كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
{ في أربعة أيام } : أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين.
وقال الزمخشري { في أربعة أيام } ، فذلكة لمدة خلق الله وما فيها ، كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
وقال الزجاج : في تتمة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين.
انتهى ، وهذا كما تقول : بنيت جدار بيتي في يوم ، وأكملت جميعه في يومين ، أي بالأول.
وقال أبو عبد الله الرازي : ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين ، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل.
أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال في أربعة أيام سواء ، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان. انتهى.
ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق ، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق ، وكذلك اليومين يقتضيانه ، ومتى كان الظرف معدوداً ، كان العمل في جميعه ، إما على سبيل التعميم ، نحو : سرت يومين ، وقد يكون في بعض كل يوم منها ، نحو : تهجدت ليلتين ، فاحتمل الاستغراق ، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين؛ وإذا كان كذلك ، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين ، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها ، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق ، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة ، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة.
وقرأ الجمهور : سواء بالنصب على الحال؛ وأبو جعفر بالرفع : أي هو سواء ، وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب : بالخفض نعتاً لأربعة أيام.
قال قتادة والسدي : معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه ، فإنه يجده كما قال تعالى.
وقال ابن زيد وجماعة : معناه متسوٍ مهيأ.
أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به ، إذ هم بحال حاجة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : { للسائلين } ؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، أو يقدر ، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين.
انتهى ، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين.
ولما شرح تخليق الأرض وما فيها ، أتبعه بتخليق السماء فقال : { ثم استوى إلى السماء } : أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها ، والمعنى : إلى خلق السماء.
والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً.
وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السموات والأرض ، فأحدث الله في ذلك سخونة ، فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء ، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السموات.
وفيه أيضاً أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى.
وروي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار.
قال ابن عطية : هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها ، وحينئذ { قال لها وللأرض ائتيا }.
انتهى ، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء ، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقاً حقيقياً ، وجعل الله لهما حياة وإدراكاً يقتضي نطقهما ، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز ، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول ، قال : والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه ، وأن العبرة فيه أتم ، والقدرة فيه أظهر. انتهى.
وقال الزمخشري : ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتا كما أرادهما ، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع ، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه.
على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما : { ائتيا } ، شئتما ذلك أو أبيتما ، فقالتا : آتينا على الطوع لا على الكره.
والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب ، ونحوه قول القائل : قال الجدار للوتد : لم تشقني؟ قال الوتد : سل من يدقني ، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي.
فإن قلت : لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان ، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت : قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ، ثم دحاها بعد خلق السماء ، كما قال : { والأرض بعد ذلك دحاها } فالمعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم.
ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع ، كما يقول : أتى عمله مرضياً مقبولاً.
ويجوز أن يكون المعنى : لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة ، والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء ، وكون السماء سقفاً للأرض ، وينصره قراءة من قرأ : أتيا وأتينا من المواتاة ، وهي الموافقة ، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها ، قالتا : وافقنا وساعدنا.
ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا.
فإن قلت : ما معنى طوعاً أو كرهاً؟ قلت : هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال ، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً.
وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين.
فإن قلت : هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟ قلت : لما جعلت مخاطبات ومجيبات ، ووصفت بالطوع والكره ، قيل : طائعين في موضع طائعات نحو قوله : ساجدين.
انتهى.
وقرأ الجمهور : ائتيا من الإتيان ، أي ائتيا أمري وإرادتي.
وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : أتيا على وزن فعلا ، قالتا : أتينا على وزن فعلنا ، من آتى يؤتى ، كذا قال ابن عطية ، قال : وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها. انتهى.
وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة ، وهي الموافقة ، فيكون وزن آتيا : فاعلاً ، وآتينا : فاعلنا ، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال : آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة ، ومعناه : سارعنا على حذف المفعول منه ، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله. انتهى.
وقرأ الأعمش : أو كرهاً بضم الكاف ، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية ، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة.
قال ابن عطية : وقوله قالتا ، أراد الفرقتين المذكورتين : جعل السموات سماء ، والأرضين أرضاً ، وهذا نحو قول الشاعر :
ألم يحزنك أن حبال قومي . . .
وقومك قد تباينتا انقطاعاً
وعبر عنها بتباينتا. انتهى.
هذا وليس كما ذكر ، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية ، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية ، كأنه قال : ألم يحزنك أن حبلى قومي وقومك؟ ولذلك ثنى في قوله : تباينتا ، وأنث على معنى الحبل ، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة ، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما.
والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها ، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سموات ، فيكون خلق الأرض متقدماً على خلق السماء ، ودحو الأرض غير خلقها ، وقد تأخر عن خلق السماء ، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة.
وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة.
وقوله : { وبارك فيها وقدر فيها أقواتها } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة.
ثم قال بعد : { ثم استوى إلى السماء } ، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها.
وأورد أيضاً أن قوله تعالى للسماء وللأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً } ، كناية عن إيجادهما ، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد ، وهو محال ، وقد انتهى هذا الإيراد.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كان ، كما قال تعالى : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } معناه : إن يكن سرق. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي : فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين ، لأن ثم تقتضي التأخر ، وكان تقتضي التقدم ، فالجمع بينهما يفيد التناقض ، ونظيره : ضربت زيداً اليوم ، ثم ضربت عمراً أمس.
فكما أن هذا باطل ، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى ، قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض.
وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين ، والإيجاد يدل عليه قوله : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } وهذا محال ، لا يقال للشيء الذي وجد كن ، بل الخلق عبارة عن التقدير ، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين ، وقضاؤه بأن سيحدث كذا ، أي مدة كذا ، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.
والذي نقوله : أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني ، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان ، والمهلة كأنه قال : فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء ، فلا تعرض في الآية لترتيب ، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له.
ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض ، ألف الأخبار فيه بثم ، فصار كقوله : { ثم كان من الذين آمنوا } بعد قوله : { فلا اقتحم العقبة } ومن ترتيب الأخبار { ثم آتينا موسى الكتاب } بعد قوله : { قل تعالوا أتل } ويكون قوله تعالى : { فقال لها وللأرض } ، بعد إخباره بما أخبر به ، تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى ، كقولك : أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له.
فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت ، فحد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن إرادته.
ويدل على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد : { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } الآية ، ثم قال بعد : { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً } الآية.
وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي ، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها ، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني ، وما جاء من ذلك مقصوراً على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم ، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان.
{ فقضاهن سبع سموات } : أي صنعهن وأوجدهن ، كقول ابن أبي ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما . . .
داود أو صنع السوابغ تبع
وعلى هذا انتصب سبع على الحال.
وقال الحوفي : مفعول ثان ، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً سبع سموات على التمييز.
ويعني بقوله مبهماً ، ليس عائداً على السماء ، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، بخلاف الحال أو المفعول الثاني ، فإنه عائد على السماء على المعنى.
{ وأوحي في كل سماء أمرها } ، قال مجاهد وقتادة : وأوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي هي قوامها وصلاحها ، وقاله السدي وقتادة : ومن الأمور التي هي بغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها ، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها.
وقال الزمخشري : أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك.
{ وحفظاً } : أي وحفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب ، ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى ، كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً انتهى.
ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني ، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر ، أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
{ فإن أعرضوا } : التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله : { قل أئنكم لتكفرون } إلى ضمير الغيبة إعراضاً عن خطابهم ، إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة ، { فقل أنذرتكم } : أي أعلمتكم ، { صاعقة } أي حلول صاعقة.
قال قتادة : عذاباً مثل عذاب عاد وثمود.
وقال الزمخشري : عذاباً شديد الوقع ، كأنه صاعقة.
وقرأ الجمهور : { صاعقة مثل صاعقة } ، وابن الزبير ، والسلمي ، والنخعي ، وابن محيصن : بغير ألف فيهما وسكون العين ، وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة.
والصعقة : المرة ، يقال : صعقته الصاعقة فصعق ، وهو من باب فعلت بفتح العين ، ففعل بكسرها نحو : خدعته فخدع ، وإذ معمولة لصاعقة لأن معناها العذاب.
{ من بين أيديهم ومن خلفهم } ، قال ابن عباس : أي قبلهم وبعدهم ، أي قبل هود وصالح وبعدهما.
وقيل : من أرسل إلى آبائهم ومن أرسل إليهم؛ فيكون { من بين أيديهم } معناه : من قبلهم ، { ومن خلفهم } معناه : الرسل الذين بحضرتهم.
فالضمير في من خلقهم عائد على الرسل ، قاله الضحاك ، وتبعه الفراء ، وسيأتي عن الطبري نحو من هذا القول.
وقال ابن عطية : { من بين أيديهم } : أي تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود ، وبهذا الاتصال قامت الحجة.
{ ومن خلفهم } : أي جاءهم رسول بعد تقدم وجودهم في الزمن ، وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبر ومباشرة.
انتهى ، وهو شرح كلام ابن عباس.
وقال الزمخشري : { من بين أيديهم ومن خلفهم } : أي آتوهم من كل جانب ، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض.
كما حكى الله عن الشيطان : { لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } أي لآتينهم من كل جهة ، ولأعملن فيهم كل حيلة.
وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. انتهى.
وقال الطبري : الضمير في قوله : { ومن خلفهم } عائد على الرسل ، وفي : { من بين أيديهم } عائد على الأمم ، وفيه خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى ، إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل ، أي من خلف أنفسهم ، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في خلفهم على الرسل لفظاً ، وهو يعود على رسل أخرى معنى ، فكأنه قال : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين ، فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه ، أي ونصف درهم آخر ، وهذا فيه بعد.
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر ، وقال الأفوه الأودي :
أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته . . .
إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد
أو بعده كقدار حين تابعه . . .
على الغواية أقوام فقد بادوا
{ أن لا تعبدوا } : يصح أن تكون أن تفسيرية ، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول ، أي جاءتهم مخاطبة؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة ، أي بأنه لا تعبدوا ، والناصبة للمضارع ، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا ، وفي نحو : { أن طهر } وكتبت إليه بأن قم ، ولا في هذه إلا وجه للنهي.
ويجوز على بعد أن تكون لا نافية ، وأن ناصبة للفعل ، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره.
ومفعول شاء محذوف ، وقدره الزمخشري : لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى.
وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا من جنس الجواب ، نحو قوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، وكذلك : { لو نشاء لجعناه حطاماً } { لو نشاء جعلناه أجاجاً } { ولو شاء ربك لآمن } { ولو شاء ربك ما فعلوه } { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } قال الشاعر :
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد . . .
ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد
وقال الراجز :
واللذ لو شاء لكنت صخراً . . .
أو جبلاً أشم مشمخرا
فعلى هذا الذي تقرر ، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري ، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم ، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر ، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة ، وهو لم يشأ ذلك ، فكيف يشاء ذلك في البشر؟ { فإنا بما أرسلتم به كافرون } : خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان ، وغلب الخطاب على الغيبة ، نحو قولك : أنت وزيد تقومان.
وما مصدرية ، أي بإرسالكم ، وبه توكيد لذلك.
ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي ، والضمير في به عائد عليه ، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال ، كان كفراً بالإرسال.
وليس قوله : { بما أرسلتم } إقراراً بالإرسال ، بل هو على سبيل التهكم ، أي بما أرسلتم على زعمكم ، كما قال فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال ، فصل بعد ذلك ، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين.
فقال : { فأما عاد فاستكبروا } : أي تعاظموا عن امتثال أمر الله وعن ما جاءتهم به الرسل ، { بغير الحق } : أي بغير ما يستحقون.
ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم ، وهو الاستكبار ، وكان فعلاً قلبياً ، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب ، { وقالوا من أشد منا قوة } : أي لا أحد أشد منا ، وذلك لما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش.
فرد الله تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة ، ومع علمهم بآيات الله ، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها ، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها.
ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة ، وعبر بالقوة عن القدرة ، فكما يقال : الله أقدر منهم ، يقال : الله أقوى منهم.
فالقدرتان بينهما قدر مشترك ، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة.
كما يوصف الله تعالى بالعلم ، ويوصف الإنسان بالعلم.
ثم ذكر تعالى ما أصاب به عاداً فقال : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } في الحديث : « أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ، ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا » وروي أنها كانت تحمل العير بأوقادها ، فترميهم في البحر.
والصرصر ، قال مجاهد : شديدة السموم.
وقال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : من الصر ، أي باردة.
وقال السدي أيضاً ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والطبري ، وجماعة : من صرصر إذا صوت.
وقال ابن الكسيت : صرصر ، يجوز أن يكون من الصرة ، وهي الصيحة ، ومنه : { فأقبلت امرأته في صرة } وصرصر : نهر بالعراق.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، والنخعي ، وعيسى ، والأعرج نحسات ، بسكون الحاء ، فاحتمل أن يكون مصدراً وصف به وتارة يضاف إليه ، واحتمل أن يكون مخففاً من فعل.
وقال الطبري : نحس ونحس : مقت.
وقال الزمخشري : مخفف نحس ، أو صفة على فعل ، أو وصف بمصدر. انتهى.
وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلاً بسكون العين ، قالوا : يأتي على فعل كفرح وهو فرح ، وعلى أفعل حور فهو أحور ، وعلى فعلان شبع فهو شبعان ، وقد يجيء على فاعل سلم فهو سالم ، وبلى فهو بال.
وقرأ قتادة ، وأبو رجاء ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وباقي السبعة : بكسر الحاء وهو القياس ، وفعله نحس على فعل بكسر العين ، ونحسات صفة لأيام جمع بألف وتاء ، لأنه جمع صفة لما لا يعقل.
قال مجاهد ، وقتادة ، والسدّي : مشائيم من النحس المعروف.
وقال الضحاك : شديدة البرد ، وحتى كان البرد عذاباً لهم.
وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد :
كأن سلافة عرضت بنحس . . .
يخيل شقيقها الماء الزلالا
وقيل : سميت بذلك لأنها ذات غبار ، ومنه قول الراجز :
قد اغتدي قبل طلوع الشمس . . .
للصيد في يوم قليل النحس
يريد : قليل الغبار.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : متتابعات كانت آخر شوال من أربعاء إلى أربعاء.
وقال السدّي : أولها غداة يوم الأحد.
وقال الربيع بن أنس : يوم الجمعة.
وقال يحيى بن سلام : يوم الأحد.
{ لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } : وهو الهلاك.
وقرىء : لتذيقهم بالتاء.
وقال الزمخشري : على الإذاقة للريح ، أو للأيام النحسات.
وأضاف العذاب إلى الخزي إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظة أخرى التي تقتضي المشاركة والتفصيل خبراً عن قوله : { ولعذاب الآخرة } ، وهو إسناد مجازي ، أو وصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به.
ألا ترى تفاوت ما بين قولك : هو شاعر ، وقوله : له شعر شاعر؟ وقابل استكبارهم بعذاب الخزي ، وهو الذل والهوان.
وبدأ بقصة عاد ، لأنها أقدم زماناً ، ثم ذكر ثمود فقال : { وأما ثمود }.
وقرأ الجمهور : بالرفع ممنوع من الصرف؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وبكر بن حبيب : مصروفاً ، وهي قراءة ابن وثاب ، والأعمش في ثمود بالتنوين في جميع القرآن إلا قوله : { وآتينا ثمود الناقة } لأنه في المصحف بغير ألف.
وقرىء : ثمود بالنصب ممنوعاً من الصرف ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والأعمش : ثموداً منونة منصوبة.
وروى المفضل عن عاصم الوجهين. انتهى.
{ فهديناهم } ، قال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : بينا لهم.
قال ابن عطية : وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد.
وقال الفراء ، وتبعه الزمخشري : فهديناهم : فذللناهم على طريق الضلالة والرشد ، كقوله تعالى : { وهديناه النجدين } { فاستحبوا العمى على الهدى } : فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه الهدى ، الدليل عليه قولك : هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها؟ كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر ولا علة ، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
وقال سفيان : دعوناهم.
وقال ابن زيد : أعلمناهم الهدى من الضلال.
وقال ابن عطية : فاستحبوا عبارة عن تكسبهم في العمى ، وإلا فهو بالاختراع الله ، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله : { بما كانوا يكسبون }. انتهى.
والهون : الهوان ، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه.
.
وقرأ ابن مقسم : عذاب الهوان ، بفتح الهاء وألف بعد الواو.
وقال الزمخشري : ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم وكفى به شاهداً إلا هذه ، لكفى بها حجة.
انتهى ، على عادته في سب أهل السنة.
ثم ذكر قريشاً بنجاة من آمن واتقى.
قيل : وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب هود وصالح مائة وعشرة أنفس.
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا ، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم.
وانتصب يوم باذكر.
وقرأ الجمهور : { يحشر } مبنياً للمفعول ، { وأعداء } رفعاً ، وزيد بن عليّ ، ونافع ، والأعرج ، وأهل المدينة : بالنون أعداء نصباً ، وكسر الشين الأعرج؛ وتقدم معنى { يوزعون } في النمل ، و { حتى } : غاية ليحشروا ، { أعداء الله } : هم الكفار من الأولين والآخرين ، وما بعد إذا زائدة للتأكيد.
وقال الزمخشري : ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله : { أثم إذا ما وقع آمنتم به } أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. انتهى.
ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها ، ولو كان التركيب بغير ما ، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر ، لأن أداة الشرط ظرف ، فالشهادة واقعة فيه لا محالة ، وفي الكلام حذف ، التقدير : { حتى إذا ما جاءوها } ، أي النار ، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا ، { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } بما اكتسبوا من الجرائم ، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم.
ففي الحديث : « أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ، ثم تنطق الجوارح فيقول : تباً لك ، وعنك كنت أدافع »
ولما كانت الحواس خمسة : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وكان الذوق مندرجاً في اللمس ، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق ، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، وهو ضعيف ، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف ، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه ، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة.
والظاهر أن الجلود هي المعروفة.
وقيل : هي الجوارح كنى بها عنها.
وقيل : كنى بها عن الفروج.
قيل : وعليه أكثر المفسرين ، منهم ابن عباس ، كما كنى عن النكاح بالسر.
{ بما كانوا يعلمون } من الجرائم.
ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم ، فلم تذكر سبباً غير أن الله تعالى أنطقها.
ولما صدر منها ما صدر من العقلاء ، وهي الشهادة ، خاطبوها بقولهم : { لم شهدتم } ؟ مخاطبة العقلاء.
وقرأ زيد بن علي : لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات؟ و { كل شيء } : لا يراد به العموم ، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة ، أو كان ذلك فيه خرق عادة.
وقال الزمخشري : أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان ، كما أراد به في قوله : { والله على كل شيء قدير } من المقدورات.
والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان ، وعلى خلقكم وإنشائكم ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، وإنما قالوا لهم : { لم شهدتم علينا } لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.
وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق؟ قلت : الله عز وجل ينطقها ، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً.
انتهى ، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي ، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل.
وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة ، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاماً خاطبته به عن الله تعالى.
والظاهر أن قوله : { وما كنتم تستترون } من كلام الجوارح ، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخاً لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعاليه.
و { أن يشهد } : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد ، { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم } ، فانهمكتم وجاهدتم ، وإلى هذا نحا مجاهد ، والستر يأتي في هذا المعنى ، كما قال الشاعر :
والستر دون الفاحشات وما . . .
يلقاك دون الخير من ستر
ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد ، أي وما كنتم تمتنعون ، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم ، وإلى هذا نحا السدي ، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم ، لأن الجوارح لزيمة لكم.
وعبر قتادة عن تستترون بتظنون ، أي وما كنتم تظنون أن يشهد ، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ ، { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً } ، وهو الخفيات من أعمالكم ، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله.
{ وذلكم } : إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم ، وهو مبتدأ خبره { أرداكم } ، و { ظنكم } بدل من { ذلكم } أي وظنكم بربكم ذلكم أهلككم.
وقال الزمخشري : وظنكم وأرداكم خبران.
وقال ابن عطية : أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر. انتهى.
ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبراً ، لأن قوله : { ذلكم } إشارة إلى ظنهم السابق ، فيصير التقدير : وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم ، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ ، وهو لا يجوز؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك : سيد الجارية مالكها.
وقال ابن عطية : وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال ، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالاً إلا إذا اقترن بقد ، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر. انتهى.
وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالاً بغير تقدير قد وهو الصحيح ، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس ، ويبعد فيها التأويل ، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى ( بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ).
{ فإن يصبروا } : خطاب للنبي عليه السلام ، قيل : وفي الكلام حذف تقديره : أولاً يصبروا ، كقوله : { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } وذلك في يوم القيامة.
وقيل : التقدير : فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم ، { فالنار مثوى لهم } : أي مكان إقامة.
وقرأ الجمهور : { وإن يستعتبوا } مبنياً للفاعل ، { فما هم من المعتبين } : اسم مفعول.
قال الضحاك : إن يعتذروا فما هم من المعذورين؛ وقيل : وإن طلبوا العتبى ، وهي الرضا ، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها.
وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد ، وموسى الأسواري : وإن يستعتبوا : مبنياً للمفعول ، فما هم من المعتبين : اسم فاعل ، أي طلب منهم أن يرضوا ربهم ، فما هم فاعلون ، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « ليس بعد الموت مستعتب » وقال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع . . .
والدهر ليس بمعتب من يجزع
ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة ، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال : { وقضينا لهم قرناء } : أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا.
وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم.
وقيل : قدرنا لهم.
وقرناء : جمع قرين ، أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس؛ { فزينوا لهم } : أي حسنوا وقدروا في أنفسهم؛ { ما بين أيديهم } ، قال ابن عباس : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.
{ وما خلفهم } ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا.
وقال الكلبي : { ما بين أيديهم } : أعمالهم التي يشاهدونها ، { وما خلفهم } : ما هم عاملوه في المستقبل.
وقال ابن عطية : { ما بين أيديهم } ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء ، { وما خلفهم } : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد.
انتهى ، ملخصاً ، وهو شرح قول الحسن ، قال : { ما بين أيديهم } من أمر الدنيا ، { وما خلفهم } من أمر الآخرة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً } انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
{ وحق عليهم القول } : أي كلمة العذاب ، وهو القضاء المختم ، بأنهم معذبون.
{ في أمم } : أي في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو . . .
كاً ففي آخرين قد أفكوا
أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد.
وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في.
وموضع في { أمم } نصب على الحال ، أي كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في عليهم.
{ إنهم كانوا خاسرين } : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب.
{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا } : أي لا تصغوا ، { لهذا القرآن والغوا فيه } : إذا تلاه محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العالية : وقعوا فيه وعيبوه.
وقال غيره : كان الرسول عليه السلام إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر ، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا : متى قرأ محمد صلى الله عليه وسلم ، فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته ، وهذا الفعل هو اللغو.
وقرأ الجمهور والفراء : بفتح الغين مضارع لغى بكسرها؛ وبكر بن حبيب السهمي كذا في كتاب ابن عطية ، وفي كتاب اللوامح.
وأما في كتاب ابن خالويه ، فعبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى : بخلاف عنهما ، بضم الغين مضارع لغى بفتحها ، وهما لغتان ، أي ادخلوا فيه اللغو ، وهو اختلاف القول بما لا فائدة فيه.
وقال الأخفش : يقال لغا يلغى بفتح الغين وقياسه الضم ، لكنه فتح لأجل حرف الحلق ، فالقراءة الأولى من يلغى.
والثانية من يلغو.
وقال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به ، فيكون فيه بمعنى به ، أي ارموا به وانبذوه.
{ لعلكم تغلبون } : أي تطمسون أمره وتميتون ذكره.
{ فلنذيقن الذين كفروا } : وعيد شديد لقريش ، والعذاب الشديد في الدنيا كوقعة بدر وغيرها ، والأسوأ يوم القيامة.
أقسم تعالى على الجملتين ، وشمل الذين كفروا القائلين والمخاطبين في قوله : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا }.
{ ذلك } : أي جزاؤهم في الآخرة ، فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف.
وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك ، وجزاء مبتدأ والنار خبره.
{ لهم فيها دار الخلد } : أي فكيف قيل فيها؟ والمعنى أنها دار الخلد ، كما قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } والرسول نفسه هو الأسوة ، وقال الشاعر :
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل . . .
والمعنى أن الله هو الحكم العدل ، ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه ، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة ، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقراً له ، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون }.
قال الزمخشري : إن جزاءهم بما كانوا يلغون فيها ، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
ولما رأى الكفار عظم ما حل بهم من عذاب النار ، سألوا من الله تعالى أن يريهم من كان سبب إغوائهم وإضلالهم.
والظاهر أن { اللذين } يراد بهما الجنس ، أي كل مغو من هذين النوعين ، وعن علي وقتادة : أنهما إبليس وقابيل ، إبليس سن الكفر ، وقابيل سن القتل بغير حق.
قيل : وهل يصح هذا القول؟ عن علي : وقابيل مؤمن عاص ، وإنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود ، وقد أصلح هذا القول بأن قال : طلب قابيل كل عاص من أهل الكبائر ، وطلب إبليس كل كافر ، ولفظ الآية ينبو عن هذا القول وعن إصلاحه ، وتقدم الخلاف في قراءة { أرنا } في قوله : { وأرنا مناسكنا } وقال الزمخشري : حكوا عن الخليل أنك إذا قلت : أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى : بصرنيه ، وإذا قلته بالسكون ، فهو استعطاء معناه : أعطني ثوبك؛ ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء ، وأصله الإحضار. انتهى.
{ نجعلهما تحت أقدامنا } : يريدون في أسفل طبقة من النار ، وهي أشد عذاباً ، وهي درك المنافقين.
وتشديد النون في اللذين واللتين وهذين وهاتين حالة كونهما بالياء لا تجيزه البصريون ، والقراءة بذلك في السبعة حجة عليهم.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قال ابن عباس : نزلت في الصديق ، قال المشركون : ربنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عنده.
واليهود : ربنا الله ، والعزير ابنه ، ومحمد ليس بنبي ، فلم يستقيما ، والصديق قال : ربنا الله وحده لا شريك له ، ومحمد عبده ورسوله ، فاستقام.
ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار ، أردفه بوعيد المؤمنين؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط ، بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني.
وبدأ أولاً بالذي هو أمكن في الإسلام ، وهو العلم بربوبية الله ، ثم أتبعه بالعمل الصالح ، وهو الاستقامة.
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي ، قلت للنبي ، صلى الله عليه وسلم : أخبرني بأمر أعتصم به ، قال : " قل ربي الله ثم استقم " قلت : ما أخوف ما تخاف علي ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال : «هذا» وعن الصديق : ثم استقاموا على التوحيد ، لم يضطرب إيمانهم.
وعن عمر : استقاموا لله بطاعته لم يرو غواروا روغان الثعالب.
وعن عثمان : أخلصوا العمل.
وعن علي : أدوا الفرائض.
وقال أبو العالية ، والسدي : استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت.
وقال الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا.
وقال الفضل : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
وقال الربيع : أعرضوا عن ما سوى الله تعالى.
وقيل : استقاموا فعلا كما استقاموا قولاً.
وعن الحسن وقتادة وجماعة : استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي.
قال الزمخشري : وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه ، لأن الاستقامة لها الشأن كله ، ونحوه قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } والمعنى : ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته.
وعن الصديق رضي الله عنه أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشده ، قالوا : فما تقول؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. انتهى.
{ تتنزل عليهم الملائكة } ، قال مجاهد والسدي : عند الموت.
وقال مقاتل : عند البعث.
وقيل : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث.
وأن ناصبة للمضارع ، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم ، قال معناه الحوفي وأبو البقاء.
وقال الزمخشري : بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة ، وأصله بأنه لا تخافوا ، والهاء ضمير الشأن. انتهى.
وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوماً بلا الناهية ، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض ، ولذلك قال مجاهد : لا تخافوا ما تقدرون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم.
وقال عطاء بن أبي رباح : { لا تخافوا } رد ثوابكم ، فإنه مقبول؛ { ولا تحزنوا } على ذنوبكم ، فإني أغفرها لكم.
وفي قراءة عبد الله : لا تخافوا ، بإسقاط أن ، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين : لا تخافوا ولا تحزنوا.
ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه ، ثم لما وقع الأمن لهم ، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة ، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير.
{ نحن أوليائكم } : الظاهر أنه من كلام الملائكة ، أي يقولون لهم.
وفي قراءة عبد الله : يكون من جملة المقول قبل ، أي نحن كنا أولياءكم في الدنيا ، ونحن أولياؤكم في الآخرة.
لما كان أولياء الكفار قرناؤهم من الشياطين ، كان أولياء المؤمنين الملائكة.
وقال السدي : نحن حفظتكم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة.
وقيل : { نحن أوليائكم } من كلام الله تعالى ، أولياؤكم بالكفاية والهداية ، { ولكم فيها } : الضمير عائد على الآخرة ، قاله ابن عطية.
وقال الحوفي : على الجنة ، { ما تشتهي أنفسكم } من الملاذ ، { ولكم فيها ما تدعون }.
قال مقاتل : ما تتمنون.
وقيل : ما تريدون.
وقال ابن عيسى : ما تدعي أنه لك ، فهو لك بحكم ربك.
قال ابن عطية : ما تطلبون.
{ نزلاً من غفور رحيم } النزل : الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف ، قال معناه ابن عطاء ، فيكون نزلاً حالاً ، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولاً لا نزلاً ، وجعله بعضهم مصدراً لأنزل.
وقيل نزل جمع نازل ، كشارف وشرف ، فينتصب على الحال ، أي نازلين ، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون.
وقال الحسن : معنى نزلاً منا ، وقيل : ثواباً.
وقرأ أبو حيوة : نزلاً بإسكان الزاي.
ولما تقدم قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } ، ذكر من دعا إلى ذلك فقال : { ومن أحسن قولاً } : أي لا أحد أحسن قولاً ممن يدعو إلى توحيد الله ، ويعمل العمل الصالح ، ويصرح أنه من المستسلمين لأمر الله المنقادين له ، والظاهر العموم في كل داع إلى الله ، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة.
وقيل بالخصوص ، فقال ابن عباس : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا إلى الإسلام ، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه ، وجعل الإسلام نحلة.
وعنه أيضاً : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة ، وقيس بن أبي حازم ، وعكرمة ، ومجاهد : نزلت في المؤذنين ، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية ، وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف.
ولم يكن الأذان بمكة ، إنما شرع بالمدينة ، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة.
وقال زيد بن علي : دعا إلى الله بالسيف ، وهذا ، والله أعلم ، هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية.
وكان زيد هذا عالماً بكتاب الله ، وقد وقفت على جملة من تفسيره كتاب الله وإلقائه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك ، وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر ، يقال : إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم ، رحمهما الله ورضي عنهما.
وقال أبو العالية : { وعمل صالحاً } : صلى بين الأذان والإقامة.
وقال عكرمة : صلى وصام.
وقال الكلبي : أدّى الفرائض.
وقال مجاهد : هي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاثة أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام ، عاملاً بالخير داعياً إليه ، ومآلهم إلى طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة إلى دين الإسلام.
انتهى ، ويعني بذلك المعتزلة ، يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد ، ويوجد ذلك في أشعارهم ، كما قال ابن أبي الحديد المعتزلي ، صاحب كتاب ( الفلك الدائر في الرد على كتاب المثل السائر ) ، قال من كلامه : أنشدنا عنه الإمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله تعالى :
لولا ثلاث لم أخف صرعتي . . .
ليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل في . . .
