كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
وروي عن قتادة : أن الشباب صاروا قردة ، واليوخ صاروا خنازير ، وما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم.
وروي في قصصهم : أن الله تعالى مسخ العاصين قردة بالليل ، فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم ، فلم يروا أحداً من الهالكين ، فقالوا : إن للناس لشأناً ، ففتحوا عليهم الأبواب ، كما كانت مغلقة بالليل ، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة.
وقيل : إن الناجين قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار تبرياً منهم ، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين ، فتسوروا عليهم الجدار ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض.
قال قتادة : وصاروا قردة تعاوي ، لها أذناب ، بعدما كانوا رجالاً ونساء.
{ قردة خاسئين } : كلاهما خبر كان ، والمعنى : أنهم يكونون قد جمعوا بين القردة والخسوء.
ويجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة ، ويجوز أن يكون حالاً من اسم كونوا.
ومعنى خاسئين : مبعدين.
وقال أبو روق : خاسرين ، كأنه فسر باللازم ، لأن من أبعده الله فقد خسر.
وجمهور المفسرين : على أن الذين مسخهم الله لم يأكلوا ، ولم يشربوا ، ولم ينسلوا ، بل ماتوا جميعاً ، وأنهم لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام.
وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام ، وماتوا في اليوم الثامن ، وكان هذا في زمن داود ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وكانوا في قرية يقال لها : أيلة ، وقيل : مدين.
" وروى مسلم ، عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير : أهي مما مسخ؟ فقال : «الله لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً ، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» ".
واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا ، وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم.
{ فجعلناها } : الضمير عائد على القرية أو على الأمة ، أو على الحالة ، أو على المسخة ، أو على الحيتان ، أو على العقوبة.
والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من : كونوا ، أي فجعلنا كينونتهم قردة خاسئين.
{ نكالاً } : أي عبرة ، وهو مفعول ثانٍ لجعل.
{ لما بين يديها وما خلفها } : أي من القرى ، والضمير للقرية ، قاله عكرمة عن ابن عباس ، أو لمن بعدهم من الأمم.
وما خلفها : أي الذين كانوا معهم باقين ، رواه الضحاك عن ابن عباس.
أو ما بين يديها : أي ما دونها ، وما خلفها يعني : لمن يأتي بعدهم من الأمم.
والضمير للأمة ، قاله السدي.
أو ما بين يديها من ذنوب القوم ، وما خلفها للحيتان التي أصابوا ، قاله قتادة.
أو لما بين يديها : ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها ، قاله مجاهد.
أو لما بين يديها ممن شاهدها ، وما خلفها ممن لم يشاهدها ، قاله قطرب.
أو ما بين يديها من ذنوب القوم ، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب.
أو لما بين يديها : من حضرها من الناجين ، وما خلفها ممن يجيء بعدها.
أو لما بين يديها من عقوبة الآخرة ، وما خلفها في دنياهم ، فيذكرون بها إلى قيام الساعة.
أو لما بين يديها : لما حولها من القرى ، وما خلفها : وما يحدث بعدها من القرى التي لم تكن ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين.
أو في الآية تقديم وتأخير ، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب ، نكالاً وجزاء ، لا لما بين يديها ، أي لما تقدّم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت.
فهذه أحد عشر قولاً.
قال بعضهم : والأقرب للصواب قول من قال : ما بين يديها : من يأتي من الأمم بعدها.
وما خلفها : من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة ، ومن قال الضمير عائد على القرية ، فالمراد أهلها.
{ وموعضة للمتقين } : خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير ، قال تعالى : { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } { إنما أنت منذر من يخشاها } وقيل : أراد نكالاً لبني إسرائيل ، وموعظة للمتقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قيل : المتقون أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي عن أشياخه.
وقيل : اللفظ عام في كل متق من كل أمة ، قاله ابن عباس.
وقيل : الذين نهوا ونجوا.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمني اليهود والنصارى والصابئين ، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم ، وأن ذلك عند من يراهم ، وأن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة ، فلا خوف مما يستقبل ، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة.
وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمن أطاع.
وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب : إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل ، والأخرى تتضمن ما عوقبوا به من نتق الجبل فوقهم ، وأخذ الميثاق ، ثم توليهم بعد ذلك.
فأعلمت هذه الآية بحسنى عاقبة من آمن ، حتى من هذا الجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين ، ترغيباً في الإيمان ، وتيسيراً للدخول في أشرف الأديان ، وتبييناً أن الإسلام يجبّ ما قبله ، وأن طاعة الله تجلب إحسانه وفضله.
وتضمن قوله { وإذ أخذنا ميثاقكم } التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم ، وأنه كان يجب الوفاء به ، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجوا ، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق ، وأنه لولا أن تداركهم بفضله ورحمته لخسروا.
ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين ، ومآل اعتداء المعتدين ، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن ، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية ، فبينا هو يفرح بجعله من ذوي الألباب ، ويمرح ملتذاً بدلال الخطاب ، نسخ اسمه من ديوان الكمال ، ونسخ شكله إلى أقبح مثال ، هذا مع أعد له في الآخرة من النكال ، والعقوبات على الجرائم جارية على المقدار ، ناشئة عن إرادة الملك القهار ، ليست مما تدرك بالقياس ، فيخوص في تعيينها ألباب الناس ، ومثل هذه العقوبة تكون تنبيهاً للغافل ، عظة للعاقل.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
البقرة : الأنثى من هذا الحيوان المعروف ، وقد يقع على الذكر.
والباقر والبقير والبيقور والباقور ، قالوا : وإنما سميت بقرة لأنها تبقر الأرض ، أي تشقها للحرث ، ومنه سمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : الباقر.
وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء.
العياذ والمعاذ : الاعتصام.
الفعل منه : عاذ يعوذ.
الجهل : معروف ، والفعل منه : جهل يجهل ، قيل : وقد جمع على أجهال ، وهو شاذ.
قال الشنفري :
ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى . . .
سؤولاً بأطراف الأقاويل أنمل
ويحتمل أن يكون جمع جاهل ، كأصحاب : جمع صاحب.
الفارض : المسن التي انقطعت ولادتها من الكبر.
يقال : فرضت وفرضت تفرض ، بفتح العين في الماضي وضمها ، والمصدر فروض ، والفرض : القطع ، قال الشاعر :
كميت بهيم اللون ليس بفارض . . .
ولا بعوان ذات لون مخصف
ويقال لكل ما قدم وطال أمره : فارض ، قال الشاعر :
يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض . . .
له قروء كقروء الحائض
وكأنّ المسن سميت فارضاً لأنها فرضت سنها ، أي قطعتها وبلغت آخرها ، قال خفاف بن ندبة :
لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضاً . . .
تساق إليه ما تقوم على رجل
ولم تعطه بكراً فيرضى سمينه . . .
فكيف تجازى بالمودة والفضل
البكر : الصغيرة التي لم تلد من الصغر ، وقال ابن قتيبة : التي ولدت ولداً واحداً.
والبكر من النساء : التي لم يمسها الرجل ، وقال ابن قتيبة : هي التي لم تحمل.
والبكر من الأولاد : الأول ، ومن الحاجات : الأولى.
قال الراجز :
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد . . .
أصبحت مني كذراع من عضد
والبكر ، بفتح الباء : الفتى من الإبل ، والأنثى : بكرة ، وأصله من التقدم في الزمان ، ومنه البكرة والباكورة.
والعوان : النصف ، وهي التي ولدت بطناً أو بطنين ، وقيل : التي ولدت مرة.
وقالت العرب : العوان لا تعلم الخمرة ، ويقال : عونت المرأة ، وحرب عوان ، وهي التي قوتل فيها مرة بعد مرة ، وجمع على فعل : قالوا عون ، وهو القياس في المعتل من فعأل ، ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر ، منه :
وفي الأكف اللامعات سور . . .
بين : ظرف مكان متوسط التصرف ، تقول : هو بعيد بين المنكبين ، ونقي بين الحاجبين.
قال تعالى : { هذا فراق بيني وبينك } ، ودخولها إذا كانت ظرفاً : { بين ما تمكن البينية فيه } ، والمال بين زيد وبين عمرو ، ومسموع من كلامهم ، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما ، أو الألف ، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء ، فيليها إذ ذاك الجملة الإسمية والفعلية ، وربما أضيفت بيناً إلى المصدر.
ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير.
اللون : معروف ، وجمعه على القياس ألوان.
واللون : النوع ، ومنه ألوان الطعام : أنواعه.
وقالوا : فلان متلوّن : إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد ، ومنه : يتلوّن تلوّن الحرباء ، وذلك أن الحرباء ، لصفاء جسمها ، أي لون قابلته ظهر عليها ، فتنقلب من لون إلى لون.
الصفرة : لون معروف ، وقياس الفعل من هذا المصدر : صفر ، فهو أصفر ، وهي صفراء ، كقولهم : شهب : فهو أشهب ، وهي شهباء.
الفقوع : أشدّ ما يكون من الصفرة وأبلغه ، يقال : أصفر فاقع ووارس ، وأسود حالك وحايك ، وأبيض نقق ولمق ، وأحمر قاني وزنجي ، وأخضر ناضر ومدهام ، وأزرق خطباني وأرمك رداني.
السرور : لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق.
وقال قوم : السرور والفرح والحبور والجذل نظائر ، ونقيض السرور : الغم.
الذلول : الريض الذي زالت صعوبته ، يقال : دابة ذلول : بينة الذل ، بكسر الذال ، ورجل ذليل : بين الذل بضم الذال ، والفعل : ذل يذل.
الإثارة : الاستخراج والقلقلة من مكان إلى مكان ، وقال امرؤ القيس :
يهيل ويذري تربها ويثيره . . .
إثارة نباش الهواجر مخمس
وقال النابغة :
يثرن الحصى حتى يباشرن تربه . . .
إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل
الحرث : مصدر حرث يحرث ، وهو شق الأرض ليبذر فيها الحب ، ويطلق على ما حرث وزرع ، وهو مجاز في : { نساؤكم حرث لكم } والحرث : الزرع ، والحرث : الكسب ، والحرائث : الإبل ، الواحدة حريثة.
وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث ، لأن الحارث هو الكاسب ، واحتراث المال : اكتسابه.
المسلَّمة المخلصة المبرأة من العيوب ، سلم له كذا : أي خلص ، سلاماً وسلامة مثل : اللذاذ واللذاذة.
الشية : مصدر وشى الثوب ، يشيه وشياً وشية : حسنه وزينه بخطوط مختلفة الألوان ، ومنه قيل للساعي في الإفساد بين الناس : واشٍ ، لأنه يحسن كذبه عندهم حتى يقبل ، والشية : اللمعة المخالفة للون ، ومنه ثور موشى القوائم ، قال الشاعر :
من وحش وجرة موشى أكارعه . . .
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
الآن : ظرف زمان ، حضر جميعه أو بعضه ، والألف واللام فيه للحضور.
وقيل : زائدة ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة.
وزعم الفراء أنه منقول من الفعل ، يقال : آن يئين أيناً : أي حان.
الدّر : الدفع ، ويدرأ عنها العذاب.
وقال الشاعر :
فنكب عنهم درء الأعادي . . .
وادّار : تفاعل منه ، ولمصدره حكم يخالف مصادر الأفعال التي أوّلها همزة وصل ذكر في النحو.
القساوة : غلظ القلب وصلابته.
يقال : قسا يقسو قسواً وقسوة وقساوة ، وقسا وجسا وعساً متقاربة.
الشق ، أن يجعل الشيء شقين ، وتشقق منه.
الخشية : الخوف مع تعظم المخشي.
يقال : خشي يخشى.
الغفلة والسهو والنسيان متقاربة.
يقال منه : غفل يغفل ، ومكان غفل لم يعلم به.
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } الآية.
وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل ، ولم يدروا قاتله ، واختلفوا فيه وفي سبب قتله.
فقال عطاء والسدّي : كان القاتل ابن عم المقتول ، وكان مسكيناً ، والمقتول كثير المال.
وقيل : كان أخاه ، وقيل : ابن أخيه ، ولا وارث له غيره ، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه.
وقال عطاء أيضاً : كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال ، فقتله لينكحها.
وطوّل المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم.
والذي سأل موسى البيان هو القاتل ، قاله أبو العالية.
وقال غيره : بل اجتمع القوم فسألوا موسى ، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم ، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرّة.
وقوله : { وإذ قال } معطوف على قوله : { وإذ أخذنا ميثاقكم } وقوم موسى أتباعه وأشياعه.
وقرأ الجمهور : يأمركم ، بضم الراء ، وعن أبي عمرو : والسكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفاً ، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع ، فيحتمل أن يراد به الحال ، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة ، أو بما أخبر موسى ، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر ، وهو على إسقاط الحرف ، أي بأن تذبحوا.
ولحذف هنا مسوّغان : أحدهما : أنه يجوز فيه ، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر ، أن يحذف الحرف ، كما قال :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به . . .
والثاني : كونه مع إن ، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس.
ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة ، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال.
وقد روى الحسن مرفوعاً ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا فشدّد الله عليهم » وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله ، فاختبروا بذلك ، إذ هذا من الابتلاء العظيم ، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه ، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارًّا بأمّه.
وقال طلحة بن مصرّف : لم تكن من بقر الدنيا ، بل نزلت من السماء.
وقال بعض أهل العلم : البقر سيد الحيوانات الأنسية.
وقرأ : { أتتخدنا } ؟ الجمهور : بالتاء ، على أن الضمير هو لموسى.
وقرأ عاصم الجحدري وابن محيصن بالياء ، على أن الضمير لله تعالى ، وهو استفهام على سبيل الإنكار.
{ هزواً } ، قرأ حمزة ، وإسماعيل ، وخلف في اختياره ، والقزاز ، عن عبد الوارث والمفضل ، بإسكان الزاي.
وقرأ حفص : بضم الزاي والواو بدل الهمز.
وقرأ الباقون : بضم الزاي والهمزة ، وفيه ثلاث لغات التي قرىء بها ، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله : { أتتخذنا هزواً } ، فإما أن يريد به اسم المفعول ، أي مهزوأ ، كقوله : درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله ، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة ، أي أتتخذنا نفس الهزؤ ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلاً ، أو على حذف مضاف ، أي مكان هزء ، أو ذوي هزء ، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة ، بقولهم : { أتتخذنا هزواً } دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له ، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى ، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر ، وجوابهم هذا كفر بموسى.
وقال بعض الناس : كانوا مؤمنين مصدقين ، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية.
والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم : { إن الله يأمركم أن تذبحوا } ، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده ، فتوهموا أن موسى داعبهم ، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله ، أو يكون أخبرهم بذلك ، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت ، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء.
وقيل : في الكلام محذوف تقديره : آلله أمرك أن تتخذنا هزواً؟ وقيل : هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار ، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد.
{ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } ، لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به ، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه ، أن يكون من الجاهلين بالله ، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى ، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى.
وقوله : من الجاهلين ، فيه تصريح أن ثم جاهلين ، واستعاذ بالله أن يكون منهم ، وفيه تعريض أنهم جاهلون ، وكأنه قال : أن أكون منكم ، لأنهم جوّزوا على من هو معصوم من الكذب ، وخصوصاً في التبليغ ، عن الله أن يخبر عن الله بالكذب.
قالوا : والجهل بسيط ، ومركب البسيط : عام وخاص.
العام : عدم العلم بشيء من المعلومات ، والخاص : عدم العلم ببعض المعلومات ، والمركب : أن يجهل ، ويجهل أنه يجهل.
فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم ، فضلاً عن نبي شرف بالرسالة والتكليم ، وذلك مستحيل عليه ، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب.
فالذي استعاذ منه موسى هو خاص ، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئاً ، أو المقابل لجهلهم.
فقالوا : أتتخذنا هزواً لمن يخبرهم عن الله ، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين.
فإن ذلك جهل ، أو من الجاهلين بالجواب ، لا على وفق السؤال ، إذ ذاك جهل ، والأمر من تلقاء نفسي ، وأنسبه إلى الله ، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء ، فإن ذلك جهل.
وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى.
قيل : وإنما استعاذ منها بطريق الأدب ، كما استعاذ نوح عليه السلام { أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم } وكما في : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } ، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له.
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ، لما قال لهم موسى : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } ، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلباً ، جاز ما قالوا له ذلك ، وهذا القول أيضاً فيه تعنيت منهم وقلة طواعية ، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة ، لكانوا قد أتوا بالمأمور ، ولكن شدّدوا ، فشدد الله عليهم ، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما.
وكسر العين من ادع لغة بني عامر ، وقد سبق ذكر ذلك في { فادع لنا ربك يخرج لنا } وجزم يبين على جواب الأمر.
وما هي : مبتدأ وخبر.
وقرأ عبد الله : سل لنا ربك يبين ما هي ، ومفعول يبين : هي الجملة من المبتدأ والخبر ، والفعل معلق ، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي ، لأن التبيين يلزمه الإعلام ، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها ، وكأنهم قالوا : يبين لنا ما البقرة التي أمرنا بذبحها ، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة ، وإنما هو سؤال عن الوصف ، فيكون على حذف مضاف ، التقدير : ما صفتها؟ ولذلك أجيبوا بالوصف ، وهو قوله : { لا فارض ولا بكر }.
وإنما سألوا على طريق التعنت ، كما قدّمناه ، أو على طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا ، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف ، أو على طريق أنهم ظنوا قوله : { أن تذبحوا بقرة } من باب المجمل ، فسألوا تبيين ذلك ، إذ تبين المجمل واجب ، أو على رجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح ، لثقل ذلك عليهم ، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك.
وتقدّم معنى قولهم : { أدع لنا ربك } ، كيف خصوا لفظ الربّ مضافاً إلى موسى ، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلة الرفيعة.
وقيل : إنما سألوا موسى استرشاداً لا عناداً ، إذ لو كان عناداً لكفروا به وعجلت عقوبتهم ، كما عجلت في قولهم : { أرنا الله جهرة } ، وفي عبادتهم العجل ، وفي امتناعهم من قبول التوراة ، وقولهم : { اذهب أنت وربك فقاتلا } وفي الكلام حذف تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه.
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } : صفة لبقرة ، والصفة إذا كانت منفية بلا ، وجب تكرارها ، كما قال :
وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل . . .
فإن جاءت غير مكرّرة ، فبابها الشعر ، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل ، فقدر مبتدأ محذوفاً ، أي { لا هي فارض ولا بكر } ، فقد أبعد ، لأن الأصل الوصف بالمفرد ، والأصل أن لا حذف.
{ عوان } : تفسير لما تضمنه قوله : { لا فارض ولا بكر }.
{ بين ذلك } : يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه ، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد ، فقيل : أشير بذلك إلى مفرد ، فكأنه قيل : عوان بين ما ذكر ، فصورته صورة المفرد ، وهو في المعنى مثنى ، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً حقيقة ، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث ، قالوا : وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة ، قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق . . .
كأنه في الجلد توليع البهق
قيل له : كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت : كأنها ، فيعود على الخطوط ، أو كأنهما ، فيعود على السواد والبلق؟ فقال : أردت كان ذاك ، وقال لبيد :
إن للخير وللشرّ مدى . . .
وكلا ذلك وجه وقبل
قيل : أراد وكلا ذينك ، فأطلق المفرد وأراد به المثنى ، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك ، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك ، وهذا مجمل غير الأوّل.
والذي أذهب إليه غير ما ذكروا ، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف ، لدلالة المعنى عليه ، التقدير : عوان بين ذلك وهذا ، أي بين الفارض والبكر ، فيكون نظير قول الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالما . . .
أبو حجر إلا ليال قلائل
أي : فما كان بين الخير وباغيه ، فحذف لفهم المعنى : { سرابيل تقيكم الحرّ } أي والبرد.
وإنما جعلت عواناً لأنه أكمل أحوالها ، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته.
{ فافعلوا ما تؤمرون } : أي من ذبح البقرة ، ولا تكرروا السؤال ، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول الله ، ويحتمل أن تكون من قول موسى ، وهو الأظهر.
حرّضهم على امتثال ما أمروا به ، شفقة منه.
وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره : ما تؤمرونه ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ تقدّم أن الله يأمركم ، ولتناسب أواخر الآي ، كما قصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله :
ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع . . .
إذ آخر البيت الذي قبل هذا قوله :
وما يدرون أين المصارع . . .
وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية ، أي : فافعلوا أمركم ، ويكون المصدر بمعنى المفعول ، أي مأموركم ، وفيه بعد { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } لما تعَرّفوا سنّ هذه ، شرعوا في تعرف لونها ، وذلك كله يدل على نقص فطرهم وعقولهم ، إذ قد تقدّم أمران : أمر الله لهم بذبح بقرة ، وأمر المبلغ عن الله ، الناصح لهم ، المشفق عليهم ، بقوله : { فافعلوا ما تؤمرون } ، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها ، والقول في : { ادع لنا ربك } ، وفي جزم : { يبين } ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله ، فأغنى عن ذكره.
{ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء } : قال الجمهور : هو اللون المعروف : ولذلك أكد بالفقوع والسرور ، فهي صفراء حتى القرن والظلف ، وقال الحسن وأبو عبيدة : عنى به هنا السواد ، قال الشاعر :
وصفراء ليست بمصفرّة . . .
ولكن سوداء مثل الحمم
وقال سعيد بن جبير : صفراء القرن والظلف خاصة.
{ فاقع } : أي شديد الصفرة ، قاله ابن عباس والحسن؛ أو الخالص الصفرة ، قاله قطرب ، أو الصافي ، قاله أبو العالية وقتادة.
{ لونها } : ذكروا في إعرابه وجوهاً : أحدها : أنا فاعل مرفوع بفاقع ، وفاقع صفة للبقرة.
الثاني : أنه مبتدأ وخبره فاقع.
والثالث : أنه مبتدأ ، و { تسرّ الناظرين } خبر.
وأنث على أحد معنيين : أحدهما : لكونه أضيف إلى مؤنث ، كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه.
