِفْظَهُ فَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِدَاعِيَةِ الطَّبْعِ لَا بِدَاعِيَةِ الشَّرْعِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ شَهِيدًا أَنْ يَكُونَ دَمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَرِيحِ الْمِسْكِ ، وَأَيُّ بَذْلٍ بَذَلَ نَفْسَهُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَسْتَحِقَّ هَذَا الْفَضْلَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يُبْعَثُ عَلَى حَالِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ فَضْلَ الشَّهِيدِ أَنَّ رِيحَ دَمِهِ كَرِيحِ الْمِسْكِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ قَالَ : وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمَوْتَى جُمْلَةً يُبْعَثُونَ عَلَى هَيْئَتِهِمْ احْتَجَّ بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ الْهَادِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا ثُمَّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا } قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ فِي الشَّهِيدِ فَتَأَوَّلَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِهِ هُوَ الشَّهِيدَ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُزَمَّلَ بِثِيَابِهِ ، وَيُدْفَنَ فِيهَا ، وَلَا يُغْسَلَ عَنْهُ دَمُهُ ، وَلَا يُغَيَّرَ شَيْءٌ مِنْ حَالِهِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّكُمْ تُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } ، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إبْرَاهِيمُ } قَالَ : وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُخْتَمُ لَهُ بِهِ ، وَظَاهِرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى ( قُلْت ) وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ الثِّيَابَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ لِنَجَاسَةٍ فِيهَا إمَّا مُحَقَّقَةٌ ، وَإِمَّا مَشْكُوكَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ بِثِيَابٍ مُحَقَّقَةِ الطَّهَارَةِ ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ انْخِتَامِ الْآجَالِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَحْثُوثٌ عَلَى أَنْ يَخْتِمَ أَعْمَالَهُ بِالصَّالِحَاتِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُزَالُ عَنْهُ الدَّمُ بِغُسْلٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا هَذَا لَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ غُسْلِنَا الدَّمَ إقَامَةً لِوَاجِبِ التَّطْهِيرِ وَالْغُسْلِ ذَهَابُ الْفَضْلِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَا لَزِمَ بِغُسْلِهِ لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِيءُ دَمُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ كُلُّ كَلْمٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَكِنْ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَرْكِ غُسْلِ دَمِ الشَّهِيدِ فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ .

{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي بَابِ مَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ حَدِيثًا صَحِيحَ السَّنَدِ فِي الْمَاءِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى حُكْمِ الْمَاءِ الْمَائِعِ بِحُكْمِ الدَّمِ الْمَائِعِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَلَا فِي الدَّمِ مَعْنَى الْمَاءِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَشْتَغِلُ الْفُقَهَاءُ بِمِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ اللُّغْزُ بِهِ ، وَإِشْكَالُهُ ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ إيضَاحُهُ وَبَيَانُهُ ، وَبِهَذَا أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ، وَلَا يَكْتُمُونَهُ انْتَهَى ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ بِنَجَاسَةٍ دُونَ لَوْنِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لِرَائِحَتِهِ فَيَكُونُ نَجِسًا ، وَلَوْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ لِأَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ لَمَّا اخْتَلَفَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ كَانَ الْحُكْمُ لِرَائِحَتِهِ ، وَعَكَسَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَقَالَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَاعَى فِي الْمَاءِ تَغَيُّرُ لَوْنِهِ دُونَ رَائِحَتِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى هَذَا الْخَارِجَ مِنْ جُرْحِ الشَّهِيدِ دَمًا ، وَإِنْ كَانَ رِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ ، وَلَمْ يُسَمِّهِ مِسْكًا فَغَلَّبَ الِاسْمَ لِلَوْنِهِ عَلَى رَائِحَتِهِ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى تَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُنَا فِيمَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ بِالْمُجَاوَرَةِ فَأَمَّا بِمَا خَالَطَهُ فَعَبْدُ الْمَلِكِ يَقُولُ لَا يُعْتَدُّ بِالرَّائِحَةِ ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ يَعْتَبِرُونَ

الرَّائِحَةَ كَاعْتِبَارِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَظْهَرُ ثُمَّ إنَّ فَرْضَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ الْمَسْأَلَةَ فِي التَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ أَحَدِ الْأَوْصَافِ بِالنَّجَاسَةِ كَافٍ فِي تَنْجِيسِهِ ، وَقَدْ نَقَلَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الْإِجْمَاعَ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّغَيُّرِ بِالظَّاهِرِ فَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هُوَ كَالتَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ يَكْفِي فِيهِ أَحَدُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ ، وَفِي قَوْلٍ يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا ، وَفِي قَوْلٍ يَكْفِي اللَّوْنُ وَحْدَهُ .
وَأَمَّا الطَّعْمُ وَالرَّائِحَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا فَكَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنْ يَفْرِضَ ذَلِكَ فِي التَّغَيُّرِ بِالطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ثُمَّ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ إيرَادَ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلرُّخْصَةِ فِي الرَّائِحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّغْلِيظِ بِعَكْسِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الدَّمَ لَمَّا انْتَقَلَ بِطِيبِ رَائِحَتِهِ مِنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ إلَى الطَّهَارَةِ ، وَمِنْ الْقَذَارَةِ إلَى الطِّيبِ بِتَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ ، وَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمِسْكِ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْتَقِلُ عَلَى الْعَكْسِ بِخُبْثِ الرَّائِحَةِ أَوْ تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى النَّجَاسَةِ انْتَهَى .
وَجَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَاسْتَنْبَطَ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا حُكِمَ لِلدَّمِ بِالطَّهَارَةِ بِتَغَيُّرِ رِيحِهِ إلَى الطِّيبِ وَبَقِيَ فِيهِ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَغَيُّرَهُمَا إلَى الطِّيبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ مِنْهُ وَصْفَانِ بِالنَّجَاسَةِ وَبَقِيَ وَصْفٌ وَاحِدٌ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ قِيلَ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمْت لِأَنَّ رِيحَ الْمِسْكِ حُكْمٌ لِلدَّمِ بِالطَّهَارَةِ فَكَانَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ تَبَعًا لِلظَّاهِرِ ، وَهُوَ الرِّيحُ الَّذِي

انْقَلَبَ رِيحَ مِسْكٍ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ مِنْهُ وَصْفٌ وَاحِدٌ بِنَجَاسَةٍ حَلَّتْ فِيهِ كَانَ الْوَصْفَانِ الْبَاقِيَانِ تَبَعًا لِلنَّجَاسَةِ ، وَكَانَ الْمَاءُ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الطَّهَارَةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ صِفَةِ الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا انْتَهَى .

{ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُضَافِ الْمُتَغَيِّرَةِ أَوْصَافُهُ إلَى الطِّيبِ ، وَحُجَّتُهُ بِذَلِكَ تَضْعُفُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا قَعَدْت خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِي ، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي } .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْت خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً ؛ فَأَحْمِلَهُمْ ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِي ، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، وَمِنْ طَرِيقِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ خَمْسَتِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } السَّرِيَّةُ قِطْعَةٌ مِنْ الْجَيْشِ تَنْفَرِدُ بِالْغَزْوِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ مَا بَيْنَ خَمْسَةِ أَنْفُسٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ الْخَيْلِ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ خُلَاصَةً لِلْعَسْكَرِ ، وَخِيَارَهُمْ مِنْ الشَّيْءِ السِّرِّيِّ النَّفِيسِ ، وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُنَفِّذُونَ سِرًّا وَخُفْيَةً ، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ لِأَنَّ لَامَ السِّرِّ رَاءٌ ، وَهَذِهِ يَاءٌ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ أَيْ بَعْدَهَا ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَاضِحٌ ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْجِهَادِ ، وَقَدْ أَوْضَحَ فِي الْحَدِيثِ صُورَةَ الْمَشَقَّةِ ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُ الصَّحَابَةِ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزْوِ ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى نَفَقَةٍ وَكُلْفَةٍ مَعَ ضِيقِ الْحَالِ ، وَقَوْلُهُ فَأَحْمِلَهُمْ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ وَالسَّعَةُ بِفَتْحِ السِّينِ .
{ الرَّابِعَةُ } وَفِيهِ رِفْقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ وَرَأْفَتُهُ بِهِمْ ، وَأَنَّهُ يَتْرُكُ

بَعْضَ أَعْمَالِ الْبِرِّ خَشْيَةَ أَنْ يَتَكَلَّفُوهُ فَيَشُقَّ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّعْيِ فِي زَوَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ وَفِيهِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ بُدِئَ بِأَهَمِّهَا .
{ الْخَامِسَةُ } وَفِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا فَرْضَ عَيْنٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَقِيلَ كَانَ فِي زَمَنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ قَدْ يَتَعَيَّنُ لِعَارِضٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَالُوا كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ يُقْتَلُ هَذَا فَيَلِجُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْآخَرِ فَيَهْدِيه إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَضْحَكُ اللَّهُ لِرَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُقَاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ } .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ .
وَعَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَالُوا كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ يُقْتَلُ هَذَا فَيَلِجُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْآخَرِ فَيَهْدِيه إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُسْتَشْهَدُ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَضْحَكُ اللَّهُ لِرَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُقَاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ بِلَفْظِ { إنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ } .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الضَّحِكُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ فِي صِفَتِنَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَمِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَغَيُّرُ الْحَالَاتِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِهِ الرِّضَى بِفِعْلِهِمَا ، وَالثَّوَابُ عَلَيْهِ ، وَحَمْدُ فِعْلِهِمَا ، وَمَحَبَّتُهُ ، وَتَلَقِّي رُسُلِ اللَّهِ لَهُمَا بِذَلِكَ لِأَنَّ الضَّحِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ مَا يَرْضَاهُ ، وَسُرُورِهِ بِهِ وَبِرِّهِ لِمَنْ يَلْقَاهُ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا ضَحِكَ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُوَجِّهُهُمْ لِقَبْضِ رُوحِهِ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ كَمَا يُقَالُ قَتَلَ السُّلْطَانُ فُلَانًا أَيْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ ، وَقَالَ ابْنُ

عَبْدِ الْبَرِّ مَعْنَاهُ يَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَيَتَلَقَّى بِالرُّوحِ ، وَالرَّاحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ ، وَهَذَا مَجَازٌ مَفْهُومٌ قَالَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ الْخَوْضَ فِي مِثْلِ هَذَا .
{ الثَّالِثَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعْنَاهُ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ كَانَ كَافِرًا ، وَتَوْبَتُهُ إسْلَامُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } قَالَ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ .

{ الرَّابِعَةُ } اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الشَّهِيدِ شَهِيدًا فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ لِأَنَّهُ حَيٌّ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَهِدَتْ ، وَحَضَرَتْ دَارَ السَّلَامِ ، وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ إنَّمَا تَشْهَدُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ ، وَقِيلَ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ يَشْهَدُونَهُ فَيَأْخُذُونَ رُوحَهُ ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ شُهِدَ لَهُ بِالْإِيمَانِ ، وَخَاتِمَةُ الْخَيْرِ ظَاهِرُ حَالِهِ ، وَقِيلَ لِأَنَّ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِكَوْنِهِ شَهِيدًا ، وَهُوَ الدَّمُ ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الرُّسُلِ الرِّسَالَةَ إلَيْهِمْ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ .

وَعَنْ جَابِرٍ { قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ أُحُدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ قُتِلْت فَأَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ فِي الْجَنَّةِ ، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو تَخَلَّى مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا } .

الْحَدِيثُ السَّابِعُ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ أُحُدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ قُتِلْت فَأَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو تَخَلَّى مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمْ قَوْلُهُ قَالَ ( غَيْرُ عَمْرٍو ) وَمَعْنَاهُ أَنَّ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ هَذَا الْكَلَامَ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ جَابِرٍ ، وَأَنَّهُ قَالَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُرْسَلًا .
{ الثَّانِيَةُ } ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ ، وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنِ بَشْكُوَالَ ، وَأَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ فِي مُبْهَمَاتِهِمْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ ، وَمُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ ، وَفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُومُوا إلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُك عَلَى قَوْلِك بَخٍ بَخٍ قَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ فَإِنَّك مِنْ أَهْلِهَا قَالَ فَاخْتَرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قِرَانِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيت حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ } وَفِيمَا ذَكَرُوهُ نَظَرٌ لِأَنَّ قِصَّةَ الْمُبْهَمِ كَانَتْ فِي أُحُدٍ ، وَهَذِهِ فِي بَدْرٍ ، وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهَا بِهَا ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ كَانَتْ قِصَّةَ يَوْمِ بَدْرٍ لَا يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشَارَ إلَى تَضْعِيفِ رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي

فِيهَا أَنَّهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَلَا تَوْجِيهَ لِذَلِكَ بَلْ الضَّعِيفُ تَفْسِيرُ هَذِهِ بِهَذِهِ ، وَكُلٌّ مِنْهَا صَحِيحَةٌ ، وَهُمَا قِصَّتَانِ لِشَخْصَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إنَّهُ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَجَعَلَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ إحْدَى الْقِصَّتَيْنِ بِالْأُخْرَى ، وَالصَّوَابُ خِلَافُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ابْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ ، وَقِيلَ إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالْقَاتِلُ لَهُ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْعُقَيْلِيُّ ، وَقَتِيلٌ بَلْ أَوَّلُ قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ .

{ الثَّالِثَةُ } وَفِيهِ ثُبُوتُ الْجَنَّةِ لِلشَّهِيدِ وَفِيهِ الْمُبَادَرَةُ بِالْخَيْرِ ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَغَلُ عَنْهُ بِحُظُوظِ النُّفُوسِ ، وَفِيهِ جَوَازُ الِانْغِمَاسِ فِي الْكُفَّارِ وَالتَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ ، وَهُوَ جَائِزٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( تَخَلَّى مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ فَرَغَ فُؤَادُهُ مِنْهُ وَالتَّخَلِّي التَّفَرُّغُ ، وَمِنْهُ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ .

وَعَنْهُ قَالَ { كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ } .

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ .
وَعَنْهُ قَالَ { كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَلَهُ عَنْهُ طُرُقٌ .
{ الثَّانِيَةُ } الْحُدَيْبِيَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَتَخْفِيفِهَا ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ يُشَدِّدُونَهَا ، وَالصَّوَابُ تَخْفِيفُهَا ، وَهِيَ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ سُمِّيَتْ بِبِئْرٍ فِيهَا ، وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ عُمْرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ فَصُدَّ عَنْ الْبَيْتِ ، وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى الِاعْتِمَارِ فَاعْتَمَرَ مِنْ قَابِلٍ ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُمْرَةِ الْقَضَّةِ ، وَهِيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّهُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُمْ أَلْفٌ وَثَلَثُمِائَةٍ ، وَالرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا ، وَسِتِّمِائَةٍ ، وَأَكْثَرُ ، وَرِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَكَذَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَكَسْرًا فَمَنْ قَالَ أَرْبَعَمِائَةٍ لَمْ يَعْتَبِرْ الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ وَخَمْسَمِائَةٍ اعْتَبَرَهُ ، وَمَنْ قَالَ : وَثَلَثَمِائَةٍ تَرَكَ بَعْضَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ الْعَدَّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْجَمْعِ

تَعَرُّضٌ لِرِوَايَةِ وَسِتِّمِائَةٍ ، وَيُنَافِي هَذَا الْجَمْعُ أَيْضًا مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا ، وَأَحْرَمَ مَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي مَبْدَأِ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ مَنْ لَحِقَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ } الْآيَةَ ، وَفِي الْحَدِيثِ { لَا يَلِجُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا ، وَالْحُدَيْبِيَةَ } ، وَهُمْ الْمُرَادُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ ، وَقَالَ آخَرُونَ هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ .
{ الْخَامِسَةُ } أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا السَّفَرُ إنَّمَا كَانَ سَفَرَ اعْتِمَارٍ لَكِنْ وَقَعَتْ فِيهِ الْبَيْعَةُ عَلَى الْجِهَادِ .

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ قَطُّ وَلَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا حَتَّى يَكُونَ إثْمًا فَإِذَا كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ الْإِثْمِ ، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ ، فَيَكُونَ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ قَطُّ ، وَلَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا كَانَ أَحَبُّهُمَا إلَيْهِ أَيْسَرَهُمَا حَتَّى يَكُونَ إثْمًا فَإِذَا كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ الْإِثْمِ وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَكُونَ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ { مَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً قَطُّ } مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ { وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ } إلَى آخِرِهِ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ سَاقَ الْبُخَارِيُّ لَفْظَهُ ، وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ بَلْ قَالَ إنَّهُ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ ، وَأَحَالَ بِهِ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ مَالِكٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ بِكَمَالِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } فِيهِ أَنَّ ضَرْبَ الْخَادِمِ ، وَنَحْوَهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِلْأَدَبِ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ .

{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهَا ( وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ ) مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ ، وَأَفْرَدَ ذَلِكَ لِيُسْتَثْنَى مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَخَصَّ الْخَادِمَ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا لِوُجُودِ سَبَبِ ضَرْبِهِ لِلِابْتِلَاءِ بِمُخَالَطَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ غَالِبًا ، وَفِيهِ فَضْلُ الْجِهَادِ ، وَالْمُقَاتَلَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ التَّنَزُّهُ عَنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ بِنَفْسِهِ بَلْ يُقِيمُ لَهَا مَنْ يَتَعَاطَاهَا ، وَعَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .

{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( إلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا ) كَذَا رَوَيْنَاهُ بِنَصْبِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ ، وَرَفْعِ الثَّانِي عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ فِي الِاسْمِيَّةِ ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَخْذِ بِالْأَيْسَرِ وَالْأَرْفَقِ مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا ، وَفِي أَخْذِ الْمَكْرُوهِ مِنْ الْحَدِيثِ نَظَرٌ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْكُ مَا عَسِرَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَتَرْكُ الْإِلْحَاحِ فِيهِ إذَا لَمْ يُضْطَرَّ إلَيْهِ ، وَالْمَيْلُ إلَى الْأَيْسَرِ أَبَدًا ، وَفِي مَعْنَاهُ الْأَخْذُ بِرُخَصِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرُخَصِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَرُخَصِ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ خَطَأً بَيِّنًا قَالَ : وَرَوَيْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الرُّخْصَةِ وَالسَّعَةِ مَا لَمْ يَخَفْ الْمَأْثَمَ ؛ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا الْعِلْمُ أَنْ تَسْمَعَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ ثِقَةٍ فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيَحُسُّهُ كُلُّ أَحَدٍ انْتَهَى قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا فِيهِ عُقُوبَتَانِ أَوْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ مِنْ الْقِتَالِ أَوْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ أَوْ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ فِي الْمُجَاهَدَةِ فِي الْعِبَادَةِ أَوْ الِاقْتِصَادِ فَكَانَ يَخْتَارُ الْأَيْسَرَ فِي كُلِّ هَذَا قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا فَيُتَصَوَّرُ إذَا خَيَّرَهُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَأَمَّا إنْ كَانَ التَّخْيِيرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا .

{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ { وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ } فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ ، وَالصَّفْحِ ، وَالْحِلْمِ ، وَاحْتِمَالِ الْأَذَى ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْأَئِمَّةِ ، وَالْقُضَاةِ ، وَسَائِرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ التَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِنَفْسِهِ ، وَلَا لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ .

{ السَّادِسَةُ } قَوْلُهُ ( حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ ) أَيْ يُرْتَكَبَ مَا حَرَّمَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لِأَنَّ انْتِقَامَهُ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ لَيْسَ انْتِقَامًا لِنَفْسِهِ فَهُوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لِأَنَّ فِيهِ انْتِقَامًا فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ لَا حَقِيقَةً لَكِنْ بِتَأْوِيلٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ أَيْ بِإِيذَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا فِيهِ غَضَاضَةٌ فِي الدِّينِ فَذَلِكَ مِنْ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَا يَجُوزُ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ ، وَلَا غَيْرِهِ ، وَيَجُوزُ أَذَى غَيْرِهِ بِمَا يُبَاحُ لِلْإِنْسَانِ فِعْلُهُ ، وَاحْتُجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إرَادَةِ عَلِيٍّ تَزْوِيجَ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ { إنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَإِنَّ فَاطِمَةَ يُؤْذِينِي مَا أَذَاهَا ، وَلَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا } ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } الْآيَةَ فَأَطْلَقَ وَعَمَّمَ ، وَقَالَ { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } فَقَدْ شَرَطَ ( بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) قَالَ مَالِكٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْفُو عَنْ شَتْمِهِ ، وَقَدْ عَفَا عَنْ الَّذِي قَالَ لَهُ إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الدِّينِ فَقَدْ يَكُونُ عَفْوُهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الطَّعْنَ عَلَيْهِ فِي الْمَيْلِ عَنْ الْحَقِّ بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا الَّذِي يَصِحُّ الْخَطَأُ مِنْهُ فِيهَا ، وَالصَّوَابُ ، أَوْ كَانَ هَذَا اسْتِئْلَافًا لِمِثْلِهِ كَمَا اسْتَأْلَفَهُمْ بِمَالِهِ وَمَالِ اللَّهِ رَغْبَةً فِي إسْلَامِ مِثْلِهِ .

وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُشِيرُ إلَى رَبَاعِيَتِهِ ، وَقَالَ : اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُشِيرُ إلَى رَبَاعِيَتِهِ ، وَقَالَ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ ، وَهُشِمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُ الدَّمَ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا فَأَلْصَقَتْهُ بِالدَّمِ فَاسْتَمْسَكَ } ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ ، وَيَقُولُ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } } قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ وَذَكَّرَنِي رَبِيحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى وَجَرَحَ شَفَتَهُ السُّفْلَى وَأَنَّ عَبْدَ

اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ شَجَّهُ فِي وَجْهِهِ وَأَنَّ ابْنَ قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ فَدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ وَوَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الَّتِي عَمِلَ أَبُو عَامِرٍ لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الدَّمَ مِنْ وَجْهِهِ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَصَّ دَمِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ } ، وَرَوَى عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ { أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ نَزَعَ إحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقَطَتْ شَفَتُهُ ثُمَّ نَزَعَ الْأُخْرَى فَسَقَطَتْ شَفَتُهُ الْأُخْرَى فَكَانَ سَاقِطَ الشَّفَتَيْنِ } وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ { أَنَّ ابْنَ قَمِئَةَ لَمَّا رَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ قَالَ خُذْهَا ، وَأَنَا ابْنُ قَمِئَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْمَأَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَانْصَرَفَ ابْنُ قَمِئَةَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى أَهْلِهِ فَخَرَجَ إلَى غَنَمِهِ فَوَافَاهَا عَلَى ذُرْوَةِ جَبَلٍ فَأَخَذَ يَعْتَرِضُهَا فَشَدَّ عَلَيْهِ تَيْسُهَا فَنَطَحَهُ نَطْحَةً أَرْدَاهُ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ } .
{ الثَّانِيَةُ } ( الرَّبَاعِيَةُ ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِهَا وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَتَخْفِيفِهَا هِيَ السِّنُّ الَّتِي تَلِي الثَّنِيَّةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعُ ثَنَايَا ، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي مُقَدَّمِ الْفَمِ ثِنْتَانِ مِنْ أَعْلَى ، وَثِنْتَانِ مِنْ أَسْفَلُ وَتَلِيهَا الرَّبَاعِيَاتُ أَرْبَعٌ أَيْضًا ثِنْتَانِ مِنْ أَعْلَى ،

وَثِنْتَانِ مِنْ أَسْفَلُ وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي كُسِرَ مِنْ رَبَاعِيَاتِهِ الرَّبَاعِيَةُ الْيُمْنَى السُّفْلَى .
{ الثَّالِثَةُ } ، وَفِيهِ أَنَّ وُقُوعَ الْأَسْقَامِ ، وَالْآلَامِ لِلْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لِيَنَالُوا جَزِيلَ الْأَجْرِ ، وَلِتَعْرِفَ أُمَمُهُمْ وَغَيْرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ ، وَيَتَأَسَّوْا بِهِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ مِنْ الْبَشَرِ تُصِيبُهُمْ مِحَنُ الدُّنْيَا ، وَيَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِهِمْ مَا يَطْرَأُ عَلَى أَجْسَامِ الْبَشَرِ فَيَسْتَيْقِنُوا أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ ، وَلَا يُفْتَتَنُ بِمَا ظَهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ ، وَلَا تَلَبَّسَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا لَبَّسَهُ عَلَى النَّصَارَى ، وَغَيْرِهِمْ .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَمَّنْ يَقْتُلُهُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا لِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ قَاصِدًا قَتْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ اتَّفَقَ ذَلِكَ لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ { قَصَدَ يَوْمَ أُحُدٍ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَضَ لَهُ رِجَالٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَّوْا طَرِيقَهُ وَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ دَمٌ فَرَجَعَ إلَى قَوْمِهِ ، وَجَعَلَ يَقُولُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ أَنَا أَقْتُلُك فَوَاَللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي فَمَاتَ بِسَرِفَ ، وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكَّةَ } ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ { قَالَ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ } .

وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } زَادَ مُسْلِمٌ بَعْدَ قَوْلِهِ بِالرُّعْبِ { عَلَى الْعَدُوِّ } .
الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ } تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هُنَا ، وَنَذْكُرُ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُفَنِّدْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُدَّةَ نَصْرِهِ بِالرُّعْبِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { حَتَّى إنَّ الْعَدُوَّ لَيَخَافَنِي مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ } ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا { نُصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّعْبِ عَلَى عَدُوِّهِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ } ، وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ .
، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا { وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ شَهْرًا أَمَامِي وَشَهْرًا خَلْفِي } ، وَفِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا .

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ خَالِدِ بْنِ عُمَرَ الْقُرَشِيِّ عَنْ الثَّوْرِيِّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ ، وَهَذَا عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو ، وَرَوَاهُ مَعَ ابْنِ عُيَيْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ ، وَغَيْرُهُ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ ( خُدْعَةٌ ) فِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٍ ( أَشْهُرُهَا ) فَتْحُ الْخَاءِ وَإِسْكَانُ الدَّالِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَفْصَحُهُنَّ قَالَ ثَعْلَبٌ ، وَغَيْرُهُ وَهِيَ لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قُلْت ) الَّذِي رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْغَنَوِيِّ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّهُ لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً أَيْ إذَا خُدِعَ الْمُقَاتِلُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا إقَالَةٌ ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ( أَحَدُهَا ) هَذَا وَ ( الثَّانِي ) أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْدَعُ أَهْلَهَا وَصَفَ الْفَاعِلَ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ ( ثَالِثُهَا ) أَنْ تَكُونَ وَصْفًا لِلْمَفْعُولِ كَمَا قِيلَ ضَرَبَ الْأَمِيرُ أَيْ مَضْرُوبُهُ ( اللُّغَةُ الثَّانِيَةُ ) ضَمُّ الْخَاءِ ، وَإِسْكَانُ الدَّالِ أَيْ أَنَّهَا تَخْدَعُ لِأَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ إذَا خَدَعَ صَاحِبَهُ فِيهَا فَكَأَنَّهَا هِيَ خَدَعَتْ .
( الثَّالِثَةُ ) ضَمُّ الْخَاءِ وَفَتْحُ الدَّالِ أَيْ أَنَّهَا تَخْدَعُ أَهْلَهَا ، وَتُمَنِّيهِمْ الظَّفَرَ أَبَدًا ، وَقَدْ يَنْقَلِبُ بِهِمْ الْحَالُ لِغَيْرِهَا كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ لُعْبَةٌ وَضُحَكَةٌ لِلَّذِي يُكْثِرُ اللَّعِبَ وَالضَّحِكَ ، وَحَكَى فِيهِ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي حَوَاشِي السُّنَنِ

رَابِعَةً ، وَهِيَ فَتْحُهُمَا فَقَالَ : وَمِنْ فَتْحِهِمَا جَمِيعًا كَانَ جَمْعُ خَادِعٍ يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ خُدْعَةٌ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ قَالَ : وَأَصْلُ الْخَدْعِ إظْهَارُ أَمْرٍ ، وَإِضْمَارُ خِلَافِهِ ، وَيُقَالُ خَدَعَ الرِّيقُ فَسَدَ فَكَأَنَّ الْخَدَّاعَ يُفْسِدُ تَدْبِيرَ الْمَخْدُوعِ ، وَيَفِلُّ رَأْيَهُ ، وَقِيلَ الْخُدْعَةُ مِنْ خَدَعَ الدَّهْرُ إذَا تَلَوَّنَ انْتَهَى .

{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْخِدَاعِ فِي الْحَرْبِ ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ خَدَعَهُ خَصْمُهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْتِكَاسِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فَلَا يُهْمِلُ خَدِيعَةَ غَرِيمِهِ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَخْدَعْهُ خَدَعَهُ هُوَ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَ أَمْكَنَ الْخِدَاعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ فَلَا يَحِلُّ انْتَهَى .
وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِتْيَانِ بِالتَّاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْخِدَاعُ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَأَنَّهُ حَضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ فَمَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ مِنْ خِدَاعِهِمْ ، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ قَدْ يَنْشَأُ عَنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ الْهَزِيمَةُ ، وَلَوْ حَصَلَ الظَّفَرُ قَبْلَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَلَا يَنْبَغِي التَّهَاوُنُ بِذَلِكَ لِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ ، وَلَوْ قَلَّ الْخِدَاعُ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الرَّابِعَةُ } بَوَّبَ عَلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ بَابَ مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَةِ فِي الْكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْكَذِبِ ، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَعَارِيضُ وَالتَّوْرِيَةُ فَلَا تَخْلُو الْخَدِيعَةُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أُرِيدَ الْكَذِبُ الصَّرِيحُ فَقَدْ تَخْلُو الْخَدِيعَةُ عَنْهُ فَمِنْ الْمَعَارِيضِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا ، وَكَانَ يَقُولُ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } ، وَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ فِي شَيْءٍ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( قُلْت ) هَذَا شَيْءٌ سَمِعْته ، فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } ، وَقَدْ وَرَدَ التَّرْخِيصُ فِي الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ أَنَّهُ ] قَالَ { لَيْسَ بِالْكَاذِبِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ } الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ فِي الْحَرْبِ وَالْإِصْلَاحِ الْحَدِيثُ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ تَحْدِثَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا ، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ } ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إنَّمَا يَجُوزُ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ الْمَعَارِيضُ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ الظَّاهِرُ إبَاحَةُ حَقِيقَةُ نَفْسِ الْكَذِبِ لَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّعْرِيضِ أَفْضَلُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةُ } فِيهِ الْإِشَارَةُ إلَى اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ ، وَلَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْمُحَارِبِ إلَى الرَّأْيِ وَالشَّجَاعَةِ ، وَإِنَّ احْتِيَاجَهُ إلَى الرَّأْيِ أَشَدُّ مِنْ احْتِيَاجِهِ إلَى الشَّجَاعَةِ ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } .
{ وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ } ، وَقَالَ الشَّاعِرُ الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ مَرَّةً بَلَغَتْ مِنْ الْعَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ .

{ السَّادِسَةُ } قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ مَا تَقَدَّمَ إنَّ مَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْخِدَاعِ فِي الْحَرْبِ ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَرْبَ تَتَرَاءَى لِأَخَفِّ النَّاسِ بِالصُّورَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ تَمَّ تَتَجَلَّى عَنْ صُورَةٍ مُسْتَقْبَحَةٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً تَسْعَى بِبَزَّتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ ، وَقَالَ الْحَرْبُ لَا تُبْقِي لِجِمَاحِهَا النَّخِيلَ وَالْمُرَاحَ .
وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ } انْتَهَى .
وَهَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ ذَمُّ الْحَرْبِ ، وَالْحَدِيثُ إنَّمَا سَبَقَ فِي مَعْرِضِ مَدْحِهَا وَالتَّحَيُّلِ فِيهَا بِالْمُخَادَعَةِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي ذَمِّهَا فَذَاكَ فِي الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ النَّاشِئَةِ عَنْ التَّنَافُسِ فِي الدُّنْيَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ) زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ ( مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ) .