كل مقام باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعاً . . .
بخلوة أحلى من الشهد
وأن أصول الدهر كبراً على . . .
كل لئيم أصعر الخد
لذاك أهوى لا فتاة ولاخمر . . .
ولا ذي ميعة نهد
{ وقال إنني من المسلمين } : ليس المعنى أنه تكلم بهذا ، بل جعل الإسلام معتقده.
كما تقول : هذا قول الشافعي ، أي مذهبه.
وقرأ ابن أبي عبلة ، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال : وقال إني ، بنون مشددة واحدة؛ والجمهور : إنني بها وبنون الوقاية.
وقال أبو بكر بن العربي : لم يشترط إلا إن شاء الله ، ففيه رد على من يقول : أنا مسلم إن شاء الله.
ولما ذكر تعالى أنه لا أحد أحسن ممن دعا إلى الله ، ذكر ما يترتب على ذلك من حسن الأخلاق ، وأن الداعي إلى الله قد يجافيه المدعو ، فينبغي أن يرفق به ويتلطف في إيصال الخير فيه.
قيل : ونزلت في أبي سفيان بن حرب ، وكان عدوًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار ولياً مصافياً.
وقال ابن عباس : الحسنة لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك.
وقال الكلبي : الدعوتان إليهما.
وقال الضحاك : الحلم والفحش.
وعن علي : حب الرسول وآله وبغضهم.
وقيل : الصبر والنفور.
وقيل : المداراة والغلظة.
وقيل : العفو والاقتصاد ، وهذه أمثلة للحسنة والسيئة ، لا على طريق الحصر.
ولما تفاوتت الحسنة والسيئة ، أمر أن يدفع السيئة بالأحسن ، وذلك مبالغة ، ولم يقل : ادفع بالحسنة السيئة ، لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالحسن ، أي وإذا فعلت ذلك ، { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } صار لك كالولي : الصديق الخالص الصداقة ، ولا في قوله : { ولا السيئة } زائدة للتوكيد ، كهي في قوله : { ولا الظل ولا الحرور } لأن استوى لا يكتفي بمفرد ، فإن إحدى الحسنة والسيئة جنس لم تكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا ، إذ يصير المعنى : ولا تستوي الحسنات ، إذ هي متفاوتات في أنفسها ، ولا السيئات لتفاوتها أيضاً.
قال ابن عطية : دخلت كأن للتشبيه ، لأن الذي عند عداوة لا يعود ولياً حميماً ، وإنما يحسن ظاهره ، فيشبه بذلك الولي الحميم ، وعن ابن عباس : { بالتي هي أحسن } : الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة.
وقال مجاهد ، وعطاء : السلام عند اللقاء.
انتهى ، أي هو مبدأ الدفع بالأحسن ، لأنه محصور فيه.
وعن مجاهد أيضاً : أعرض عن أذاهم.
وقال أبو فراس الحمداني :
يجني عليّ وأجنو صافحاً أبدا . . .
لا شيء أحسن من جان على جان
{ وما يلقاها } : الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن.
وقرأ طلحة بن مصرف ، وابن كثير في رواية : وما يلاقاها : من الملاقاة.
وقرأ الجمهور : من التلقي ، وكأن هذه الخصلة الشريفة غائبة ، فما يصادفها ويلقيها الله إلا لمن كان صابراً على الطاعات ، صارفاً عن الشهوات ، ذا حظ عظيم من خصال الخير ، قاله ابن عباس ، فيكون مدحاً؛ أو { ذو حظ عظيم } من ثواب الآخرة ، قاله قتادة ، فيكون وعداً.
وقيل : إلا ذو عقل.
وقيل : ذو خلق حسن ، وكرر { وما يلقاها } تأكيداً لهذه الفعلة الجميلة الجليلة.
وقيل : الضمير في يلقاها عائد على الجنة.
وحكى مكي : { وما يلقاها } : أي شهادة أن لا إله إلا الله ، وفيه بعد.
ولما أمر تعالى بدفع السيئة بالأحسن ، كان قد يعرض للمسلم في بعض الأوقات مقابلة من أساء بالسيئة ، فأمره ، إن عرض له ذلك ، أن يستعيذ بالله ، فإن ذلك من نزغ الشيطان ، وتقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر الأعراف.
ولما بين تعالى أن أحسن الأعمال والأقوال هو نظير هذه الآية الدعوة إلى الله ، أردفه بذكر الدلائل العلوية والسفلية ، وعلى قدرته الباهرة وحكمته البالغة وحجته القاطعة ، فبدأ بذكر الفلكيات بالليل والنهار ، وقدم ذكر الليل ، قيل تنبيهاً على أن الظلمة عدم والنور وجود ، وناسب ذكر الشمس بعد النهار ، لأنها سبب لتنويره ويظهر العالم فيه ، ولأنها أبلغ في التنوير من القمر ، ولأن القمر فيما يقولون مستفاد نوره من نور الشمس.
ثم نهى تعالى عن السجود لهما ، وأمر بالسجود للخالق تعالى.
وكان ناس يعبدون الشمس ، كما جاء في قصة بلقيس وقومها.
والضمير في { خلقهن } عائد على الليل والنهار والشمس والقمر.
قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى ، أي الإناث ، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن.
انتهى ، يريد ما لا يعقل من الذكر ، وكان ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك ، فإن الأفصح أن يكون كضمير الواحدة ، تقول : الأجذاع انكسرت على الأفصح ، والجذوع انكسرن على الأفصح.
والذي تقدّم في الآية ليس بجمع قلة ، أعني بلفظ واحد ، ولكنه ذكر أربعة متعاطفة ، فتنزلت منزلة الجمع المعبر عنها بلفظ واحد.
وقال الزمخشري : ولما قال : { ومن آياته } ، كن في معنى الآيات ، فقيل : { خلقهن }.
انتهى ، يعني أن التقدير والليل والنهار والشمس والقمر آيات من آياته ، فعاد الضمير على آيات الجمع المقدر في المجرور.
وقيل : يعود على الآيات المتقدم ذكرها.
وقيل : على الشمس والقمر ، والاثنان جمع ، وجمع ما لا يعقل يؤنث ، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً.
{ إن كنتم إياه تعبدون } : أي إن كنتم موحدين غير مشركين ، والسجدة عند الشافعي عند قوله : { تعبدون } ، وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها ، وعند أبي حنيفة عند قوله : { لا يسأمون } ، لأنها تمام المعنى ، وفي التحرير : كان علي وابن مسعود يسجدان عند { تعبدون }.
وقال ابن وهب والشافعي : عند { يسأمون } ، وبه قال أبو حنيفة ، وسجد عندها ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله ، وكذلك روي عن مسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن سيرين.
انتهى ملخصاً.
{ فإن استكبروا } : أي تعاظموا على اجتناب ما نهيت من السجود لهذين المحدثين المربوبين ، وامتثال ما أمرت به من السجود للخالق لهن؛ فإن الملائكة الذين هم عند الله بالمكانة والرتبة الشريفة ينزهونه عن ما لا يليق بكبريائه ، { وهم لا يسأمون } : أي لا يملون ذلك ، وهم خير منكم ، مع أنه تعالى غني عن عبادتكم وعبادتهم.
ولما ذكر شيئاً من الدلائل العلوية ، ذكر شيئاً من الدلائل السفلية فقال : { ومن أياته أنك ترى الأرض خاشعة } : أي غبراء دارسة ، كما قال :
ونؤى كجذم الحوض أبلم خاشع . . .
_@_استعير الخشوع لها ، وهو التذلل لما ظهر بها من القحط وعدم النبات وسوء العيش عنها ، بخلاف أن تكون معشبة وأشجاراً مزهرة ومثمرة ، فذلك هو حياتها.
وقال السدّي : خاشعة ميتة يابسة ، وتقدّم الكلام على قوله : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } تفسيراً وقراءة في أوائل سورة الحج.
{ إن الذين أحياها لموحي الموتى } : يرد الأرواح إلى الأجساد ، { إنه على كل شيء قدير } : لا يعجزه شيء تعلقت به إرادته.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
لما بين تعالى أن الدعاء إلى دين الله أعظم القربات ، وأنه يحصل ذلك بذكر دلائل التوحيد والعدل والبعث ، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويجادل ، فقال : { إن الذين يلحدون بآيتنا } ، وتقدم الكلام على الإلحاد في قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه ، وفي ذلك تهديد لهم.
وقال قتادة : هنا الإلحاد : التكذيب ، ومجاهد : المكاء والصفير واللغو.
وقال ابن عباس : وضع الكلام غير موضعه.
وقال أبو مالك : يميلون عن آياتنا.
وقال السدي : يعاندون رسلنا فيما جاءوا فيه من البينات والآيات.
ثم استفهم تقريراً : { أفمن يلقى في النار } ، بإلحاده في آياتنا ، { خير أم من يأتي آمناً } ، ولا اشتراك بين الإلقاء في النار والإتيان آمناً ، لكنه ، كما قلنا ، استفهام تقرير ، كما يقرر المناظر خصمه على وجهين ، أحدهما فاسد يرجو أن يقع في الفاسد فيتضح جهله ، ونبه بقوله : { يلقى في النار } على مستقر الأمر ، وهو الجنة ، وبقوله : { آمنا } على خوف الكافر وطول وجله ، وهذه الآية ، قال ابن بحر : عامة في كل كافر ومؤمن.
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان.
وقيل : فيه وفي عمار بن ياسر.
وقيل : فيه وفي عمر.
وقيل : في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب.
وقال الكلبي : وأبو جهل والرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما تقدم ذكر الإلحاد ، ناسب أن يتصل به من التقرير من اتصف به.
ولم يكن التركيب : أم من يأتي آمناً يوم القيامة كمن يلقي في النار ، كما قدم ما يشبهه في قوله : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } وكما جاء في سورة القتال : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء علمه } { اعلموا ما شئتم } : وعيد وتهديد بصيغة الأمر ، ولذا جاء { إنه بما تعملون بصير } فيجازيكم بأعمالكم.
{ إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } : هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم ، والذكر : القرآن هو بإجماع ، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف؟ فقيل : مذكور ، وهو قوله : { أولئك ينادون من مكان بعيد } ، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة.
سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال : لم أجد لها نفاذاً ، فقال له أبو عمرو : وإنه منك لقريب { أولئك ينادون }.
وقال الحوفي : ويرد على هذا القول كثرة الفصل ، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم ، وهو قوله : { والذين لا يؤمنون في آذناهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون }.
وقيل : محذوف ، وخبر إن يحذف لفهم المعنى.
وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو : معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به ، وإنه لكتاب ، فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان.
وقال قوم : تقديره معاندون أو هالكون.
وقال الكسائي : قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن ، وهو قوله : { أفمن يلقى في النار }.
انتهى ، كأنه يريد : دل عليه ما قبله ، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { إن الذين كفروا بالذكر } ؟ قلت : هو بدل من قوله : { إن الذين يلحدون في آياتنا }. انتهى.
ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف ، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه ، لأنه ادّعى أن قوله : { إن الذين كفروا بالذكر } بدل من قوله : { إن الذين يلحدون } ، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل ، فيكون التقدير : { إن الذين يلحدون في آياتنا } ، { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } لا يخفون علينا.
وقال ابن عطية : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد { حكيم حميد } ، وهو أشد إظهاراً ، لأن قوله : { وإنه لكتاب عزيز } داخل في صفة الذكر المكذب به ، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه.
انتهى ، وهو كلام حسن.
والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور ، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن ، وذلك في قوله : { لا يأتيه بالباطل } : أي الباطل منهم ، أي الكافرون به ، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم ، أي متى رامو فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه ، أو تكون أل عوضاً من الضمير على قول الكوفيين ، أي لا يأتيه باطلهم ، أو يكون الخبر قوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } ، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك.
ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل ، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك ، وفي الآخرة بالعذاب الدائم.
وغاية ما في هذين التوجهين حذف الضمير العائد على اسم إن ، وهو موجود ، نحو قوله : السمن منوان بدرهم : أي منوان منه والبركرّ بدرهم : أي كر منه.
وعن بعض نحاة الكوفة : الخبر في قوله : { وإنه لكتاب عزيز } ، وهذا لا يتعقل.
{ وإنه لكتاب عزيز } : جملة حالية ، كما تقول : جاء زيد وأن يده على رأسه ، أي كفروا به ، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب ، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع.
وقال ابن عباس : عزيز كريم على الله تعالى.
وقال مقاتل : ممتنع من الشيطان.
وقال السدي : غير مخلوق.
وقيل : وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله ، { لا يأتيه بالباطل } من جعل خبر إن محذوفاً ، أو قوله : { أولئك ينادون } ، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن ، والمعنى أن الباطل لا يتطرق إليه { من بين يديه ولا من خلفه } ، تمثيل : أي لا يجد الطعن سبيلاً إليه من جهة من الجهات ، فيتعلق به.
وأما ظهر من بعض الحمقى من الطعن على زعمهم ، ومن تأويل بعضهم له ، كالباطنية ، فقد رد عليهم علماء الإسلام وأظهروا حماقاتهم.
وقال قتادة : الباطل الشيطان ، واللفظ لا يخص الشيطان.
وقال ابن جبير والضحاك : { من بين يديه } : أي كتاب من قبله فيبطله ، ولا من بعده فيكون على هذا الباطل في معنى المبطل نحو : أورس النبات فهو وارس ، أي مورس ، أو يكون الباطل بمعنى المبطل مصدراً ، فيكون كالعافية.
وقيل : { من بين يديه } : أي قبل أن يتم نزوله ، { ولا من خلفه } : من بعد نزوله.
وقيل عكس هذا.
وقيل : { من بين يديه } : قبل أن ينزل ، لأن الأنبياء بشرت به ، فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك ، { ولا من خلفه } : بعد أن أنزل.
وقال الطبري : { من بين يديه } : لا يقدر ذو باطل أن يكيده بتغيير ولا تبديل ، { ولا من خلفه } : لا يستطيع ذو باطل أن يلحد فيه.
{ تنزيل } : أي هو تنزيل ، { من حكيم } : أي حاكم أو محكم لمعانية ، { حميد } : محمود على ما أسدى لعباده من تنزيل هذا الكتاب وغيره من النعم.
{ ما يقال لك } : يقال مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى ، كما تقدم تأويلها فيه ، أي ما يوحي إليك الله إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار ، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع.
وجوزوا على أن القائل هو الله أن يكون.
{ إن ربك } : تفسير لقوله : { ما قد قيل } ، فالمقول { إن ربك لذو مغفرة } للطائعين ، { وذو عقاب أليم } للعاصين ، وهذا التأويل فيه بعد ، لأنه حصر ما أوحى الله إليه وإلى الرسل في قوله : { إن ربك لذو مغفرة وذو غقاب أليم } ، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة.
فإذا أحذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحاً ، وكان قوله تعالى : { إن ربك } استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل.
ويحتمل أن يكون القائل الكفار ، أي مايقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل الله عليهم من الكتب.
ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم ، وفيه الترجئة بالغفران ، والزجر بالعقاب ، وهو وعظ وتهديد.
وقال قتادة : عزى الله نبيه وسلاه بقوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } ، ومثله كذلك : { ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته ، وأنهم لا يخفون عليه ، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم ، وقولهم : هل أنزل بلغة العجم؟ فقال : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } : أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب ، لم يتركوا الاعتراض ، و { لولا فصلت أياته } : أي بينت لنا ، وأوضحت حتى نفهمها.
وقرأ الجمهور : آعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي ، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين.
وقرأ الإخوان ، والأعمش ، وحفص : بهمزتين ، أي وقالوا منكرين : أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله : { أعجمي } ، ونحن عرب ما لنا وللعجمة.
وقال ابن عطية : لانهم ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن. انتهى.
ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن ، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } ، من اقتراحهم أن يكون أعجمياً ، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجمياً وعربياً.
وقرأ الحسن ، وأبو الاسود ، والجحدري ، وسلام ، والضحاك ، وابن عباس ، وابن عامر بخلاف عنهما : أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين ، فقيل معناه : أنهم قالوا : أعجمة وأعراب ، إن هذا لشاذ.
وقال ابن جبير معناه : لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً بفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب.
وقال صاحب اللوامح : لأنهم لما قالوا : { لولا فصلت آياته } ، أعادوا القول ثانياً فقالوا : { أعجمي } ، وأضمر المبتدأ ، أي هو أعجمي ، والقرآن ، أو الكلام ، أو نحوها ، والذي أتى به ، أو الرسول عربي ، كأنهم كانوا ينكرون ذلك.
وقرأ عمرو بن ميمون : أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا ، لأنهم لا يطلبون الحق.
وقال صاحب اللوامح : والعجمي المنسوب إلى العجم ، والياء للنسب على الحقيقة؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح ، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه ، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي ، والله أعلم.
انتهى ، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها ، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها.
تقول العرب : رجل أعجم ورجل أعجمي ، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة ، نحو : أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت : هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول : أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي؟ لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه ، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض ، ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر.
ألا تراك تقول : وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة ، اللباس طويل واللابس قصير؟ ولو قلت : واللابسة قصيرة ، جئت بما هو لكنة وفضول قول ، لإن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته ، إنما وقع في غرض وراءهما.
انتهى ، وهو حسن ، إلا أن فيه تكثيراً على عادته في حب الشقشقة والتفهيق.
{ قل هو } : أي القرآن ، { للذين آمنوا هدى وشفاء } ، هدى : أي إرشاد إلى الحق ، وشفاء : أي لما في الصدور من الظن والشك.
والظاهر أن { والذين لا يؤمنون } مبتدأ ، و { وفي آذانهم وقر } هو موضع الخبر.
وقال الزمخشري : هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين ، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم ، أي الكافرين ، ولا يضطر إلى إضمار هو ، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمماً عن سماعهم.
ثم أخبر أنه عليهم عمى ، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته ، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم ، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص ، وكون والذين في موضع جر عطفاً على قوله : { للذين آمنوا } ، والتقدير : وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف ، وهو من العطف على عاملين ، وفيه مذاهب كثيرة في النحو ، والمشهور منع ذلك.
وقرأ الجمهور : عمى بفتح الميم منوناً : مصدر عمى.
وقرأ ابن عمرو ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وابن هرمز : بكسر الميم وتنوينه.
وقال يعقوب القارىء ، وأبو حاتم : لا ندري نونوا أم فتحوا الياء ، على أنه فعل ماض وبغير تنوين ، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس.
والظاهر أن الضمير في { وهو عليهم } عائد على القرآن ، وقيل : يعود على الوقر.
{ أولئك } إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ومن جعله خبراً ، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم.
{ ينادون من مكان بعيد } ، قيل : هو حقيقة.
قال الضحاك : ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب.
وقال علي ومجاهد : استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادي من بعد ، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه.
وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من بعيد ، أي كأنه ينادي من موضع بعيد ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه.
وحكى النقاش : كأنما ينادون من السماء.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } تسلية للرسول في كون قومه اضطربوا فيما جاء به من الذكر ، فذكر أن موسى عليه السلام أوتي الكتاب ، وهو التوراة؛ فاختلف فيه.
وتقدم شرح هذه الآية في أواخر سورة هود عليه السلام ، والكلام على نظير { وما ربك بظلام للعبيد } في قوله في سورة الحج : { وأن الله ليس بظلام للعبيد.
}
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
لما ذكر تعالى { من عمل صالحاً } الآية ، كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة ، وكأن سائلاً قال : ومتى ذلك؟ فقيل : لا يعلمها إلا الله ، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعين وقتها ، وإنما يرد ذلك إلى الله.
ثم ذكر سعة علمه وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى.
وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحسن بخلاف عنه؛ ونافع ، وابن عامر ، في غير رواية : أي جلية؛ والمفضل ، وحفص ، وابن مقسم : { من ثمرات } على الجمع.
وقرأ باقي السبعة ، والحسن في رواية طلحة والأعمش : بالإفراد.
ولما كان ما يخرج من أكمام الشجرة وما تحمل الإنات وتضعه هو إيجاد أشياء بعد العدم ، ناسب أن يذكر مع علم الساعة ، إذ في ذلك دليل على البعث ، إذ هو إعادة بعد إعدام ، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم ، وسؤالهم سؤال الوتبيخ فقال : { ويوم يناديهم أين شركائي } : أي الذين نسبتموهم إليّ وزعمتم أنهم شركاء لي ، وفي ذلك تهكم بهم وتقريع.
والضمير في يناديهم عام في كل من عبد غير الله ، فيندرج فيه عباد الأوثان.
{ قالوا آذناك } : أي أعلمناك ، قال الشاعر :
آذنتنا ببينها أسماء . . .
رب ثاو يملّ منه الثواء
وقال ابن عباس : أسمعناك ، كأنه استبعد الإعلام لله ، لأن أهل القيامة يعلمون أن الله يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالإعلام في حقه محال.
والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المنادين ، لأنهم المحدث معهم.
{ ما منا } أحد اليوم ، وقد أبصرنا وسمعنا.
يشهد أن لك شريكاً ، بل نحن موحدون لك ، وما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم ، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ.
وقيل : الضمير في قالوا عائد على الشركاء ، أي قالت الشركاء : { ما منا من شهيد } أضافوا إلينا من الشرك ، وآذناك معلق لأنه بمعنى الإعلام.
والجملة من قوله : { ما منا من شهيد } في موضع المفعول.
وفي تعليق باب أعلم رأينا خلافه ، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب.
والظاهر أن قولهم : { آذناك } إنشاء ، كقولك : أقسمت لأضربن زيداً ، وإن كان إخباراً سابقاً ، فتكون إعادة السؤال توبيخاً لهم.
{ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } : أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة ، أو { وضل عنهم } : أي تلفت أصنامهم وتلاشت ، فلم يجدوا منها نصراً ولا شفاعة ، { وظنوا } : أي أيقنوا.
قال السدي : { ما لهم من محيص } : أي من حيدة ورواغ من العذاب.
والظاهر أن ظنوا معلقة ، والجملة المنفية في موضع مفعولي ظنوا.
وقيل : تم الكلام عند قوله : { وظنوا } ، أي وترجح عندهم أن قولهم : { ما منا من شهيد } منجاة لهم ، أو أمر يموهون به.
والجملة بعد ذلك مستأنفة ، أي يكون لهم منجماً ، أو موضع روغان.
{ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } : هذه الآيات نزلت في كفار ، قيل : في الوليد بن المغيرة؛ وقيل : في عتبة بن ربيعة ، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير ، أي من طلب السعة والنعمة ودعاء مصدر مضاف للمفعول.
وقرأ عبد الله : من دعاء بالخير ، بباء داخلة على الخير ، وفاعل المصدر محذوف تقديره : من دعاء للخير ، وهو وإن مسه الشر ، أي الفقر والضيق ، { فيئوس } : أي فهو يؤوس قنوط ، وأتى بهما صيغتي مبالغة.
واليأس من صفة القلب ، وهو أن يقطع رجاءه من الخير؛ والقنوط : أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر.
وبدأ بصيغة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإنكسار.
{ ولئن آذقناه رحمة منا } : سمي النعمة رحمة ، إذ هي من آثار رحمة الله.
{ من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي } : أي بسعيي واجتهادي ، ولا يراها أنها من الله ، أو هذا لي لا يزول عني.
{ وما أظن الساعة قائمة } : أي ظننا أننا لا نبعث ، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع ، كما قال تعالى حكاية عنهم : { إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } { ولئن رجعت إلى ربي } : ولئن كان كما أخبرت الرسل ، { إن لي عنده } : أي عند الله ، { للحسنى } : أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، كما أنعم عليّ في الدنيا ، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي عنده على اسم إن ، وتدخل لام التأكيد عليه أيضاً ، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل.
ولم يقولوا للحسنة ، أي الحالة الحسنة.
وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم : للكافر أمنيتان ، أما في الدنيا فهذه { إن لي عنده للحسنى } ، وأما في الآخرة { يا ليتني كنت تراباً }.
{ لفننبئن الذين كفروا بما عملوا } من الأفعال السيئة ، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة.
{ ولنذيقنهم من عذاب غليظ } في مقابلة { إن لي عنده للحسنى }.
وكني بغليظ : العذاب عن شدته.
{ وإذا أنعمنا } : تقدم الكلام على نظيره هذه الجملة في { سبحان } إلا أن في أواخر تلك كان يؤوساً ، وآخر هذه { فذو دعاء عريض } : أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره.
والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة.
يقال : أطال فلان في الظلم ، وأعرض في الدعاء إذا كثر ، أي فذو تضرع واستغاثة.
وذكر تعالى في هذه الآية نوعاً من طغيان الإنسان ، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ، وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله وتضرع.
{ قل أرأيتم إن كان } : أي القرآن ، { من عند الله } : أبرزه في صورة الاحتمال ، وهو من عند الله بلا شك ، ولكنه تنزل معهم في الخطاب.
والضمير في { أرأيتم } لكفار قريش.
وتقدم أن معنى أرأيتم : أخبروني عن حالكم إن كان هذا القرآن من عند الله ، وكفرتم به وشاققتم في اتباعه.
{ من أضل منكم } ، إذ أنتم المشاقون فيه والمعرضون عنه والمستهزئون بآيات الله.
وتقدم أن أرأيتم هذه تتعدى إلى مفعول مذكور ، أو محذوف ، وإلى ثانٍ الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية.
فالمفعول الأول محذوف تقديره : أرأيتم أنفسكم ، والثاني هو جملة الاستفهام ، إذ معناه : من أضل منكم أيها الكفار ، إذ مآلكم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.
ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال : { سنريهم آياتنا في الآفاق }.
قال أبو المنهال ، والسدي ، وجماعة : هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر.
{ وفي أنفسهم } : أراد به فتح مكة ، وتضمن ذلك الإخبار بالغيب ، ووقع كما أخبر.
وقال الضحاك ، وقتادة : { في الآفاق } : ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً ، { وفي أنفسهم } : يوم بدر.
وقال عطاء ، وابن زيد : في آفاق السماء ، وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك ، وفي أنفسهم عبرة الإنسان بجمسه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك.
ونبهوا بهذين القولين عن لفظ سنريهم ، لأن هلاك الأمم المكذبة قديماً ، وآيات الشمس والقمر وغير ذلك ، قد كان ذلك كله مريباً لهم ، فالقول الأول أرجح.
وأخذ الزمخشري هذا القول وذيله فقال : يعني ما يسر الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللخلفاء من بعده ، وأنصار دينه في آفاق الدنيا ، وبلاد المشرق والمغرب عموماً ، وفي ناحية العرب خصوصاً من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلق الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أموراً خارجة عن المعهود خارقة للعادة ، ونشر دعوة الإسلام في الأقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها ، والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدوّنة في مشاهد أهله ، وأيامهم على عجائب لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علماً من أعلام الله وآية من آياته تقوى معها النفس ويزداد بها الإيمان ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر خبيث مغالط نفسه.
انتهى ما كتبناه مقتصراً عليه.
{ حتى يتبين لهم أنه } : أي القرآن ، وما تضمنه من الشرع هو الحق ، إذ وقع وفق ما أخبر به من الغيب ، و { بربك } : الباء زائد ، التقدير : أوَلم يكفك أو يكفهم ربك ، و { أنه على كل شيء شهيد } بدل من ربك.
أما حالة كونه مجروراً بالباء ، فيكون بدلاً على اللفظ.
وأما حالة مراعاة الموضع ، فيكون بدلاً على الموضع ، وقيل : إنه على إضمار الحرف أي أوَلم يكف ربك بشهادته ، فحذف الحرف ، وموضع أن على الخلاف ، أهو في موضع نصب أو في موضع جر؟ ويبعد قول من جعل بربك في موضع نصب ، وفاعل كفى إن وما بعدها ، والتقدير عنده : أوَلم يكف ربك شهادته؟ وقرىء : إن بكسر الهمزة على إضمار القول ، وألا استفتاح تنبه السامع على ما يقال.
وقرأ السلمي والحسن : في مرية بضم الميم ، وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلاً ، فهو يجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر.
وقال ابن عباس : مكية إلا أربع آيات من قوله : { قل لا أسلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } إلى آخر الأربع آيات ، فإنها نزلت بالمدينة.
وقال مقاتل : فيها مدني قوله : { ذلك الذين يبشر الله عباده } الى { الصدور }.
ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال : { قل أرأيتم إن كان من عند الله } الآية ، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال.
لما كفروا به قال هنا : { كذلك } ، أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء ، { يوحى إليك } : أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع ، يتعهدك وقتاً بعد وقت.
وذكر المفسرون في { حم عسق } أقوالاً مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح ، ضربنا عن ذكرها صفحاً.
وقرأ الجمهور : يوحي مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة ، والأعشى عن أبي بكر ، وأبان : نوحي بنون العظمة؛ ومجاهد ، وابن وكثير ، وعباس ، ومحبوب ، كلاهما عن أبي عمرو : يوحي مبنياً للمفعول؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحي ، أو بالابتداء ، التقدير : الله العزيز الحكيم الموحي؛ وعلى قراءة نوحي بالنون ، يكون { الله العزيز الحكيم } مبتدأ وخبراً.
ويوحي ، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله : { وإلذين من قبلك } ، أو يقرأ على موضوعه ، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره : وأوحي إلى الذين من قبلك.
وتقدم الكلام على { تكاد السموات يتفطرن } في سورة مريم قراءة وتفسيراً.
وقال الزمخشري : وروى يونس عن أبي عمر وقراءة عربية : تتفطرن بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن. انتهى.
والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل ، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القراآت له ما نصب : تفطرن بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمرو.
وقال ابن خالويه : هذا حرف نادر ، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث.
لا يقال : النساء تقمن ، ولكن يقمن ، والوالدات يرضعن.
قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشممن ، فأنكرناه ، فقد قواه ، لأن هذا كلام ابن خالويه.
فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم ، وإن كان في بعضها بتاء مع النون ، كان موافقاً لقول ابن خالويه ، وكان بتاءين تحريفاً من النساخ.
وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين.
والظاهر عود الضمير في { فوقهن } على { السموات }.
قال ابن عطية : من أعلاهن.
وقال الزمخشري : ينفطرن من علو شأن الله تعالى وعظمته ، ويدل عليه مجيئه بعد { العلي العظيم }.
وقيل : من دعائهم له ولداً ، كقوله : { تكاد الصمات يتفطرن منه } فإن قلت : لم قال { من فوقهن } ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات ، وهي العرض والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : { يتفطرن من فوقهن } : أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية.
وقال جماعة ، منهم الحوفي ، قال : { من فوقهن } ، والهاء والنون كناية عن الأرضين. انتهى.
{ من فوقهن } متعلق يتفطرن ، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل.
وقال علي بن سليمان الأخفش : الضمير للكفار ، والمعنى : من فوق الفرق والجماعات الملحدة ، أي من أجل أقوالها. انتهى.
فهذه الآية كالذي في سورة مريم ، واستبعد مكي هذا القول ، قال : لا يجوز في الذكور من بني آدم ، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي.
قال علي بن سليمان : من فوق الفرق والجماعات ، وظاهر الملائكة العموم.
وقال مقاتل : حملة العرش والتسبيح ، قيل : قولهم سبحان الله ، وقيل : يهللون؛ والظاهر يستغفرون طلب الغفران ، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله : { ويستغفرون للذين آمنوا } قاله السدي.
وقيل : عام.
ومعنى الاستغفار : طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة ، كأنهم يقولون : اللهم اهد أهل الأرض ، فاغفر لهم.
ويدل عليه وصفه بالغفران والحرمة والاستفتاح.