والثاني : أنه يراد به المؤنث ، إذ هو الصفرة ، فكأنه قال : صفرتها تسر الناظرين ، فحمل على المعنى كقولهم : جاءته كتابي فاحتقرها ، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل ، لأن إعراب لونها مبتدأ ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون ، أو تسرّ الناظرين خبره ، فيه تأنيث الخبر ، ويحتاج إلى تأويل ، كما قررناه.
وكون لونها فاعلاً بفاقع جار على نظم الكلام ، ولا يحتاج إلى تقديم ، ولا تأخير ، ولا تأويل ، ولم يؤنث فاقعاً وإن كان صفة لمؤنث ، لأنه رفع السبى ، وهو مذكر فصار نحو : جاءتني امرأة حسن أبوها ، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراء على سبيل التوكيد ، لأنه يلزم المطابقة ، إذ ذاك للمتبوع.
ألا ترى أنك تقول أسود حالك ، وسوداء حالكة ، ولا يجوز سوداء حالك؟ فأمّا قوله :
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً . . .
كأن ذكي المسك فيها يفتق
فبابه الشعر ، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة ، وجاء { صفراء فاقع لونها } ، ولم يكتف بقوله : صفراء فاقعة ، لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة ، فحكم عليها أنها صفراء ، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة ، فابتدأ أوّلاً بوصف البقرة بالصفرة ، ثم أكد ذلك بوصف اللون بها ، فكأنه قال : هي صفراء ، ولونها شديد الصفرة.
فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظاً ، إذ تعلقت أوّلاً بالذات ، ثم ثانياً بالعرض الذي هو اللون ، واختلف المتعلق أيضاً ، لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة ، ومع هذا الاختلاف الظاهر فلا يحتاج ذلك إلى التوكيد.
قال الزمخشري : فإن قلت ، فهلا قيل : صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟ قلت : الفائدة فيه التوكيد ، لأن اللون اسم للهيئة ، وهي الصفرة ، فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها ، فهو من قولك : جد جده ، وجنونك جنون.
اه كلامه.
وقال وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
{ تسرّ الناظرين } : أي تبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها.
وهذه الجملة صفة للبقرة ، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً ، كقوله : لونها ، وفيه تكلف قد ذكرناه.
وجاء هذا الوصف بالفعل ، ولم يجيء باسم الفاعل ، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد.
ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد ، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل ، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله ، لأنه ناشىء عن الوصف قبله ، أو كالناشىء ، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً ، دهشت فيه الأبصار ، وعجبت من حسنه البصائر ، وجاء بوصف الجمع في الناظرين ، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها ، متلذذة فيها بالنظر.
فليست مما تعجب شخصاً دون شخص ، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق ، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها ، وإن كان النظر هنا من نظر القلب ، وهو الفكر ، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله ، من تحسين لونها وتكميل خلقها.
والضمير في تسرّ عائد على البقرة ، على تقدير أن تسرّ صفة ، وإن كان خبراً ، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه.
وقد تقدّم توجيه التأنيث ، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء ، فهو عائد على اللون ، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ ، ويسر خبراً ، ويكون فاقعاً صفة تابعة لصفراء ، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو :
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً . . .
على قلة ذلك ، ويحتمل أن يكون لونها فاعلاً بفاقع ، ويسر إخبار مستأنف.
وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ، ولهذا كان علي كرم الله وجهه ، يرغب في النعال الصفر.
وقال ابن عباس : الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم ، وكان ابن عباس أيضاً يحض على لبس النعال الصفر.
ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود ، لأنها تهم.
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن وجه الاشتباه عليهم ، إن كل بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية ، لما علموا من ناقة صالح وما كان فيها من العجائب ، فظنوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب ، وذلك لما نبؤا أنها آية ، سألوا عن ماهيتها وكيفيتها ، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك ، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك ، إذ الله تعالى هو العالم بالآيات ، وإنما سألوا عن التعيين ، وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق ، لأنهم لو عملوا بمطلقه لم يحصل التقصي عن الأمر بيقين.
انتهى كلامه.
وقال غيره : لما لم يمكن التماثل من كل وجه ، وحصل الاشتباه ، ساغ لهم السؤال ، فأخبروا بسنها ، فوجدوا مثلها في السن كثيراً ، فسألوا عن اللون ، فأخبروا بذلك ، فلم يزل اللبس بذلك ، فسألوا عن العمل ، فأخبروا بذلك ، وعن بعض أوصافها الخاص بها ، فزال اللبس بتبيين السن واللون والعمل وبعض الأوصاف ، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر ، فهذا هو السبب الذي جرأهم على تكرار السؤال : { قالوا ادعُ لنا ربك يبين لنا ما هي } ، تقدم الكلام على هذه الجملة.
{ إن البقر تشابه علينا } : هذا تعليل لتكرار هذا السؤال إلى أن الحامل على استقصاء أوصاف هذه البقرة ، وهو تشابهها علينا ، فإنه كثير من البقر يماثلها في السن واللون.
وقرأ عكرمة ويحيى بن يعمر : إن الباقر ، وقد تقدم أنه اسم جمع ، قال الشاعر :
ما لي رأيتك بعد عهدك موحشاً . . .
خلقاً كحوض الباقر المتهدم
وقرأ الجمهور : تشابه ، جعلوه فعلاً ماضياً على وزن تفاعل ، مسند الضمير البقر ، على أن البقر مذكر.
وقرأ الحسن : تشابه ، بضم الهاء ، جعله مضارعاً محذوف التاء ، وماضيه تشابه ، وفيه ضمير يعود على البقر ، على أن البقر مؤنث.
وقرأ الأعرج : كذلك ، إلا أنه شدّد الشين ، جعله مضارعاً وماضيه تشابه ، أصله : تتشابه ، فأدغم ، وفيه ضمير يعود على البقر.
وروي أيضاً عن الحسن ، وقرأ محمد المعيطي ، المعروف بذي الشامة : تشبه علينا.
وقرأ مجاهد : تشبه ، جعله ماضياً على تفعل.
وقرأ ابن مسعود : يشابه ، بالياء وتشديد الشين ، جعله مضارعاً من تفاعل ، ولكنه أدغم التاء في الشين.
وقرىء : متشبه ، اسم فاعل من تشبه.
وقرأ بعضهم : يتشابه ، مضارع تشابه ، وفيه ضمير يعود على البقر.
وقرأ أُبي : تشابهت.
وقرأ الأعمش : متشابه ومتشابهة.
وقرأ ابن أبي إسحاق : تشابهت ، بتشديد الشين مع كونه فعلاً ماضياً ، وبتاء التأنيث آخره.
فهذه اثنا عشر قراءة.
وتوجيه هذه القراءات ظاهر ، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت ، فقال بعض الناس : لا وجه لها.
وتبيين ما قاله : إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيها ، والماضي لا يكون فيه تاءان ، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى.
ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله : اشابهت ، والتاء هي تاء البقرة ، وأصله أن البقرة اشابهت علينا ، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل ، أو اشابهت أصله : تشابهت ، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل.
فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة ، صار اللفظ : أن البقرة اشابهت ، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل ، إذ النطق واحد ، فتوهم أنه قرأ : تشابهت ، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق ، فإنه رأس في علم النحو ، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو.
وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم ، كالفرزدق ، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب ، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها ، وإن البقر تعليل للسؤال ، كما تقول : أكرم زيداً إنه عالم ، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم.
{ وإنا إن شاء الله لمهتدون } : أي لمهتدون إلى عين البقرة المأمور بذبحها ، أو إلى ما خفي من أمر القاتل ، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة.
وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة وانقياد ودلالة على ندمهم على ترك موافقة الأمر.
وقد جاء في الحديث : « ولو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ».
وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة ، أي إن شاء الله اهتدينا ، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ومنفياً بلم ، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب ، فكان الترتيب أن يقال في الكلام : إن زيداً لقائم إن شاء الله ، أي : إن شاء الله فهو قائم ، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها ، ليحصل توافق رؤوس الآي ، وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله ، وجاء خبر إن اسماً ، لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم ، وأكد بحر في التأكيد إن واللام ، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى ، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم.
وأكدوا تلك النسبة ، ولو كان تعليقاً محضاً لما احتيج إلى تأكيد ، ولكنه على قول القائل : أنا صانع كذا إن شاء الله ، وهو متلبس بالصنع ، فذكر إن شاء الله على طريق الأدب.
قال الماتريدي : إن قوم موسى ، مع غلظ أفهامهم وقلة عقولهم ، كانوا أعرف بالله وأكمل توحيداً من المعتزلة ، لأنهم قالوا : { وإنا إن شاء الله لمهتدون } ، والمعتزلة يقولون : قد شاء الله أن يهتدوا ، وهم شاؤوا أن لا يهتدوا ، فغلبت مشيئتهم مشيئة الله تعالى ، حيث كان الأمر على : ما شاؤوا إلا كما شاء الله تعالى ، فتكون الآية حجة لنا على المعتزلة.
انتهى كلامه.
{ قال إنه يقول إنها بقرة } الكلام على هذا كالكلام على نظيره.
{ لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث } ، لا ذلول؛ صفة للبقرة ، على أنه من الوصف بالمفرد ، ومن قال هو من الوصف بالجملة ، وأن التقدير : لا هي ذلول ، فبعيد عن الصواب.
وتثير الأرض : صفة لذلول ، وهي صلة داخلة في حيز النفي ، والمقصود نفي إثارتها الأرض ، أي لا تثير فتذل ، فهو من باب :
على لاحب لا يهتدي بمناره . . .
اللفظ نفي الذل ، والمقصود نفي الإثارة ، فينتفي كونها ذلولاً.
ولا تسقي الحرث : نفي معادل لقوله : لا ذلول.
والجملة صفة ، والصفتان منفيتان من حيث المعنى ، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضاً.
ومعنى الكلام : أنها لم تذلل بالعمل ، لا في حرث ، ولا في سقي ، ولهذا نفي عنها إثارة الأرض وسقيها.
وقال الحسن : كانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث ، ولا يسنى عليها فتسقى.
وقد ذهب قوم إلى أن قوله : تثير الأرض ، فعل مثبت لفظاً ومعنى ، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ، ونفى عنها سقي الحرث.
وردّ هذا القول من حيث المعنى ، لأن ما كان يحرث لا ينتفي كونه ذلولاً.
وقال بعض المفسرين : معنى تثير الأرض بغير الحرث بطراً ومرحاً ، ومن عادة البقر ، إذا بطرت ، تضرب بقرنها وأظلافها ، فتثير تراب الأرض ، وينعقد عليه الغبار ، فيكون هذا المعنى من تمام قوله : لا ذلول ، لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على أنها لا ذلول.
قال الزمخشري : لا ذلول ، صفة لبقرة بمعنى : بقرة غير ذلول ، يعني : لم تذلل للحرث وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث.
ولا : الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية.
انتهى كلامه.
ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب المنتخب ، وما ذهبا إليه ليس بشيء ، لأن قوله : لا ذلول ، صفة منفية بلا ، وإذا كان الوصف قد نفي بلا ، لزم تكرار لا النافية ، لما دخلت عليه ، تقول مررت برجل لا كريم ولا شجاع ، وقال تعالى : { ذي ثلاث شعب ، لا ظليل ولا يغني من اللهب } { وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم } { لا فارض ولا بكر } ، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار ، لأن المستفاد منها النفي ، إلا إن ورد في ضرورة الشعر ، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية ، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية ، وعلى ما قدراه كان نظير : جاءني رجل لا كريم ، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر ، كما نبهنا عليه.
قال ابن عطية : ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في وضع الحال لأنها من نكرة.
انتهى كلامه.
والجملة التي أشار إليها هي قوله : تثير الأرض ، والنكرة هي قوله : لا ذلول ، أو قوله : بقرة ، فإن عنى بالنكرة بقرة ، فقد وصفت ، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازاً حسناً ، وإن عنى بالنكرة لا ذلول ، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه ، ولا أمعن النظر في كتابه ، بل قد أجاز سيبويه في كتابه ، في مواضع مجيء الحال من النكرة ، وإن لم توصف ، وإن كان الاتباع هو الوجه والأحسن ، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة ، وقد يجوز نصبه على نصب : هذا رجل منطلقاً ، يريد على الحال من النكرة ، ثم قال : وهو قول عيسى ، ثم قال : وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالاً ، ولم يجعله صفة ، ومثل ذلك : مررت برجل قائماً ، إذا جعلت المرور به في حال قيام ، وقد يجوز على هذا : فيها رجل قائماً ، ومثل ذلك : عليه مائة بيضاء ، والرفع الوجه ، وعليه مائة ديناً ، الرفع الوجه ، وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون : مررت بماء قعدة رجل ، والوجه الجر ، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب ، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال : راقود خلا وعليك نحى سمناً ، وقال في باب نعم ، فإذا قلت لي عسل ملء جرة ، وعليه دين شعر كلبين ، فالوجه الرفع ، لأنه صفة ، والنصب يجوز كنصبه ، عليه مائة بيضاء ، فهذه نصوص سيبويه ، ولو كان ذلك غير جائز ، كما قال ابن عطية ، لما قاسه سيبويه ، لأن غير الجائز لا يقال به فضلاً عن أن يقاس ، وإن كان الاتباع للنكرة أحسن ، وإنما امتنعت في هذه المسألة ، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب ، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.
وأجاز بعض المعربين أن يكون : تثير الأرض ، في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره : لا تذل في حال إثارتها ، والوجه ما بدأنا به أولاً ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : لا ذلول ، بالفتح.
قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك ، أي حيث هي ، وهو نفي لذلها ، ولأن توصف به فيقال : هي ذلول ، ونحوه قولك : مررت بقوم لا بخيل ولا جبان ، أي فيهم ، أو حيث هم.
انتهى كلامه.
فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفاً ، ويكون قوله : تثير الأرض ، صفة لاسم لا ، وهي منفية من حيث المعنى ، ولذلك عطف عليها جملة منفية ، وهو قوله : ولا تسقي الحرث.
وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز أن تكون { تثير الأرض ولا تسقي الحرث } خبراً ، لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله ، لأن قوله : { قال إنها بقرة } يبقى كلاماً منفلتاً مما بعده ، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف ، ويكون محط الخبر هو قوله : { مسلَّمة لا شية فيها } ، لأنها صفة في اللفظ ، وهي الخبر في المعنى ، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافياً ذلة هذه البقر ، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بنى معها ، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول ، على قراءة السلمي ، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر ، لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة ، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا ، ولا يتخيل أن قوله : { لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث } على تقدير أن تثير ، وما بعده خبر يكون دالاً على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود ، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود ، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد.
فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة ، لأنك قيدت الخبر بتقديركه حيث هي ، فصلح هذا النفي ، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه ، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص ، وهو الأرض والحرث ، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا ساقية حيث تلك البقرة ، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم.
فكلاهما نفي قد تخصص ، إما بالخبر المحذوف ، وإما بتعلق الخبر المثبت.
وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها ، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف ، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف ، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها ، إذا جعلت تثير خبر ألا يقال أن الرابط هنا هو العموم ، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس ، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو : زيد نعم الرجل ، على خلاف في ذلك ، ولعل الأصح خلافه.
وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه ، لو قلت زيد لا رجل في الدار ، ومررت برجل لا عاقل في الدار ، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم ، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار ، انتفى زيد فيها ، وإذا قلت : لا عاقل في الدار ، انتفى العقل عن المرور به ، لم يجز ذلك ، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبراً للا ذلول ، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف ، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي ، من حيث المعنى ، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة.
وأما تمثيل الزمخشري بذلك ، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم ، أو حيث هم ، فتمثيل صحيح ، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم ، إنما الرابط هذا الضمير ، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير ، إذ قدره لا ذلول هناك ، أي حيث هي ، فهذا الضمير عائد على البقرة ، وحصل به الربط كما حصل في تمثيله بقوله : فيهم ، أو : حيث هم ، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى : { لا ذلول } في قراءة السلميّ يتخرج على وجهين : أحدهما : أن تكون معترضة ، وذلك على تقدير حذف خبر ، والثاني : أن تكون معترضة ، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث.
وكانت قراءة الجمهور أولى ، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن ، على أحد تخريجيها ، تكون قد بدأت بالوصف بالجملة وقدّمته على الوصف بالمفرد ، وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحابنا ، لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد ، فقد قدّمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد ، والمفعول الثاني لتسقي محذوف ، لأن سقي يتعدّى إلى اثنين.
وقرأ بعضهم : تسقى بضم التاء من أسقى ، وهما بمعنى واحد.
وقد قرىء : نسقيكم بفتح النون وضمها.
مسلمة من العيوب ، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ومقاتل ، أو من الشيات والألوان ، قاله مجاهد وابن زيد ، أو من العمل في الحرث والسقي وسائر أنواع الإستعمال ، قاله الحسن وابن قتيبة.
والمعنى : أن أهلها أعفوها من ذلك ، كما قال الآخر :
أو معبر الظهر ينبي عن وليته . . .
ما حجّ ربه في الدنيا ولا اعتمرا
أو من الحرام ، لا غصب فيها ولا سرقة ولا غيرهما ، بل هي مطهرة من ذلك ، أو مسلمة القوائم والخلق ، قاله عطاء الخراساني ، أو مسلمة من جميع ما تقدّم ذكره ، لتكون خالية من العيوب ، بريئة من الغصوب ، مكملة الخلق ، شديدة الأسر ، كاملة المعاني ، صالحة لأن تظهر فيها آية الله تعالى ومعجزة رسوله ، قال أبو محمد بن عطية : ومسلمة ، بناء مبالغة من السلامة ، وقاله غيره ، فقال : هي من صيغ المبالغة ، لأن وزنها مفعلة من السلامة ، وليس كما ذكر ، لأن التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجل المبالغة ، بل هو تضعيف النقل والتعدية ، يقال : سلم كذا ، ثم إذا عدّيته بالتضعيف ، فالتضعيف هنا كهو في قوله : فرحت زيداً ، إذ أصله : فرح زيد ، وكذلك هذا أصله : سلم زيد ، ثم يضعف فيصير يتعدّى.
فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادف للبناء المتعدّي بالهمزة.
لاشِية فيها : أي لا بياض ، قاله السدّي ، أو : لا وضح ، وهو الجمع بين لونين من سواد وبياض ، أو لا عيب فيها ، أو : لا لون يخالف لونها من سواد أو بياض ، أو : لا سواد في الوجه والقوائم ، وهو الشية في البقر ، يقال ثور موشى ، إذا كان في وجهه وقوائمه سواد.
وقيل : لاشية فيها ، تفسير لقوله : مسلمة ، أي خلصت صفرتها عن أخلاط سائر الألوان ، قاله ابن زيد.
قال ابن عطية : والثور الأشيه الذي ظهر بلقه ، يقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه.
كل ذلك بمعنى البلقة. انتهى.
وليس الأشيه مأخوذاً من الشية لاختلاف المادّتين.
{ قالوا الآنَ جئتَ بالحقّ } : قرأ الجمهور : بإسكان اللام والهمزة بعده ، وقرأ نافع : بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وعنه روايتان : إحداهما : حذف واو قالوا ، إذ لم يعتد بنقل الحركة ، إذ هو نقلٌ عارض ، والرواية الأخرى : إقرار الواو اعتداداً بالنقل ، واعتباراً لعارض التحريك ، لأن الواو لم تحذف إلا لأجل سكون اللام بعدها.
فإذا ذهب موجب الحذف عادت الواو إلى حالها من الثبوت.
وانتصاب الآن على الظرفية ، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر ، وهو قوله لهم : { إنها بقرة لا ذلولٌ } إلى { لا شية فيها } ، والعامل فيه جئت ، ولا يراد بجئت أنه كان غائباً فجاء ، وإنما مجازه نطقت بالحق ، فبالحق متعلق بجئت على هذا المعنى ، أو تكون الباء للتعدية ، فكأنه قال : أجأت الحق ، أي إن الحق كان لم يجئنا فأجأته.
وهنا وصف محذوف تقديره بالحق المبين ، أي الواضح الذي لم يبق معه إشكال ، واحتيج إلى تقدير هذا الوصف لأنه في كل محاورة حاورها معهم جاء بالحق ، فلو لم يقدر هذا الوصف لما كان لتقييدهم مجيئه بالحق بهذا الطرف الخاص فائدة.
وقد ذهب قتادة إلى أنه لا وصف محذوف هنا ، وقال : كفروا بهذا القول لأن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان لا يأتيهم إلا بالحق في كل وقت ، وقالوا : ومعنى بالحق : بحقيقة نعت البقرة ، وما بقي فيها إشكال.
{ فذبحوها } : قبل هذه الجملة محذوف ، التقدير : فطلبوها وحصلوها ، أي هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة ، وتحصيلها كان بأن الله أنزلها من السماء ، أو بأنها كانت وحشية فأخذوها ، أو باشترائها من الشاب البارّ بأبويه.
وهذا الذي تظافرت عليه أقاويل أكثر المفسرين ، وذكروا في ذلك اختلافاً وقصصاً كثيراً مضطرباً أضربنا عن نقله صفحاً كعادتنا في أكثر القصص الذي ينقلونه ، إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صح عن الله تعالى ، أو عن رسوله في قرآن أو سنّة.
{ وما كادوا يفعلون } : كنى عن الذبح بالفعل ، لأن الفعل يكنى به عن كل فعل.
وكاد في الثبوت تدلّ على المقاربة.
فإذا قلت : كاد زيد يقوم ، فمعناه مقاربة القيام ، ولم يتلبس به.
فإذا قلت : ما كاد زيد يقوم ، فمعناه نفي المقارنة ، فهي كغيرها من الأفعال وجوباً ونفياً.
وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت ، دلت على نفي الخبر ، وإذا نفيت ، دلت على إثبات الخبر ، مستدلاً بهذه الآية ، لأن قوله تعالى : { فذبحوها } يدل على ذلك ، والصحيح القول الأول.
وأمّا الآية ، فقد اختلف زمان نفي المقاربة والذبح ، إذ المعنى : وما قاربوا ذبحها قبل ذلك ، أي وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته.
فالمعنى أنهم تعسروا في ذبحها ، ثم ذبحوها بعد ذلك.
قيل : والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو : إمّا غلاء ثمنها ، وإمّا خوف فضيحة القاتل ، وإمّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياء على ما عهد منهم.
