كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ

النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَجْعَلُونَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ مِنْ حِسَابِ اللَّيْلِ وَاسْتِوَاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عِنْدَهُمْ إذَا تَسَاوَى مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا وَمَا بَيْنَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا انْتَهَى وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُ الذَّهَابِ إلَى الْجُمُعَةِ إلَى الزَّوَالِ وَقَالَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلِأَصْحَابِنَا وَجْهٌ رَابِعٌ أَنَّ التَّبْكِيرَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ حَكَاهُ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ وَزَعَمَ قَائِلُهُ أَنَّ هَذَا وَقْتُ التَّهْجِيرِ وَمِمَّا يَرُدُّ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُتَّصِلًا بِالزَّوَالِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ } وَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ لَمْ يَكْتُبُوا أَحَدًا بَلْ يَطْوُونَ الصُّحُفَ وَيَجْلِسُونَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ كِتَابَةُ النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مَعَ أَنَّ خُرُوجَهُ مُقَارِنٌ لِلزَّوَالِ وَمَا كَانَ يُؤَذَّنُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ؟ .
( الثَّالِثَةُ ) تَعَلَّقَ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ فِيهِ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَأَتَى بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْتِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ فَاقْتَضَى تَعْقِيبَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُ وَلَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنْ اعْتِبَارِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَتَقْسِيمِهِ إلَى سِتِّ سَاعَاتٍ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ الْآتِي فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ يَعْقُبُهُ الْآتِي فِي أَوَّلِ الَّتِي تَلِيهَا وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ مَنْ جَاءَ أَوَّلًا وَمَنْ جَاءَ عَقِبَهُ وَهَكَذَا وَهُوَ إنَّمَا أَتَى بِالْفَاءِ فِي كِتَابَةِ الْآتِينَ وَأَمَّا

مِقْدَارُ الثَّوْبِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ بِالْفَاءِ ( ثَانِيهِمَا ) قَوْلُهُ الْمُهَجِّرُ وَالتَّهْجِيرُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ كَوْنَ التَّهْجِيرِ مَعْنَاهُ الْإِتْيَانُ فِي الْهَجِيرِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ قَوْلٌ مَحْكِيٌّ عَنْ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ التَّهْجِيرَ التَّبْكِيرُ فَإِنْ ثَبَتَ اشْتِرَاكُ اللَّفْظِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي أَوْلَى لِيُوَافِقَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ ( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُهَجِّرِ مَنْ هَجَرَ مَنْزِلَهُ وَتَرَكَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَقْوَى مُعْتَمَدِ مَالِكٍ فِي كَرَاهِيَةِ الْبُكُورِ إلَيْهَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلُ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَسَعْيُهُمْ إلَيْهَا قُرْبَ صَلَاتِهَا وَهَذَا نَقْلٌ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ عِنْدَهُمْ وَلَا مَعْمُولَ بِغَيْرِهِ وَمَا كَانَ أَهْلُ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَى غَيْرِهِ وَيَتَمَالَئُونَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَقَلِّ الدَّرَجَاتِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَشْهَدُ لَهُ انْتَهَى وَمَا أَدْرِي أَيْنَ الْعَمَلُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ وَعُمَرُ يُنْكِرُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّخَلُّفَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْدُبُ إلَى التَّبْكِيرِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا أَحَادِيثُ أَوْسِ بْنِ أَوْسِ بْنِ بَكْرٍ وَابْتَكَرَ وَفِي آخِرِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا وَهُوَ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَصَحِيحَيْ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَقَدْ أَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الْأَثْرَمُ قِيلَ لِأَحْمَدَ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي التَّهْجِيرُ يَوْمَ

الْجُمُعَةِ فَقَالَ هَذَا خِلَافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إلَى أَيِّ شَيْءٍ ذَهَبَ فِي هَذَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { كَالْمُهْدِي جَزُورًا } وَأَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا ابْنُ حَبِيبٍ إنْكَارًا بَلِيغًا فَقَالَ هَذَا تَحْرِيفٌ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَمُحَالٌ مِنْ وُجُوهٍ لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ سَاعَاتٌ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَرْحُ الْحَدِيثِ بَيِّنٌ فِي لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ حُرِّفَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَشُرِحَ بِالْخُلْفِ مِنْ الْقَوْلِ وَزُهِدَ فِيمَا رَغَّبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّهْجِيرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إنَّمَا يَجْتَمِعُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قُرْبَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَكَاهُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ هَذَا مِنْهُ تَحَامُلٌ عَلَى مَالِكٍ .

( الرَّابِعَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ لِلْخَطِيبِ أَيْضًا لَكِنْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ التَّبْكِيرِ الْمُسْتَحَبِّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَلَا يُبَكِّرُ اتِّبَاعًا لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتِدَاءً بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَالَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مِنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إلَى الْمِنْبَرِ انْتَهَى .

( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ فِي الْفَضِيلَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ { خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ ثَلَاثَةً قَدْ سَبَقُوهُ فَقَالَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَجْلِسُونَ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ رَوَاحِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ ثُمَّ قَالَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ وَمَا رَابِعُ أَرْبَعَةٍ بِبَعِيدٍ } .
( السَّادِسَةُ ) هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ وَظِيفَتُهُمْ كِتَابَةُ حَاضِرِي الْجُمُعَةِ وَهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ كَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِقَوْلِهِ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ صُحُفُ الْمُتَسَابِقِينَ الْمُبَكِّرِينَ وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ قُلْت يَا أَبَا أُمَامَةَ لَيْسَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ جُمُعَةٌ ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ مِمَّنْ يُكْتَبُ فِي الصُّحُفِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ { فَمَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِيءُ لِحَقِّ الصَّلَاةِ } .
( السَّابِعَةُ ) رَتَّبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ السَّابِقِينَ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى خَمْسَةِ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا كَمُهْدِي الْبَدَنَةِ وَالثَّانِي كَمُهْدِي الْبَقَرَةِ وَالثَّالِثُ كَمُهْدِي الْكَبْشِ وَالرَّابِعُ كَمُهْدِي الدَّجَاجَةِ وَالْخَامِسُ كَمُهْدِي الْبَيْضَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى تَرْتِيبُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ عَلَى خَمْسِ سَاعَاتٍ فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ السَّاعَاتِ الْأَجْزَاءُ الزَّمَانِيَّةُ الَّتِي يُقَسَّمُ النَّهَارُ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ الشَّمْسِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ مِنْ طُلُوعِ

الْفَجْرِ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُرَادُ بِهَا لَحَظَاتٌ لَطِيفَةٌ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَالْمُتَبَادِرِ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ السَّاعَاتُ الْمَعْرُوفَةُ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمُ { الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً } الْحَدِيثَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا نَعَمْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً } الْحَدِيثُ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ وَفِيهِ { فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ } وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً } لَكِنْ لَا فِي مَعْرِضِ التَّبْكِيرِ بَلْ فِي مَعْرِضِ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ لَكِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي التَّبْكِيرِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّا إذَا خَرَجْنَا عَنْ السَّاعَاتِ الزَّمَانِيَّةِ لَمْ يَبْقَ لَنَا مُرَادٌ يَنْقَسِمُ فِيهِ الْحَالُ إلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ بَلْ يَكُونُ مُقْتَضَاهُ تَفَاوُتُ الْفَضْلِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ السَّبَقِ وَيَتَأَتَّى مِنْ هَذَا مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بِمَعْنَاهُ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قُلْت يُجْعَلُ الْوَقْتُ مِنْ التَّهْجِيرِ مُقَسَّمًا عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُرَادًا قُلْت يُشْكِلُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ تَقْسِيمِ السَّاعَاتِ إلَى اثْنَيْ عَشْرَ أَوْلَى .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّهْجِيرَ أَفْضَلُ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ يَقُولُ بِتَرْتِيبِ مَنَازِلِ السَّابِقِينَ عَلَى غَيْرِ تَقْسِيمِ الْأَجْزَاءِ الْخَمْسَةِ وَقَائِلٌ

يَقُولُ بِتَقْسِيمِ الْأَجْزَاءِ سِتَّةً إلَى الزَّوَالِ فَالْقَوْلُ بِتَقْسِيمِ هَذَا الْوَقْتِ إلَى خَمْسَةٍ إلَى الزَّوَالِ مُخَالِفٌ لِلْكُلِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ فَلْيُكْتَفَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ انْتَهَى وَاعْتَرَضَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ بِأُمُورٍ ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى السَّاعَاتِ الِاثْنَيْ عَشْرَةَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ بَعْدَ السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ يَخْرُجُ الْإِمَامُ وَتَطْوِي الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ لِاسْتِمَاعِ الذِّكْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ خُرُوجَ الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ السَّادِسَةِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ وَرَدَ ذِكْرُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بَعْدَ الْكَبْشِ دَجَاجَةٌ ثُمَّ عُصْفُورٌ ثُمَّ بَيْضَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بَعْدَ الْكَبْشِ بَطَّةٌ ثُمَّ دَجَاجَةٌ ثُمَّ بَيْضَةٌ وَقَدْ ذَكَرْتُهُمَا فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ وَإِنْ صَحَّ إسْنَادُهُمَا فَقَدْ يُقَالُ هُمَا شَاذَّتَانِ لِمُخَالَفَتِهِمَا الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ انْتَهَى قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْبَطَّةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ مُتَوَحِّشٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِصَيْدٍ وَكُلْفَةٍ فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الدَّجَاجَةِ فِي التَّقَرُّبِ بِهِ قُلْت الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَفْضُلْ بِالْكُلْفَةِ فِي صَيْدِهِ بَلْ بِكَوْنِهِ أَكْبَرَ وَأَكْثَرَ لَحْمًا وَجَمَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَيْنَ الْبَطَّةِ وَالْعُصْفُورِ فَقَالَ جَعَلَ مَرَاتِبَ الرَّوَاحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبْعَةً بَدَنَةٌ ثُمَّ بَقَرَةٌ ثُمَّ شَاةٌ ثُمَّ بَطَّةٌ ثُمَّ دَجَاجَةٌ ثُمَّ عُصْفُورٌ ثُمَّ بَيْضَةٌ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهَا هَكَذَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبَطَّةَ فِي حَدِيثٍ وَالْعُصْفُورَ فِي آخَرَ لَكِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَعْزُ هَذَا لِلنَّسَائِيِّ فَلَعَلَّهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ آخَرَ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ وَقَدْ رَأَيْت فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ

مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ بَكَّارَ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الْقَوْمَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَالرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ فَإِذَا بَلَغُوا السَّابِعَةَ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَرَّبَ الْعَصَافِيرَ } وَبَكَّارُ بْنُ تَمِيمٍ مَجْهُولٌ وَبِشْرُ بْنُ عَوْنٍ رُوِيَ عَنْهُ نُسْخَةً بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوُ مِائَةِ حَدِيثٍ كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ تَكْتُبُ الْآتِي فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ أَيْضًا لَكِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُمْ يَطْوُونَ الصُّحُفَ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَوَّلِ السَّابِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا تَصِحَّ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ الَّتِي تَقْتَضِي السَّاعَةَ السَّادِسَةَ فَلَا مَحْذُورَ فِي أَنْ لَا تَكْتُبَ أَهْلَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فِي السَّابِقِينَ وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) قَالُوا مُقْتَضَى الْحَمْلِ عَلَى السَّاعَاتِ الزَّمَانِيَّةِ أَنْ تَتَسَاوَى مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَمَنْ أَتَى فِي السَّاعَةِ الْأُولَى كَانَ كَمَنْ قَرَّبَ بَدَنَةً سَوَاءٌ أَكَانَ مَجِيئُهُ فِي أَوَّلِ السَّاعَةِ أَوْ فِي آخِرِهَا وَهَذَا خِلَافُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ أَنَّ السَّابِقَ لَا يُسَاوِيهِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَنْ جَاءَ فِي أَوَّلِ السَّاعَةِ وَمَنْ جَاءَ فِي آخِرِهَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي تَحْصِيلِ الْبَدَنَةِ مَثَلًا لَكِنَّ بَدَنَةَ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ فَيَكُونُ التَّفَاوُتُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسَبِ الصِّفَاتِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ { وَالنَّاسُ فِيهِ كَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً } وَكَذَا كَرَّرَ سَائِرَ الْمَذْكُورَاتِ بَعْدَ الْبَدَنَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْآتِيَيْنِ فِي

سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي التَّقَرُّبِ بِمُسَمَّى الْبَدَنَةِ اخْتَلَفَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَدَنَةَ السَّابِقِ أَعْظَمُ مِنْ بَدَنَةِ الْمُتَأَخِّرِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ تُضَاعَفُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً مَعَ صِدْقِ الْجَمَاعَةِ بِالْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَبِالْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَذَاتُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ } فَفَضْلُ ذَاتِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ عَلَى ذَاتِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ بِكِبَرِ الدَّرَجَةِ مَعَ اشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّهُ عَبَّرَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا تَرْتِيبُ السَّابِقِينَ عَلَى خَمْسِ سَاعَاتٍ بِقَوْلِهِ ثُمَّ رَاحَ وَالرَّوَاحُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الرَّوَاحَ يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي الذَّهَابِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ هُنَا أَرْجَحُ لِتَعْدَادِهِ هَذِهِ السَّاعَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الزَّوَالِ خَمْسٌ مِنْهَا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ اخْتِصَاصُ الرَّوَاحِ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى الْقَاصِدُ إلَى الْجُمُعَةِ رَائِحًا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَصَدَ مَا يُفْعَلُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَهُوَ وَقْتُ الرَّوَاحِ كَمَا يُقَالُ لِقَاصِدِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ حَاجٌّ وَلِلْمُتَسَاوِمَيْنِ مُتَبَايِعَانِ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَا يُنْكَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ زَمَنِ التَّبْكِيرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ السَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي قُسِّمَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَرْتِيبُ الدَّرَجَاتِ وَفَضْلُ السَّابِقِ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ السَّاعَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَاسْتَوَى

الْجَائِيَانِ فِي الْفَضْلِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ تَعَاقُبِهِمَا فِي الْمَجِيءِ ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاخْتَلَفَ الْأَمْرُ بِالْيَوْمِ الشَّاتِي وَالصَّائِفِ وَلِتَفَاوُتِ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي لِمَنْ جَاءَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ لَكِنَّهُ خَالَفَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ فِيهِ الْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ السَّاعَاتُ الْمَعْرُوفَةُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَلَكِنَّ بَدَنَةَ الْأَوَّلِ أَكْمَلُ مِنْ بَدَنَةِ الثَّانِي كَمَا يَقُولُ فِي السَّبْعِ وَالْعِشْرِينَ دَرَجَةً إنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى مُسَمَّى الْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّ دَرَجَاتِ الْأَكْثَرِ جَمَاعَةً تَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ الْأَقَلِّ انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ جَوَابٌ عَنْ احْتِجَاجِ الْقَفَّالِ الْأَوَّلِ وَالْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِهِ الثَّانِي مَا أَجَابَ بِهِ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَقَالَ أَهْلُ الْمِيقَاتِ لَهُمْ اصْطِلَاحَانِ فِي السَّاعَاتِ فَالسَّاعَاتُ الزَّمَانِيَّةُ كُلُّ سَاعَةٍ مِنْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً وَالسَّاعَاتُ الْآفَاقِيَّةُ يَخْتَلِفُ قَدْرُهَا بِاخْتِلَافِ طُولِ الْأَيَّامِ وَقِصَرِهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ فَالنَّهَارُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً وَمِقْدَارُ السَّاعَةِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَشْهَدُ لِهَذَا الِاصْطِلَاحِ الثَّانِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً } كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ فَهُوَ دَائِمًا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً وَعَلَى هَذَا الثَّانِي تُحْمَلُ السَّاعَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَمْرِ بِالْيَوْمِ الشَّاتِي وَالصَّائِفِ وَمِنْ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ فِي الشِّتَاءِ لِمَنْ جَاءَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ خَطَرَ لِي هَذَا الْجَوَابُ رَأَيْته فِي كَلَامِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ فَحَكَى الْخِلَافَ فِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي

حِيَازَةِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ تَجْعَلُ النَّهَارَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً صَيْفًا كَانَ أَوْ شِتَاءً وَالْمُقَدَّمُ يَكُونُ فِي إدْرَاكِ خَمْسِ سَاعَاتٍ مِنْهَا طَالَتْ فِي الصَّيْفِ أَوْ قَصُرَتْ فِي الشِّتَاءِ أَوْ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِالسَّاعَاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَإِنْ تَعَاقَبَتْ لَحَظَاتٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّاعَاتِ الَّتِي قُسِّمَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهَا شِتَاءً وَصَيْفًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْحِسَابِ فَيَكُونُ نَهَارُ الشِّتَاءِ مِنْهَا تِسْعَ سَاعَاتٍ وَشَيْئًا وَنَهَارُ الصَّيْفِ مِنْهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَشَيْئًا فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لَزِمَ مَا تَقَدَّمَ انْتَهَى .
( الثَّامِنَةُ ) أَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُهَجِّرَ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً وَقَيَّدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ : { مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً } فَاقْتَضَى هَذَا أَنَّ التَّهْجِيرَ إلَى الْجُمُعَةِ إنَّمَا يَكُونُ كَإِهْدَاءِ الْبَدَنَةِ وَكَذَا الْمَذْكُورَاتُ بَعْدَهُ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْقَاعِدَةُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ .

( التَّاسِعَةُ ) ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ وَالْمُحْكَمِ أَنَّ الْبَدَنَةَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَا أُهْدِيَ إلَى مَكَّةَ وَكَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّهَا تُطْلَقُ عَلَيْهِمَا قَالَ وَهِيَ بِالْإِبِلِ أَشْبَهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَخَصَّهَا جَمَاعَةٌ بِالْإِبِلِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِبِلُ بِالِاتِّفَاقِ لِتَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ انْتَهَى قَالُوا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِعِظَمِ بَدَنِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمِّنُونَهَا وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا الْبَدَنَةُ فِي اللُّغَةِ الْإِبِلُ ثُمَّ الشَّرْعُ قَدْ يُقِيمُ مَقَامَهَا بَقَرَةً وَسَبْعًا مِنْ الْغَنَمِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ يَقَعَانِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْهَاءُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ كَقَمْحَةٍ وَشَعِيرَةٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ وَلَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ وَأَمَّا الْكَبْشُ ؟ فِي الْمُحْكَمِ هُوَ فَحْلُ الضَّأْنِ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ وَقِيلَ هُوَ كَبْشٌ إذَا أَثْنَى وَقِيلَ إذَا أَرْبَعَ وَالْجَمْعُ أَكْبُشٌ وَكِبَاشٌ وَالدَّجَاجَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْهَاءَ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ لَا لِلتَّأْنِيثِ وَالْجَمْعُ دَجَاجٌ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَدَجَائِجُ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا .
( الْعَاشِرَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الْغَنَمُ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدَّمَ الْإِبِلَ وَجَعَلَ الْبَقَرَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ وَالْغَنَمَ فِي الثَّالِثَةِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْهَدْيِ وَقَالَ بِهِ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ مَالِكٌ الْأَفْضَلُ فِي الْأُضْحِيَّةِ الْغَنَمُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الْإِبِلُ

وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْإِبِلَ عَلَى الْبَقَرِ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالُوا وَالْمَقْصُودُ فِي الْأَضَاحِيّ طِيبُ اللَّحْمِ وَفِي الْهَدَايَا كَثْرَةُ اللَّحْمِ وَاحْتَجُّوا بِأُمُورٍ : ( أَحَدُهَا ) قَوْله تَعَالَى { وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ } وَكَانَ كَبْشًا قَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ حَيَوَانًا أَفْضَلَ مِنْ الْكَبْشِ لَفَدَى بِهِ إِسْحَاقُ وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ عَلِيٍّ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ السَّيِّدِ مِنْ الْمَعْزِ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ ذِبْحًا خَيْرًا مِنْهُ لَفَدَى بِهِ إبْرَاهِيمُ ابْنَهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ } وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا أَعْلَمُ لَهُ إسْنَادًا غَيْرَ هَذَا انْفَرَدَ بِهِ الْجُنَيْنِيُّ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ ( ثَانِيهَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ فَلَوْ كَانَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ أَفْضَلُ لَمَا عَدَلَ عَنْهُمَا إلَى الْغَنَمِ ( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { خَيْرُ الْأُضْحِيَّةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( الْأَوَّلُ ) أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْكَبْشِ عَظِيمًا أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا أَعْظَمَ مِنْهُ الثَّانِي لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَهَذَا أَمْرٌ خَاصٌّ بِذَلِكَ الْكَبْشِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا وَأَنَّهُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ وَرُفِعَ إلَى الْجَنَّةِ فَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ عَظِيمٌ وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَضْحِيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَبْشَيْنِ تَرْجِيحُ الْغَنَمِ لِأَمْرَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ } فَلَوْ دَلَّ تَضْحِيَتُهُ بِالْغَنَمِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا لَدَلَّتْ تَضْحِيَتُهُ بِالْبَقَرِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا وَيَتَعَارَضُ الْخَبَرَانِ ( ثَانِيهِمَا ) أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْدَى غَنَمًا } فَلَوْ دَلَّتْ تَضْحِيَتُهُ بِالْغَنَمِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا فِي الْأُضْحِيَّةِ لَدَلَّ إهْدَاؤُهُ لَهَا عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا فِي الْهَدَايَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ضَحَّى بِالضَّأْنِ وَمَا كَانَ لِيَتْرُكَ الْأَفْضَلَ كَمَا لَمْ يَتْرُكْهُ فِي الْهَدَايَا فِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ ضَحَّى بِغَيْرِ الضَّأْنِ وَأَنَّهُ تَرَكَ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّنَا فِي الْهَدَايَا فَأَهْدَى الْغَنَمَ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا فَعَلَ الْعِبَادَةَ الْمَفْضُولَةَ كَانَتْ فِي حَقِّهِ فَاضِلَةً لِكَوْنِهِ يُبَيِّنُ بِذَلِكَ شَرْعِيَّتَهَا وَقَدْ تُحْمَلُ تَضْحِيَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْكَبْشَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ الْوَقْتَ إلَّا الْغَنَمَ أَوْ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ وَهُوَ أَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْكَبْشِ عَلَى مُسَاوِيهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَإِنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ كُلُّ مِنْهُمَا يُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ تَفْضِيلَ الْكَبْشِ عَلَى سُبْعِ بَدَنَةٍ وَسُبْعِ بَقَرَةٍ أَوْ تَفْضِيلَ سُبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ لِتَتَّفِقَ الْأَحَادِيثُ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ مُوَافِقٌ لِلْجُمْهُورِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ خَيْرُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْغَنَمِ الْكَبْشُ قَالَ وَفِيهِ تَعَسُّفٌ انْتَهَى وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ أَيْضًا بِقِيَاسِ الضَّحَايَا عَلَى الْهَدَايَا وَأَيْضًا فَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أَنَّ الْمُرَادَ شَاةٌ