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ .
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : قَالَ مَالِكٌ : أَرَاهُ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِزِيَادَةِ { مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ } ، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ بِلَفْظِ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ سِتَّتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ لَمْ يَقُلْ كُرِهَ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ بِشْرٍ ، وَرَوَاهُ أَبُو هَمَّامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كَذَلِكَ ، وَرَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ جَمَاعَةٌ فَاتَّفَقُوا عَلَى لَفْظَةِ النَّهْيِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَالْقَعْنَبِيُّ ، وَابْنُ بُكَيْر ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَعْنِي بِلَفْظِ قَالَ مَالِكٌ { أَرَاهُ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ } ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ فِي آخِرِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ، وَفِي سِيَاقَةِ الْحَدِيثِ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ ( قُلْت ) وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : وَكَذَلِكَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَيُّوبُ ، وَاللَّيْثُ ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمْ قَالَ :

وَهُوَ صَحِيحٌ مَرْفُوعٌ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ مَالِكٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ شَكَّ هَلْ هِيَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ، وَقَدْ رَوَيْت عَنْ مَالِكٍ مُتَّصِلًا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَغَلِطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَزَعَمَ أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ .
{ الثَّانِيَةُ } فِيهِ النَّهْيُ عَنْ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُصْحَفُ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ، وَهَذَا مُحْتَمِلٌ لِلتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ } ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ التَّحْرِيمُ ، وَلَفْظُ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ( كُرِهَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ) وَظَاهِرُهُ التَّنْزِيهُ فَقَطْ ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ( بَابُ كَرَاهِيَةِ السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ) وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ { سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ } انْتَهَى .
وَفِي بَعْض نُسَخِهِ بَابُ السَّفَرِ بِدُونِ ذِكْرِ الْكَرَاهَةِ ، وَقَدْ اعْتَمَدَ فِي الْكَرَاهَةِ عَلَى لَفْظِ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَقَدْ عَرَفْت مِنْ كَلَامِ الْبَرْقَانِيِّ أَنَّ الْمَشْهُورَ لَفْظُ النَّهْيِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْكَرَاهَةِ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ أَيْضًا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ لَا يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى .
أَرْضِ الْعَدُوِّ فِي السَّرَايَا

وَالْعَسْكَرِ الصَّغِيرِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَسْكَرِ الْكَبِيرِ الْمَأْمُونِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُفَرِّقْ مَالِكٌ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ فِي السَّفَرِ بِالْعَسْكَرِ الْعَظِيمِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنْ أُمِنَتْ الْعِلَّةُ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرُ عَلَيْهِمْ فَلَا كَرَاهَةَ ، وَلَا مَنْعَ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيُّ ، وَآخَرُونَ ، وَقَالَ مَالِكٌ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَازَ مُطْلَقًا ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مَا سَبَقَ انْتَهَى ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ إنْ قَصَدَ بِهِ مُعَارَضَةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ لِئَلَّا يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ فَيَنْتَهِكُوا حُرْمَتَهُ ، وَلَيْسَ آدَمِيًّا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمْ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُدَافَعَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا يُعَدُّ الْمُهِينُ لَهُمْ مُهِينًا لِلْمُصْحَفِ لِأَنَّ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ ، وَاَلَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الثَّالِثَةُ } يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ مَنْعُ بَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنْ الْكَافِرِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ هَلْ يَصِحُّ لَوْ وَقَعَ ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) الْقَطْعُ بِبُطْلَانِهِ ( وَالثَّانِي ) إجْرَاءُ الْخِلَافِ الَّذِي فِي بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ فِيهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى عِظَمِ حُرْمَةِ الْمُصْحَفِ ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الذُّلِّ عَنْ نَفْسِهِ بِالِاسْتِعَانَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ .
{ الرَّابِعَةُ } فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ : فَقَدْ نَالَهُ الْعَدُوُّ خَاصَمُوكُمْ بِهِ يَعْنِي بِهِ أَنَّكُمْ لَمَّا خَالَفْتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ نَبِيُّكُمْ فَمَكَّنْتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُصْحَفِ نَالُوهُ وَتَوَجَّهَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَيْكُمْ مِنْ حَيْثُ مُخَالَفَتِكُمْ نَبِيَّكُمْ ، وَأَيْضًا فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَيْهِ وَجَدُوا فِيهِ مَا يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالْمُخَالَفَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } الْآيَتَيْنِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تُرِكَ الْعَمَلُ بِهَا .

{ الْخَامِسَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَابِ فِي تَعْلِيمِ الْكَافِرِ الْقُرْآنَ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهِ الْقُرْآنَ وَالْفِقْهَ ، وَلَوْ كَانَ حَرْبِيًّا ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا الْكَرَاهَةُ ، وَالثَّانِيَةُ الْجَوَازُ .
{ السَّادِسَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا كَرِهَ مَالِكٌ ، وَغَيْرُهُ أَنْ يُعْطَى الْكَافِرُ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا فِيهِ سُورَةٌ أَوْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا إذَا كَانَتْ آيَةً تَامَّةً أَوْ سُورَةً ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إذَا كَانَ فِي أَحَدِهِمَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قُرْآنٌ ، وَلَا اسْمُ اللَّهِ ، وَلَا ذِكْرٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ ضَرْبِ الرُّومِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا ضُرِبَتْ دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ أَوْ آيَاتٌ ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ كِتَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِرَقْلَ .

عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { حَاصَرْنَا خَيْبَرَ فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْصَرَفَ ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ ، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ الْغَدِ عُمَرُ فَخَرَجَ فَرَجَعَ ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ : وَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ ، وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ فَدَعَا عَلِيًّا ، وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ اللِّوَاءَ ، وَفُتِحَ لَهُ قَالَ بُرَيْدَةَ وَأَنَا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا } رَوَاهُ النَّسَائِيّ

بَابُ اللِّوَاءِ .
عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { حَاصَرْنَا خَيْبَرَ فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْصَرَفَ ، وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ الْغَدِ عُمَرُ فَخَرَجَ فَرَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ وَأَصَابَ النَّاسَ شِدَّةٌ ، وَجَهْدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ وَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ ، وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ فَدَعَا عَلِيًّا ، وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ اللِّوَاءَ ، وَفُتِحَ لَهُ ، وَقَالَ بُرَيْدَةَ ، وَأَنَا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَفِيهِ { فَمَا مِنَّا إنْسَانٌ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ اللِّوَاءِ } ، وَمِنْ طَرِيق مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ، وَفِيهِ شِعْرُ مَرْحَبٍ ، وَفِيهِ { فَاخْتَلَفَ هُوَ ، وَعَلِيٌّ ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلَى هَامَتِهِ حَتَّى عَضَّ السَّيْفُ مِنْهَا أَبْيَضَ رَأْسِهِ ، وَسَمِعَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ صَوْتَ ضَرْبَتِهِ فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ وَلَهُمْ } ، وَاتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إخْرَاجِ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَلَهَا طُرُقٌ أُخْرَى تَكَادُ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ .
{ الثَّانِيَةُ } اللِّوَاءُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِالْمَدِّ هُوَ بِمَعْنَى الرَّايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْعَلَمُ الَّذِي يُحْمَلُ فِي الْحُرُوبِ ، وَهُوَ مِنْ الْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ مَوْضِعُ تَقَدُّمِ الْجَيْشِ ،

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ اللِّوَاءَ ، وَالرَّايَةَ مُتَرَادِفَانِ صَرَّحَ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ ، وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالنِّهَايَةِ لَكِنْ بَوَّبَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَلَى الْأَلْوِيَةِ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ مَكَّةَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ } ، وَقَدْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ بَوَّبَ عَلَى الرِّوَايَاتِ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { أَنَّ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً مِنْ نَمِرَةٍ } ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ { كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَاءَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضَ } ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا ، وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِثْلَ هَذَا التَّفْرِيقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ مَكْتُوبٌ فِيهِ { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ ضَعِيفٌ ، وَرَوَى هَذَا التَّفْصِيلَ أَيْضًا بِدُونِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللِّوَاءِ وَالرَّايَةِ ، وَلَعَلَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا عُرْفِيَّةٌ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئَانِ يُسَمَّى أَحَدُهُمَا لِوَاءً وَالْآخَرُ رَايَةً فَالتَّخْصِيصُ مِنْ حَيْثُ التَّسْمِيَةُ وَإِنْ اسْتَوَى مَدْلُولُهُمَا فِي اللُّغَةِ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ آخَرَ مِنْهُمْ قَالَ { رَأَيْت رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْرَاءَ } ، وَفِي كِتَابِ الْجِهَادِ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ الْعَصْرِيِّ قَالَ { كُنْت جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَقَدَ

رَايَةَ الْأَنْصَارِ ، وَجَعَلَهَا صَفْرَاءَ } وَمِنْ حَدِيثِ كُرْزِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ عَقَدَ رَايَةَ بَنِي سُلَيْمٍ حَمْرَاءَ } .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَلْوِيَةِ فِي الْحُرُوبِ ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ أَمِيرِ الْجَيْشِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ : { أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ } الْحَدِيثَ فَجَعَلَ الْآخِذَ لِلرَّايَةِ هُوَ الْأَمِيرَ ، وَقَدْ يُقِيمُ الْأَمِيرُ فِي حَمْلِهَا غَيْرَهُ ، وَدَفْعُ اللِّوَاءِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِأَبِي بَكْرٍ تَأْمِيرٌ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لِعُمَرَ ثُمَّ لِعَلِيٍّ ، وَلَيْسَ فِي إعْطَائِهِ لِعَلِيٍّ عَزْلٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ وِلَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى اللِّوَاءِ كَانَتْ خَاصَّةً بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَانْقَضَتْ بِانْقِضَائِهِ ، وَلَا أَمِيرَ كَامِلَ الْإِمْرَةِ مَعَ حُضُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَكِنَّهُ يُقِيمُ مَنْ يَشَاءُ فِيمَا يَشَاءُ .

{ الرَّابِعَةُ } .
( الْجَهْدُ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ أَمَّا الْجُهْدُ بِالضَّمِّ ، وَالْفَتْحِ فَهُوَ الطَّاقَةُ ( وَالتُّفْلُ ) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ نَفْخٌ مَعَ شَيْءٍ مِنْ رِيقٍ ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنْ الْبَصْقِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ النَّفْثِ .

{ الْخَامِسَةُ } فِيهِ مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ فَالْقَوْلِيَّةُ إعْلَامُهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ فَكَانَ كَذَلِكَ ، وَالْفِعْلِيَّةُ بُصَاقُهُ فِي عَيْنَيْهِ ، وَكَانَ أَرْمَدَ فَبَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَفِيهِ فَضَائِلُ ظَاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبَيَانُ شَجَاعَتِهِ وَحُبِّهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إيَّاهُ .

عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزَ وَكَرْمَانَ قَوْمًا مِنْ الْأَعَاجِمِ حُمْرَ الْوُجُوهِ فُطْسَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ } وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الْأُنُوفِ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .

بَابُ قِتَالِ الْأَعَاجِمِ وَالتُّرْكِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزَ وَكَرْمَانَ قَوْمًا مِنْ الْأَعَاجِمِ حُمْرَ الْوُجُوهِ فُطْسَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ } ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةَ وَهِيَ عِنْدَهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ الرِّوَايَةَ الثَّالِثَةَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِيهِ { وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ } ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ وَحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْوُجُوهِ ذُلْفَ الْأُنُوفِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَيْسَ فِي لَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ التَّصْرِيحُ بِالتُّرْكِ نَعَمْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ بْن أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { وَاَللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ قَوْمًا وُجُوهُهُمْ كَالْمَجَانِّ الْمُطْرَقَةِ يَلْبَسُونَ الشَّعَرَ } ، وَيَمْشُونَ فِي الشَّعَرِ .
{ الثَّانِيَةُ } ( خُوزُ ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ

الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ مُعْجَمَةٌ جِيلٌ مِنْ النَّاسِ ، وَرَوَيْنَا هَذَا اللَّفْظَ هُنَا بِتَرْكِ الصَّرْفِ وَرَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ خَوْزًا مَصْرُوفًا ، وَسَبَبُ ذَلِكَ خِفَّتُهُ مَعَ عُجْمَتِهِ ، وَرَوَى خُوزَ كَرْمَانَ بِإِضَافَةِ خَوْزٍ إلَى كَرْمَانَ أُضِيفَ الْجِيلُ إلَى سَكَنِهِمْ ، وَيُقَالُ لِكُورِ الْأَهْوَازِ بِلَادَ الْخَوْزِ ، وَيُقَالُ لَهَا خُوزِسْتَانَ ، وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا خُوزِيٌّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَيُرْوَى بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهُوَ مِنْ أَرْضِ فَارِسٍ ، وَصَوَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَقِيلَ إذَا أُضِيفَتْ فَبِالرَّاءِ ، وَإِذَا عُطِفَتْ فَبِالزَّايِ انْتَهَى وَكَرْمَانُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ الرَّاءِ حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ ، وَصَحَّحَ الْفَتْحَ مَعَ تَصْدِيرِ كَلَامِهِ بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ ، وَهُوَ اسْمٌ لِصَقْعٍ مَشْهُورٍ يَشْتَمِلُ عَلَى عِدَّةِ بِلَادٍ فَإِنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالْإِضَافَةِ فَالْأَمْرُ فِيهِ وَاضِحٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَطْفِ فَالْمُرَادُ أَهْلُ كَرْمَانَ فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ قَوْمًا مِنْ الْأَعَاجِمِ .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ { حُمْرَ الْوُجُوهِ } بِإِسْكَانِ الْمِيمِ أَيْ بِيضَ الْوُجُوهِ مُشْرَبَةً بِحُمْرَةٍ ، وَقَوْلُهُ { فُطْسَ الْأُنُوفِ } بِضَمِّ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ ، وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي رَأْسِ الْأَنْفِ انْبِطَاحٌ ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّمَمِ فِي الْأَنْفِ ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { ذُلْفَ الْأُنُوفِ } هُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْمُهْمَلَةِ لُغَتَانِ الْمَشْهُورَةُ الْمُعْجَمَةُ ، وَمِمَّنْ حَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيهِ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ ، وَالْمَطَالِعِ ، قَالَ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ بِالْمُعْجَمَةِ ، وَبَعْضُهُمْ بِالْمُهْمَلَةِ ، وَالصَّوَابُ الْمُعْجَمَةُ ، وَهُوَ بِضَمِّ الذَّالِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ جَمْعُ أَذْلَفَ كَأَحْمَرَ وَحُمْرٍ ، وَمَعْنَاهُ فُطْسُ الْأُنُوفِ قِصَارُهَا مَعَ انْبِطَاحٍ ، وَقِيلَ هُوَ غِلَظٌ فِي أَرْنَبَةِ الْأَنْفِ ، وَقِيلَ تَطَامُنٌ فِيهَا ،

وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ } بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ جَمْعُ مِجَنٍّ بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَهُوَ التُّرْسِ ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَجَازَ فِيهِ كَسْرَ الْمِيمِ فِي الْجَمْعِ ، وَإِنَّهُ خَطَأٌ ، وَقَوْلُهُ { الْمُطْرَقَةُ } بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ هُنَا هُوَ الْفَصِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ وَفِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ ، وَحُكِيَ فَتْحُ الطَّاءِ وَتَشْدِيدُ الرَّاءِ وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ قَالَ الْعُلَمَاءُ هِيَ الَّتِي أُلْبِسَتْ الْعَقِبَ ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَافِ الْعَصَبُ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْهُ الْأَوْتَارُ ، وَأَطْرَقْت بِهِ طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ قَالُوا ، وَمَعْنَاهُ تَشْبِيهُ وُجُوهِ التُّرْكِ فِي عُرْضِهَا ، وَتَنِزَّ وَجَنَاتِهَا ، وَغِلَظِهَا بِالتِّرْسَةِ الْمُطْرَقَةِ .
{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ { نِعَالُهُمْ الشَّعَرُ } مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ نِعَالَهُمْ مِنْ حِبَالِ صُنِعَتْ مِنْ الشَّعَرِ ، وَكَذَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْأَتْرَاكِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَمْشُونَ فِي الشَّعْرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ الْإِشَارَةُ إلَى كَثْرَةِ شُعُورِهِمْ ، وَكَثَافَتِهَا وَطُولِهَا فَهُمْ بِذَلِكَ يَمْشُونَ فِيهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَدَّ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ إلَيْهَا ، وَيَكُونُ مَعْنَى نِعَالُهُمْ الشَّعْرُ : أَنَّ شُعُورَهُمْ وَنَوَاصِيَهُمْ وَافِيَةٌ عَلَى قَدْرِ قُدُودِهِمْ حَتَّى يَطَئُوا أَطْرَافَ دَوَابِّهِمْ ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّادِسَةُ } هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وُجِدَ قِتَالَ هَؤُلَاءِ التُّرْكِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِمْ الَّتِي ذَكَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِغَارُ الْأَعْيُنِ حُمْرُ الْوُجُوهِ ذُلْفُ الْأُنُوفِ عِرَاضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ فَوُجِدُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا ، وَقَاتَلَهُمْ

الْمُسْلِمُونَ مَرَّاتٍ فَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يُقَاتِلُكُمْ قَوْمٌ صِغَارُ الْأَعْيُنِ قَالَ يَعْنِي التُّرْكَ قَالَ تَسُوقُونَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى تُلْحِقُوهُمْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، فَأَمَّا فِي السِّيَاقَةِ الْأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَيَنْجُو بَعْضٌ وَيَهْلِكُ بَعْضٌ ، وَأَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَيَصْطَلِمُونَ }

عَنْ الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ، كَمَا تَنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ مِنْ جَدْعَاءَ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ } فَذَكَرَهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ { كَمَا تُنْتَجُونَ الْإِبِلَ فَهَلْ تَجِدُونَ فِيهَا جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ } ( فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ) وَفِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ { عَلَى الْمِلَّةِ } ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَمُسْلِمٌ } .

بَابُ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ .
عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تَنَاتَجُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ مِنْ جَدْعَاءَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ فَذَكَرَهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ كَمَا تُنْتَجُونَ الْإِبِلَ فَهَلْ تَجِدُونَ فِيهَا جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، مُخْتَصَرًا بِلَفْظِ { سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ عَمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيق الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { الْمِلَّةِ } ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ { هَذِهِ الْمِلَّةِ حَتَّى يُبِينَ عَنْهُ لِسَانُهُ } ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِيهِ { فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَمُسْلِمٌ } .
{ الثَّانِيَةُ } اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْفِطْرَةِ هُنَا عَلَى أَقْوَالٍ ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ الْخِلْقَةُ فَإِنَّ الْفَطْرَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ ، وَالْمُرَادُ الْخِلْقَةُ الْمَعْرُوفَةُ الْأُولَى الْمُخَالِفَةُ لِخَلْقِ الْبَهَائِمِ أَيْ عَلَى خِلْقَةٍ يَعْرِفُ بِهَا رَبَّهُ إذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الْمَعْرِفَةِ ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ

أَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ قَالَ : وَأَنْكَرُوا أَنْ يُفْطَرَ الْمَوْلُودُ عَلَى كُفْرٍ أَوْ إيمَانٍ ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا مَيَّزَ .
وَلَوْ فُطِرَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ مَا انْتَقَلَ عَنْهُ وَقَدْ نَجِدُهُمْ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ يَكْفُرُونَ ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْقِلَ الطِّفْلُ حَالَ وِلَادَتِهِ كُفْرًا أَوْ إيمَانًا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } فَمَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا اسْتَحَالَ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْإِسْلَامُ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمَا .
وَقَالَ هَؤُلَاءِ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ فَقَدْ أَجْمَعُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أَنَّهَا دَيْنُ الْإِسْلَامِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَبَنِيهِ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ } .
ثُمَّ رَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ مُسْتَحِيلٌ مِنْ الطِّفْلِ ، وَقَرَّرَ الْمَازِرِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي صُلْبِ آدَمَ يَوْمَ { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ } ، وَأَنَّ الْوِلَادَةَ تَقَعُ عَلَيْهَا حَتَّى يَقَعَ التَّعْبِيرُ بِالْأَبَوَيْنِ ، وَقَرَّرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ مُؤَهَّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ كَمَا خَلَقَ أَعْيُنَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ قَابِلَةً لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ فَمَا دَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ ، وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ أَدْرَكَتْ الْحَقَّ وَدِينَ الْإِسْلَامِ ، وَصَحَّحَ هَذَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا مِنْ

عِنْدِ مُسْلِمٍ { عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ } .
وَهِيَ إشَارَةٌ إلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ : وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الصَّحِيحِ { جَبَلَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ } .
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ الْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مُتَهَيَّأً لِلْإِسْلَامِ فَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا فَيَتْبَعُهُمَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَهَذَا مَعْنَى يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَيْ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِمَا فِي الدُّنْيَا فَإِنْ بَلَغَ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ فَإِنْ سَبَقَتْ لَهُ سَعَادَةٌ أَسْلَمَ وَإِلَّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ ، انْتَهَى .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّ الْمُرَادَ الْبُدَاءَةُ الَّتِي ابْتَدَأَهُمْ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَلْقَهُ مِنْ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ لِلْحَيَاةِ ، وَالْمَوْتِ ، وَالشَّقَاءِ ، وَالسَّعَادَةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ } فَقَالَ يُفَسِّرُهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ حِينَ سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } .
قَالَ : وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ تَرَكَهُ ، وَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ مَا رَسَمَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ ، وَذَكَرَهُ فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ ( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ ، وَالْمَعْرِفَةِ ، وَعَلَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ فَأَخَذَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِيثَاقَ حِينَ خَلَقَهُمْ فَقَالَ { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ } قَالُوا جَمِيعًا ( بَلَى

) فَأَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَقَالُوا بَلَى عَلَى مَعْرِفَةٍ لَهُ طَوْعًا مِنْ قُلُوبِهِمْ ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَقَالُوا بَلَى كُرْهًا لَا طَوْعًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ ، وَسَمِعْت إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } قَالَ إِسْحَاقُ يَقُولُ لَا تَبْدِيلَ لِخِلْقَتِهِ الَّتِي جَبَلَ عَلَيْهَا وَلَدَ آدَمَ كُلَّهُمْ يَعْنِي مِنْ الْكُفْرِ ، وَالْإِيمَانِ ، وَالْمَعْرِفَةِ ، وَالْإِنْكَارِ .
قَالَ : وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الْآيَةَ قَالَ إِسْحَاقُ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ إنَّهَا الْأَرْوَاحُ قَبْلَ الْأَجْسَادِ ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا أَيْضًا بِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ ، وَأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا ، وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهَا { وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا ، وَخَلَقَ النَّارَ ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا } .
قَالَ إِسْحَاقُ فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَطْفَالَ ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لِيَعْرِفَ مِنْهُمْ الْعَارِفُ وَيَعْتَرِفَ فَيُؤْمِنُ ، وَيُنْكِرَ مِنْهُمْ الْمُنْكَرُ فَيَكْفُرَ كَمَا سَبَقَ لَهُ الْقَضَاءُ ، وَذَلِكَ فِي حِينٍ يَصِحُّ مِنْهُمْ فِيهِ الْإِيمَانُ ، وَالْكُفْرُ فَذَلِكَ مَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الطِّفْلَ يُولَدُ عَارِفًا مُقِرًّا مُؤْمِنًا وَعَارِفًا جَاحِدًا كَافِرًا فِي حِينِ وِلَادَتِهِ فَهَذَا يُكَذِّبُهُ الْعِيَانُ وَالْعَقْلُ قَالَ ، وَقَوْلُ إِسْحَاقَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَرْضَاهُ الْحُذَّاقُ الْفُهَمَاءُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) أَنَّ مَعْنَاهُ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ الْمِيثَاقِ قَبْلَ أَنْ