واختلفوا في هذه البقرة المذبوحة : أهي التي أمروا أولاً بذبحها ، وأنها معينة في الأمر الأوّل ، وأنه لو وقع الذبح عليها أولاً لما وقع إلا على هذه المعينة؟ أم المأمور بها أوّلاً هي بقرة غير مخصوصة ، ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات ، فذبحوا المخصوصة؟ فكان الأمر الأول مخصوصاً لانتقال الحكم من البقرة المطلقة إلى البقرة المخصوصة ، ويجوز النسخ قبل الفعل على أن هذه البقرة المخصوصة يتناولها الأمر بذبح بقرة ، فلو وقع الذبح عليها بالخطاب الأوّل ، لكانوا ممتثلين ، فكذلك بعد التخصيص.
ثم اختلف القائلون بهذا الثاني : هل الواجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهي كونها لا ذلولٌ إلى آخره؟ أم ينضاف إلى هذه الأوصاف في جواب السؤالين قبل ، فيجب أن يكون مع الوصف الأخير لا فارضٌ ولا بِكرٌ ، وصفراء فاقعٌ لونها؟ والذي نختاره هذا الثاني ، لأن الظاهر اشتراك هذه الأوصاف ، لأن قوله : ما هي ، وما لونها ، وما هي ، يدل على ذلك ، وهذا هو الذي اشتهر في الإخبار أنها كانت بهذه الأوصاف جميعاً ، وإذا كان البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة ، كان ذلك تكليفاً بعد تكليف ، وذلك يدل على نسخ التسهيل بالأشق ، وعلى جواز النسخ قبل الفعل.
{ وإذ قتلتم نفساً } : معطوف على قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما ، فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة ، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر ، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل ، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله : اضربوه ببعضها ، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدم قتل القتيل.
ثم سألوا عن تعيين قاتله ، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك ، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ، فيكون الأمر بالذبح متقدّماً في النزول ، والتلاوة متأخراً في الوجود ، ويكون قتل القتيل متأخراً في النزول ، والتلاوة متقدّماً في الوجود ، ولا إلى اعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخراً في النزول ، متقدّماً في التلاوة ، والإخبار عن قتلهم مقدّماً في النزول ، متأخراً في التلاوة ، دون تعرض لزمان وجود القصتين.
وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر ، اعتبار ما رووا من القصص الذي لا يصح ، إذ لم يرد به كتاب ولا سنة ، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى ، إذ العدول عن الظاهر إلى غير الظاهر ، إنما يكون لمرجح ، ولا مرجح ، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولاً ذبح بقرة.
هل يمتثلون ذلك أم لا؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة ، لأنها طواعية صرف ، وعبودية محضة ، واستسلام خالص ، بخلاف ما تظهر له حكمة ، فإن في العقل داعية إلى امتثاله ، وحضاً على العمل به.
وقال صاحب المنتخب : إن وقوع ذلك القتيل لا بدّ أن يكون متقدّماً لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتيل ، وعن أنه لا بد أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدّماً على الإخبار عن قصة البقرة.
فقول من يقول : هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدّمة على الأولى في الوجود.
فأما التقديم في الذكر فغير واجب ، لأنه تارة يقدّم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : { وإذ قتلتم نفساً } من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه ، بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة.
وتقدّمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عكس ، لما كانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع.
انتهى كلامه ، وهو مبني على أن القتل وقع أولاً ، ثم أمروا بعد ذلك بذبح البقرة ، وليس له دليل على ذلك إلا نقل شيء من القصص التي لم تثبت في كتاب ولا سنة.
وقد بينا حمل الآيتين على أن الأمر بالذبح يكون متقدّماً وأن القتل تأخر ، كحالهما في التلاوة.
وقال بعض الناس : التقديم والتأخير حسن ، لأن ذلك موجود في القرآن ، في الجمل ، وفي الكلمات ، وفي كلام العرب.
وأورد من ذلك جملاً ، من ذلك : قصة نوح عليه السلام في إهلاك قومه ، وقوله : { وقال اركبوا فيها } وفي حكم من مات عنها زوجها بالتربص بالأربعة الأشهر وعشر ، وبمتاع إلى الحول ، إذ الناسخ مقدّم ، والمنسوخ متأخر.
وذكر من تقديم الكلمات في القرآن والشعر على زعمه كثيراً ، والتقديم والتأخير ، ذكر أصحابنا أنه من الضرائر ، فينبغي أن ينزه القرآن عنه.
ونسبة القتيل إلى جمع ، إما لأن القاتلين جمع ، وهم ورثة المقتول ، وقد نقل أنهم اجتمعوا على قتله ، أو لأن القاتل واحد ، ونسب ذلك إليهم لوجود ذلك فيهم ، على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة ، إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح.
{ فادّارأتم فيها } قرأ الجمهور : بالإدغام وقرأ أبو حيوة؛ فتدارأتم ، على وزن تفاعلتم ، وهو الأصل ، هكذا نقل بعض من جمع في التفسير.
وقال ابن عطية : قرأ أبو حيوة ، وأبو السوار الغنوي : { وإذ قتلتم نفساً فادّرأتم } ، وقرأت فرقة : فتدارأتم على الأصل.
انتهى كلامه.
ونقل من جمع في التفسير أن أبا السوار قرأ : فدرأتم ، بغير ألف قبل الراء.
ويحتمل هذا التدارؤ ، وهو التدافع ، أن يكون حقيقة ، وهو أن يدفع بعضهم بعضاً بالأيدي ، لشدة الاختصام.
ويحتمل المجاز ، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض ، فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح ، أو بأن دف بعضهم بعضاً بالتهمة والبراءة.
والضمير في : فيها عائد على النفس ، وهو ظاهر ، وقيل : على القتلة ، فيعود على المصدر المفهوم من الفعل ، وقيل : على التهمة ، فيعود على ما دل عليه معنى الكلام.
{ والله مخرج ما كنتم تكتمون } ، ما : منصوب باسم الفاعل ، وهو موصول معهود ، فلذلك أتى باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت ، ولم يأت بالفعل الذي هو دال على التجدد والتكرار ، ولا تكرار ، إذ لا تجدد فيه ، لأنها قصة واحدة معروفة ، فلذلك ، والله أعلم ، لم يأت الفعل.
وجاء اسم الفاعل معملاً ، ولم يضف ، وإن كان من حيث المعنى ماضياً ، لأنه حكى ما كان مستقبلاً وقت التدارؤ ، وذلك مثل ما حكى الحال في قوله تعالى : { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } ودخلت كان هنا ليدل على تقدم الكتمان ، والعائد على ما محذوف تقديره : ما كنتم تكتمونه.
والظاهر أن المعنى ما كنتم تكتمون من أمر القتيل وقاتله ، وعلى هذا ذهب الجمهور.
وقيل : يجوز أن يكون عاماً في القتيل وغيره ، فيكون القتيل من جملة أفراده ، وفي ذلك نظر ، إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى.
{ فقلنا اضربوه ببعضها } : جملة معطوفة على قوله : { قتلتم نفساً فادّارأتم فيها }.
والجملة من قوله تعالى : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئاً ، إذ الله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل.
والهاء في اضربوه عائد على النفس ، على تذكير النفس ، إذ فيها التأنيث ، وهو الأشهر ، والتذكير ، أو على أو الأول هو على حذف مضاف ، أي وإذ قتلتم ذا نفس ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فروعي بعود الضمير مؤنثاً في قوله : { فادّارأتم } فيها ، وروعي المحذوف بعود الضمير عليه مذكراً في قوله : { فقلنا اضربوه } ، أو عائد على القتيل ، أي ، فقلنا : اضربوا القتيل ببعضها.
الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان ، فقيل : ضربوه بلسانها ، أو بفخذها اليمنى ، أو بذنبها ، أو بالغضروف ، أو بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن ، أو بالبضغة التي بين الكتفين ، أو بالعجب ، وهو أصل الذنب ، أو بالقلب واللسان معاً ، أو بعظم من عظامها ، قاله أبو العالية.
والباء في ببعضها للآلة ، كما تقول : ضربت بالقدوم ، والضمير عائد على البقرة ، أي ببعض البقرة.
وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعده وما قبله ، التقدير : فضربوه فحيي ، دل على ضربوه قوله تعالى : { اضربوه ببعضها } ، ودل على فحيي قوله تعالى : { كذلك يحيي الله الموتى }.
ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل ، وذلك قبل دفنه ، ومن قال : إنهم مكثوا في طلبها أربعين سنة ، أو من يقول : إنهم أمروا بطلبها ، ولم تكن في صلب ولا رحم ، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه.
قيل : على قبره ، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر.
وروي أنه قام وأوداجه تشخب دماً ، وأخبر بقاتله فقال : قتلني ابن أخي ، فقال بنو أخيه والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد معاينته ، ثم مات مكانه.
وفي بعض القصص أنه قال : قتلني فلان وفلان ، لا بني عمه ، ثم سقط ميتاً ، فأخذا وقتلا ، ولم يورثوا قاتلاً بعد ذلك.
وقال الماوردي : كان الضرب بميت لا حياة فيه ، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة.
{ كذلك يحيي الله الموتى } : إن كان هذا خطاباً للذين حضروا إحياء القتيل ، كان ثم إضمار قول : أي وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة.
وقدّره الماوردي خطاباً من موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وإن كان لمنكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون من تلوين الخطاب.
والمعنى : كما أحيي قتيل بني إسرائيل في الدنيا ، كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب الطبري ، والظاهر هو الأول ، لانتظام الآي في نسق واحد ، ولئلا يختلف خطاب { لعلكم تعقلون } ، وخطاب { ثم قست قلوبكم } ، لأن ظاهر قلوبكم أنه خطاب لبني إسرائيل.
والكاف من كذلك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله : { يحيي الله الموتى } ، أي إحياء مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى ، والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لاقى كيفية الإحياء ، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل.
وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل ، ويحتاج في تصحيح ذلك إلى حذف مضاف ، أي مثل إحياء ذلك القتيل ، يحيي الله الموتى ، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقل تكلفاً.
وإذا كان ذلك خطاباً لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل ، فحكمه مشاهدة ذلك ، وإن كانوا مؤمنين بالبعث ، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم ، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة.
{ ويريكم آياته } : ظاهر هذا الكلام الاستئناف ، ويجوز أن يكون معطوفاً على يحيي ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، وهي ما أراهم من إحياء الميت ، والعصا ، والحجر ، والغمام ، والمنّ والسلوى ، والسحر ، والبحر ، والطور ، وغير ذلك.
وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوباً ، وأشد قسوة وتكذيباً لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات.
وقال صاحب المنتخب : { ويريكم آياته } ، وإن كانت آية واحدة ، لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل.
انتهى كلامه.
{ لعلكم تعقلون } : أي لعلكم تمتنعون من عصيانه ، وتعملون على قضية عقولكم ، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة ، قدر على إحياء الأنفس كلها ، لعدم الاختصاص ، { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } ، أي كخلق نفس واحدة وبعثها.
وقال الزمخشري : في الأسباب والشروط حكم وفوائد ، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة في من التقرب ، وأداء التكليف ، واكتساب الثواب ، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم ، لتشديدهم من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد ، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى ، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم كنهه ، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء.
وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه : أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به ، وأن يختاره فتى السن غير فخم ولا ضَرعٍ ، حسن اللون بريئاً من العيوب ، يونق من ينظر إليه ، وأن يغالي بثمنه ، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه ، أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن النسخ قبل الفعل جائز ، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البدء ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت ، وحصول الحياة عقيبه ، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة.
انتهى كلامه ، وهو حسن.
وقد ذكر المفسرون أحكاماً فقهية ، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتل ، ولا يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية.
قالوا : هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول ، وإن كان ممن يرثه.
وأقول : لا تدل هذه الآية على ذلك ، وإنما القصة ، إن صحت ، تدل على ذلك ، لأن في آخرها : فما ورث قاتل بعدها ممن قتله.
وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنه لا ميراث له ، عمداً كان أو خطأً ، لا من ديته ، ولا من سائر ماله.
وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا : إن كان صبياً أو مجنوناً ، ورث.
وقال عثمان الليثي : يرث قاتل الخطأ.
وقال ابن وهب ، عن مالك : لا يرث قاتل العمد من ديته ، ولا من ماله.
وإن قتله خطأ ، يرث من ماله دون ديته.
ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري ، وهو قول الأوزاعي.
وقال المزني ، عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل ، أو العادل الباغي ، لا يتوارثان لأنهما قاتلان.
وقالوا : استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة ، على صحة القول بالقسامة ، بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، وقال الجمهور خلافه.
وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء ، قالوا : في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه ، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز السلم في الحيوان.
ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء ، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة.
قال القشيري : أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله ، فأمر بقتل حيوان لهم ، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه ، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه.
فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات ، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول.
{ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } ، قال الزمخشري ، معنى ثم قست : استبعاد القسوة بعدما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ، ثم أنتم تمترون. انتهى.
وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد ، ولذلك قيل عنه في قوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم ، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعدما تقدّم مما لا يقتضي وقوعها ، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر ، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله تعالى ، والتسليم لأقضيته ، فصدر مهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها ، بما شاهدت ، والتعنت والتكذيب ، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل ، وأخبر بمن قتله قالوا : كذب.
والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل ، قاله ابن عباس ، وهم الذين قتلوه ، وأنكروا قتله.
وقيل : قلوب بني إسرائيل جميعاً قست بمعاصيهم وما ارتكبوه ، قاله أبو العالية وغيره.
وكنى بالقسوة عن نبوّ القلب عن الاعتبار ، وأن المواعظ لا تجول فيها.
وأتى بمن في قوله : { من بعد ذلك } إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق ، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة ، فيتدافع معنى ثم ، ومعنى من ، فلا بد من تجوّز في أحدهما.
والتجوز في ثم أولى ، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة ، فينحرفون إثرها إلى المعصية عناداً وتكذيباً ، والإشارة بذلك قيل : إلى إحياء القتيل ، وقيل : إلى كلام القتيل ، وقيل : إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، قاله الزجاج.
{ فهي كالحجارة } : يريد في القسوة.
وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة ، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة ، ويعني أن قلوبهم صلبة ، لا تخلخلها الخوارق ، كما أن الحجر خلق صلباً.
وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض ، بل خلق ذلك فيها خلقاً أولياً ، كما أن صلابة الحجر كذلك.
والكاف المفيدة معنى التشبيه : حرف وفاقاً لسيبويه وجمهور النحويين ، خلافاً لمن ادّعى أنها تكون اسماً في الكلام ، وهو عن الأخفش.
فتعلقه هنا بمحذوف ، التقدير : فهي كائنة كالحجارة ، خلافاً لابن عصفور ، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء ، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو.
والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس.
وجمعت الحجارة ولم تفرد ، فيقال كالحجر ، فيكون أخصر ، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع ، لأنه قوبل الجمع بالجمع ، لأن قلوبهم جمع ، فناسب مقابلته بالجمع ، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة.
فلو قيل : كالحجر ، لأفهم ذلك عدم التفاوت ، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك.
{ أو أشدّ قسوة } ، أو : بمعنى الواو ، أو بمعنى أو للابهام ، أو للإباحة ، أو للشك ، أو للتخيير ، أو للتنويع ، أقوال : وذكر المفسرون مثلاً لهذه المعاني ، والأحسن القول الأخير.
وكأن قلوبهم على قسمين : قلوب كالحجارة قسوة ، وقلوب أشدّ قسوة من الحجارة ، فأجمل ذلك في قوله : { ثم قست قلوبكم } ، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة ، وإلى أشدّ منها ، إذ ما كان أشدّ ، كان مشاركاً في مطلق القسوة ، ثم امتاز بالأشدية.
وانتصاب قسوة على التمييز ، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل ، لأن كلاً منهما ينتصب عنه التمييز.
تقول : زيد كعمرو حلماً ، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل ، منقول من المبتدأ ، وهو نقل غريب ، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافاً إليه مقامه.
تقول : زيد أحسن وجهاً من عمرو ، وتقديره : وجه زيد أحسن من وجه عمرو ، فأخرت وجهاً وأقمت ما كان مضافاً مقامه ، فارتفع بالابتداء ، كما كان وجه مبتدأ ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك : من وجه عمرو ، وإقامة عمرو مقامه ، فقلت : من عمرو ، وإنما كان الأصل ذلك ، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه ، ونظير هذا : مررت بالرجل الحسن الوجه ، أو الوجه أصل هذا الرفع ، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه ، وإنما أوضحنا هذا ، لأن ذكر مجيء التمييز منقولاً من المبتدأ غريب ، وأفرد أشدّ ، وإن كانت خبراً عن جمع ، لأن استعمالها هنا هو بمن ، لكنها حذفت ، وهو مكان حسن حذفها ، إذ وقع أفعل التفضيل خبراً عن المبتدأ وعطف ، أو أشد ، على قوله : كالحجارة ، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد ، كما تقول : زيد على سفر ، أو مقيم ، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب ، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون التقدير : أو هي أشدّ قسوة ، فيصير من عطف الجمل.
والثاني : أن يكون ، التقدير : أو مثل أشدّ ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه ، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب ، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة ، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك الموصوف بأشدّ المحذوف.
ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش ، بنصب الدال عطفاً على ، كالحجارة ، قاله الزمخشري.
وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة.
وأما على قراءة الرفع ، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه ، ولا إضمار فيه ، فكان أرجح.
وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله : إنه معطوف على الكاف ، فقال : هو على مذهب الأخفش ، لا على مذهب سيبويه ، لأنه لا يجيز أن يكون إسماً إلا في الشعر ، ولا يجيز ذلك في الكلام ، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون : أشدّ ، خبر مبتدأ مضمر ، أي وهي أشدّ.
انتهى كلامه.
وما ذهب إليه الزمخشري صحيح ، ولا يريد بقوله : معطوف على الكاف ، أن الكاف اسم ، إنما يريد معطوفاً على الجار والمجرور ، لأنه في موضع مرفوع ، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور.
وقوله : فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر ، أي هي أشدّ ، قد بينا أن الأولى غير هذا ، لأنه تقدير لا حاجة إليه.
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ، قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة.
ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة ، كأنه قيل : اشتدّت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشدّ قسوة.
انتهى كلامه.
ومعنى قوله : وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك ، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة ، والنقص مثبت.
وفي كونه من أفعل ، أو من كون ، أو من مبني للمفعول خلاف.
وقرأ أبو حياة : أو أشدّ قساوة ، وهو مصدر لقسا أيضاً.
{ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } : لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة ، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلاف الناس في مفهوم ، أو بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار ، وأخذ يذكر جهة كون قلوبهم أشدّ قسوة : والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ ، ولا تتأثر للزواجر ، وإن من الحجارة ما يقبل التخلخل ، وأنها متفاوتة في قبول ذلك ، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه.
فقد فضلت الأحجار على قلوبهم في أن منها ما يقبل التخلخل ، وأن قلوب هؤلاء في شدّة القساوة.
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال قوم : إن قوله : { وإن من الحجارة } إلى آخره ، هو على سبيل المثل ، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى ، وتشقق من هيبته ، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور ، والنظر في عواقب الأشياء ، ومع ذلك فقلوبكم أشدّ قسوة ، وأبعد عن الخير.
وقال قوم : ليس ذلك على جهة المثل : بل أخبر عن الحجارة بعينها ، وقسمها لهذه الأقسام ، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة.
وقرأ الجمهور : وإنّ مشدّدة ، وقرأ قتادة : وإن مخففة ، وكذا في الموضعين بعد ذلك ، وهي المخففة من الثقيلة ، ويحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون معملة ، ويكون من الحجارة في موضع خبرها ، وما في موضع نصب بها ، وهو اسمها ، واللام لام الابتداء ، أدخلت على الاسم المتأخر ، والاسم إذا تأخر جاز دخول اللام عليه ، نحو قوله : { وإن لك لأجراً } ، وأعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من العرب ، وهو قولهم : إن عمرو لمنطلق ، بسكون النون ، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا ، تقول : إنك منطلق ، إلا أن ورد في الشعر.
والوجه الثاني : أن لا تكون معملة ، بل تكون ملغاة ، وما في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله.
واللام في لما مختلف فيها ، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بين أن المؤكدة وإن النافية ، وهو مذهب أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير.
وأكثر نحاة بغداد ، وبه قال : من نحاة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر ، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق ، وليست لام الابتداء ، وبه قال أبو علي الفارسي.
ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو.
ولم يذكر المفسرون والمعربون في إن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني ، وهو أنها الملغاة ، وأن اللام في لما لزمت للفرق.
قال المهدوي : من خفف إن ، فهي المخففة من الثقيلة ، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما.
وقال ابن عطية : فرق بينها وبين النافية لام التوكيد في لما.
وقال الزمخشري : وقرىء : وإن بالتخفيف ، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة ، ومنه قوله تعالى : { وإن كلّ لما جميع } وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة ، هو مذهب البصريين.
وأما الفراء فزعم فيما ورد من ذلك أنّ إن هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، فإذا قلت : إن زيد لقائم ، فمعناه عنده : ما زيد إلا قائم.
وأما الكسائي فزعم أنها إن وليها فعل ، كانت إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وإن وليها اسم ، كانت المخففة من الثقيلة.
وذهب قطرب إلى أنها إذا وليها فعل ، كانت بمعنى قد ، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو.
وقرأ الجمهور : لما بميم مخففة وهي موصولة.
وقرأ طلحة بن مصرف : لما بالتشديد ، قاله في الموضعين ، ولعله سقطت واو ، أي وفي الموضعين.
قال محمد بن عطية : وهي قراءة غير متجهة ، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلا إذا نقل عنه أنه يقرأ وإنّ بالتشديد ، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة.
أما إذا قرأ بتخفيف إن ، وهو المظنون به ذلك ، فيظهر توجيهها بعض ظهور ، إذ تكون إن نافية ، وتكون لما بمنزلة إلا ، كقوله تعالى : { إن كل نفس لما عليها حافظ } { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } في قراءة من قرأ لما بالتشديد ، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه ، التقدير : وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار ، وكذلك ما فيها ، كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، { وإن من أهل الكتاب ليؤمن به قبل موته } أي وما من أهل الكتاب أحد ، وحذف هذا المبتدأ أحسن ، لدلالة المعنى عليه ، إلا أنه يشكل معنى الحصر ، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة ، فمنها ما يتفجر منه الأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، ومنها ما يهبط من خشية الله.