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِ مَرْتَبَتِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ النَّعَمِ وَأَيْضًا فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا } وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ أَنْفَسُ عِنْدَ النَّاسِ وَأَغْلَى ثَمَنًا مِنْ الْغَنَمِ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ هَدْيًا يَكْفِيهِ أَنْ يُخْرِجَ نَاقَةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْهَدْيِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا فِي الْغَنَمِ أَيْضًا وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَجَازَ مَالِكٌ مَرَّةً الشَّاةَ وَمَرَّةً لَمْ يُجِزْهَا إلَّا أَنَّ مَنْ قَصَرَ النَّفَقَةَ عَلَى تَضْعِيفٍ مِنْهُ فِيهَا وَبَنَى الْقَاضِي الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ هَلْ هِيَ مِنْ الْهَدْيِ أَمْ لَا .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ هَدْيًا مُطْلَقًا يَكْفِيهِ إخْرَاجُ الدَّجَاجَةِ وَالْبَيْضَةِ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَيُنْسَبُ إلَى الْإِمْلَاءِ وَالْقَدِيمُ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ النَّعَمُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَحَكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَيَحْتَجُّ لِهَذَا بِأَنَّ مَعْنَى الْإِهْدَاءِ هُنَا التَّصْدِيقُ لَا بِقَيْدِ الصَّدَقَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالصَّدَقَةُ تَنْطَلِقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ هَلْ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ جَائِزِ الشَّرْعِ أَوْ وَاجِبِ الشَّرْعِ ؟ فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ النَّذْرُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي حُمِلَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَقَلُّ مُجْزِئٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَصُورَةُ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ فَأَمَّا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجْرُوا فِيهِ الْخِلَافَ بَلْ جَزَمُوا بِانْصِرَافِ النَّذْرِ إلَى الْمَعْهُودِ شَرْعًا وَهُوَ الْمُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْهَدَايَا أَعْطَاهُ حُكْمَهُ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِمْ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا أَيْ وَحَامِلًا رُمْحًا فَكَأَنَّهُ قَالَ

كَالْمُتَقَرِّبِ بِالصَّدَقَةِ بِدَجَاجَةٍ أَوْ بَيْضَةٍ وَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ اسْمُ الْهَدْيِ لِتَقَدُّمِهِ وَتَجْنِيسِ الْكَلَامِ بِهِ انْتَهَى .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ بَدَنَةً وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِبِلَ لَفْظًا وَلَا نَوَاهَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْإِبِلُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ فِي مُقَابَلَتِهَا الْبَقَرَةَ وَالْكَبْشَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ قَسِيمَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ قِسْمًا مِنْهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) تَعَيُّنُ الْإِبِلِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ( وَثَانِيهَا ) إجْزَاءُ بَقَرَةٍ وَسَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ أَيْضًا ( وَثَالِثُهَا ) وَهُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ تَعَيُّنُ الْإِبِلِ عِنْدَ وُجُودِهَا وَإِجْزَاءُ الْبَقَرَةِ عِنْدَ عَدَمِهَا وَإِجْزَاءُ الْغَنَمِ عِنْدَ عَدَمِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْبَدَنَةِ وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْبُدْنَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْإِبِلِ وَحْدَهَا وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَرَى الْبَقَرَ ؟ مِنْ الْبُدْنِ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) أَطْلَقَ فِي الْأُولَى ذِكْرَ الْبَدَنَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ وَلَمْ يُطْلِقْ فِي الثَّالِثَةِ ذِكْرَ الشَّاةِ بَلْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْكَبْشِ وَتَقَدَّمَ مِنْ سُنَنِ النَّسَائِيّ وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ شَاةً فَأَطْلَقَهَا كَمَا أَطْلَقَ الْبَدَنَةَ وَالْبَقَرَةَ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ مَثَلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ التَّبْكِيرِ كَتَاجِرِ الْبَدَنَةِ كَتَاجِرِ الْبَقَرَةِ كَتَاجِرِ الشَّاةِ حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآتِينَ إلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ مُتَفَاوِتُونَ فَبَعْضُهُمْ كَمَنْ قَرَّبَ كَبْشًا وَبَعْضُهُمْ كَمَنْ قَدَّمَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَنَمِ .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ إجْزَاءُ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ أَنَّ الْكَبْشَ فَحْلُ الضَّأْنِ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْ الضَّأْنِ إلَّا الثَّنِيَّ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ كَبْشٌ إلَّا إذَا أَثْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ صَلَّيْت ؟ قَالَ لَا ، قَالَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ الرَّكْعَتَيْنِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } وَلَهُ { جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ } : وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { أَصْلَيْت رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ } .

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ صَلَّيْت قَالَ لَا قَالَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { قُمْ فَصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ } وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ { قُمْ فَارْكَعْ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ بِلَفْظِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ : { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْإِمَامُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ خَمْسَتُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ { جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَعَدَ سُلَيْكٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَكَعْت رَكْعَتَيْنِ قَالَ لَا قَالَ قُمْ فَارْكَعْهُمَا } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ بِمَعْنَاهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ثُمَّ قَالَ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ وَيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَاجَهْ { أَصْلَيْت رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ } وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ جَابِرٍ

قَالَ { دَخَلَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلَا تَعُودَنَّ لِمِثْلِ هَذَا فَرَكَعَهُمَا ثُمَّ جَلَسَ } قَالَ ابْنُ حِبَّانَ أَرَادَ بِهِ الْإِبْطَاءَ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { دَخَلَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَلْيُخَفِّفْهُمَا } وَمَنْصُورُ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَنَسَبَهُ لِلتَّشَيُّعِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ .
( الثَّانِيَةُ ) قَدْ عَرَفْت اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الرَّجُلِ الْمُبْهَمِ هَلْ هُوَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ أَوْ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ وَحَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ أَبُو هُدْبَةَ وَاَلَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سُلَيْكٌ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَانِ وَاقِعَتَيْنِ فَمَرَّةً مَعَ سُلَيْكٍ وَمَرَّةً مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ قَوْقَلٍ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِلدَّاخِلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَكْحُولٍ وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالْمُقْرِئِ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحُمَيْدِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ عَنْ مَالِكٍ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ

وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي وَالزُّهْرِيِّ وَعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرْطُبِيِّ قَالَ أَدْرَكْت عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانَ الْإِمَامُ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكْنَا الصَّلَاةَ ، وَبَيَّنَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْأَثَرَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ يَصِحَّ وَأَنَّهُ هُوَ وَالْمَذْكُورِينَ بَعْدَهُ لَيْسَ كَلَامُهُمْ صَرِيحًا فِي تَرْكِ التَّحِيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ تَرْكُ الصَّلَاةِ لِمَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ تَرْكَ التَّحِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثُمَّ إنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُصَلِّي التَّحِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ اقْتَصَرَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي نَاقِلًا لَهُ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الصَّلَاةَ حَرَامٌ إذَا شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ قَالَ وَالدَّلِيلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَسَنَحْكِيهَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَهَبَ أَبُو مِجْلَزٍ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ إلَّا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِ التَّحِيَّةِ وَتَرْكِهَا فَقَالَ إنْ شِئْت رَكَعْت رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شِئْت جَلَسْت رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ الِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ وَالتَّخْيِيرُ .
( الرَّابِعَةُ ) الْقَائِلُونَ بِسُقُوطِ التَّحِيَّةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُحْتَاجُونَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَعْدَ أَنْ

اسْتَدَلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ : ( أَحَدُهَا ) قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمَعُوا لَهُ } قَالَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ الْفَرْضَ الَّذِي شَرَعَ الْإِمَامُ فِيهِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَشْتَغِلُ بِغَيْرِ فَرْضٍ .
( الثَّانِي ) قَالَ صَحَّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت } فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ الْأَصْلَانِ الْمَفْرُوضَانِ الرُّكْنَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ يَحْرُمَانِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَالنَّفَلُ أَوْلَى أَنْ يَحْرُمَ .
( الثَّالِثُ ) قَالَ لَوْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَرْكَعْ ، وَالْخُطْبَةُ صَلَاةٌ إذْ يَحْرُمُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ مَا يَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ فَأَمَّا حَدِيثُ سُلَيْكٍ فَلَا تُعَارَضُ بِهِ هَذِهِ الْأُصُولُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدهَا ) أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ تُعَارِضُهُ أَخْبَارٌ أَقْوَى مِنْهُ وَأُصُولٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ فَوَجَبَ تَرْكُهُ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَكَانَ مُبَاحًا فِي الْخُطْبَةِ فَلَمَّا حَرُمَ فِي الْخُطْبَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ آكَدُ فَرِيضَةٍ مِنْ الِاسْتِمَاعِ فَأَوْلَى أَنْ يَحْرُمَ مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ سُلَيْكًا وَقَالَ لَهُ قُمْ فَصَلِّ فَلَمَّا كَلَّمَهُ وَأَمَرَهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ قَوْلُ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مُخَاطَبَتُهُ لَهُ وَسُؤَالُهُ وَأَمْرُهُ وَهَذَا أَقْوَى فِي الْبَابِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّ سُلَيْكًا كَانَ ذَا بَذَّةٍ وَفَقْرٍ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْهِرَهُ لِيَرَى فَيُغَيِّرَ مِنْهُ قَالَ وَأَمَّا فِعْلُ الْحَسَنُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَطَبَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَجُوزُ

فَبَادَرَ الْحَسَنُ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ وَقَدْ رَأَيْنَا الزُّهَّادَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ وَالْكُوفَةِ إذَا بَلَغَ الْإِمَامُ إلَى الدُّعَاءِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا قَامُوا فَصَلَّوْا وَرَأَيْتهمْ أَيْضًا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ جُلَسَائِهِمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ أَوْ فِي عِلْمٍ وَلَا يَصْغَوْنَ إلَيْهِمْ حِينَئِذٍ فَالِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَةِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ انْتَهَى قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَلَيْسَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْأَوْجُهِ السَّبْعَةِ حُجَّةٌ لَهُ .
( الْأَوَّلُ ) احْتِجَاجُهُ بِالْآيَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِوُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ سِرًّا مُنْصِتٌ بَلْ وَرَدَ وَصْفُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ سَاكِتٌ وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إذْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سُكُوتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ فَقَالَ أَقُولُ اللَّهُمَّ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَسَمَّاهُ سَاكِتًا لِكَوْنِهِ مُسِرًّا .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْخَطِيبَ لَيْسَ بِقَارِئٍ لِلْقُرْآنِ إلَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا فِي الْخُطْبَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ يَأْتِي بِالتَّحِيَّةِ فِي حَالَةِ قِرَاءَةِ الْخَطِيبِ الْآيَةَ مَعَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى الْجَمْعِ فَلَا مَانِعَ مِنْ اسْتِمَاعِهِ وَإِنْصَاتِهِ فِي حَالِ قِرَاءَتِهِ سِرًّا .
( الثَّالِثُ ) بِتَقْدِيرِ حَمْلِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْخُطْبَةِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) اُسْتُدِلَّ لَهُ بِحَدِيثِ إذَا قُلْت لِصَاحِبِك الْحَدِيثَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمُتَكَلِّمِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ التَّشْوِيشُ عَلَى السَّامِعِينَ وَالْمُتَكَلِّمُ سِرًّا كَالدَّاعِي سِرًّا فَهُوَ مُنْصِتٌ بَلْ سَاكِتٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ

غَيْرَ مُسْتَمِعٍ وَغَيْرَ مُنْصِتٍ فَحَدِيثُ الْبَابِ مُخَصِّصٌ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَرْكَعْ وَالْخُطْبَةُ صَلَاةٌ مَرْدُودٌ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ التَّحِيَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ شَغْلُ الْبُقْعَةِ بِالصَّلَاةِ وَقَدْ حَصَلَ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا .
( الثَّانِي ) مَا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ مِنْ الْفَرْقِ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَأَمَرَ الدَّاخِلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِصَلَاةِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا صَاحِبُ الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ الْخُطْبَةُ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً إجْمَاعًا وَنِهَايَةُ مَا قِيلَ إنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ ( وَالثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ كَمَا زَعَمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْخَطِيبُ فِي أَثْنَائِهَا بِأَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا وَيَنْزِلَ عَنْ الْمِنْبَرِ وَيَمْشِيَ وَيَشْرَبَ وَيَأْكُلَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رِفَاعَةَ قَالَ { انْتَهَيْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ الْخُطْبَةَ حَتَّى انْتَهَى فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ خِلْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا فَقَعَدَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا } فَإِنْ قَالَ فَلَعَلَّ مَا عَلَّمَهُ لِلْأَعْرَابِيِّ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ قُلْنَا نَعَمْ يَجُوزُ لَكِنْ لَا تَجُوزُ الْمُخَاطَبَةُ بِالتَّعْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا النُّزُولُ وَالْمَشْيُ وَالصُّعُودُ عَلَى كُرْسِيٍّ آخَرَ مَعَ تُوَالِي ذَلِكَ

فَهُوَ فِعْلٌ كَثِيرٌ وَجَوَّزَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْخُطْبَةَ مُحْدِثًا وَلَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ إجْمَاعًا بَلْ جَوَّزَ أَحْمَدُ أَنْ يَخْطُبَ جُنُبًا ثُمَّ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّي بِهِمْ وَالصَّلَاةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَالْخُطْبَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا اسْتِدْبَارُهَا فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ .
( الرَّابِعُ ) قَوْلُهُ إنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ عَارَضَهُ أَقْوَى مِنْهُ جَوَابُهُ أَنَّ الْكُلَّ أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الَّذِي يُعَارِضُهُ أَقْوَى مِنْهُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَابِتٌ غَايَةَ الثُّبُوتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَوْ كَانَ أَقْوَى مِنْهُ لَمْ يُتْرَكْ بَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ .
( الْخَامِسُ ) قَوْلُهُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُبَاحًا لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَكَانَ مُبَاحًا فِي الْخُطْبَةِ جَوَابُهُ أَنَّ سُلَيْكًا لَمْ يُنْقَلْ تَقَدُّمُ إسْلَامِهِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ ذِكْرٌ إلَّا فِي هَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ إسْلَامَهُ مُتَأَخِّرٌ مَعَ قَبِيلَتِهِ غَطَفَانَ وَلَوْ قُدِّرَ تَقَدُّمُ إسْلَامِهِ فَالْجُمُعَةُ إنَّمَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ حِينَ قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِيهِ { فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ إنَّ فِي الصَّلَاةِ شَغْلًا } وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } وَابْنُ مَسْعُودٍ إنَّمَا هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى بِاتِّفَاقِ السِّيَرِ وَرَجَعُوا وَهُوَ بِمَكَّةَ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ

فِي صَحِيحِهِ كَانَ رُجُوعُ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ .
( السَّادِسُ ) قَوْلُهُ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَلَّمَ سُلَيْكًا وَقَالَ لَهُ قُمْ فَصَلِّ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ كَلَامٌ عَجِيبٌ أَلَيْسَ الَّذِي أَمَرَ سُلَيْكًا بِالصَّلَاةِ أَمَرَ جَمِيعَ مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ } فَمَا الَّذِي خَصَّصَ سُلَيْكًا بِهَذَا الْحُكْمِ ؟ فَإِنْ قَالَ سَكَتَ لَهُ عَنْ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قُلْنَا هَذَا لَا يَصِحُّ كَمَا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ الْمُسَوِّغُ لِلصَّلَاةِ إمْسَاكُهُ عَنْ الْخُطْبَةِ لَقَالَ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلْيُمْسِكْ لَهُ الْخَطِيبُ عَنْ الْخُطْبَةِ حَتَّى يَرْكَعَ وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَمَرَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
( السَّابِعُ ) أَنَّ قَوْلَهُ كَانَ سُلَيْكًا ذَا بَذَّةٍ وَفَقْرٍ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشْهِرَهُ لِيَرَى فَيُغَيِّرَ مِنْهُ جَوَابُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ ذَلِكَ لَقَالَ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ذُو بَذَّةٍ فَلْيَقُمْ فَلْيَرْكَعْ حَتَّى يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ النَّاسُ بَلْ لَيْسَ لِذِكْرِ التَّحِيَّةِ فَائِدَةٌ بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ : إذَا رَأَيْتُمْ ذَا بَذَّةٍ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ قَالَ وَالِدِي وَأَمَّا جَوَابُهُ عَنْ صَلَاةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْإِمَامَ خَطَبَ بِمَا لَا يَجُوزُ وَأَنَّ الزُّهَّادَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ وَالْكُوفَةِ كَانُوا يَقُومُونَ إذَا بَلَغَ الْإِمَامُ لِلدُّعَاءِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَيُصَلُّونَ فَمِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ ، فَبِالِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ يَخْرُجُ الْحَسَنُ عَنْ كَوْنِهِ فَعَلَهُ اتِّبَاعًا

لِلْحَدِيثِ وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ قَالَ وَالِدِي وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ سُلَيْكٍ كَمَا عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَأَرْسَلَهُ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا الَّذِينَ يُدْعَى لَهُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ إنَّمَا يُدْعَى لِلسُّلْطَانِ بِالصَّلَاحِ وَالتَّوْفِيقِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ بِهِ وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لِلْأَئِمَّةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَأَمَّا فِعْلُ زُهَّادِ مَدِينَةِ السَّلَامِ وَالْكُوفَةِ عَلَى رَأْيِهِ فَلَيْسُوا أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ خُصُوصًا عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَا رَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ إلَّا جَهَلَةَ الْعَوَامّ فَيَتْرُكُ أَحَدُهُمْ السُّنَّةَ عِنْدَ إتْيَانِهِ وَيَجْلِسُ يَسْمَعُ فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ قَامَ فَصَلَّى سُنَّةَ الْجُمُعَةِ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ صَلَاةِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَقَدْ تَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا حَدِيثَ جَابِرٍ تَأْوِيلَاتٍ فِي بَعْضِهَا بُعْدٌ وَأَوْلَى مُعْتَمَدِ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ عَارَضَهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ إلَى زَمَنِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْعَمَلِ أَوْلَى وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرُدُّ الْعَمَلَ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ فِي رَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَا أَدْرِي مَا عُمُومُ الْبَلْوَى فِي ذَلِكَ ؟ قُلْت وَأَمَّا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إنْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ فَإِنَّمَا غَيَّرَ السُّنَّةَ فِيهِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُو أُمَيَّةَ فَتَرَكَ النَّاسُ ذَلِكَ مُدَارَاةً لَهُمْ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عِيَاضِ

بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَقَامَ فَصَلَّى فَجَاءَ الْحَرَسُ لِيُجْلِسُوهُ فَأَبَى حَتَّى صَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَيْنَاهُ فَقُلْنَا رَحِمَك اللَّهُ إنْ كَادُوا لَيَقَعُوا بِك فَقَالَ مَا كُنْت لِأَتْرُكَهَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ

( الْخَامِسَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَسْقُطْ اسْتِحْبَابُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الْأَحْوَالِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَحْصُلُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَبِسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إكْرَامُ الْمَسْجِدِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِذَلِكَ وَهَذَا ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
( السَّادِسَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَحْقِيقِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَبِهِ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ .

( السَّابِعَةُ ) يُسْتَثْنَى مِنْ اسْتِحْبَابِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا إذَا دَخَلَ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَلَا يَفْعَلُهَا وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ فِي الْأُمِّ إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَلَا يُمْكِنُهُ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ دُخُولِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُصَلِّيَهُمَا قَالَ وَأَرَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِمَا وَيَزِيدَ فِي كَلَامِهِ مَا يُمْكِنُهُ إكْمَالُهُمَا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَرِهْت ذَلِكَ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ انْتَهَى وَقَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْخَطِيبَ أَيْ لَمْ يَأْمُرْ الدَّاخِلَ وَلَا زَادَ فِي كَلَامِهِ لِيُتِمَّ الدَّاخِلُ الرَّكْعَتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الدَّاخِلَ بِأَنْ أَمَرَهُ الْخَطِيبُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَقِفُ حَتَّى تُقَامَ الصَّلَاةُ وَلَا يَقْعُدُ لِئَلَّا يَكُونَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ التَّحِيَّةِ هَكَذَا فَصَّلَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ صَاحِبُ الشَّامِلِ .

( الثَّامِنَةُ ) اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مِنْ اسْتِحْبَابِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَقَالُوا إنَّ تَحِيَّتَهُ الطَّوَافُ فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ يَبْدَأُ بِالطَّوَافِ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ تُكْرَهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ فِي حَالَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) إذَا دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي الْمَكْتُوبَةِ ( وَالثَّانِي ) إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ الطَّوَافِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَأَوَّلُ مَا يَدْخُلُهُ الْحَاجُّ يَبْدَأُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ فَهُوَ تَحِيَّتُهُ وَيُصَلِّي بَعْدَهُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ انْتَهَى وَعِبَارَةُ الْمَحَامِلِيِّ تَقْتَضِي أَنَّ سَائِرَ مَرَّاتِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَعِبَارَةُ النَّوَوِيِّ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِأَوَّلِ دُخُولِ الْحَاجِّ وَبِطَوَافِ الْقُدُومِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى تَقْدِيمَ الطَّوَافِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ عَلَى التَّحِيَّةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّحِيَّةَ لَمْ تَسْقُطْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا وَإِنَّمَا قُدِّمَ الطَّوَافُ عَلَيْهَا وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِالطَّوَافِ بِمَكَّةَ وَلَوْ كَانَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ هَذِهِ الْحَالَةَ وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ وَيُقَالُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّحِيَّةِ لَا يَطُولُ زَمَنُهُ وَقَدْ لَا يُنَافِي اسْتِعْمَالَ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَيَطُولُ زَمَنُهُ وَيَبْعُدُ عَنْ الْخَطِيبِ لِدَوَرَانِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ فَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا إفْصَاحًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا أَمْرُهُ بِالتَّحِيَّةِ بَعْدَ قُعُودِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ إذَا كَانَ جَاهِلًا بِمَشْرُوعِيَّةِ التَّحِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا فَوَاتَهَا بِالْجُلُوسِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَالِمِ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَتَدَارَكُهَا عَلَى قُرْبٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ .
( الْعَاشِرَةُ ) فِي مَعْنَى الْجَاهِلِ النَّاسِي فَلَوْ جَلَسَ نَاسِيًا وَلَمْ يُطِلْ الْفَصْلَ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْإِتْيَانُ بِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ الْمُخْتَارُ الْمُتَعَيَّنُ انْتَهَى وَأَطْلَقَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا فَوَاتَهَا بِالْجُلُوسِ وَقَضِيَّةُ سُلَيْكٍ مُحْتَمِلَةٌ لِهَذَا الْأَمْرِ وَلِلَّذِي قَبْلَهُ يَحْتَمِلُ جُلُوسُهُ الْجَهْلَ بِسُنِّيَّتِهَا وَالنِّسْيَانَ لَهَا فَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى إحْدَى الْحَالَتَيْنِ نَصًّا وَعَلَى الْأُخْرَى قِيَاسًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلدَّاخِلِ صَلَّيْت يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَصْلَيْت حِينَ دَخَلْت الْمَسْجِدَ أَوْ صَلَّيْت فِي بَيْتِك قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { قُمْ فَصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الرَّكْعَتَانِ الْمَعْهُودَتَانِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَهُمَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ إنَّمَا تُفْعَلُ فِيهِ لَا فِي الْبَيْتِ لَكِنْ تَقَدَّمَ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ مَاجَهْ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ وَظَاهِرُهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ إلَى قُرْبِ الْمِنْبَرِ بِأَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ أَوَّلَ دُخُولِهِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْبَيْتِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَا حُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ إنَّمَا يَرْكَعُ الرَّكْعَتَيْنِ إذَا

لَمْ يَكُنْ رَكَعَهُمَا فِي بَيْتِهِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ هَذِهِ عَلَى سُنَّةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ إنَّمَا يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَذَّنُ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَمَتَى تَمَكَّنَ سُلَيْكٌ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَعَلَّهُ تَأَخَّرَ زَمَنًا يُمْكِنُهُ فِيهِ ذَلِكَ بِحَيْثُ لَمْ يَحْضُرْ إلَّا فِي أَوَاخِرِ الْخُطْبَةِ ( ثَانِيهَا ) أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَأَمَّا الرَّوَاتِبُ فَإِنَّهَا لَا تُفْعَلُ بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِلَا خِلَافٍ ( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا لَيْسَتْ التَّحِيَّةُ فَلَعَلَّهَا سُنَّةُ الْوُضُوءِ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْسِدُ الْخُطْبَةَ قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إذَا " تَكَلَّمَ أَعَادَ الْخُطْبَةَ قَالَ وَالسُّنَّةُ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا ذَاتَ سَبَبٍ فَإِنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ فِي حَالٍ لَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ فِيهِ بِالْإِنْصَاتِ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَلَمَّا تَرَكَ لَهَا اسْتِمَاعَ الْخُطْبَةِ وَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُطْبَةَ لِأَجْلِهَا دَلَّ عَلَى تَأَكُّدِهَا وَأَنَّهَا لَا تُتْرَكُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَكَرِهَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) مَذْهَبُنَا أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ بَلْ تُقَامُ فِي خُطَّةِ الْأَبْنِيَةِ فَلَوْ فَعَلُوهَا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَمْ يُصَلِّ الدَّاخِلُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ إذْ لَيْسَتْ لَهُ تَحِيَّةٌ فَلَا يَتْرُكُ اسْتِمَاعَ الْخُطْبَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا أَخَفُّ وَزَمَنَهُمَا أَقْصَرُ مِنْ زَمَنِ التَّحِيَّةِ مَعَ وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ وَكَوْنِ التَّحِيَّةِ نَفْلًا وَسَيَأْتِي إيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ

وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت } يُرِيدُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ زَادَ فِيهِ الشَّيْخَانِ { يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَقَدْ لَغِيت } قَالَ أَبُو الزِّنَادِ هِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قُلْت لِلنَّاسِ أَنْصِتُوا وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فَقَدْ أَلْغَيْت عَلَى نَفْسِك } .