يَخْرُجُوا إلَى الدُّنْيَا يَوْمَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ فَخَاطَبَهُمْ { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } فَأَقَرُّوا لَهُ جَمِيعًا بِالرُّبُوبِيَّةِ عَنْ مَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ بِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ مَخْلُوقِينَ مَطْبُوعِينَ عَلَى تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ ، وَذَلِكَ الْإِقْرَارِ قَالُوا ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ بِإِيمَانٍ وَلَا ذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِإِيمَانٍ ، وَلَكِنَّهُ إقْرَارٌ مِنْ الطَّبِيعَةِ لِلرَّبِّ فِطْرَةً أَلْزَمَهَا قُلُوبَهُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ الرُّسُلَ فَدَعَوْهُمْ إلَى الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَدْعُوَ خَلْقَهُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ ، وَهُوَ لَمْ يُعَرِّفْهُمْ نَفْسَهُ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هَذَا عِنْدَنَا حَيْثُ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ حِينَ قَالَ { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } .
( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ مَا يُقَلِّبُ اللَّهُ قُلُوبَ الْخَلْقِ إلَيْهِ بِمَا يُرِيدُ فَقَدْ يَكْفُرُ الْعَبْدُ ثُمَّ يُؤْمِنُ فَيَمُوتُ مُؤْمِنًا ، وَقَدْ يُؤْمِنُ ثُمَّ يَكْفُرُ فَيَمُوتُ كَافِرًا ، وَقَدْ يَكْفُرُ ثُمَّ لَا يُزَالُ عَلَى كُفْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَمُوتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَالْفِطْرَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ أَوَّلِ أَحْوَالِهِمْ إلَى آخِرِهَا سَوَاءً كَانَتْ حَالَةً وَاحِدَةً لَا تَنْتَقِلُ أَوْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ أَضْعَفُ الْأَقَاوِيلِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ حَكَاهَا كُلَّهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَغَيْرُهُ .
( الْقَوْلُ السَّابِعُ ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ مِلَّةُ أَبِيهِ أَيْ دِينُهُ بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ حُكْمَهُ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ

كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ ، وَقَبْلَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُهَوِّدَهُ أَبَوَاهُ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ لَمْ يَرِثْهُمَا ، وَلَمْ يَرِثَاهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهُمَا كَافِرَانِ ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يُسْبَى فَلَمَّا فُرِضَتْ الْفَرَائِضُ ، وَتَقَرَّرَتْ السُّنَنُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى دِينِهِمَا انْتَهَى .
وَهَذَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ لِلَّهِ وَجَعَلَهُ مَنْسُوخًا لِمَا ذَكَرَهُ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَعْوَى النَّسْخِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْوِلَادَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَقِيَّتِهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَيْ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَالْحُكْمُ بِإِسْلَامِهِ هُوَ الْبَاطِنُ وَيَهُودِيَّتُهُ أَوْ نَصْرَانِيَّتُهُ هُوَ فِي الظَّاهِرِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَظُنُّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حَادَ عَنْ الْجَوَابِ فِيهِ لِإِشْكَالِهِ عَلَيْهِ أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ أَوْ لِكَرَاهَةِ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ قَالَ ، وَقَوْلُهُ إنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَالُ قَوْمٍ بَلَغُوا فِي الْقَتْلِ حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ فَقَالَ رَجُلٌ أَوَ لَيْسَ أَبْنَاؤُهُمْ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ لَيْسَ خِيَارُكُمْ أَوْلَادَ الْمُشْرِكِينَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا وَهُوَ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانُهُ وَيُهَوِّدُهُ أَبَوَاهُ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ } { الثَّالِثَةُ } حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ ،

وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَكَانَ أَبَوَاهُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ هَوَّدَاهُ أَوْ نَصَّرَاهُ أَوْ مَجَّسَاهُ قَالُوا : وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْلُودِينَ يُولَدُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ بَلْ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْلُودَ عَلَى الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يُكَفِّرَانِهِ ، وَكَذَا مِنْ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَكَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِهِمَا فِي صِغَرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ حِينَئِذٍ لَا حُكْمُ أَبَوَيْهِ ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ فَإِنَّهُ لَمْ يُولَدْ عَلَى الْفِطْرَةِ بَلْ طُبِعَ كَافِرًا .
، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { أَلَا إنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا طَبَقَاتٍ شَتَّى فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا ، وَيَحْيَى مُؤْمِنًا ، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا ، وَيَحْيَى كَافِرًا ، وَيَمُوتُ كَافِرًا ، وَمِنْهُمْ مِنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا ، وَيَحْيَى مُؤْمِنًا ، وَيَمُوتُ كَافِرًا ، وَمِنْهُمْ مِنْ يُولَدُ كَافِرًا ، وَيَحْيَى كَافِرًا ، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا } .
وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ { مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ } .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ { فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ ، وَالتَّعْلِيمِ ، وَالتَّسْبِيبِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّبَعِيَّةِ حُكْمًا ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِعْلًا ، وَفِيهِ عَلَى الثَّانِي تَبَعِيَّةُ الصَّغِيرِ لِأَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ فِي حُكْمِ الْكُفْرِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ لَا يَفْعَلَانِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، وَإِنَّمَا يَفْعَلَانِ أَحَدَهُمَا .
{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ { كَمَا تَنَاتَجُ الْإِبِلُ } أَيْ تَتَنَاتَجُ فَحَذَفَ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا وَقَوْلُهُ { جَمْعَاءَ } بِفَتْحِ الْجِيمِ ، وَإِسْكَانِ الْمِيمِ ، وَبِالْمَدِّ أَيْ مُجْتَمَعَةً الْأَعْضَاءِ سَلِيمَةً مِنْ النَّقْصِ ، وَقَوْلُهُ { هَلْ

تُحِسُّ } بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ ثَالِثِهِ مِنْ الْإِحْسَاسِ ، وَهُوَ الْإِدْرَاكُ بِأَحَدِ الْحَوَاسِّ ، وَقَوْلُهُ { جَدْعَاءَ } بِفَتْحِ الْجِيمِ ، وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ، وَبِالْمَدِّ أَيْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْبَهِيمَةَ كَامِلَةَ الْأَعْضَاءِ لَا نَقْصَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ فِيهَا النَّقْصُ ، وَالْجَدْعُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا فَكَذَلِكَ يَخْرُجُ الْمَوْلُودُ سَلِيمًا مِنْ الْكُفْرِ ، وَإِنَّمَا يَطْرَأُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدُ ، وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ { تُنْتَجُونَ } بِضَمِّ أَوَّلِهِ ، وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ ، وَفَتْحِ ثَالِثِهِ .
وَقَوْلُهُ { الْإِبِلَ } مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ ، وَهَذَا الْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ ، وَقَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ إنَّهُ مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ إنْ أَرَادَ فِي الصُّورَةِ ، وَإِلَّا فَهُوَ ، وَهْمٌ فَقَدْ ذُكِرَ فَاعِلُهُ مَعَهُ .
{ السَّادِسَةُ } قَوْلُهُ { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ } هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا هُوَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَكِلَاهُمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَمُسْلِمٍ ، وَقَوْلُهُ { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } .
اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى التَّوَقُّفِ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي هَلْ هُمْ فِي الْجَنَّةِ أَمْ فِي النَّارِ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ بَلَغَ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ بَلَغَ كَانَ كَافِرًا كَانَ فِي النَّارِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ ، وَقِيلَ فِيهِمْ يُتَوَقَّفُ ، وَاحْتَجَّ قَائِلُهُ بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { تُوُفِّيَ صَبِيٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقُلْت طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ

مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلْ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا ، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا ، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ } .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ عَنْ إجْمَاعِ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالتَّوَقُّفِ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، وَقَالَ ، وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنْ التَّسَرُّعِ إلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَوْلَهُ { إنِّي لَا أَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا } الْحَدِيثَ .
قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ قَالَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ } وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُنْكِرُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قَالَ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقِفُ فِيهِمْ ، وَلَا يَرَى نَصًّا قَاطِعًا بِكَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الْإِجْمَاعُ فَيَقُولُ بِهِ ، وَاسْتَثْنَى قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءٍ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَالَ قَدْ تَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّوَقُّفَ فِي أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ ، وَالْحَدِيثِ مِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، وَغَيْرُهُمْ .
قَالَ : وَهُوَ نِسْبَةُ مَا رَسَمَهُ مَالِكٌ

فِي أَبْوَابِ الْقَدَرِ مِنْ مُوَطَّآتِهِ ، وَمَا أَوْرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ، وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ انْتَهَى .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ ( سَمِعْت مَالِكًا قِيلَ لَهُ إنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ مَالِكٌ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِآخِرِهِ قَالُوا أَرَأَيْت مِنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ) وَأَمَّا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فَفِيهِمْ مَذَاهِبُ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُمْ فِي النَّارِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ .
( وَالثَّالِثُ ) التَّوَقُّفُ فِيهِمْ .
( وَالرَّابِعُ ) أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثٍ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَوْلُودِ } الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ { يَقُولُ الْمَوْلُودِ رَبِّ لَمْ أُدْرِكْ الْعَقْلَ قَالَ فَتَرْتَفِعُ لَهُمْ نَارٌ فَيُقَالُ رِدُوهَا وَادْخُلُوهَا قَالَ فَيَرِدُهَا أَوْ يَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَعِيدًا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ ، وَيُمْسِكُ عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ شَقِيًّا لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ قَالَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّايَ عَصَيْتُمْ فَكَيْفَ رُسُلِي لَوْ أَتَتْكُمْ } .
وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَثَوْبَانَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ الشُّيُوخِ ، وَفِيهَا عِلَاوَاتٌ لَيْسَتْ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ ، وَالْقَطْعُ فِيهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ضَعِيفٌ فِي الْعِلَّةِ وَالنَّظَرِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا انْتَهَى .
( وَالْقَوْلُ

الْخَامِسُ ) أَنَّهُمْ فِي بَرْزَخٍ حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ قَالَ قِيلَ أَحْسَبُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ النَّارِ حَكَى النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَالثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا حَدِيثُ { إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ ، وَحَوْلَهُ أَوْلَادٌ النَّاسِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ : وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمَوْلُودِ التَّكْلِيفُ ، وَيَلْزَمُهُ قَوْلُ الرَّسُولِ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ { وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ ، وَحَقِيقَةُ لَفْظِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْ بَلَغُوا ، وَالتَّكْلِيفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْبُلُوغِ ، وَأَمَّا غُلَامُ الْخَضِرِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ قَطْعًا لِأَنَّ أَبَوَيْهِ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْلِمًا فَيُتَأَوَّلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَكَانَ كَافِرًا لَا أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ ، وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ انْتَهَى .
وَسَفْكُ دَمِهِ فِي الْحَالِ غَيْرُ سَائِغٍ فِي شَرِيعَتِنَا ، وَلَا أَظُنُّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِهَذَا أَنْكَرَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرِيعَةُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِيَ شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ كَانَ قَدْ بَلَغَ ، وَكَانَ قَاطِعَ طَرِيقٍ ، وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ غُلَامٌ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ اجْتَمَعْت أَنَا ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ ،

وَنَحْنُ غُلَامَانِ شَابَّانِ قَدْ بَلَغْنَا ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ بَعِيدٌ مُنْكَرٌ ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { سَأَلَتْ خَدِيجَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ بَعْدَمَا اسْتَحْكَمَ الْإِسْلَامُ فَنَزَلَتْ { لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فَقَالَ هُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ أَوْ قَالَ فِي الْجَنَّةِ } .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَأَلْت رَبِّي اللَّاهِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ فَأَعْطَانِيهِمْ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ } ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا { وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ } .
وَعَنْ سَلْمَانَ مَوْقُوفًا ( أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) .
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ( لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأَمَةِ مُوَاتِيًا أَوْ مُتَقَارِبًا أَوْ كَلِمَةً تُشِيرُ إلَى هَذَيْنِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَنْظُرُوا فِي الْأَطْفَالِ وَالْقَدَرِ ؛ قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ فَذَكَرَتْهُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ أَفَيَسْكُتُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْجَهْلِ ؟ قُلْت فَتَأْمُرُ بِالْكَلَامِ فَسَكَتَ ) .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ ( كُنْت عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ مَاذَا كَانَ بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ : وَتَكَلَّمَ رَبِيعَةُ الرَّأْيَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْقَاسِمُ : إذَا اللَّهُ انْتَهَى عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهَوْا وَقِفُوا عِنْدَهُ قَالَ فَكَأَنَّمَا كَانَتْ نَارًا فَانْطَفَأَتْ ) .

{ السَّابِعَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَمُسْلِمٌ } ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ ، وَالْجُمْهُورُ يَتْبَعُ أَيَّهمَا أَسْلَمَ سَوَاءً كَانَ هُوَ الْأَبَ أَوْ الْأُمَّ ، وَقَالَ مَالِكٌ يَتْبَعُ أَبَاهُ خَاصَّةً دُونَ أُمِّهِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ وَأَبُوهُ كَافِرٌ اسْتَمَرَّ عَلَى الْحُكْمِ لَهُ بِالْكُفْرِ .

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا إذَا سُبِيَ ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا يَتْبَعُ السَّابِيَ فَإِذَا كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ حَيَّيْنِ ، وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ ، وَلَوْ انْفَرَدَ عَنْهُمَا حَتَّى يُسْلِمَ اسْتِقْلَالًا بَعْدَ الْبُلُوغِ

عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَزَادَ الشَّيْخَانِ فِي آخِرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ { الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ } ، وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ } .
بَابُ اتِّخَاذِ الْخَيْلِ .

عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ ، وَفِي آخِرِهِ { الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ } ، وَرَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ } .
{ الثَّانِيَةُ } الْمُرَادُ بِالنَّاصِيَةِ هُنَا الشَّعْرُ الْمُسْتَرْسِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَغَيْرُهُ قَالُوا وَكَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ يُقَالُ فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ ، وَمُبَارَكُ الْغُرَّةِ أَيْ الذَّاتِ ( قُلْت ) وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أُشِيرَ بِذِكْرِ النَّاصِيَةِ إلَى أَنَّ الْخَيْرَ إنَّمَا هُوَ فِي مُقَدَّمِهَا لِلْإِقْدَامِ بِهِ عَلَى الْعَدُوِّ دُونَ مُؤَخِّرِهَا لِلْإِدْبَارِ بِهَا عَنْ الْعَدُوِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْخَيْلِ وَالْخَيْرِ مِنْ الْجِنَاسِ ، وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْكَلَامِ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ اسْتِحْبَابُ اتِّخَاذِ الْخَيْلِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ ارْتِبَاطُهَا لِلْغَزْوِ وَقِتَالِ الْعَدُوِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ { الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ } ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ { أَنَّ الشُّؤْمَ يَكُونُ فِي الْفَرَسِ } ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ لِلْغَزْوِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشُّؤْمَ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَحْصُلُ الْخَيْرُ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْفَرَسُ مِمَّا يُتَشَاءَمُ بِهِ فَقَدْ يَحْصُلُ فِي الشَّيْءِ النَّفْعُ وَالضَّرَرُ بِاعْتِبَارَيْنِ .
وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ

أَحْسَنُ ، وَيَرُدُّ الثَّانِيَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ } فَإِنَّ الْبَرَكَةَ وَالشُّؤْمَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ .

{ الرَّابِعَةُ } اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَقَاءَ الْخَيْرِ فِي نَوَاصِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَفَسَّرَهُ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ ، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِمَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حُصُولِ هَذَا الْفَضْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَزْوُ مَعَ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَوْ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا تُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ ، وَلَا تُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ ، وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ ، وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ } ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ وَاجِبَةٌ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ } سَكَتَ أَبُو دَاوُد عَلَيْهَا .
{ الْخَامِسَةُ } وَفِيهِ بُشْرَى بِبَقَاءِ الْجِهَادِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَالْمُرَادُ قُرْبُهَا ، وَأَشْرَاطُهَا الْقَرِيبَةُ كَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ وَفَاةِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جِهَادٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ السَّادِسَةُ } قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ إثْبَاتُ السَّهْمِ لِلْفَرَسِ يَسْتَحِقُّهُ الْفَارِسُ مِنْ أَجْلِهِ .

{ السَّابِعَةُ } قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَفِيهِ إعْلَامٌ بِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يُكْتَسَبُ بِاِتِّخَاذِ الْخَيْلِ مِنْ خَيْرِ وُجُوهِ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَالَ خَيْرًا ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا } أَيْ مَالًا ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ { إنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي } أَيْ الْخَيْلِ .

{ الثَّامِنَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ تَفْضِيلُ الْخَيْلِ عَلَى سَائِرِ الدَّوَابِّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ فِي غَيْرِهَا مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ }

بَابُ ذَمِّ اتِّخَاذِهَا لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } .

بَابُ ذَمِّ اتِّخَاذِهَا لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } اتَّفَقَ عَلَى إخْرَاجِهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَهُ عِنْدَهُمَا طُرُقٌ أُخْرَى .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ { رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ } كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلَكَةَ الْفُرْسِ ، وَهُمْ أَهْلُ تَجَبُّرٍ ، وَغَيْرُ مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعٍ وَلَا كِتَابٍ ، وَيَكُونُ حِينَ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ الْمَشْرِقِ ، وَكَذَلِكَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ مُنْشَأُ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ فِي الدَّيْنِ بِالْبِدَعِ ، وَفِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَسَفْكِ الدَّمِ ، وَلَوْ لَمْ يَجِئْ مِنْ فِتْنَةِ الْمَشْرِقِ إلَّا خُرُوجُ التُّرْكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَسَفْكُهُمْ دِمَاءَهُمْ وَإِذْهَابُهُمْ عُلُومَهُمْ ، وَتَخْرِيبُهُمْ مَدَائِنَهُمْ لَكَفَى فِي ذَلِكَ .
{ الثَّالِثَةُ } الْفَخْرُ هُوَ الِافْتِخَارُ وَعَدُّ الْمَآثِرِ الْقَدِيمَةِ تَعَظُّمًا { وَالْخُيَلَاءُ } بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْيَاءِ مَمْدُودًا الْكِبْرُ ، وَاحْتِقَارُ النَّاسِ ، وَقَوْلُهُ { الْفَدَّادِينَ } كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا بِغَيْرِ وَاوٍ ، وَكَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ هُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { ، وَالْفَدَّادِينَ } بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ أَنَّ الْفَدَادِين بِتَخْفِيفِ الدَّالِ ، وَهُوَ جَمْعُ فَدَّانٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَقَرِ الَّتِي تَخُورُ عَلَيْهَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَصْحَابُهَا فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَمِنْهُمْ الْأَصْمَعِيُّ وَجَمِيعُ الْمُحَدِّثِينَ إلَى أَنَّ الْفَدَّادِينَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ جَمْعُ فَدَّادٍ

بِدَالَيْنِ أُولَاهُمَا مُشَدَّدَةٌ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ الصَّوَابُ ، وَهُمْ الَّذِينَ تَعْلُوا أَصْوَاتُهُمْ فِي خَيْلِهِمْ وَإِبِلِهِمْ وَحُرُوبِهِمْ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهُوَ مِنْ الْفَدِيدِ ، وَهُوَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلًا أَنَّهُمْ سُمُّوا الْفَدَّادِينَ مِنْ أَجْلِ الْفَدَافِدِ ، وَهِيَ الصَّحَارِي وَالْبَرَارِي الْخَالِيَةِ ، وَأَحَدُهَا فَدْفَدٌ ، وَأَنَّ الْأَخْفَشَ حَكَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ قَالَ ، وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى هُمْ الْمُكْثِرُونَ مِنْ الْإِبِلِ الَّذِينَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ الْمِائَتَيْنِ مِنْهَا إلَى الْأَلْفِ ، وَيُتَّجَهُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ ، وَالْفَدَادِينَ مُوَافِقًا لِلتَّخْفِيفِ ، وَحَذْفُهَا مُوَافِقًا لِلتَّشْدِيدِ ، وَقَوْلُهُ { أَهْلِ الْوَبَرِ } بَعْدَ قَوْلِهِ أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ قَدْ يُسْتَشْكَلُ لِأَنَّ الْوَبَرَ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْخَيْلِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْوَبَرِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَهْلَ خَيْلٍ وَإِبِلٍ أَهْلُ وَبَرٍ ، وَلَيْسُوا أَهْلَ مَدَرٍ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ بَادِيَةٍ فَإِنَّهُ يَعْنِي عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ بِأَهْلِ الْمَدَرِ ، وَعَنْ الْبَدْو بِأَهْلِ الْوَبَرِ وَالْبَادِيَةُ مَوْضِعُ الْجَفَاءِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَالْبُعْدِ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ ، وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ بَدَا جَفَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى ذَمِّ رَفْعِ الصَّوْتِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ " مُنَافٍ لِلتَّوَاضُعِ ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْغِلْظَةِ وَالْأَذَى وَإِظْهَارِ التَّرَفُّعِ دُونَ مَا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ السَّجِيَّةِ لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَنْ سَجِيَّتُهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
{ الرَّابِعَةُ } هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْخَيْلَ إنَّمَا يَكُونُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إذَا لَمْ يَكُنْ اتِّخَاذُهَا لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فَإِذَا كَانَ لِذَلِكَ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ ، وَقَدْ

سَبَقَ إيضَاحُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ .
{ الْخَامِسَةُ } { السَّكِينَةُ } الطُّمَأْنِينَةُ وَالسُّكُونُ خِلَافَ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَةِ الْفَدَّادِينَ

بَابُ الْمُسَابِقَةِ بِالْخَيْلِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا } .

بَابُ الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ .
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ عَلَى الْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ؛ وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَالشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَالشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيق عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إلَّا أَنَّ لَفْظَ أَبِي دَاوُد مُخْتَصَرٌ { كَانَ يُضْمِرُ الْخَيْلَ لِيُسَابِقَ بِهَا } وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ثَمَانِيَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ( فَقُلْت لِمُوسَى بَيْنَ ذَلِكَ يَعْنِي الْحَفْيَاءَ وَثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ ؟ قَالَ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ ) ، وَفِيهِ ( قُلْت فَكَمْ بَيْنَ ذَلِكَ يَعْنِي الثَّنِيَّةَ ، وَمَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ مِيلٌ أَوْ نَحْوُهُ ) وَفِي التِّرْمِذِيِّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ ( وَبَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَمْيَالٍ ، وَبَيْنَهُمَا مِيلٌ ) ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ كَلَامِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِلَفْظِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّ ابْنَ بُكَيْر كَانَ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ إلَى عِنْدِ مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ فَقَالُوا إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ( قُلْت ) وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَلَا يُعَدُّ

ذَلِكَ اخْتِلَافًا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ بِلَفْظِ { كَانَ يُضْمِرُ ثُمَّ يُسْبِقُ } فَاخْتَصَرَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَمَدَ وَالْغَايَةَ ( قُلْت ) هُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِذِكْرِ الْأَمَدِ ، وَالْغَايَةِ فَهُمَا كَرِوَايَةِ غَيْرِهِ ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رِوَايَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ ، وَفِيهِ { فِيمَا لَمْ يُضْمَرْ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ } .
وَقَالَ هَكَذَا قَالَ مِنْ الْحَفْيَاءِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَمَالِكٌ يَقُولُ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَهُوَ الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ تَابَعَهُ عَلَيْهِ اللَّيْثُ ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ( قُلْت ) ، وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ بِاللَّفْظِ الْمَشْهُورِ .
وَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ خَاصَّةً ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ ، وَفَضَّلَ الْقُرَّحَ فِي الْغَايَةِ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدٌ غَيْرُ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ هَذَا ، وَقَدْ ، وَجَدْت لَهُ أَصْلًا فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيُّ نَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي وَعَمِّي عَنْ جَدِّي ( أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ضَمَرُوا خُيُولَهُمْ فَنَهَاهُمْ الْأَمِيرُ عُقْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ أَنْ يُجْرُوهَا حَتَّى كَتَبَ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ أَرْسِلْ الْقُرَّحَ مِنْ رَأْسِ مِائَةِ عُلْوَةٍ ، وَلَا يَرْكَبْهَا إلَّا أَرْبَابُهَا ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ

الْخَيْلِ وَرَاهَنَ } .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ تَجْرِي مِنْ سِتَّةِ أَمْيَالٍ لِلسَّبْقِ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّابِقَ } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ حَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ هَذَا مَجْهُولٌ .
، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ ، وَجَعَلَ بَيْنَهَا سَبْقًا ، وَجَعَلَ فِيهَا مُحَلَّلًا ، وَقَالَ لَا سَبْقَ إلَّا فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ } .
وَأَوْرَدَهُ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ ، وَضَعَّفَهُ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ { أُضْمِرَتْ } بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ، وَإِسْكَانِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ، وَكَسْرِ الْمِيمِ ، وَتَخْفِيفِهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ ضُمِّرَتْ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِدُونِ هَمْزَةٍ ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ لَمْ تُضْمَرْ الْوَجْهَانِ إسْكَانُ الضَّادِ ، وَتَخْفِيفُ الْمِيمِ ، وَفَتْحُ الضَّادِ ، وَتَشْدِيدُ الْمِيمِ .
وَالْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ أُضْمِرَتْ الْأَوَّلُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ تُعْلَفَ الْخَيْلُ حَتَّى تَسْمَنَ وَتَقْوَى ثُمَّ يُقَلَّلَ عَلَفُهَا فَلَا تُعْلَفَ إلَّا قُوتًا ، وَتُدْخَلَ بَيْتًا كَنِينًا ، وَتُغْشَى بِالْجِلَالِ حَتَّى تَحْمَى لِتَعْرَقَ وَيَجِفَّ عِرْقُهَا فَيَخِفَّ لَحْمُهَا وَتَقْوَى عَلَى الْجَرْيِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يُطْعِمُهَا اللَّحْمَ وَاللَّبَنَ فِي أَيَّام التَّصَمُّرِ ، وَ { الْحَفْيَاءُ } بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَإِسْكَانِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ يَجُوزُ فِيهِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ ، وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَشْهَرُهُمَا وَأُفْصِحُهُمَا الْمَدُّ ، وَالْحَاءُ مَفْتُوحَةٌ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ : وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْحَاءِ ، وَهُوَ خَطَأٌ ، وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ ،

وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا الْحَيْفَاءُ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ عَلَى الْفَاءِ ، وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ، وَغَيْرِهَا الْحَفْيَاءُ وَ { ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ } بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ النُّونِ ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَالثَّنِيَّةُ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ كَالثُّقْبِ .
وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَيْضًا قِيلَ الطَّرِيقُ إلَى الْجَبَلِ ، وَقِيلَ الْعَقَبَةُ ، وَقِيلَ الْجَبَلُ نَفْسُهُ انْتَهَى .
وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الثَّنِيَّةُ إلَى الْوَدَاعِ لِأَنَّ الْخَارِجِ مِنْ الْمَدِينَةِ يَمْشِي مَعَهُ الْمُوَدِّعُونَ إلَيْهَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَّعَهُ بِهَا بَعْضُ الْمُقِيمِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ .
وَقِيلَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيَّعَ إلَيْهَا بَعْضَ سَرَايَاهُ فَوَدَّعَهُ عِنْدَهَا ، وَقِيلَ إنَّ الْمُسَافِرَ مِنْ الْمَدِينَةِ كَانَ يُشَيَّعُ إلَيْهَا ، وَيُوَدَّعُ عِنْدَهَا قَدِيمًا ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الْأَخِيرَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ حِينَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ قَدِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَأَظُنُّهَا عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ .
وَمِنْهَا بَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَظَهَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي حِينِ إقْبَالِهِ مِنْ مَكَّةَ فَقَالَ شَاعِرُهُمْ طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعٍ انْتَهَى .
( وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ إنْشَادِهِمْ هَذَا الشَّعْرَ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
الْمَدِينَةَ ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَأَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِي فِي كِتَابِ الشَّمَائِلِ لَهُ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا

يُشَيِّعُونَ الْحُجَّاجَ وَالْغُزَاةَ إلَيْهَا وَيُوَدِّعُونَهُمْ عِنْدَهَا ، وَإِلَيْهِمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ عِنْدَ التَّلَقِّي انْتَهَى .
وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ { لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ خَرَجَ النَّاسُ يَتَلَقَّوْنَهُ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ } .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الشَّامِ ، وَلِهَذَا لَمَّا نَقَلَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ كَلَامَ ابْنِ بَطَّالٍ قَالَ إنَّهُ وَهْمٌ قَالَ : وَكَلَامُ ابْنِ عَائِشَةَ مُعْضَلٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الثَّنِيَّةُ الَّتِي مِنْ كُلِّ جِهَةٍ يَصِلُ إلَيْهَا الْمُشَيِّعُونَ يُسَمُّونَهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ .
وَقَوْلُهُ ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ يَجُوزُ فِيهِ رَفْعُ الْأَوَّلِ وَنَصَبُ الثَّانِي ، وَعَكْسُهُ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ ، وَقَدْ ضَبَطْنَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ ، وَالْأَمَدُ الْغَايَةُ قَالَ النَّابِغَةُ سَبَقَ الْجَوَادُ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ ، وَتَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ بَيْنَ الْحَفْيَاءِ وَثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ .
، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ خَمْسَةٌ ، وَأَطْلَقَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا الثَّانِي عَنْ سُفْيَانَ فَظَنَّ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَصَرَّحَ بِذَلِكَ ، وَهُوَ وَهْمٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ الثَّوْرِيُّ كَمَا عَرَفْت ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي التِّرْمِذِيِّ الْجَزْمَ بِسِتَّةِ أَمْيَالٍ .
وَقَوْلُهُ مِنْ الثَّنِيَّةِ أَيْ الْمَذْكُورَةُ ، وَهِيَ ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ { وَمَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ } بِتَقْدِيمِ الزَّايِ عَلَى الرَّاءِ أُضِيفَ إلَيْهِمْ لِصَلَاتِهِمْ بِهِ ، وَهِيَ إضَافَةُ تَعْرِيفٍ لَا مِلْكٍ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ الْمُسَابِقَةُ بَيْنَ الْخَيْلِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْعَبَثِ الْمَذْمُومِ بَلْ مِنْ الرِّيَاضَةِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ فِي الْغَزْوِ وَالِانْتِفَاعِ

بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْقِتَالِ كَرًّا وَفَرًّا ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مُبَاحَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ .

{ الرَّابِعَةُ } وَفِيهِ إضْمَارُ الْخَيْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَهِيَ الْقُوَّةُ عَلَى الْجَرْي ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِي اسْتِحْبَابِهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ ، وَلَا يَخْفَى اخْتِصَاصُ اسْتِحْبَابِ الْأَمْرَيْنِ بِالْخَيْلِ الْمُعَدَّةِ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ ، وَمَنْ سَاوَاهُمْ فِي جَوَازِ قِتَالِهِ أَمَّا الْمُعَدَّةُ لِقِتَالِ مَنْ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُ فَلَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذَلِكَ بَلْ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْقَصْدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

{ الْخَامِسَةُ } وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُسَابَقَةِ مِنْ إعْلَامِ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَانْتِهَائِهَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِلَّا أَدَّى إلَى النِّزَاعِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ .

{ السَّادِسَةُ } وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تَسَابُقَ إلَّا بَيْنَ فَرَسَيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُسَابِقْ بَيْنَ الْمُضْمَرَاتِ وَغَيْرِهَا بَلْ جَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهَا مَعَ مُلَائِمِهِ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُضْمَرَةِ لَا تُسَاوِقُ الْمُضْمَرَةَ كَيْفَ ، وَقَدْ جَعَلَ مَيْدَانَ الْمُضْمَرَاتِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ ، وَمَيْدَانَ غَيْرِهَا مِيلًا وَاحِدًا ، وَهَذَا تَفَاوُتٌ كَبِيرٌ ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ عُيِّنَتْ غَايَةٌ لَا تَقْدِرُ تِلْكَ الْخَيْلُ عَلَى قَطْعِهَا لَمْ يَصِحَّ ، وَتَقَدَّمَ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضَّلَ الْقُرَّحَ فِي الْغَايَةِ } وَهُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ ، وَآخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ جَمْعُ قَارِحٍ ، وَهُوَ مِنْ الْخَيْلِ مَا كَانَ ابْنَ خَمْسِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ ، وَهُوَ أَشَدُّ قُوَّةً مِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ سِنًّا ، وَيُقَالُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْإِبِلِ بَازِلٌ ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لَذَّ فِي قَرْنٍ وَلَمْ يَنْفَعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ الْقَنَا عَدَسُ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ نَقْلِهِ هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّهُ إنْ صَحَّ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي كَانَتْ قَدْ أُضْمِرَتْ مِنْ تِلْكَ الْخَيْلِ كَانَتْ قُرَّحًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ إنَّمَا اللَّازِمُ .
بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُسَابِقَ بَيْنَ بَعْضِ الْقُرَّحِ وَغَيْرِهَا ، وَتَفْضِيلُهَا فِي الْغَايَةِ عَلَى غَيْرِهَا لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَا ضَمْرَ بَيْنَ الْخَيْلِ إلَّا الْقُرَّحَ .
الْإِفْتَاءُ وَالْمَهَارَةُ .
{ السَّابِعَةُ } وَفِيهِ إطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَالْمُسَوِّغُ لَهُ أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ فَقَوْلُهُ سَابَقَ أَيْ أَمَرَ لِوُجُودِ مُسَوِّغِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26