وإذا حصرت ، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها ، أي تتفجر منه الأنهار ، ويتشقق منه الماء ، ويهبط من خشية الله.
ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية ، إذ كل حجر يقبل ذلك ، ولا يمتنع فيه ، إذا أرد الله ذلك.
فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير : أن يقرأ طلحة ، وإن بالتخفيف.
وأما إن صح عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد ، فيعسر توجيه ذلك.
وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية ، فلا يصح قوله ، ولا يثبت ذلك في لسان العرب.
ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد ، مع قراءة إن بالتشديد ، بأن يكون اسم إن محذوفاً لفهم المعنى ، كما حذف في قوله :
ولكن زنجيّ عظيم المشافر . . .
وفي قوله :
فليت دفعت الهم عني ساعة . . .
وتكون لما بمعنى حين ، على مذهب الفارسي ، أو حرف وجوب لوجوب ، على مذهب سيبويه.
والتقدير : وإن منها منقاداً ، أو ليناً ، وما أشبه هذا.
فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إن وصاحبها ، فحذف الاسم وحده أسهل.
وقرأ الجمهور : يتفجر بالياء ، مضارع تفجر.
وقرأ مالك بن دينار : ينفجر بالياء ، مضارع انفجر ، وكلاهما مطاوع.
أما يتفجر فمطاوع تفجر ، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففاً.
والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة ، والانفجار دونه ، والمعنى : إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر.
وقرأ أبيّ والضحاك : منها الأنهار.
وقرأ الجمهور منه.
فالقراءة الأولى حمل على المعنى ، وقراءة الجمهور على اللفظ ، لأن ما لها هنا لفظ ومعنى ، لأن المراد به الحجارة ، ولا يمكن أن يراد به مفرداً لمعنى ، فيكون لفظه ومعناه واحداً ، إذ ليس المعنى { وإن من الحجارة } للحجر الذي يتفجر منه الماء ، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار.
وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية.
وقد ذهب بعضهم إلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار ، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
{ وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } ، التشقق : التصدّع بطول أو بعرض ، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهراً.
وقرأ الجمهور : يشقق ، بتشديد الشين ، وأصله يتشقق ، فأدغم التاء في الشين.
وقرأ الأعمش : تشقق ، بالتاء والشين المخففة على الأصل ، ورأيتها معزوّة لابن مصرّف.
وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية.
ما نصه : وقرأ ابن مصرّف : ينشقق ، بالنون وقافين ، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشدّدة ، وقد يجيء الفك في شعر ، فإن كان المضارع مجزوماً ، جاز الفك فصيحاً ، وهو هنا مرفوع ، فلا يجوز الفك ، إلا أنها قراءة شاذة ، فيمكن أن يكون ذلك فيها ، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما ، فلا يجوز.
قال أبو حاتم : لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز تتشقق بالتاء ، لأنه إذا قال : تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار ، ولا يكون في تشقق.
وقال أبو جعفر النحاس : يجوز ما أنكره أبو حاتم حملاً على المعنى ، لأن المعنى : وإن منها للحجارة التي تشقق ، وإمّا يشقق بالياء ، فمحمول على اللفظ.
انتهى ، وهو كلام صحيح.
ولم ينقل هنا أن أحداً قرأ منها الماء ، فيعيد على المعنى ، إنما نقل ذلك في قوله : لما يتفجر منه الأنهار ، فكان قوله يتفجر حملاً على اللفظ ومنها حملاً على المعنى ومحسن هذا هنا انه ولى الضمير جمع وهو الأنهار ، فناسب الجمع الجمع ، ولأن الأنهار من حيث هي جمع ، يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد ، وإنما تخرج الأنهار من أحجار ، فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا.
وأما فيخرج منه الماء ، فالماء ليس جمعاً ، فلا يناسب في حمل منه على المعنى ، بل أجرى يشقق ، ومنه على اللفظ.
{ وإن منها لما يهبط من خشية الله } ، الهبوط هنا : التردّي من علو إلى أسفل.
وقرأ الأعمش : يهبط ، بضم الباء ، وقد تقدم أنها لغة.
وخشية الله : خوفه.
واختلف المفسرون في تفسير هذا ، فذهب قوم إلى أن الخشية هنا حقيقة.
واختلف هؤلاء ، فقال قوم معناه : من خشية الحجارة لله تعالى ، فهي مصدر مضاف للمفعول ، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزاً قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل ، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية ، وبعضها بالإرادة ، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدّع ، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة.
قال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } الآية ، { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } { يا جبال أوّبي معه والطير } وفي الحديث الصحيح : " إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مرّ بحجر ولا مدر إلا سلم عليه ، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه " وفي حديث الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام وصار يعدو خلفه ويقول : «ثوبي حجر ثوبي حجر».
وفي الحديث عن أحد : " أن هذا جبل يحبنا ونحبه " وفي حديث حراء : " لما اهتز أسكن حراء " وفي حديث : " تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات ، وانقياد الشجر وغير ذلك.
فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة ، وصفة ناطقة ، وحركة اختيارية ، لما صدر عنها شيء من ذلك ، ولا حسن وصفها به.
وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة.
وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر أضيف إلى فاعل.
والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد ، والمراد بخشية الله : إخافته عباده ، فأطلق الخشية ، وهو يريد الإخشاء ، أي نزول البرد به ، يخوّف الله عباده ، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي.
وهذا قول متكلف ، وهو مخالف للظاهر.
والبرد ليس بحجارة ، وإن كان قد اشتدّ عند النزول ، فهو ماء في الحقيقة.
وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، وفاعله محذوف ، وهو العباد.
والمعنى : أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه.
وتحقيقه : أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى ، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط ، فكان المعنى : لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى.
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة ، وأن الضمير في قوله : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } عائد على القلوب ، والمعنى : أن من القلوب قلوباً تطمئن وتسكن ، وترجع إلى الله تعالى ، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى ، ويريد بذلك قلوب المخلصين.
وهذا تأويل بعيد جداً ، لأنه بدأ بقوله : { وإن من الحجارة } ، ثم قال : { وإن منها } ، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة ، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح ، والهبوط لا يليق بالقلوب ، إنما يليق بالحجارة.
وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأوّلناها.
وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة ، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض.
وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، إذ جعله دكاً.
وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى : { يريد أن ينقضّ } وكما قال زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته . . .
ترى الاكم منه سجداً للحوافر
وكما قال الآخر :
لما أتى خبر الزبير تضعضعت . . .
سور المدينة والجبال الخشع
أي من رأى الحجر متردّياً من علوّ إلى أسفل ، تخيل فيه الخشية ، فاستعار الخشية ، كناية عن الانقياد لأمر الله ، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها.
فمن يراها يظنّ أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى.
وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات ، وذلك ممتنع عندهم.
وتأوّلوا ما ورد في القرآن والحديث ، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة ، هي التي تسلم وتتكلم ، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش ، تنادي : اللهم صِل من وصلني ، واقطع من قطعني.
والأرحام ليست بجسم ، ولا لها إدراك ، ويستحيل أن تسجد المعاني ، أو تتكلم ، وإنما قرن الله تعالى بها ملكاً يقول ذلك القول.
وتأوّلوا : هذا جبل يحبنا ونحبه ، أي يحبه أهله ونحب أهله ، كقوله تعالى : { واسئل القرية } واختيار ابن عطية ، رحمه الله تعالى ، أن الله يخلق للحجارة قدراً مّا من الإدراك ، تقع به الخشية والحركة.
واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها ، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جداً ، وهو على حسب الترقي.
فبدأ أولاً بالذي تتفجر منه الأنهار ، أي خلق ذا خروق متسعة ، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل ، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها.
ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالاً يسيراً ، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء.
ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالاً عظيماً ، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل ، ثم رسخ هذا الانفعال التامّ بأن ذلك هو من خشية الله تعالى ، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه ، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد ، لأن من خشي أطاع وانقاد.
{ وما الله بغافل عما تعملون } : هذا فيه وعيد ، وذلك أنه لما قال : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } ، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة ، من مخالفة الله تعالى ، ومعاندة رسله ، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم ، بل هو تعالى يحصيها عليهم ، وإذا لم يفغل عنها كان مجازياً عليها.
والغفلة إن أريد بها السهو ، فالسهو لا يجوز على الله تعالى ، وإن أريد بها الترك عن عمد ، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به.
وعلى كلا التقديرين ، فنفى الله تعالى الغفلة عنه.
وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلاً ، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه.
وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل ، قال : لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كما ذهب إليه ، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } وقوله : { وهو يطعم ولا يطعم } فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له.
وبغافل : في موضع نصب ، على أن تكون ما حجازية.
ويجوز أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون ما تميمية ، فدخلت الباء في خبر المبتدأ ، وسوّغ ذلك النفي.
ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول : زيد بقائم ، ولا : ما زيد إلا بقائم.
قال ابن عطية : وبغافل في موضع نصب خبر ما ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية.
انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية ، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة ، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه ، بل القائلون قائلان ، قائل : بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها ، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه ، وتبعه الزمخشري.
وقائل : بأنه يجوز أن يجر بالباء ، وهو الصحيح.
وقال الفرزدق :
لعمرك ما معن بتارك حقه . . .
وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيراً.
وقرأ الجمهور : تعملون بالتاء ، وهو الجاري على نسق قوله : { ثم قست قلوبكم }.
وقرأ ابن كثير بالياء ، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل ، ويكون ذلك التفاتاً ، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } إلى الغيبة في قوله : { يعملون }.
وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم ، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب ، وجعلهم كالغائبين عنه ، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه ، وتأنيس له ، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب ، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولاً عظيمة ، ومحاورات كثيرة ، وذلك أن موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، شافههم بأن الله تعالى يأمرهم بذبح البقرة ، وذلك امتحان من الله تعالى لهم ، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى ، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ ، إذ لم يفهموا سر الأمر.
وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال ، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل ، فيخبر عن الله بما لم يأمره به ، فردّ عليهم بأن استعمال الهزؤ في التبليغ عن الله تعالى ، وفي غيره ، وهو يستعيذ منه ، فرجعوا إلى قوله ، وتعنتوا في البقرة ، وفي أوصافها ، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة ، إذ المأمور به بقرة مطلقة ، فسألوا ما هي؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم ، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم ، فأخبر عن الله تعالى بسنها.
ثم خاف من كثرة سؤالهم ، ومن تعنتهم ، كما جاء ، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون ، حتى قطع سؤالهم ، فلم يلتفتوا إلى أمره ، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانياً عن لونها ، إذ قد أخبروا بسنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها ، ولم يأمرهم ثانياً أن يفعلوا ما يؤمرون به ، إذ علم منهم تعنتهم ، لأنهم خالفوا أمر الله أولاً في قوله : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، وخالفوا أمر موسى ثانياً في قوله : { فافعلوا ما تؤمرون }.
فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال.
فسألوا ثالثاً أن يسأل الله عنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها ، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة ، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالاً لأمر الله تعالى ، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم ، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها ، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها.
ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس ، وتدافعهم فيمن قتلها ، واختلافهم في ذلك ، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة ، فضربوه فحيي بإذن الله ، وانكشف لهم سرّ أمر الله بذبح البقرة ، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق ، ما يحصل به العلم الضروري الدال على صدق موسى عليه السلام ، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
ثم بين تعالى أن مثل هذ الإحياء يحيي الموتى ، إذ لا فرق بين الإحياءين في مطلق الإحياء.
ثم أخبر تعالى بأنه يريهم آياته ، لينتج عن تلك الإراءة كونهم يصيرون من أولي العقل ، الناظرين في عواقب الأمور ، المفكرين في المعاد.
ثم أخبر تعالى بعد ذلك أنهم على مشاهدتهم هذا الخارق العظيم ، ورؤيتهم الآيات قبل ذلك ، لم يتأثروا لذلك ، بل ترتب على ذلك عكس مقتضاه من القسوة الشديدة ، حتى شبه قلوبهم بالحجارة ، أو هي أشد من الحجارة.
ثم استطرد لذكر الحجارة بالتقسيم الذي ذكره ، على أن الحجارة تفضل قلوبهم في كون بعضها يتأثر تأثيراً عظيماً ، بحيث يتحرك ويتدهده ، وكون بعضها يتشقق فيتأثر تأثيراً قليلاً ، فينبع منه الماء ، وكون بعضها خلق منفرجاً تجري منه الأنهار ، وقلوبهم على سجية واحدة ، لا تقبل موعظة ، ولا تتأثر لذكري ، ولا تنبعث لطاعة.
ثم ختم ذلك بأنه تعالى لا يغفل عما اجترحوه في دار الدنيا ، بل يجازيهم بذلك في الدار الأخرى.
وكان افتتاح هذه الآيات بأن الله تعالى يأمر ، واختتامها بأن الله لا يغفل.
فهو العالم بمن امتثل ، وبمن أهمل ، فيجازي ممتثل أمره بجزيل ثوابه ، ومهمل أمره بشديد عقابه.
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
الطمع : تعلق النفس بإدراك مطلوب ، تعالقاً قوياً ، وهو أشدّ من الرجاء ، لأنه لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدّة إرادة ، وإذا اشتدّ صار طمعاً ، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء.
يقال : طمع يطمع طمعاً وطماعة وطماعية مخففاً ، كطواعية ، قال الشاعر :
طماعية أن يغفر الذنب غافره . . .
واسم الفاعل : طمع وطامع ، ويعدّي بالهمزة ، ويقال : طامعه مطامعة ، ويقال : طمع بضم الميم ، كثر طعمه ، وضدّ الطمع : اليأس ، قال كثير :
لا خير في الحب وقفاً لا يحركه . . .
عوارض اليأس أو يرتاجه الطمع
ويقال : امرأة مطماع ، أي تطمع ولا تمكن ، وقد توسع في الطمع فسمى به رزق الجند ، يقال : أمر لهم الأمير بإطماعهم ، أي أرزاقهم ، وهو من وضع المصدر موضع المفعول.
الكلام : هو القول الدال على نسبة إسنادية مقصودة لذاتها ، ويطلق أيضاً على الكلمة ، ويعبر به أيضاً عن الخط والإشارة ، وما يفهم من حال الشيء.
وهل يطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبر عنها بالكلام؟ في ذلك خلاف ، وتقاليبه الست موضوعة ، وترجع إلى معنى القوة والشدة ، وهي : كلم ، كمل ، لكم ، لمك ، ملك ، مكل.
التحريف : إمالة الشيء من حال إلى حال ، والحرف : الحد المائل.
التحديث : الإخبار عن حادث ، ويقال منه يحدث ، وأصله من الحدوث ، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه ، وإلى آخر بعن ، وإلى ثالث بالباء ، فيقال : حدثت زيداً عن بكر بكذا ، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين ، فيتعدى إلى ثلاثة ، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم ، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير : أعلم ، وأرى ونبأ ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة :
أو منعتم ما تسألون فمن . . .
حدثتموه له علينا العلاء
وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة ، ويحتمل أن يكون التقدير : حدثتموا عنه.
والجملة بعده حال.
كما خرج سيبويه قوله : ونبئت عبد الله ، أي عن عبد الله ، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى : أعلمت ، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين.
وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف ، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه ، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك ، إلا أن يثبت من لسان العرب.
الفتح : القضاء بلغة اليمن ، { وهو المفتاح العليم } والأذكار : فتح على الإمام ، والظفر : { فقد جاءكم الفتح } قال الكلبي : وبمعنى القصص.
قال الكسائي : وبمعنى التبيين.
قال الأخفش : وبمعنى المن.
وأصل الفتح : خرق الشيء ، والسد ضده.
المحاجة : من الاحتجاج ، وهو القصد للغلبة ، حاجه : قصد أن يغلب.
والحجة : الكلام المستقيم ، مأخوذ من محجة الطريق.
أسر الشيء : أخفاه ، وأعلنه : أظهره.
الأميّ : الذي لا يقرأ في كتاب ولا يكتب ، نسب إلى الأم لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب ، أو لأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها ، أو نسب إلى الأمة ، وهي القامة والخلقة ، أو إلى الأمة ، إذ هي ساذجة قبل أن تعرف المعارف.
الأماني : جمع أمنية ، وهي أفعولة ، أصله : أمنوية ، اجتمت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، وهي من منى ، إذا قدّر ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه ، أو من تمنى : أي كذب.
قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به : أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي اختلقته.
وقال عثمان : ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت ، أو من تمني إذا تلا ، قال تعالى : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أي إذا تلا وقرأ ، وقال الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليله . . .
وآخره لاقى حمام المقادر
والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير ، فالتقدير أصله ، قال الشاعر :
ولا تقولن لشيء سوف أفعله . . .
حتى تبين ما يمنى لك الماني
أي يقدر ، وجمعها بتشديد الياء لأنه أفاعيل.
وإذا جمع على أفاعل خففت الياء ، والأصل التشديد ، لأن الياء الأولى في الجمع هي الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياء ، ألا ترى أن جمع أملود أماليد؟ ويل : الويل مصدر لا فعل له من لفظه ، وما ذكر من قولهم.
وأل مصنوع ، ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا : ويل ، وويح ، وويس ، وويب ، ولا يثني ولا يجمع.
ويقال : ويله ، ويجمع على ويلات.
قال :
فقالت لك الويلات إنك مرجلي . . .
وإذا أضيف ويل ، فالأحسن فيه النصب ، قال تعالى : { ويلكم لا تفتروا على الله كذباً } وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب ، وإذا أفردته اختير الرفع ، قال : { فويل للذين } ، ويجوز النصب ، قال :
فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر . . .
والويل : معناه الفضيحة والحسرة ، وقال الخليل : الويل : شدة الشر ، وقال المفضل وابن عرفة : الويل : الحزن ، يقال : تويل الرجل : دعا بالويل ، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه.
وقال غيره : الويل : الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، وقال الأصمعي : هي كلمة تفجع ، وقد يكون ترحماً ، ومنه :
ويل أمه مسعر حرب . . .
الأيدي : جمع يد ، ويد مما حذف منه اللام ، ووزنه فعل ، وقد صرح بالأصل.
قالوا : يدي ، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة ، قالوا : قطع الله أديه ، وأبدلوا منها أيضاً جيماً ، قالوا : لا أفعل ذلك جد الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهي حقيقة في الجارحة ، مجاز في غيرها.
وأما الأيادي فجمع الجمع ، وأكثر استعمال الأيادي في النعم ، والأصل : الأيدي ، استثقلنا الضمة على الياء فحذفت ، فسكنت الياء ، وقبلها ضمة ، فانقلبت واواً ، فصار الأيد.
وكما قيل في ميقن موقن ، ثم إنه لا يوجد في لسانهم واو ساكنة قبلها ضمة في اسم ، وإذا أدى القياس إلى ذلك ، قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة قبلها كسرة ، فصار الأيدي.
وقد تقدم الكلام على اليد عند الكلام على قوله : { لما بين يديها } الكسب : أصله اجتلاب النفع ، وقد جاء في اجتلاب الضر ، ومنه : بلى من كسب سيئة ، والفعل منه يجيء متعدياً إلى واحد ، تقول : كسبت مالاً ، وإلى اثنين تقول : كسبت زيداً مالاً.
وقال ابن الأعرابي؛ يقال : كسب هو نفسه وأكسب غيره ، وأنشد :
فأكسبني مالاً وأكسبته حمداً . . .
المسّ : الإصابة ، والمسّ : الجمع بين الشيئين على نهاية القرب ، واللمس : مثله لكن مع الإحساس ، وقد يجيء المسّ مع الإحساس.
وحقيقة المس واللمس باليد.
ونقل من الإحساس إلى المعاني مثل : { أني مسني الشيطان } { يتخبطه الشيطان من المسّ } ومنه سمي الجنون مساً ، وقيل : المسّ واللمس والجسّ متقارب ، إلا أن الجسّ عام في المحسوسات ، والمسّ فيما يخفى ويدق ، كنبض العروق ، والمسّ واللمس بظاهر البشرة ، والمسّ كناية عن النكاح وعن الجنون.
المعدود : اسم مفعول من عدّ ، بمعنى حسب ، والعدد هو الحساب.
الإخلاف : عدم الإيفاء بالشيء الموعود.
بلى : حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى ، ومعناها : ردّه ، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام ، أو لم يكن ، وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل : هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكراً لمقاومة زيد له ، لما كان معناه النفي ، ومما وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم :
بل سوف نبكيهم بكل مهند . . .
ونبكي نميراً بالرماح الخواطر
وقعت جواباً للذي قال له ، وهو الأخطل :
ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر . . .
بقتلي أصيبت من نمير بن عامر
وبلى عندنا ثلاثي الوضع ، وليس أصله بل ، فزيدت عليها الألف خلافاً للكوفيين.
السيئة : فيعلة من ساء يسوء مساءة ، إذا حزن ، وهي تأنيث السيىء ، وقد تقدّم الكلام على هذا الوزن عند الكلام على قوله : { أو كصيب } فأغنى عن إعادته.
{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } : ذكروا في سبب نزول هذه الآية أقاويل : أحدها : أنها نزلت في الأنصار ، وكانوا حلفاء لليهود ، وبينهم جوار ورضاعة ، وكانوا يودون لو أسلموا.
وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يودون إسلام من بحضرتهم من أبناء اليهود ، لأنهم كانوا أهل كتاب وشريعة ، وكانوا يغضبون لهم ويلطفون بهم طمعاً في إسلامهم.
وقيل : نزلت فيمن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من أبناء السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الطور ، فسمعوا كلام الله ، فلم يمتثلوا أمره ، وحرّفوا القول في أخبارهم لقومهم ، وقالوا : سمعناه يقول إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا.
وقيل : نزلت في علماء اليهود الذين يحرفون التوراة ، فيجعلون الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، اتباعاً لأهوائهم.
وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل علينا قصبة المدينة إلا مؤمن »
قال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما : اذهبوا وتجسسوا أخبار من آمن ، وقولوا لهم آمنا ، واكفروا إذا رجعتم ، فنزلت.
وقيل : نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين : نحن نؤمن أنه نبي ، لكن ليس إلينا ، وإنما هو إليكم خاصة ، فلما خلوا ، قال بعضهم : أتقرون بنبوّته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه.
وقيل : نزلت في قوم من اليهود كانوا يسمعون الوحي ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه.
وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عن أن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أن يؤمنوا ، لأن الطمع إنما يصح في المستقبل ، والضمير في { أن يؤمنوا لكم } لليهود.
والمعنى : استبعاد إيمان اليهود ، إذ قد تقدّم لأسلافهم أفاعيل ، وجزى أبناؤهم عليها.
فبعيد صدور الإيمان من هؤلاء ، فإن قيل : كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين؟ قيل : قال القفال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم يحرفون عناداً؟ فإنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدون يقبلون ذلك منهم ، فلا يلتفتون إلى الحق.
وقيل : إياسهم من إيمان فرقة بأعيانهم.
والهمزة في أفتطعمون للاستفهام ، وفيها معنى التقرير ، كأنه قال : قد طمعتم في إيمان هؤلاء وحالهم ما ذكر.
وقيل : فيه ضرب من النكير على الرغبة في إيمان من شواهد امتناعه قائمة.
واستبعد إيمانهم ، لأنهم كفروا بموسى ، مع ما شاهدوا من الخوارق على يديه ، ولأنهم ما اعترفوا بالحق ، مع علمهم ، ولأنهم لا يصلحون للنظر والاستدلال.
والخطاب في أفتطعمون ، للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
خاطبه بلفظ الجمع تعظيماً له ، قاله ابن عباس ومقاتل ، أو للمؤمنين ، قاله أبو العالية وقتادة ، أو للأنصار ، قاله النقاش ، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أو لجماعة من المؤمنين ، أو لجماعة من الأنصار.
والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها ، والتقدير : أفتطعمون ، فالفاء للعطف ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدمت عليها.
والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف ، ويقر الفاء على حالها ، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها ، وهو خلاف مذهب سيبويه ، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها ، نحو قوله : { أو من ينشأ في الحلية } { أفمن يعلم أنما أنزل إليك } { أفمن هو قائم } أن يؤمنوا معمول لتطعمون على إسقاط حرف الجر ، التقدير : في أن يؤمنوا ، فهو في موضع نصب ، على مذهب سيبويه ، وفي موضع جر ، على مذهب الخليل والكسائي.
ولكم : متعلق بيؤمنوا ، على أن اللام بمعنى الباء ، وهو ضعيف ، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.
{ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } ، الفريق : قيل : الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد والسدّي.
وقيل : جماعة من اليهود كانوا يسمعون الوحي ، إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحرفونه ، قصد أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه ، ويحصل التضاد في أحكامه.
وقيل : كل من حرف حكماً ، أو غيره ، كفعلهم في آية الرجم ونحوها.
وقيل : هم السبعون الذين سمعوا مع موسى عليه السلام كلام الله ، ثم بدلوا بعد ذلك ، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى.
قال ابن الجوزي : أنكر ذلك أهل العلم ، منهم : الترمذي ، صاحب النوادر ، وقال : إنما خص موسى عليه السلام بالكلام وحده.
وكلام الله الذي حرفوه ، قيل : هو التوراة ، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم ، وهو قول الجمهور.
وقيل : بالتأويل ، مع بقاء لفظ التوراة ، قاله ابن عباس.
وقيل : هو كلام الله الذي سمعوه على الطور.
وقيل : ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الأعمش : كلم الله ، جمع كلمة ، وقد يراد بالكلمة : الكلام ، فتكون القراءتان بمعنى واحد.
وقد يراد المفردات ، فيحرفون المفردات ، فتتغير المركبات ، وإسنادها بتغير المفردات.
{ ثم يحرّفونه } : التحريف الذي وقع ، قيل : في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه ، حتى لا تقوم عليهم به الحجة.
وقيل : في صفته ، وفي آية الرجم.
{ من بعد ما عقلوه } أي من بعد ما ضبطوه وفهموه ، ولم تشتبه عليهم صحته.
وما مصدرية ، أي من بعد عقلهم إياه ، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله.
وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد عليها ، وهو بعيد.
{ وهم يعلمون } : ومتعلق العلم محذوف ، أي أنهم قد حرفوه ، أو ما في تحريفه من العقاب ، أو أنه الحق ، أو أنهم مبطلون كاذبون.
والواو في قوله : { وقد كان فريق } ، وفي قوله : { وهم يعلمون } ، واو الحال.
ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله : { أفتطعمون } ؟ ويحتمل أن يكون : { أن يؤمنوا }.
فعلى الأول يكون المعنى : أفيكون منكم طمع في إيمان اليهود؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله ، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم ، فيكون الحال قيداً في الطمع المستبعد ، أي يستبعد الطمع في إيمان هؤلاء وصفتهم هذه.
وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان ، وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى.
فعلى هذا يكون الحال قيداً في أيمانهم.
وعلى كلا التقديرين ، فكل منهما ، أعني من : أفتطعمون ، ومن يؤمنوا ، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى.
وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب.
وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت : أتطمع أن يتبعك زيد؟ وهو متبع طريقة أبيه ، فاستبعاد الطمع مقيد بهذه الحال ، ومتعلق الطمع ، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه ، مقيد بهذه الحال.
فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع ، ولا يناسب الطمع ، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع ، مع انتفاء هذه الحال.
وأما العامل في قوله : { وهم يعلمون } ، فقوله : { ثم يحرفونه } ، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه ، عالمين بما في تحريفه من شديد العقاب ، ومع ذلك فهم يقدمون على ذلك ، ويجترئون عليه.
والإنكار على العالم أشدّ من الإنكار على الجاهل ، لأن عند العالم دواعي الطاعة ، لما علم من ثوابها ، وتواني المعصية لما علم من عقابها.
وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله : { وهم يعلمون } ، قوله : { عقلوه } ، والظاهر القول الأول ، وهو قوله : { يحرفونه }.
{ وإذ لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } : قرأ ابن السميفع : لاقوا ، قالوا : على التكثير.
ولا يظهر التكثير ، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرّد.
فمعنى لاقوا ، ومعنى لقوا واحد ، وتقدّم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية.
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكاشفة عما أكنوه من النفاق.
ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة على قوله : { وقد كان فريق منهم } الآية ، أي كيف يطمع في إيمانهم ، وقد كان من أسلافهم من يحرّف كلام الله ، وهؤلاء سالكو طريقتهم ، وهم في أنفسهم منافقون ، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم ، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار.
فمن جمع بين هاتين الحالتين ، من اقتدائهم بأسلافهم الضلاّل ، ومنافقتهم للمؤمنين ، لا يطمع في إيمانهم.
والذين آمنوا هنا هم : أبو بكر وعمر وجماعة من المؤمنين ، قاله جمهور المفسرين.
وقال بعضهم : المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم ، والضمير في لقوا الجماعة من اليهود غير معينة باقين على دينهم ، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا ، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بني قريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان ، فإنه نهى أن يدخل المدينة إلا مؤمن.
{ وإذ خلا بعضهم إلى بعض } أي : وإذا انفرد بعضهم ببعض ، أي الذين لم ينافقوا إلى من نافق.
وإلى ، قيل : بمعنى مع ، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض ، والأجود أن يضمن من خلا معنى فعل يعدّي بإلى ، أي انضوى إلى بعض ، أو استكان ، أو ما أشبهه ، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف.
{ قالوا } : أي ذلك البعض الخالي ببعضهم.
{ أتحدّثونهم } : أي قالوا عاتبين عليهم ، أتحدّثون المؤمنين؟ { بما فتح الله عليكم } : وما موصولة ، والضمير العائد عليها محذوف تقديره : بما فتحه الله عليكم.
وقد جوّزا في ما أن تكون نكرة موصوفة ، وأن تكون مصدرية ، أي بفتح الله عليكم.
والأولى الوجه الأول ، والذي حدّثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية وقتادة ، أو ما عذب به أسلافهم ، قاله السدي.
وقال مجاهد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة : « يا إخوة الخنازير والقرد » فقال الأحبار لأتباعهم : ما عرف هذا إلا من عندكم.
وقال ابن زيد : كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا : في التوراة كذا وكذا ، فكره ذلك أحبارهم ، ونهوا في الخلوة عنه.
فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار ، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم؟ ورواه الضحاك عن ابن عباس.
وعلى قول السدي : يكون بمعنى الحكم والقضاء ، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاء من تعذيبهم؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى : الإنزال ، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ وقال الكلبي : المعنى بما قضى الله عليكم ، وهو راجع لمعنى الإنزال.
وقيل : المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفته ، وشريعته ، وما دعاكم إليه من الإيمان به ، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته.
وقيل : المعنى بما منّ الله عليكم من النصر على عدوّكم ، ومن تأويل كتابكم.
{ ليحاجوكم } : هذه لام كي ، والنصب بأن مضمرة بعدها ، وهي جائزة الإضمار ، إلا إن جاء بعدها لا ، فيجب إظهارها.
وهي متعلقة بقوله : { أتحدثونهم } ، فهي لام جر ، وتسمى لام كي ، بمعنى أنها للسبب ، كما أن كي للسبب.
ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي ، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي ، فتقول : لكي أكرمك ، لأن الذي يضمر إنما هو : أن لا : كي ، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي ، أو أن.
وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها ، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن ، إنما ذلك على سبيل التأكيد.
وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو.
وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله : فتح ، وليس بظاهر ، لأن المحاجة ليست علة للفتح ، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث ، إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى ، فيمكن أن يصير المعنى : إن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به ، فآل أمره إلى أن حاجوهم به ، فصار نظير : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً } لم يلتقطوه لهذا الأمر ، إنما آل أمره إلى ذلك.
ومن لم يثبت لام الصيرورة ، جعلها لام كي ، على تجوّز ، لأن الناشىء عن شيء ، وإن لم يقصد ، كالعلة.
ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله : أتحدثونهم ، وبين : بما فتح ، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقرب وساطة ، كأنه قال : أتحدثونهم فيحاجوكم.
وعلى الثاني يكون أبعد ، إذ يصير المعنى : فتح الله عليكم به ، فحدثتموهم به ، فحاجوكم.
فالأولى جعله لأقرب وساطة ، والضمير في { به } عائد إلى ما من قوله : { بما فتح الله } ، وبهذا يبعد قول من ذهب إلى أنها مصدرية ، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير.
{ عند ربكم } معمول لقوله : ليحاجوكم ، والمعنى : ليحاجوكم به في الآخرة.
فكنى بقوله : { عند ربكم } عن اجتماعهم بهم في الأخرة ، كما قال تعالى : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } وقيل : معنى عند ربكم : في ربكم ، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في.
وقيل : هو على حذف مضاف ، أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم.
وقيل معناه : إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله كذا ، وهو عند الله كذا ، بمعنى واحد؟ وقيل : هو معمول لقوله : { بما فتح الله عليكم عند ربكم } ، أي من عند ربكم ليحاجوكم ، وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ميثاقهم بتصديقه.
قال ابن أبي الفضل : وهذا القول هو الصحيح ، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى.
والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم ولا تأخير ، إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن بجعل قوله : { عند ربكم } على بعض المعاني التي ذكرناها.
وأما على ما ذهب إليه هذا الذاهب ، فبعيد جداً ، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله : أتحدثونهم ، وعند ربكم متعلق بقوله : بما فتح الله عليكم ، فتكون قد فصلت بين قوله : عند ربكم ، وبين العامل فيه الذي هو : فتح الله عليكم ، بقوله : ليحاجوكم ، وهو أجنبي منهما ، إذ هو متعلق بقوله : أتحدثونهم على الأظهر ، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام ، فكيف يجيء في كلام الله الذي هو أفصح الكلام؟.
{ أفلا تعقلون } : ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال : أتحدثونهم بما يكون حجة لهم عليكم؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك؟ وقيل : هو خطاب من الله للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لا يؤمنون ، وهم على هذه الصفات الذميمة ، من اتباع أسلافهم المحرّفين كلام الله ، والتقليد لهم فيما حرّفوه ، وتظاهرهم بالنفاق ، وغير ذلك مما نعى عليهم ارتكابه؟.
{ أوَ لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } : هذا توبيخ من الله لهم ، أي إذا كان علم الله محيطاً بجميع أفعالهم ، وهم عالمون بذلك ، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه ، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم ، إذ هو ظاهر اللفظ.
وقيل : الذي أسرّوه الكفر ، والذي أعلنوه الإيمان.
وقيل : العداوة والصداقة.
وقيل : قولهم لشياطينهم إنا معكم ، وقولهم للمؤمنين آمنا.
وقيل : صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتغيير صفته إلى صفة أخرى ، حتى لا تقوم عليهم الحجة.
وقرأ ابن محيصن : أو لا تعلمون بالتاء ، قالوا : فيكون ذلك خطاباً للمؤمنين ، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية ، ويحتمل أن يكون خطاباً لهم ، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده ، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة ، إهمالاً لهم ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه.
وقد تقدم لنا أن مثل { أفلا تعقلون } ، { أولا يعلمون } ، أن الفاء والواو فيهما للعطف ، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت.
وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك ، فأغنى عن إعادته.
و { أن الله يعلم } : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد ، إذا قلنا : إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف ، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين ، إذا قلنا : أن يعلمون متعد إلى اثنين ، كظننت ، وهذا على رأي سيبويه.
وأما الأخفش ، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد ، ويجعل الثاني محذوفاً ، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف ، والعائد على ما محذوف تقديره : يسرّونه ويعلنونه.
وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك ، أي بأن الله يعلم السر والعلانية ، أي قد علموا ذلك ، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق.
وقيل : ذلك تقريع لهم وحث على التفكر ، فيعلمون بالتفكر ذلك.
وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة ، وفيها ما يدل على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لزمهم الاعتراف بالربوبية ، ودل على أن المعصية ، مع علمهم بها ، أقبح.
وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضي عن المنافقين ، مع أن الله أظهره على نفاقهم ، وذلك رجاء أن يؤمنوا ، فأغضى عنهم ، حتى قبل الله منهم من قبل ، وأهلك من أهلك.
واختلف ، هل هذا الحكم باق ، أو نسخ؟ فقال قوم : نسخ ، لأنه كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم ، تأليفاً للقلوب.
وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم ، فلا حاجة إلى التأليف.
وقال قوم : هو باق إلى الآن ، لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان ، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم ، والأول هو الأشهر.
وفي قوله : { يعلم ما يسرون وما يعلنون } ، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات ، بل يعلم الكليات.
{ ومنهم أمّيون } : ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه ، قاله ابن عباس.
وقيل : في المجوس ، قاله عليّ بن أبي طالب.
وقيل : في اليهود والمنافقين.
وقال عكرمة والضحاك : في نصارى العرب ، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة.
وقيل : في قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا أمّيين.
وقيل : في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول ، فكتبوا كتابهم وقالوا : هذا من عند الله ، فسموا : أمّيين ، لجحودهم الكتاب ، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئاً.
والقول الأول هو الأظهر ، لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود ، فالضمير لهم.
ومناسبة ارتباط هذه الآية : أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله ، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم ، ثم بين أمر الفرقة الثانية ، المنافقين ، وأمر الثالثة : المجادلة ، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة ، وهي : العامة التي طريقها التقليد ، وقبول ما يقول لهم.
قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما ومن هؤلاء اليهود المذكورون ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم.
وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة : أميون ، بتخفيف الميم ، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، أي لا يحسنون الكتب ، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها.
و { لا يعلمون الكتاب } : جملة في موضع الصفة ، والكتاب هو التوراة.
{ إلا أمانّي } : استثناء منقطع ، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يتوجه عليه العامل.
ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيماً؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان ، أحدهما : النصب على الاستثناء ، وهي لغة أهل الحجاز والوجه الثاني : الاتباع على البدل بشرط التأخر ، وهي لغة تميم.
فنصب أماني من الوجهين ، والمعنى : إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة ، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد ، قاله ابن عباس ومجاهد ، واختاره الفراء.
وقيل : معناه إلا تلاوة ، أي لا يعلمون فقه الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم.
قال أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى ، لقوله تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أ نصارى تلك أمانيهم } وقرأ الجمهور : أماني ، بالتشديد.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن جماز ، عن نافع وهارون ، عن أبي عمرو : أماني بالتخفيف ، جمعه على أفاعل ، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد.
قال أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل : أثافي ، وأغاني ، وأماني ، ونحوه.
قال الأخفش هذا ، كما يقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح ، وقال النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال :
وهل رجع التسليم أو يكشف العمى . . .
ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
{ وإن هم إلا يظنون } ، إن هنا : هي النافية ، بمعنى ما ، وهم : مرفوع بالابتداء ، وإلا يظنون : في موضع الخبر ، وهو من الاستثناء المفرغ.
وإذا كانت إن نافية ، فدخلت على المبتدأ والخبر ، لم يعمل عمل ما الحجازية ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو :
إن هو مستولياً على أحد . . .
إلا على أضعف المجانين
وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما ، وليس في كتابه نص على ذلك.
ومعنى يظنون ، قال مجاهد : يكذبون ، وقال آخرون : يتحدثون ، وقال آخرون : يشكون ، وهو التردد بين أمرين ، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما ، والأولى حمله على موضوعه الأصلي ، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر ، إذ لا يمكن حمله على اليقين ، ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحاً في نفس الأمر.
وقال مقاتل : معناه ليسوا على يقين ، إن كذب الرؤساء ، أو صدقوا ، بايعوهم.
انتهى كلامه.
وأتى بالخبر فعلاً مضارعاً ، ولم يأت باسم الفاعل ، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئاً فشيئاً ، فليسوا ثابتين على ظن واحد ، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم.
وفي هذه الآية دليل على أن المعارف كسببية ، وعلى بطلان التقليد ، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم ، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز ، وعلى أن القول بغير دليل باطل ، وعلى أن ما تساوي وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي ، وتمسك بها أيضاً منكرو القياس ، وخبر الواحد ، لأنهما لا يفيدان العلم.
{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } الآية.
قيل : نزلت في الذين غيروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدّلوا نعته ، فجعلوه آدم سبطاً طويلاً ، وكان في كتابهم على الصفة التي هو بها ، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان ، ليس يشبه نعت هذا ، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم على حالها ، فلذلك غيروها.
وقيل : خاف ملوكهم على ملكهم ، إذا آمن الناس كلهم ، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل ، وكشطوها من التوراة ، وكتبوا بأيديهم كتاباً ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا.
وقيل : نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ، ولم يتبعوا كتاباً ، بل كتبوا بأيديهم كتاباً ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا ، وقالوا : هذا من عند الله.
وقال أبو مالك : نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح ، كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يغيره فارتد.
وقد تقدم شرح ويل عند الكلام على المفردات ، وذكر عن عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جبل من نار جهنم ، وذكر أن أبا سعيد روى : أنه واد في جهنم بين جبلين ، يهوي فيه الهاوي ، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار رويا أنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار.
وحكى الزهراوي وجماعة : أنه باب من أبواب جهنم.
وقيل : هو صهريج في جهنم.
وقيل ، عن سعيد بن جبير ، إنه واد في جهنم ، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره ، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لوجب المصير إليه.
وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن ، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير ، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة ، وهو نكرة فيها معنى الدعاء ، فلذلك جاز الابتداء بها ، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة ، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً ، وذكرناها في كتاب ( منهج المسالك ) من تأليفنا.
والكتابة معروفة ، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس ، وقيل : آدم.
والكتاب هنا قيل : كتبوا أشياء اختلقوها ، وأحكاماً بدلوها من التوراة حتى استقر حكماً بينهم.
وقيل : كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنوها في سفهائهم ، وفي العرب ، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل ، وصار سفهاؤهم ، ومن يأتيهم من مشركي العرب ، إذا سألوهم عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقولون : ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدلة المغيرة ، ويقرأُوها عليهم ويقولون لهم : هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً.
بأيديهم : تأكيد يرفع توهم المجاز ، لأن قولك : زيد يكتب ، ظاهره أنه يباشر الكتابة ، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز ، ويكون آمراً بذلك ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب ، وإنما المعنى : أمر بالكتابة ، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب.
وقد قال تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك إذاً لارتاب المبطلون } ونظير هذا التأكيد { يطير بجناحيه } ، { ويقولون بأفواههم } ، وقوله :
نظرت فلم تنظر بعينيك منظراً . . .
فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله.
وفي هذا التأكيد أيضاً تقبيح لفعلهم ، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير ، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم ، واجترحوه بأيديهم.
وقال ابن السرّاح : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، من غير أن ينزل عليهم.
انتهى كلامه.
ولا يدل على ما ذكر ، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق ، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها ، التقدير : يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفاً ، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم : { يقولون هذا من عند الله } ، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه ، فلذلك قدرنا هذه الحال.
{ ثم يقولون } : أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم ، ومعمول القول هذه الجملة التي هي : { هذا من عند الله ليشتروا } ، علة في القول ، وهي لام كي ، وقد تقدم الكلام عليها قبل.
وهي مكسورة لأنها حرف جر ، فيتعلق بيقولون.
وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار ، وبنو العنبر يفتحون لام كي ، قال مكي في إعراب القرآن له.
{ به ثمناً قليلاً } ، به : متعلق بقوله : ليشتروا ، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم : { هذا من عند الله } ، وهو المكتوب المحرّف.
وتقدّم القول في الاشتراء في قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } والثمن هنا : هو عرض الدنيا ، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم ، ووصف بالقلة لكونه فانياً ، أو حراماً ، أو حقيراً ، أو لا يوازنه شيء ، لا ثمن ، ولا مثمن.
وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله ، وضموا إلى ذلك حب الدنيا.
وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف ، وعلى إسناده إلى الله تعالى.
وكلاهما منكر ، والجمع بينهما أنكر.
وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل ، وإن كان برضا المعطي.
{ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون } : كتابتهم مقدمة ، نتيجتها كسب المال الحرام ، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما ، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط.
فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك.
وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام ، وهو الأليق بمساق الآية.
وقيل : المراد بما يكسبون الأعمال السيئة ، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص ، لأن ما يكسبون عام ، والأولى أن يقيد بما ذكرناه.
{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } سبب نزول هذه الآية : أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم ، قالوا : إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم ، فتذهب جهنم وتهلك.
" روي ذلك عن ابن عباس.
وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اليهود من أهل النار» قالوا : نحن ثم تخلفوننا أنتم ، فقال : «كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم» " فنزلت هذه الآية.
وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام ، عدد أيام الدنيا ، سبعة آلاف لكل ألف يوم ، ثم ينقطع العذاب.
وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوماً ، عدد عبادتهم العجل ، وقيل : أربعين يوماً تحلة القسم.
وقيل : أربعين ليلة ، ثم ينادي : اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل ، فنزلت هذه الآية ، والضمير في : وقالوا ، عائد على الذين يكتبون الكتاب.
جمعوا ، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه ، وأخذهم به المال الحرام ، وكذبهم على أنه من عند الله ، الإخبار بالكذب البحت عن مدة إقامتهم في النار.
وقد تقدم أن المس هو الإصابة ، أي لن تصيبنا النار إلا أياماً ، استثناء مفرّغ ، أي لن تمسنا النار أبداً إلا أياماً معدودة ، وقد تقدم ذكر العدد في الأيام بأنها سبعة أو أربعون.
وقيل : أراد بقوله : معدودة ، أي قلائل يحصرها العدّ ، لا أنها معينة العد في نفسه.
ثم أخذ في رد هذه الدعوى والأخبار الكاذبة فقال : { قل أتخذتم عند الله عهداً } أي مثل هذا الإخبار الجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك ، وأنتم لم تتخذوا به عهداً ، فهو كذب وافتراء.
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بهذا الاستفهام الذي بدل على إنكار ما قالوه.
وهمزة الوصل من اتخذ ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام ، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال : قل اتخذتم ، بفتح اللام ، لأن الهمزة كانت مفتوحة.
وعند الله : ظرف منصوب باتخذتم ، وهي هنا تتعدى لواحد ، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين ، فيكون الثاني الظرف ، فيتعلق بمحذوف ، والعهد هنا : بالميثاق والموعد ، وقال ابن عباس معناه : هل قلتم لا إله إلا الله ، وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ فعلى التأويل الأول المعنى : هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟ وعلى الثاني : هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون؟.
{ فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } : هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط ، كقولك : أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا.
وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء ، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري : فلن يخلف متعلق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلف الله عهده ، كأنه اختار القول الثاني من أن الشرط مقدر بعد هذه الأشياء.
وقال ابن عطية : { فلن يخلف الله عهده } ، اعتراض في أثناء الكلام ، كأنه يريد أن قوله : { أم تقولون } معادل لقوله : { قل أتخذتم عند الله عهداً } ، فصارت هذه الجملة ، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل ، جملة اعتراضية ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وكأنه يقول : أي هذين واقع؟ أإتخاذكم العهد عند الله؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم : { على الله ما لا يعلمون } ، ونظيره : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال.
وقيل : أم هنا منقطعة فيتقدر ببل والهمزة ، كأنه قال : بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ وهو استفهام إنكار ، لأنه قد وقع منهم قولهم : على الله ما لا يعلمون ، فأنكروا عليهم صدور هذا منهم.
وفي قوله : { فلن يخلف الله عهده } دليل على أن الله لا يخلف وعده.
واختلف في الوعيد ، فذهب الجمهور إلى أنه لا يخلفه ، كما لا يخلف وعده.
وذهب قوم إلى جواز إخلاف إيعاده ، وقالوا : خلاف الوعد قبيح ، وإخلاف الوعيد حسن ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.
{ بلى } : حرف جواب يثبت به ما بعد النفي ، فإذا قلت : ما قام زيد ، فقلت : نعم ، كان تصديقاً في نفي قيام زيد.
وإذا قلت : بلى ، كان نقضاً لذلك النفي.
فلما قالوا : { لن تمسنا النار } ، أجيبوا بقوله : بلى ، ومعناها : تمسكم النار.
والمعنى على التأبيد ، وبين ذلك بالخلود.
{ من كسب سيئة } من : يحتمل أن تكون شرطية ، ويحتمل أن تكون موصولة ، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر ، إذا كان المبتدأ موصولاً ، موجودة هنا ، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين ، وهو موصول.
والسيئة : الكفر والشرك ، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل : الموجبة للنار ، قاله السدي ، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر ، لأنها هي التي توجب النار ، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له.
{ وأحاطت به خطيئته } : قرأ الجمهور بالإفراد ، ونافع : خطيئاته جمع سلامة ، وبعض القراء : خطاياه جمع تكسير ، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه.
ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفر والإشراك ، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك.
ومن فسرها بالكبيرة ، فمعنى الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها ، فيكون الخلود على القول الأول المراد به الإقامة ، لا إلى انتهاء.
وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهراً طويلاً ، إذ مآله إلى الخروج من النار.
قال الكلبي : أوثقته ذنوبه.
وقال ابن عباس : أحبطت حسناته.
وقال مجاهد : غشيت قلبه.
وقال مقاتل : أصرّ عليها.
وقال الربيع : مات على الشرك.
قال الحسن : بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة.
ومن ، كما تقدم ، لها لفظ ومعنى ، فحمل أولاً على اللفظ ، فقال : من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، وحمل ثانياً على المعنى ، وهو قوله : { فأولئك } ، إلى آخره.
وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد ، وهو الشرك.
ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة ، لأن السيئة مفردة ، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة ، فراعى المعنى وطابق به اللفظ.
وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة ، وأن الخطيئة وصف للسيئة.
وفرق بعضهم بينهما فقال : السيئة الكفر ، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي ، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بن أنس.
وقيل : إن الخطيئة الشرك ، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي.
قال الزمخشري : وأحاطت به خطيئته تلك ، واستولت عليه ، كما يحيط العدو ، ولم ينقص عنها بالتوبة.
انتهى كلامه.
وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه ، إذ اعتقاد المعتزلة أن من أتى كبيرة ، ولم يتب منها ، ومات ، كان خالداً في النار.
وفي قوله : { أصحاب النار هم فيها خالدون } : إشارة إلى أن المراد : الكفار ، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون » وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين : أحدهما ، كسب السيئة ، والآخر : إحاطة الخطيئة.
وما رتب على وجود شرطين لا يترتب على وجود أحدهما ، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة ، وهي الشرك وإن أحاطت به خطيئته ، وهي الكبائر ، لا يكون من أصحاب النار ، ولا ممن يخلد فيها.
ويعني بأصحاب النار : الذين هم أهلها حقيقة ، لا من دخلها ثم خرج منها.
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم خالدون } : لما ذكر أهل النار ، وما أعد لهم من الهلاك : أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان ، وما أعد لهم في الخلود في الجنان.
والمراد بالذين آمنوا : أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومؤمنو الأمم قبله ، قاله ابن عباس وغيره ، وهو ظاهر اللفظ ، وقال ابن زيد : هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمّته ، وقلّ ما ذكر في القرآن آية في الوعيد ، إلا وذكرت آية في الوعد.
وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى ، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه ، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين في إيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله ، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف ، هذا على علم منهم بقبيح ما ارتكبوه.
وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين ، فهم على طريقة آبائهم في الكفر ، ثم قد انطووا من حيث السريرة على مداجاة المؤمنين ، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، أنكروا عليهم ما يتكلمون به مع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم ، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم ، ثم أنكر تعالى عليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم ، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله ، والإخبار بما فيه ، واتباع ما تضمنه من الأمر ، باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، ولكنهم كفروا عناداً وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً.
ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهل العلم ، ولم ينتفعوا بعلمهم ، ذكر أيضاً مقلدتهم وعوامّهم ، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظاً مسموعة ، وأن طريقهم في أصول دياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرّفين المبدّلين.
ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة ، من حرّف كلام الله وادّعى أنه من عند الله ، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقي ، فباع باقياً بفان.
ثم كرّر الوعيد على ما فعلوه ، ثم أخبر عنهم بما صدر عنهم من الكذب البحت ، بأن لبثهم في النار أياماً معدودة ، وأن ذلك إخبار ليس صادراً عن عهد اتخذوه عند الله ، بل قول على الله بما لا علم لهم به ، ثم ردّ عليهم دعواهم تلك بقوله : { بلى } ، ثم قسم الناس إلى قسمين كافر ، وهو صاحب النار ، ومؤمن وهو صاحب الجنة ، وأنهم اندرجوا تحت قسم الكافر ، لأنهم كسبوا السيئات ، وأحاطت بهم الخطيئات ، وناهيك ما اقتص الله فيهم من أول السورة إلى هنا ، وما يقص بعد ذلك مما ارتكبوه من الكفر والمخالفات.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
الولدان : الأب والأمّ ، وكل منهما يطلق عليه والد ، وظاهر الإطلاق الحقيقة.
قال :
وذي ولد لم يلده أبوان . . .
ويقال للأم : والد ووالدة ، وقيل : الوالد للأب وحده ، وثنياً تغليباً للمذكر.
الإحسان : النفع بكل حسن.
ذو : بمعنى صاحب ، وهو من الأسماء الستة التي ترفع ، وفيها الواو ، وتنصب وفيها الألف ، وتجرّ وفيها الياء.
وأصلها عند سيبويه ، ذوي ، ووزنها عنده : فعل ، وعند الخليل : ذوّة ، من باب خوّة ، وقوّة ، ووزنها عنده فعل ، وهو لازم الإضافة ، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس ، وفي إضافته إلى مضمر خلاف ، وقد يضاف إلى العلم وجوباً ، إذا اقترنا وضعاً ، كقولهم : ذو جدن ، وذو يزن ، وذو رعين ، وذو الكلاع ، وإن لم يقترنا وضعاً ، فقد يجوز ، كقولهم : في عمرو ، وقطري : ذو عمرو ، وذو قطري ، ويعنون به صاحب هذا الإسم.
وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع ، وكذلك : أنا ذوبكة ، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه.
ومما أضيف إلى العلم ، وأريد به معنى : ذي مال ، ومما أضيف إلى ضمير العلم ، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب ، قال الشاعر :
وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما . . .
رجونا قدماً من ذويك الأفاضل
وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة ، ولها أحكام في النحو.
القربى : مصدر كالرجعى ، والألف فيه للتأنيث ، وهي قرابة الرحم والصلب ، قال طرفة :
وقربت بالقربى وجدك أنه . . .
متى يك أمرٌ للنكيثة أشهد
وقال أيضاً :
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة . . .
على الحر من وقع الحسام المهند
اليتامى : فعالى ، وهو جمع لا ينصرف ، لأن الألف فيه للتأنيث ، ومفرده : يتيم ، كنديم ، وهو جمع على غير قياس ، وكذا جمعه على أيتام.
وقال الأصمعي : اليتم في بني آدم من قبل الأب ، وفي غيرهم من قبل الأم.
وحكى الماوردي : إن اليتم في بني آدم يقال : من فقد الأم ، والأوّل هو المعروف ، وأصله الانفراد.
فمعنى صبي يتيم : أي منفرد عن أبيه ، وسميت الدرّة التي لا مثيل لها : يتيمة لانفرادها ، قاله ثعلب.
وقيل : أصل اليتم : الغفلة ، وسمي الصبي يتيماً ، لأنه يتغافل عن بره.
وقيل : أصل اليتم : الإبطاء ، ومنه أخذ اليتيم ، لأن البر يبطىء عنه ، قاله أبو عمرو.
المساكين : جمع مسكين ، وهو مشتق من السكون ، فالميم زائدة ، كمحضير من الحضر.
وقد روي : تمسكن فلان ، والأصح في اللغة تسكن ، أي صار مسكيناً ، وهو مرادف للفقير ، وهو الذي لا شيء له.
وقيل : هو الذي له أدنى شيء.
الحسن والحسن ، قيل : هما لغتان : كالبخل والبخل.
والحسن : مصدر حسن ، كالقبح مصدر قبح ، مقابل حسن.
القليل : اسم فاعل من قلّ ، كما أن كثيراً مقابله اسم فاعل من كثر.
يقال : قل يقل قلة وقلا وقلاً ، الإعراض : التولي ، وقيل : التولي بالجسم ، والإعراض بالقلب.
والعرض : الناحية ، فيمكن أن يكون قولك : أعرض زيد عن عمرو ، أي صار في ناحية منه ، فتكون الهمزة فيه للصيرورة.
الدم : معروف ، وهو محذوف اللام ، وهي ياء ، لقوله :
جرى الدميان بالخير اليقين . . .
أو : واو ، لقولهم : دموان ، ووزنه فعل.
وقيل : فعل ، وقد سمع مقصوراً ، قال :
غفلت ثم أتت تطلبه . . .
فإذا هي بعظام ودما
وقال :
ولكن على أعقابنا يقطر الدما . . .
في رواية من رواه كذلك ، وقد سمع مشدّد الميم ، قال الشاعر :
أهان دمّك فرغاً بعد عزته . . .
يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد
الديار : جمع دار ، وهو قياس في فعل الاسم ، إذا لم يكن مضاعفاً ، ولا معتل لام نحو : طلل ، وفنى.
والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو ، إذ أصله دوار ، وهو قياس ، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً لواحد معتل العين ، كثوب وحوض ودار ، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام.
فإن كان معتله ، لم يبدل نحو : واو ، قالوا : في جمع طويل : طوال وطيال.
أقرّ بالشيء : اعترف به.
تظاهرون : تتعاونون ، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه ، والظهر : المعين.
الإثم : الذنب ، جمعه آثام.
الأسرى : جمع أسير ، وفعلى مقيس في فعيل ، بمعنى : ممات ، أو موجع ، كقتيل وجريح.
وأما الأسارى فقيل : جمع أسير ، وسمع الأسارى بفتح الهمزة ، وليست بالعالية.
وقيل : أسارى جمع أسرى ، فيكون جمع الجمع ، قاله المفضل.
وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى : من في اليد ، والأسارى : من في الوثاق ، والأسير : هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة.
الفداء : يكسر أوله فيمد ، كما قال النابغة :
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم . . .
وما أثمروا من مال ومن ولد
ويقصر ، قال :
فدا لك من رب طريفي وتالدي . . .
وإذا فتح أوّله قصر ، يقال : قم فدا لك أبي ، قاله الجوهري.
ومعنى فدى فلان فلاناً : أي أعطى عوضه.
المحرّم : اسم مفعول من حرم ، وهو راجع إلى معنى المنع.
تقول : حرمه يحرمه ، إذا منعه.
الجزاء : المقابلة ، ويطلق في الخير والشر.
الخزي : الهوان.
قال الجوهري : خزي ، بالكسر ، يخزى خزياً.
وقال ابن السكيت : معنى خزي : وقع في بلية ، وأخزاه الله أيضاً ، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية ، إذا استحيا ، وهو خزيان ، وقوم خزايا ، أو امرأة خزيا.
الدنيا : تأنيث الأدنى ، ويرجع إلى الدنو ، ويرجع إلى الدنو ، بمعنى القرب.
والألف فيه للتأنيث ، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر ، نحو قوله :
في سعي دنيا طالما قد مدّت . . .
والدنيا تارة تستعمل صفة ، وتارة تستعمل استعمال الأسماء ، فإذا كانت صفة ، فالياء مبدلة من واو ، إذ هي مشتقة من الدنو ، وذلك نحو : العليا.
ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } فأما القصوى والحلوى فشاذ.
وإذا استعملت استعمال الأسماء ، فكذلك.
وقال أبو بكر بن السرّاج : في ( المقصور والممدود ) له الدنيا مؤنثة مقصورة ، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة ، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى ، مثل : شروى ، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء ، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.
{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } الآية ، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم ، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله ، وإفراده تعالى بالعبادة ، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق ، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين ، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي : ثم ذكر توليهم عن ذلك ، ونقضهم لذلك الميثاق ، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم.
وإذ : معطوف على الظروف السابقة قبل هذا.
والميثاق : هو الذي أخذه تعالى عليهم ، وهم في صلب آبائهم كالذرّ ، قاله : مكي ، وضعف بأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل ، وميثاق الآية فيهم ، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم ، قاله ابن عطية.
وقيل : هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة ، بأن يعبدوه ، إلى آخر الآيات.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : لا يعبدون ، بالياء.
وقرأ الباقون : بالتاء من فوق.
وقرأ أبيّ وابن مسعود : لا يعبدوا ، على النهي.
فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً.
أحدها : أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل ، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة ، وهو حال من المضاف إليه ، وهو لا يجوز على الصحيح.
لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق ، إذ يحتمل أن يكون مصدراً ، أو حكمه حكم المصدر.
وإذا كان كذلك ، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى ، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل ، وهنا ليس المعنى على أن ينحل ، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب ، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ، بل لو فرضنا كونه مصدراً حقيقة : لم يجز فيه ذلك.
ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد ، لم ينحل لحرف مصدري والفعل : لا يقال : أخذت أن يعلم زيد.
فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ولا كان من ضربا زيداً ، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير ، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا.
باب علم ما الكلم من العربية : أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل ، وردّ ذلك على من أجازه.
وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً بالمبرد وقطرب ، قالوا : ويجوز أن يكون حالاً مقارنة ، وحالاً مقدرة.
الوجه الثاني : أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله : { أخذنا ميثاق بني إسرائيل } ، أي استحلفناهم والله لا يعبدون ، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه ، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد.
الوجه الثالث : أن تكون أن محذوفة ، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر ، التقدير : بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر ، إذ حذفه مع أن ، وأن جائز مطرد ، إذ لم يلبس ، ثم حذف بعد ذلك ، أن ، فارتفع الفعل ، فصار لا تعبدون ، قاله الأخفش ، ونظيره من نثر العرب : مره بحفرها ، ومن نظمها قوله :
ألا أيهذا الزّاجري احضر الوغى . . .
أصله : مره بأن يحفرها.
وعن : أن أحضر الوغى ، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه.
وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه ، فمن النحويين من منعه ، وعلى ذلك متأخرو وأصحابنا.
وذهب جماعة من النحويين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع.
ثم اختلفوا فقيل : يجب رفع الفعل إذ ذاك ، وهذا مذهب أبي الحسن.
ومنهم من قال بنفي العمل ، وهو مذهب المبرد والكوفيين.
والصحيح : قصر ما ورد من ذلك على السماع ، وما كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه ، لأن فيه حذف حرف مصدري ، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها.
الوجه الرابع : أن يكون التقدير : أن لا تعبدوا ، فحذف أن وارتفع الفعل ، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله : { ميثاق بني إسرائيل }.
وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك ، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه.
الوجه الخامس : أن تكون محكية بحال محذوفة ، أي قائلين لا تعبدون إلا الله ، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر ، ومعناه النهي ، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله ، قاله الفراء ، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ، والعطف عليه قوله : { وقولوا للناس حسناً }.
الوجه السادس : أن يكون المحذوف القول ، أي وقلنا لهم : { لا تعبدوا إلا الله } ، وهو نفي في معنى النهي أيضاً.
قال الزمخشري : كما يقول تذهب إلى فلان ، تقول له كذا ، تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه.
انتهى كلامه ، وهو حسن.
الوجه السابع : أن يكون التقدير أن لا تعبدون ، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة ، لأن في قوله : { أخذنا ميثاق بين إسرائيل } معنى القول ، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر.
وفي جواز حذف أن المفسرة نظر.
الوجه الثامن : أن تكون الجملة تفسيرية ، فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل ، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو ، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق ، فمن قرأ بالياء ، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة ، ومن قرأ بالتاء ، فهو التفات ، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب ، ليكون أدعى للقبول ، وأقرب للامتثال ، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب.
ومع جعل الجملة مفسرة ، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي ، إذ تبعد حقيقة الخبر فيه.
إلا الله : استثناء مفرّع ، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله ، وفيه التفات.
إذ خرج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب.
ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلا إيانا؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة ، والدلالة على سائر الصفات ، والتفرّد بالتسمية به ، ما ليس في المضمر ، ولأن ما جاء بعده من الأسماء ، إنما هي أسماء ظاهرة ، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر.
{ وبالوالدين إحساناً } ، المعنى : الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما وإكرامهما.
وقد تضمنت آي من القرآن وأحاديث كثيرة ذلك ، حتى عد العقوق من الكبائر ، وناهيك احتفالاً بهما كون الله قرن ذلك بعبادته تعالى ، ومن غريب الحكايات : أن عمر رأى امرأة تطوف بأبيها على ظهرها ، وقد جاءت به على ظهرها من اليمن ، فقال لها : جزاك الله خيراً ، لقد وفيت بحقه ، فقالت : ما وفيته ولا أنصفته ، لأنه كان يحملني ويود حياتي ، وأنا أحمله وأود موته.
واختلفوا فيما تتعلق به الباء في قوله : { وبالوالدين } ، وفي انتصاب { إحساناً } على وجوه : أحدها : أن يكون معطوفاً على لا تعبدون ، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل ، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أي وببر الوالدين ، أو بإحسان إلى الوالدين ، ويكون انتصاب إحساناً على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، فالعامل فيه الميثاق ، لأنه به يتعلق الجار والمجرور ، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات.
الوجه الثاني : أن يكون متعلقاً بإحساناً ، ويكون إحساناً مصدراً موضوعاً موضع فعل الأمر ، كأنه قال : وأحسنوا بالوالدين.
قالوا : والباء ترادف إلى في هذا الفعل ، تقول : أحسنت به وإليه بمعنى واحد ، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف ، أي وأحسنوا ببر الوالدين ، المعنى : وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما.
وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظاً به.
قال ابن عطية : ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له.
انتهى كلامه.
وهذا الاعتراض ، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول ، نحو : ضربا زيداً ، وليس بشيء ، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولاً بأن ينحل لحرف مصدري والفعل ، أما إذا كان غير موصول ، فلا يمتنع تقديمه عليه.