الْحَدِيثُ السَّادِسُ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت يُرِيدُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ } لَمْ يَقُلْ الشَّيْخَانِ يُرِيدُ ، وَعَنْ هَمَّامٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قُلْت لِلنَّاسِ أَنْصِتُوا وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فَقَدْ أَلْغَيْت عَلَى نَفْسِك } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ وَالْقَائِلُ يُرِيدُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ هُوَ مَالِكٌ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَجُمْهُورُ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ تَامًّا { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ لَغَوْت } وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغِيتَ } قَالَ أَبُو الزِّنَادِ هِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا هُوَ فَقَدْ لَغَوْتَ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ لَغَوْتَ وَعَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ لَغِيتَ وَقَالَ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَغِيتَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجِلَانِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِزِيَادَةِ لَفْظَةٍ فِي آخِرِهِ عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا قُلْت لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت } لَفْظُ الشَّيْخَيْنِ إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا قَدَّمَ قَوْلَهُ أَنْصِتْ عَلَى قَوْلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ

{ مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا } وَلَمْ يَقُلْ التِّرْمِذِيُّ لِصَاحِبِهِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ قَارِظٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْإِنْصَاتُ السُّكُوتُ وَالِاسْتِمَاعُ لِلْحَدِيثِ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ السُّكُوتُ الِاسْتِمَاعُ لِمَا يُقَالُ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ أَنْصِتْ سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى وَاقْتَصَرَ فِي الْمُحْكَمِ عَلَى أَنَّهُ السُّكُوتُ وَيُوَافِقُهُ عَطْفُهُ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الِاسْتِمَاعِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ وَالْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ وَالِاسْتِمَاعُ شَغْلُ السَّمْعِ بِالسَّمَاعِ وَيُسْتَعْمَلُ رُبَاعِيًّا وَهُوَ أَفْصَحُ وَثُلَاثِيًّا فَيُقَالُ أَنْصَتَ وَنَصَتَ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَنْصِتْ قَطْعُ الْهَمْزَةِ وَوَصْلُهَا وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَالصَّادُ مَكْسُورَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ لَغَا يَلْغُوَا لَغْوًا أَيْ قَالَ بَاطِلًا وَلَغِيَ بِالْكَسْرِ يَلْغَى لَغًا وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ اللَّغْوُ وَاللِّغَاءُ السَّقْطُ وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَلَغَوْت فِي الْقَوْلِ أُلْغِي لَغْوًا وَلَغِيت لَغًا أَخْطَأْتُ وَكَلِمَةٌ لَاغِيَةٌ فَاحِشَةٌ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ لَغْوُ الْكَلَامِ لَغَطُهُ وَمَا لَا مَحْصُولَ لَهُ ، يُقَالُ لَغَوْت أَلْغُو وَأَلْغَى لَغْوًا وَلَغِيت أَيْضًا وَأَلْغَيْت أَتَيْت بِلَغْوٍ مِثْلُ أَفْحَشْت إذَا أَتَيْت بِفُحْشٍ وَصَرَّحَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ فَقَدْ لَغِيت بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ لَغَا يَلْغُو أَفْصَحُ مِنْ لَغَا يَلْغَى ثُمَّ قَالَ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي هَذِهِ اللُّغَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي

هِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَأَلْغَوْا فِيهِ } قَالَ وَهَذَا مِنْ لَغَا يَلْغَى وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ لَقَالَ وَالْغُوا فِيهِ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ لَغَا الْإِنْسَانُ يَلْغُو وَلَغَا يَلْغَى وَلَغِيَ يَلْغَى إذَا تَكَلَّمَ بِالْمُطْرَحِ مِنْ الْقَوْلِ وَمَا لَا يَعْنِي انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَاللَّغْوُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ لَيْسَ يَحْسُنُ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ أَلْغَتْ بِهَمْزِ أَوَّلِهِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ أَلْغَيْت الشَّيْءَ أَبْطَلْته وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ طَرَحْته وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ كُلُّ مَا أَسْقَطْته فَلَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَقَدْ أَلْغَيْته وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَأَلْغَى إذَا أَسْقَطَ وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَعَلَى هَذَا فَالْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ الْجُمُعَةُ فِيمَا يَظْهَرُ فَقَوْلُهُ أَلْغَيْت أَيْ جُمُعَتَك وَتَقَدَّمَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَشَارِقِ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يُقَالُ أَلْغَيْت أَتَيْت بِلَغْوٍ فَعَلَى هَذَا الثَّانِي يَكُونُ لَازِمًا بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ .
( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ وَتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِيهَا إذَا لَمْ تُغْتَفَرْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَعَ خِفَّتِهَا وَكَوْنِهَا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَمَا عَدَاهَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ نَهَى عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ عَنْ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا رَأَيْته يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَأَقْرِعْ رَأْسَهُ بِالْعَصَا وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرِهُوا لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ

يَخْطُبُ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ كَثِيرًا الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا التَّحْرِيمَ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : جَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ عَلِمْته بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا انْتَهَى .
( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِنْصَاتَ سُنَّةٌ وَالْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ حَكَاهَا ابْنُ قُدَامَةَ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ النَّخَعِيّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو بُرْدَةَ يَتَكَلَّمُونَ وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى انْتَهَى قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْإِشَارَةُ لِلْحَجَّاجِ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ لِهَذَا الْأَمْرِ قُلْت وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إلَى كَلَامٍ بِعَيْنِهِ أَتَى بِهِ الْحَجَّاجُ لَا يَنْبَغِي سَمَاعُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ الْأَمْرِ بِالظُّلْمِ وَمَا لَا يَجِبُ امْتِثَالُهُ أَوْ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُتُبٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْخَلِيفَةِ فِيهَا مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُجَالِدٍ قَالَ رَأَيْت الشَّعْبِيَّ وَأَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ يَتَكَلَّمَانِ وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ حِينَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ وَلَعَنَ اللَّهُ فَقُلْت أَتَتَكَلَّمَانِ فِي الْخُطْبَةِ ؟ فَقَالَا لَمْ نُؤْمَرْ بِأَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ زَمَنَ الْحَجَّاجِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ كَانَ الْحَجَّاجُ وَخُطَبَاؤُهُ يَلْعَنُونَ عَلِيًّا وَابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ

بْنَ عُرْوَةَ كَانَ يُنْصِتُ لِلْخَطِيبِ فَإِذَا شَتَمَ عَلِيًّا تَكَلَّمَ وَيَقُولُ إنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنْصِت لِهَذَا وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ وَالصُّحُفُ تُقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا كَانَا يَتَكَلَّمَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ إنَّمَا كَانَ السُّكُوتُ قَبْلَ الْيَوْمِ إذَا وُعِظُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالُوا فِيهِ : فَنَسْكُت لِصُحُفِهِمْ هَذِهِ ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْكَلَامَ وَالصُّحُفُ تُقْرَأُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ إنَّ الْكُتُبَ تَجِيءُ مِنْ قِبَلِ قُتَيْبَةَ فِيهَا الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ فَأُكَلِّمُ صَاحِبِي أَوْ أُنْصِت ؟ قَالَ لَا بَلْ أَنْصِتْ يَعْنِي فِي الْجُمُعَةِ فَطَرَدَ النَّخَعِيّ وَالْحَسَنُ مَنْعَ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ وَسَدَّا الْبَابَ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَعَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا لَغَا وَشَتَمَ النَّاسَ فَعَلَى النَّاسِ الْإِنْصَاتُ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا خَطَبَ فِي أَمْرٍ لَيْسَ مِنْ الْخُطْبَةِ مِنْ أَمْرِ كِتَابٍ يَقْرَؤُهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى النَّاسِ الْإِنْصَاتُ وَرَأَى اللَّيْثُ إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْمَوْعِظَةِ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا يُنْصِتَ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فَإِنْ أَدْخَلَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْكَلَامُ مُبَاحٌ حِينَئِذٍ فَهَذَانِ مَذْهَبَانِ آخَرَانِ مُفَصَّلَانِ إمَّا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَغَيْرِهِمْ وَإِمَّا بَيْنَ إمَامِ الْوَعْظِ وَغَيْرِهِ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلًا خَامِسًا أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً قَالَ رَوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي بُرْدَةَ قَالَ وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ مَرْدُودٌ

عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَلَا عِلْمَ لِمُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْعِرَاقِ بِهِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ اسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ وُجُوبُهُ سُنَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ فَرِيضَةً انْتَهَى وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ وُجُوبِ السُّنَنِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ فَيَكُونُ ابْنُ بَطَّالٍ نَقَلَ اسْتِحْبَابَ الْإِنْصَاتِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْإِنْصَاتَ أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّغْوَ الْبَاطِلُ وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ السَّقَطُ وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَغَطُ الْكَلَامِ وَمَا لَا مَحْصُولَ لَهُ أَوْ الْمُطْرَحُ مِنْ الْقَوْلِ وَمَا لَا يُعْنِي فَإِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَمُقْتَضَاهَا أَنَّ قَائِلَ اللَّغَطِ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ حَرَامًا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ لَغَوْت تَكَلَّمْت فِي مَوْضِعٍ الْأَدَبُ فِيهِ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ ؛ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي { الرَّجُلِ الَّذِي قَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ ؛ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبِحَدِيثِ عُثْمَانَ حَيْثُ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ يَخْطُبُ فَكَلَّمَهُ وَأَجَابَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ هَذَا فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ عَنْ كَوْنِهِ صَلَّى وَإِجَابَتِهِ لَهُ بِقَوْلِهِ لَا وَقَوْلِهِ لَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَبِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَلَّمَ الَّذِينَ قَتَلُوا ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَلَّمُوهُ وَتَدَاعَوْا قَتْلَهُ وَقَدْ

رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ مَشْهُورٌ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ انْتَهَى وَمَنْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ الْكَلَامِ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ فِيهَا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ مَعَهُ فَلَا يُشْتَغَلُ بِذَلِكَ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ كَلَامِ الْحَاضِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ .

( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْكَلَامِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ بِأَنَّهُ لَغْوٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا مِنْ الْعَدَدِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَصِّلُوا وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ مَحَلَّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ أَمَّا الْأَرْبَعُونَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِنْصَاتُ قَطْعًا وَتَعَقَّبَ الرَّافِعِيُّ كَلَامَهُ بِاسْتِبْعَادِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِنَقْلِ الْأَصْحَابِ أَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ كَلَامَهُ مَفْرُوضٌ فِي السَّامِعِينَ لِلْخُطْبَةِ وَإِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ يَزِيدُونَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ فَيَحْرُمُ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ قَطْعًا وَالْخِلَافُ فِي الْبَاقِينَ ، بَلْ الْوَجْهُ الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ أَوْ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ فَلِأَنَّك لَا تَجِدُ لِلْجُمْهُورِ إلَّا إطْلَاقَ قَوْلَيْنِ فِي السَّامِعِينَ وَوَجْهَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ وَتَبِعَ النَّوَوِيُّ الرَّافِعِيَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ وَمَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ إلَى طَرِيقَةِ الْغَزَالِيِّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَنَا وَكَذَا رَجَّحَهَا شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ وَوَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ إنَّ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ سَبَقَهُ إلَيْهِ شَيْخُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَحَكَاهُ عَنْ وَالِدِهِ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ مُتَعَيَّنِينَ مِنْ خَلْقٍ يَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ بَلْ إنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ فَقَطْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ وَعَلَى الْخَطِيبِ رَفْعُ الصَّوْتِ لِيُسْمِعَهُمْ وَانْعَقَدَتْ الْجُمُعَةُ

بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَزَيْدَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَلَوْ بَلَغُوا أُلُوفًا وَجَبَ عَلَى أَرْبَعِينَ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُمْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ وَإِنْ سَمِعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ انْعَقَدَتْ بِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بِأَرْبَعِينَ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ قَالَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ إسْمَاعِ أَرْبَعِينَ وَعَدَمِ وُجُوبِ إنْصَاتِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ وَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ وَكَانَ عَدَمُ سَمَاعِهِمْ بِسَبَبِ الْكَلَامِ كَانْقِضَاضِهِمْ انْتَهَى وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْجَزْمِ بِوُجُوبِ الْإِنْصَاتِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَفُرُوضُ الْكِفَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ لَا بِطَائِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ عَلَى الْمُرَجَّحِ فِي الْأُصُولِ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى الْقَطْعِ بِوُجُوبِ الْإِنْصَاتِ وَإِنْكَارِ الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) لَفْظُ الْحَدِيثِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَطِيبَ لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالْإِنْصَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاعِظِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَبِهَذَا قَطَعَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَحَكَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْخَطِيبِ وَالْمُسْتَمِعِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ .

( السَّابِعَةُ ) اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ مَنْ سَأَلَهُ الْخَطِيبُ فَأَخْرَجُوهُ عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَأَبَاحُوا لَهُ الْكَلَامَ جَوَابًا لِلْخَطِيبِ وَهُوَ وَاضِحٌ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ وَيَدُلُّ لَهُ قَضِيَّةُ سُلَيْكٍ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمَا وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ بِالْكَلَامِ لِحَاجَةٍ أَوْ سُؤَالٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ لِحَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْوُجُوبِ .

( الثَّامِنَةُ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ وَمَنْ لَا يَسْمَعُهَا فَكِلَاهُمَا مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَدِيمِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ أَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ فَالْإِنْصَاتُ مُسْتَحَبٌّ فِي حَقِّ السَّامِعِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَسْمَعُ وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْكَلَامِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ أَمَّا الذِّكْرُ وَالتِّلَاوَةُ سِرًّا فَلَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْهُمَا قَطْعًا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَهَلْ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَوْ الْإِنْصَاتُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِنْصَاتُ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو فَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ مُسْلِمًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلِقَوْلِ عُثْمَانَ مَنْ كَانَ قَرِيبًا يَسْمَعُ وَيُنْصِتُ وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا يُنْصِتُ فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِنْ الْحَظِّ مَا لِلسَّامِعِ وَالثَّانِي الذِّكْرُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ فِي صُورَةِ الْبُعْدِ لَهُ الْمُذَاكَرَةُ فِي الْفِقْهِ وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ مَنْعُ ذَلِكَ .

( التَّاسِعَةُ ) التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يُخْرِجُ مَا قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا فَلَا مَنْعَ مِنْ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَالْأَكْثَرِينَ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى مَنْعِ الْكَلَامِ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُطْبَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَا يَكْرَهَانِ الْكَلَامَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ انْتَهَى وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ قُدَامَةَ مُطْلَقًا وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ التَّرْخِيصَ فِي الْكَلَامِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ؛ وَعَنْ الْحَكَمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَلَامِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَتَّى يَتَكَلَّمَ وَإِذَا نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَكَرِهَهُ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ الْكَرَاهَةَ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ قَالَ يَتَكَلَّمُ مَا لَمْ يَجْلِسْ وَهَذَا مَذْهَبٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ لَا كَلَامَ بَعْدَ أَنْ يَنْزِلَ الْإِمَامُ مِنْ الْمِنْبَرِ حَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ كَرِهَهُ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَيُخْرِجُ أَيْضًا مَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَخْطُبُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْغَزَالِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَجْرَى فِيهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَآخَرُونَ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَكَانَ الْحَسَنُ

الْبَصْرِيُّ يَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِهِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَذَكَرَ فِيهِ ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ احْتِمَالَيْنِ وَجَّهَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ غَيْرُ خَاطِبٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَوَجَّهَ الثَّانِيَ بِأَنَّهُ سُكُوتٌ يَسِيرٌ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ أَشْبَهَ سُكُوتَ النَّفَسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَمْ أَرَ الْحَنَفِيَّةَ اسْتَثْنَوْا عَنْ صَاحِبِيهِ إلَّا مَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَاقْتَضَى كَلَامُهُمْ مُوَافَقَةَ صَاحِبِيهِ لَهُ عَلَى مَنْعِ الْكَلَامِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) سَوَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْجُمْهُورُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالْوَعْظِ وَالدُّعَاءِ وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ فَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ إذَا بَلَغَ الْخَطِيبُ إلَى الدُّعَاءِ فَهَلْ يُشْرَعُ الْكَلَامُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ وَشَرَعَ فِي غَيْرِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْخُطْبَةِ فَيَثْبُتُ لَهُ مَا يَثْبُتُ لَهَا كَالتَّطْوِيلِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ دُعَاءً مَشْرُوعًا كَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلِلْإِمَامِ الْعَادِلِ أَنْصَتَ لَهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْ الْإِنْصَاتُ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ قُدَامَةَ وَقَوْلُهُ فِي تَوْجِيهِ الْجَوَازِ أَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ فِيهَا وَالْحَدِيثُ مُتَنَاوِلٌ لِهَذِهِ الْحَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ أَوْ كَرَاهِيَةَ الدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ فَقَالُوا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مَكَانًا وَالْقَوْلَانِ فِيمَا بَعْدَ قُعُودِهِ وَهُمْ مُطَالَبُونَ بِالدَّلِيلِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَنَاوَلَهَا وَالْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَى مَنْعَ الْكَلَامِ وَهُوَ تَفْوِيتُ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَسَامِعِهِ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَهِيَ كَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ مَحَلُّ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ فَأَمَّا إذَا رَأَى أَعْمَى يَقَعُ فِي بِئْرٍ أَوْ عَقْرَبًا يَدِبُّ إلَى إنْسَانٍ فَأَنْذَرَهُ أَوْ عَلَّمَ إنْسَانًا شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَوْ نَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَهَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ لَكِنْ قَالُوا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْإِشَارَةِ وَلَا يَتَكَلَّمَ مَا أَمْكَنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ نَظَرٌ فَإِنَّ الصُّورَةَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْحَدِيثُ تَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ مُهِمٌّ نَاجِزٌ فَإِنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ تَعَاطَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِكَلِمَةٍ خَفِيفَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَحَكَمَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَغْوٌ وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ فَجَوَّزُوا إنْذَارَ الْأَعْمَى وَمَنْ قَصَدَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ خُشِيَ عَلَيْهِ حَرِيقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ هَذَا يَجُوزُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مَعَ إفْسَادِهَا بِهِ فَهُنَا أَوْلَى وَمَنَعُوا نَهْيَ الْمُتَكَلِّمِ لِهَذَا الْحَدِيثِ قَالُوا وَلَكِنْ يُشِيرُ إلَيْهِ فَيَضَعُ أُصْبُعَهُ عَلَى فِيهِ وَمَا ذَكَرُوهُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ وَتَجْوِيزُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَلَا كَرَاهَةٍ مُصَادِمٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَرَ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا هَذِهِ الْأَحْوَالَ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ غَيْرُهُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْإِشَارَةِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ حِينَئِذٍ أَنْصِتْ لَكِنْ يُشِيرُ إلَيْهِ أَوْ يَغْمِزُهُ أَوْ يَحْصِبُهُ وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَإِذَا خَافَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ لَمْ أَرَ بَأْسًا إذَا لَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ انْتَهَى وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ

النُّطْقُ إنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ عَلِمْته بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الْجُهَّالِ يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ أَوْ صَهٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَخْذًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتِعْمَالًا لَهُ وَتَقَبُّلًا لِمَا فِيهِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ الْإِشَارَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَعَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَمَجْزَأَةِ بْنِ زَاهِرٍ عَنْ أَبِيهِ وَحَكَاهُ الْمُنْذِرُ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ بِهِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا تُشِرْ إلَى أَحَدٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا تَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ .

( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَرَدِّهِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْقَدِيمِ فَيَنْبَغِي لِلدَّاخِلِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ فَإِنْ سَلَّمَ حُرِّمَتْ إجَابَتُهُ بِاللَّفْظِ وَيُسْتَحَبُّ بِالْإِشَارَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ جَازَ رَدُّ السَّلَامِ قَطْعًا وَهَلْ يَجِبُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ( أَصَحُّهَا ) عِنْدَ الْبَغَوِيّ وَالنَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وُجُوبُهُ ( وَالثَّانِي ) اسْتِحْبَابُهُ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الصَّغِيرِ ( وَالثَّالِثُ ) جَوَازُهُ بِلَا اسْتِحْبَابٍ وَقَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ الْفَتْوَى عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ فَإِنَّهُ ظَاهِرُ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى وَعَنْ أَحْمَدَ فِي رَدِّ السَّلَامِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَرُدُّ لِوُجُوبِهِ وَالثَّانِيَةُ إنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ رَدَّ السَّلَامَ وَإِنْ سَمِعَ لَمْ يَفْعَلْ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقِيلَ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ لُغَةَ الْإِمَامِ بِالْخُطْبَةِ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ يَرُدُّ السَّلَامَ ؟ فَقَالَ لَا إذَا سَمِعَ شَيْئًا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ انْتَهَى وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ وَرَدَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُطْلَقًا وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَمَّا ابْتِدَاءُ السَّلَامِ فَهُوَ سُنَّةٌ فَكَيْفَ يَفُوتُ بِهِ الْإِنْصَاتُ الْمَأْمُورُ بِهِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ مَعَ وُجُوبِهِ وَخِفَّتِهِ لَغْوًا فَمَا ظَنُّكَ بِالسَّلَامِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَأَمَّا جَوَابُهُ فَلِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِابْتِدَاءِ حَيْثُ اُسْتُحِبَّ الِابْتِدَاءُ وَجَبَ الرَّدُّ وَحَيْثُ كَانَ الِابْتِدَاءُ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ كَانَ الرَّدُّ غَيْرَ وَاجِبٍ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْقَدِيمِ فَفِيهِ

ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ تَحْرِيمُهُ كَرَدِّ السَّلَامِ وَالثَّانِي اسْتِحْبَابُهُ وَالثَّالِثُ جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْبَابٍ وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْجَدِيدِ جَازَ قَطْعًا وَالْأَصَحُّ اسْتِحْبَابُهُ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ وَطَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَقَالُوا لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ خَافِضًا صَوْتَهُ وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ السَّلَامَ وَلَا يُشَمِّتُ انْتَهَى وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا أَنَّهُ لَا يَرُدُّ السَّلَامَ وَلَا يُشَمِّتُ الْعَاطِسَ وَالْقَوْلُ بِمَنْعِ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ بِمَنْعِ رَدِّ السَّلَامِ لِوُجُوبِ الرَّدِّ وَاسْتِحْبَابِ التَّشْمِيتِ وَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ وَلَا يُشَمِّتُ الْعَاطِسَ وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ إطْبَاقَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنْ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ غَيْرُ وَاجِبٍ لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ سُرَاقَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ ( الدُّرَّةَ ) وُجُوبَ تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ كَرَدِّ السَّلَامِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَخَّصَ فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ قَتَادَةُ يَرُدُّ السَّلَامَ وَيُشَمِّتُهُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا فَكَانَ بِالْعِرَاقِ يَنْهَى عَنْهُ إلَّا بِإِيمَاءٍ وَقَالَ بِمِصْرَ رَأَيْت أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ وَقَالَ فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ أَرْجُو أَنْ يَسَعَهُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ لَا تُشَمِّتْهُ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي رَدِّ السَّلَامِ وَكَانَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يَرَيَانِ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ وَلَا رَدَّ السَّلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ اسْتَحَبُّوا مَا قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ عَطَاءٌ إذَا كُنْت تَسْمَعُ

الْخُطْبَةَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ فِي نَفْسِك وَإِذَا كُنْت لَا تَسْمَعُ فَأَرْدُدْ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَأَسْمِعْهُ وَقَالَ أَحْمَدُ إذَا لَمْ تَسْمَعْ الْخُطْبَةَ شَمِّتْ وَرُدَّ انْتَهَى وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى ابْتِدَاءِ السَّلَامِ وَرَدِّهِ وَحَمْدِ الْعَاطِسِ وَتَشْمِيتِهِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشَمِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَرَ الْخَطِيبُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِهِ .

( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَصْحَابُنَا حَيْثُ حَرَّمْنَا الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَ أَثِمَ وَلَا تَبْطُلُ جُمُعَتُهُ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ قُلْت فَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ وَآثَارَ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْخُطْبَةِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ { أَنَّ أَبَا ذَرٍّ أَوْ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ سَمِعَ أَحَدُهُمَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً يَقْرَؤُهَا عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ جُمُعَةٍ قَالَ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا جُمُعَةَ لَك فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ صَدَقَ عُمَرُ } .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ أَنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ } .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِيهِمَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ { قَالَ سَعْدٌ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا صَلَاةَ لَك قَالَ فَذَكَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ سَعْدًا قَالَ لَا صَلَاةَ لَك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ إنَّهُ تَكَلَّمَ وَأَنْتَ تَخْطُبُ قَالَ صَدَقَ سَعْدٌ } .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " جَلَسْت قَرِيبًا مِنْ ابْنِ عُمَرَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي فَجَعَلَ يُحَدِّثُنِي وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَمَّا أَكْثَرَ قُلْت لَهُ اُسْكُتْ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ ذَكَرْت ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا أَنْتَ فَلَا جُمُعَةَ لَك وَأَمَّا صَاحِبُك فَحِمَارٌ " .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةِ فَذَكَرَ سُورَةً فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لِأُبَيٍّ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أُبَيٌّ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ مَا لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا لَغَيْتَ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَدَقَ } لَفْظُ الْبَزَّارِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ بِمَعْنَاهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ فِي الْمَعْرِفَةِ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِمَعْنَاهُ أَنَّ الْقِصَّةَ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيٍّ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْقِصَّةَ جَرَتْ لَهُ مَعَ أَبِي ذَرٍّ أَوْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الْقِصَّةَ جَرَتْ بَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ وَالْمُنْكِرُ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا أُبَيٌّ ، وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْقِصَّةَ جَرَتْ لِأَبِي ذَرٍّ مَعَ أُبَيٍّ وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ هَذَا حَظُّك مِنْ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ أَلْغَيْت عَلَى نَفْسِك عَلَى أَحَدِ التَّقْرِيرَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا فِي الْفَائِدَةِ الثَّالِثَةِ قُلْت قَدْ حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا جُمُعَةَ لَهُ كَامِلَةً وَأَخَذَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا ذَاكِرًا عَالِمًا بِالنَّهْيِ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ ثُمَّ حَكَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمَ وَأَثَرَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُخَالِفٌ كُلُّهُمْ يُبْطِلُ صَلَاةَ مَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا فِي الْخُطْبَةِ وَبِهِ نَقُولُ وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا فِي

الْوَقْتِ قَالَ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ بَطَلَ أَجْرُهُ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَإِذَا بَطَلَ أَجْرُهُ بَطَلَ عَمَلُهُ بِلَا شَكٍّ انْتَهَى وَهُوَ مَرْدُودٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْأَجْرِ لِمُقَارَنَةِ مَعْصِيَةٍ سَاوَى إثْمُهَا أَجْرَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ بُطْلَانُ الْعِبَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ قَدْ وَقَعَتْ مُسْتَجْمِعَةً لِلشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ { أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُتَكَلِّمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا جُمُعَةَ لَك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ لَا أَجْرَ لِلْجُمُعَةِ لَك حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةَ الْفُقَهَاءِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ جُمُعَتَهُ مُجْزِئَةٌ عَنْهُ وَلَا يُصَلِّي أَرْبَعًا قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مَنْ لَغَا كَانَتْ جُمُعَتُهُ ظُهْرًا وَلَمْ تَكُنْ جُمُعَةً وَحُرِمَ فَضْلَهَا وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ ظُهْرًا يَعْنِي فِي الْفَضْلِ .

( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) تَقْيِيدُ الْخُطْبَةِ بِكَوْنِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُخْرِجُ خُطْبَةَ غَيْرِ الْجُمُعَةِ كَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَلَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ لَهَا وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ وَالْإِمَامُ فِيهَا وَاسْتِمَاعُهَا مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ يَحْرُمُ الْكَلَامُ مَا كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَالْعِيدَيْنِ كَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ .

( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَرْكِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَأَصْلُهُ الْوُجُوبُ فَإِذَا مُنِعَ مَعَ قِصَرِ زَمَانِهِ وَقِلَّةِ شَغْلِهِ فَلَأَنْ تُمْنَعَ الرَّكْعَتَانِ مَعَ سُنِّيَّتِهِمَا وَطُولِ زَمَانِهِمَا وَالِاشْتِغَالِ بِهِمَا أَوْلَى وَقَدْ تَقَدَّمَ إيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ

وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ { إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } نَظَرْت إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْت حَدِيثِي فَرَفَعْتهمَا } رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ .

( الْحَدِيثُ السَّابِعُ ) عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ { إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } نَظَرْت إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْت حَدِيثِي فَرَفَعْتهمَا } رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى وَأَبِي تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنِ وَاضِحٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ يَعْثُرَانِ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَى فِيهِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ كَسْرَهَا أَيْضًا وَحَكَى عَنْ اللِّحْيَانِيِّ فِي الْمَاضِي الْفَتْحَ وَالْكَسْرَ وَمَعْنَاهُ كَبَا كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْمُحْكَمِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ عَثَرَ فِي ثَوْبِهِ مِثَالٌ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ الْكَبْوَةِ غَيْرُ هَذَا .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ جَوَازُ لُبْسِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ { فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ } مَعَ أَنَّ الْحَسَنَيْنِ كَانَا إذْ ذَاكَ

صَغِيرَيْنِ لَمْ يَبْلُغَا سِنَّ التَّكْلِيفِ فَيَجُوزُ إلْبَاسُهُمَا الْحَرِيرَ فَكَيْفَ بِالْأَحْمَرِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرِيرٍ ؟ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا يَجُوزُ إلْبَاسُ الصَّبِيِّ الْحَرِيرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِهِ لَكِنَّهُ صَحَّحَ فِي الْمُحَرَّرِ الْجَوَازَ مُطْلَقًا وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَهُوَ أَرْجَحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) تَعَثُّرُهُمَا فِي الْمَشْيِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ الْإِسْرَاعَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ ضَعْفَ الْبَدَنِ لِصِغَرِهِمَا وَعَدَمِ اسْتِحْكَامِ قُوَّتِهِمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ طُولَ الثِّيَابِ وَهُوَ بَعِيدٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ { عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ فِيهِمَا } وَلَا قَوْلُهُ عِنْدَ النَّسَائِيّ أَيْضًا : { رَأَيْت هَذَيْنِ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا } لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَصْدُقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ الْعِثَارِ طُولَ الثِّيَابِ .

( الْخَامِسَةُ ) قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْمُوَالَاةَ فِي الْخُطْبَةِ لَكِنَّهُ زَمَنٌ يَسِيرٌ لَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُهَا فَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ اشْتِرَاطُهَا وَبِهِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْمَرْجِعُ فِيمَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ إلَى الْعُرْفِ وَحَيْثُ انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ اسْتَأْنَفَ الْأَرْكَانَ وَقَدْ يُقَالُ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ لَكِنَّ النَّسَائِيّ بَوَّبَ عَلَيْهِ نُزُولَ الْإِمَامِ عَنْ الْمِنْبَرِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ الْحَاكِمُ هُوَ أَصْلٌ فِي قَطْعِ الْخُطْبَةِ وَالنُّزُولِ مِنْ الْمِنْبَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ جَوَازُ كَلَامِ الْخَطِيبِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ إيضَاحُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ .

( السَّابِعَةُ ) وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي مَنَاقِبِهِمَا وَلَوْلَا شِدَّةُ مَحَبَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَا فَعَلَ مَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ { رَأَيْت وَلَدَيَّ هَذَيْنِ }

( الثَّامِنَةُ ) وَفِيهِ بَيَانُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْعِيَالٍ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِهِ بِهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُبَادَرَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَخْذِهِمَا لِإِعْيَائِهِمَا بِالْمَشْيِ وَحُصُولِ الْمَشَقَّةِ لَهُمَا بِالْعِثَارِ فَرَفَعَ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ عَنْهُمَا بِحَمْلِهِمَا

( التَّاسِعَةُ ) إنْ قُلْتَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ قَطْعَ الْخُطْبَةِ وَالنُّزُولَ لَأَخْذِهِمَا فِتْنَةٌ دَعَا إلَيْهَا مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ وَكَانَ الْأَرْجَحُ تَرْكُهُ وَالِاسْتِمْرَارُ فِي الْخُطْبَةِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ عَنْ الْعِبَادَةِ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ وَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ الْأَرْجَحُ وَالْأَكْمَلُ قُلْتُ قَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازَ مِثْلِ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ فَكَانَ رَاجِحًا فِي حَقِّهِ لِتَضَمُّنِهِ بَيَانَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْبَيَانِ وَكَوْنِهِ نَشَأَ عَنْ إيثَارِ مَصْلَحَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعِبَادَةِ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَالِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ لَا عَلَى حَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُطْبَةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ فَذَلِكَ الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ رَاجِحٌ عَلَى التَّرْكِ لِكَوْنِهِ بَيَّنَ بِهِ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ عَلَى الْأَمْرِ الرَّاجِحِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَالُوا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ فَعَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ

وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاهُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ قَالَ : { يُصَلِّي } وَلِمُسْلِمٍ { يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ } قَالَ وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ .

( الْحَدِيثُ الثَّامِنُ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاهُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي } وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عَامَّةَ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ قَالُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي } إلَّا قُتَيْبَةَ وَأَبَا مُصْعَبٍ فَلَمْ يَقُولَا وَهُوَ قَائِمٌ قَالَ وَلَا قَالَهُ ابْنُ أُوَيْسٍ وَلَا مُطَرِّفٌ وَلَا التِّنِّيسِيُّ قَالَ وَالْمَعْرُوفُ فِي حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ هَذَا قَوْلُهُ وَهُوَ قَائِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وَرْقَاءُ فِي نُسْخَتِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ انْتَهَى وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَالشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا } يُزَهِّدُهَا لَفْظُ مُسْلِمٍ ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَقَالَ بِيَدِهِ قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا فَفِي قَوْلِهِ قُلْنَا زِيَادَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمْ

فَهِمُوا مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَةِ التَّقْلِيلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَقَالَ بِيَدِهِ وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ قُلْنَا يُزَهِّدُهَا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ قَالَ وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ } .
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَذَكَرْت لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ تِلْكَ السَّاعَةَ فَقُلْت أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضِنَّ بِهَا عَلَيَّ قَالَ هِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ قُلْت وَكَيْفَ تَكُونُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ } ؟ قُلْت بَلَى قَالَ فَهُوَ ذَاكَ " لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِينَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةً الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ } الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ { وَهِيَ

بَعْدَ الْعَصْرِ } .
( الثَّانِيَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهَا قَدْ رُفِعَتْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَنَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ زَعَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يَدْعُو فِيهَا مُسْلِمٌ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ قَدْ رُفِعَتْ فَقَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ فَهِيَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ اسْتَقْبَلَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى هَذَا تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ وَبِهِ قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَدَّ السَّلَفُ هَذَا عَلَى قَائِلِهِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن سَلَامٍ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ قَالَ { قُلْت : وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ : إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَشَارَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ فَقُلْت صَدَقْت أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ ، قُلْت أَيُّ سَاعَةٍ ؟ قَالَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ ، قُلْت إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ قَالَ بَلَى إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَمْ يَحْبِسْهُ إلَّا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ } وَهَذَا ظَاهِرُهُ الرَّفْعُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَائِلَ أَيُّ سَاعَةٍ هُوَ أَبُو سَلَمَةَ وَالْمُجِيبُ لَهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَيُوَافِقُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ .
قُلْت إنَّمَا قَالَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلَيْسَتْ تِلْكَ سَاعَةَ صَلَاةٍ قَالَ أَمَا سَمِعْت أَوْ أَمَا بَلَغَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ انْتَظَرَ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ } وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْجُلَاحِ مَوْلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ يُرِيدُ سَاعَةً لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ } قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَقَدْ احْتَجَّ بِالْجُلَاحِ أَبِي كَثِيرٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَلَمَةَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ } وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رَوَى عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ يُضَعَّفُ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَيُقَالُ لَهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ انْتَهَى وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَفَاطِمَةَ صَحَّ مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي

هُرَيْرَةَ انْتَهَى .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَطَاوُسٍ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرَ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ انْتَهَى قَالَ الْمُهَلَّبُ وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ إنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ } .
فَهُوَ وَقْتُ الْعُرُوجِ وَعَرْضُ الْأَعْمَالِ عَلَى اللَّهِ فَيُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَغْفِرَتَهُ لِلْمُصَلِّينَ مِنْ عِبَادِهِ وَلِذَلِكَ شَدَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ تَعْظِيمًا لِلسَّاعَةِ وَفِيهَا يَكُونُ اللِّعَانُ وَالْقَسَامَةُ وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } أَنَّهَا الْعَصْرُ انْتَهَى وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ أَحْمَدُ أَكْثَرُ الْحَدِيثِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إجَابَةُ الدَّعْوَةِ أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ وَتُرْجَى بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَثْبَتُ شَيْءٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ بَعْدَ الْعَصْرِ أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَحِينَئِذٍ فَهَلْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرِهَا أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ مَعَ الصَّلَاةِ الْمُتَوَسِّطَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ دُخُولُ وَقْتِ الْعَصْرِ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّهَا آخِرُ

سَاعَةٍ مِنْ النَّهَارِ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ فَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ ظَنَّهَا { أَنَّهَا قَالَتْ قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ إذَا تَدَلَّى نِصْفُ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ } فَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَقُولُ لِغُلَامٍ لَهَا اصْعَدْ عَلَى الظِّرَابِ فَإِذَا رَأَيْت الشَّمْسَ قَدْ تَدَلَّى نِصْفُ عَيْنِهَا فَأَخْبِرْنِي حَتَّى أَدْعُوَ وَقَدْ غَايَرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ .
فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ يَجْعَلُهَا مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ وَهَذَا يُضَيِّقُ الْأَمْرَ فِيهَا وَيَجْعَلُهَا قُبَيْلَ الْغُرُوبِ وَلَسْت أُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَجْعَلُهَا مُسْتَغْرِقَةً مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ وَلَكِنَّهَا سَاعَةٌ لَطِيفَةٌ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَالْقَائِلُ بِهَذَا الْقَوْلِ يُعَيِّنُ لَهَا الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا الْكَلَامِ هِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إنَّ كَلَامَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ فَإِنَّهَا جَعَلَتْ ابْتِدَاءَهَا تَدَلِّي نِصْفِ الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ يَقْتَضِي أَنَّ السَّاعَةَ الْمَذْكُورَةَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا يَنْقَسِمُ النَّهَارُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ الْأَخِيرَةَ بِكَمَالِهَا بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا لَحْظَةٌ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السَّاعَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ اللَّحْظَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا بِخِلَافِ الْمَحْكِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ فَإِنَّ فِيهِ تَعْيِينُ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْهَا فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَيَكُونُ هَذَا ( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ

) أَنَّهَا مِنْ حِينِ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ .
( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) أَنَّهَا بَعْدَ الزَّوَالِ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ الْبَيْعُ إلَى أَنْ يَحِلَّ وَحَكَاهُ وَالِدِي فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي أُمَامَةَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا إنَّهُ الصَّوَابُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْر عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَسَمِعْت أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ نَعَمْ سَمِعْته يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ } قَالَ مُسْلِمٌ هَذَا أَجْوَدُ حَدِيثٍ وَأَصَحُّهُ فِي بَيَانِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ حَكَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ لَكِنْ لِهَذَا الْحَدِيثِ عِلَّتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) أَنَّ مَخْرَمَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ قَالَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ قَالَ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ أَبِي شَيْئًا .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ بَلَغَ بِهِ أَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي بُرْدَةَ كَذَلِكَ رَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَتَابَعَهُ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ وَمُجَالِدٌ رَوَيَاهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ

أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفٌ قَالَ وَلَا يَثْبُتُ قَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ انْتَهَى قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا الَّذِي اسْتَدْرَكَهُ بَنَاهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ وَلِأَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَقْفٌ وَرَفْعٌ أَوْ إرْسَالٌ وَاتِّصَالٌ حَكَمُوا بِالْوَقْفِ وَالْإِرْسَالِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ ضَعِيفَةٌ مَمْنُوعَةٌ .
قَالَ وَالصَّحِيحُ طَرِيقَةُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَمُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالرَّفْعِ وَالِاتِّصَالِ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ أَقُولُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلِّهِ صَلَاةٌ فَيَنْتَظِمُ بِهِ الْحَدِيثُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِهِ .
( الْقَوْلُ السَّابِعُ ) أَنَّهَا مِنْ حِينِ خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ حَصِيرَةَ وَهُوَ تَابِعِيٌّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ لَكِنَّهُ أَوْسَعُ مِنْهُ لِأَنَّ خُرُوجَ الْإِمَامِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ .
( الْقَوْلُ الثَّامِنُ ) أَنَّهَا مِنْ حِينِ يَفْتَتِحُ الْإِمَامُ الْخُطْبَةَ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ أَضْيَقُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ لِأَنَّ افْتِتَاحَ الْخُطْبَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِمَا يَقَعُ بَعْدَ الْجُلُوسِ مِنْ الْأَذَانِ .
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً } الْحَدِيثَ وَفِيهِ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ قَالَ مِنْ حِينِ يَقُومُ الْإِمَامُ فِي خُطْبَتِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كَذَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ

إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَالْمَحْفُوظُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ .
( الْقَوْلُ التَّاسِعُ ) أَنَّهَا مِنْ حِينِ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ فَقُلْت هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لَهَا أَوْ فِيهَا الصَّلَاةُ فَمَسَحَ رَأْسِي وَبَرَّكَ عَلَيَّ وَأَعْجَبَهُ مَا قُلْت وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَوْفِ بْنِ حَصِيرَةَ .
وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً } الْحَدِيثَ وَفِيهِ { قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى انْصِرَافِهِ مِنْهَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْكَذِبِ وَقَالَ أَحْمَدُ هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِشَيْءٍ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَرْوِهِ فِيمَا عَلِمْت إلَّا كَثِيرٌ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ انْتَهَى .
وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ { قُلْت أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ ذَلِكَ حِينَ يَقُومُ الْإِمَامُ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ وَضَعَّفَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ قِيَامُ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ فَيَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الْقَوْلِ الثَّامِنِ .
( الْقَوْلُ الْعَاشِرُ ) أَنَّهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ نَقَلَ عَنْهُ الْقَوْلَ السَّادِسَ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بَعْدَ الزَّوَالِ الزَّوَالَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى فَرَاغِ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ

تَتِمَّةَ كَلَامِهِ عِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ .
( الْقَوْلُ الْحَادِيَ عَشَرَ ) أَنَّهَا وَقْتُ الْأَذَانِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي بِالصَّلَاةِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ ) أَنَّهَا عِنْدَ الْأَذَانِ أَوْ الْخُطْبَةِ أَوْ الْإِقَامَةِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ إحْدَى هَذِهِ السَّاعَاتِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَوْ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَ الْإِقَامَةِ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ فَإِنْ قُلْت هَذَا هُوَ الْقَوْلُ السَّادِسُ وَقَدْ نَقَلْتُمْ هُنَاكَ عَنْ وَالِدِكُمْ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالسَّادِسِ لَا يَقُولُ بِاسْتِيعَابِهَا لِلزَّمَنِ الْمَذْكُورِ فَهِيَ سَاعَةٌ لَطِيفَةٌ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَهِيَ إمَّا فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ الْأَذَانُ أَوْ فِي وَسَطِهِ وَهُوَ الْخُطْبَةُ أَوْ فِي آخِرِهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ قُلْت بَلْ هُوَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ أَخْرَجَ حَالَةَ الصَّلَاةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَاعَةُ الْإِجَابَةِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ حِينِ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا عَكْسُ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهَا مِنْ حِينِ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الْفَرَاغِ مِنْهَا وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَبِي السُّوَارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ كَانُوا يَرَوْنَ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابًا مَا بَيْنَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ ) أَنَّهَا عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى أَيْضًا .
( الْقَوْلُ الرَّابِعَ عَشَرَ ) أَنَّهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ نَحْوَ ذِرَاعٍ حَكَاهُ