وقال الزمخشري : ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم : طلب الحلم والغفران في قوله : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } ، إلى أن قال : { إنه كان حليماً غفوراً } وقوله : { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } والمراد : الحلم عنهم ، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاماً. انتهى.
وتكلم أبو عبد الله الرازي في قوله : { تكاد السموات } كلاماً خارجاً عن مناحي مفهومات العرب ، منتزعاً من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم ، يوقف على ذلك فى كتابه.
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء } : أي أصناماً وأوثاناً ، { الله حفيظ عليهم } : أي على أعمالهم ومجازيهم عليها ، { وما أنت عليهم بوكيل } : أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم.
وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{ وكذلك } : أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء ، إنك لست بوكيل عليهم ، { أوحينا إليك قرآناً عربياً }.
والظاهر أن { قرآناً } مفعول { أوحينا }.
وقال الزمخشري : الكاف مفعول به ، أي أوحيناه إليك ، وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك ، إذ نزل بلسانك. انتهى.
فاستعمل الكاف اسماً في الكلام ، وهو مذهب الأخفش.
{ لتنذر أم القرى } : مكة ، أي أهل أم القرى ، وكذلك المفعول الأول محذوف ، والثاني هو : { يوم الجمع } : أي اجتماع الخلائق ، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين ، أو اجتماع الأرواح بالأجساد ، أو أهل الأرض بأهل السماء ، أو الناس بأعمالهم ، أقوال أربعة.
لينذر بياء الغيبة ، أي لينذر القرآن.
{ لا ريب فيه } : أي لا شك في وقوعه.
وقال الزمخشري : { لا ريب فيه } : اعتراض لا محالة. انتهى.
ولا يظهر أنه اعتراض ، أعني صناعياً ، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب.
وقرأ الجمهور : { فريق } بالرفع فيهما ، أي هم فريق أو منهم فريق.
وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما ، أي افترقوا ، فريقاً في كذا ، وفريقاً في كذا؛ ويدل على الافتراق : الاجتماع المفهوم من يوم الجمع.
{ ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة } : يعني من إيمان أو كفر ، قال معناه الضحاك ، وهو قول أهل السنة ، وذلك تسلية للرسول.
كما كان يقاسيه من كفر قومه ، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته ، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته.
وقال الزمخشري : { لجعلهم أمة واحدة } : أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه ، كقوله : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وقوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } ، وذكر ما ظنه استدلالاً على ذلك ، وهو على طريق الاعتزال.
وقال أنس بن مالك : { في رحمته } : في دين الإسلام.
{ أم اتخذوا من دونه أولياء } ، أم بمعنى بل ، للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون الله.
وقيل : أم بمعنى الهمزة فقط ، وتقدّم الكلام على مثل هذا ، حيث جاءت أم المنقطعة ، والمعنى : اتخذوا أولياء دون الله ، وليسوا بأولياء حقيقة ، فالله هو الولي ، والذي يجب أن يتولى وحده ، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم.
ولما أخبر أنه هو الولي ، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره ، وهو إحياء الموتى.
ولما ذكر هذا الوصف ، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به.
وقال الزمخشري : في قوله : { فالله هو الولي } ، والفاء في قوله : { فالله هو الولي } جواب شرط مقدر ، كأنه قيل : بعد إنكار كل ولي سواه ، وإن أراد ولياً بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولي سواه. انتهى.
ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف ، والكلام يتم بدونه.
{ وما اختلفتم فيه من شيء } : هذا حكاية لقول الرسول ، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك ، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى الله ، لا إليّ ، ولفظة من شيء تدل على العموم.
وقيل : من شيء من الخصومات ، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره ، كقوله : { وإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول } وقيل : { من شيء } : من تأويل آية واشتبه عليكم ، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب الله ، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم ، كمعرفة الروح.
وقال الزمخشري : أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين ، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله ، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين.
{ ذلكم } : الحكم بينكم هو { ربي عليه توكلت } في رد كيد أعداء الدين ، وإليه أرجع في كفاية شرهم.
انتهى.
وقرأ الجمهور : { فاطر } بالرفع ، أي هو فاطر ، أو خبر بعد خبر كقوله : { ذلكم }.
وقرأ زيد بن عليّ : فاطر بالجر ، صفة لقوله : { إلى الله } ، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف.
{ جعل لكم من أنفسكم } : أي من جنس أنفسكم ، أي آدميات ، { أزواجاً } : إناثاً ، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجاً له خلقاً لنا ، { ومن الأنعام أزواجاً } : أي أنواعاً كثيرة ، ذكوراً وإناثاً ، أو أزواجاً إناثاً.
{ يذرؤكم فيه } ، قال ابن عباس : أي يجعل لكم فيه معيشية تعيشون بها.
وقال ابن زيد : يرزقكم فيه ، وهو قريب من القول قبله.
وقال مجاهد : يخلقكم في بطون الإناث.
وقال ابن زيد أيضاً : يذرأكم فيما خلق من السموات والأرض.
وقال الزجاج : يكثركم به ، أي فيه ، أي يكثركم في خلقكم أزواجاً.
وقال عليّ بن سليمان : ينقلكم من حال إلى حال.
وقال ابن عطية : الضمير في فيه للجعل ، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل ، كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه ، قال : ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.
وقال الزمخشري : { يذرؤكم } : يكثركم ، يقال ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم ، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.
والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيه مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين. انتهى.
وقوله : وهي من الأحكام ذات العلتين ، اصطلاح غريب ، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول : أنت وزيد تقومان؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا ، فتقول : الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم.
قال الزمخشري؛ فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل : يذرؤكم به؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير.
ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير؟ كما قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } انتهى.
{ ليس كمثله شيء } ، تقول العرب : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون به المخاطب ، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفياً عن الشخص ، وهو من باب المبالغة ، ومثل الآية قول أوس بن حجر :
ليس كمثل الفتى زهير . . .
خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر :
وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر . . .
وقال آخر :
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم . . .
ما إن كمثلهم في الناس من أحد
فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء.
وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلاً زائدة للتوكيد كالكاف في قوله : _@_
فأصبحت مثل كعصف مأكول . . .
وقوله_@_ :
وصاليات ككما يؤثفين . . .
ليس بجيد ، لأن مثلاً اسم ، والأسماء لا تزاد ، بخلاف الكاف ، فإنها حرف ، فتصلح للزيادة.
ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلان يده مبسوطة ، يريد أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له ، كقوله : { بل يداه مبسوطتان } فكما جعلت ذلك كناية عن الجواد فيمن لا يد له ، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذوات في من لا مثل له.
ويحتمل أيضاً أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك سائغ ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة ، فيكون المعنى : ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره ، وهذا محمل سهل ، والوجه الأول أغوص.
قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثال مقام النفس ، فيقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي أنا لا يقال لي هذا. انتهى.
فقد صار ذلك كناية عن الذات ، فلا فرق بين قولك : ليس كالله شيء ، أو ليس كمثل الله شيء.
وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلاً منهما يراد به التشبيه ، وذلك محال ، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى ، وهو محال.
{ وهو السميع } لأقوال الخلق ، { البصير } لأعمالهم.
وتقدم تفسير : { له مقاليد السموات والأرض } في سورة الزمر؛ وقرىء : { ويقدر } : أي يضيق.
{ إنه بكل شيء عليم } : أي يوسع لمن يشاء ، ويضيق على من يشاء.
وقال الزمخشري : فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة ، أتبعه بذكر نعمه العامة ، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها ، من توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر ، والجزاء فيه.
ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : { ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك } ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته ، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم ، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق.
والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام؛ ويقال : إن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم.
وقال ابن عباس : اختار ، ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الإعراب.
وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما؛ وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده.
ثم نهى عن التفرقة فيه ، لأن التفرق سبب للهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة.
{ كبر على المشركين } : أي عظم وشق ، { ما تدعوهم إليه } من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين.
{ الله يجتبي } : يجتلب ويجمع ، { إليه من يشاء } هدايته ، وهذا تسلية للرسول.
وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولاً إلى عباده ، { ويهدي إليه من ينيب } : يرجع إلى طاعته عن كفره.
وقال الزمخشري : { من يشاء } : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفة.
انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ، ولم تفرض ، له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبهاً على بعض الأمور ، مقتصراً على ضرورات المعاش.
واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات.
ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروات؛ فهذا كله مشروع ديناً واحداً ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } : أي اجعلوه قائماً ، يريد دائماً مستمراً محفوظاً مستقراً من غير خلاف فيه ولا اضطراب.
انتهى.
وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته ، فهو إقامة الدين.
وقال أبو العالية : إقامة الدين : الأخلاص لله وعبادته ، { ولا تتفرقوا فيه } ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه.
وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق.
وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.
{ وما تفرقوا } ، قال ابن عباس : يعني قرشياً ، والعلم : محمد عليه الصلاة والسلام ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، كما قال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير } يريدون نبياً.
وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء ، جاءهم العلم ، فطال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم.
وقال ابن عباس أيضاً : عائد على أهل الكتاب ، والمشركين دليله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } قال المشركون : لم خص بالنبوة ، واليهود والنصارى حسدوه.
{ ولولا كلمة } : أي عدة التأخر إلى يوم القيامة ، فحينئذ يقع الجزاء ، { لقضي بينهم } : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة.
وقال الزجاج : الكلمة قوله : { بل الساعة موعدهم } { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } : هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { من بعدهم } : أي من بعد أسلافهم ، أو هم المشركون ، أورثوا الكتاب من بعدما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
وقرأ زيد بن علي : ورثوا مبنياً للمفعول مشدد الراء ، { لفي شك منه } : أي من كتابهم ، أو من القرآن ، أو مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أو من الدين الذي وصى به نوحاً.
ولما تقدم شيئآن : الأمر بإقامة الدين ، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك ، احتمل قوله.
{ فلذلك } ، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين ، أي فادع لدين الله وإقامته ، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل ، لأن دعا يتعدى باللام ، قال الشاعر :
دعوت لما نابني مسوراً . . .
فلبى فلبى يدي مسورا
واحتمل أن تكون اللام للعلة ، أي فلأجل ذلك التفرق.
ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً ، { فادع } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ، { واستقم } : أي دم على الاستقامة ، وتقدم الكلام على { فاستقم كما أمرت } وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود.
{ ولا تتبع أهواءهم } المختلفة الباطلة ، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض.
{ وأمرت لأعدل بينهم } ، قيل : إن المعنى : وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في ايصال ما أمرت به إليكم ، لا أخص شخصاً بشيء دون شخص ، فالشريعة واحدة ، والأحكام مشترك فيها.
وقيل : لاعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم.
{ لا حجة بيننا وبينكم } : أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون ، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك.
{ الله يجمع بيننا } وبينكم ، أي يوم القيامة ، فيفصل بيننا.
وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{ والذين يحاجون في الله } : أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم ، بل قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم؛ فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك.
وقيل : نزلت في قريش ، كانوا يجادلون في هذا المعنى ، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية.
واستجيب مبني للمفعول ، فقيل : المعنى من بعدما استجاب الناس لله ، أي لدينه ودخلوا فيه.
وقيل : من بعدما استجاب الله له ، أي لرسوله ودينه ، بان نصره يوم بدر وظهر دينه.
{ حجتهم داحضة } أي باطلة لا ثبوت لها.
ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام ، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب ، والكتاب جنس يراد به الكتب الآلهية.
{ والميزان } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو المعدل؛ وعن ابن مجاهد : هو هنا الميزان الذي بإيدي الناس ، وهذا مندرج في العدل.
{ وما يدريك } أيها المخاطب ، { لعل الساعة قريب } ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف : أي لعل مجيء الساعة؛ ولعل الساعة في موضع معمول ، وما يدريك ، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء : { وإن أدري لعله فتنة لكم } وتوافقت هذه الجملة مع قوله : { الله الذين أنزل الكتاب بالحق والميزان }.
الساعة : يوم الحساب ، ووضع الموازين : القسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم.
{ يستعجل لها الذين لا يؤمنون } بها بطلب وقوعها عاجلة ، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها ، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم ، أي هي مما لا يقع عندهم.
{ إلا إن الذين يمارون } ويلحون في أمر الساعة ، { لفي ظلال بعيد } عن الحق ، لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله ، ودل عليه الكتاب المعجز ، فوجب الإيمان به.
{ الله لطيف بعباده } : أي بر بعباده المؤمنين ، ومن سبق له الخلود في الدنيا ، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف ، إنما هو إملاء ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام.
وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً.
وقال الزمخشري : يوصل بره إلى جميعهم ، { يرزق من يشاء } : أي من يشاء يرزقه شيئاً خاصاً ، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص ، وكل منهم مرزوق ، وإن اختلف الرزق ، { وهو القوي } : أي البالغ القوة ، وهي القدرة { العزيز } : الغالب الذي لا يغلب.
ولما ذكر تعالى الرزق ، ذكر حديث الكسب.
ولما كان الحرث في الأرض أصلاً من أصول المكاسب ، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة ، أي من كان يريد عمل الآخرة ، وسعى لها سعيها ، { نزد له في حرثه } : أي جزاء حرثه أي من جزاء حرثه من تضعيف الحسنات ، { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } : أي العمل لها لا لآخرته ، { نؤته منها } : أي نعطه شيئاً منها ، { وما له في الآخرة من نصيب } ، لأنه لم يعمل شيئاً للآخرة.
والجملة الأولى وعد منجز ، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى ، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه ، وكل ما يريده هو.
واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة ، كأنه غير معتبر ، فلا يناسب ذكر مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء.
وجعل فعل الشرط ماضياً ، والجواب مجزوم لقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } ولا نعلم خلافاً في جواز الجزم ، فإنه فصيح مختار ، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب ، وهو أبو الحكم بن عذرة ، عن بعض النحويين ، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال ، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال.
ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها ، وأنشد سيبويه للفرزدق :
دست رسولاً بأن القوم إن قدروا . . .
عليك يشفوا صدوراً ذات توغير
وقال آخر :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني . . .
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وقرأ الجمهور : نزد ونؤته بالنون فيهما : وابن مقسم ، والزعفراني ، ومحبوب ، والمنقري ، كلاهما عن أبي عمرو : بالياء فيهما.
وقرأ سلام : نؤته منها برفع الهاء ، وهي لغة الحجاز.
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
}
أم لهم شركاء } : استفهام تقرير وتوبيخ.
لما ذكر تعالى أنه شرع للناس { ما وصى به نوحاً } الآية ، أخذ ينكر ما شرع غيره تعالى.
والشركاء هنا يحتمل أن يراد به شركاؤهم في الكفر ، كالشياطين والمغوين من الناس.
والضمير في شرعوا عائد على الشركاء ، والضمير في لهم عائد على الكفار المعاصرين للرسول؛ ويحتمل أن يراد به الأصنام والأوثان وكل من جعلوه شريكاً لله.
وأضيف الشركاء إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله ، فتارة تضاف إليهم بهذه الملابسة ، وتارة إلى الله.
والضمير في شرعوا يحتمل أن يعود على الشركاء ، ولهم عائد على الكفار ، لما كانت سبباً لضلالهم وافتتانهم جعلت شارعة لدين الكفر ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } واحتمل أن يعود على الكفار ، ولهم عائد على الشركاء ، أي شرع الكفار لأصنامهم ومعبوداتهم ، أي رسموا لهم غواية وأحكاماً في المعتقدات ، كقولهم : إنهم آلهة ، وإن عبادتهم تقربهم إلى الله؛ ومن الأحكام البحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك.
{ ولولا كلمة الفصل } : أي العدة بأن الفصل في الآخرة ، أو لولا القضاء بذلك لقضي بين المؤمن والكافر ، أو بين المشركين وشركائهم.
وقرأ الجمهور : { إن الظالمين } ، بكسر الهمزة على الاستئناف والإخبار ، بما ينالهم في الدنيا من القتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة النار.
وقرأ الأعرج ، ومسلم بن جندب : وأن بفتح الهمزة عطفاً على كلمة الفصل ، فهو في موضع رفع ، أي ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة ، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لولا ، كما فصل في قوله : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى } { ترى الظالمين } : أي تبصر الكافرين لمقابلته بالمؤمنين ، { مشفقين } : خائفين الخوف الشديد ، { مما كسبوا } من السيآت ، { وهو } : أي العذاب ، أو يعود على ما كسبوا على حذف مضاف : أي وبال كسبوا من السيآت ، أو جزاؤه حال بهم ، { وهو واقع } : فإشفاقهم هو في هذه الحال ، فليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة.
ولما كانت الروضات أحسن ما في الجنات وأنزهها وفي أعلاها ، ذكر أن المؤمنين فيها.
واللغة الكثيرة تسكين الواو في روضات ، ولغة هذيل بن مدركة فتح الواو إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ، ولم يقرأ أحد ممن علمناه بلغتهم.
وعند ظرف ، قال الحوفي : معمول ليشاءون.
وقال الزمخشري : منصوب بالظرف لا يشاءون.
انتهى ، وهو الصواب.
ويعني بالظرف : الجار والمجرور ، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم ، والمعنى : ما يشاءون من النعيم والثواب ، مستقر لهم.
{ عند ربهم } : والعندية عندية المكانة والتشريف ، لا عندية المكانة.
وقرأ الجمهور : { يبشر } بتشديد الشين ، من بشر؛ وعبد الله بن يعمر ، وابن أبي إسحق ، والجحدري ، والأعمش ، وطلحة في رواية ، والكسائي ، وحمزة : يبشر ثلاثياً؛ ومجاهد ، وحميد بن قيس : بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر ، وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين.
وأما بشر بفتحها فمتعد ، وبشر يالتشديد للتكثير لا للتعدية ، لأن المتعدي إلى واحد ، وهو مخفف ، لا يعدى بالتضعيف إليه؛ فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
{ ذلك } : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة ، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف ، أي يبشر الله به عباده.
وقال الزمخشري : أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. انتهى.
ولا يظهر الوجه ، إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ، ولا ما يدل عليها من تبشير أو شبهه.
ومن النحويين من جعل الذي مصدرية ، حكاه ابن مالك عن يونس ، وتأويل عليه هذه الآية ، أي ذلك تبشير الله عباده ، وليس بشيء ، لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل.
وقد ثبتت اسمية الذي ، فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة.
{ قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى }.
روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون محمداً يسأل أجراً على ما يتعاطاه؟ فنزلت.
وروي أن الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا : يا رسول الله ، هدانا الله بك ، وأنت ابن أختنا ، وتعروك حقوق وما لك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك ، فنزلت الآية ، فردّه.
وقيل : الخطاب متوجه إلى قريش حين جمعوا له مالاً وأرادوا أن يرشوه عليهم على أن يمسك عن سب آلهتهم ، فلم يفعل ، ونزلت.
فالمعنى : «لا أسألكم مالاً ولا رياسة ، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي وتصدقوني فيما جئتكم به ، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني» ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم.
قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها ، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش ، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده ، فقال الله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودّوني في قرابتي منكم ، فارعوا ما بيني وبينكم وصدقوني.
وقال عكرمة : وكانت قريش تصل أرحامها.
وقال الحسن : المعنى إلا أن تتودّدوا إلى الله بالتقرّب إليه.
وقال عبد الله بن القاسم : إلا أن يتودّد بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم.
روي أن شباباً من الأنصار فاخروا المهاجرين وصالوا بالقول ، فنزلت على معنى : أن لا تؤذوني في قرابتي وتحفظوني فيهم.
وقال بهذا المعنى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيراً ، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب ، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس : قيل يا رسول الله : من قرابتك الذين أمرنا بمودّتهم؟ فقال : " عليّ وفاطمة وابناهما "
وقيل : هم ولد عبد المطلب.
والظاهر أن قوله : { إلا المودّة } استثناء منقطع ، لأن المودّة ليست أجراً.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون استثناء متصلاً ، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا أن تودّوا أهل قرابتي ، ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة ، لأن قرابته قرابتهم ، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة.
وقال : فإن قلت : هلا قيل إلا مودّة القربى ، أو إلا المودّة للقربى؟ قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقرّاً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله.
وليست في صلة للمودّة كاللام ، إذا قلت إلا المودّة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها.
انتهى ، وهو حسن وفيه تكثير.
وقرأ زيد بن عليّ؛ إلا مودّة؛ والجمهور : إلا المودّة.
{ ومن يقترف حسنة } : أي يكتسب ، والظاهر عموم الحسنة عموم البدل ، فيندرج فيها المودّة في القربى وغيرها.
وعن ابن عباس والسدي ، أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور : { نزد } بالنون؛ وزيد بن عليّ ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، وأحمد بن جبير عن الكسائي : يزد بالياء ، أي يزد الله.
والجمهور : { حسناً } بالتنوين؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : حسنى بغير تنوين ، على وزن رجعى ، وزيادة حسنها : مضاعفة أجرها.
{ إن الله غفور } : ساتر عيوب عباده ، { شكور } : مجاز على الدقيقة ، لا يضيع عنده عمل العامل.
وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه السلام ، شكور لحسناتهم.
{ أم يقولون افترى على الله كذباً } : أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال ، واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة ، أي مثله لا ينسب إليه الكذب على الله ، مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة.
{ فإن يشأ الله يختم على قبلك } ، قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، حتى لا يشق عليك قولهم : إنك مفتر.
وقال قتادة وجماعة : { يختم على قبلك } : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفتريات وأنت من الله بمرأى ومسمع وهو قادر : ولو شاء أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك؟ فمقصد اللفظ هذا المعنى ، وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصاراً واقتصاراً. انتهى.
هكذا أو رد هذا التأويل عن قتادة ابن عطية ، وفي ألفاظه فظاظة لا تليق أن تنسب للأنبياء.
وقال الزمخشري : عن قتادة : ينسيك القرآن وينقطع عنك الوحي ، يعني لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك. انتهى.
وقال الزمخشري أيضاً : فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم ، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله ، وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم.
ومثال هذا أن يخون بعض الأمناء فيقول : لعل الله خذلني ، لعل الله أعمي قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمي القلب ، وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله ، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
ثم قال : ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه أو بقضائه لقوله : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه } يعني : لو كان مفترياً ، كما يزعمون ، لكشف الله افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على الباطل فدمغه. انتهى.
وقيل : المعنى لو افتريت على الله ، لطبع على قلبك حتى لا تقدر على حفظ القرآن.
وقيل : لختم على قلبك بالصدق واليقين ، وقد فعل ذلك.
وذكر القشيري أن المعنى : يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب.
انتهى ، فيكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الجمع إلى الإفراد ، أي يختم على قلبك أيها القائل أنه افترى على الله كذباً.
{ ويمح الله الباطل } : استئناف إخبار ، أي يمحوه.
إما في الدنيا وإما في الآخرة حيث نازله.
وكتب ويمح بغير واو ، كما كتبوا سندع بغير واو ، اعتباراً بعدم ظهورها ، لأنه لا يوقف عليها وقف اختيار.
ولما سقطت من اللفظ سقطت من الخط.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون عدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له من نصرتك عليهم.
إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك. انتهى.
قيل : ويحق الإسلام بكلماته ، أي بما أنزل من القرآن.
وتقدم الكلام في شرائط التوبة ، يقال : قبلت منه الشيء بمعنى : أخذته منه ، لقوله : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم } أي تؤخذ ، أي جعلته مبدأ قبولي ومنشأه ، وقبلته عنه : عزلته عنه وأبنته ، فمعنى { عن عباده } : أي يزيل الرجوع عن المعاصي.
{ ويعفوا عن السيئات } ، قال الزمخشري : عن السيئآت إذا تيب عنها ، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر.
انتهى ، وهو على طريقة الأعتزال.
إن الكبائر لا يعفى عنها إلا بالتوبة ، { ويعلم ما تفعلون } ، فيثيت ويعاقب.
وقرأ الجمهور : ما يفعلون بياء الغيبة؛ وعبد الله ، وعلقمة ، والإخوان ، وحفص : بتاء الخطاب.
والظاهر أن الذين فاعل ، { ويستجيب } : أي ويجيب ، { الذين آمنوا } لربهم ، كما قال : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فيكون يستجيب بمعنى يجيب ، أو يبقى على بابه من الطلب ، أي يستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة.
وقال سعيد بن جبير : هذا في فعلهم إذا دعاهم.
وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه ، ثم قرأ : { والله يدعوا إلى دار السلام }
{ ويستجيب الذين آمنوا } ، قال الزجاج : الذين مفعول ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد ، فالمعنى : ويجيب الله الذين آمنوا ، أي للذين ، كما قال :
فلم يستجبه عند ذاك مجيب . . .
أي : لم يجبه.
وروي هذا المعنى عن معاذ ابن جبل وابن عباس.
{ ويزيدهم من فضله } : أي على الثواب تفضلاً.
وفي الحديث : « قبول الشفاعات في المؤمنين والرضوان » وقال خباب بن الارت : نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، فنزلت : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض }.
وقال عمرو بن حريث : طلب قوم من أهل الصفة من الرسول عليه السلام أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فنزلت.
أعلم أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر ، لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة.
فرب إنسان لا يصلح ولا يكتفي شره إلا بالفقر ، وآخر بالغنى.
وفي هذا المعنى والتقسيم حديث رواه أنس وقال : « اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني » ولبغوا ، إما من البذخ والكبر ، أي لتكبروا في الأرض ، ففعلوا ما يتبع الكبر مع الغنى.
ألا ترى إلى حال قارون؟ وفي الحديث : « أخوف ما يخاف على أمتي زهرة الدنيا » ، وقال الشاعر :
وقد جعلوا الوسمي ينبت بيننا . . .
وبين بني رومان نبعاً وشوحطا
يعني : أنهم أحبوا ، فجذبوا أنفسهم بالبغي والفتن.
{ ولكن ينزل بقدر ما يشاء } ، يقال : قدر بالسكون وبالفتح ، أي : يقدر لهم ما هو أصلح لهم.
وقرأ الجمهور : { قنطوا } ، بفتح النون؛ والأعمش ، وابن وثاب : بكسرها ، { وينشر رحمته } : يظهرها من آثار الغيث من المنافع والخصب ، والظاهر أن رحمته نشرها أعم مما في الغيث.
وقال السدي : رحمته : الغيث ، وعدد النعمة بعينها بلفظين.
وقيل : الرحمة هنا ظهور الشمس ، لأن إذا دام المطر سئم ، فتجيء الشمس بعده عظمية الموقع ، ذكره المهدوي.
{ وهو الولي } : الذي يتولى عباده ، { الحميد } : المحمود على ما أسدى من نعمائه وما بث.
الظاهر أنه مجرور عطفاً على السموات والأرض.
ويجوز أن يكون مرفوعاً ، عطفاً على خلق ، على حذف مضاف ، أي وخلق ما بث.
وفيهما يجوز أن يكون مما نسب فيه دابة إلى المجموع المذكور ، وإن كان ملتبساً ببعضه.
كما يقال : بنو فلان صنعوا كذا ، وإنما صنعه واحد منهم ، ومنه يخرج منهما ، وإنما يخرج من الملح ، أو يكون من الملائكة.
بعض يشمي مع الطيران ، فيوصف بالدبيب كما يوصف به الأناسي ، أو يكون قد خلق السموات حيوانا يمشي مع مشي الإناس على الأرض ، أو يريد الحيوان الذي يكون في السحاب.
وقد يقع أحياناً ، كالضفادع والسحاب داخل في اسم السماء.
وقال مجاهد : { وما بث فيهما من دابة } : هم الناس والملائكة.
وقال أبو علي : هو على حذف مضاف ، أي وما بث في أحدهما.
وقرأ الجمهور : فيهما بالفاء ، وكذا هي في معظم المصاحف.
واحتمل ما أن تكون شرطية ، وهو الأظهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو ، وهي موجودة.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر في رواية ، وشيبة : بما بغير فاء ، فما موصولة ، ولا يجوز أن تكون شرطية؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر ، وأجازت ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء.
وترتب ما أصاب من المصائب على كسب الأيدي موجود مع الفاء ودونها هنا ، والمصيبة : الرزايا والمصائب في الدنيا ، وهي مجازاة على ذنوب المرء وتمحيص لخطاياه ، وأنه تعالى يعفو عن كثير ، ولا يجازي عليه بمصيبة.
وفي الحديث : « لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر » وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال؛ إن أحبه إليّ أحبه إلى الله ، وهذا مما كسبت يداي.
ورؤي على كف شريح قرحة ، فقيل : بم هذا؟ فقال : بما كسبت يداي.
وقال الزمخشري : الآية مخصوصة بالمجرمين ، ولا يمتنع أن يستوفي الله عقاب المجرم ويعفو عن بعض.
فأما من لا جرم له ، كالأنبياء والأطفال والمجانين ، فهو كما إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره ، فللعوض الموفي والمصلحة وعن علي : هذه أرجى آية للمؤمنين.
وقال الحسن : { من مصيبة } : أي حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم.
{ ويعفوا } الله { عن كثير } ، فيستره على العباد حتى لا يحد عليه.
{ وما أنتم بمعجزين } : أنتم في قبضة القدرة.
وقيل : ليست المصائب من الأسقام والقحط والغرق وغير ذلك بعقوبات على الذنوب لقوله : { اليوم تجزي كل نفس بما كسبت } ولاشتراك الصالح والطالح فيهما ، بل أكثر ما يبتلي به الصالحون المتقون.
وفي الحديث : « خص بالبلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل » ولأن الدنيا دار التكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار الجزاء ، وليس الأمر كذلك.
وهذا القول يؤخره نصوص القرآن ، كقوله تعالى : { فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } الآية.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
لما ذكر تعالى من دلائل وحدانيته أنواعاً ، ذكر بعدها العالم الأكبر ، وهو السموات والأرض؛ ثم العالم الأصغر ، وهو الحيوان.
ثم اتبعه بذكر المعاد ، أتبعه بذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة ، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف يغوص فيه الثقيل ، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة ، ومع ذلك جعل تعالى للماء قوة يحملها بها ويمنع من الغوص.
ثم جعل الرياح سبباً لسيرها.
فإذا أراد أن ترسو ، أسكن الريح ، فلا تبرح عن مكانها.
والجواري : جمع جارية ، وأصله السفن الجواري ، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه ، وحسن ذلك قوله : { في البحر } ، فدل ذلك على أنها صفة للسفن ، وإلا فهي صفة غير مختصة ، فكان القياس أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه.
ويمكن أن يقال : إنها صفة غالبة ، كالأبطح ، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف.
وقرىء : الجواري بالياء ودونها ، وسمع من العرب الأعراب في الراء ، وفي البحر متعلق بالجواري ، وكالأعلام في موضع الحال ، والأعلام : الجبال ، ومنه قول الخنساء أخت صخر ومعاوية :
وإن صخراً التأتم الهداة به . . .
كأنه علم في رأسه نار
ومنه :
إذا قطعن علماً بدا علم . . .
وقرأ جمهور السبعة : { الريح } إفراداً ، ونافع : جمعاً ، وقرأ الجمهور : { فيظللن } بفتح اللام ، وقرأ قتادة : بكسرها ، والقياس الفتح ، لأن الماضي بكسر العين ، فالكسر في المضارع شاذ.
وقال الزمخشري : من ظل يظل ويظل ، نحو ضل يضل ويضل. انتهى.
وليس كما ذكر ، لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ، ويضل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي ، وكلاهما مقيس.
{ لكل صبار } على بلائه ، { شكور } لنعمائه.
{ أو يوبقهن } : يهلكهن ، أي الجواري ، وهو عطف على يسكن ، والضمير في { كسبوا } عائد على ركاب السفن ، أي بذنوبهم.
وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو ، وعن أهل المدينة : بنصب الواو ، والجمهور : ويعف مجزوماً عطفاً على يوبقهن.
فأما قراءة الأعمش ، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير ، أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان.
وأما النصب ، فبإضمار أن بعد الواو ، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ : يحاسبكم به الله فيغفر ، وبعد الواو في قول الشاعر :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك . . .
ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش . . .
أجب الظهر ليس له سنام
روي بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه.
وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم ، أي يقع إيباق وعفو عن كثير.
وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط ، إذ هو معطوف عليه ، وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب ، لكن هذا عطف فعل على فعل ، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم.
وقال القشيري : وقرىء : { ويعف } بالجزم ، وفيها إشكال ، لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح ، فتبقى تلك السفن رواكد ، أو يهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف ويعف على هذه ، لأن المعنى : يصيران شيئاً يعف ، وليس المعنى ذلك ، بل المعنى : الإخبار عن الغيوب عن شرط المشيئة ، فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ ، لا من حيث المعنى.
وقد قرأ قوم : ويعفو بالرفع ، وهي جيدة في المعنى.
انتهى ، وما قاله ليس بجيد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب.
والمعنى : أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : على م عطف يوبقهن؟ قلت : على يسكن ، لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها. انتهى.
ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن ، لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها تعالى بسبب غير الريح ، كنزول سطحها بكثرة الثقل ، أو انكسار اللوح يكون سبباً لإهلاكها ، أو يعرض عدو يهلك أهلها.
وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عامر ، وزيد بن علي : { ويعلم } بالرفع على القطع.
وقرأ الجمهور : ويعلم بالنصب؛ قال أبو علي وحسن : النصب إذا كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب.
وقال الزجاج : على إضمار أن ، لأن قبلها جزاء.
تقول : ما تصنع أصنع مثله ، وأكرمك ، وإن أشئت ، وأكرمك علي ، وأنا أكرمك ، وإن شئت ، وأكرمك جزماً.
قال الزمخشري : فيه نظر ، لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف ، وهو نحو من قوله :
وألحق بالحجاز فاستريحا . . .
فهذا لا يجوز ، وليس بحد الكلام ولا وجهه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً ، لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل.
فلما ضارع الذي لا يوجبه ، كالاستفهام ونحوه ، أجازوا فيه هذا على ضعفه.
قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ، ولو كانت من هذا الباب ، لما أخلى سيبويه منها كتابه ، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. انتهى.
وخرج الزمخشري النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف ، قال تقديره : لينتقم منهم { ويعلم الذين يجادلون } ، يكره في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ، ومنه قوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } وقوله : { خلق الله السموات والأرض بالحق } { ولتجزى كل نفس بما كسبت } انتهى.
ويبعد تقديره لينتقم منها ، لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ، فلا يحسن لينتقم منهم.
وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف ، أي { ولنجعله آية للناس } ، { ولتجزى كل نفس بما كسبت }.
فعلنا ذلك ، وكثيراً ما يقدر هذا الفعل محذوفاً قبل لام العلة ، إذا لم يكن فعل ظاهر يتعلق به.
وذكر الزمخشري أن قوله تعالى : { ويعلم } قرىء بالجزم ، فإن قلت : فكيف يصح المعنى على جزم ويعلم؟ قلت : كأنه قال : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين ، لأن قوله : { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } يتضمن تحذيرهم من عقاب الله ، { وما لهم من محيص } في موضع نصب ، لأن يعلم معلقة ، كقولك : علمت ما زيد قائم.
وقال ابن عطية في قراءة النصب ، وهذه الواو ونحوها التي تسميها الكوفيون واو الصرف ، لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على اسم مقدر ، فيقدر أن ليكون مع الفعل بتأويل المصدر ، فيحسن عطفه على الاسم. انتهى.
وليس قوله تعليلاً لقولهم واو الصرف ، إنما هو تقرير لمذهب البصريين.
وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها ، لا بإضمار أن بعدها.
وقال أبو عبيد على الصرف كالذي في آل عمران : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ومعنى الصرف أنه كان على جهة ، فصرف إلى غيرها ، فتغير الإعراب لأجل الصرف.
والعطف لا يعين الاقتران في الوجود ، كالعطف في الأسم ، نحو : جاء زيد وعمرو.
ولو نصب وعمرو اقتضى الاقتران؛ وكذلك واو الصرف ، ليفيد معنى الاقتران ويعين معنى الاجتماع ، ولذلك أجمع على النصب في قوله : { ويعلم الصابرين } ، أي ويعلم المجاهدين والصابرين معاً.
عن عليّ ، رضي الله عنه ، اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مال ، فتصدق به كله في سبيل الله والخير ، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون ، فنزلت : { فما أوتيتم من شيء } ، والظاهر أنه خطاب للناس.
وقيل : للمشركين ، وما شرطية مفعول ثان لأوتيتم ، ومن شيء بيان لما ، والمعنى : من شيء من رياش الدنيا ومالها والسعة فيها ، والفاء جواب الشرط ، أي فهو متاع ، أي يستمتع في الحياة.
{ وما عند الله } : أي من ثوابه وما أعد لأوليائه ، { خير وأبقى } مما أوتيتم ، لأنه لا انقطاع له.
وتقدم الكلام في الكبائر في قوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } في النساء.
وقرأ الجمهور : { كبائر } جمعاً هنا ، وفي النجم ، وحمزة ، والكسائي : بالإفراد.
{ والذين يجتنبون } : عطف على { الذين آمنوا } ، وكذلك ما بعده.
ووقع لأبي البقاء وهم في التلاوة ، اعتقد أنها الذين يجتنبون بغير واو ، فبنى عليه الإعراب فقال : الذين يجتنبون في موضع جر بدلاً من الذين آمنوا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار ، أعني : وفي موضع رفع على تقديرهم. انتهى.
والعامل في إذا يغفرون ، وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوف على يجتنبون ، ويجوز أن يكون هم توكيداً للفاعل في غضبوا.
وقال أبو البقاء : هم مبتدأ ، ويغفرون الخبر ، والجملة جواب إذا.
انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن الجملة لو كانت جواب إذا لكانت بالفاء ، تقول : إذا جاء زيد فعمرو منطلق ، ولا يجوز حذف الفاء إلا إن ورد في شعر.
وقيل : هم مرفوع بفعل محذوف يفسره يغفرون ، ولما حذف ، انفصل الضمير ، وهذا القول فيه نظر ، وهو أن جواب إذا يفسر كما يفسر فعل الشرط بعدها ، نحو :
{ إذا السماء انشقت } ولا يبعد جواز ذلك على مذهب سيبويه ، إذ جاء ذلك في أداة الشرط الجازمة ، نحو : إن ينطلق زيد ينطلق ، فزيد عنده فاعل بفعل محذوف يفسره الجواب ، أي ينطلق زيد ، منع ذلك الكسائي والفراء.
وقال الزمخشري : هم يغفرون ، أي هم الأخصاء بالغفران ، في حال الغضب لا يغول الغضب أحلامهم ، كما يغول حلوم الناس.
والمجيء لهم وإيقاعه مبتدأ ، وإسناد يغفرون إليه لهذه الفائدة.
انتهى ، وفيه حض على كسر الغضب.
وفي الحديث : « أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب »
{ والذين استجابوا لربهم } ، قيل : نزلت في الأنصار ، دعاهم الله للإيمان به وطاعته فاستجابوا له.
وكانوا قبل الإسلام ، وقبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، إذا نابهم أمر تشاوروا ، فأثنى الله عليهم ، لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه.
وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. انتهى.
وفي الشورى اجتماع الكلمة والتحاب والتعاضد على الخير.
وقد شاور الرسول عليه السلام فيما يتعلق بمصالح الحروب والصحابة بعده في ذلك ، كمشاورة عمر للهرمز.
وفي الأحكام ، كقتال أهل الردّة ، وميراث الحربي ، وعدد مدمني الخمر ، وغير ذلك.
والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، على حذف مضاف ، أي وأمرهم ذو شورى بينهم.
و { هم ينتصرون } : صلة للذين ، وإذا معمولة لينتصرون ، ولا يجوز أن يكون { هم ينتصرون } جواباً لإذا ، والجملة الشرطية وجوابها صلة لما ذكرناه من لزوم الفاء ، ويجوز هنا أن يكون هم فاعلاً بفعل محذوف على ذلك القول الذي قيل في { هم يغفرون }.
وقال الحوفي : وإن شئت جعلت هم توكيداً للهاء والميم ، يعني في أصابهم ، وهو ضمير رفع ، وفي هذا نظر ، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل ، وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع ، والانتصار : أن يقتصر على ما حده الله له ولا يتعدى.
وقال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فتجترىء عليهم الفساق ، ومن انتصر غير متعد فهو مطيع محمود.
وقال مقاتل ، وهشام عن عروة : الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص.
وقال ابن عباس : تعدى المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ، وأخرجوهم من مكة ، فأذن الله لهم بالخروج في الأرض ، ونصرهم على من بغى عليهم.
وقال الكيا الطبري : ظاهره أن الانتصار في هذا الموضع أفضل ، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله ولرسوله وإقامة الصلاة؟ فهذا على ما ذكره النخعي ، وهذا فيمن تعدى وأصر ، والمأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً مقلعاً.
وقد قال عقيب هذه الآية { ولمن انتصر بعد ظلمه } الآية ، فيقتضي إباحة الانتصار.
وقد عقبه بقوله : { ولمن صبر وغفر } ، وهذا محمول على القرآن عند غير المصر.
فأما المصر على البغي ، فالأفضل الانتصار منه بدليل الآية قبلها.
وقال ابن بحر : المعنى تناصروا عليه فأزالوه عنهم.
وقال أبو بكر بن العربي نحواً من قول الكيا.
قال الجمهور : إذا بغى مؤمن على مؤمن ، فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه ، بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه.
وقالت فرقة : له ذلك.
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } : هذا بيان للانتصار ، أي لا يتعدى فيما يجازي به من بغى عليه.
قال ابن أبي نجيح ، والسدي : إذا شتم ، فله أن يرد مثل ما شتم به دون أن يتعدى ، وسمى القصاص سيئة على سبيل المقابلة ، أو لأنها تسوء من اقتص منه ، كما ساءت الحيض.
وظاهر قوله : مثلها المماثلة مطلقاً في كل الأحوال ، لا فيما خصه الدليل.
والفقهاء أدخلوا التخصيص في صور كثيرة بناء على القياس.
قال مجاهد ، والسدي : إذا قال له أخزاك الله فليقل أخزاك الله ، وإذا قذفه قذفاً يوجب الحد ، بل الحد الذي أمره الله به.
{ فمن عفا وأصلح } : أي بينه وبين خصمه بالعفو ، { فأجره على الله } : عدة مبهمة لا يقاس عظمها ، إذ هي على الله.
{ إنه لا يحب الظالمين } : أي الخائنين ، وإذا كان لا يحبه وقد ندب إلى العفو عنه ، فالعفو الذي يحبه الله أولى أن يعفي عنه ، أو لا يحب الظالمين من تجاوز واعتدى من المجني عليهم ، إذا انتصروا خصوصاً في حالة الحرب والتهاب الحمية ، فربما يظلم وهو لا يشعر.
وفي الحديث : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم ، قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله » واللام في { ولمن انتصر } لام توكيد.
قال الحوفي : وفيها معنى القسم.
وقال ابن عطية : لام التقاء القسم يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم ، فالقسم قبلها محذوف ، ومن شرطية ، وحمل { انتصر بعد ظلمه } على لفظ من ، وفأولئك على معنى من ، والفاء جواب الشرط ، وظلمه مصدر مضاف إلى المفعول.
قال الزمخشري : ويفسره قراءة من قرأ : بعد ما ظلم ما عليهم من سبيل ، قيل : أي من طريق إلى الحرج؛ وقيل : من سبيل للمعاقب ، ولا المعاتب والعاتب ، وهذه مبالغة في إباحة الانتصار.
{ إنما السبيل } : أي سبيل الإثم والحرج ، { على الذين يظلمون } : أي يبتذلون بالظلم ، { ويبغون في الأرض } : أي يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون.
وقيل : ويظلمون الناس : أي يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد واللسان.
والبغي بغير الحق ، فهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيهاً على شدته وسوء حال صاحبه. انتهى.
{ ولمن صبر } : أي على الظلم والأذى ، { وغفر } ، ولم ينتصر.
واللام في ولمن يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف ، ومن شرطية ، وجواب القسم قوله : { إن ذلك } ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء ، ومن موصولة مبتدأ ، والجملة المؤكدة بأن في موضع الخبر.
وقال الحوفي : من رفع بالابتداء وأضمر الخبر ، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء ، كما قال الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها . . .
أي : فالله يشكرها.
انتهى ، وهذا ليس بجيد ، لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند سيبويه.
والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف ، أي إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه : { لمن عزم الأمور } ، إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : { ولمن صبر وغفر } ، لم يكن في عزم الأمور حذف ، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ ، كان هو الرابط ، ولا يحتاج إلى تقدير منه ، وكان في { عزم الامور } ، أي أنه لمن ذوي عزم الأمور.
وسب رجل آخر في مجلس الحسن ، فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ، ثم قام فتلا الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمها ، لم هذه ضيعها الجاهلون.
والجملة من قوله : { إنما السبيل } اعتراض بين قوله : { ولمن انتصر } ، وقوله : { ولمن صبر }.
{ ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } : أي من ناصر يتولاه من بعده ، أي من بعد إضلاله ، وهذا تحقير لأمر الكفرة.
{ وترى الظالمين } : الخطاب للرسول ، والمعنى : وترى حالهم وما هم فيه من الحيرة ، { لما رأوا العذاب } ، يقولون : { هل إلى مردّ من سبيل } : هل سبيل إلى الردّ للدنيا؟ وذلك من فظيع ما اطلعوا عليه ، وسوء ما يحل بهم.
{ وتراهم يعرضون عليها } : أي على النار ، دل عليها ذكر العذاب ، { خاشعين } متضائلين صاغرين مما يحلقهم ، { من الذل } وقرأ طلحة : من الذل ، بكسر الذال؛ والجمهور بالضم ، والخشوع : الاستكانة ، وهو محمود.
وإنما أخرجه إلى الذم اقترافه بالعذاب وقيل : { من الذل } متعلق { ينظرون من طرف خفي }.
قال ابن عباس : ذليل. انتهى.
قيل : ووصف بالخفاء لأن نظرهم ضعيف ولحظهم نهاية ، قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير . . .
وقيل : يحشرون عمياً.
ولما كان نظرهم بعيون قلوبهم ، جعله طرفاً خفياً ، أي لا يبدو نظرهم ، وهذا التأويل فيه تكلف.
وقال السدي ، وقتادة : المعنى يسارقون النظر لما كانوا فيه من الهمّ وسوء الحال ، لا يستطيعون النظر بجميع العين ، وإنما ينظرون من بعضها ، فيجوز على هذا التأويل أن يكون الطرف مصدراً ، أي من نظر خفي.
وقال الزمخشري : { من طرف خفي } ، أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة ، كما ترى المصور ينظر إلى السيف ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره ، ولا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينه منها ، كما يفعل في نظره إلى المتحاب الظاهر أن { وقال } ماض لفظاً ومعنى ، أي { وقال الذين آمنوا } في الحياة الدنيا ، ويكون يوم القيامة معمولاً لخسروا ، ويحتمل أن يكون معنى { وقال } : ويقول ، ويوم القيامة معمول لو يقولوا ، أي ويقولوا في ذلك اليوم لما عاينوا ما حل بالكفار وأهليهم.
الظاهر أنهم الذين كانوا أهليهم في الدنيا ، فإن كانوا معهم في النار فقد خسروهم ، أي لا ينتفعون بهم؛ وإن كانوا في الجنة لكونهم كانوا في الجنة لكونهم كانوا مؤمنين ، كآسية امرأة فرعون ، فهم لا ينتفعون بهم أيضاً.
وقيل : أهلوهم ما كان أعد لهم من الحور لو كانوا آمنوا ، والظاهر أن قوله : { ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } من كلام المؤمنين؛ وقيل : استئناف إخبار من الله تعالى.
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
}.
من قبل أن يأتي يوم } ، قيل : هو يوم ورود الموت ، والظاهر أنه يوم القيامة.
و { من الله } متعلق بمحذوف يدل عليه ما مر ، أي لا يرد ذلك اليوم من ما حكم الله به فيه.
وقال الزمخشري : { من الله } : من صلة للأمرد.
انتهى ، وليس الجيد ، إذ لو كان من صلته لكان معمولاً له ، فكان يكون معرباً منوناً.
وقيل : { من الله } يتعلق بقوله : { يأتي } ، من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده.
{ ما لكم من ملجأ } تلجأون إليه ، فتتخلصون من العذاب ، ومالكم من إنكار شيء من أعمالكم التي توردكم النار ، والنكير مصدر أنكر على غير قياس.
قيل : ويحتمل أن يكون اسم فاعل للمبالغة ، وفيه بعد ، لأن نكر معناه لم يميز.
{ فإن أعرضوا } الآية : تسلية للرسول وتأنيس له ، وإزالة لهمه بهم.
والإنسان : يراد به الجنس ، ولذلك جاء : { وإن تصبهم سيئة }.
وجاء جواب الشرط { فإن الإنسان } ولم يأت فإنه ، ولا فإنهم ، ليدل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم ، كما قال : { إن الإنسان لظلوم كفار } { إن الإنسان لربه لكنود } ولما ذكر أنه يكفر النعم ، أتبع ذلك بأن له ملك العالم العلوي والسفلي ، وأنه يفعل ما يريد ، ونبه على عظيم قدرته ، وأن الكائنات ناشئة عن إرادته ، فذكر أنه يهب لبعض إناثاً ، ولبعض ذكوراً ، ولبعض الصنفين ، ويعقم بعضاً فلا يولد له.
وقال إسحق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء ، ثم عمت.
فلوط أبو بنات لم يولد له ذكور ، وإبراهيم ضده ، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهما ولد له الصنفان ، ويحي عقيم. انتهى.
وذكر أيضاً مع لوط شعيب ، ومع يحي عيسى ، وقدم تعالى هبة البنات تأنيساً لهن وتشريفاً لهن ، ليهتم بصونهن والإحسان إليهن.
وفي الحديث : « من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار » وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، لأن الله تعالى بدأ بالإناث.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم؟ ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟ قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى.
وكفران الإنسان : نسيانه الرحمة السابقة عنده.
ثم ذكره بذكر ملكه ومشيئته ، وذكر قسمة الأولاد ، فقدم الإناث ، لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه ، لا ما يشاء الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللائي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم أوجب التقديم.
والبلاء : الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ، ذكر البلاء وآخر الذكور.
فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيره ، وهم أحق بالتقديم بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفريقين ، الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير ، وعرفان تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتضى آخر فقال : { ذكراناً وإناثاً } ، كما قال : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } { فجعل منه الزوجين والذكر والأنثى } انتهى.
وقيل : بدأ بالأنثى ثم ثنى بالذكر ، لتنقله من الغم إلى الفرح.
وقيل : ليعلم أنه لا اعتراض على الله فيرضى.
فإذا وهب له الذكر ، علم أنه زيادة وفضل من الله وإحسان إليه.
وقيل : قدمها تنبيهاً على أنه إذا كان العجز والحاجة لهم ، كانت عناية الله أكثر.
وقال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاماً ، ثم تلد جارية.
وقال محمد بن الحنيفة : أن تلد توأماً ، غلاماً وجارية.
وقال أبو بكر بن العربي : أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً.
قال علماؤنا : يعني آدم ، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ، ذكراً وأنثى؛ تزوج ذكر هذا البطن أنثى البطن الآخر. انتهى.
ولما ذكر الهبة في الإناث ، والهبة في الذكور ، اكتفى عن ذكرها في قوله : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً }.
ولما كان العقم ليس بمحمود قال : { ويجعل من يشاء عقيماً } ، وهو قسيم لمن يولد له.
ولما كانت الخنثى مما يحزن بوجوده ، لم يذكره تعالى.
قالوا : وكانت الخلقة مستمرة ، ذكراً وأنثى ، إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى ، فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه ، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم.
فلما جن عليه الليل ، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار ، وأنكرت خادمه حاله فسألته ، فقال : بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه ، فقالت له : ما هو؟ فقال : شخص له ذكر وفرج ، كيف يكون حاله في الميراث؟ قالت له الأمة : ورثه من حيث يبول ، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم ، فرضوا بها.
وجاء الإسلام على ذلك ، وقضى بذلك علي ، كرم الله وجهه ، إنه عليم بمصالح العباد ، قدير على تكوين ما يشاء.
كان من الكفار خوض في معنى تكليم الله موسى ، فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم ، فنزلت.
وقيل : كانت قريش تقول : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً ، كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال لهم الرسول عليه السلام : « لم ينظر موسى إلى الله » ، فنزلت : { وما كان لبشر أن يكلمه الله } ، بياناً لصورة تكليم الله عباده أي ما ينبغي ولا يمكن لبشر إلا يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام.
قال مجاهد : أو النفث في القلب.
وقال النقاش : أو وحي في المنام.
وقال النخعي : كان في الأنبياء من يخط له في الأرض ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزاً ، كموسى عليه السلام ، وهذا معنى { من وراء حجاب } : أي من خفاء عن المتكلم ، لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في المشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكاً يشافهه بوحى الله تعالى ، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : وما صح لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه :
إما على طريق الوحي ، وهو الإلهام والقذف في القلب والمنام ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده.
وعن مجاهد : أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره ، قال عبيد بن الأبرص :
وأوحى إلى الله أن قد تأمروا . . .
بابن أبي أوفى فقمت على رجل
أي : ألهمنى وقذف في قلبي.
وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، لأنه في ذاته غير مرئي.
وقوله : { من وراء حجاب } مثل ، أي : كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه ، وهو من وراء حجاب ، فيسمع صوته ولا يرى شخصه ، وذلك كما كلم الله موسى ويكلم الملائكة.
وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيوحي الملك إليه ، كما كلم الأنبياء غير موسى.
انتهى ، وهو على طريق المعتزلة في استحالة رؤية الله تعالى ونفي الكلام الحقيقي عن الله.
وكل هذه الأقسام الثلاثة يصدق عليها أنها وحي ، وخص الأول باسم الوحي هنا ، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام يقع دفعة واحدة ، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى.
وقيل : { وحياً } كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة ، أو { يرسل رسولاً } : أي نبياً ، كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم ، حكاه الزمخشري ، وترك تفسير { أو من وراء حجاب } ، ومعناه في هذا القول : كما كلم محمداً وموسى صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور : { حجاب } ، مفرداً؛ وابن أبي عبلة : حجب جمعاً.
وقرأ الجمهور : بنصب الفعلين عطف ، أو يرسل على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، وهذا المضمر معطوف على وحياً ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب ، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن الله ما يشاء ، ولا يجوز أن يعطف { أو يرسل } على { أن يكلمه الله } لفساد المعنى.
وقال الزمخشري : ووحياً ، وأن يرسل ، مصدران واقعان موقع الحال ، لأن أن يرسل في معنى إرسالاً ، ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضاً ، كقوله : { وعلى جنوبهم } والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً. انتهى.
أما وقوع المصدر موقع الحال ، فلا ينقاس ، وإنما قالته العرب.
وكذلك لا يجوز : جاء زيد بكاء ، تريد باكياً ، وقاس منه المبرد ما كان منه نوعاً للفعل ، نحو : جاء زيد مشياً أو سرعة ، ومنع سيبويه أن يقع أن والفعل المقدر بالمصدر موقع الحال ، فلا يجوز ، نحو : جاء زيد أن يضحك في معنى ضحك الواقع موقع ضاحكاً ، فجعله وحياً مصدراً في موضع الحال مما لا ينقاس ، وأن يرسل في معنى إرسالاً الواقع موقع مرسلاً ممنوع بنص سيبويه.
وقرأ نافع وأهل المدينة : أو يرسل رسولاً فيوحي بالرفع فيهما ، فخرج على إضمار هو يرسل ، أو على ما يتعلق به من وراء ، إذ تقديره : أو يسمع من وراء حجاب ، ووحياً مصدر في موضع الحال ، عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه ، أو يرسل والتقدير : إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب ، أو مرسلاً ، وإسناد التكلم إلى الله بكونه أرسل رسولاً مجاز ، كما تقول : نادى الملك في الناس بكذا ، وإنما نادى الريح ، الدائر في الأسواق ، نزل ما كان بواسطة منزلة ما كان بغير واسطة.
قال ابن عطية : وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكلم ، وأن الحالف الرسل ، كانت إذا حلف أن لا يكلم إنساناً فأرسل إليه ، وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه. انتهى.
{ إنه عليٌّ } : أي عليٌّ عن صفات المخلوقين ، { حكيم } : تجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة ، يكلم بواسطة وبغير واسطة.
{ وكذلك أوحينا } : أي مثل ذلك الإيحاء الفصل أوحينا إليك ، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث : النفث في الروع ، والمنام ، وتكليم الله له حقيقة ليلة الإسراء ، وإرسال رسول إليه ، وهو جبريل.
وقيل : كما أوحينا إلى الأنبياء قبلك ، { أوحينا إليك روحاً من أمرنا }.
قال ابن عباس : النبوة.
وقال السدي : الوحي؛ وقال قتادة : رحمة؛ وقال الكلبي : كتاباً؛ وقال الربيع : جبريل؛ وقيل : القرآن؛ وسمى ما أوحى إليه روحاً ، لأن به الحياة من الجهل.
وقال مالك بن دينار : يا أهل القرآن ، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب ، كما أن العشب ربيع الأرض.
{ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } : توقيف على عظم المنة ، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بها ، وعطف ولا الإيمان على ما الكتاب ، وإنما معناه : الإيمان الذي يدركه السمع ، لأن لنا أشياء من الإيمان لا تعلم إلا بالوحي.
أما توحيد الله وبراءته عن النقائص ، ومعرفة صفاته العلا ، فجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عالمون ذلك ، معصومون أن يقع منهم زلل في شيء من ذلك ، سابق لهم علم ذلك قبل أن يوحي إليهم.
وقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } إذ هي بعض ما يتناوله الإيمان.
ومن طالع سير الأنبياء من نشأتهم إلى مبعثهم ، تحقق عنده أنهم معصومون من كل نقيصة ، موحدون لله منذ نشأوا.
قال الله تعالى في حق يحي عليه السلام : { وآتيناه الحكم صبياً } قال معمر : كان ابن سنتين أو ثلاث.
وعن أبي العالية : ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان.
وقال القاضي : { ولا الإيمان } : الفرائض والأحكام.
قال : وكان قبل مؤمناً بتوحيد الله ، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل ، فزاد بالتكليف إيماناً.
وقال القشيري : يجوز إطلاق الإيمان على تفاصيل الشرع.
وقال الحسين بن الفضل : هو على حذف مضاف ، أي ولا أ هل الإيمان من الذي يؤمن أبو طالب أو العباس أو غيرهما.
وقال علي بن عيسى : إذ كنت في المهد.
وقيل : ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك.
وقيل : أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الإيمان ولا الكتاب ، فتكون أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم.
ما الكتاب : جملة استفهامية مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب بتدري ، وهي معلقة.
{ ولكن جعلناه نوراً } : يحتمل أن يعود إلى قوله : { روحاً } ، وإلى { كتاب } ، وإلى { الإيمان } ، وهو أقرب مذكور.
وقال ابن عطية : عائد على الكتاب. انتهى.
وقيل : يعود إلى الكتاب والإيمان معاً لأن مقصدهما واحد ، فهو نظير : { والله ورسله أحق أن يرضوه } وقرأ الجمهور : { لتهدي } ، مضارع هدى مبنياً للفاعل؛ وحوشب : مبنياً للمفعول ، إجابة سؤاله عليه الصلاة والسلام : { إهدنا الصراط المستقيم } وقرأ ابن السميفع : لتهدي بضم التاء وكسر الدال؛ وعن الجحدري مثلها ومثل قراءة حوشب.
{ صراط مستقيم } ، قال علي : هو القرآن؛ وقيل : الإسلام.
{ ألا إلى الله تصير الأمور } : أخبر بالمضارع ، والمراد به الديمومة ، كقوله : زيد يعطي ويمنع ، أي من شأنه ذلك ، ولا يراد به حقيقة المستقبل ، أي ترد جميع أمور الخلق إليه تعالى يوم القيامة فيقضي بينهم بالعدل ، وخص ذلك بيوم القيامة ، لأنه لا يمكن لأحد أن يدعي فيه لنفسه شيئاً ، قاله الفراء.
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
هذه السورة مكية ، وقال مقاتل : إلا قوله : { وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } وقال ابن عطية : بإجماع أهل العلم.
{ إنا جعلناه } ، أي صيرناه ، أو سميناه؛ وهو جواب القسم ، وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد ، ونظيره قول أبي تمام :
وثناياك أنها أغريض . . .
_@_وقيل : والكتاب أريد به الكتب المنزلة ، والضمير في جعلناه يعود على القرآن ، وإن لم يتقدم له صريح الذكر لدلالة المعنى عليه.
وقال الزمخشري : جعلناه ، بمعنى صيرناه ، معدى إلى مفعولين ، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد ، كقوله : { وجعل الظلمات والنور } { وقرآناً عربياً } : حال.
ولعل : مستعارة لمعنى الإرداة ، لتلاحظ معناها ومعنى الترجي ، أي خلقناه عربياً غير عجمي.
أراد أن تعقله العرب ، ولئلا يقولوا : { لولا فصلت آياته } انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في كون القرآن مخلوقاً.
{ أم الكتاب } : اللوح المحفوظ ، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب ، وهذا فيه تشريف للقرآن ، وترفيع بكونه.
لديه علياً : على جميع الكتب ، وعالياً عن وجوه الفساد.
حكيماً : أي حاكماً على سائر الكتب ، أو محكماً بكونه في غاية البلاغة والفصاحة وصحة المعاني.
قال قتادة وعكرمة والسدي : اللوح المحفوظ : القرآن فيه بأجمعه منسوخ ، ومنه كان جبريل ينزل.
وقيل : أم الكتاب : الآيات المحكمات ، لقوله : { هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } ومعناه : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم.
وقرأ الجمهور : في أم ، بضم الهمزة ، والإخوان بكسرها ، وعزاها ابن عطية يوسف بن عمرو إلى العراق ، ولم يعزها للإخوان عقلة منه.
يقال : ضرب عن كذا ، وأضرب عنه ، إذا أعرض عنه.
والذكر ، قال الضحاك وأبو صالح : القرآن ، أي افترائي عنكم القرآن.
وقولهم : ضرب الغرائب عن الحوض ، إذا أدارها ونحاها ، وقال الشاعر :
اضرب عنك الهموم طارقها . . .
ضربك بالسيف قونس الفرس
وقيل : الذكر : الدعاء إلى الله والتخويف من عقابه.
قال الزمخشري : والفاء للعطف على محذوف تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكاراً؟ لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب وخلقه قرآناً عربياً لتعقلوه وتعملوا بموجبه. انتهى.
وتقدم الكلام معه في تقديره فعلاً بين الهمزة والفاء في نحو : { أفلم يسيروا } { أفلا تعقلون } وبينها وبين الواو في نحو : { أولم يسيروا } كما وأن المذهب الصحيح قول سيبويه والنحويين : أن الفاء والواو منوي بهما التقديم لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، وأن الهمزة تقدمت لكون الاستفهام له صدر الكلام ، ولا خلاف بين الهمزة والحرف ، وقد رددنا عليه قوله : وقال ابن عباس ومجاهد : المعنى : أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم وعفواً عن إجرامكم؟ أن كنتم أو من أجل أن كنتم قوماً مسرفين؟ أي هذا لا يصلح.