فجائز أن تقول : ضربا زيداً ، وزيداً ضربا ، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر ، أو للمصدر النائب عن الفعل ، لأن ذلك الفعل هو أمر ، والمصدر النائب عنه أيضاً معناه الأمر.
فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم.
الوجه الثالث : أن يكون العامل محذوفاً ، ويقدر : وأحسنوا ، أو ويحسنون بالوالدين ، وينتصب إحساناً على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف ، فتقديره : وأحسنوا ، مراعاة للمعنى ، لأن معنى لا تعبدون : لا تعبدوا ، أو تقديره؛ ويحسنون ، مراعاة للفظ لا تعبدون ، وإن كان معناه الأمر.
وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف.
الوجه الرابع : أن يكون العامل محذوفاً ، وتقديره : واستوصوا بالوالدين ، وينتصب إحساناً على أنه مفعول ، قاله المهدوي : الوجه الخامس : أن يكون العامل محذوفاً ، وتقديره : ووصيناهم بالوالدين ، وينتصب إحساناً على أنه مفعول من أجله ، أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً منا ، أي لأجل إحساننا ، أي أن التوصية بهما سببها إحساننا ، إما لأن من شأننا الإحسان ، أو إحساناً منا للموصين ، إذ يترتب لهم على امتثال ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم ، أو إحساناً منا للموصى بهم.
وقد جاء هذا الفعل مصرّحاً به في قوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } والمختار ، الوجه الثاني : لعدم الإضمار فيه ، ولا طراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر.
{ وذي القربى واليتامى والمساكين } : معطوف على قوله : وبالوالدين.
وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان ، وتقديم المجرور على العامل اعتناء بمتعلق الحرف ، وهما الوالدان ، واهتماماً بأمرهما.
وجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد.
فبدأ بالوالدين ، إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما ، ثم بذي القربى ، لأن صلة الأرحام مؤكدة أيضاً ، ولمشاركته الوالدين في القرابة ، ثم باليتامى ، لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب ، وقد جاء : « أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة » وغير ذلك من الآثار ، ثم بالمساكين لما في الإحسان إليهم من الثواب.
وتأخرت درجة المساكين ، لأنه يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ، ويصلح معيشته ، بخلاف اليتامى ، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم ، وهم محتاجون إلى من ينفعهم.
وأول هذه التكاليف هو إفراد الله بالعبادة ، ثم الإحسان إلى الوالدين ، ثم إلى ذي القربى ، ثم إلى اليتامى ، ثم إلى المساكين.
فهذه خمسة تكاليف تجمع عبادة الله ، والحض على الإحسان للوالدين ، والمواساة لذي القربى واليتامى والمساكين ، وأفرد ذا القربى ، لأنه أراد به الجنس ، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة.
{ وقولوا للناس حسناً } : لما ذكر بعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر ، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد ، أعقب بالقول الحسن ، ليجمع المأخوذ عليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال ، فقال تعالى : { وقولوا للناس حسناً }.
ولما كان القول سهل المرام ، إذ هو بدل لفظ ، لا مال ، كان متعلقه بالناس عموماً إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب.
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : حسناً بفتح الحاء والسين.
وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر : حسناً بضمهما.
وقرأ أبي وطلحة بن مصرّف : حسنى ، على وزن فعل.
وقرأ الجحدري : إحساناً.
فأما قراءة الجمهور حسناً ، فظاهره أنه مصدر ، وأنه كان في الأصل قولاً حسناً ، أما على حذف مضاف ، أي ذا حسن ، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه ، وقيل : يكون أيضاً صفة ، لا أن أصله مصدر ، بل يكون كالحلو والمرّ ، فيكون الحسن والحسن لغتين ، كالحزن والحزن ، والعرب والعرب.
وقيل : انتصب على المصدر من المعنى ، لأن المعنى : وليحسن قولكم حسناً.
وأما من قرأ : حسناً بفتحتين ، فهو صفة لمصدر محذوف ، أي وقولوا للناس قولاً حسناً.
وأما من قرأ بضمتين ، فضمة السين إتباع لضمة الحاء.
وأما من قرأ : حسنى ، فقال ابن عطية : رده سيبويه ، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدراً ، كالعقبى ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها.
انتهى كلامه.
وفي كلامه ارتباك ، لأنه قال : لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، وليس على ما ذكر.
أما أفعل فله استعمالات : أحدها : أن يكون بمن ظاهرة ، أو مقدرة ، أو مضافاً إلى نكرة ، فهذا لا يتعرف بحال ، بل يبقى نكرة.
والاستعمال الثاني : أن يكون بالألف واللام ، فإذ ذاك يكون معرفة بهما.
الثالث : أن يضاف إلى معرفة ، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف ، وذلك نحو : أفضل القوم.
وأما فعلى فلها استعمالان : أحدهما : بالألف واللام ، ويكون معرفة بهما.
والثاني : بالإضافة إلى معرفة نحو : فضلى النساء.
وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل ، فقول ابن عطية : لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، ليس بصحيح.
وقوله : إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، ويبقى مصدراً ، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل ، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً ، وليس كذلك ، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدراً إنما جاءت منه أليفاظ يسيرة.
فلا يجوز أن يعتقد في فعلى ، التي مذكرها أفعل ، أنها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل.
ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى ، وما أشبه ذلك ، لا ينقاس جعل شيء منها مصدراً بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل ، صارت بمعنى : كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة.
كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل ، كان أكبر بمعنى كبير ، وأفضل بمعنى فاضل ، وأطول بمعنى طويل.
ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائداً إلى حسنى ، لا إلى فعلى ، ويكون استثناء منقطعاً ، كأنه قال : إلا أن يزال عن حسنى ، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل ، ويبقى مصدراً ، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدراً ، كالعقبى.
ومعنى قوله : وهو وجه القراءة بها ، أي والمصدر وجه القراءة بها.
وتخريج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : المصدر ، كالبشرى ، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول : حسن حسنى ، كما تقول : رجع رجعى ، وبشر بشرى ، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدر لاينقاس.
والوجه الثاني : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي وقولوا للناس كلمة حسنى ، أو مقالة حسنى.
وفي الوصف بها وجهان : أحدهما : أن تكون باقية على أنها للتفضيل ، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر ، وقد جاء ذلك في الشعر ، قال الشاعر :
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة . . .
يوماً كرام سراة الناس فادعينا
فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة.
والوجه الثاني : أن تكون ليست للتفضيل ، فيكون معنى حسنى : حسنة ، أي وقولوا للناس مقالة حسنة ، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى : حسن إخوته.
وأما من قرأ : إحساناً فيكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي قولاً إحساناً ، وإحساناً مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي قولاً ذا حسن ، كما تقول : أعشبت الأرض إعشاباً ، أي صارت ذات عشب.
واختلف المفسرون في معنى قوله : { وقولوا للناس حسناً } ، فقال ابن عباس : قولوا لهم لا إله إلا الله ، ومروهم بها.
وقال ابن جريج : قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العالية : قولوا لهم القول الطيب ، وجاوبوهم بأحسن ما تحبون أن تجاوبوا به.
وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر.
وقال ابن عباس أيضاً صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في المخاطب بقوله : وقولوا للناس حسناً ، من هو؟.
فالظاهر أنه من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل : أن لا تعبدوا إلا الله ، وأن تقولوا للناس حسناً.
وعلى قراءة من قرأ : لا يعبدون بالياء ، يكون التفاتاً ، إذ خرج من الغيبة إلى الخطاب.
وقيل : المخاطب الأمة ، والأول أقرب لتكون القصة واحدة مشتملة على مكارم الأخلاق ، ولتناسب الخطاب الذي بعد ذلك من قوله : { ثم توليتم } ، إلى آخر الآيات فإنه ، لا يمكن أن يكون في بني إسرائيل.
وظاهر الآية يدل على أن الإحسان للوالدين ، ومن عطف عليه ، والقول الحسن للناس ، كان واجباً على بني إسرائيل في دينهم ، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب ، وكذا ظاهر الأمر ، وكأنه ذمهم على التولي عن ذلك.
وروي عن قتادة أن قوله : { وقولوا للناس حسناً } منسوخ بآية السيف ، وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا إن المخاطب بها هذه الأمة ، ومن الناس من خصص هذا العموم بالمؤمنين ، أو بالدعاء إلى الله تعالى بما في الأمر بالمعروف ، فيكون تخصيصاً بحسب المخاطب ، أو بحسب الخطاب.
وزعم أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره ، وأنه لا حاجة إلى التخصيص.
قيل : وهذا هو الأقوى.
والدليل عليه ، أن هارون وموسى ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، أمرا بالرفق مع فرعون ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل له : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } ، وقال تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } { وأعرض عن الجاهلين } ومن قال : لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق ، استدل بأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم ، وبقوله تعالى :
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم }
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } : إن كان هذا الخطاب للمؤمنين ، فيكون من تلوين الخطاب.
وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين.
وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل ، وهو الظاهر ، لأن ما قبله وما بعده يدل عليه ، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة ، وهم إلى الآن مستمرون عليها.
وروي عن ابن عباس : أن زكاة أموالهم كانت قرباناً تهبط إليهم نار فتحملها ، فكان ذلك تقبله ، وما لا تفعل النار ذلك به ، كان غير متقبل.
وقيل : الصلاة هي هذه المفروضة علينا ، والخطاب لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبناء اليهود ، ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما : أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمراً بالإسلام.
والثاني : على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان والزكاة هي هذه المفروضة ، وقيل : الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده.
ومعنى هذا القول أنه كنى عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاة اللتين هما أعظم أركان الإسلام.
{ ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون } : ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم الميثاق.
وقيل : هو خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، أسند إليهم تولي أسلافهم ، إذ هم كلهم بتلك السبيل ، قال نحوه ابن عباس وغيره.
والمعنى : ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق ، والمعنيُّ بالقليل القليل في عدد الأشخاص.
فقيل : هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقيل : من آمن قديماً من أسلافهم ، وحديثاً كعبد الله بن سلام وغيره.
قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان ، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى.
انتهى كلامه ، وهو احتمال بعيد من اللفظ ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم ، ونصب : قليلاً ، على الاستثناء ، وهو الأفصح ، لأن قبله موجب.
وروي عن أبي عمرو أنه قرأ : إلا قليل ، بالرفع.
وقرأ بذلك أيضاً قوم ، قال ابن عطية : وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم ، وجاز ذلك ، يعني البدل ، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي ، لأن توليتم معناه النفي ، كأنه قال : لم يفوا بالميثاق إلا قليل ، انتهى كلامه.
والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز ، لو قلت : قام القوم إلا زيد ، بالرفع على البدل ، لم يجز ، قالوا : لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه ، فلو قلت : قام إلا زيد ، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب.
وأما ما اعتلّ به من تسويغ ذلك ، لأن معنى توليتم النفي ، كأنه قيل : لم يفوا إلا قليل ، فليس بشيء ، لأن كل موجب ، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضدّه ، كان كذلك ، فليجز : قام القوم إلا زيد ، لأنه يؤوّل بقولك : لم تجلسوا إلا زيد.
ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل ، فتبني عليه كلامها ، وإنما أجاز النحويون : قام القوم إلا زيد بالرفع ، على الصفة.
وقد عقد سيبويه في ذلك باباً في كتابه فقال : هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل.
وذكر من أمثلة هذا الباب : لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا ، { ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }.
وقليل بها الأصوات إلا بغامها . . .
وسوى بين هذا ، وبين قراءة من قرأ : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } برفع غير ، وجوّز في نحو : ما قام القوم إلا زيد ، بالرفع البدل والصفة ، وخرّج على ذلك قول عمرو بن معدى كرب :
وكلّ أخ مفارقه أخوه . . .
لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال : كأنه قال : وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ، كما قال الشماخ :
وكل خليل غيرها ضم نفسه . . .
لوصل خليل صارم أو معارز
ومما أنشده النحويون :
لدم ضائع نأت أقربوه . . .
عنه إلا الصبا وإلا الجنوب
وأنشدوا أيضاً :
وبالصريمة منهم منزل خلق . . .
عاف تغير إلا النؤى والوتد
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره ، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر.
وقال أيضاً : وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا : عطف البيان.
وقال غيره : لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس.
وقال المبرد : لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل ، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو ، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة ، لم يذهب إليه نحوي.
ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف ، كأنه قال : امتنع قليل أن يكون توكيداً للمضمر المرفوع المستثنى منه.
ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما.
وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : إلا قليل منكم لم يتول ، كما قالوا : ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه.
وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو.
وأنتم معرضون : جملة حالية ، قالوا : مؤكدة.
وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه ، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة ، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض ، كما قال بعضهم؛ إن معناه : ثم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاءت الجملة الحالية اسمية مصدرة بأنتم ، لأنها آكد.
وكان الخبر اسماً ، لأنه أدل على الثبوت ، فكأنه قيل : وأنتم عادتكم الإعراض عن الحق والتولية عنه.
وفي المواجهة بأنتم تقبيح لفعلهم وكونهم ارتكبوا ذلك الفعل القبيح الذي من شأنه أن لا يقع ، كقولك : يحسن إليك زيد وأنت مسيء إليه ، فكان المعنى : أن من واثقه الله وأخذ عليه العهد في أشياء بها انتظام دينه ودنياه ، جدير أن يثبت على العهد ، وأن لا ينقضه ، ولا يعرض عنه.
وقيل : التولي والإعراض مأخوذ من سلوك الطريق ، ومن ترك سلوك الطريق فله حالتان : إحداهما : أن يرجع عوده على بدئه ، وذلك هو التولي ، والثانية : أن يأخذ في عرض الطريق ، وذلك هو الإعراض.
وعلى هذا التفسير في التولي والإعراض لا يكون في الآية دليل على الاختلاف ، إلا إن قصد أن ناساً تولوا وناساً أعرضوا ، وجمع ذلك لهم ، أو يتولون في وقت ، ويعرضون في وقت.
وقال القشيري : التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا ، وأولها التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة ، ثم ردّك إلى مراعاة حق مثلك ، إظهاراً أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله ، كيف يقوم بحق معبود ليس كمثله شيء؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق ، فما حق تربية سيدك لك؟ كيف تؤدي شكره؟ ثم ذكر عموم رحمته لذي القربى ، واليتامى والمساكين ، وأن يقول للناس حسناً.
وحقيقة العبودية الصدق مع الحق ، والرفق مع الخلق.
انتهى ، وبعضه مختصر.
وقال بعض أهل الإشارات : الأسباب المتقرّب بها إلى الله تعالى : اعتقاد وقول وعمل ونية.
فنبه بقوله : { لا تعبدون إلا الله } ، على مقام التوحيد ، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوع منفرداً بذلك ، ومالية محضة وهي : الزكاة ، وبدنية محضة وهي : الصلاة ، وبدنية ومالية وهو : برّ الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين.
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } : الكلام على : { تسفكون } ، كالكلام على : { لا تعبدون إلا الله } من حيث الإعراب.
وقرأ الجمهور : بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء.
وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي جمزة؛ كذلك ، إلا أنهما ضما الفاء.
وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز : بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة.
وقرأ ابن أبي إسحاق : كذلك ، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ، وظاهر قوله : { لا تسفكون دماءكم } ، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدّة تصيبكم وحنق يلحقكم.
وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار.
وصح من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده ، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً.
وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل.
وقال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقيل معناه : لا تسفكوا دماء الناس ، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه ، وقال :
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها . . .
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وقيل : معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك ، كالارتداد والزنا بعد الإحصان والمحاربة ، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك ، مما يزيل عصمة الدماء.
وقيل : معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض ، وإليه أشار بقوله : { لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض } ، وكان أهل دين كنفس واحدة ، قاله قتادة ، واختاره الزمخشري.
قال ابن عطية : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً ، ولا ينفيه ، ولا يسترقه ، ولا يدعه يسترق ، إلى غير ذلك من الطاعات.
والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو مع أسلافهم.
{ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه : لا يخرج بعضكم بعضاً ، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم ، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم ، أو لا تخرجون أنفسكم ، أي إخوانكم ، لأنكم كنفس واحدة ، أو لا تفسدوا ، فيكون سبباً لإخراجكم من دياركم ، كأنه يشير إلى تغريب الجاني ، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين ، فيكتب عليكم الجلاء.
أقوال ستة.
{ ثم أقررتم } : أي بالميثاق ، واعترفتم بلزومه ، أو اعترفتم بقبوله ، أو رضيتم به ، كما قال البعيث :
ولست كليبياً إذا سيم خطة . . .
أقر كإقرار الحليلة للبعل
{ وأنتم تشهدون } : أي تعلمون أن الله أخذه عليكم ، وأراد على قدماء بني إسرائيل ، إن كان الخطاب وارداً عليهم ، وإن كان على معاصريه ، صلى الله عليه وسلم من أبنائهم ، فمعناه : وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد ، إما بالنقل المتواتر ، وإما بما تتلونه من التوراة.
وإن كان معنى الشهادة الحضور ، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم.
وقال بعض المفسرين : ثم أقررتم عائد إلى الخلف ، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف ، لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضاً.
وقال : وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد ، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة.
وقيل : إن قوله وأنتم تشهدون للتأكيد ، كقولك ، فلان مقرّ على نفسه بكذا ، أشاهد عليها.
{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } : هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان ، بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم.
واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة ، فالمختار أن أنتم مبتدأ ، وهؤلاء خبر ، وتقتلون حال.
وقد قالت العرب : ها أنت ذا قائماً ، وها أنا ذا قائماً.
وقالت أيضاً : هذا أنا قائماً ، وها هو ذا قائماً ، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ ، وكأنه قال : أنت الحاضر ، وأنا الحاضر ، وهو الحاضر.
والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال.
ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال ، فيما قلناه من قولهم : ها أنت ذا قائماً ونحوه.
قال الزمخشري : والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين ، تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
وقوله : { تقتلون } بيان لقوله : { ثم أنتم هؤلاء }.
انتهى كلامه.
والظاهر أن المشار إليه بقوله : { ثم أنتم هؤلاء } ، هم المخاطبون أوّلاً ، فليسوا قوماً آخرين.
ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدّره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ولا في ها أنتم أولاء؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير.
قال ابن عطية : وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد : شيخنا ، هؤلاء : رفع بالابتداء ، وأنتم خبر مقدّم ، وتقتلون حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود ، فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول : هذا زيد منطلقاً ، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه ، لا الإخبار بأن هذا هو زيد.
انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه ، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، من أهل بلدنا غرناظة ، يعرف بابن الباذش ، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد ، مؤلف ( كتاب الإقناع في القراءات ) ، وله اختيارات في النحو ، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي ، وعلق عنه في النحو على ( كتاب الجمل والإيضاح ) ومسائل من كتاب سيبويه.
توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا.
والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل.
قالوا : وهو حال منه ، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب منهج السالك ) من تأليفنا ، فيطالع هناك ، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء ، ونقل جوازه عن الفراء ، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره ، جنوحاً إلى مذهب الفراء ، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم.
وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء.
والفصل بينهما بالنداء جائز ، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية ، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر.
وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة ، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة ، من ذلك قول رجل من طيء :
إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم . . .
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ ، ويقتلون الخبر ، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين ، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون ، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني.
وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات ، ولا بأسماء الإشارة.
والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو : اللهم اغفر لنا ، أيتها العصابة ، أو معرّفاً بالألف واللام نحو : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وقد يكون علماً ، كما أنشدوا :
بنا تميماً يكشف الضباب.
اه . . .
.
وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم ، كما مثلناه.
وقد جاء بعد ضمير مخاطب ، كقولهم : بك الله نرجو الفضل.
وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي ، وهو خبر عن أنتم ، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء ، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين.
وأجاز ذلك الكوفيون ، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو.
وقرأ الجمهور : يقتلون ، من قتل مخففاً.
وقرأ الحسن : تقتلون من قتل مشدّداً.
هكذا في بعض التفاسير ، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبي نهيك ، قال والزهري والحسن : تقتلون أنبياء الله ، من قتل يعني مشدّداً ، والله أعلم بصواب ذلك.
{ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } : هذا نزل في بني قينقاع ، وبني قريظة ، والنضير من اليهود.
كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير ، والأوس والخزرج إخوان ، والنضير وقريظة أيضاً أخوان ، ثم افترقوا.
فصارت النضير حلفاء الخزرج ، وقريظة حلفاء الأوس.
فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب ، فيفدون أسرارهم ، فعيرهم الله بذلك ، قاله المهدوي.
قال الزمخشري : فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين ، جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا.
{ تظاهرون عليهم بالإثم } : قرأ بتخفيف الظاء ، عاصم وحمزة والكسائي ، وأصله : تتظاهرون ، فحذف التاء ، وهي عندنا الثانية لا الأولى ، خلافاً لهشام ، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة ، الدالة في مثل هذا على الخطاب ، وكثيراً جاء في القرآن حذف التاء.
وقال :
تعاطسون جميعاً حول داركم . . .
فكلكم يا بني حمدان مزكوم
يريد : تتعاطسون.
وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء ، أي بإدغام الظاء في التاء.
وقرأ أبو حيوة : تظاهرون ، بضم التاء وكسر الهاء.
وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما : تظهرون ، بفتح التاء ، والظاء والهاء مشددين دون ألف ، ورويت عن أبي عمرو.
وقرأ بعضهم : تتظاهرون على الأصل.
فهذه خمس قراءات ، ومعناها كلها التعاون والتناصر.
وروى أبو العالية قال : كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوماً أخرجوهم من ديارهم.
عليهم بالإثم : فيه قولان : أحدهما : أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذمّ واللوم ، الثاني : أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب.
وفي حديث النوّاس : الإثم ما حاك في صدرك.
وقيل : المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم ، وهذا من إطلاق السبب على مسببه ، ولذلك سميت الخمر إثماً ، كما قال :
شربت الإثم حتى ضل عقلي . . .
{ والعدوان } : هو تجاوز الحدّ في الظلم.