الْقَاضِي عِيَاضٌ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ ) أَنَّهَا مَعَ زَيْغِ الشَّمْسِ بِشِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَمَّا سَأَلَتْهُ وَقَالَ لَهَا فَإِنْ سَأَلْتنِي بَعْدُ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ بَلْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْعَشَرَةُ مِنْ السَّادِسِ إلَى هُنَا مُتَقَارِبَةٌ وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ بِهَا عَنْ شَيْءِ وَاحِدٍ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالَةَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ أَوْ الْخُطْبَةِ خَاصَّةً أَوْ الصَّلَاةِ خَاصَّةً فَهِيَ تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَتَأَخُّرِهِ لَكِنْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهَا هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ انْضِبَاطَ وَقْتِهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخْطُبُ أَوَّلَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يُؤَذَّنُ إلَّا وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَمْ تَكُنْ خُطْبَتُهُ طَوِيلَةً .
( الْقَوْلُ السَّادِسَ عَشَرَ ) أَنَّهَا عِنْدَ أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَعَلَّ الَّذِي جَعَلْنَاهُ الْقَوْلَ الْحَادِيَ عَشَرَ هُوَ هَذَا إلَّا أَنَّهَا أَطْلَقَتْ النِّدَاءَ مَرَّةً وَقَيَّدَتْهُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْأَذَانِ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ فَحُمِلَ مُطْلَقُ كَلَامِهَا عَلَى مُقَيَّدِهِ لَكِنَّا فَهِمْنَا مِنْ كَلَامِهَا ذَلِكَ أَنَّهَا أَرَادَتْ الصَّلَاةَ الْمَعْهُودَةَ وَهِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَلِذَلِكَ عَدَدْنَاهُ قَوْلًا آخَرَ وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَحَكَى عَنْهَا أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَعَلَّهُ وَقَفَ عَنْهَا عَلَى تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ .
( الْقَوْلُ السَّابِعَ عَشَرَ ) أَنَّهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا فِي أَحَدِ هَذَيْنِ

الْوَقْتَيْنِ وَلِذَلِكَ أَتَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي نَقْلِي هَذَا عَنْهُ بِأَوْ بَدَلَ الْوَاوِ .
( الْقَوْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ ) أَنَّهَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ حَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَالنَّوَوِيُّ .
( الْقَوْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ ) أَنَّهَا السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ النَّهَارِ حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي .
( الْقَوْلُ الْعِشْرُونَ ) أَنَّهَا مُخْتَفِيَةٌ فِي الْيَوْمِ كُلِّهِ لَا يُعْلَمُ وَقْتُهَا مِنْهُ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ .
( الْقَوْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ ) أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ سَاعَةً بِعَيْنِهَا بَلْ تَنْتَقِلُ فِي سَاعَاتِ الْيَوْمِ قَالَ الْغَزَالِيُّ إنَّهُ الْأَشْبَهُ وَأَشَارَ إلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ فَقَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ وَقَدْ اجْتَمَعَ لَنَا فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا وَكَذَا كَانَ اجْتَمَعَ لَنَا فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ هَذَا الْعَدَدُ الْمَخْصُوصُ ثُمَّ عَثَرْنَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أُخْرَى فَبَلَغَتْ الْأَقْوَالُ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ قَوْلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَدْ عَرَفْت فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ لَيْسَتْ بَعْدَ الْعَصْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَيْسَ وَقْتَ صَلَاةٍ وَجَوَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ يُصَلِّي انْتِظَارُ الصَّلَاةِ وَسُكُوتُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ذَلِكَ يَقْتَضِي قَبُولَ هَذَا الْجَوَابِ مِنْهُ لَكِنْ أَشْكَلَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي } فَقَوْلُهُ وَهُوَ قَائِمٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الصَّلَاةُ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَمَلَ الْقِيَامَ عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } أَيْ مُلَازِمًا مُوَاظِبًا مُقِيمًا وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ الصَّلَاةِ

عَلَى انْتِظَارِهَا حَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ الشَّرْعِيِّ لَكِنَّهُ لَيْسَ الْمَدْلُولَ الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ شَرْعِيٌّ وَيَحْتَمِلُ حَمْلَ الصَّلَاةِ عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالَةَ الصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ بِالصَّلَاةِ مَدْلُولُهَا الشَّرْعِيُّ الْحَقِيقِيُّ وَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ أَنَّ قَوْلَهُ قَائِمٌ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ فَحَالَةُ الْجُلُوسِ وَالسُّجُودِ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا أَلْيَقُ بِالدُّعَاءِ مِنْ حَالَةِ الْقِيَامِ وَإِذَا حَمَلْنَا الصَّلَاةَ عَلَى الدُّعَاءِ فَالْمُرَادُ الْإِقَامَةُ عَلَى انْتِظَارِ تِلْكَ السَّاعَةِ وَطَلَبِ فَضْلِهَا وَالدُّعَاءِ فِيهَا .

( الرَّابِعَةُ ) الْحِكْمَةُ فِي إخْفَاءِ هَذِهِ السَّاعَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يَجْتَهِدَ النَّاسُ فِيهِ وَيَسْتَوْعِبُوهُ بِالدُّعَاءِ وَلَوْ عُرِفَتْ لَخَصُّوهَا بِالدُّعَاءِ وَأَهْمَلُوا مَا سِوَاهَا وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَى اسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى لِيُسْأَلَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَأَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ أَوْ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لِيَجْتَهِدَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَأَخْفَى أَوْلِيَاءَهُ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَخُصُّ بِالْإِكْرَامِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مَا وَرَدَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أَنَّهُ أُعْلِمَ بِهَا ثُمَّ أُنْسِيَهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ { سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ إنِّي كُنْت أُعْلِمْتهَا ثُمَّ أُنْسِيتهَا كَمَا أُنْسِيت لَيْلَةَ الْقَدْرِ } وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ قَالَ الْحَاكِمُ إنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ خَيْرًا لِلْأَمَةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي سَائِرِ الْيَوْمِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ حِينَ أُنْسِيتهَا وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَإِنَّ مَنْ كَانَ مَطْلَبُهُ خَطِيرًا عَظِيمًا كَسُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَرِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ لَجَدِيرٌ أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ عُمْرِهِ بِالطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَكَيْفَ لَا يَسْهُلُ عَلَى طَالِبِ مِثْلِ ذَلِكَ سُؤَالُ يَوْمٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنْ طَلَبَ حَاجَةٍ فِي يَوْمٍ يَسِيرٌ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِاسْتِيعَابِ الْيَوْمِ بِالدُّعَاءِ وَأَرَادَ حُصُولَ ذَلِكَ فَطَرِيقُهُ كَمَا قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لَوْ قَسَّمَ الْإِنْسَانُ جُمُعَةً فِي جُمَعٍ أَتَى عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ قَالَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بِنَاءً عَلَى

أَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ الْيَوْمِ لَا تَنْتَقِلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ وَاَللَّه أَعْلَمُ

( الْخَامِسَةُ ) أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَسْئُولُ وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الْأُولَى إنَّ فُسِّرَ الْخَيْرُ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ وَإِنْ فُسِّرَ بِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ لِيَشْمَلَ خَيْرَ الدُّنْيَا فَيُحْتَمَلُ مُسَاوَاتُهَا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا أَخَصُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَدْعُو بِشَيْءٍ لَيْسَ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ بِهِ سُوءُ الْخُلُقِ وَالْحَرَجُ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
وَقَدْ وَرَدَ التَّقْيِيدُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخْبِرْنَا عَنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَاذَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ ؟ قَالَ فِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ الْحَدِيثَ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ عَبْدٌ فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَتَاهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ مَأْثَمًا أَوْ قَطِيعَةَ رَحِمٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَعَطَفَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ عَلَى الْمَأْثَمِ وَإِنْ دَخَلَ فِي عُمُومِهِ لِعِظَمِ ارْتِكَابِهِ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ { مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا } وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ { عُرِضَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَفِيهَا سَاعَةٌ لَا يَدْعُو عَبْدٌ رَبَّهُ بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قُسِمَ إلَّا أَعْطَاهُ أَوْ يَتَعَوَّذُ مِنْ شَرٍّ إلَّا دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ } .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُجَابُ إلَّا فِيمَا قُسِمَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَعَلَّهُ لَا يُلْهَمُ الدُّعَاءَ إلَّا فِيمَا قُسِمَ لَهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أُطْلِقَ فِيهِ

أَنَّهُ يُعْطَى مَا سَأَلَهُ وَلَكِنْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُسِمَ لَهُ دَخَرَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ أَوْ يَتَعَوَّذُ مِنْ شَرٍّ إلَّا دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ دَفَعَ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى دَفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ إنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ دَفْعَ مَا تَعَوَّذَ مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ لَفْظَةُ ( أَوْ ) وَأَنَّهُ كَانَ إلَّا دَفَعَ عَنْهُ أَوْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَإِنَّ نُسَخَ الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ يَقَعُ فِيهَا الْغَلَطُ كَثِيرًا لِعَدَمِ تَدَاوُلِهَا بِالسَّمَاعِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ { إنَّ الدَّاعِيَ لَا يُخْطِئُهُ إحْدَى ثَلَاثٍ إمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ أَوْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ يُدْفَعَ عَنْهُ مِنْ سُوءٍ مِثْلُهَا } وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلدُّعَاءِ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ وَقَدْ يُقَالُ ذُكِرَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلُهَا وَذُكِرَ فِي سَاعَةِ الْإِجَابَةِ دَفْعُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَهَذِهِ هِيَ الْمَزِيَّة وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { وَوَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ } وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أُنْمُلَةُ الْإِبْهَامِ وَقَدْ يُقَالُ كَيْفَ وَضَعَهَا عَلَى بَطْنِ الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْأُصْبُعَيْنِ أُصْبُعٌ أُخْرَى وَهِيَ الْبِنْصِرُ وَلَعَلَّهُ عَرَضَ الْإِبْهَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَصَابِعِ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْبِنْصِرِ لِأَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْإِبْهَامَ عَرْضًا عَلَى الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْبِنْصِرِ أَيْضًا فَسَكَتَ عَنْهُ لِفَهْمِهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِبْهَامُ مَوْضُوعًا عَلَى اسْتِقَامَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْوُسْطَى وَالْخِنْصَرِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ الْعَمَلُ بِالْإِشَارَةِ وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ النُّطْقِ إذَا فُهِمَ الْمُرَادُ بِهَا وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ وَإِنَّمَا اكْتَفَى أَصْحَابُنَا بِالْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعُقُودِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ إذَا كَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَمَّا النَّاطِقُ فَلَمْ يَكْتَفُوا بِإِشَارَتِهِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا اكْتَفَوْا بِهَا فِي الْأُمُورِ الْخَفِيفَةِ .
( الثَّامِنَةُ ) قَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ لَفْظًا بِقَوْلِهِ وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ابْتَغُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي الْجُمُعَةِ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ وَهِيَ قَدْرُ هَذَا يَعْنِي قَبْضَةً } وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ ابْنِ مَاجَهْ { أَوْ بَعْضَ سَاعَةٍ } وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِصَرِ زَمَانِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُسْتَغْرِقَةً لِمَا بَيْنَ

جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَآخِرِ الصَّلَاةِ وَلَا لِمَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ بَلْ الْمُرَادُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ وَأَنَّهَا لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ قُلْت لَكِنْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ يُرِيدُ سَاعَةً لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَتَاهُ اللَّهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْقَسِمُ النَّهَارُ مِنْهَا إلَى اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا لِكَوْنِهِ صَدَّرَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِهِ { فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ } أَيْ مِنْ السَّاعَاتِ الِاثْنَيْ عَشَرَةَ .
الْمَذْكُورَةُ أَوَّلَ الْحَدِيثِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْتِمَاسِهَا آخِرَ سَاعَةٍ أَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ آخِرَ سَاعَةٍ بَلْ هِيَ لَحْظَةٌ لَطِيفَةٌ فِي آخِرِ سَاعَةٍ فَتُلْتَمَسُ تِلْكَ اللَّحْظَةُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لِأَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِيهَا وَلَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ فَضْلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتِحْبَابُ الْإِكْثَارِ مِنْهُ فِيهِ رَجَاءَ مُصَادَفَةِ تِلْكَ السَّاعَةِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَهُمَا مِنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ .

( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ فَضْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ السَّاعَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِ الْأَيَّامِ مُطْلَقًا عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَذَكَرُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فِيمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَفْضَلِ الْأَيَّامِ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ تَفْضِيلُهُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ { أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ نَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ : لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ }

( بَابُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِيرِ ) ( الْحَدِيثُ ) الْأَوَّلُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ : { أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ نَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ وَفِي رِوَايَتِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ { ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ } .
( الثَّانِيَةُ ) الْفَرُّوجُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَآخِرُهُ جِيمٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي ضَبْطِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ غَيْرَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَحُكِيَ ضَمُّ الْفَاءِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ تَخْفِيفَ الرَّاءِ وَتَشْدِيدَهَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَالتَّخْفِيفُ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ قَالُوا وَهُوَ قَبَاءٌ مَشْقُوقٌ مِنْ خَلْفِهِ وَاعْتَبَرَ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ كَوْنَهُ ضَيِّقَ الْكُمَّيْنِ ضَيِّقَ الْوَسَطِ وَأَغْرِبْ بِأَمْرٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْمَعْرُوفَ ضَمُّ الْفَاءِ ، وَجَعَلَ الْفَتْحَ غَرِيبًا ، وَالْمَعْرُوفُ عَكْسُ مَا قَالَ أَمَّا الصَّغِيرُ مِنْ ذُكُورِ أَوْلَادِ الدَّجَاجِ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ بِضَمِّ الْفَاءِ لَا غَيْرُ ، وَضَبَطَهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ بِالْفَتْحِ ثُمَّ قَالَ ، وَالضَّمُّ لُغَةٌ فِيهِ رَوَاهُ اللِّيحَانِيُّ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ فَرُّوجُ حَرِيرٍ بِالْإِضَافَةِ ، وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ غَيْرِ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ فَرُّوجٌ حَرِيرٌ أَيْ بِرَفْعِهِمَا عَلَى تَرْكِ الْإِضَافَةِ ، وَأَنَّ الثَّانِيَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ .
( الثَّالِثَةُ ) وَفِيهِ قَبُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْهَدِيَّةِ ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَادَتِهِ أَمَّا الْعُمَّالُ بَعْدَهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ قَبُولُ

الْهَدَايَا إلَّا مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ .

( الرَّابِعَةُ ) لُبْسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الْفَرُّوجِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ وَاضِحٌ لَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ ، وَنَزْعُهُ لَهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِوُرُودِ تَحْرِيمِهِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ لَهُ ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ فَأَرْسَلَ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ لَهُ قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْته يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ } الْحَدِيثَ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَلَعَلَّ أَوَّلَ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ كَانَ حِينَ نَزَعَهُ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ { نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ } فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ التَّحْرِيمِ انْتَهَى قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ انْتَهَى .
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ الْمُفَرَّجَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكْرَهْهُ لِهَذِهِ الْهَيْئَةِ بَلْ لِكَوْنِهِ حَرِيرًا طَرَأَ تَحْرِيمُهُ ، وَعَلَى الثَّانِي فَفِيهِ كَرَاهَةُ لُبْسِهَا لِأَنَّهُ كَرِهَهُ حِينَئِذٍ لِهَيْئَتِهِ الْخَاصَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الْخَامِسَةُ ) بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ صَلَّى بِثَوْبِ حَرِيرٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ يُجْزِئُهُ ، وَنَكْرَهُهُ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إنْ وَجَدَ غَيْرَهُ ، وَعَلَيْهِ جُلُّ أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ أَشْهَبُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ ، وَلَا غَيْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْبَغَ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ ، وَاسْتَخَفَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لِبَاسَ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ وَالصَّلَاةِ بِهِ لِلتَّرْهِيبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَالْمُبَاهَاةِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : إنْ صَلَّى بِثَوْبِ حَرِيرٍ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَعَادَ الصَّلَاةَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ ، وَمَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِيهِ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ أَخَذَ بِعُمُومِ تَحْرِيمِ لِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ قَالَ هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ قَبِيحٌ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ فِي حَالَةِ كَوْنِ لُبْسِهِ حَرَامًا لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا إذَا صَلَّى فِيمَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ مُخْتَصًّا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ كَالْحَرِيرِ ، وَالْمَغْصُوبِ ، وَنَحْوِهِمَا ، وَالْجُمْهُورُ صَحَّحُوا الصَّلَاةَ ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ بِإِبْطَالِهَا ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَالْجُمْهُورُ قَالُوا لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ خَاصٍّ بِالْعِبَادَةِ بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا أَمَّا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ حِينَ كَانَ لُبْسُهُ مُبَاحًا فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَتْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ بِلَا شَكٍّ فَهِيَ صَحِيحَةٌ لَا يَجِبُ عَلَى فَاعِلِهَا إعَادَةٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِهَا لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ فِي كَلَامِهِ

خَلَلٌ آخَرُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ ، وَمَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ فِيهِ ، وَلَا أَحَدَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ يُجِيزُ الصَّلَاةَ فِيهِ الْآنَ مُطْلَقًا ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ يُصَحِّحُهَا لَوْ وَقَعَتْ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ ، وَمَنْ صَحَّحَ الصَّلَاةَ فِيهِ أَوْ مَنْ لَمْ يُوجِبْ إعَادَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ هَذَا مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَصْلِهِ فَاسِدٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَزَعَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ حُرِّمَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْإِعَادَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ ، وَنَزْعُهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّحْرِيمِ ، وَلِغَيْرِ التَّحْرِيمِ فَإِنْ قُلْت قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَبْوِيبِهِ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِيرِ يَقْتَضِي وُرُودَ نَهْيٍ خَاصٍّ عَنْ لُبْسِهِ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ قَرَّرْتُمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِهِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ حَالَةَ الصَّلَاةِ قُلْت لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَهْيٌ خَاصٌّ بَلْ إذَا وَرَدَ النَّهْيُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالَةٍ ، وَقُلْنَا إنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ عَامٌّ فِي الْأَحْوَالِ فَلَنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِالنَّهْيِ فِي كُلِّ حَالَةٍ لِتَنَاوُلِهِ لَهَا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ بِحَالَةِ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ التَّبْوِيبُ مُلَائِمًا لِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ أُهْمِلَ هَذَا الْقَيْدُ لَكَانَ تَبْوِيبًا أَجْنَبِيًّا عَنْ الصَّلَاةِ ، وَكَانَ حَقُّهُ حِينَئِذٍ إيرَادَهُ فِي اللِّبَاسِ فَإِنْ قُلْت أَيُّ نَهْيٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قُلْت مَجْمُوعُ مَا وَقَعَ مِنْ النَّزْعِ الْعَنِيفِ ، وَإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ ، وَقَوْلُهُ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَأُقِيمَ مَقَامَ النَّهْيِ فِي إطْلَاقِ اسْمِهِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ ثُمَّ نَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا أَيْ بِشِدَّةٍ وَقُوَّةٍ وَمُبَادَرَةٍ لِذَلِكَ لَا بِرِفْقٍ وَتَأَنٍّ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْأُمُورِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَرَأَ تَحْرِيمُهُ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ كَالْكَارِهِ لَهُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ } أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَاتَّقَوْهُ بِإِيمَانِهِمْ ، وَطَاعَتِهِمْ لَهُ كَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا مِنْ خِطَابِ التَّهْيِيجِ لِأَنَّ فِيهِ إشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ ، وَيَسْتَخِفُّ بِأَمْرِهِ إلَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ فَيَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ لُبْسِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ غَيْرُ مُتَّقٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَفِيهِ تَهْيِيجُ الْمُكَلَّفِ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ ، وَالْأَخْذِ بِهِ ، وَحَمْلُ التَّقْوَى عَلَى تَقْوَى الْكُفْرِ خَاصَّةً بَعِيدٌ بَلْ الظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى مُطْلَقِ التَّقْوَى بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْته ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يَدْخُلْنَ فِي هَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لَهُنَّ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْأُصُولِ فَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِنَّ إلَّا الْمُتَّقِيَاتُ ، وَدُخُولُهُنَّ بِتَغْلِيبِ لَفْظِ الرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ مَجَازٌ صَدَّ عَنْهُ وُرُودُ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الرِّجَالِ ، وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَحُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لَكِنْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ عَنْ قَوْمٍ إبَاحَتَهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ قَالَ النَّوَوِيُّ ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ ، وَتَحْرِيمِهِ عَلَى الرِّجَالِ .

( السَّابِعَةُ ) قَدْ يَخْرُجُ بِقَوْلِهِ لِلْمُتَّقِينَ الصِّبْيَانُ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ تَكْلِيفٍ ، وَغَيْرَ مَأْمُورِينَ بِالتَّقْوَى ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ إلْبَاسُهُمْ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ ، وَفِي جَوَازِ إلْبَاسِهِمْ ذَلِكَ فِي بَاقِي السَّنَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ( أَصَحُّهَا ) عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي الْمُحَرَّرِ وَالنَّوَوِيِّ جَوَازُهُ وَ .
( الثَّانِي ) تَحْرِيمُهُ وَ ( الثَّالِثُ ) جَوَازُهُ قَبْلَ سِنِّ التَّمْيِيزِ ، وَهُوَ سَبْعُ سِنِينَ ، وَتَحْرِيمُهُ بَعْدَهَا ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِهِ ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا .

( الثَّامِنَةُ ) الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا هَلْ هِيَ إلَى اللُّبْسِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ أَوْ إلَى الْحَرِيرِ ، فَنُقَدِّرُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ اللُّبْسِ ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ لِأَنَّ الذَّوَاتَ لَا تُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ ، وَلَا تَحْلِيلٍ ؟ مُحْتَمَلٌ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِافْتِرَاشِ أَمْ لَا ؟ إنْ قُلْنَا بِالثَّانِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الِافْتِرَاشَ لَيْسَ لُبْسًا ، وَقَدْ يُقَالُ هُوَ لُبْسٌ لِلْمَقَاعِدِ ، وَنَحْوِهَا ، وَلُبْسُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ، وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ الْحَصِيرُ بِالِافْتِرَاشِ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِ الِافْتِرَاشِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ فَجَوَّزَهُ ، وَقَالَ بِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ ، وَقَدْ قَطَعَ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ { نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالدِّيبَاجِ ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ الرَّافِعِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا صَحَّحَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ افْتِرَاشُ الْحَرِيرِ ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُنَّ لُبْسُهُ قَطْعًا ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُهُ لَهُنَّ أَيْضًا ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ ، وَالْمُتَوَلَّى ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ .

( التَّاسِعَةُ ) التَّحْرِيمُ إنَّمَا هُوَ فِي الثَّوْبِ الَّذِي كُلُّهُ حَرِيرٌ فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَرِيرًا ، وَبَعْضُهُ كَتَّانَا أَوْ صُوفًا فَالصَّحِيحُ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَرِيرُ أَكْثَرَ وَزْنًا حَرُمَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ وَزْنًا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَوَيَا لَا تَحْرِيمَ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْقَفَّالُ الْوَزْنَ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الظُّهُورَ فَقَالَ إنْ ظَهَرَ الْحَرِيرُ حَرُمَ ، وَإِنْ قَلَّ وَزْنُهُ ، وَإِنْ اسْتَتَرَ لَمْ يَحْرُمْ ، وَإِنْ كَثُرَ وَزْنُهُ .

( الْعَاشِرَةُ ) يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ مَوَاضِعُ مَعْرُوفَةٌ ( مِنْهَا ) مَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَمِنْهَا مَا إذَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ كَجَرَبٍ ، وَقُمَّلٍ ، وَمِنْهَا مَا إذَا فَاجَأَتْهُ الْحَرْبُ ، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ مِنْهُ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلْقِتَالِ كَالدِّيبَاجِ الصَّفِيقِ الَّذِي لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي الْحَرْبِ مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ ، وَزِينَةِ الْإِسْلَامِ كَتَحْلِيَةِ السَّيْفِ ، وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِحَالَةِ الضَّرُورَةِ ، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلِلْوَفْدِ إذَا قَدِمُوا عَلَيْك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا ، وَقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ مَا قُلْتَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا .
فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { حُلَّةٌ مِنْ إسْتَبْرَقٍ } .