ونحا قتادة إلى أن المعنى صفحاً ، أي معفوا عنه ، أي نتركه.
ثم لا تؤاخذون بقوله ولا بتدبره ، ولا تنبهون عليه.
وهذا المعنى نظير قول الشاعر :
ثم الصبا صفحاً بساكن ذي الفضا . . .
وبصدع قلبي أن يهب هبوبها
وقول كثير :
صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلة . . .
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
وقال ابن عباس : المعنى : أفحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به؟ وقال الكلبي : أن نترككم هملاً بلا أمر ولا نهي؟ وقال مجاهد أيضاً : أن لا نعاقبكم بالتكذيب؟ وقيل : أن نترك الإنزال للقرآن من أجل تكذبيهم؟ وقرأ حسان بن عبد الرحمن الضبغي ، والسميط بن عمير ، وشميل بن عذرة : بضم الصاد ، والجمهور : بفتحها ، وهما لغتان ، كالسد والسد.
وانتصاب صفحاً على أنه مصدر من معنى أفنضرب ، لأن معناه : أفنصفح؟ أو مصدر في موضع الحال ، أي صافحين ، قالهما الحوفي ، وتبعه أبو البقاء.
وقال الزمخشري : وصفحاً على وجهين : إما مصدر من صفح عنه ، إذا أعرض منتصباً على أنه مفعول له على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه.
وصفح وجهه على معنى : أفننحيه عنكم جانباً؟ فينصب على الظرف ، كما تقول : ضعه جانباً ، وامش جانباً.
وتعضده قراءة من قرأ صفحاً بالضم.
وفي هذه القراءة وجه آخر ، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح ، وينتصب على الحال ، أي صافحين معرضين.
وقال ابن عطية : صفحاً ، انتصابه كانتصاب صنع الله. انتهى.
يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، فيكون العامل فيه محذوفاً ، ولا يظهر هذا الذي قاله ، فليس انتصابه انتصاب صنع الله.
وقرأ نافع والإخوان : بكسر الهمزة ، وإسرافهم كان متحققاً.
فكيف دخلت عليه إن الشرطية التي لا تدخل إلا على غير المتحقق ، أو على المتحقق الذي أنبهم زمانه؟ قال الزمخشري : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي ، وهو عالم بذلك ، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق ، مع وضوحه ، استجهالاً له.
وقرأ الجمهور : أن بفتح الهمزة ، أي من أجل أن كنتم.
قال الشاعر :
أتجزع أن بان الخليط المودع . . .
وقرأ زيد بن علي : إذ كنتم ، بذال مكان النون ، لما ذكر خطاباً لقريش ، { أفنضرب عنك الذكر } ؟ وكان هذا الإنكار دليلاً على تكذيبهم للرسول ، وإنكاراً لما جاء به.
آنسه تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة من استهزائهم بالرسل ، وأنه تعالى أهلك من كان أشد بطشاً من قريش ، أي أكثر عدَداً وعُدداً وجلداً.
{ ومضى مثل الأولين } : أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة.
قال معناه قتادة : وهي العقوبة التي سارت سير المثل ، وقيل : مثل الأولين في الكفر والتكذيب ، وقريش سلكت مسلكها ، وكان مقبلاً عليهم بالخطاب في قوله : { أفنضرب عنكم } ؟ فأعرض عنهم إلى إخبار الغائب في قوله : { فأهلكنا أشد منهم بطشاً }.
{ ولئن سألتهم } : احتجاج على قريش بما يوجب التناقض ، وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله ، ثم هم يتخذون أصناماً آلهة من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم.
قال ابن عطية : ومقتضى الجواب أن يقولوا خلقهن الله ، فلما ذكر تعالى المعنى ، جاءت العبارة عن الله تعالى بالعزيز العليم ، ليكون ذلك توطئة لما عدد من أوصافه الذي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش. انتهى.
وقال الزمخشري : لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه ، وليسندنه إليه. انتهى.
والظاهر أن : { خلقهن العزيز العليم } نفس المحكى من كلامهم ، ولا يدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله ، أن لا يقولوا في سؤال آخر : { خلقهن العزيز العليم }.
و { الذي جعل لكم } : من كلام الله ، خطاباً لهم بتذكير نعمه السابقة.
وكرر الفعل في الجواب في قوله : { خلقهن العزيز العليم } ، مبالغة في التوكيد.
وفي غير ما سؤال ، اقتصروا على ذكر اسم الله ، إذ هو العلم الجامع للصفات العلا ، وجاء الجواب مطابقاً للسؤال من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ ، لأن من مبتدأ.
فلو طابق في اللفظ ، كان بالاسم مبتدأ ، ولم يكن بالفعل.
{ لعلكم تهتدون } : أي إلى مقاصدكم في السفر ، أو تهتدون بالنظر والاعتبار.
بقدر : أي بقضاء وحتم في الأزل ، أو بكفاية ، لا كثيراً فيفسد ، ولا قليلاً فلا يجدي.
{ فأنشرنا } : أحيينا به.
{ بلدة ميتاً } : ذكر على معنى القطر ، وبلدة اسم جنس.
وقرأ أبو جعفر وعيسى : ميتاً بالتشديد.
وقرأ الجمهور : تخرجون : مبنياً للمفعول؛ وابن وثاب ، وعبد الله بن جبير المصبح ، وعيسى ، وابن عامر ، والإخوان : مبنياً للفاعل.
و { الأزواج } : الأنواع من كل شيء.
قيل : وكل ما سوى الله فهو زوج ، كفوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وقدام ، وخلف ، وماض ، ومستقبل ، وذوات ، وصفات ، وصيف ، وشتاء ، وربيع ، وخريف؛ وكونها أزواجاً تدل على أنها ممكنة الوجود ، ويدل على أن محدثها فرد ، وهو الله المنزه عن الضد والمقابل والمعارض. انتهى.
{ والأنعام } : المعهود أنه لا يركب من الأنعام إلا الإبل.
ما : موصولة والعائد محذوف ، أي ما يركبونه.
وركب بالنسبة للعلل ، ويتعدى بنفسه على المتعدي بوساطة في ، إذ التقدير ما يركبونه.
واللام في لتستووا : الظاهر أنها لام كي.
وقال الحوفي : ومن أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا.
وقال ابن عطية : لام الأمر ، وفيه بعد من حيث استعمال أمر المخاطب بتاء الخطاب ، وهو من القلة بحيث ينبغي أن لا يقاس عليه.
فالفصيح المستعمل : اضرب ، وقيل : لتضرب ، بل نص النحويون على أنها لغة رديئة قليلة ، إذ لا تكاد تحفظ إلا قراءة شاذة؛ فبذلك فلتفرحوا بالتاء للخطاب.
وما آثر المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام : لتأخذوا مصافاكم ، مع احتمال أن الراوي روى بالمعنى ، وقول الشاعر :
لتقم أنت يا ابن خير قريش . . .
فتقضي حوائج المسلمينا
وزعم الزجاج أنها لغة جيدة ، وذلك خلاف ما زعم النحويون.
والضمير في ظهوره عائد على ما ، كأنه قال : على ظهور ما تركبون ، قاله أبو عبيدة؛ فلذلك حسن الجمع ، لأن مآلها لفظ ومعنى.
فمن جمع ، فباعتبار المعنى؛ ومن أفرد فباعتبار اللفظ ، ويعني : { من الفلك والأنعام }.
وقال الفراء نحواً منه ، قال : أضاف الظهور ، { ثم تذكروا } ، أي في قلوبكم ، { نعمة ربكم } ، معترفين بها مستعظمين لها.
لا يريد الذكر باللسان بل بالقلب ، ولذلك قابله بقوله : { وتقولوا سبحان الذين سخر لنا هذا } ، أي تنزهوا الله بصريح القول.
وجاء في الحديث : « أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، إلى قوله المنقلبون ، وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً ، وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : { بسم الله مجراها ومرساها } إلى رحيم ، ويقال عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين » والقرن : الغالب الضابط المطيق للشيء ، يقال : أقرن الشيء ، إذا أطاقه.
قال ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما . . .
يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر
وحقيقة أقرنه : وجده ، قرينته وما يقرن به : لأن الصعب لا يكون قرينة للضعف.
قال الشاعر :
وابن اللبون إذا ما لذ في قرن . . .
لم يستطع صولة البذل القناعيس
والقرن : الحبل الذي يقرن به.
وقال أبو عبيد : فلان مقرن لفلان ، أي ضابط له ، والمعنى : أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك ، وإنما الله الذي سخرها.
وأنشد قطرب لعمرو بن معد يكرب :
لقد علم القبائل ما عقيل . . .
لنا في النائبات بمقرنينا
وقرىء : لمقترنين ، اسم فاعل من اقترن.
{ وإنا إلى ربنا لمنقلبون } : أي راجعون ، وهو إقرار بالرجوع إلى الله ، وبالبعث ، لأن الراكب في مظنة الهلاك بالغرق إذا ركب الفلك ، وبعثور الدابة ، إذ ركوبها أمر فيه خطر ، ولا تؤمن السلامة فيه.
فقوله هذا تذكير بأنه مستشعر الصيرورة إلى الله ، ومستعد للقائه ، فهو لا يترك ذلك من قلبه ولا لسانه.
{ وجعلوا له } : أي وجعل كفار قريش والعرب له ، أي لله.
من عباده : أي ممن هم عبيد الله.
جزءاً ، قال مجاهد : نصيباً وحظاً ، وهو قول العرب : الملائكة بنات الله.
وقال قتادة جزءاً ، أي نداً ، وذلك هو الأصنام وفرعون ومن عبد من دون الله.
وقيل : الجزء : الإناث.
قال بعض اللغويين : يقال أجزأت المرأة ، إذا ولدت أنثى.
قال الشاعر :
إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب . . .
قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا
قيل : هذا البيت مصنوع ، وكذا قوله :
زوجها من بنات الأوس مجزئة . . .
ولما تقدم أنهم معترفون بأنه تعالى هو خالق العالم ، أنكر عليهم جعلهم لله جزءاً ، وقد اعترفوا بأنه هو الخالق ، فكيف وصفوه بصفة المخلوق؟ { إن الإنسان لكفور } نعمة خالقه.
{ مبين } : مظهر لجحوده.
والمراد بالإنسان : من جعل لله جزءاً ، وغيرهم من الكفرة.
قال ابن عطية : ومبين في هذا الموضع غير متعد. انتهى.
وليس يتعين ما ذكر ، بل يجوز أن يكون معناه ظاهراً لكفران النعم ومظهراً لجحوده ، كما قلنا.
{ أم اتخذ مما يخلق بنات } ؟ استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم؟ كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه حين أنتم تسود وجوهكم عند التبشير بهن وتئدونهن؟ { وأصفاكم } : جعل لكم صفوة ما هو محبوب ، وذلك البنون.
وقوله : { مما يخلق } ، تنبيه على استحالة الولد ، ذكراً كان أو أنثى ، وإن فرض اتخاذ الولد ، فكيف يختار له الأدنى ويخصكم بالأعلى؟ وقدم البنات ، لأنه المنكر عليهم لنسبتهن إلى الله ، وعرف البنين دون البنات تشريفاً لهم على البنات.
{ وإذا بشر أحدهم } : تقدم تفسير نظيرها في سورة النحل.
{ أو من ينشؤا في الحلية } : أي ينتقل في عمره حالاً فحالاً في الحلية ، وهو الحلى الذي لا يليق إلا بالإناث دون الفحول ، لنزينهن بذلك لأزواجهن ، وهو إن خاصم ، لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل ، أظهر بهذا لحقوقهن وشفوف البنين عليهن.
وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كالمرأة ، وأن يكون مخشوشناً.
والفحل من الرجال أبى أن يكون متصفاً بصفات النساء ، والظاهر أنه أراد بمن ينشؤا في الحلية : النساء.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ويدل عليه قوله : { وهو في الخصام غير مبين } : أي لا يظهر حجة ، ولا يقيم دليلاً ، ولا يكشف عما في نفسه كشفاً واضحاً.
ويقال : قلما تجد امرأة لا تفسد الكلام ، وتخلط المعاني ، حتى ذكر عن بعض الناس أنه قال : إذا دخلنا على فلانة ، لا تخرج حتى نعلم أن عقلها عقل امرأة.
وقال ابن زيد : المراد بمن ينشؤا في الحلية : الأصنام ، وكانوا يتخذون كثيراً منها من الذهب والفضة ، ويجعلون الحلى على كثيرة منها ، ويبعد هذا القول قوله : { وهو في الخصام غير مبين } ، إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإنه كقوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره . . .
أي : لا منار له فيهتدى به.
ومن : في موضع نصب ، أي وجعلوا من ينشأ.
ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء ، أي من ينشأ جعلوه لله.
وقرأ الجمهور : ينشأ مبنياً للفاعل ، والجحدري في قول : مبنياً للمفعول مخففاً ، وابن عباس وزيد بن علي والحسن ومجاهد والجحدري : في رواية ، والإخوان وحفص والمفضل وإبان وابن مقسم وهارون ، عن أبي عمرو : مبنياً للمفعول مشدداً ، والحسن : في رواية يناشؤ على وزن يفاعل مبنياً للمفعول ، والمناشأة بمعنى الإنشاء ، كالمعالاة بمعنى الإعلاء.
{ وفي الخصام } : متعلق بمحذوف تفسيره غير مبين ، أي وهو لا يبين في الخصام.
ومن أجاز أما زيداً ، غير ضارب بأعمال المضاف إليه في غير أجاز أن يتعلق بمبين ، أجرى غير مجرى لا.
وبتقديم معمول أما بعد لا مختلف فيه ، وقد ذكر ذلك في النحو.
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
لم يكفهم أن جعلوا لله ولداً ، وجعلوه إناثاً ، وجعلوهم من الملائكة ، وهذا من جهلهم بالله وصفاته ، واستخفافهم بالملائكة ، حيث نسبوا إليهم الأنوثة.
وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والابنان ، ونافع : عند الرحمن ، ظرفاً ، وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة لقوله : { إن الذين عند ربك } وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعلقمة ، وباقي السبعة : عباد الرحمن ، جمع عبد لقوله : { بل عباد مكرمون } وقرأ الأعمش : عباد الرحمن ، جمعاً.
وبالنصب ، حكاها ابن خالويه ، قال : وهي في مصحف ابن مسعود كذلك ، والنصب على إضمار فعل ، أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن ، وأنشأوا عباد الرحمن إناثاً.
وقرأ أبيّ عبد الرحمن : مفرداً ، ومعناه الجمع ، لأنه اسم جنس.
وقرأ الجمهور : وأشهدوا ، بهمزة الاستفهام داخلة على شهدوا ، ماضياً مبنياً للفاعل ، أي أحضروا خلقهم ، وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدي.
وقيل : سألهم الرسول عليه السلام : « ما يدريكم أنهم إناث » ؟ فقالوا : سمعنا ذلك من آبائنا ، ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا ، فقال الله تعالى : { ستكتب شهادتهم ويسألون } عنها ، أي في الآخرة.
وقرأ نافع : بهمزة داخلة على أشهدوا ، رباعياً مبنياً للمفعول بلا مد بين الهمزتين.
والمسبى عنه : بمدة بينهما؛ وعليّ بن أبي طالب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وفي رواية أبي عمرو ، ونافع : بتسهيل الثانية بلا مد؛ وجماعة : كذلك بمد بينهما.
وعن عليّ والمفضل ، عن عاصم : تحقيقهما بلا مد؛ والزهري وناس : أشهدوا بغير استفهام ، مبنياً للمفعول رباعياً ، فقيل : المعنى على الاستفهام ، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها.
وقيل : الجملة صفة للإناث ، أي إناثاً مشهداً منهم خلقهم ، وهم لم يدعوا أنهم شهدوا خلقهم ، لكن لما ادّعوا لجراءتهم أنهم إناث ، صاروا كأنهم ادعوا ذلك وإشهادهم خلقهم.
وقرأ الجمهور : إناثاً ، وزيد بن عليّ : أنثاً ، جمع جمع الجمع.
قيل : ومعنى وجعلوا : سموا ، وقالوا : والأحسن أن يكون المعنى : وصيروا اعتقادهم الملائكة إناثاً ، وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم ، والمعنى : إظهار فساد عقولهم ، وأن دعاويهم مجردة من الحجة ، وهذا نظير الآية الطاعنة على أهل التنجيم والطبائع : { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } وقرأ الجمهور : ستكتب ، بالتاء من فوق مبنياً للمفعول.
شهادتهم : بالرفع مفرداً؛ والزبيري كذلك ، إلا أنه بالياء؛ والحسن كذلك ، إلا أنه بالتاء ، وجمع شهادتهم؛ وابن عباس ، وزيد بن عليّ ، وأبو جفعر ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجحدري ، والأعرج : بالنون مبنياً للفاعل ، شهادتهم على الإفراد.
وقرأ فرقة : سيكتب بالياء مبنياً للفاعل ، أي الله؛ شهادتهم : بفتح التاء.
والمعنى : أنه ستكتب شهادتهم على الملائكة بأنوثتهم.
ويسألون : وهذا وعيد.
{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } : الضمير للملائكة.
قال قتادة ومقاتل : في آخرين.
وقال مجاهد : الأوثان علقوا انتفاء العبادة على المشيئة ، لكن العبادة وجدت لما انتفت المشيئة ، فالمعنى : أنه شاء العبادة ، ووقع ما شاء ، وقد جعلوا إمهال الله لهم وإحسانه إليهم ، وهم يعبدون غيره ، دليلاً على أنه يرضى ذلك ديناً.
وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في أواخر الأنعام ، وفي الكلام حذف ، أي فنحن لا نؤاخذ بذلك ، إذ هو وفق مشيئة الله ، ولهذا قال : { ما لهم بذلك من علم } ، أي بما ترتب على عبادتهم من العقاب ، { إن هم إلا يخرصون } : أي يكذبون.
وقيل : الإشارة بذلك إلى ادعائهم أن الملائكة إناث.
وقال الزمخشري : هما كفرتان مضمومتان إلى الكفرات الثلاث ، وهم : عبادتهم الملائكة من دون الله ، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئه ، كما يقول إخوانهم المجبرة. انتهى.
جعل أهل السنة أخوات للكفرة عباد الملائكة ، ثم أورد سؤالاً وجواباً جارياً على ما اختاره من مذهب الاعتزال ، يوقف على ذلك في كتابه ، ولما نفى عنهم ، علم ترك عقابهم على عبادة غير الله ، أي ليس يدل على ذلك عقل.
نفى أيضاً أن يدل على ذلك سمع ، فقال : { أم آتيناهم كتاباً } من قبل نزول القرآن ، أو من قبل إنذار الرسل ، يدل على تجويز عبادتهم غير الله ، وأنه لا يترتب على ذلك.
ثم أخبر تعالى أنهم في ذلك مقلدون لآبائهم ، ولا دليل لهم من عقل ولا نقل.
ومعنى : { على أمّة } : أي طريقة ودين وعادة ، فقد سلكنا مسلكهم ، ونحن مهتدون في اتباع آثارهم؛ ومنه قول قيس بن الحطيم :
كنا على أمّة آبائنا . . .
ويقتدى بالأول الآخر
وقرأ الجمهور : أمّة ، بضم الهمزة.
وقال مجاهد ، وقطرب : على ملة.
وقال الجوهري : والأمّة : الطريقة ، والذي يقال : فلان لا أمّة له : أي لا دين ولا نحلة.
قال الشاعر :
وهل يستوي ذو أمّة وكفور . . .
وتقدّم الكلام في أمّة في قوله : { وادّكر بعد أمّة } وقرأ عمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة ، والجحدري : بكسر الهمزة ، وهي الطريقة الحسنة لغة في الأمّة بالضم ، قاله الجوهري.
وقرأ ابن عباس : أمّة ، بفتح الهمزة ، أي على قصد وحال ، والخلاف في الحرف الثاني كهو في الأول.
وحكى مقاتل : إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة بن أبي ربيعة من قريش ، أي كما قال من قبلهم أيضاً ، يسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
والمترف : المنعم ، أبطرتهم النعمة ، فآثروا الشهوات ، وكرهوا مشاق التكاليف.
وقرأ الجمهور : قل على الأمر؛ وابن عامر وحفص : قال على الخبر.
وقرأ الجمهور : جئتكم ، بتاء المتكلم؛ وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن مقسم ، والزعفراني ، وأبو شيخ الهنائي ، وخالد : جئناكم ، بنون المتكلمين.
والظاهر أن الضمير في قال ، أو في قل ، للرسول ، أي : قل يا محمد لقومك : أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم؟ وهذا تجهيل لهم ، حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل.
{ قالوا إنا بما أرسلتم } ، أنت والرسل قبلك.
غلب الخطاب على الغيبة.
{ فانتقمنا منهم } بالقحط والقتل والسبي والجلاء.
{ فانظر كيف كان عاقبة } من كذبك.
وقال ابن عطية في قال : ضمير يعود على النذير ، وباقي الآية يدل على أن قل في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير.
ولو : في هذا الموضع ، كأنها شرطية بمعنى : إن ، كان معنى الآية : أو إن جئتكم بأبين وأوضح مما كان عليه آباؤكم ، يصحبكم لجاجكم وتقليدكم ، فأجاب الكفار حينئذ من الأمم المكذبة بأنبيائها ، كما كذبت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر هو ما قدمناه.
{ وإذ قال ابراهيم لقومه } : وذكر العرب بحال جدّهم الأعلى ، ونهيه عن عبادة غير الله ، وإفراده بالتوحيد والعبادة هزؤاً لهم ، ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم ، إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته ، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقلد أباه في عبادة الأصنام ، فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين ، وترجعوا إلى النظر واتباع الحق.
وقرأ الجمهور : برآء ، مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما ، يقال : نحن البراء منك ، وهي لغة العالية.
وقرأ الزعفراني والقورصي ، عن أبي جعفر وابن المناذري ، عن نافع : بضم الباء؛ والأعمش : برىء ، وهي لغة نجد وشيخيه ، ويجمع ويؤنث ، وهذا نحو : طويل وطوال ، وكريم وكرام.
وقرأ الاعمش : إني ، بنون مشددة دون نون الوقاية؛ والجمهور : إنني ، بنونين ، الأولى مشددة.
والظاهر أن قوله : { إلا الذي فطرني } استثناء منقطع ، إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم.
وقيل : كانوا يشركون أصنامهم معه تعالى في العبادة ، فيكون استثناء متصلاً.
وعلى الوجهين ، فالذي في موضع نصب ، وإذا كان استثناء متصلاً ، كانت ما شاملة من يعلم ومن لا يعلم.
وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجروراً بدلاً من المجرور بمن ، كأنه قال : إنني براء مما تعبدون ، إلا من الذي.
وأن تكون إلا صفة بمعنى : غير ، على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني ، فهو نظير قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } انتهى.
ووجه البدل لا يجوز ، لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام.
ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له؟ وإنني بريء ، جملة موجبة ، فلا يصلح أن يفرغ العامل فيها للذي هو بريء لما بعد إلا.
وعن الزمخشري : كون بريء ، فيه معنى الانتفاء ، ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا.
وأما تقديره ما نكرة موصوفة ، فلم يبقها موصولة ، لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة.
وهذه المسألة فيها خلاف.
من النحويين من قال : توصف بها النكرة والمعرفة ، فعلى هذا تبقى ما موصولة ، ويكون إلا في موضع الصفة للمعرفة ، وجعله فطرني في صلة الذي.
تنبيه على أنه لا يعبد ولا يستحق العبادة إلا الخالق للعباد.
{ فإنه سيهدين } : أي يديم هدايتي ، وفي مكان آخر : { الذين خلقني فهو يهدين } فهو هاديه في المستقبل.
والحال والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم ، وقيل على الله.
والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها ، وهي قوله : { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني }.
وقال قتادة ومجاهد والسدي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، لأن اللفظ يتضمنها.
وقال ابن زيد : كلمة الإسلام لقوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت } { هو سماكم المسلمين } وقرأ حميد بن قيس : كلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام.
وقرىء : في عقبه ، بسكون القاف ، أي في ذريته.
وقرىء : في عاقبه ، أي من عقبه ، أي خلقه.
فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده.
لعلهم : أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم.
وقرأ الجمهور : بل متعت ، بتاء المتكلم ، والإشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه السلام من العرب.
لما قال : { في عقبه } ، قال تعالى : لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم في كفرهم ، فليسوا ممن تعقب كلمة التوحيد فيهم.
وقرأ قتادة والأعمش : بل متعت ، بتاء الخطاب ، ورواها يعقوب عن نافع.
قال صاحب اللوامح : وهي من مناجاة إبراهيم عليه السلام ربه تعالى.
والظاهر أنه من مناجاة محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : قال يا رب بل متعت.
وقرأ الأعمش : متعنا ، بنون العظمة ، وهي تعضد قراءة الجمهور.
{ حتى جاءهم الحق } ، وهو القرآن؛ { ورسول مبين } ، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه من قرأ : بل متعت ، بفتح التاء؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد.
وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله.
فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع ، ثم أردفه قوله : { ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر } ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته.
فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد { حتى جاءهم الحق ورسول مبين } ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : { ولما جاءهم الحق } ، جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها ، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة ، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد صلى الله عليه وسلم من أهل زمانه بقولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم.
انتهى ، وهو حسن لكن فيه إسهاب.
والضمير في : وقالوا ، لقريش ، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولاً ، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى ، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم.
فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ، ناقضوا فيما يخص محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : لم كان محمداً ، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال.
وقرىء : على رجل ، بسكون الجيم.
من القريتين : أي من إحدى القريتين.
وقيل : من رجل القريتين ، وهما مكة والطائف.
قال ابن عباس : والذي من مكة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة ، وكنانة بن عبد ياليل.
وقال قتادة : الوليد بن المغيرة ، وعروة بن مسعود الثقفي.
قال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه ، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش ، وكان يقول : لو كان ما يقول محمد حقاً لنزل عليّ أو على ابن مسعود ، يعني عروة بن مسعود ، وكان يكنى أبا مسعود.
{ أهم يقسمون رحمة ربك } ؟ فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم ، كأنه قيل : على اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها.
ثم في إضافته في قوله : { رحمة ربك } ، تشريف له صلى الله عليه وسلم ، وأن هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك والمربيك.
ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم ، فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه تعالى.
وإذا كان هو الذي تولى ذلك ، وفاوت بينهم ، وذلك في الأمر الفاني ، فكيف لا يتولى الأمر الخطير ، وهو إرسال من يشاء ، فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك ، بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم.
وقرأ الجمهور : معيشتهم ، على الإفراد؛ وعبد الله ، والأعمش ، وابن عباس ، وسفيان : معائشهم ، على الجمع.
والجمهور : سخرياً ، بضم السين؛ وعمرو بن ميمون ، وابن محيصن؛ وابن أبي ليلى ، وأبو رجاء ، والوليد بن مسلم ، وابن عامر : بكسرها ، وهو من التسخير ، بمعنى : الاستعباد والاستخدام ، ليرتفق بعضهم ببعض ويصلوا إلى منافعهم.
ولو تولى كل واحد جميع أشغاله بنفسه ، ما أطاق ذلك وضاع وهلك.
ويبعد أن يكون سخرياً هنا من الهزء ، وقد قال بعضهم : أي يهزأ الغني بالفقير.
وفي قوله : { نحن قسمنا } ، تزهيد في الإكباب على طلب الدنيا ، وهون على التوكل على الله.
وقال مقاتل : فاضلنا بينهم ، فمن رئيس ومرؤوس.
وقال قتادة : تلقى ضعيف القوة ، قليل الحيلة ، غني اللسان ، وهو مبسوط له؛ وتلقى شديد الحيلة ، بسيط اللسان ، وهو مقتر عليه.
وقال الشافعي ، رحمه الله :
ومن الدليل على القضاء وكونه . . .
بؤس الفقير وطيب عيش الأحمق
ورحمة ربك : قيل النبوة ، وقيل : الهداية والإيمان.
وقال قتادة والسدي : الجنة خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا ، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها.
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
بين تعالى أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله ، أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر ، إذا رأوا الكافر في سعة ، ويصيروا أمة واحدة في الكفر.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ، ولكن تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن.
قال ابن عطية : واللام في : لمن يكفر ، لام الملك ، وفي : لبيوتهم ، لام تخصيص.
كما تقول : هذا الكساء لزيد لدابته ، أي هو لدابته حلس ولزيد ملك ، انتهى.
ولا يصح ما قاله ، لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل ، فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى.
أما أن يختلف المدلول ، فلا واللام في كليهما للتخصيص.
وقال الزمخشري : لبيوتهم بدل اشتمال من قوله : { لمن يكفر } ، ويجوز أن تكونا بمنزلة اللامين في قولك : وهبت له ثوباً لقميصه.
انتهى ، ولا أدري ما أراد بقوله : ويجوز إلى آخره.
وقرأ الجمهور : سقفاً ، بضمتين؛ وأبو رجاء : بضم وسكون ، وهما جمع سقف ، لغة تميم ، كرهن ورهن؛ وابن كثير وأبو عمرو : بفتح السين والسكون على الإفراد.
وقال الفراء : جمع سقيفة ، وقرىء بفتحتين ، كأنه لغة في سقف؛ وقرىء : سقوفاً ، جمعاً على فعول نحو : كعب وكعوب.
وقرأ الجمهور : ومعارج جمع معرج ، وطلحة : ومعاريج جمع معراج ، وهي المصاعد إلى العلالي عليها ، أي يعلون السطوح ، كما قال : { فما اسطاعوا أن يظهروه } وقرأ الجمهور : وسرراً ، بضم السين؛ وقرىء بفتحها ، وهي لغة لبعض تميم وبعض كلب ، وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسماً باتفاق وصفة نحو : ثوب جديد ، وثياب جدد ، باختلاف بين النحاة.
وهذه الأسماء معاطيف على قوله : { سقفاً من فضة } ، فلا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة.
وقال الزمخشري : سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً ، كلها من فضة.
انتهى ، كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه وزخرفاً.
قال الزمخشري : وجعلنا لهم زخرفاً ، ويجوز أن يكون الأصل : سقفاً من فضة وزخرف ، يعني : بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، فنصب عطفاً على محل من فضة. انتهى.
والزخرف : الذهب هنا ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.
وفي الحديث : « إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان » قال ابن عطية : الحسن أحمر ، والشهوات تتبعه. انتهى.
قال بعض شعرائنا :
وصبغت درعك من دماء كماتهم . . .
لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
وقال ابن زيد : الزخرف : أثاث البيت ، وما يتخذ له من السرور والنمارق.
وقال الحسن : النقوش ، وقيل : التزاويق ، كالنقش.
وقرأ الجمهور : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم : هي مخففة من الثقيلة ، واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي ، وما : زائدة ، ومتاع : خبر كل.
وقرأ الحسن ، وطلحة ، والأعمش ، وعيسى ، وعاصم ، وحمزة : لما ، بتشديد الميم ، وإن : نافية ، ولما : بمعنى إلا.
وقرأ أبو رجاء ، وأبو حيوة : لما ، بكسر اللام ، وخرّجوه على أن ما موصولة ، والعائد محذوف تقديره : للذي هو متاع كقوله : { تماماً على الذين أحسن } وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة ، وكل : مبتدأ وخبره في المجرور ، أي : وإن كل ذلك لكائن ، أو لمستقر الذي هو متاع ، ومن حيث هي المخففة من الثقيلة ، كان الإتيان باللام هو الوجه ، فكان يكون التركيب لكما متاع ، لكنه قد تحذف هذه اللام إذا دل المعنى على أن إن هي المخففة من الثقيلة ، فلا يجر إلى ذكر اللام الفارقة ، ومن ذلك قول الشاعر :
ونحن أباة الضيم من آل مالك . . .
وإن مالك كانت كرام المعادن
يريد : لكانت ، ولكنه حذف لأنه لا يتوهم في إن أن تكون نافية ، لأن صدر البيت يدل على المدح ، وتعين إن لكونها المخففة من الثقيلة.
{ والآخرة عند ربك للمتقين } : أي ونعيم الآخرة ، وفيه تحريض على التقوى.
وقرأ : ومن يعش ، بضم الشين ، أي يتعام ويتجاهل عن ذكره ، وهو يعرف الحق.
وقيل : يقل نظره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في : { ذكر الرحمن }.
والذكر هنا ، يجوز أن يراد به القرآن ، واحتمل أن يكون مصدراً أضيف إلى المفعول ، أي يعش عن أن يذكر الرحمن.
وقال ابن عطية : أي فيما ذكر عباده ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل.
انتهى ، كأنه يريد بالذكر : التذكير.
وقرأ يحيى بن سلام البصري : ومن يعش ، بفتح الشين ، أي يعم عن ذكر الرحمن ، وهو القرآن ، كقوله : { صم بكم عمي } وقرأ زيد بن علي : يعشو بالواو.
وقال الزمخشري : على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وحق هذا القارىء أن يرفع نقيض. انتهى.
ولا يتعين ما قاله ، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن تكون من شرطية ، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديراً.
وقد ذكر الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب ، ويحذفون حروف العلة للجازم.
والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر ، لا في الكلام.
والوجه الثاني : أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط ، وإذا كان ذلك مسموعاً في الذي ، وهو لم يكن اسم شرط قط ، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولاً وشرطاً.
قال الشاعر :
ولا تحفرن بئراً تريد أخاً بها . . .
فإنك فيها أنت من دونه تقع
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً . . .
تصبه على رغم عواقب ما صنع
أنشدهما ابن الأعرابي ، وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو : أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره ، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر ، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسبباً عن الصلة بشروطه المذكورة في علم النحو ، وهذا لا ينفيه البصريون.
وقرأ الجمهور : نقيض ، بالنون؛ وعلي ، والسلمي ، والأعمش ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بخلاف عنه؛ وحماد عن عاصم ، وعصمة عن الأعمش ، وعن عاصم ، والعليمي عن أبي بكر : بالياء ، أي يقبض الرحمن؛ وابن عباس : يقبض مبنياً للمفعول.
{ له شيطاناً } : بالرفع ، أي ييسر له شيطان ويعدله ، وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح.
كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات.
وقال الزمخشري : يخذله ، ويحل بينه وبين الشياطين ، كقوله : { وقضينا له قرناء } { ألم تر إنا أرسلنا الشياطين } انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
والظاهر أن ضمير النصب في { وإنهم ليصدونهم } عائد على من ، على المعنى أعاد أولاً على اللفظ في إفراد الضمير ، ثم أعاد على المعنى.
والضمير في يصدونهم عائد على شيطان وإن كان مفرداً ، لأنه مبهم في جنسه ، ولكل عاش شيطان قرين ، فجاز أن يعود الضمير مجموعاً.
وقال ابن عطية : والضمير في قوله : وإنهم ، عائد على الشيطان ، وفي : ليصدونهم ، عائد على الكفار. انتهى.
والأولى ما ذكرناه لتناسق الضمائر في وإنهم ، وفي ليصدونهم ، وفي ويحسبون ، لمدلول واحد ، كأن الكلام : وأن العشاة ليصدونهم الشياطين عن السبيل ، أي سبيل الهدى والفوز ، ويحسبون : أي الكفار.
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وقتادة ، والزهري ، والجحدري ، وأبو بكر ، والحرميان : حتى إذا جاآنا ، على التثنية ، أي العاشي والقرين إعادة على لفظ من والشيطان ، وإن كان من حيث المعنى صالحاً للجمع.
وقرأ الأعمش ، والأعرج ، وعيسى ، وابن محيصن ، والإخوان : جاءنا على الإفراد ، والضمير عائد على لفظ من أعاد أولاً على اللفظ ، ثم جمع على المعنى ، ثم أفرد على اللفظ؛ ونظير ذلك : { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً } أفرد أولاً ثم جمع في قوله : { خالدين } ، ثم أفرد في قوله : { له رزقاً }.
روى أنهما يجعلان يوم البعث في سلسلة ، فلا يفترقان حتى يصيرهما الله إلى النار قال ، أي الكافر للشيطان : { ياليت بين وبينك بعد المشرقين }.
تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصدّه عن سبيل الله ، أو تمنى ذلك في الآخرة ، وهو الظاهر ، لأنه جواب إذا التي للاستقبال ، أي مشرقي الشمس : مشرقها في أقصر يوم من السنة ، ومشرقها في أطول يوم من السنة ، قاله ابن السائب ، أو بعد المشرق ، أو المغرب غلب المشرق فثناهما ، كما قالوا : العمران في أبي بكر وعمر ، والقمران في الشمس والقمر ، والموصلان في الجزيرة والموصل ، والزهدمان في زهدم وكردم ، والعجاجان في رؤبة والعجاج ، والأبوان في الأب والأم ، وهذا اختيار الفراء والزجاج ، ولم يذكره الزمخشري.
قال : فإن قلت : فما بعد المشرقين؟ قلت : تباعدهما ، والأصل بعد المشرق من المغرب ، والمغرب من المشرق ، فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية؛ أضاف البعد إليهما. انتهى.
وقيل : بعد المشرقين من المغربين ، واكتفى بذكر المشرقين.
وكأنه في هذا القول يريد مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما.
{ فبئس القرين } : مبالغة منه في ذم قرينه ، إذا كان سبب إيراده النار.
والمخصوص بالذم محذوف ، أي فبئس القرين أنت.
{ ولن ينفعكم اليوم } : حكاية حال يقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمراره مدته ، إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب.
ألا ترى إلى قول الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي . . .
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن . . .
أعزي النفس عنه بالتأسي
فهذا التأسي قد كفاها مؤنة قتل النفس ، فنفى الله عنهم الانتفاع بالتأسي؛ وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير؛ وهذا لا يكون إلا على تقدير أن يكون الفاعل ينفعكم أنكم ومعمولاها ، أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب إن لن يخفف عنكم اشتراككم في العذاب.
وإذا كان الفاعل غير أن ، وهو ضمير ، يعود على ما يفهم من الكلام قبله ، أي يتمنى مباعدة القرين والتبرؤ منه ، ويكون أنكم تعليلاً ، أي لاشتراككم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه ، وهو الكفر.
وقال مقاتل المعنى : ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، لأنكم وقرناءكم مشتركون في العذاب ، كما اشتركتم في الكفران في الدنيا.
وعلى كون الفاعل غير أن ، وهي قراءة الجمهور ، لا يتضمن الكلام نفي التأسي.
وقرىء : إنكم بالكسر ، فدل على إضمار الفاعل ، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل.
واليوم وإذ ظرفان ، فاليوم ظرف حال ، وإذ ظرف ماض.
أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه ، أو لتجوز في المستقبل ، كقوله : { فمن يستمع الآن } وقول الشاعر :
سأشقى الآن إذ بلغت مناها . . .
_@_وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل ، فقال الزمخشري : وإذ بدل من اليوم. انتهى.
وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم ، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ، ونظيره_@_ :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة . . .
أي تبين أني ولد كريمة. انتهى.
ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفاً لما مضى من الزمان.
فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ، وتخريجها على البدل ، أخذه الزمخشري من ابن جني.
قال في مساءلته أبا علي : راجعته فيها مراراً ، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان ، وهما سواء في حكم الله وعلمه ، فيكون إذ بدلاً من اليوم ، حتى كأنها مستقبلة ، أو كأن اليوم ماض.
وقيل : التقدير بعد إذ ظلمتم ، فحذف المضاف للعلم به.
وقيل : إذ للتعليل حرفاً بمعنى إن.
وقال الحوفي : اليوم ظرف متعلق بينفعكم ، ولا يجوز تعلق إذ به ، لأنهما ظرفا زمان ، يعني متغايرين في المعنى تغايراً لا يمكن أن يجتمعا ، قال : فلا يصح أن يكون بدلاً من الأخير ، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضى.
قال : ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى ، كأنه قال : ولن ينفعكم اجتماعكم ، ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك.
وقيل : الفاعل محذوف تقديره ظلمكم ، أو جحدكم ، وهو العامل في إذ ، لا ضمير الفاعل لما ذكر تعالى حال الكفار وما يقال لهم.
وكانت قريش تسمع ذلك ، فلا تزداد إلا عتواً واعتراضاً ، وكان هو صلى الله عليه وسلم ، يجتهد في تحصيل الإيمان لهم.
خاطبة تعالى تسلية له باستفهام تعجيب ، أي أن هؤلاء صم ، فلا يمكنك إسماعهم ، عميٌ حيارى ، فلا يمكنك أن تهديهم ، وإنما ذلك راجع إليه تعالى.
ولما كانت حواسهم لن ينتفعوا بها الانتفاع الذي يجري خلاصهم من عذاب الله ، جعلوا صماً عمياً حيارى ، ويزيد بهم قريشاً ، فهم جامعو الأوصاف الثلاثة ، ولذلك عاد الضمير عليهم في قوله : { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } ، ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله : { أفأنت تسمع الصم } الآية.
والمعنى : أن قبضناك قبل نصرك عليهم ، فإنا منهم منتقمون في الآخرة كقوله : { أو نتوفينك فإلينا يرجعون } { أَو نرينك الذي وعدناهم } من العذاب النازل بهم كيوم بدر ، { فإنا عليهم مقتدرون } : أي هم في قبضتنا ، لا يفوتوننا ، وهذا قول الجمهور.
وقال الحسن وقتادة : المتوعد هم الأمة ، أكرم الله تعالى نبيه عن أن ينتقم منهم في حياته ، كما انتقم من أمم الأنبياء في حياتهم ، فوقعت النقمة منهم بعد موته عليه السلام في العين الحادثة في صدر الإسلام ، مع الخوارج وغيرهم.
وقرىء : نرينك بالنون الخفيفة.
ولما ردد تعالى بين حياته وموته صلى الله عليه وسلم ، أمره بأن يستمسك بما أوحاه إليه.
وقرأ الجمهور : أوحى مبنياً للمفعول ، وبعض قراء الشام : بإسكان الياء ، والضحاك : مبنياً للفاعل ، وأنه ، أي وإن ما أوحينا إليك ، { لذكر لك ولقومك } : أي شرف ، حيث نزل عليهم وبلسانهم ، جعل تبعاً لهم.
والقوم على هذا قريش ثم العرب ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.
كان عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ، فإذا قالوا له : لمن يكون الأمر بعدك؟ سكت ، حتى نزلت هذه الآية.
فكان إذا سئل عن ذلك قال : «لقريش» ، فكانت العرب لا تقبل حتى قبلته الأنصار.
وقال الحسن : القوم هنا أمّته ، والمعنى : وإنه لتذكرة وموعظة.
قيل : وهذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن الجميل ، ولو لم يكن ذلك مرغوباً فيه ، ما امتن به تعالى على رسوله فقال : { وإنه لذكر لك ولقومك }.
وقال إبراهيم عليه السلام : { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } والذكر الجميل قائم مقام الحياة ، بل هو أفضل من الحياة ، لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في الحي ، وأثر الذكر الجميل يحصل في كل مكان ، وفي كل زمان. انتهى.
وقال ابن دريد :
وإنما المراد حديث بعده . . .
فكن حديثاً حسناً لمن وعا
وقال الآخر :
إنما الدنيا محاسنها . . .
طيب ما يبقى من الخبر
وذكر أن هلاون ، ملك التتر ، سأل أصحابه : من الملك؟ فقالوا : أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعت لك الملوك.
فقال : لا الملك هذا ، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن ، هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة ، قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم خمس مرات؟ يريد محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وسوف تسألون } ، قال الحسن عن شكر هذه النعمة.
وقال مقاتل : المراد من كذب به يسأل سؤال توبيخ.
{ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } ، قيل : هو على ظاهره ، وأن جبريل عليه السلام قال له ليلة الإسراء ، حين أم بالأنبياء : { وأسأل من أرسلنا } ، فلم يسألهم ، إذ كان أثبت يقيناً ، ولم يكن في شك.
وروي ذلك عن ابن عباس ، وابن جبير ، والزهري ، وابن زيد ، وفي الأثر أن ميكال قال لجبريل : هل سأل محمد عن ذلك؟ فقال : هو أعظم يقيناً وأوثق إيماناً من أن يسأله ذلك.
وقال ابن عباس أيضاً ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وعطاء : أراد واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، إذ يستحيل سؤال الرسل أنفسهم ، وليسوا مجتمعين في الدنيا.
قال الفراء : هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم ، فكأنه سأل الرسل ، والسؤال الواقع مجاز عن النظر ، حيث لا يصلح لحقيقته ، كثير منه مساءلة الشعراء الديار والأطلال ، ومنه : سيد الأرض من شق نهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً.
فالسؤال هنا مجاز عن النظر في أديانهم : هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ والذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات ، فقيل له : اسأل أيها الناظر أتباع الرسل ، أجاءت رسلهم بعبادة غير الله؟ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ، ولا يمكن أن يأتوا به.
وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : واسألني ، واسألنا عن من أرسلنا ، وعلق واسأل ، فارتفع من ، وهو اسم استفهام على الابتداء ، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض ، كان سؤاله : من أرسلت يا رب قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد؟ ثم ساق السؤال فحكى المعنى ، فرد الخطاب إلى محمد في قوله : { من قبلك }.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين : أحدهما : أنه لما تقدم طعن قريش على الرسول ، واختيارهم أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم ، أي في الجاه والمال؛ وذكر أن مثل ذلك سبقهم إليه فرعون في قوله : { أليس لي ملك مصر } ؟ إلى آخر الآية ، أتبعه بالملك والمال ، ففرعون قدوتهم في ذلك ، ومع ذلك ، فصار فرعون مقهوراً مع موسى منتقماً منه ، فكذلك قريش.
والوجه الثاني : أنه لما قال : { واسأل من أرسلنا } الآية ، ذكر وقته موسى وعيسى ، وهما أكبر إتباعاً ممن سبقهم من الأنبياء ، وكل جاء بالدعاء إلى الله وإفراده بالعبادة ، فلم يكن فيما جاء أبداً إباحة اتخاذ آلهة من دون الله ، كما اتخذت قريش ، فناسب ذكر قصتهما للآية التي قبلها.
وآيات موسى هي المعجزات التي أتى بها.
وخص الملائكة بالذكر ، وهم الأشراف لأن غيرهم من الناس تبع لهم.
{ فلما جاءهم بآياتنا } ، قبله كلام محذوف تقديره : فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله.
{ فلما جاءهم بآياتنا } ، وهي انقلاب العصا ثعباناً وعودها عصاً ، وإخراج اليد البيضاء نيرة ، وعودها إلى لونها الأول ، { إذا هم منها يضحكون } ، أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا ، بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء ، كما كانت قريش تضحك.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت : لأن فعل المفاجأة معها مقدر ، وهو عامل النصب في محلها ، كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وقت ضحكهم. انتهى.
ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل ، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ ، بل المذاهب فيها ثلاثة : مذهب أنها حرف ، فلا تحتاج إلى عامل ، ومذهب أنها ظرف مكان ، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملاً فيها نحو : خرجت فإذا زيد قائم ، فقائم ناصب لإذا ، كأن التقدير : خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم؛ ومذهب أنها ظرف زمان ، والعامل فيه الخبر أيضاً ، كأنه قال : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم ، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر ، أو ذكر اسم منصوب على الحال ، كانت إذا خبراً للمبتدأ.
فإن كان المبتدأ جثة ، وقلنا إذا ظرف مكان ، كان الأمر واضحاً؛ وإن قلنا ظرف زمان ، كان الكلام على حذف ، أي ففي الزمان حضور زيد.
وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة ، لم ينطق به ولا في موضع واحد.
ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق ، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا.
تقول : خرجت فإذا الأسد ، والمعنى : ففاجأني الأسد ، وليس المعنى : ففاجأت الأسد.
{ وما نريهم من آية إلا هي أكر من أختها } ، قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع ، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها ، وهذه صفة كل واحدة منهما ، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات.
قلت : أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء ، واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته ، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلاً.
فإن قلت : فهو كلام متناقض ، لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة ، قلت : الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير ، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجال الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا ، وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم . . .
مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدري أين طرفاها.
انتهى ، وهو كلام طويل ، ملخصه : أن الوصف بالأكبرية مجاز ، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها.
وقال ابن عطية : عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه ، وذلك أن آية عرضها موسى ، هي العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر ، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر :
على أنها تعفو الكلوم وإنما . . .
يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
وذهب الطبري إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات. انتهى.
وقيل : كانت من كبار الآيات ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها؛ فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة ، أي من أختها السابقة عليها ، ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى ، لأنه لم يسبقها شيء ، فتكون أكبر منه.
وقيل : الأولى تقتضي علماً ، والثانية تقتضي علماً منضماً إلى علم الأولى ، فيزداد الرجوح.
وكنى بأختها : مناسبتها ، تقول : هذه الذرة أخت هذه ، أي مناسبتها.
{ وأخذناهم بالعذاب } : { بالسنين ونقص من الثمرات } و { الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم } وذلك عقاب لهم ، وآيات لموسى { لعلهم يرجعون } عن كفرهم.
قال الزمخشري : لعلهم يرجعون ، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.
فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان.
قلت : إرادته فعل غيره ، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، والإداريين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع ، لأن الإرادة لم تكن قسراً ولم يختاروه.
انتهى ، وهو على طريق الاعتزال.
وقال ابن عطية : لعلهم ، ترجّ بحسب معتقد البشر وظنهم.
{ وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك } : أي في كشف العذاب.
قال الجمهور : هو خطاب تعظيم ، لأن السحر كان علم زمانهم ، أو لأنهم استصحبوا له ما كانوا يدعون به أولاً ، ويكون قولهم : { بما عهد عندك إننا لمهتدون } : إخبار مطابق مقصود ، وقيل : بل خطاب استهزاء وانتقاص ، ويكون قولهم : { بما عهد عندك } ، أي على زعمك ، وقوله : و { إننا لمهتدون } : إخبار مطابق على شرط دعائه ، وكشف العذاب وعهد معزوم على نكثه.
ألا ترى : { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثرون } ؟ وعلى القول الأول يكون قوله : { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثرون } جارياً على أكثر عادة الناس ، إذا مسه الضر تضرع ودعا ، وإذا كشف عنه رجع إلى عادته الأولى ، كقوله : { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } ثم إذا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.
وقوله : { بما عهد عندك } ، محتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة ، وفي الكلام حذف ، أي فدعا موسى ، فكشف { فلما كشفنا }.
وقرأ أبو حيوة : ينكثون ، بكسر الكاف.
{ ونادى فرعون في قومه } : جعل القوم محلاً للنداء ، والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه ، فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط.
ويجوز أن يكون أمر بالنداء ، فأسند إليه.
وسبب ندائه ذلك ، أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى ورفع العذاب ، خاف ميل القوم إليه ، فنادى : { قال يا قوم أليس لي ملك مصر } ، أراد أن يبين فضله على موسى بملك مصر ، وهي من إسكندرية إلى أسوان.
{ وهذه الأنهار } : أي الخلجان التي تجري من النيل ، وأعظمها : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس.
والواو في { وهذه الأنهار } واو الحال ، وتجري خبر.
وهذه والأنهار صفة ، أو عطف بيان.
وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر ، وتجري حال.
من تحتي : أي من تحت قهري وملكي.
وقال قتادة : كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره.
وقيل : كان له سرير عظيم ، وقطع من نيل مصر قطعة قسمها أنهاراً تجري من تحت ذلك السرير.
وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة ، يسيرون تحت لوائه.
ومن فسرها بالأموال ، يعرفها من تحت يده.
ومن فسرها بالخيل فقيل : كما سمى الفرس بحراً يسمي نهراً.
وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية.
{ أفلا تبصرون } عظمتي وقدرتي وعجز موسى؟ وقرأ مهدي بن الصفير : يبصرون ، بياء الغيبة؛ ذكره في الكامل للهذلي ، والسباعي ، عن يعقوب ، ذكره ابن خالويه.
قال الزمخشري : وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوى الربوبية همة من تعاظم بملك مصر؟ وعجب الناس من مدى عظمته ، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها ، لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير حتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته.
وكسر نون { أفلا تبصرون } ، عيسى.
وعن الرشيد ، أنه لما قرأها قال : لأولينها أحسن عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه.
وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها ، فلما شارفها ووقع عليها قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : { أليس لي ملك مصر } ؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه.
{ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة ، أي بل أنا خير.
وهو إذا استفهم أهو خير ممن هو ضعيف؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم ، وهو الملك المتحكم فيهم ، قالوا له : بلا شك أنت خير.
وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل ، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر ، كقول الشاعر :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى . . .
وصورتها أم أنت في العين أملح
وقال سيبويه : أم هذه المعادلة : أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى.
وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : أم هذه متصلة ، لأن المعنى : أفلا تبصرون؟ أم تبصرون؟ إلا أنه وضع قوله : { أنا خير } موضع { تبصرون } ، لأنهم إذا قالوا : أنت خير ، فهم عنده بصراء ، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. انتهى.
وهذا القول متكلف جداً ، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق ، وإن كان السابق جملة فعلية ، كان المعادل جملة فعلية ، أو جملة اسمية ، يتقدر منها فعلية كقوله { أدعوتموهم أم أنتم صامتون } لأن معناه : أم صمتم؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية ، لأن قوله : { أم أنا خير } ؟ ليس مقابلاً لقوله : { أفلا تبصرون } ؟ وإن كان السابق اسماً ، كان المعادل اسماً ، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم ، نحو قوله :
أمخدج اليدين أم أتمت . . .
فأتمت معادل للاسم ، فالتقدير : أم متماً؟ وقيل : حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه ، إذ التقدير : تبصرون ، فحذف تبصرون ، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا ، نحو : أيقوم زيد أم لا؟ تقديره : أم لا يقوم؟ وأزيد عندك أم لا ، أي أم لا هو عندك.
فأما حذفه دون لا ، فليس من كلامهم.
وقد جاء حذف أم والمعادل ، وهو قليل.
قال الشاعر :
دعاني إليها القلب إني لأمرها . . .
سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد أم غيّ.
وحكى الفراء أنه قرأ : أما أنا خير ، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير.
{ ولا يكاد يبين } : الجمهور ، أنه كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة.
ومن ذهب إلى أن الله كان أجابه في سؤاله :
{ واحلل عقدة من لساني } فلم يبق لها أثر جعل انتفاء الإبانة بأنه لا يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي ، لأنه لا قدرة له على إيضاح المعنى لأجل كلامه.
وقيل : عابه بما كان عليه موسى من الخسة أيام كان عند فرعون ، فنسب إلى ما عهده مبالغة في التعيير.
وقول فرعون : { ولا يكاد يبين } ، كذب بحت.
ألا ترى إلى مناظرته له وردّه عليه وإفحامه بالحجة؟ والأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، كلهم بلغاء.
وقرأ الباقر : يبين ، بفتح الياء ، من بان إذا ظهر.
{ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب } ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلاً ، سوروه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب ، علامة لسودده.
قال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقاً؟ وكان ذلك دليلاً على إلقاء مقاليد الملك إليه ، لما وصف نفسه بالعزة والملك ، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام ، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد.
فاعترض فقال : إن كان صادقاً ، فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره؟ وقرأ الضحاك : { فلولا ألقي } مبنياً للفاعل ، أي الله؛ أساورة نصباً؛ والجمهور : أساورة رفعاً ، وأبي وعبد الله : أساوير ، والمفرد إسوار بمعنى سوار ، والهاء عوض من الياء ، كهي في زنادقة ، هي عوض من ياء زناديق المقابلة لياء زنديق ، وهذه مقابلة لألف أسوار.
وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والأعرج ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وحفص : أسورة ، جمع سوار ، نحو : خمار وأخمرة.
وقرأ الأعمش : أساور.
ورويت عن أبي ، وعن أبي عمرو ، { أو جاء معه الملائكة مقترنين } : أي يحمونه ويقيمون حجته.
قال ابن عباس : يعينونه على من خالفه.
وقال السدي : يقارن بعضهم بعضاً.
وقال مجاهد : يمشون معه.
وقال قتادة : متتابعين.
{ فاستخف قومه } : أي استجهلهم لخفة أحلامهم ، قاله ابن الاعرابي.
وقال غيره : حملهم على أن يخفوا لما يريد منهم ، فأجابوه لفسقهم.
{ فلما آسفونا } : منقول بالهمزة من أسف ، إذا غضب؛ والمعنى : فلما عملوا الأعمال الخبيثة الموجبة لأن لا يحلم عنهم.
وعن ابن عباس : أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل.
وعنه أيضاً : أغضبونا.
وعن علي : أسخطونا.
وقيل : خالفوا.
وقال القشيري وغيره : الغضب من الله ، إما إرادة العقوبة ، فهو من صفات الذات؛ أو العقوبة ، فيكون من صفات الفعل.
وقرأ الجمهور : سلفاً.
قال ابن عباس ، وزيد بن أسلم ، وقتادة : أي متقدمين إلى النار ، وهو مصدر سلف يسلف سلفاً ، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون ، والجمع أسلاف وسلاف.
وقيل هو جمع سالف ، كحارس وحرس ، وحقيقته أنه اسم جمع ، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع المكسرة.
وقال طفيل يرثي قومه :
مضوا سلفاً قصد السبيل عليهم . . .
صروف المنايا والرجال تقلب
قال الفراء والزجاج : سلفاً ليتعظ بهم الكفار المعاصرون للرسول.
وقرأ أبو عبد الله وأصحابه ، وسعيد بن عياض ، والأعمش ، وطلحة ، والأعرج ، وحمزة ، والكسائي : وسلفاً بضم السين واللام ، جمع سليف ، وهو الفريق.
سمع القاسم بن معن العرب تقول : مضى سليف من الناس.
وقرأ علي ، ومجاهد ، والأعرج أيضاً : وسلفاً ، بضم السين واللام ، جمع سلفة ، وهي الأمة والقطيعة.
والسلف في غير هذا : ولد القبح ، والجمع سلفان.
{ ومثلا للآخرين } : أي حديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل ، يحدث به الآخرون من الكفار ، يقال لهم : مثلكم مثل قوم فرعون.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
لما ذكر تعالى طرفاً من قصة موسى عليه السلام ، ذكر طرفاً من قصة عيسى عليه السلام.
وعن ابن عباس وغيره : لما نزل { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } ونزل كيف خلق من غير فحل ، قالت قريش : ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده ، كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلاً.
وقيل : ضرب المثل بعيسى ، هو ما جرى بين الزبعري وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله : { إنكم وما تعبدون } وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعري قال : فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار ، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم.
وقيل : المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد عيسى قالوا : آلهتنا خير من عيسى ، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة.
وضرب مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعري ، إن صحت قصته ، وأن يكون الكفار.
وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، والنخعي ، وأبو رجاء ، وابن وثاب ، وعامر ، ونافع ، والكسائي : يصدون ، بضم الصاد ، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل.
وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعكرمة ، وباقي السبعة : بكسرها ، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل.
وروي : ضم الصاد ، عن علي ، وأنكرها ابن عباس ، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها.
وقرأ الكسائي ، والفراء : هما لغتان بمعنى : مثل يعرشون ويعرشون.
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو } : خفف الكوفيون الهمزتين ، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين.
وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر : بهمزة واحدة على مثال الخبر ، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها ، واحتمل أن يكون خبراً محضاً.
حكوا أن آلهتهم خير ، ثم عنّ لهم أن يستفهموا ، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام ، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى.
{ ما ضربوه لك إلاّ جدلاً } : أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة ، لا لتمييز الحق واتباعه.
وانتصب جدلاً على أنه مفعول من أجله ، وقيل : مصدر في موضع الحال.
وقرأ ابن مقسم : إلا جدالاً؛ بكسر الجيم.
وألف خصمون : شديدو الخصومة واللجاج؛ وفعل من أبنية المبالغة نحو : هدى.
والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى ، لتتناسق الضمائر في قوله : { إن هو إلاّ عبد }.
وقال قتادة : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم.
{ أنعمنا عليه } بالنبوة وشرفناه بالرسالة.
{ وجعلناه مثلاً } أي خبرة عجيبة ، كالمثل { لبني إسرائيل } ، إذ خلق من غير أب ، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والأسقام كلها ، ما لم يجعل لغيره في زمانه.
وقيل : المنعم عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة من الأرض } ، قال بعض النحويين : من تكون للبدل ، أي لجعلنا بدلكم ملائكة ، وجعل من ذلكم قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } أي بدل الآخرة ، وقول الشاعر :
أخذوا المخاض من الفصيل غلية . . .
ظلماً ويكتب للأمير أفالا
أي بدل الفصيل ، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية ، ويتأولون ما ورد ما يوهم ذلك.
قال ابن عطية : لجعلنا بدلاً منكم.
وقال الزمخشري : ولو نشاء ، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر ، لجعلنا منكم : لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض ، كما يخلفكم أولادكم؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام ، وذات القديم متعالية عن ذلك.
انتهى ، وهو تخريج حسن.
ونحو من هذا التخريج قول من قال : لجعلنا من الأنس ملائكة ، وإن لم تجر العادة بذلك.
والجواهر جنس واحد ، والاختلاف بالأوصاف.
{ يخلفون } ، قال السدي : يكونون خلفاءكم.
وقال قتادة : يخلف بعضهم بعضاً.
وقال مجاهد : في عمارة الأرض.
وقيل : في الرسالة بدلاً من رسلكم.
والظاهر أن الضمير في : { وإنه لعلم للساعة } يعود على عيسى ، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه.
وقال ابن عباس : ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد : أي وإن خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها ، إذ خروجه شرط من أشراطها ، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان.
وقال الحسن ، وقتادة أيضاً ، وابن جبير : يعود على القرآن على معنى أن يدل إنزاله على قرب الساعة ، أو أنه به تعلم الساعة وأهوالها.
وقالت فرقة : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ هو آخر الأنبياء ، تميزت الساعة به نوعاً وقدراً من التمييز ، ونفى التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه.
وقرأ الجمهور : لعلم ، مصدر علم.
قال الزمخشري : أي شرط من أشراطها تعلم به ، فسمى العلم شرطاً لحصول العلم به.
وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو مالك الغفاري ، وزيد بن علي ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، ومالك بن دينار ، والأعمش ، والكلبي.
قال ابن عطية ، وأبو نصرة : لعلم ، بفتح العين واللام ، أي لعلامة.
وقرأ عكرمة به.
قال ابن خالويه ، وأبو نصرة : للعلم ، معرفاً بفتحتين.
{ فلا تمترن بها } : أي لا تشكون فيها ، { واتبعون هذا } : أي هداي أو شرعي.
وقيل : أي قل لهم يا محمد : واتبعوني هذا ، أي الذي أدعوكم له ، أو هذا القرآن؛ كان الضمير في قال القرآن ، ثم حذرهم من إغواء الشيطان ، ونبه على عداوته { بالبينات } : أي المعجزات ، أو بآيات الإنجيل الواضحات.