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلِلْوَفْدِ إذَا قَدِمُوا عَلَيْك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا ، وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ مَا قُلْتَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ } يَعْنِي تُبَاعُ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرَةَ بْنِ أَسْمَاءَ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ خَمْسَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ ، وَفِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ { إنَّمَا بَعَثْت إلَيْك لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا } وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ { رَأَى عُمَرُ عُطَارِدَ التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ بِالسُّوقِ حُلَّةً سِيَرَاءَ ، وَكَانَ رَجُلًا يَغْشَى الْمُلُوكَ ، وَيُصِيبُ مِنْهُمْ ، وَفِيهَا إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَفِيهَا أَيْضًا فَبَعَثَ إلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ ، وَبَعَثَ إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بِحُلَّةٍ ، وَأَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حُلَّةً ، وَقَالَ شَقَقْتهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِك فَجَاءَ عُمَرُ بِحُلَّتِهِ يَحْمِلُهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعَثْتَ إلَيَّ بِهَذِهِ ، وَقَدْ قُلْتَ بِالْأَمْسِ فِي حُلَّةِ عُطَارِدَ مَا قُلْت ؟ قَالَ إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا ، وَلَكِنِّي بَعَثْت بِهَا إلَيْك لِتُصِيبَ بِهَا وَأَمَّا أُسَامَةُ فَرَاحَ فِي حُلَّتِهِ

فَنَظَرَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرًا عَرَفَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْكَرَ مَا صَنَعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَنْظُرُ إلَيَّ فَأَنْتَ بَعَثْتَ إلَيَّ بِهَا فَقَالَ إنِّي لَمْ أَبْعَثْ لِتَلْبَسَهَا ، وَلَكِنِّي بَعَثْت بِهَا تَشَقُّقُهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِك } وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { قَالَ وَجَدَ عُمَرَ حُلَّةَ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ } الْحَدِيثُ وَفِيهِ { فَتَحِلُّ بِهَا لِلْعِيدِ ، وَلِلْوَفْدِ ، وَفِيهِ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ ، وَفِيهِ تَبِيعُهَا ، وَتُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِك } وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ بِمَعْنَاهُ أَخْصَرَ مِنْهُ ، وَفِيهِ { إنَّمَا بَعَثْت بِهَا إلَيْك لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا } زَادَ الْبُخَارِيُّ يَعْنِي تَبِيعُهَا ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ قَالَ لِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَا الْإِسْتَبْرَقُ ؟ قُلْتُ مَا غَلُظَ مِنْ الدِّيبَاجِ ، وَخَشُنَ مِنْهُ ، قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ إنَّمَا بَعَثْت بِهَا إلَيْك لِتُصِيبَ بِهَا مَالًا وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْهُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ كَمَا اتَّفَقَ لَهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ فِي الْجُمُعَةِ ، وَالْبُيُوعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْجِهَادِ ، وَاللِّبَاسِ ، وَالْأَدَبِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ .
( الثَّانِيَةُ ) الْحُلَّةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ أَحَدُهُمَا إزَارٌ ، وَالْآخَرُ رِدَاءٌ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ ثَوْبَانِ غَيْرُ لَفِيقَيْنِ رِدَاءٌ وَإِزَارٌ سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُحَلُّ عَلَى الْآخَرِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلْهَرَوِيِّ الْحُلَّةُ وَاحِدَةُ الْحُلَلِ ، وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ ، وَلَا تُسَمَّى حُلَّةً إلَّا أَنْ تَكُونَ ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ انْتَهَى فَقَيَّدَهَا بِقَيْدَيْنِ أَنْ تَكُونَ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ ، وَأَنْ يَكُونَ الثَّوْبَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَيُطْلَقُ اسْمُ الْحُلَّةِ عَلَى الثَّوْبَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ بُرْدًا وَغَيْرَهُ ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْحُلَلُ بُرُودُ الْيَمَنِ ، وَالْحُلَّةُ إزَارٌ وَرِدَاءٌ ا هـ .
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ بُرُودِ الْيَمَنِ وَبَيْنَ إزَارٍ وَرِدَاءٍ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَا ، وَحَكَى الْمُنْذِرِيُّ فِي حَوَاشِي السُّنَنِ قَوْلًا أَنَّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ إذَا كَانَ الثَّوْبَانِ جَدِيدَيْنِ كَمَا حَلَّ طَيُّهُمَا فَقِيلَ لَهُمَا حُلَّةً لِهَذَا ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمَا الِاسْمُ .
( الثَّالِثَةُ ) السِّيَرَاءُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ ، وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ مَمْدُودٍ قَالَ فِي الصِّحَاحِ بُرْدٌ فِيهِ خُطُوطٌ صُفْرٌ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ ضَرْبٌ مِنْ الْبُرُودِ ، وَقِيلَ ثَوْبٌ مُسَيَّرٌ فِيهِ خُطُوطٌ تُعْمَلُ مِنْ الْقَزِّ وَقِيلَ ثِيَابٌ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ انْتَهَى .
وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فَهُوَ بُرْدٌ فِيهِ خُطُوطٌ يُعْمَلُ بِالْيَمَنِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُحْكَمِ ، وَالسِّيَرَاءُ الذَّهَبُ ، وَالسِّيَرَاءُ ضَرْبٌ مِنْ النَّبْتِ ، وَهِيَ أَيْضًا الْقِرْفَةُ اللَّازِقَةُ بِالنَّوَاةِ ، وَالسِّيَرَاءُ الْجَرِيدَةُ مِنْ جَرَائِدِ النَّخْلِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ السِّيَرَاءُ الْحَرِيرُ الصَّافِي ، وَقَالَ مَالِكٌ الْوَشْيُ مِنْ الْحَرِيرِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ السِّيَرَاءُ أَيْضًا الذَّهَبُ ، وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ ذُو أَلْوَانٍ وَتَخْطِيطٍ شُبِّهَتْ بِهِ بَعْضُ الثِّيَابِ قَالَ الطُّوسِيُّ .
وَقَالَ الْخَلِيلُ هُوَ ثَوْبٌ مُضَلَّعٌ بِالْحَرِيرِ ، وَقِيلَ هُوَ مُخْتَلِفُ الْأَلْوَانِ ، وَفِي

كِتَابِ أَبِي دَاوُد السِّيَرَاءُ الْمُضَلَّعُ بِالْقَزِّ ، وَقِيلَ هُوَ ثَوْبٌ ذُو أَلْوَانٍ وَخُطُوطٍ مُمْتَدَّةٍ كَأَنَّهَا السُّيُورُ يُخَالِطُهَا حَرِيرٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حُلَّةُ سُنْدُسٍ ، وَهُوَ الْحَرِيرُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ نَوْعٌ مِنْ الْبُرُودِ يُخَالِطُهُ حَرِيرٌ كَالسُّيُورِ فَهُوَ فَعَلَاءُ مِنْ السَّيْرِ الْقَدِّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَهْلُ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إنَّهَا كَانَتْ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ هِيَ الَّتِي يُخَالِطُهَا الْحَرِيرُ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السِّيَرَاءُ هِيَ الَّتِي يُخَالِطُهَا الْحَرِيرُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ ضَرْبٌ مِنْ الْوَشْيِ وَالْبُرُودِ انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ بِتَنْوِينِ حُلَّةٍ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ " سِيَرَاءُ " تَابِعٌ لَهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ نَعْتٌ كَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ ، وَالنَّوَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّهُ الرِّوَايَةُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالُوا حُلَّةٌ سِيَرَاءُ كَمَا قَالُوا نَاقَةٌ عُشَرَاءُ انْتَهَى وَآخَرُونَ يَتْرُكُونَ التَّنْوِينَ فِي ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ حُلَّةً مُضَافًا إلَى سِيَرَاءَ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ ابْنِ سِرَاجٍ ، وَمُتْقِنِي الْحَدِيثِ ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ وَمُتْقِنِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَلَهُ تَوْجِيهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى صِفَتِهِ كَقَوْلِهِمْ ثَوْبُ خَزٍّ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَالثَّانِي أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ لَمْ يَأْتِ فِعَلَاءُ صِفَةً لَكِنْ اسْمًا ، وَهُوَ الْحَرِيرُ الصَّافِي فَمَعْنَاهُ حُلَّةُ حَرِيرٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَغَيْرُهُ ، وَحُكِيَ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعَلَاءُ بِالْكَسْرِ مَمْدُودُ الْآخِرِ إلَّا حَوْلَاءُ أَيْ ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْوَلَدِ ، وَعِنَبَاءُ أَيْ لُغَةٌ فِي الْعِنَبِ ، وَسِيَرَاءُ .
( الْخَامِسَةُ ) إنْ فَسَّرْنَا السِّيَرَاءَ بِأَنَّهَا الْحَرِيرُ الْمَحْضُ ،

وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَفِيهِ حُلَّةٌ مِنْ حَرِيرٍ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { حُلَّةٌ مِنْ إسْتَبْرَقٍ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ ، وَفِي أُخْرَى حُلَّةُ سُنْدُسٍ قَالَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْحُلَّةَ كَانَتْ حَرِيرًا مَحْضًا فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ ، وَإِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءٍ لِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَلَكِنِّي بَعَثْت بِهَا تُشَقِّقُهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِك ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْيَوْمَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ .
( السَّادِسَةُ ) وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا الثَّوْبُ الَّذِي يُخَالِطُهُ حَرِيرٌ كَالسُّيُورِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ الْخَزِّ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحَرَّرَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ فِيمَا إذَا كَانَ غَيْرُ الْحَرِيرِ أَكْثَرَ وَزْنًا أَوْ اسْتَوَيَا ، وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ إنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا ، وَعِنْدَهُمْ فِيمَا إذَا اسْتَوَيَا ، وَجْهَانِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ انْتَهَى .
وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَالَتَيْ الِاسْتِوَاءِ أَوْ نَقْصِ الْحَرِيرِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ حَرِيرِهَا كَانَ أَكْثَرَ ، وَهَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ مُحْتَمِلَةٌ فَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال هَذَا إنْ لَمْ نُفَسِّرْ السِّيَرَاءَ بِالْحَرِيرِ الْمَحْضِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ

وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي قَتَادَةَ وَقَيْسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَغَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ وَشِبْلِ بْنِ عَوْفٍ وَشُرَيْحٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا الْخَزَّ ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَتَتْ مَرْوَانَ مَطَارِفُ مِنْ خَزٍّ فَكَسَاهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَا أَبَا هُرَيْرَةَ مُطْرَفًا مِنْ خَزٍّ أَغْبَرَ فَكَانَ يُثْنِيهِ مِنْ سَعَتِهِ ، وَكَسَتْ عَائِشَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مُطْرَفًا مِنْ خَزٍّ كَانَتْ تَلْبَسُهُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ { رَأَيْت رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ خَزٍّ سَوْدَاءُ فَقَالَ كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد انْتَهَى .
وَقَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ لُبْسَ الْخَزِّ لِأَنَّ سَدَاهُ حَرِيرٌ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا كَانَ رَبِيعَةُ يَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ بِطَانَتُهَا وَظِهَارَتُهَا خَزٌّ ، وَكَانَ إمَامًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَيُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ يَجُوزُ لُبْسُهُ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ لِأَجْلِ السَّرَفِ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سَدَاهُ حَرِيرٌ ، وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ ، وَمِنْهُ الْخَزُّ ، وَأَمَّا الْعَكْسُ ، وَهُوَ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ ، وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَالْكَرَاهَةُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ كُلُّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ حَرَامٌ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ الْقَاطِعِ فِيهِ .
وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ شُهْرَةٌ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ شُهْرَةٌ فَلَا خَيْرَ فِيهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّوَوِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ إنَّ السَّدَى هُوَ

الْمُسْتَتِرُ ، وَاللُّحْمَة هِيَ الَّتِي تُشَاهَدُ ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ الَّذِي نَعْرِفُهُ الْعَكْسُ .

( السَّابِعَةُ ) فِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْحَرِيرِ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الرِّجَالِ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ النِّسَاءِ لَهُ ، وَقَدْ بِيعَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شِرَاءَهُ ، وَأَقَرَّهُ ، وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جُبَّةِ دِيبَاجٍ تَبِيعُهَا ، وَتُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِك ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ .

( الثَّامِنَةُ ) وَفِيهِ تَذْكِيرُ الْمَفْضُولِ الْفَاضِلَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ إذَا ذَهِلَ عَنْهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ بِهِ .
( التَّاسِعَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ التَّجَمُّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْمَلَابِسِ الْحَسَنَةِ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ اسْتِعْمَالَ السِّيَرَاءِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مَرْفُوعًا { مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهْنَتِهِ ؟ } ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ لِلْعِيدِ بَدَلُ الْجُمُعَةِ ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ .
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ فِي سَائِرِ مَجَامِعِ الْخَيْرِ إلَّا مَا يَنْبَغِي فِيهِ إظْهَارُ التَّمَسْكُنِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخَوْفِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّجَمُّلِ لِوُرُودِ الْوُفُودِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ ، وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ لَا خَلَاقَ لَهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ ، وَقِيلَ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَقِيلَ لَا دِينَ لَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُفَّارِ ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ ، وَالْكَافِرَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) عُطَارِدُ هُوَ ابْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عَدْسٍ التَّمِيمِيُّ كَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ وَزَعِيمَهُمْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ ، وَغَيْرِهِمَا سَنَةَ تِسْعٍ ، وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .

( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوهِبَ لِلرَّجُلِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَوْهُوبِ اللُّبْسُ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكَّةَ هُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ } كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ السُّلَمِيُّ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي الْمُبْهَمَاتِ عَنْ ابْنِ الْحَذَّاءِ فِي التَّعْرِيفِ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { أَرْسَلَ بِهَا عُمَرَ إلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْت لَمْ أَرَ أَحَدًا مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ فِيهِمْ ، وَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ صِلَةٌ الْأَقَارِبِ الْكُفَّارِ ، وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ ، وَجَوَازُ الْإِهْدَاءِ لِلْكَافِرِ ، وَلَوْ كَانَ حَرْبِيًّا فَإِنَّ مَكَّةَ لَمْ يَبْقَ فِيهَا بَعْدَ الْفَتْحِ مُشْرِكٌ ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبًا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ وُفُودَ عُطَارِدَ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي التَّاسِعَةِ أَوْ الْعَاشِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ إرْسَالُ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ بَعْدَ وُفُودِهِ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِ فَرْقٌ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهَذَا وَهْمٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا فِيهِ الْهَدِيَّةُ إلَى كَافِرٍ ، وَلَيْسَ فِيهِ الْإِذْنُ لَهُ فِي لُبْسِهَا .
وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إبَاحَةُ لُبْسِهَا لَهُمْ بَلْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ

إنَّمَا أَعْطَاهُ لِيَنْتَفِعَ بِهَا بِغَيْرِ اللُّبْسِ ، وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ ، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَيَحْرُم عَلَيْهِمْ الْحَرِيرُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قُلْت قَدْ يُقَالُ إهْدَاءُ الْحَرِيرِ لِلْمُسْلِمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ لُبْسُهُ لَهُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ " الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّ كُفْرَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى لُبْسِهِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ مَا يَكُفُّهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْلَا إبَاحَةُ لُبْسِهِ لَهُ لَمَا أُعِينَ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِإِهْدَائِهِ لَهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فَاسِقًا مُتَهَاوِنًا بِأَمْرِ الدِّينِ يَعْتَادُ لُبْسَ الْحَرِيرِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ إهْدَائِهِ لَهُ لُبْسُهُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ يَحْرُمُ إهْدَاؤُهُ لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إعَانَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَمَا رَجَّحَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْرُمُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ غَلَبَ كُرِهَ فَقَطْ .

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : { نُهِيَ عَنْ مَيَاثِرِ الْأُرْجُوَانِ ، وَلُبْسِ الْقَسِّيِّ ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ فَذَكَرْت لِأَخِي يَحْيَى بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ هَذَا ؟ نَعَمْ ، وَكَفَافُ الدِّيبَاجِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ وَعَنْ تَخْتِمْ الذَّهَبِ } ، وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ " قُلْت لِعَلِيٍّ مَا الْقَسِّيَّة ؟ قَالَ ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّامِ أَوْ مِنْ مِصْرَ مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الْأُتْرُنْجِ ، وَالْمِيثَرَةُ كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلُ الْقَطَائِفِ " ، وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { نَهَانَا عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالدِّيبَاجِ ، وَالْقَسِّيِّ ، وَالْإِسْتَبْرَقِ ، وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ } .

( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { نُهِيَ عَنْ مَيَاثِرِ الْأُرْجُوَانِ ، وَلُبْسِ الْقَسِّيِّ ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ قَالَ مُحَمَّدٌ فَذَكَرْت لِأَخِي يَحْيَى بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ هَذَا ؟ نَعَمْ ، وَكَفَافُ الدِّيبَاجِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَصَرَّحَ مُسْلِمٌ بِرَفْعِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمَيَاثِرِ ، وَلِلشَّيْخَيْنِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ إلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُد اقْتَصَرَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَلَوْ عَزَاهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلنَّسَائِيِّ لَكَانَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَخْرَجَهُ بِتَمَامِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ أَشْعَثَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { نَهَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقَسِّيِّ وَالْحَرِيرِ ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ ، وَأَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا } ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمَيْ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ نُهِيَ مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالتَّصْرِيحِ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ هُبَيْرَةَ بْنِ مَرْيَمَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَعَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ } لَفْظُ أَبِي دَاوُد .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَلَمْ يُقَيِّدْ الْمِيثَرَةَ بِكَوْنِهَا حَمْرَاءَ ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ ، وَالْمُعَصْفَرِ وَعَنْ تَخْتِمْ الذَّهَبِ وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ } ، وَمِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ

كُلَيْبٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ { نَهَانِي يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَجْعَلَ خَاتَمِي فِي هَذِهِ أَوْ الَّتِي تَلِيهَا } لَمْ يَدْرِ عَاصِمٌ فِي أَيِّ الثِّنْتَيْنِ { ، وَنَهَانِي عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَعَنْ جُلُوسٍ عَلَى الْمَيَاثِرِ } قَالَ فَأَمَّا الْقَسِّيُّ فَثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ ، وَالشَّامِ فِيهَا شَبَهُ كَذَا .
وَأَمَّا الْمَيَاثِرُ فَشَيْءٌ كَانَتْ تَجْعَلُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ كَالْقَطَائِفِ الْأُرْجُوَانِ ، وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ عَلَى الْمَوْقُوفِ مِنْهُ تَعْلِيقًا فَقَالَ ، وَقَالَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قُلْت لِعَلِيٍّ مَا الْقَسِّيَّةُ ؟ قَالَ ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّامِ أَوْ مِنْ مِصْرَ مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ أَمْثَالُ الْأُتْرُجِّ ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الْأُتْرُجِّ ، وَالْمِيثَرَةُ كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلُ الْقَطَائِفِ .
وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ فِيهَا الْحَرِيرُ ، وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ قَالَ الْبُخَارِيُّ عَاصِمٌ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ فِي الْمِيثَرَةِ أَيْ مَا رَوَاهُ عَاصِمٌ فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَرَةِ أَصَحُّ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ .
الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِر وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالْإِسْتَبْرَقِ ، وَالدِّيبَاجِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ الْمَيَاثِرُ الْحُمْرُ .
( الثَّانِيَةُ ) الْمَيَاثِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ ثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ جَمْعُ مِيثَرَةٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَإِسْكَانِ الْيَاءِ غَيْرِ مَهْمُوزٍ ، وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَتَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ

عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ شَيْءٌ كَانَتْ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ أَيْ أَزْوَاجِهِنَّ مِثْلُ الْقَطَائِفِ ، وَهِيَ جَمْعُ قَطِيفَةٍ : دِثَارُ مُخْمَلٍ يَضَعُونَهُ فَوْقَ الرِّحَالِ ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ مِيثَرَةُ الْفَرَسِ لُبْدَتُهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ ، وَالْجَمْعُ مَيَاثِرُ وَمَوَاثِرُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَأَمَّا الْمَيَاثِرُ الْحُمْرُ الَّتِي جَاءَ فِيهَا النَّهْيُ فَإِنَّهَا كَانَتْ مِنْ مَرَاكِبِ الْأَعَاجِمِ مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ ، وَحَكَى الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ قَوْلًا أَنَّهَا سُرُوجٌ تُتَّخَذُ مِنْ الدِّيبَاجِ ، وَقَوْلًا آخَرَ أَنَّهَا أَغْشِيَةُ السُّرُوجِ مِنْ الْحَرِيرِ ، وَقَوْلًا آخَرَ ؛ أَنَّهَا شَيْءٌ يُحْشَى رِيشًا أَوْ قُطْنًا يَجْعَلُهُ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ فَوْقَ الرَّحْلِ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْمَحْكِيِّ أَوَّلًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَاكَ أَنَّهُ مَحْشُوٌّ بِشَيْءٍ ، وَفِي هَذَا أَنَّهُ مَحْشُوٌّ ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوَثَارَةِ يُقَالُ ، وَثُرَ بِضَمِّ الثَّاءِ وَثَارَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ فَهُوَ وَثِيرٌ أَيْ وَطِيءٌ لَيِّنٌ ، وَأَصْلُهَا مَوْثُورَةٌ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِلْكِسْرَةِ قَبْلَهَا كَمَا فِي مِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ وَمِيعَادٍ مِنْ الْوَزْنِ وَالْوَقْتِ وَالْوَعْدِ ، وَأَصْلُهُ مِوْزَانٌ وَمِوْقَاتٌ وَمِوْعَادٌ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ يَزِيدَ ، وَهُوَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيثَرَةِ جُلُودُ السِّبَاعِ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ جَعَلَهُ قَوْلًا مَرْجُوحًا .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَهَذَا عِنْدِي وَهْمٌ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ ، وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) الْأُرْجُوَانُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَضَمِّ الْجِيمِ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ ، وَفِي كُتُبِ الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ ، وَفِي شَرْحِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي

مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ مِنْ النُّسَّاخِ لَا مِنْ الْقَاضِي فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَشَارِقِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ قُلْت ، وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْأَرْجُوَانَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ صِبْغٌ أَحْمَرُ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ قَالَ كَذَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَالْجُمْهُورُ انْتَهَى .
وَصَدَّرَ فِي الْمَشَارِقِ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ ثُمَّ قَالَ ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْحُمْرَةُ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الشَّدِيدُ الْحُمْرَةُ ، وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّهُ صِبْغٌ أَحْمَرُ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ ، وَهُوَ شَجَرٌ لَهُ نَوْرٌ أَحْمَرُ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ ، وَكُلُّ لَوْنٍ يُشْبِهُهُ فَهُوَ أُرْجُوَانُ قَالَ ، وَيُقَالُ هُوَ مُعَرَّبٌ ، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ أُرْغُوَانُ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ حَكَى السِّيرَافِيُّ أَحْمَرُ أُرْجُوَانٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِهِ كَمَا قَالُوا أَحْمَرُ قَانٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ إنَّمَا مَثَّلَ بِهِ فِي الصِّفَةِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا السِّيرَافِيُّ ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْأُرْجُوَانَ الَّذِي هُوَ الْأَحْمَرُ مُطْلَقًا ، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ تَبَعًا لِلْهَرَوِيِّ حَدِيثَ عُثْمَانَ أَنَّهُ غَطَّى وَجْهَهُ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ بِقَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ أُرْجُوَانَ ، وَقَالَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ يُقَالُ ثَوْبُ أُرْجُوَانَ ، وَقَطِيفَةُ أُرْجُوَانَ ، وَالْأَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ إضَافَةُ الثَّوْبِ أَوْ الْقَطِيفَةِ إلَى الْأُرْجُوَانِ قَالَ النَّوَوِيُّ ثُمَّ أَهْلُ اللُّغَةِ ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ وَالْوَاوِ ، وَلَا يَغْتَرُّ بِذَكَرِ الْقَاضِي لَهُ فِي الْمَشَارِقِ فِي بَابِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَالْجِيمِ ، وَلَا بِذِكْرِ ابْنِ الْأَثِيرِ لَهُ فِي بَابِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ قُلْت ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي آخَرِ كَلَامِهِ ، وَقِيلَ إنَّ الْكَلِمَةَ عَرَبِيَّةٌ ، وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ زَائِدَتَانِ .
(

الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمِيثَرَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْحَرِيرِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِيمَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ فَهِيَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ جُلُوسٌ عَلَى حَرِيرٍ ، وَاسْتِعْمَالٌ لَهُ ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى رَحْلٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ مِيثَرَةً مِنْ غَيْرِ حَرِيرٍ فَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مَكْرُوهَةً أَيْضًا فَإِنَّ الثَّوْبَ الْأَحْمَرَ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فَسَوَاءٌ كَانَتْ حَمْرَاءَ أَمْ لَا ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ حُلَّةً حَمْرَاءَ } ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَتَهَا لِئَلَّا يَظُنَّهَا الرَّائِي مِنْ بَعْدُ حَرِيرًا انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ قَالَ أَصْحَابُنَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْأَحْمَرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَأَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ الْمِيثَرَةُ مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ فَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ الزَّكَاةُ فِيهَا ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَوْ لِأَنَّهَا لَا تُذْكَى غَالِبًا قُلْت لَكِنَّهَا تَطْهُرُ بِالدَّبَّاغِ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ إذَا دُبِغَ ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ طَهَارَتِهِ ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِطَهَارَتِهِ ، وَالْأَغْلَبُ فِي الْمَيَاثِرِ أَنَّهَا لَا شَعْرَ عَلَيْهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ الْمَيَاثِرِ مَا فِيهِ مِنْ التَّرَفُّهِ ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَشُقُّ تَرْكُهَا عَلَى مَنْ اعْتَادَهَا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ إرْشَادًا نَهَى عَنْهُ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ ، وَهِيَ تَرْكُ التَّشَبُّهِ بِعُظَمَاءِ الْفُرْسِ لِأَنَّهُ كَانَ شِعَارَهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ شِعَارًا لَهُمْ ، وَزَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى زَالَتْ

الْكَرَاهَةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمِيثَرَةَ قُيِّدَتْ تَارَةً بِكَوْنِهَا حَمْرَاءَ ، وَأُطْلِقَتْ تَارَةً فَمَنْ يَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخُصُّ النَّهْيَ بِالْحَمْرَاءِ وَمَنْ يَأْخُذُ بِالْمُطْلَقِ ، وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ ، وَالظَّاهِرِيَّةُ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ طَرْدُ النَّهْيِ عَنْهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَمْرَاءَ ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ مَيَاثِرُ الْأُرْجُوَانِ يَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْأُرْجُوَانِ فَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِمُطْلَقِ الْأَحْمَرِ سَاوَى الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا الْمَيَاثِرُ الْحُمْرُ ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالْمَصْبُوغِ بِصِبْغٍ مَخْصُوصٍ فَمُقْتَضَاهُ اخْتِصَاصُهُ بِالْمَصْبُوغِ بِذَلِكَ الصِّبْغِ الْمَخْصُوصِ خَاصَّةً ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى لِمَا سِوَاهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ تَعَدِّيَتُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( السَّادِسَةُ ) الْقَسِّيُّ بِفَتْحِ الْقَافِ ، وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ ، وَآخِرُهُ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِكَسْرِ الْقَافِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَهْلُ الْحَدِيثِ يَكْسِرُونَهَا ، وَأَهْلُ مِصْرَ يَفْتَحُونَهَا ، وَتَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَفْسِيرُهُ بِأَنَّهُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ ، وَالشَّامِ فِيهَا شَبَهُ كَذَا ، وَقَوْلُهُ مُضَلَّعَةٌ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ فِيهَا خُطُوطٌ عَرِيضَةٌ كَالْأَضْلَاعِ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مُعَلَّقًا فِيهَا حَرِيرٌ أَمْثَالُ الْأُتْرُجِّ ، وَكَانَ الْمَكْنِيُّ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِكَذَا هُوَ الْأُتْرُجُّ قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ هِيَ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْحَرِيرِ تُعْمَلُ بِالْقَسِّ بِفَتْحِ الْقَافِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ قَرِيبَةٌ مِنْ تُنِيس ، وَقِيلَ هِيَ ثِيَابٌ مِنْ كَتَّانٍ مَخْلُوطٍ بِحَرِيرٍ ، وَقِيلَ هِيَ ثِيَابٌ مِنْ الْقَزِّ ، وَأَصْلُهُ الْقَزِّيُّ بِالزَّايِ مَنْسُوبٌ إلَى الْقَزِّ ، وَهُوَ رَدِيءٌ الْحَرِيرِ فَأَبْدَلَ مِنْ الزَّايِ سِينًا انْتَهَى قَالَ فِي النِّهَايَةِ ، وَقِيلَ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْقَسِّ ، وَهُوَ الصَّقِيعُ لِبَيَاضِهِ انْتَهَى .
( السَّابِعَةُ ) إنْ صَحَّ أَنَّ الْقَسِّيَّ مِنْ الْقَزِّ الْخَالِصِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لِلتَّحْرِيمِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا مِنْ الْحَرِيرِ ، وَغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ حَرِيرُهُ أَكْثَرَ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لِلتَّحْرِيمِ ، وَإِنْ كَانَ كَتَّانُهُ أَكْثَرَ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَعَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لِلتَّنْزِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقَسِّيِّ حَرِيرُهُ أَكْثَرُ ، وَبَعْضُهُ كَتَّانُهُ أَكْثَرُ فَالنَّهْيُ فِيمَا حَرِيرُهُ أَكْثَرُ لِلتَّحْرِيمِ ، وَفِيمَا كَتَّانُهُ أَكْثَرُ لِلْكَرَاهَةِ ، وَغَايَةُ مَا فِي

ذَلِكَ الْجَمْعُ فِي لَفْظِ النَّهْيِ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَهُمَا التَّحْرِيمُ ، وَالْكَرَاهَةُ فَإِنْ قُلْت بَلْ فِيهِ حِينَئِذٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ ، وَالْمَجَازِ لِأَنَّ النَّهْيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ مَجَازٌ فِي الْكَرَاهَةِ قُلْت الْوَارِدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صِيغَةُ النَّهْيِ ، وَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ هِيَ صِيغَةُ لَا تَفْعَلْ كَمَا قَرَّرْت ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ تَحْرِيمُ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِكَوْنِ جَمِيعِهِ ذَهَبًا فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ ذَهَبًا ، وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ حَرُمَ أَيْضًا حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ كَانَتْ سِنُّ الْخَاتَمِ ذَهَبًا أَوْ كَانَ مُمَوَّهًا بِذَهَبٍ يَسِيرٍ فَهُوَ حَرَامٌ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ { إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } فَإِنْ قُلْت قَدْ فَصَّلْتُمْ فِي الْمِيثَرَةِ ، وَالْقَسِّيِّ ، وَقُلْتُمْ بِتَحْرِيمِهَا فِي حَالَةٍ ، وَعَدَمِ تَحْرِيمِهَا فِي أُخْرَى ، وَجَزَمْتُمْ بِتَحْرِيمِ خَاتَمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ مُطْلَقًا فَكَيْفَ صَحَّ ذَلِكَ مَعَ قَرْنِهِ بِهِمَا قُلْت لَا يَلْزَمُ مِنْ قَرْنِهِ بِهِمَا أَنْ يُسَاوِيَهُمَا فِي حُكْمِهِمَا فَقَدْ يَقْرِنُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْحُكْمِ ، وَدَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ عَلَى التَّسَاوِي فِي الْحُكْمِ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَالْمُزَنِيِّ .

( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سِيرِينَ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ هَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ كَأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَخِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِنْهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ ، وَقَالَ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ هَذَا ؟ وَالْوَاوُ مَفْتُوحَةٌ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَقْدِرَةٍ لَكِنْ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ ، وَأَصْلُهُ أَلَمْ تَعْرِفْ هَذَا ، وَلَمْ تَسْمَعْ هَذَا .
وَقَوْلُهُ نَعَمْ تَصْدِيقٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ ، وَقَوْلُهُ ، وَكَفَافُ الدِّيبَاجِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فَهُوَ مَجْرُورٌ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ يَحْيَى بْنُ سِيرِينَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ بِوَاسِطَةِ عُبَيْدَةَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ نَهَى عَنْ كَفَافِ الدِّيبَاجِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّاهِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَوْ قَالَهُ الصَّحَابِيُّ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا إلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ احْتِمَالَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مُتَّصِلٌ ، وَجَزَمَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعِدَّةِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحْنَاهُ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ { أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَرْكَبُ الْأُرْجُوَانَ ، وَلَا أَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ ، وَلَا أَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْمُكَفَّفَ بِالْحَرِيرِ } .
وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَشْرِ الْحَدِيثِ ، وَفِيهِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي أَسْفَلِ ثِيَابِهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْأَعَاجِمِ أَوْ يُجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا مِثْلُ الْأَعَاجِمِ } ، وَالدِّيبَاجُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا نَوْعٌ مِنْ الْحَرِيرِ ، وَهُوَ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ وَالْمُرَادُ بِكِفَافِهِ الثَّوْبُ الْمَكْفُوفُ بِهِ ، وَكِفَافُ الثَّوْبِ بِكَسْرِ الْكَافِ طُرَّتُهُ ،

وَحَوَاشِيهِ ، وَأَطْرَافُهُ ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا كُفَّةٌ بِضَمِّ الْكَافِ قَالُوا ، وَكُلُّ مُسْتَطِيلٍ كِفَّة بِالضَّمِّ ، وَكُلُّ مُسْتَدِيرٍ كِفَّةٌ بِالْكَسْرِ كَكِفَّةِ الْمِيزَانِ ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي كُفَّ طَرَفُهُ بِحَرِيرٍ فَأَمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا زَادَ الْحَرِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ حَرَامًا ، وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَدَبِ ، وَالتَّنْزِيَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِمَنْ يَرَى مَنْعَ اسْتِعْمَالِ مَا فِيهِ حَرِيرٌ ، وَإِنْ قَلَّ مُطْلَقًا ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَنَّ أَسْمَاءَ أَرْسَلَتْ إلَى ابْنِ عُمَرَ بَلَغَنِي أَنَّك تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةً الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ ، وَمِيثَرَةَ الْأُرْجُوَانِ ، وَصَوْمَ رَجَبَ كُلِّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ الْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاق لَهُ فَخِفْت أَنْ يَكُونَ الْعَلَمُ مِنْهُ الْحَدِيثُ ، وَفِيهِ فَقَالَتْ هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْرَجَتْ إلَيَّ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ فَقَالَتْ هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتَّى قُبِضَتْ فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا } .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَمْ يَعْتَرِفْ ابْنُ عُمَرَ بِأَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ الْعَلَمَ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَوَرَّعَ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْحَرِيرِ .
وَأَمَّا إخْرَاجُ أَسْمَاءَ جُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَكْفُوفَةَ بِالْحَرِيرِ فَقَصَدَتْ بِهِ بَيَانَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُحَرَّمًا ، وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَغَيْرِهِ إنَّ الثَّوْبَ ، وَالْجُبَّةَ ، وَالْعِمَامَةَ ، وَنَحْوَهَا إذَا كَانَ مَكْفُوفَ الطَّرَفِ

بِالْحَرِيرِ جَازَ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ فَإِنْ زَادَ فَهُوَ حَرَامٌ انْتَهَى .
وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ لُبْسُ شَيْءٍ مِنْ الْحَرِيرِ لَا قَلِيلَ ، وَلَا كَثِيرَ قَالَ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْكِفَافَ الَّذِي فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أُحْدِثَ بَعْدَهُ قَصَدُوا صِيَانَتَهَا عَنْ التَّمَزُّقِ بِكَفِّ أَطْرَافِهَا بِحَرِيرٍ .

( الْعَاشِرَةُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمُعَصْفَرِ ، وَهُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ ، وَقَدْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَحَمَلُوهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيَةِ ، وَالنَّهْيُ مُحْتَمَلٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ بِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَبِسَ جُبَّةً حَمْرَاءَ } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ } ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ النَّهْيُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا صُبِغَ مِنْ الثِّيَابِ بَعْدَ النَّسْجِ فَأَمَّا مَا صُبِغَ غَزْلُهُ ثُمَّ نُسِجَ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي النَّهْيِ ، وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا النَّهْيَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي { نَهْيِ الْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ } ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إبَاحَةَ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَالَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ لَكِنَّهُ قَالَ غَيْرُهَا أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ لُبْسَهَا فِي الْبُيُوتِ ، وَأَفْنِيَةِ الدُّورِ ، وَأَكْرَهُهُ فِي الْمَحَافِلِ وَالْأَسْوَاقِ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ نَهَى الشَّافِعِيُّ الرَّجُلَ عَنْ الْمُزَعْفَرِ ، وَأَبَاحَ لَهُ الْمُعَصْفَرَ ، وَقَالَ إنَّمَا رَخَّصْت فِي الْمُعَصْفَرِ لِأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَحْكِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيَ عَنْهُ إلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَانِي ، وَلَا أَقُولُ نَهَاكُمْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ

فَلَا تَلْبَسْهَا } ، وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ { أُمُّك أَمَرَتْك بِهَذَا ؟ قُلْت أَغْسِلُهُمَا قَالَ بَلْ أَحْرِقْهُمَا } ، وَاللَّفْظَانِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَحَادِيثَ أُخَرُ ثُمَّ قَالَ ، وَلَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَالَ بِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إذَا صَحَّ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ ، وَدَعُوا قَوْلِي ، وَفِي رِوَايَةٍ فَهُوَ مَذْهَبِي قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَنْهَى الرَّجُلَ الْحَلَالَ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَزَعْفَرَ ، وَآمُرُهُ إذَا تَزَعْفَرَ أَنْ يَغْسِلَهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَتَبِعَ السُّنَّةَ فِي الْمُزَعْفَرِ فَمُتَابَعَتُهَا فِي الْمُعَصْفَرِ أَوْلَى بِهِ ، وَقَالَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُعَصْفَرَ بَعْضُ السَّلَفِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَةٌ ، وَالسُّنَّةُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ا هـ ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ كَلَامَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ إنَّهُ أَتْقَنَ الْمَسْأَلَةَ ، وَسَوَّى ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ بَيْنَ الْمُزَعْفَرِ ، وَالْمُعَصْفَرِ فِي كَرَاهَتِهِمَا لِلرَّجُلِ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) الدِّيبَاجُ نَوْعٌ مِنْ الْحَرِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْإِسْتَبْرَقُ الْغَلِيظُ مِنْهُ فَذَكَرَهُمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَرِيرِ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ بَيْنَ جَيِّدِهِ ، وَهُوَ الدِّيبَاجُ وَرَدِيئِهِ ، وَهُوَ الْإِسْتَبْرَقُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْجَنَائِزِ ) ( ثَوَابُ الْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ ) عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ وَجَعٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ إلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا ، أَوْ النَّكْبَةُ يَنْكُبُهَا } .

( كِتَابُ الْجَنَائِزِ ) ( ثَوَابُ الْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ مَرَضٍ أَوْ وَجَعٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ إلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا أَوْ النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَرَضِ مِنْ صَحِيحِهِ ، وَهُوَ قَبِيلُ الطِّبِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٍ فِي الْأَدَبِ الثَّانِي مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بِلَفْظِ { مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا } إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا { قَالَ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا قَصَّ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطِيئَتِهِ } ، وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ حَصِيفَةَ عَنْ عُرْوَةَ بِلَفْظٍ { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ مُصِيبَةٍ حَتَّى الشَّوْكَةُ إلَّا قَصَّ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ أَوْ كَفَّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ لَا يَدْرِي يَزِيدُ أَيَّتَهُمَا } قَالَ عُرْوَةُ ، وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ } ، وَمِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً } ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ } ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ رِوَايَةَ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِلَفْظِ ، وَحَطَّ بِالْوَاوِ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ

عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، وَكَفَّرَ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ ، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ } فِيهِ رَوْحُ بْنُ مُسَافِرٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { مَا ضَرَبَ عَلَى مُؤْمِنٍ عِرْقٌ قَطُّ إلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ خَطِيئَةً ، وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً ، وَرَفَعَ لَهُ دَرَجَةً } .
( الثَّانِيَةُ ) ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ الْوَجَعَ الْمَرَضَ ، وَكَذَا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ ، وَحِينَئِذٍ فَيُشْكِلُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ بِأَوْ وَكَيْفَ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْوَجَعَ أَعَمُّ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ مَرَضٍ ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِهِ كَضَرْبٍ ، وَنَحْوِهِ تَقُولُ أَوْجَعَنِي الضَّرْبُ أَيْ آلَمَنِي ، وَإِنْ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ مَرَضٌ ، وَقَدْ قَالَ فِي الصِّحَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْإِيجَاعُ الْإِيلَامُ ، وَضَرْبٌ وَجِيعٌ أَيْ مُوجِعٌ مِثْلُ أَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ الْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَرَضٍ وَجَعًا انْتَهَى .
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْوَجَعَ أَعَمُّ فَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ أَنْوَاعِ الْمَرَضِ عَظُمَ أَوْ خَفَّ يُسَمَّى وَجَعًا ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْوَجَعَ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْمَرَضِ ، وَآكَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي مُوَافَقَةِ مَا قُلْته قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ { مَا رَأَيْت رَجُلًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ الْوَجَعُ هُنَا الْمَرَضُ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَرَضٍ وَجَعًا فَقَوْلُهُ الْوَجَعُ هُنَا الْمَرَضُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنًى آخَرَ ، وَحِينَئِذٍ فَعَطْفُ الْوَجَعِ عَلَى الْمَرَضِ مِنْ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ فَخَصَّ الْمَرَضَ بِالذِّكْرِ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَلَمِ ، وَإِنْ لَمْ

يَكُنْ لِمَرَضٍ كَذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ إلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ رَتَّبَ تَكْفِيرَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرَضِ وَالْوَجَعِ لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ لِذَنْبِهِ فَإِنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الْكَبَائِرِ بَلْ قَالُوا إنَّ تَكْفِيرَهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ ، وَطَرَدُوا ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُكَفِّرَاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ ، وَالْمَشَاقِّ ، وَأَصْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وُرُودُهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَالْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ الْمَرَضِ وَإِنْ خَفَّ ، وَالْوَجَعِ وَإِنْ خَفَّ لِجَمِيعِ الصَّغَائِرِ فِيهِ بَعْدُ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الَّذِي فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَكْفِيرَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ بَلْ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { قَصَّ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطِيئَتِهِ } صَرِيحٌ فِي تَكْفِيرِ الْبَعْضِ ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُكَفَّرَ خَطِيئَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ فَيُحْمَلُ لَفْظُ الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ صَالِحٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ فَيُكَفِّرُ اللَّه بِهِ مَا يَشَاءُ مِنْهَا ، وَتَكُونُ كَثْرَةُ التَّكْفِيرِ ، وَقِلَّتُهُ بِاعْتِبَارِ شِدَّةِ الْمَرَضِ وَخِفَّتِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ تَكْفِيرَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ بِمَرَضِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَوَرَدَ بِحُمَّى لَيْلَةٍ ، وَكِلَاهُمَا لَمْ يَصِحَّ فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْأَوْسَطِ ، وَالصَّغِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ، وَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ

بْنِ أَبَانَ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَرَضِ وَالْكَفَّارَاتِ عَنْ الْحَسَنِ رَفَعَهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُكَفِّرُ عَنْ الْمُؤْمِنِ خَطَايَاهُ كُلَّهَا بِحُمَّى لَيْلَةٍ } قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا مِنْ جَيِّدِ الْحَدِيثِ قُلْت لَكِنَّ مُرْسَلَاتِ الْحَسَنِ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
( الرَّابِعَةُ ) الْمُرَادُ بِتَكْفِيرِ الذَّنْبِ سَتْرُهُ ، وَمَحْوُ أَثَرِهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ التَّكْفِيرُ فِي الْمَعْصِيَةِ كَالْإِحْبَاطِ فِي الثَّوَابِ أَيْ إنَّ مَعْنَى تَكْفِيرِ الْمَعْصِيَةِ مَحْوُ أَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ كَمَا أَنَّ مَعْنَى إحْبَاطِ الطَّاعَةِ مَحْوُ أَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الثَّوَابُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُهُ تَرَتُّبُ تَكْفِيرِ الذَّنْبِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَرَضِ أَوْ الْوَجَعِ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِ صَبْرٌ أَمْ لَا ، وَاعْتَبَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي حُصُولِ ذَلِكَ وُجُودُ الصَّبْرِ فَقَالَ لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ إذَا صَبَرَ الْمُصَابُ ، وَاحْتَسَبَ ، وَقَالَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَصَلَ إلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ ، وَرَسُولُهُ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِالصَّبْرِ فَجَوَابُهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا ضَعِيفٌ ، وَاَلَّذِي صَحَّ مِنْهَا فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِثَوَابٍ مَخْصُوصٍ فَاعْتَبَرَ فِيهَا الصَّبْرَ لِحُصُولِ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ ، وَلَنْ تَجِدَ حَدِيثًا صَحِيحًا رَتَّبَ فِيهِ مُطْلَقُ التَّكْفِيرِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرَضِ مَعَ اعْتِبَارِ الصَّبْرِ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ اُعْتُبِرَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّرَ لِي مَا ذَكَرْته ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {

مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ رَضِيَ أَوْ لَمْ يَرْضَ صَبَرَ أَوْ لَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةُ } ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ ، وَيُنَاقِشُ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } الْآيَةُ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) لَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ إلَّا التَّكْفِيرَ ، وَفِي إحْدَى طَرِيقَيْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ، وَهُوَ إمَّا شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي ، وَإِمَّا تَنْوِيعٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ النَّاسِ فَالْمُذْنِبُ يَحُطُّ عَنْهُ خَطِيئَةً ، وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ كَالْأَنْبِيَاءِ ، وَمَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُرْفَعُ لَهُ دَرَجَةٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَصَائِبِ فَبَعْضُهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَطُّ الْخَطِيئَةِ ، وَبَعْضُهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الدَّرَجَةِ ، وَفِي طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ الْآخَرِ الْجَمْعُ بَيْنَ رَفْعِ الدَّرَجَةِ ، وَحَطِّ الْخَطِيئَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ كِتَابَةُ عَشْرِ حَسَنَاتٍ ، وَتَكْفِيرُ عَشْرِ سَيِّئَاتٍ ، وَرَفْعُ عَشْرِ دَرَجَاتٍ ، وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ إذَا صَحَّ سَنَدُهَا ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ الْأُجُورِ عَلَى الْمَصَائِبِ ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالُوا إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَصَائِبِ التَّكْفِيرُ دُونَ الْأَجْرِ ، رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ غُطَيْفٍ قَالَ { دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ نَعُودُهُ مِنْ شَكْوَى أَصَابَتْهُ ، وَامْرَأَتُهُ قَاعِدَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقُلْت كَيْفَ بَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ ؟ قَالَتْ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ بَاتَ بِأَجْرٍ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَا بِتّ بِأَجْرٍ ، وَكَانَ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ عَلَى الْحَائِطِ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ ، وَقَالَ أَلَا تَسْأَلُونِي عَمَّا قُلْتُ قَالُوا مَا

أَعْجَبَنَا مَا قُلْتَ نَسْأَلُك عَنْهُ ؟ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حِطَّةٌ } ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ الْأَزْدِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ أَلَا إنَّ السُّقْمَ لَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرٌ فَسَاءَنَا ذَلِكَ ، وَكَبُرَ عَلَيْنَا فَقَالَ ، وَلَكِنْ تُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا فَسَرَّنَا ذَلِكَ وَأَعْجَبَنَا ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَة بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ ، وَكَتْبِ الْحَسَنَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهَا .

( السَّابِعَةُ ) وَافَقَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى حُصُولِ الْأَجْرِ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُصِيبَةِ نَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ فِي اعْتِبَارِهِ الصَّبْرَ فِي حُصُولِ التَّكْفِيرِ ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَرَتُّبَ كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُصِيبَةِ ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ ذَكَرُهُ فِي الْفَائِدَةِ الْخَامِسَةِ ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { اسْتَأْذَنَتْ الْحُمَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ مِلْدَمٍ فَأَمَرَ بِهَا إلَى أَهْلِ قُبَاءَ فَلَقُوا مِنْهَا مَا يَعْلَمُ اللَّهُ فَأَتَوْهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ فَقَالَ مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكُمْ فَيَكْشِفُهَا عَنْكُمْ ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَفْعَلُ قَالَ نَعَمْ قَالُوا فَدَعْهَا فَقَدْ يُقَالُ جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَهُورًا لَهُمْ مَعَ شَكْوَاهُمْ ، وَذَلِكَ يُنَافِي الصَّبْرَ } ، وَفِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّ تَبَسَّمْت قَالَ عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ وَجَزَعِهِ مِنْ السَّقَمِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ مَا لَهُ فِي السَّقَمِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ سَقِيمًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ } ، وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الْأَجْرَ مَعَ حُصُولِ الْجَزَعِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ .

( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يَجُوزُ فِيهِ الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ الْمَرَضِ ، وَالرَّفْعُ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّهِ فَإِنَّ مِنْ زَائِدَةٌ ، وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ أَوْ النَّكْبَةُ ، وَقَدْ نَقُلْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْوَجْهَيْنِ عَنْ تَقْيِيدِ الْمُحَقِّقِينَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَفْعَ الشَّوْكَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَجُوزُ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لَيْسَ لَهُ مَوْضِعُ رَفْعٍ قُلْت : وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا ، وَهُوَ الْمَرَضُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَالْعَطْفُ عَلَيْهِ سَائِغٌ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ فَهَذَا الْوَجْهُ إنْ جَازَ فَهُوَ مَرْجُوحٌ ، وَمَا ذَكَرْته رَاجِحٌ أَوْ مُتَعَيِّنٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) النَّكْبَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ الْقَاضِي ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ مِثْلُ الْعَثْرَةِ يَعْثُرُهَا بِرِجْلِهِ ، وَرُبَّمَا جُرِحَتْ أُصْبُعُهُ ، وَأَصْلُهُ مِنْ النَّكْبِ ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَالْكَبُّ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ هِيَ الْعَثْرَةُ وَالسَّقْطَةُ ، وَقَوْلُهُ يُنْكَبُهَا بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَفَتْحِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ قُلْت ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّكْبَةِ هُنَا الْمُصِيبَةُ ، وَهُوَ مَعْنَاهَا الْمَشْهُورُ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ أَمْرًا حِسِّيًّا ، وَهُوَ الشَّوْكَةُ ، وَأَمْرًا مَعْنَوِيًّا ، وَهُوَ الْمُصِيبَةُ لَكِنَّ النَّكْبَةَ بِمَعْنَى الْمُصِيبَةِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ الْمَرَضُ ، وَالْوَجَعُ وَشَرْطُ الْمَعْطُوفِ بِحَتَّى أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيمَا سَبَقَ ، وَلِهَذَا ضُبِطَ الْعَطْفُ بِهَا بِأَنَّهَا تَدْخُلُ حَيْثُ يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَيَمْتَنِعُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْوَجَعُ عَلَى الْأَمْرِ الْمَعْنَوِيِّ فَيَدْخُلَ فِيهِ النَّكْبَةُ لَكِنْ يَبْقَى فِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِحَتَّى

لَا يَكُونُ إلَّا غَايَةً لِمَا قَبْلَهَا إمَّا فِي زِيَادَةٍ نَحْوُ مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ أَوْ فِي نَقْصٍ نَحْوُ زَارَكَ النَّاسُ حَتَّى الْحَجَّامُونَ ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ هُنَا أَنْ تَكُونَ غَايَةً فِي النَّقْصِ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْوَجَعَ وَإِنْ خَفَّ وَهَانَ أَمْرُهُ مُكَفِّرٌ ، وَمَتَى حُمِلَ الْوَجَعُ عَلَى مَدْلُولِهِ الْمَعْنَوِيِّ لَمْ تَكُنْ النَّكْبَةُ بِمَعْنَى الْمُصِيبَةِ غَايَةً لَهُ فِي النَّقْصِ فَظَهَرَ بِذَلِكَ حَمْلُ النَّكْبَةِ عَلَى الْعَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالشَّوْكَةُ وَالْعَثْرَةُ غَايَتَانِ لِلْوَجَعِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مَرَضٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَلَّ أَنْ يَنْفَكَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ مَرَضٍ أَوْ وَجَعٍ ، وَإِنْ خَفَّ فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ .

وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ { لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ } ، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ .

( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلَغَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِلَفْظِ { فَتَمَسَّهُ النَّارُ } بَدَلَ فَيَلِجَ النَّارَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبَهُ إلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ أَوْ اثْنَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ أَوْ اثْنَيْنِ } ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَفِيهِ { ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ } ، وَأَحَالَا بِبَقِيَّتِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، وَلَفْظُهُ { مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةَ مِنْ وَلَدِهَا إلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ : وَاثْنَيْنِ فَقَالَ وَاثْنَيْنِ } ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا .
وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ ، وَعَزَى وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ قَالَ ، وَعَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ فَلَمْ يَطَّلِعْ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُعَلَّقَةِ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي

حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ ذَكَرَ فِيهَا { لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ } ، وَهُوَ وَهْمٌ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) الْوَلَدُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَعَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ ، وَفِي الْجَمْعِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ الْمَشْهُورَةُ ، وَهِيَ فَتْحُ اللَّامِ وَالْوَاوِ وَفَتْحُ الْوَاوِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا مَعَ إسْكَانِ اللَّامِ فِي الثَّلَاثَةِ ، وَقَوْلُهُ فَيَلِجَ أَيْ يَدْخُلَ ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِالْفَاءِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ ، وَالْقَسَمُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالسِّينِ الْيَمِينُ ، وَتَحِلَّةُ الْقَسَمِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَا يَنْحَلُّ بِهِ الْقَسَمُ ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَلَّلَ الْيَمِينَ أَيْ كَفَّرَهَا ، وَيُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ تَحْلِيلٌ ، وَتَحِلُّ أَيْضًا بِغَيْرِهَا ، وَهُوَ شَاذٌّ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ إذْ لَا مَنْزِلَةَ بَيْنَهُمَا ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ } ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ مَرْفُوعًا { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا تَلْقَوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ دَخَلَ } ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مُطْلَقِ دُخُولِ الْجَنَّةِ ، وَيُوَافِقُهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ أَتُحِبُّهُ فَقَالَ أَحَبَّك اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ مَا يَسُرُّك أَنْ لَا

تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَك } .
( الرَّابِعَةُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قِيلَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاثْنَانِ فَقَالَ وَاثْنَانِ } ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِك فَقَالَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ قَالَتْ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ ؟ قَالَ أَنَا فَرَطُ أُمَّتِي لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ بَارِقٍ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ انْتَهَى ، وَعَبْدُ رَبِّهِ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَالَ أَحْمَدُ مَا بِهِ بَأْسٌ ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَدَّمَتْ اثْنَيْنِ قَالَ ، وَاثْنَيْنِ فَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ قَدَّمَتْ وَاحِدًا قَالَ ، وَوَاحِدٌ ، وَلَكِنَّ إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَرَوَى ذِكْرَ الْوَاحِدِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْحَى إلَيْهِ ذَلِكَ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَعَنْ الْوَاحِدِ إنْ صَحَّ ، وَلَا يُمْتَنَعُ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي أَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ كَمَا فِي نُزُولِ قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } { لَمَّا قَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ

فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ } .
فَنَزَلَتْ { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } هَذَا عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا ، فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً لَا تَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ ، وَيَقُولُ ذِكْرُ هَذَا الْعَدَدِ لَا يُنَافِي حُصُولَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ مِنْهُ بَلْ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ حُجَّةً فَلَيْسَ نَصًّا قَاطِعًا بَلْ دَلَالَتُهُ دَلَالَةٌ ضَعِيفَةٌ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا عِنْدَ مُعَارِضَتِهَا .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ نَحْوَ مَا قُلْنَاهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ شِدَّةِ وَجْدِ الْوَالِدَةِ وَقُوَّةِ صَبْرِهَا فَقَدْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَقَدَتْ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ أَشَدَّ مِمَّنْ فَقَدَتْ ثَلَاثَةً أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا فَتَلْحَقُ بِهَا فِي دَرَجَتِهَا قُلْت ظَاهِرُ الْحَدِيثِ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ فَاقِدِ اثْنَيْنِ ، وَعَلَى كُلِّ فَاقِدِ وَاحِدٍ فَالتَّقْيِيدُ بِشِدَّةِ الْوَجْدِ الَّذِي يُصَيِّرُهُ كَفَاقِدِ ثَلَاثَةٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَهُ ابْتِدَاءً لِأَتَمِّ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ ثَلَاثًا أَوَّلُ الْكَثْرَةِ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ عَلَى وَلَدِهِ فِي شَفَاعَتِهِ ، وَسَكَتَ عَمَّا وَرَاءَهُ فَلَمَّا سُئِلَ أَعْلَمَ بِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ ، وَفِي قَوْلِهَا أَوْ اثْنَانِ بَعْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَا لَا يُنَافِيهِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ عَمَّا عَدَاهُ مِنْ الْعَدَدِ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إلَّا بِنَصٍّ انْتَهَى .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ إنَّمَا خُصَّ الْوَلَدُ بِثَلَاثَةٍ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْكَثْرَةِ فَبِعِظَمِ الْمَصَائِبِ تَكْثُرُ الْأُجُورُ فَأَمَّا إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَقَدْ يُخَفَّفُ أَجْرُ الْمُصِيبَةِ بِالزَّائِدِ لِأَنَّهَا كَأَنَّهَا

صَارَتْ عَادَةً ، وَدَيْدَنًا كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي أَنْكَرْت طَارِقَةَ الْحَوَادِثِ مَرَّةً ثُمَّ اعْتَرَفْت بِهَا فَصَارَتْ دَيْدَنًا وَقَالَ آخَرُ رُوِّعْت بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِي ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَثُرْت مَصَائِبُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ قُلْت إذَا جَعَلْنَا لِمَفْهُومِ الْعَدَدِ دَلَالَةً فَدَلَالَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي مَنْعِ النُّقْصَانِ لَا فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ أَرْبَعَةٌ فَبِالضَّرُورَةِ قَدْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَإِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَلِجْ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ فَمَاتَ لِشَخْصٍ ثَلَاثَةٌ فَحَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْبُشْرَى ثُمَّ مَاتَ لَهُ أَرْبَعُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْبُشْرَى بِمَوْتِ هَذَا الرَّابِعِ ، وَصَارَ عَلَى خَطَرٍ دُخُولُهُ النَّارَ بَعْدَ تِلْكَ الْبُشْرَى ، وَهَبَ أَنَّ حُزْنَهُ بِهَذَا الرَّابِعِ خَفِيفٌ لِاعْتِيَادِهِ الْمَصَائِبَ فَهَلْ يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ أَصْلًا ، وَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى إحْبَاطِ ثَوَابِ مَا مَضَى مِنْ الْمَصَائِبِ بِهَذِهِ الْمُصِيبَةِ الرَّابِعَةِ هَذَا مَا لَا يَتَخَيَّلُهُ ذُو فَهْمٍ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مَاتُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ تَرَتَّبَتْ الْبُشْرَى بِعَدَمِ دُخُولِ النَّارِ عَلَى مَوْتِ ثَلَاثَةٍ ، وَيُثِيبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَوْتِ الرَّابِعِ بِمَا يَشَاءُ ، وَقَدْ دَخَلَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ صَدَقَ أَنَّهُ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ الْوَلَدِ ، وَقَيَّدَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ بِقَوْلِهِ { لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ } أَيْ لَمْ يَبْلُغُوا

سِنَّ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْحِنْثُ ، وَهُوَ الْإِثْمُ ، وَمُقْتَضَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ دُونَ الْبَالِغِينَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِهَذَا الْحَدِّ لِأَنَّ الصَّغِيرَ حُبُّهُ أَشَدُّ ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ قُلْت قَدْ يُعْكَسُ هَذَا الْمَعْنَى ، وَيُقَالُ التَّفَجُّعُ عَلَى فَقْدِ الْكَبِيرِ أَشَدُّ ، وَالْمُصِيبَةُ بِهِ أَعْظَمُ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ نَجِيبًا يَقُومُ عَنْ أَبِيهِ بِأُمُورِهِ ، وَيُسَاعِدُهُ فِي مَعِيشَتِهِ ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ ، وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ ، وَأُمِّ سُلَيْمٍ ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ ، وَأُمِّ مُبَشِّرٍ ، وَمَنْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ إثْمٌ فَرَحْمَتُهُ أَعْظَمُ ، وَشَفَاعَتُهُ أَبْلَغُ .

( السَّابِعَةُ ) فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ بَالِغِينَ مَعْتُوهِينَ عَرَضَ لَهُمْ الْعَتَهُ وَالْجُنُونُ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِحَيْثُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ هَلْ يَكُونُونَ كَغَيْرِ الْبَالِغِينَ ؟ هَذَا يَحْتَمِلُ ، وَالْأَرْجَحُ إلْحَاقُهُمْ بِهِمْ ، وَقَدْ يُدَّعَى دُخُولُهُمْ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ } ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدَّمِ ذَكَرُهُمَا فَإِنْ عَلَّلْنَا بِمَا فِي الْحَدِيثِ كَانَ حُكْمُ الْمَجَانِينِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ لَهُمْ وَاسِعَةٌ كَثِيرَةٌ لِعَدَمِ حُصُولِ الْإِثْمِ مِنْهُمْ فَصَارُوا فِي ذَلِكَ كَالْأَطْفَالِ ، وَإِنْ عَلَّلْنَا بِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ لَمْ يَطَّرِدْ ذَلِكَ فِي الْمَجَانِينِ الْبَالِغِينَ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ تُخَفَّفُ أَوْ تَزُولُ ، وَيَتَمَنَّى الْأَبُ مَوْتَهُمْ لِمَا بِهِمْ مِنْ الْعَاهَةِ وَالضَّرَرِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِمَوْتِهِمْ تَفَجُّعٌ ، وَلَا مَشَقَّةٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) قَدْ يُقَالُ إنَّ سَائِرَ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَالِغِ مِنْهُمْ ، وَغَيْرِ الْبَالِغِ ، وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَوْجُهٍ ( أَوَّلُهَا ) أَنْ نَقُولَ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ لَا يُقْتَضَى أَنَّ الْبَالِغِينَ لَيْسُوا كَذَلِكَ ( ثَانِيهَا ) أَنْ نَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ يَأْخُذُ بِالْمُطْلَقِ ، وَيَرَى الْمُقَيَّدَ فَرْدًا مِنْ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْمُطْلَقُ ( ثَالِثُهَا ) أَنْ يُقَالَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ هُنَا لَيْسَ حُجَّةً لِكَوْنِهِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِمْ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ أَجَلُهُ حَتَّى يَبْلُغَ فَالْغَالِبُ أَنَّ أَبَاهُ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْوَفَاةِ ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ ذَلِكَ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنْ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ ( رَابِعُهَا ) أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ لَيْسَ

حُجَّةً بِتَقْرِيرٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَمَّنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ أَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ فَجَاءَ بِهَذَا الْقَيْدِ مُطَابِقًا لِحَالِهِ لَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ ( خَامِسُهَا ) قَدْ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ، وَأَنَّهُمْ إذَا بَلَغُوا كَانَ التَّفَجُّعُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ ، وَكَانَتْ الْمُصِيبَةُ بِهِمْ أَشَدَّ فَكَانُوا أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ مِنْ الصِّغَارِ ، وَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِالصِّغَرِ إشْعَارًا لَعِظَمِ الثَّوَابِ ، وَإِنْ خَفَّتْ الْمُصِيبَةُ بِهِمْ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ فَمَا ظَنُّك بِبُلُوغِهِمْ ، وَكَمَالِهِمْ فَعَلَيْك بِالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرْتهَا ، وَهَلْ تَقْوَى فَيُعْمَلُ بِهَا أَوْ تَضْعُفُ فَتَطْرَحُ فَلَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِابْنِ مَنْدَهْ عَنْ شَرَاحِيلَ الْمُنْقِرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ تُوُفِّيَ لَهُ أَوْلَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى دَخَلَ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ حِسْبَتِهِمْ } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِي الْبَالِغِينَ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبًا .
( التَّاسِعَةُ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِأَوْلَادِهِ أَوْ خَفِيفَهَا أَوْ خَالِيًا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ أَوْ كَارِهًا لَهُمْ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَظِنَّةُ الْمَحَبَّةِ ، وَالشَّفَقَةِ فَنِيطَ الْحُكْمُ بِهِ ، وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ ، وَقَدْ يُحِبُّ الشَّخْصُ بَعْضَ أَقَارِبِهِ أَوْ أَصْدِقَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ وَلَدِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَرِدْ تَرْتِيبُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَوْتِ الْقَرِيبِ

وَالصِّدِّيقِ ، وَلَا عَلَى مَوْتِ الْأَبِ ، وَالْأُمِّ لَكِنْ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ إلَّا تَصْرِيدًا قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِكُلِّنَا فَرَطٌ قَالَ أَوَ لَيْسَ مِنْ فَرَطِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَفْقِدَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ } .
وَقَوْلُهُ تَصْرِيدًا بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ قَلِيلًا ، وَأَصْلُهُ السَّقْيُ دُونَ الرَّيِّ ، وَمِنْهُ صَرِدَ لَهُ الْعَطَاءَ قَلَّلَهُ .

( الْعَاشِرَةُ ) قَدْ يُقَالُ إنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ كَالْأَوْلَادِ سَوَاءٌ كَانُوا أَوْلَادَ الْبَنِينَ أَوْ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لِصِدْقِ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ يُقَالُ لَا يَلْتَحِقُونَ فِي ذَلِكَ بِهِمْ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأَوْلَادِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ حَقِيقَةً ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَوْلَادِ الْبَنِينَ فَيَكُونُونَ كَالْأَوْلَادِ ، وَأَوْلَادِ الْبَنَاتِ فَلَا يَكُونُونَ كَالْأَوْلَادِ قَالَ الشَّاعِرُ : بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَقَدْ يُقَالُ يَنْزِلُونَ مَنْزِلَتَهُمْ عِنْدَ فَقْدِهِمْ لَا مَعَ وُجُودِهِمْ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَوْلَادُ أَوْلَادٍ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ ، وَأَوْلَادُ أَوْلَادٍ فَفِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا لَا يَدْخُلُونَ ، وَالثَّانِي يَدْخُلُونَ ، وَالثَّالِثُ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ ، وَقَدْ وَرَدَ تَقْيِيدُ الْأَوْلَادِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ صُلْبِهِ ، وَذَلِكَ يُخْرِجُ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ فَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِي قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ اسْتَجَنَّ بِجُنَّةٍ حَصِينَةٍ مِنْ النَّارِ رَجُلٌ سَلَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ صُلْبِهِ فِي الْإِسْلَامِ } فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو شَيْبَةَ الْقُرَشِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا { مَنْ أُثْكِلَ ثَلَاثَةً مِنْ صُلْبِهِ فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } إسْنَادُ الطَّبَرَانِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَفِي إسْنَادِهِ أَحْمَدُ بْنُ لَهِيعَةَ .

( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ عَرَفْت أَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِالِاحْتِسَابِ ، وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالِاحْتِسَابُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ ، وَعِنْدَ الْمَكْرُوهَاتِ هُوَ الْبِدَارُ إلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلِهِ ، وَبِالتَّسْلِيمِ وَالصَّبْرِ أَوْ بِاسْتِعْمَالِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِيهَا طَالِبًا لِلثَّوَابِ الْمَرْجُوِّ مِنْهَا وَالِاحْتِسَابِ مِنْ الْحَسَبِ كَالِاعْتِدَادِ مِنْ الْعَدِّ ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ يَنْوِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ احْتَسَبَهُ لِأَنَّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَهُ فَجُعِلَ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ كَأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ انْتَهَى .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً مِنْ الْوَلَدِ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَاحْتَسَبَهُمْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ لِابْنِ قَانِعٍ عَنْ حَوْشَبِ بْنِ طَخْمَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ قِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ مَا أَخَذْنَا مِنْك } فَمَنْ يَحْمِلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالصَّابِرِ دُونَ الْجَازِعِ ، وَقَدْ مَشَى عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي مُطْلَقِ الْمَصَائِبِ لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ رَضِيَ أَوْ لَمْ يَرْضَ صَبَرَ أَوْ لَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ إلَّا الْجَنَّةَ } ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُ ابْنٌ يَرُوحُ إذَا رَاحَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ فَقَالَ أَتُحِبُّهُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَعَمْ فَأَحَبَّك اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ لِي

حُبًّا مِنْك لَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ ابْنُهُ ذَاكَ فَرَاحَ إلَى نَبِيِّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بَثُّهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَزِعْت ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَوَ مَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ ابْنُك مَعَ ابْنِي إبْرَاهِيمَ يُلَاعِبُهُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ ؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ } إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ لَكِنْ قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الدِّمْيَاطِيُّ الْحَافِظُ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قُلْت ، وَلَا يَحْتَاجُ عَلَى طَرِيقَةِ مُسْلِمٍ إلَى ثُبُوتِ مَعْرِفَةِ السَّمَاعِ لَكِنَّ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ قَالَ إنَّ إبْرَاهِيمَ هَذَا لَا يُعْرَفُ فَاقْتَضَى أَنَّهُ الَّذِي عِنْدَهُ غَيْرُ الَّذِي أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ .
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِكَوْنِ هَذَا الرَّجُلُ اعْتَرَفَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَزَعِ ، وَذَلِكَ يُنَافِي الصَّبْرَ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ لَيْسَ فِيهِ الْحُكْمُ لَهُ بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا فِيهِ الْبُشْرَى لِابْنِهِ الْمُتَوَفَّى ، وَقَدْ يُقَالُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِحَالَةِ الصَّبْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا هَذَا التَّقْيِيدُ ، وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمُقَيَّدَةِ بِالصَّبْرِ ضَعِيفَةٌ .
وَأَمَّا التَّقْيِيدُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِقَوْلِهِ فَتَحْتَسِبُهُ فَلَعَلَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ الصَّبْرِ عِنْدَهُنَّ ، وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ فِيهِنَّ مَعَ إظْهَارِ التَّفْجِيعِ بِفِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُنَّ فَرَدَعَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِيَحْصُلَ انْكِفَافُهُنَّ عَمَّا يَتَعَاطَيْنَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَانَ فَائِدَةُ هَذَا التَّقْيِيدِ ارْتِدَاعَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ لَا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِ .
وَقَدْ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26