{ بالحكمة } : أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع.
قال السدي : بالحكمة : النبوة.
وقال أيضاً : قضايا يحكم بها العقل.
وذكر القشيري والماوردي : الإنجيل.
وقال الضحاك : الموعظة.
{ ولأبين لكم بعض الذين فيه تختلفون فيه } : وهو أمر الديانات ، لأن اختلافهم يكون فيها ، وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات.
فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه ، وبين لهم في غيره ما احتاجوا إليه.
وقيل : بعض ما يختلفون فيه من أحكام التوراة.
وقال أبو عبيدة : بعض بمعنى كل ، ورده الناس عليه.
وقال مقاتل : هو كقوله : { ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم } أي في الإنجيل : لحم الإبل ، والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت.
وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة.
وقيل : مما سألتم من أحكام التوراة.
وقال قتادة : ولأبين لكم اختلاف القرون الذين تحزبوا في أمر عيسى في قوله : { قد جئتكم بالحكمة } ، وهم قومه المبعوث إليهم ، أي من تلقائهم ومن أنفسهم ، بان شرهم ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم.
وتقدم الخلاف في اختلافهم في سورة مريم في قوله : { فاخلتف الأحزاب من بينهم } { هل ينظرون } : الضمير لقريش ، و { وأن تأتيهم } : بدل من الساعة ، أي إتيانها إياهم.
{ الأخلاء يومئذ } : قيل نزلت في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط.
والتنوين في يومئذ عوض عن الجملة المحذوفة ، أي يوم إذ تأتيهم الساعة ، ويومئذ منصوب بعد ، والمعنى : أنه ينقطع كل خلة وتنقلب الأخلة المتقين ، فإنها لا تزداد إلا قوّة.
وقيل : { إلا المتقين } : إلا المجتنبين أخلاء السوء ، وذلك أن أخلاء السوء كل منهم يرى أن الضرر دخل عليه من خليله ، كما أن المتقين يرى كل منهم النفع دخل عليه من خليله.
وقرىء : يا عبادي ، بالياء ، وهو الأصل ، ويا عباد بحذفها ، وهو الأكثر ، وكلاهما في السبعة.
وعن المعتمر بن سليمان : سمع أن الناس حين يبعثون ، ليس منهم أحد إلا يفزغ فينادي منادٍ { يا عبادي لا خوف عليكم } ، فيرجوها الناس كلهم ، فيتبعها { الذين آمنوا } الآية ، قال : فييأس منها الكفار.
وقرأ الجمهور : لا خوف ، مرفوع منون؛ وابن محيصن : بالرفع من غير تنوين؛ والحسن ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وابن يعمر : بفتحها من غير تنوين ، و { الذين آمنوا } صفة ليا عبادي.
{ تحبرون } : تسرون سروراً يظهر حباره ، أي أثره على وجوهكم ، لقوله تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } وقال الزجاج : يكرمون إكراماً يبالغ فيه ، والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل وأمال أبو الحرث عن الكسائي.
{ بصحاف } : ذكره ابن خالويه.
والضمير في : { فيها } ، عائد على الجنة.
{ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } : هذا حصر لأنواع النعم ، لأنها إما مشتهاة في القلوب ، أو مستلذة في العيون.
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن عباس ، وحفص : ما تشتهيه بالضمير العائد على ما ، والجمهور وباقي السبعة : بحذف الهاء.
وفي مصحف عبد الله : ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، بالهاء فيهما.
و { تلك الجنة } : مبتدأ وخبر.
و { التي أورثتموها } : صفة ، أو { الجنة } صفة ، و { التي أورثتموها } ، و { بما كنتم تعملون } الخبر ، وما قبله صفتان.
فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف ، وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها ، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة.
ولما ذكر ما يتضمن الأكل والشرب ، ذكر الفاكهة.
{ منها تأكلون } : من للتبعيض ، أي لا تأكلون إلا بعضها ، وما يخلف المأكول باق في الشجر ، كما جاء في الحديث.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ، وما يقال لهم من لذائذ البشارة ، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة ، وما يجاوبون به عند سؤالهم.
وقرأ عبد الله : وهم فيها ، أي في جهنم؛ والجمهور : وهم فيه أي في العذاب.
وعن الضحاك : يجعل المجرم في تابوت من نار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالداً لا يرى ولا يرى.
{ لا يفتر عنهم } : أي لا يخفف ولا ينقص ، من قولهم : فترت عنه الحمى ، إذا سكنت قليلاً ونقص حرها.
والمبلس : الساكت اليائس من الخير.
{ وما ظلمناهم } : أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه.
{ ولكن كانوا هم الظالمين } : أي الواضعين الكفر موضع الإيمان ، فظلموا بذلك أنفسهم.
وقرأ الجمهور : والظالمين ، على أن هم فصل.
وقرأ عبد الله ، وأبو زيد النحويان : الظالمون بالرفع ، على أنهم خبرهم ، وهم مبتدأ.
وذكر أبو عمرو الجرمي : أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، ويرفعون ما بعده على الخبر.
وقال أبو زيد : سمعتهم يقرأون : { تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجراً } يعني : يرفع خير وأعظم.
وقال قيس بن دريج :
نحن إلى ليلى وأنت تركنها . . .
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال سيبويه : إن رؤبة كان يقول : أظن زيداً هو خير منك ، يعني بالرفع.
{ ونادوا يا مالك } : تقدم أنهم مبلسون ، أي ساكتون ، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة ، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم.
وقرأ الجمهور : يا مالك.
وقرأ عبد الله ، وعليّ ، وابن وثاب ، والأعمش : يا مال ، بالترخيم ، على لغة من ينتظر الحرف.
وقرأ أبو السرار الغنوي : يا مال ، بالبناء على الضم ، جعل اسماً على حياله.
واللام في : { ليقض } لام الطلب والرغبة.
والمعنى : يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا ، كقوله : { فوكزه موسى فقضى عليه } أي أماته.
{ قال } : أي مالك ، { إنكم ماكثون } : أي مقيمون في النار لا تبرحون.
وقال ابن عباس : يجيبهم بعد مضي ألف سنة ، وقال نوف : بعد مائة ، وقيل : ثمانين ، وقال عبد الله بن عمرو : أربعين.
{ لقد جئناكم بالحق } : يظهر أنه من كلام الله تعالى.
وقيل : من كلام بعض الملائكة ، كما يقول أحد خدم الرئيس : أعلمناكم وفعلنا بكم.
قيل : ويحتمل أن يكون { قد جئناكم } من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى : انظروا كيف يكون حالكم.
{ أم أبرموا } : والضمير لقريش ، أي بل أحكموا أمراً من كيدهم للرسول ومكرهم ، { فإنا مبرمون } كيدنا ، كما أبرموا كيدهم ، كقوله : { أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون } وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول ، فقال تعالى : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم } ، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال.
{ ونجواهم } : وهي ما تكلموا به فيما بينهم.
{ بلى } : أي نسمعها ، { رسلنا } ، وهم الحفظة.
{ قل إن كان للرحمن ولد } ، كما تقولون ، { فأنا أول } من يعبده على ذلك ، ولكن ليس له شيء من ذلك.
وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال : إن كان للرحمن ولد ، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه ، وحجة واضحة يبذلونها ، فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالاً مثلها.
فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها.
ثم قال الزمخشري : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر.
ثم ذكر كلاماً يستحق عليه التأديب ، بل السيف ، نزهت كتابي عن ذكره.
ثم قال : وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : إن كان للرحمن ولد ، في زعمكم ، فأنا أول العابدين ، الموحدين لله ، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه.
وقيل : إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد ، إذ اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقرأ بعضهم : عبدين ، وقيل : هي إن النافية ، أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.
وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال : أن الملائكة بنات الله ، فنزلت ، فقال النضر : ألا ترون أنه قد صدقني؟ فقال له الوليد بن المغيرة : ما صدقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. انتهى.
أما القول : إن كان لله ولد في زعمكم ، فهو قول مجاهد ، وأما القول : فأنا أول الآنفين ، فهو قول جماعة ، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحداً منهم ، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني : العبدين ، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين : العبدين ، بإسكان الباء ، تخفيف العبدين بكسرها.
وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين : أنه الآنفين انتهى.
وقال ابن عرفة : يقال : عبد يعبد فهو عبد ، وقلما يقال : عابد.
والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ ، ثم قال : كقول مجاهد.
وقال الفرزدق :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم . . .
واعبد أن أهجوا كليباً بدارمي
أي : آنف وأستنكف.
وقال آخر :
متى ما يشا ذو الود يصرم خليله . . .
ويعبد عليه لا محالة ظالما
وأما القول بأن إن نافية ، فمروي عن ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وقتادة ، وابن زيد ، وزهير بن محمد ، وقال مكي : لا يجوز أن تكون إن بمعنى ما النافية ، لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت ، وهذا محال.
انتهى.
ولا يلزم منه محال ، لأن كان قد تستعمل فيما يدوم ولا يزول ، كقولك : { وكان الله غفوراً رحيماً } أي لم يزل ، فالمعنى : ما كان وما يكون.
وقال أبو حاتم : العبد ، بكسر الباء : الشديد الغضب.
وقال أبو عبيدة : معناه أول الجاحدين.
والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني.
وقرأ ولد بفتحتين.
عبد الله ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بضم الواو وسكون اللام.
ثم قال : { سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون } : أي من نسبة الولد إليه ، والمعنى : إزالة العلم يجب أن يكون واجب الوجود ، وما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي.
والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه ، فيتولد منه شخص مثله ، ولا يكون إلا فيما هو قابل ذاته للتجزي ، وهذا محال في حقه تعالى ، فامتنع إثبات الولد.
ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال : { فذرهم يخوضوا } ، أي في باطلهم ، { ويلعبوا } ، أي في دنياهم.
وظاهر هذين الأمرين مهادنة وترك ، وذلك مما نسخ بآية السيف.
وقرأ الجمهور : { حتى يلاقوا } ، وأبو جعفر ، وابن محيصن ، وعبيد بن عقيل ، عن أبي عمرو : يلقوا ، مضارع لقي.
{ يومهم الذي يوعدون } : يوم القيامة.
وقال عكرمة وغيره : يوم بدر ، وأضاف اليوم إليهم ، لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم.
وقرأ الجمهور : إله فيهما.
وقرأ عمر.
وعبد الله ، وأبي ، وعلي ، والحكم بن أبي العالي ، وبلال بن أبي بردة ، وابن يعمر ، وجابر ، وابن زيد ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو الشيخ الهنائي ، وحميد ، وابن مقسم ، وابن السميفع : الله فيهما.
ومعنى إله : معبود به ، يتعلق الجار والمجرور ، والمعنى : أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض ، والعائد على الموصول محذوف تقديره : هو إله ، كما حذف في قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً ، وحسنه طوله بالعطف عليه ، كما حسن في قائل لك شيئاً طوله بالمعول.
ومن قرأ : الله ، ضمنه أيضاً معنى المعبود ، كما ضمن العلم في نحو قولهم : هو حاتم في طيىء ، أي جواد في طيىء.
ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور.
والمعنى : أنه فيهما بالإلهية والربوبية ، إذ يستحيل حمله على الاستقرار.
وفي قوله : { وفي الأرض } ، نفى لآلهتهم التي كانت تعبد في الأرض.
{ وعنده علم الساعة } : أي علم تعيين وقت قيامها ، وهو الذي استأثر به تعالى.
وقرأ الجمهور : يرجعون ، بياء الغيبة؛ ونافع ، وعاصم ، والعدنيان : بتاء الخطاب ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعول.
وقرىء : بفتح تاء الخطاب مبنياً للفاعل.
وقرأ الجمهور : بياء الغيبة وشد الدال ، وعنه بتاء الخطاب وشد الدال ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم التي يدعون الشفاعة عند الله.
قال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيراً والملائكة ، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق ، وهم يعلمونه في أحوالهم ، فالاستثناء على هذا متصل.
وقال مجاهد وغيره : من المشفوع فيهم؟ كأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق ، وهو يعلمه ، أي بالتوحيد ، قالوا : فالاستثناء على هذا منفصل ، كأنه قال : لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء.
وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلاً ، لأنه يكون المستثنى منه محذوفاً ، كأنه قال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد ، إلا فيمن شهد بالحق ، فهو استثناء من المفعول المحذوف ، كما قال الشاعر :
نجا سالم والنفس منه بشدقه . . .
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزار
أي : ولم ينج إلا جفن سيف ، فهو استثناء من المشفوع فيهم الجائز فيه الحذف ، وهو متصل.
فإن جعلته مستثنى من { الذين يدعون } ، فيكون منفصلاً ، والمعنى : ولا يملك آلهتهم ، ويعني بهم الأصنام والأوثان ، الشفاعة.
كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله.
ولكن { من شهد بالحق } ، وهو توحيد الله ، وهو يعلم ما شهد به ، هو الذي يملك الشفاعة ، وإن أدرجت الملائكة في { الذين يدعون } ، كان استثناء متصلاً.
وقرأ الجمهور : { فانى يؤفكون } ، بياء الغيبة ، مناسباً لقوله : { ولئن سألتهم } ، أي كيف يصرفون عن عبادة من أقروا أنه موجد العالم.
وعبد الوارث ، عن أبي عمرو : بتاء الخطاب.
وقرأ الجمهور : وقيله ، بالنصب.
فعن الأخفش : أنه معطوف على سرهم ونجواهم ، وعنه أيضاً : على وقال قيله ، وعن الزجاج ، على محل الساعة في قوله : { وعنده علم الساعة }.
وقيل : معطوف على مفعول يكتبون المحذوف ، أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم.
وقيل : معطوف على مفعول يعلمون ، أي يعلمون الحق.
{ وقيله يا رب } : وهو قول لا يكاد يعقل ، وقيل : منصوب على إضمار فعل ، أي ويعلم قيله.
وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وعاصم ، والأعمش ، وحمزة ، وقيله ، بالخفض ، وخرج على أنه عطف على الساعة ، أو على أنها واو القسم ، والجواب محذوف ، أي : لينصرن ، أو لأفعلن بهم ما أشاء.
وقرأ الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، ومسلم بن جندب : وقيله بالرفع ، وخرج على أنه معطوف على علم الساعة ، على حذف مضاف ، أي وعلم قيله حذف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.
وروي هذا عن الكسائي ، وعلى الابتداء ، وخبره : يا رب إلى لا يؤمنون ، أو على أن الخبر محذوف تقديره مسموع ، أو متقبل ، فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بو قيله.
وقرأ أبو قلابة : يا رب ، بفتح الباء؛ أراد : يا ربا ، كما تقول : يا غلام.
ويتخرج على جواز الأخفش : يا قوم ، بالفتح وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها.
وقال الزمخشري : والذي قالوه يعني من العطف ليس بقوي في المعنى ، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ، ومع تنافر النظم ، وأقوى من ذلك.
والوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، والرفع على قولهم : أيمن الله ، وأمانة الله ، ويمين الله ، ولعمرك ، ويكون قوله : { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } ، جواب القسم ، كأنه قال : وأقسم بقيله ، أو وقيله يا رب قسمي.
{ إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } ، وإقسام الله بقيله ، رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه.
انتهى ، وهو مخالف لظاهر الكلام ، إذ يظهر أن قوله : يا رب إلى لا يؤمنون ، متعلق بقيله ، ومن كلامه عليه السلام : وإذا كان أن هؤلاء جواب القسم ، كان من إخبار الله عنهم وكلامه ، والضمير في وقيله للرسول ، وهو المخاطب بقول { فاصفح عنهم } ، أي أعرض عنهم وتاركهم ، { وقل سلام } ، أي الأمر سلام ، فسوف يعلمون وعيد لهم وتهديد وموادعة ، وهي منسوخة بآية السيف.
وقرأ الجمهور : يعلمون ، بياء الغيبة ، كما في : فاصفح عنهم.
وقرأ أبو جعفر ، والحسن ، والأعرج ، ونافع ، وهشام : بتاء الخطاب.
وقال السدي : وقل سلام ، أي خيراً بدلاً من شرهم.
وقال مقاتل : أورد عليهم معروفاً.
وحكى الماوردي : قل ما تسلم به من شرهم.
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
هذه السورة مكية ، قيل : إلا قوله : { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون }.
ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها : { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } فذكر يوماً غير معين ، ولا موصوفاً.
فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم ، بوصف وصفه فقال : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } ، وأن العذاب يأتيهم من قبلك ، ويحل بهم من الجدب والقحط ، ويكون العذاب في الدنيا ، وإن كان العذاب في الآخرة ، فيكون يومهم الذي يوعدون يوم القيامة.
والظاهر أن الكتاب المبين هو القرآن ، أقسم به تعالى.
ويكون الضمير في أنزلناه عائداً عليه.
قيل : ويجوز أن يراد به الكتب الإلهية المنزلة ، وأن يراد به اللوح المحفوظ ، وجواب القسم.
وقال الزمخشري وغيره : قوله : { إنا أنزلناه } ، على أن الكتاب هو القرآن ، ويكون قد عظمه تعالى بالإقسام به.
وقال ابن عطية : لا يحسن وقوع القسم عليه ، أي على { إنا أنزلناه } ، وهو اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ، ويكون الذي وقع عليه القسم { إنا كنا منذرين }. انتهى.
قال قتادة ، وابن زيد ، والحسن : الليلة المباركة : ليلة القدر.
وقالوا : كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان؛ التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ، والزبور في نحو ذلك ، والقرآن في آخره ، في ليلة القدر؛ ويعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر.
وقيل : أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ، ومن هناك كان جبريل يتلقاه.
وقال عكرمة وغيره : هي ليلة النصف من شعبان ، وقد أوردوا فيها أحاديث.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا يصح فيها شيء ، ولا في نسخ الآجال فيها.
إنا كنا منذرين : أي مخوفين.
قال الزمخشري : فإن قلت : { إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم } ، ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان ، فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } ، كأنه قيل : أنزلناه ، لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب.
وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً ، لأن إنزال القرآن من الأمور المحكمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ، والمباركة : الكثيرة الخير ، لما ينتج الله فيها من الأمور التي تتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده ، لكفى به بركة. انتهى.
وقرأ الحسن ، والأعرج ، والأعمش : يفرق ، بفتح الياء وضم الراء ، كل : بالنصب ، أي يفرق الله.
وقرأ زيد بن علي ، فيما ذكر الزمخشري : نفرق بالنون ، كل بالنصب؛ وفيما ذكر أبو على الأهوازي : عينه بفتح الياء وكسر الراء ، ونصب كل ، ورفع حكيم ، على أنه الفاعل بيفرق.
وقرأ الحسن : وزائدة عن الأعمش بالتشديد مبنياً للمفعول ، أو معنى يفرق : يفصل من غيره ويلخص.
ووصف أمر بحكيم ، أي أمر ذي حكمة؛ وقد أبهم تعالى هذا الأمر.
وقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد : في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق والآجال وغير ذلك ، ويكتب ذلك إلى مثلها من العام المقبل.
وقال هلال بن أساف : كان يقال : انتظر والقضاء في رمضان.
وقال عكرمة : لفضل الملائكة في ليلة النصف من شعبان.
وجوزوا في أمراً أن يكون مفعولاً به بمنذرين لقوله : { لينذر بأساً شديداً } أو على الاختصاص ، جعل كل أمر حكيم جزلاً فخماً ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة نفسه بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، كائناً من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، كذا قال الزمخشري.
وقال : وفي قراءة زيد بن علي : { أمراً من عندنا } ، على هو أمراً ، وهي نصب على الاختصاص ومقبولاً له ، والعامل أنزلنا ، أو منذرين ، أو يفرق ، ومصدراً من معنى يفرق ، أي فرقاً من عندنا ، أو من أمرنا محذوفاً وحالاً ، قيل : من كل ، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر ، لأنه وصف بحكيم ، فحسنت الحال منه ، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه ، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب ، ولا يجوز.
وقيل : من ضمير الفاعل في أنزلناه ، أي أمرني.
وقيل : من ضمير المفعول في أنزلناه ، أي في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل.
والظاهر أن من عندنا صفة لأمراً ، وقيل : يتعلق بيفرق.
{ إنا كنا مرسلين } : لما ذكر إنزال القرآن ، ذكر المرسل ، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد.
فالجملة المؤكدة مستأنفة.
وقيل : يجوز أن يكون بدلاً من { إنا كنا منذرين }.
وجوزوا في رحمة أن يكون مصدراً ، أي رحمنا رحمة ، وأن يكون مفعولاً له بأنزلناه ، أو ليفرق ، أو لأمراً من عندنا.
وأن يكون مفعولاً بمرسلين؛ والرحمة توصف بالإرسال ، كما وصفت به في قوله : { وما يمسك فلا مرسل له من بعده } والمعنى على هذا : أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر ، أو تصدر الأوامر من عندنا ، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا.
وقرأ زيد بن علي ، والحسن : رحمة ، بالرفع : أي تلك رحمة من ربك ، التفاتاً من مضمر إلى ظاهر ، إذ لو روعي ما قبله ، لكان رحمة منا ، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر ، إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين.
وقرأ ابن محيصن ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والكوفيون : { رب السموات } ، بالخفض بدلاً من ربك؛ وباقي السبعة ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر ، وشيبة : بالرفع على القطع ، أي هو رب.
وقرأ الجمهور : { ربكم ورب } ، برفعهما؛ وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، وابن مقسم ، والحسن ، وأبو موسى عيسى بن سليمان ، وصالح الناقط ، كلاهما عن الكسائي : بالجر؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي : ربكم ورب ، بالنصب على المدح ، وهم يخالفون بين الإعراب ، الرفع والنصب ، إذا طالت النعوت.
وقوله : { إن كنتم موقنين } ، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم ، وأنه أنزل الكتب ، وأرسل الرسل رحمة منه ، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان.
ولذلك جاء : { بل هم في شك يلعبون } ، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون.
فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن.
{ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين }.
قال علي بن طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد الخدري ، وزيد بن علي ، والحسن : هو دخان يجيء يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين ، حتى تكون مصقلة حنيذة.
وقال ابن مسعود ، وأبو العالية ، والنخعي : هو الدخان الذي رأته قريش.
قيل لعبد الله : إن قاصاً عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ أنفاس الناس ، فقال : من علم علماً فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم.
ألا وسأحدثكم أن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم فقال : « اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » ، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف ، والعلهز.
والعلهز : الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل.
وفيه أيضاً : حتى أكلوا العظام.
وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان ، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان.
فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه ، وناشده الله والرحم ، وواعدوه ، إن دعا لهم وكشف عنهم ، أن يؤمنوا.
فلما كشف عنهم ، رجعوا إلى شركهم.
وفيه : فرحمهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعث إليهم بصدقة ومال.
وفيه : فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عز وجل : { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } قال : يعني يوم بدر.
وقال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم.
وقال عبد الرحمن الأعرج : { يوم تأتي السماء } ، هو يوم فتح مكة ، لما حجبت السماء الغبرة.
وفي حديث حذيفة : أول الآيات خروج الدجال ، والدخان ، ونزول عيسى بن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن؛ وفيه قلت : يا نبي الله ، وما الدخان على هذه الآية : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } ؟ وذكر بقية الحديث ، واختصرناه بدخان مبين ، أي ظاهر.
لا شك أنه دخان { يغشى الناس } : يشملهم.
فإن كان هو الذي رأته قريش ، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة ، وقد مضى كما قال ابن مسعود؛ وإن كان من أشراط الساعة ، أو يوم القيامة ، فالناس عام فيمن أدركه وقت الأشراط ، وعام بالناس يوم القيامة.
{ هذا عذاب } إلى { مؤمنون } في موضع نصب بفعل القول محذوفاً ، وهو في موضع الحال ، أي يقولون.
ويجوز أن يكون إخباراً من الله ، كأنه تعجب منه ، كما قال في قصة الذبيح : { إن هذا لهو البلاء المبين } { إنا مؤمنون } : وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب ، والإيمان واجب ، كشف العذاب أو لم يكشف.
{ أنى لهم الذكرى } : أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، وقد جاءهم ما هو أعظم؟ وأدخل في باب الادكار من كشف الدخان؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والبينات ، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا ، وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاسا غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ، ونسبوه إلى الجنون.
وقرأ زر بن حبيش : معلم ، بكسر اللام.
{ إنا كاشفوا العذاب قليلاً } : إخبار عن إقامة الحجة عليهم ، ومبالغة في الإملاء لهم.
ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر.
وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة : وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب ، كان ظاهراً؛ وإن كان الدخان قبل يوم القيامة ، فإذا أتت السماء بالعذاب ، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب ، إنا مؤمنون.
فيكشف عنهم ، قيل : بعد أربعين يوماً؛ فحين يكشفه عنهم يرتدون.
ويوم البطشة الكبرى على هذا : هو يوم القيامة ، كقوله : { فإذا جاءت الطامة الكبرى } وكونه يوم القيامة ، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة.
وكونه يوم بدر ، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد.
وانتصب يوم نبطش ، قيل : بذكراهم ، وقيل : بننتقم الدال عليه منتقمون ، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل ، وقيل : بمنتقمون.
ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها.
وقرأ الجمهور : نبطش ، بفتح النون وكسر الطاء؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها؛ والحسن أيضاً ، وأبو رجاء ، وطلحة : بضم النون وكسر الطاء ، بمعنى : نسلط عليهم من يبطش بهم.
والبطشة على هذه القراءة ليس منصوباً بنبطش ، بل بمقدر ، أي نبطش ذلك المسلط البطشة ، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة ، فينتصب بنبطش.
{ ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون } : هذا كالمثال لقريش ، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام ، فكذبوه ، فأهلكهم الله.
وقرىء : فتنا ، بتشديد التاء ، للمبالغة في الفعل ، أو التكثير ، متعلقة { وجاءهم رسول كريم } : أي كريم عند الله وعند المؤمنين ، قاله الفراء؛ أو كريم في نفسه ، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس ، قاله أبو سليمان؛ أو كريم حسن الخلق ، قاله مقاتل.
{ أن أدوا إليّ عباد الله } يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول ، وهو رسول كريم ، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع ، فإنها توصل بالأمر.
قال ابن عباس : أن أدوا إليّ الطاعة يا عباد الله : أي اتبعوني على ما أدعوكم إليه من الإيمان.
وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل ، كم قال : فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم.
فعلى ابن عباس : عباد الله : منادى ، ومفعول أدوا محذوف؛ وعلى قول مجاهد ومن ذكر معه : عباد الله : مفعول أدوا.
{ إني لكم رسول أمين } : أي غير متهم ، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته.
{ وأن لا تعلوا على الله } : أي لا تستكبروا على عبادة الله ، قاله يحيى بن سلام.
قال ابن جريح : لا تعظموا على الله.
قيل : والفرق بينهما أن التعظيم تطاول المقتدر ، والاستكبار ترفع المحتقر ، ذكره الماوردي ، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة.
{ إني آتيكم بسلطان مبين } : أي بحجة واضحة في نفسها ، وموضحة صدق دعواي.
وقرأ الجمهور : إني ، بكسر الهمزة ، على سبيل الإخبار؛ وقرأت فرقة : بفتح الهمزة.
والمعنى : لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم ، فهذا توبيخ لهم ، كما تقول : أتغضب إن قال لك الحق؟ { وإني عذت } : أي استجرت { بربي وربكم أن ترجمون } : كانوا قد توعدوه بالقتل ، فاستعاذ من ذلك.
وقرىء : عدت ، بالإدغام.
قال قتادة وغيره : الرجم هنا بالحجارة.
وقال ابن عباس ، وأبو صالح : بالشتم؛ وقول قتادة أظهر ، لأنه قد وقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب؛ وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله : { فلا يصلون إليكما } وإن لم تؤمنوا إلي : أي تصدقوا ، فاعتزلون : أي كونوا بمعزل ، وهذه مشاركة حسنة.
{ فدعا ربه } : أني مغلوب فانتصر ، { أن هؤلاء } : لفظ تحقير لهم.
وقرأ الجمهور : أن هؤلاء ، بفتح الهمزة ، أي بأن هؤلاء.
وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى ، والحسن في رواية ، وزيد بن علي : بكسرها.
{ فأسر بعبادي } : في الكلام حذف ، أي فانتقم منهم ، فقال له الله : أسر بعبادي ، وهم بنوا إسرائيل ومن آمن به من القبط.
وقال الزمخشري : فيه وجهان : إضمار القول بعد الفاء ، فقال : أسر بعبادي ، وأن يكون جواباً بالشرط محذوف؛ كأنه قيل : قال إن كان الأمر كما تقول ، فأسر بعبادي. انتهى.
وكثيراً ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه ، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح؛ كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو ، على خلاف في ذلك.
{ إنكم متبعون } : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، فتنجون ويغرق المتبعون.
{ واترك البحر رهواً } : قال ابن عباس : ساكناً كما أجراه.
وقال مجاهد وعكرمة : يبساً من قوله : { فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً } وقال الضحاك : دمثاً ليناً.
وقال عكرمة : جدداً.
وقال ابن زيد : سهلاً.
وقال مجاهد أيضاً : منفرداً.
قال قتادة : أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ، لما قطعه ، حتى يلتئم؛ وخاف أن يتبعه فرعون ، فقيل : لمه هذا؟ { إنهم جند مغرقون } : أي فيه ، لأنهم إذا رأوه ساكناً على حالته حين دخل فيه موسى وبنوا إسرائيل ، أو مفتوحاً طريقاً يبساً ، دخلوا فيه ، فيطبقه الله عليهم.
{ كم تركوا } : أي كثيراً تركوا.
{ من جنات وعيون } : تقدم تفسيرهما في الشعراء.
وقرأ الجمهور : { ومقام } ، بفتح الميم.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : أراد المقام.
وقرأ ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، ونافع : في رواية خارجة بضمها.
قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها.
{ ونعمة } ، بفتح النون : نضارة العيش ولذاذة الحياة.
وقرأ أبو رجاء : { ونعمة } ، بالنصب ، عطفاً على كم { كانوا فيها فاكهين }.
قرأ الجمهور : بألف ، أي طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ، كلابن ، وتامر ، وأبو رجاء ، والحسن : بغير ألف.
والفكه يستعمل كثيراً في المستخف المستهزىء ، فكأنهم كانوا مستخفين بشكل النعمة التي كانوا فيها.
وقال الجوهري : فكه الرجل ، بالكسر ، فهو فكه إذا كان مزاحاً ، والفكه أيضاً الأشر.
وقال القشيري : فاكهين : لاهين كذلك.
وقال الزجاج : والمعنى : الأمر كذلك ، فيوقف على كذلك؛ والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل : الكاف في موضع نصب ، أي يفعل فعلاً كذلك ، لمن يريد إهلاكه.
وقال الكلبي : كذلك أفعل بمن عصاني.
وقال الحوفي : أهلكنا إهلاكاً ، وانتقمنا انتقاماً كذلك.
وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، { وأورثنا قوماً آخرين } ليسوا منهم ، وهم بنوا إسرائيل.
كانوا مستعبدين في يد القبط ، فأهلك الله تعالى القبط على أيديهم وأورثهم ملكهم.
وقال قتادة ، وقال الحسن : إن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ، وضعف قول قتادة بأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ، ولا ملكوها قط؛ إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشأم. انتهى.
ولا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها كثير ، وكلام الله صدق.
قال تعالى في سورة الشعراء : { كذلك وأورثناها بني إسرائيل } وقيل : قوماً آخرين ممن ملك مصر بعد القبط من غير بني إسرائيل.
{ فما بكت عليهم السماء والأرض } : استعارة لتحقير أمرهم ، وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء.
ويقال في التعظيم : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس.
وقال زيد بن مفرغ :
الريح تبكي شجوه . . .
والبرق يلمع في غمامه
وقال جرير :
فالشمس طالعة ليست بكاسفة . . .
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقال النابغة :
بكى حادث الجولان من فقد ربه . . .
وحوران منه خاشع متضائل
وقال جرير :
لما أتى الزهو تواضعت . . .
سور المدينة والجبال الخشع
ويقول في التحقير : مات فلان ، فما خشعت الجبال.
ونسبة هذه الأشياء لما لا يعقل ولا يصير ذلك منه حقيقة ، عبارة عن تأثر الناس له ، أو عن عدمه.
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الملائكة وأهل الأرض ، وهم المؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
روي ذلك عن الحسن.
وما روي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير : إن المؤمن إذا مات ، بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحاً ، وبكى عليه السماء موضع صعود عمله.
قالوا : فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله تمثيل.
{ وما كانوا منظرين } : أي مؤخرين عن العذاب لما حان وقت هلاكهم ، بل عجل الله لهم ذلك في الدنيا.
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه ، ذكر إحسانه لبني إسرائيل؛ فبدأ بدفع الضرر عنهم ، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب.
ثم ذكر اتصال النفع لهم ، من اختيارهم على العالمين ، وإيتائهم الآيات والعذاب المهين : قتل أبنائهم ، واستخدامهم في الأعمال الشاقة.
وقرأ عبد الله : { من العذاب المهين } : وهو من إضافة الموصوف إلى صفته ، كبقلة الحمقاء.
و { من فرعون } : بدل { من العذاب } ، على حذف مضاف ، أي من عذاب فرعون.
أولاً حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة.
وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي كائناً وصادراً من فرعون.
وقرأ ابن عباس : { من فرعون } ، من : استفهام مبتدأ ، وفرعون خبره.
لما وصف فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون؟ على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته؟ ثم عرف حاله في ذلك بقوله : { إنه كان عالياً من المسرفين } : أي مرتفعاً على العالم ، أو متكبراً مسرفاً من المسرفين.
{ ولقد اخترناهم } : أي اصطفيناهم وشرفناهم.
{ على علم } علم مصدر لم يذكر فاعله ، فقيل : على علم منهم ، وفضل فيهم ، فاخترناهم للنبوات والرسالات.
وقيل : على علم منا ، أي عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا.
وقيل : على علم منا بما يصدر من العدل والإحسان والعلم والإيمان ، بأنهم يزيفون ، وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال.
وقيل : اخترناهم بهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم ، وخصصناهم بذلك دون العالم.
{ على العالمين } : أي عالمي زمانهم ، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مفضلة عليهم.
وقيل : على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم ، وهذا خاص بهم ليس لغيرهم.
وكان الاختيار من هذه الجهة ، لأن أمة محمد أفضل.
وعلى ، في قوله : { علم علم } ، ليس معناها معنى على في قوله : { على العالمين } ، ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ، كقوله :
ويوماً على ظهر الكتيب تعذرت . . .
عليّ وآلت حلفة لم يحلل
فعلى علم : حال ، إما من الفاعل ، أو من المفعول.
وعلى ظهر : حال من الفاعل في تعذرت ، والعامل في ذي الحال.
{ وآتيناهم من الآيات } : أي المعجزات الظاهرة في قوم فرعون ، وما ابتلوا به؛ وفي بني إسرائيل مما أنعم به عليهم من تظليل الغمام والمنّ والسلوى ، وغير ذلك مما لم يظهرها لغيرهم.
{ ما فيه بلاء } : أي اختبار بالنعم ظاهر ، أو الابتلاء بالنعم كقوله : { ونبلكم بالشر والخير } { إن هؤلاء } : يعني قريشاً ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم.
{ ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } : أي ما الموتة إلا محصورة في موتتنا الأولى.
وكان قد قال تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } فذكر موتتين ، أولى وثانية ، فأنكروا هم أن يكون لهم موتة ثانية.
والمعنى : ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا.
فيتضمن قولهم هذا إنكار البعث ، ثم صرحوا بما تضمنه قولهم ، فقالوا : { وما نحن بمنشرين } : أي بمبعوثين بحياة دائمة يقع فيها حساب وثواب وعقاب؛ وكان قولهم ذلك في معنى قولهم :
{ إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } { فأتوا بآبائنا } : خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث ، أي إن صدقتم فيما تقولون ، فأحيوا لنا من مات من أبنائنا ، بسؤالكم ربكم ، حتى يكون ذلك دليلاً على البعث في الآخرة.
قيل : طلبوا من الرسول أن يدعوا الله فيحيي لهم قصي بن كلاب ، ليشاوروه في صحة النبوة والبعث ، إذ كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل.
{ أهم } : أي قريش ، { خير أم قوم تبع } ؟ الظاهر أن تبعاً هو شخص معروف ، وقع التفاضل بين قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك العرب ، كما يطلق كسرى على من ملك الفرس ، وقيصر على من ملك الروم؛ قيل : واسمه أسعد الحميري ، وكنى أبا كرب؛ وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة.
وروي أنه لما آمن بالمدينة ، كتب كتاباً ونظم شعراً.
أما الشعر فهو :
شهدت على أحمد أنه . . .
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره . . .
لكنت وزيراً له وابن عم
وأما الكتاب ، فروى ابن اسحاق وغيره أنه كان فيه : أما بعد : فإني آمنت بك ، وبكتابك الذي أنزل عليك ، وأنا على دينك وسنتك ، وآمنت بربك ورب كل شيء ، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام ، فإن أدركتك فيها ونعمت ، وإن لم أدركك ، فاشفع لي ، ولا تنسني يوم القيامة ، فإني من أمتك الأولين ، وتابعتك قبل مجيئك ، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام.
ثم ختم الكتاب ونقش عليه : لله الأمر من قبل ومن بعد.
وكتب عنوانه : إلى محمد بن عبد الله ، نبي الله ورسوله ، خاتم النبيين ، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ، من تبع الأول.
ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب ، خالد بن زيد ، فلم يزل عنده حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر ، حتى أدّوه للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس : كان تبع نبياً ، وعنه لما أقبل تبع من الشرق ، بعد أن حير الحيرة وسمرقند ، قصد المدينة ، وكان قد خلف بها حين سافر ابناً ، فقتل غيلة ، فأجمع على خرابها واستئصال أهلها.
فجمعوا له الأنصار ، وخرجوا لقتاله ، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل.
فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام ، إذ جاءه كعب وأسد ، ابنا عم من قريظة جيران ، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد ، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد ، ومولده بمكة ، فثناه قولهما عما كان يريد.
ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما وأكرمهما.
وانصرفوا عن المدينة ، ومعهم نفر من اليهود ، فقال له في الطريق نفر من هذيل : يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة ، وأرادت هذيل هلاكه ، لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك.
فذكر ذلك للحبرين ، فقالوا : ما نعلم الله بيتاً في الأرض غير هذا ، فاتخذه مسجداً ، وانسك عنده ، واحلق رأسك ، وما أراد القوم إلا هلاكك.
فأكرمه وكساه ، وهو أول من كسا البيت؛ وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم ، وسمر أعينهم وصلبهم.
وقال قوم : ليس المراد بتبع رجلاً واحداً ، إنما المراد ملوك اليمن ، وكانوا يسمون التتابعة.
والذي يظهر أنه أراد واحداً من هؤلاء ، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به.
وفي الحديث : « لا تسبوا تبعاً فإنه كان مؤمناً » ، فهذا يدل على أنه واحد بعينه.
قال الجوهري : التتابعة ملوك اليمن ، والتبع : الظل ، والتبع : ضرب من الطير.
وقال أبو القاسم السهيلي : تبع لكل ملك اليمن ، والشحر حضرموت ، وملك اليمن وحده لا يسمى تبعاً ، قاله المسعودي.
والخيرية الواقعة فيها التفاضل ، وكلا الصنفين لا خير فهم ، هي بالنسبة للقوة والمنعة ، كما قال : { أكفاركم خير من أولئكم } بعد ذكر آل فرعون في تفسير ابن عباس : أهم أشد أم قوم تبع؟ وإضافة قوم إلى تبع دليل على أنه لم يكن مذهبهم.
{ أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين } : إخبار عما فعل تعالى بهم ، وتنبيه على أن علة الإهلاك هي الإجرام ، وفي ذلك وعيد لقريش ، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسل لإجرامهم ، ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث ، وهو خلق العالم بالحق.
وقرأ الجمهور : { وما بينهما } من الجنسين ، وعبيد بن عميس : وما بينهن لاعبين.
قال مقاتل : عابثين.
{ ما خلقناهما إلا بالحق } : أي بالعدل ، يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب.
{ ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه تعالى خلق ذلك ، فهم لا يخافون عقاباً ولا يرجون ثواباً.
وقرىء : ميقاتهم ، بالنصب ، على أنه اسم إن ، والخبر يوم الفصل ، أي : إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم ، { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئاً من إغناء ، أي قليلاً منه : { ولا هم ينصرون } : جمع ، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم ، فعاد على المعنى ، لا على اللفظ.
{ إلا من رحم الله } ، قال الكسائي : من رحم : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين.
قيل : ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً ، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض.
وقال الحوفي : ويجوز أن يكون بدلاً من مولى المرفوع ، ويكون يغني بمعنى ينفع.
وقال الزمخشري : { من رحم الله } ، في محل الرفع على البدل من الواو في { ينصرون } ، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله؛ وقاله الحوفي قبله.
{ إنه العزيز الرحيم } : لا ينصر من عصاه ، الرحيم لمن أطاعه ومن عفا عنه.
{ إن شجرة الزقوم } : قرىء بكسر الشين ، وتقدم الكلام فيها في سورة الصافات.
{ طعام الأثيم } : صفة مبالغة ، وهو الكثير الآثام ، ويقال له : أثوم ، صفة مبالغة أيضاً ، وفسر بالمشرك.
وقال يحيى بن سلام : المكتسب للإثم.
وعن ابن زيدان : الأثيم هنا هو أبو جهل ، وقيل : الوليد.
{ كالمهل } : هو دردي الزيت ، أو مذاب الفضة ، أو مذاب النحاس ، أو عكر القطران ، أو الصديد؛ أولها لابن عمر وابن عباس ، وآخرها لابن عباس.
وقال الحسن : كالمهل ، بفتح الميم : لغة فيه.
وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : المهل : ما أذيب من ذهب ، أو فضة ، أو حديد ، أو رصاص.
وقرأ مجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والابنان ، وحفص : يغلي ، بالياء ، أي الطعام.
وعمرو بن ميمون ، وأبو رزين ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، وطلحة ، والحسن : في رواية ، وباقي السبعة : تغلي بالتاء ، أي الشجرة.
{ كغلي الحميم } : وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه.
{ خذوه فاعتلوه } ، يقال للزبانية : خذوه فاعتلوه ، أي سوقوه بعنف وجذب.
وقال الأعمش : معنى اتعلوه : اقصفوه كما يقصف الحطب إلى سواء الجحيم.
قال ابن عباس : وسطها.
وقال الحسن : معظمها.
وقرأ الجمهور : فاعتلوه ، بكسر التاء ، وزيد بن علي ، والابنان ، ونافع : بضمها؛ والخلاف عن الحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبي عمرو.
{ ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } : وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الحميم ، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم ، فتارة اعتبرت الحقيقة ، وتارة اعتبرت الاستعارة ، لأنه أذم من الحميم ، فقد صب ما تولد عنه من الآلام والعذاب ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ، ولفظة العذاب أهول وأهيب.
{ ذق } : أي العذاب ، { إنك أنت العزيز الكريم } ، وهذا على سبيل التهكم والهزء لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
وعن قتادة ، أنه لما نزلت : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } ، قال أبو جهل : أتهددني يا محمد؟ وإن ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، فنزلت هذه الآية ، وفي آخرها : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ، أي على قولك ، وهذا كما قال جرير :
ألم تكن في رسوم قد رسمت بها . . .
من كان موعظة يا زهرة اليمن
يقولها لشاعر سمى نفسه به في قوله :
أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها . . .
إني الأعز وإني زهرة اليمن
فجاء به جرير على جهة الهزء.
وقرىء : إنك ، بكسر الهمزة.
وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر ، والكسائي بفتحها.
{ إن هذا } : أي الأمر ، أو العذاب ، { ما كنتم تمترون } : أي تشكون.
ولما ذكر حال الكفار أعقبه بحال المؤمنين فقال : { إن المتقين في مقام أمين }.
وقرأ عبد الله بن عمر ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، ونافع ، وابن عامر : في مقام ، بضم الميم؛ وأبو رجاء ، وعيسى ، ويحيى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بفتحها؛ ووصف المقام بالأمين ، أي يؤمن فيه من الغير ، فكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون فيه ، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : الأمين ، من قولك : أمن الرجل أمانة ، فهو أمين ، وهو ضد الخائن؛ فوصف به المكان استعارة ، لأن المكان المخيف كان يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
وتقدم شرح السندس والإستبرق.
وقرأ ابن محيصن : { وإستبرق } ، جعله فعلاً ماضياً.
{ متقابلين } : وصف لمجالس أهل الجنة ، لا يستدبر بعضهم بعضاً في المجالس.
{ كذلك } : أي الأمر كذلك.
وقرأ الجمهور : { بحور } ، وعكرمة : بغير تنوين ، لأن العين تقسمن إلى حور وغير حور ، فهؤلاء من حور العين ، لا من شهلن مثلاً.
{ يدعون فيها } : أي الخدم والمتصرفين عليهم ، { بكل فاكهة } أرادوا إحضارها لديهم ، { آمنين } من الأمراض والتخم.
{ لا يذوقون فيها الموت }.
وقرأ عبيد بن عمير : لا يذاقون ، مبنياً للمفعول.
{ إلا الموتة الأولى } : هذا استثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا ، وذلك تنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي ، وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : { إلا الموتة الأولى } موضع ذلك ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فإنهم يذوقونها.
وقال ابن عطية : قدر قوم إلاّ بسوى ، وضعف ذلك الطبري وقدرها ببعد ، وليس تضعيفه بصحيح ، بل يصح المعنى بسوى ويتسق.
وأما معنى الآية ، فتبين أنه نفى عنهم ذوق الموت ، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا.
وقرأ أبو حيوة : { ووقاهم } ، مشدداً بالقاف ، والضمير في { يسرناه } عائد على القرآن؛ و { بلسانك } : بلغتك ، وهي لغة لعرب.
.
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية : بلا خلاف ، وذكر الماوردي : إلا { قل للذين آمنوا يغفروا } الآية ، فمدنية نزلت في عمر بن الخطاب.
قال ابن عباس ، وقتادة ، وقال النحاس ، والمهدوي ، عن ابن عباس : نزلت في عمر : شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة ، فأراد أن يبطش به ، فنزلت.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح.
قال : { فإنما يسرناه بلسانك } وقال : { حم تنزيل الكتاب } ، وتقدم الكلام على { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } أول الزمر.
وقال أبو عبد الله الرازي : وقوله : { العزيز الحكيم } ، يجوز جعله صفة لله ، فيكون ذلك حقيقة؛ { وإن جعلناه } صفة للكتاب ، كان ذلك مجازاً؛ والحقيقة أولى من المجاز ، مع أن زيادة القرب توجب الرجحان. انتهى.
وهذا الذي ردّد في قوله : { وإن جعلناه } صفة للكتاب لا يجوز.
لو كان صفة للكتاب لوليه ، فكان يكون التركيب : تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله ، لأن من الله ، إما أن يكون متعلقاً بتنزيل ، وتنزيل خبر لحم ، أو لمبتدأ محذوف ، فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف ، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل؛ أو في موضع الخبر ، وتنزيل مبتدأ ، فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضاً ، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل ، والتركيب الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها.
{ إن في السموات والأرض } ، احتمل أن يريد : في خلق السموات ، كقوله : { وفي خلقكم } ، والظاهر أنه لا يراد التخصيص بالخلق ، بل في السموات والأرض على الإطلاق والعموم ، أي في أي شيء نظرت منهما من خلق وغيره ، من تسخير وتنوير وغيرهما ، { لآيات } : لم يأت بالآيات مفصلة ، بل أتى بها مجملة ، إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع.
وجعلها { للمؤمنين } ، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق.
{ وما يبث من دابة } ، أي في غير جنسكم ، وهو معطوف على : { خلقكم }.
ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، أجاز في { وما يبث } أن يكون معطوفاً على الضمير { وفي خلقكم } ، وهو مذهب الكوفيين ، ويونس ، والأخفش؛ وهو الصحيح ، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين.
وقال الزمخشري : يقبح العطف عليه ، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، قال : وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا : مررت بك أنت وزيد. انتهى.
وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام ، وقال : { لقوم يوقنون } : وهم الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين.
{ واختلاف الليل والنهار } : تقدم الكلام على نظيره في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور : آيات ، جمعاً بالرفع فيهما؛ والأعمش ، والجحدري ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب : بالنصب فيهما؛ وزيد بن علي؛ برفعهما على التوحيد.
وقرأ أبي ، وعبد الله : لآيات فيهما ، كالأولى.
فأما : { آيات لقوم يعقلون } رفعاً ونصباً ، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش ، ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو ، وهي مسألة فيها أربعة مذاهب ، ذكرناها في ( كتاب التذييل والتكميل لشرح التسهيل ).
فأما ما يخص هذه الآية ، فمن نصب آيات بالواو عطفت ، واختلاف على المجرور بفي قبله وهو : { وفي خلقكم وما يبث } ، وعطف آيات على آيات ، ومن رفع فكذلك ، والعاملان أولاهما إن وفي ، وثانيهما الابتداء وفي.
وقال الزمخشري : أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر ، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات ، وإذا رفعت والعاملان الابتداء ، وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح ، لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش ، أضمر حرف الجر فقدر.
وفي اختلاف ، فالعمل للحرف مضمراً ، ونابت الواو مناب عامل واحد؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله : وفي اختلاف ، مصرحاً وحسن حذف في تقدمها في قوله : { وفي خلقكم } ؛ وخرج أيضاً النصب في آيات على التوكيد لآيات المتقدمة ، ولإضمار حرف في وقرىء واختلاف بالرفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضاً.
وقرأ : واختلاف الليل والنهار آية بالرفع في اختلاف ، وفي آية موحدة؛ وكذلك { وما يبث من دابة }.
وقرأ زيد بن علي ، وطلحة ، وعيسى : { وتصريف الرياح }.
وقال الزمخشري : والمعنى أن المنصفين من العباد ، إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح ، علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بد لها من صانع ، فآمنوا بالله وأقروا.
فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى هيئة ، في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس.
فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت ، كاختلاف الليل والنهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم.
وقال أبو عبد الله الرازي : ذكر في البقرة ثمانية دلائل ، وهنا ستة؛ لم يذكر الفلك والسحاب ، والسبب في ذلك أن مدار الحركة للفلك والسحاب على الرياح المختلفة ، فذكر الرياح؛ وهناك جعل مقطع الثمانية واحداً ، وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة : يؤمنون ، يوقنون ، يعقلون.
قال : وأظن سبب هذا الترتيب : { إن كنتم مؤمنين } فافهموا هذه الدلائل؛ فإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين ، فلا أقل أن تكونوا من العاقلين ، فاجتهدوا.
وقال هناك : { إن في خلق السموات } وهنا : { في السموات } ، فدل على أن الخلق غير المخلوق ، وهو الصحيح عند أصحابنا ، ولا تفارق بين أن يقال : في السموات ، وفي خلق السموات.
انتهى ، وفيه تلخيص وتقدم وتأخير.
{ تلك آيات الله } : أي تلك الآيات ، وهي الدلائل المذكورة؛ { نتلوها } : أي نسردها عليك ملتبسة بالحق ، ونتلوها في موضع الحال ، أي متلوة.
قال الزمخشري : والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه ، وهذا بعلى شيخاً.
انتهى ، وليس نحوه ، لأن في وهذا حرف تنبيه.
وقيل : العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه ، أي تنبه.
وأما تلك ، فليس فيها حرف تنبيه عاملاً بما فيه من معنى التنبيه ، لأن الحرف قد يعمل في الحال : تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه.
وقيل : العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى ، أي انظر إليه في حال شيخه ، فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه ، إن كان هناك.
وقال ابن عطية : نتلوها ، فيه حذف مضاف ، أي نتلو شأنها وشرح العبرة بها.
ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذه المعاني ، فلا يكون في نتلوها حذف مضاف. انتهى.
ونتلوها معناه : يأمر الملك أن نتلوها.
وقرىء : يتلوها ، بياء الغيبة ، عائداً على الله؛ وبالحق : بالصدق ، لأن صحتها معلومة بالدلائل العقلية.
{ فبأي حديث } الآية ، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد؛ { بعد الله } : أي بعد حديث الله ، وهو كتابه وكلامه ، كقوله : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } وقال : { فبأي حديث بعده يؤمنون } أي بعد حديث الله وكلامه.
وقال الضحاك : بعد توحيد الله.
وقال الزمخشري : بعد الله وآياته ، أي بعد آيات الله ، كقولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون : أعجبني كرم زيد. انتهى.
وهذا ليس بشيء ، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل ، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في : أعجبني زيد كرمه ، بغير واو على البدل؛ وهذا قلب لحقائق النحو.
وإنما المعنى في : أعجبني زيد وكرمه ، أن ذات زيد أعجبته ، وأعجبه كرمه؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد ، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم.
وقرأ أبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، والحرميان ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية : يؤمنون ، بالياء من تحت؛ والأعمش ، وباقي السبعة : بتاء الخطاب؛ وطلحة : توقنون بالتاء من فوق ، والقاف من الإيقان.
{ ويل لكل أفاك أثيم } ، قيل : نزلت في أبي جهل؛ وقيل : في النضير بن الحارث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن.
والآية عامة فيمن كان مضاراً لدين الله؛ وأفاك أثيم ، صفتا مبالغة؛ وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها.
وقرأ الجمهور : علم؛ وقتادة ومطر الوراق : بضم العين وشد اللام؛ مبنياً للمفعول ، أي عرف.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : ثم ، في قوله : { ثم يصر مستكبراً } ؟ قلت : كمعناه في قول القائل :
يرى غمرات الموت ثم يزورها . . .
وذلك بأن غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائبها بنفسه ويطلب الفرار منها ، وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها ، فأمر مستبعد.
فمعنى ثم : الإيذان بأن فعل المقدم عليها ، بعدما رآها وعاينها ، شيء يستبعد في العادة والطباع ، وكذلك آيات الله الواضحة القاطعة بالحق ، من تليت عليه وسمعها ، كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها.
{ اتخذها هزواً } ، ولم يقل : اتخذه ، إشعاراً بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه.
وقال الزمخشري : ويحتمل { وإذا علم من آياتنا شيئاً } ، يمكن أن يتشبث به المعاند ويجعله محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة ، افترضه واتخذ آيات الله هزواً ، وذلك نحو افترص ابن الزبعري قوله عز وجل : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : خصمتك؛ ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء ، لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :
نفسي بشيء من الدنيا معلقة . . .
الله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة. انتهى.
وعتبة جارية كان أبو العتاهية يهواها وينتسب بها.
والإشارة بأولئك إلى كل أفاك ، لشموله الأفاكين.
حمل أولاً على لفظ كل ، وأفرد على المعنى فجمع ، كقوله : { كل حزب بما لديهم فرحون } { من ورائهم جهنم } : أي من قدامهم ، والوراء : ما توارى من خلف وأمام.
{ ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً } من الأموال في متاجرهم ، { ولا ما اتخذوا من دون الله } من الأوثان.
{ هذا } ، أي القرآن ، { هدًى } ، أي بالغ في الهداية ، كقولك : هذا رجل ، أي كامل في الرجولية.
قرأ طلحة ، وابن محيصن ، وأهل مكة ، وابن كثير ، وحفص : { أليم } ، بالرفع نعتاً لعذاب؛ والحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعيسى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بالجر نعتاً لرجز.
{ الله الذين سخر } الآية : آية اعتبار في تسخير هذا المخلوق العظيم ، والسفن الجارية فيه بهذا المخلوق الحقير ، وهو الإنسان.
{ بأمره } : أي بقدرته.
أناب الأمر مناب القدرة ، كأنه يأمر السفن أن تجري.
{ من فضله } بالتجارة وبالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، واستخراج اللحم الطري.
{ ما في السموات } من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء ، والأملاك الموكلة بهذا كله.
{ وما في الأرض } من البهائم والمياه والجبال والنبات.
وقرأ الجمهور : { منه } ، وابن عباس : بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على المصدر.
قال أبو حاتم : نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم.
وحكاها أبو الفتح ، عن ابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، والجحدري ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وحكاها أيضاً عن هؤلاء الأربعة صاحب اللوامح ، وحكاها ابن خالويه ، عن ابن عباس ، وعبيد بن عمير.
وقرأ سلمة بن محارب كذلك ، إلا أنه ضم التاء ، أي هو منه ، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون ، وهاء الكناية عائد على الله ، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك ، أو هو منه.
والمعنى ، على قراءة الجمهور : أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة عنده ، إذ هو موجدها بقدرته وحكمته ، ثم سخرها لخلقه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي جميعاً منه ، وأن يكون : وما في الأرض ، مبتدأ ، ومنه خبره.
انتهى.
ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش ، لأن جميعاً إذ ذاك حال ، والعامل فيها معنوي ، وهو الجار والمجرور؛ فهو نظير : زيد قائماً في الدار ، ولا يجوز على مذهب الجمهور.
{ قل للذين آمنوا يغفروا } : نزلت في صدر الإسلام.
أمر المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار ، وأن لا يعاقبوهم بذنب ، بل يصبرون لهم ، قاله السدّي ومحمد بن كعب ، قيل : وهي محكمة ، والأكثر على أنها منسوخة بآية السيف.
يغفروا ، في جزمه أوجه للنحاة ، تقدّمت في : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة إبراهيم.
{ لا يرجون أيام الله } : أي وقائعه بأعدائه ونقمته منهم.
وقال مجاهد : وقيل أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك.
وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز.
قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نسخ حكمها.
وتقدم قول ابن عباس أنها نزلت في عمر بن الخطاب؛ قيل : سبه رجل من الكفار ، فهم أن يبطش به ، وقرأ الجمهور : ليجزي الله ، وزيد بن عليّ ، وأبو عبد الرحمن ، والأعمش ، وأبو علية ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بالنون؛ وشيبة ، وأبو جعفر : بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول.
وقد روي ذلك عن عاصم ، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول ، على أن يقام المجرور ، وهو بما ، وينصب المفعول به الصريح ، وهو قوماً؛ ونظيره : ضرب بسوط زيداً؛ ولا يجير ذلك الجمهور.
وخرجت هذه القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر ، أي وليجزي الجزاء قوماً.
وهذا أيضاً لا يجوز عند الجمهور ، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً ، فيكون جملتان ، إحداهما : ليجزي الجزاء قوماً ، والأخرى : يجزيه قوماً؛ وقوماً هنا يعني به الغافرين ، ونكره على معنى التعظيم لشأنهم ، كأنه قيل : قوماً ، أي قوم من شأنهم التجاوز عن السيئات والصفح عن المؤذيات وتحمل الوحشة.
وقيل : هم الذين لا يرجون أيام الله ، أي بما كانوا يكسبون من الإثم ، كأنه قيل : لم تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن.
{ من عمل صالحاً } كهؤلاء الغافرين ، { ومن أساء } كهؤلاء الكفار ، وأتى باللام في فلنفسه ، لأن المحاب والحظوظ تستعمل فيها على الدالة على العلو والقهر ، كما تقول : الأمور لزيد متأتية وعلى عمرو مستصعبة.
والكتاب : التوراة ، والحكم : القضاء ، وفصل الأمور لأن الملك كان فيهم.
قيل : والحكم : الفقه.
ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي ، كما اتسع على لسان موسى من الطيبات المستلذات الحلال ، وبذلك تتم النعمة ، وذلك المن والسلوى وطيبات الشام ، إذ هي الأرض المباركة.
بينات : أي دلائل واضحة من الأمر ، أي من الوحي الذي فصلت به الأمور.
وعن ابن عباس : من الأمر ، أي من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب.
وقيل معجزات موسى.
{ فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } : تقدم تفسيره في الشورى.
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء }.
قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض.
وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق.
وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء.
وقال ابن زيد : الدّين ، لأنه طريق إلى النجاة.
والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر :
وفي الشرائع من جيلان مقتص . . .
رث الثياب خفي الشخص منسرب
فشريعة الدّين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف؛ أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمراً.
{ أهواء الذين لا يعلمون } ، قيل : جهال قريظة والنضير.
وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : أرجع إلى دين آبائك.
{ هذا بصائر } : أي هذا القرآن؛ جعل ما نافية من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحاً وحياة.
وقرىء : هذى ، أي هذه الآيات.
{ أم حسب } : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام إنكار.
وقال الكلبي : نزلت في عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة.
قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقاً ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة؛ كما هو أفضل في الدنيا.
واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر؛ ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى.
وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضاً؛ وأعربوا سواء : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ.
والجملة خبر مستأنف؛ واحتمل الضمير في { محياهم ومماتهم } أن يعود على { الذين اجترحوا } ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء.
قال أبو الدرداء : يبعث الناس على ما ماتوا عليه.
وقال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً.
وقال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية؛ ويظهر لي أن قوله : { سواء محياهم ومماتهم } داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضاً أجود. انتهى.
ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة.
وقال الزمخشري : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً؛ فكانت في حكم المفرد.
ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً؟ كما تقول : ظننت زيد أبوه منطلق. انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل.
وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه ( البسيط في النحو ) : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلاً ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلاً ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي. انتهى.
وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد ، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز؛ لأنها بمعنى التصيير.
لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها.
وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني.
وقرأ زيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستوياً ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم.
وجوز في انتصاب سواء وجهين : أحدهما : أن يكون منصوباً على الحال ، وكالذين المفعول الثاني ، والعكس.
وقرأ الأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً ، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان ، والعامل ، إما أن نجعلهم ، وإما سواء ، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم ، والمفعول الثاني سواء ، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء.
وقال الزمخشري : ومن قرأ ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله : وخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط.
وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر.
فإنه لم يكن معرباً ، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف ، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالرفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، والأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا.
ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين.
وعن تميم الداري ، رضي الله عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : { ساء ما يحكمون }.
وعن الربيع بن خيثم ، أنه كان يردّدها ليلة أجمع ، وكذلك الفضيل بن عياض ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وقال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون.
{ ساء ما يحكمون } : هو كقوله : { بئسما اشتروا } وتقدم إعرابه في البقرة.
وقال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم.
{ بالحق } : بأن خلقها حق ، واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع.
{ ولتجزي } : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل ، فكان الخلق معللاً بالجزاء.
وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، { ولتجزي كل نفس }.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازي كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر. انتهى.
{ أفرأيت } الآية ، قال مقاتل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي ، وأفرأيت : هو بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو : { من اتخذ } ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى ، يدل عليه قوله بعد : { فمن يهديه من بعد الله } ، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه.
{ من اتخذ إلهه هواه } : أي هو مطواع لهوى نفسه ، يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده ، كما يعبد الرجل إلهه.
قال ابن جبير ، إشارة إلى الأصنام : إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة.
وقال قتادة : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، فلهذا يقال : الهوى إله معبود.