{ وإن يأتوكم أسرى } : قراءة الجمهور بوزن فعالى ، وحمزة بوزن فعلى.
{ تفادوهم } : قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادي ، وقرأ الباقون : من فدى.
قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج ، يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء ، ومعنى تفادوهم : تفدوهم ، إذ المفاعلة تكون من اثنين ، ومن واحد.
ففاعل بمعنى : فعل المجرد ، وهو أحد معانيها.
وقيل : معنى فادى : بادل أسيراً بأسير ، ومعنى فدى : دفع الفداء ، ويشهد للأوّل قول العباس : فاديت نفسي وفاديت عقيلاً.
ومعلوم أنه ما بادل أسيراً بأسير.
وقيل : معنى تفدوهم بالصلح ، وتفادوهم بالعنف.
وقيل تفادوهم : تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ، ومنه قوله :
قفي فادي أسيرك إن قومي . . .
وقومك ما أرى لهم اجتماعا
وتفدوهم : تعطوا فديتهم.
وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة ، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئاً.
وفاديت نفسي : أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً.
وفادى وفدى يتعدّيان إلى مفعولين ، الثاني بحرف جر ، وهو هنا به محذوف.
{ وهو محرّم عليكم إخراجكم } : تقدّمت أربعة أشياء : قتل النفس ، والإخراج من الديار ، والتظاهر ، والمفاداة ، وهي محرّمة.
واختص هذا القسم بتأكيد التحريم ، وإن كانت كلها محرّمة ، لما في الإخراج من الديار من معرّة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت ، وذلك بخلاف القتل ، لأن القتل ، وإن كان من حيث هو هدم البنية ، أعظم ، لكن فيه انقطاع الشر ، وبخلاف المفاداة بها ، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر ، لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ، ما وقعوا في قيد الأسر.
وقد يكون أيضاً مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم ، ويكون التقدير : تقتلون أنفسكم ، وهو محرّم عليكم ، وكذا باقيها.
وارتفاع هو على الابتداء ، وهو إما ضمير الشأن ، والجملة بعده خبر عنه ، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً ، وفيه ضمير عائد على الإخراج ، إذ النية به التأخير.
ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذاكان متحملاً ضميراً مرفوعاً.
فلا يجيزون : قائم زيد ، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً ، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم ، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله ، وتبعهم على هذا المهدوي.
ولا يجيز هذا الوجه البصريون ، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها ، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو ، وإخراجهم مرفوعاً به ، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة.
وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا.
وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ ، ليس ضمير الشأن ، بل هو عائد على الإخراج ، ومحرّم خبر عنه ، وإخراجهم بدل.
وهذا فيه خلاف.
منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل ، ومنهم من منع.
وأجازه الكسائي ، وفي بعض النقول.
وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً ، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل ، وقد تقدّم مع الخبر.
والتقدير : وإخراجهم هو محرّم عليكم ، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ ، أقدم معه الفصل.
قال الفراء : لأن الواو ها هنا تطلب الاسم ، وكل موضع تطلب فيه الاسم ، فالعماد فيه جائز.
ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين ، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم : أحدهما : وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة ، إذ التقدير : وإخراجهم هو محرّم ، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة.
الثاني : أن فيه تقديم الفصل ، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر ، أو بين ما هما أصله ، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.
ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد ، وهو أنه قال : قيل في هو إنه ضمير الأمر ، تقديره : والأمر محرّم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو.
انتهى ما نقله في هذا القول ، وهذا خطأ من وجهين.
أحدهما : أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد ، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي.
أما البصري ، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة ، وأما الكوفي ، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد ، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى ، نحو قولك : ظننته قائماً الزيدان.
والثاني : أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر ، وضمير الأمر لا يعطف عليه ، ولا يبدل منه ، ولا يؤكد.
قال ابن عطية : وقيل هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفي ، وليست هنا بالتي هي عماد ، ومحرم على هذا ابتداء ، وإخراجهم خبر.
انتهى ما نقله في هذا القول.
والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر مع المبتدأ ، فإعراب محرم عندهم خبر مقدم ، وإخراجهم مبتدأ ، وهو المناسب للقواعد ، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة ، ولا مسوغ لها ، ويكون الخبر معرفة ، بل المستقر في لسانهم عكس هذا ، إلا إن كان يرد في شعر ، فيسمع ولا يقاس عليه.
قال ابن عطية : وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر.
انتهى ما نقله في هذا القول.
وهذا القول ضعيف جداً ، إذ لا موجب لتقدّم الضمير ، ولا لبروزه بعد استتاره ، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير ، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً ، وإخراجهم مبتدأ ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير ، إلا إذا رفع الظاهر.
ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر ، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم ، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه ، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً.
قال ابن عطية : وقيل هو ضمير الإخراج ، تقديره : وإخراجهم محرم عليكم.
انتهى ما نقله في هذا القول ، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم ، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره ، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر ، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير.
وقد تقدم أن في ذلك خلافاً ، منهم من أجاز ومنهم من منع.
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } : هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار.
ولم يذمّهم على الفداء ، بل على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب ، وتركوا بعضاً.
وتكون المناقضة آكد في الذمّ ، ولا يقال الإخراج معصية.
فلم سماها كفراً؟ لأنا نقول : لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب ، مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه.
والبعض الذي آمنوا به ، إن كان المراد بالكتاب التوراة ، فيكون عامًّا فيما آمنوا به من أحكامها ، وفداء الأسير من جملته.
والبعض الذي كفروا به : هو قتل بعضهم بعضاً ، وإخراج بعضهم من ديارهم ، والمظاهرة بالإثم والعدوان ، من جملة ما كفروا به من التوراة.
وقيل : معناه يستعملون البعض ويتركون البعض ، تفادون أسرى قبيلتكم ، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم.
وقيل : إن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب ، ولا يفادي من وقع عليه الحرب.
قال : فقال ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلهنّ.
وقال مجاهد : معناه إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك.
وقيل : المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوّة موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحجة في أمرهما سواء ، فجروا مجرى سلفهم ، أن يؤمنوا ببعض ، ويكفروا ببعض.
قالوا : ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة ، أي المفروض ، والذي آمنوا به منها فداء الأسرى ، والذي كفروا به باقي الأربعة.
{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } : الجزاء يطلق في الخير والشر.
قال : { وجزاهم بما صبروا } ، وقال : { فجزاؤه جهنم } والخزي هنا : الفضيحة ، والعقوبة ، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر ، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا ، وأذرعات ، أو غلبة العدوّ ، أقوال خمسة.
ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأولى أن يكون المراد هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص.
وإلاّ خزي : استثناء مفرّغ ، وهو خبر المبتدأ.
ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة ، وتفصيل وذلك : أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ ، فإما أن يكون هو الأوّل ، أو منزلاً منزلته ، أو وصفاً ، إن كان الأول في المعنى ، أو منزلاً منزلته ، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور.
وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل ، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب ، ومنعه البصريون.
ونقل عن يونس : إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان ، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس ، قال : لا خلاف بين النحويين في قولك : ما زيد إلا أخوك ، إنه لا يجوز إلا بالرفع.
قال : فإن قلت ما أنت إلا لحيتك ، فالبصريون يرفعون ، والمعنى عندهم : ما فيك إلا لحيتك ، وكذا : ما أنت إلا عيناك.
وأجاز في هذا الكوفيون النصب ، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر ، إلا أن يعرف المعنى ، فتضمر ناصباً نحو : ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى ، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً.
{ ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب } : يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد ، ويدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار.
ومعنى يردّون : يصيرون ، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشدّ العذاب ، أو يراد بالردّ : الرجوع إلى شيء كانوا فيه ، كما قال تعالى : { فرددناه إلى أمه } وكأنهم كانوا في الدنيا في أشدّ العذاب أيضاً ، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب.
وقرأ الجمهور : يردّون بالياء ، وهو مناسب لما قبله من قوله : { من يفعل }.
ويحتمل أن يكون التفاتاً ، فيكون راجعاً إلى قوله : { أفتؤمنون } ، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.
وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما : تردّون بالتاء ، وهو مناسب لقوله : { أفتؤمنون }.
ويحتمل أن يكون التفاتاً بالنسبة إلى قوله { من يفعل ذلك } ، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب.
وأشد العذاب : الخلود في النار ، وأشدّيته من حيث أنه لا انقضاء له ، أو أنواع عذاب جهنم ، لأنها دركات مختلفة ، وفيها أودية وحيات ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص ، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا ، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم ، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم ، أقوال خمسة.
{ وما الله بغافل عما تعملون } : تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام ، إذ وقع قبل { أفتطمعون }.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء من فوق.
فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور ، وبالتاء تناسب قراءة تردّون بالتاء ، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطباً في الآية.
قيل : ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد روي عن عمر بن الخطاب قال : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وأنتم الذين تعنون بهذا يأمّة محمد ، وبما يجري مجراه ، وهذه الآية من أوعظ الآيات ، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص.
{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة.
وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله : { أولئك على هدى من ربهم } وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف ، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيهاً على أنه هو جامع تلك الأوصاف.
والذين : خبر عن أولئك ، وتقدّم الكلام في قوله : { اشتروا } ، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضاً ومعوّضاً أعياناً.
فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني ، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء ، إيثاراً للعاجل الفاني على الآجل الباقي ، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله ، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده ، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.
قال بعض أرباب المعاني : إن الدنيا : ما دنا من شهوات القلب ، والآخرة : ما اتصلت برضا الرب.
فلا يخفف معطوف على الصلة ، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً ، تقول : جاءني الذي قتل زيداً بالأمس ، وسيتقل غداً أخاه ، إذ الصلاة هي جمل ، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات ، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره ، وعلى اختيار التوافق في الصيغة ، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ والذين بصلته خبراً.
وفلا : يخفف خبر بعد خبر ، وعلل دخول الفاء لأن الذين ، إذا كانت صلته فعلاً ، كان فيها معنى الشروط ، وهذا خطأ ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك ، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول ، إنما هو خبر عن أولئك ، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه.
وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين مبتدأ ثان ، وفلا يخفف خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك.
قيل : ولم يحتج إلى عائد ، لأن الذين هم أولئك ، كما تقول : هذا زيد منطلق ، وهذا خطأ ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط ، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط.
وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره ، فلا بد من الرابط.
وليس نظير ما مثل به من قوله : هذا زيد منطلق ، لأن زيد منطلق خبران عن هذا ، وهما مفردان ، أو يكون زيد بدلاً من هذا ، ومنطلق خبراً.
وأما أن يكون هذا مبتدأ ، وزيد مبتدأ ثانياً ، ومنطلق خبراً عن زيد ، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا ، فلا يجوز لعدم الرابط.
وأيضاً فلو كان هنا رابط ، لما جاز هذا الإعراب ، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه ، فلا يشبه اسم الشرط ، إذ يزول العموم باختصاصه ، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى.
ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً.
والتخفيف هو التسهيل ، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع ، وحمل أيضاً على التشديد.
والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع ، أو بالتقليل منه ، أو في وقت ، أو في كل الأوقات ، لأنه نفي للماهية ، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها.
والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنه نفي في المستقبل.
وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا بنقصان الجزية ، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة.
ومعنى نفى النصر : أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله.
{ ولا هم ينصرون } : جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية ، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حدّ قوله :
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها . . .
ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله : { فلا يخفف } ، وهو جملة فعلية ، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء ، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل ، لا اختصاصاً ولا أولوية ، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد ، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا ، أولى من الابتداء ، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل ، لأنه أعم ، إلا إن جعل الفاعل عاماً ، فيكون ولا هم ينصرهم أحد ، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد ، ويفوت الإيجاز ، مع أن قوله : { ولا هم ينصرون } يفيد ذلك ، أعني العموم.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى ، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة ، والإحسان إلى الوالدين ، وإلى ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وبالقول الحسن للناس ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم ، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم ، وأنهم أقروا والتزموا ذلك.
فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر ، والميثاق الثاني يتضمن النواهي ، لأن التكاليف الإلهية مبنية على الأوامر والنواهي.
وكان البدء بالأوامر آكد ، لأنها تتضمن أفعالاً ، والنواهي تتضمن تروكاً ، والأفعال أشق من التروك.
وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة ، وهو رأس الإيمان ، إذ متعلق أشرف المتعلقات ، فكان البدء به أولى.
ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه ، وإن كان قد تقدم أخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله : { ثم توليتم } ، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات ، لأنها تروك كما ذكرنا.
ثم قرّعهم بمخالفة نواهي الله ، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق ، بل بالإثم والعدوان.
ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم ، بفداء من أتى إليهم منهم ، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم ، مع علمهم بتحريم إخراجهم ، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.
هذا مع أنه كله حق وصدق ، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض ، والإيمان ببعض.
ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة ، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه ، فيجازيهم على ذلك.
ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة ، وخالف أمر الله ونهيه ، هو قد اشترى عاجلاً تافهاً بآجل جليل ، وآثر فانياً مكدراً على باق صاف.
وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب ، ولا يجدوا ناصراً يدفع عنهم سوء العقاب.
لقد خسروا تجارة ، وبدلوا بالنعيم السرمدي ناراً وقودها الناس والحجارة.
وإذا كان التخفيف قد نفى ، فالرفع أولى.
وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قفوت الأثر : اتبعته ، والأصل أن يجيء الإنسان تابعاً لقفا الذي اتبعه ، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع ، وإن بعد زمان المتبوع ، من زمان التابع.
وقال أمية :
قالت لأخت له قصيه عن جنب . . .
وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد
الرسل : جمع رسول ، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول.
وتسكين عينه لغة أهل الحجاز ، والتحريك لغة بني تميم.
عيسى : اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية ، ووزنه عند سيبويه : فعلى ، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة ، بمنزلة ياء معزى ، يعني بالياء الألف ، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء.
قال أبو علي : وليست للتأنيث ، كالتي في ذكرى ، بدلالة صرفهم له في النكرة.
وذهب الحافظ أبو عمر ، وعثمان بن سعيد الداني ، صاحب التصانيف في القراءات ، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره ، إلى أن وزنه فعلل ، وردّ ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلاً في بنات الأربعة.
قال بعض أصحابنا : وهذه الأسماء أعجمية ، وكل أعجمي استعملته العرب ، فالنحويون يتكلمون على أحكامه في التصريف على الحدّ الذي يتكلمون فيه العربي ، فعيسى من هذا الباب.
انتهى كلامه.
ومن زعم أنه مشتق من العيس : وهو بياض يخالطه شقرة ، فغير مصيب ، لأن الاشتقاق العربي يدخل الأسماء الأعجمية.
مريم ، باللسان السرياني ، معناه : الخادم ، وسميت به أم عيسى ، فصار علماً ، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية.
ومريم ، باللسان العربي : من النساء ، كالزير : من الرجال ، وبه فسر قول رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمه . . .
والزير : الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهنّ ، والياء فيه مبدلة من واو ، كالريح ، إذ هما من الزور والروح ، فصار هذا اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى اللسانين.
ووزن مريم عند النحويين مفعل ، لأن فعيلاً ، بفتح الفاء ، لم يثبت في الأبنية ، كما ثبت نحو : عثير وعلبب ، قاله الزمخشري وغيره.
وقد أثبت بعض الناس فعيلاً ، وجعل منه : ضهيداً ، اسم موضع ، ومدين ، إذا جعلنا ميمه أصلية ، وضهياء مقصورة مصروفة ، وهي المرأة التي لا تحيض ، وقيل : التي لا ثدي لها.
قال أبو عمرو الشيباني : ضهياة وضهياءة ، بالقصر والمد.
قال الزجاج : اشتقاقها من ضأهأت : أي شابهت ، لأنها أشبهت الرجل.
وقال ابن جني : أما ضهيد وعثير فمصنوعان ، فلا يجعلان دليلاً على إثبات فعيل. انتهى.
وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو : مزيد.
البين : الواضح ، بان : وضح وظهر.
أيد : فعل تأييد ، أو أيد : أفعل إئياداً ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة.
وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيماً ، قالوا : أجد ، أي قوي ، كما أبدلوا ياء يد ، قالوا : لا أفعل ذلك جدى الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهو إبدال لا يطرد.
والأصل في آيد أاْيد ، وصححت العين كما صححت في أغيلت ، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب ، فتقول : ما أبين! وما أطول! ورآه أبو زيد مقيساً ، ولو أعل على حدّ أقتت وأحدت ، فألقيت حركة العين على الفاء ، وحذفت العين ، لوجب أن تنقلب الفاء واواً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، كما انقلبت في أوادم جمع أدم على أفاعل ، ثم تنقلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
فلما أدّى القياس إلى إعلال الفاء والعين ، رفض وصححت العين.
الروح ، من الحيوان : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة ، قاله الراغب ، واختلف الناس فيه وفي النفس ، أهما من المشترك أم من المتباين؟ وفي ماهية النفس والروح ، وقد صنف في ذلك.
القدس : الطهارة ، وقيل : البركة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى : { ونقدّس لك } الرسول ، فعول بمعنى : المفعول ، أي المرسل ، وهو قليل ، ومنه : الحلوب ، والركوب ، بمعنى : المحلوب والمركوب.
تهوى : تحب وتختار ، ماضيه على فعل ، ومصدره الهوى.
غلف : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وهو الذي لا يفقه ، أو جمع غلاف ، وهو الغشاء ، فيكون أصله التثقيل ، فخفف.
اللعن : الطرد والإبعاد ، يقال : شأو لعين ، أي بعيد ، وقال الشماخ :
ذعرت به القطا ونفيت عنه . . .
مقام الذئب كالرجل اللعين
المعرفة : العلم المتعلق بالمفردات ، ويسبقه الجهل ، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب ، وقد لا يسبقه الجهل ، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة ، ووصف بالعلم.
بئس : فعل جعل للذمّ ، وصله فعل ، وله ولنعم باب معقود في النحو.
البغي : الظلم ، وأصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح : فسد ، قاله الأصمعي ، وقيل : أصله شدّة الطلب ، ومنه ما نبغي ، وقول الراجز :
أنشد والباغي يحب الوجدان . . .
فلائصاً مختلفات الألوان
ومنه سميت الزانية بغياً ، لشدّة طلبها للزنا ، الإهانة : الإذلال ، وهان هواناً : لم يحفل به ، وهو معنى الذل ، وهو كون الإنسان لا يؤبه به ، ولا يلتفت إليه.
وراء ، من الظروف المتوسطة التصرف ، وتكون بمعنى : قدام ، وبمعنى : خلف ، وهو الأشهر فيه.
الخالص : الذي لا يشوبه شيء ، يقال : خلص يخلص خلوصاً.
تمنى : تفعل من المنية ، وهو الشيء المشتهى ، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى : التلاوة ، ومنه : تمنى على زيد منه حاجة ، وجد : مشترك بين الإصابة والعلم والغنى والحرج ويختلف بالمصادر : كالوجدان والوجد والموجدة.
الحرص : شدّة الطلب.
الودّ : المحبة للشيء والإيثار له ، وفعله : ودّ وهو على فعل يفعل ، وحكى الكسائي : وددت ، فعلى هذا يجوز كسر الواو ، إذ يكون فعل يفعل ، وفك الإدغام في قوله :
ما في قلوبهم لنا من مودة . . .
ضرورة.
عمر : التضعيف فيه للنقل ، إذ هو من عمر الرجل : أي طال عمره ، وعمره الله : أطال عمره ، والعمر : مدة البقاء.
الألف : عشر من المئين ، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير ، وهو من الألفة ، إذ هو ما لف أنواع الأعداد ، إذ العشرات مالف الآحاد ، والمئون ما لف العشرات ، والألف ما لف المئين.
الزحزحة : الإزالة والتنحية عن المقر.
بصير : فعيل من بصر به إذا رآه ، { فبصرت به عن جنب } ، ثم يتجّوز به فيطلق على بصر القلب ، وهو العلم.
بصير بكذا : أي عالم به.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } : تقدّم الكلام في هذه اللام ، ويحتمل أن تكون للتأكيد ، وأن تكون جواب قسم.
ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم ، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم.
ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران ، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم ، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء ، فخالفوا أمر الله ونهيه ، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها.
والإيتاء : الإعطاء ، فيحتمل أن يراد به : الإنزال ، لأنه أنزله عليه جملة واحدة ، ويحتمل أن يراد آتيناه : أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه ، فيكون على حذف مضاف آتينا موسى علم الكتاب ، أو فهم الكتاب.
وموسى : هو نبي الله موسى بن عمران ، صلى الله على نبينا وعليه وسلم.
والكتاب هنا : التوراة ، في قول الجمهور ، والألف واللام فيه للعهد ، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا.
وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي ، وموسى هو الثاني عنده.
{ وقفينا } : هذه الياء أصلها الواو ، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء ، كما تقول : غزيت من الغزو ، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية ، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين ، لأن قفوت يتعدّى إلى واحد.
تقول : قفوت زيداً ، أي تبعته ، فلو جاء على التعدية لكان : وقفيناه من بعده الرسل ، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن ، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول ، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً.
ألا ترى إلى قوله : { ثم فقينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم } ولكنه ضمن معنى جئنا ، كأنه قال : وجئنا من بعده بالرسل ، يقفو بعضهم بعضاً ، ومن في : { من بعده } : لابتداء الغاية ، وهو ظاهر ، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبىء يوشع.
{ بالرسل } : أرسل الله على أثر موسى رسلاً وهم : يوشع ، وشمويل ، وشمعون ، وداود ، وسليمان ، وشعيا ، وأرميا ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، وأليسع ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم.
والباء في بالرسل متعلق بقفينا ، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده ، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية ، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها ، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها.
وقرأ الجمهور : بالرسل بضم السين.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر : بتسكينها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، ووافقهما أبو عمرو أن أضيف إلى ضمير جمع نحو : رسلهم ورسلكم ورسلنا ، استثقل توالي أربع متحركات ، فسكن تخفيفاً.
{ وآتينا عيسى ابن مريم } : أضاف عيسى إلى أمه رداً على اليهود فيما أضافوه إليه.
{ البيانات } : وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوّته ، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى عليه السلام ، وهذا هو الظاهر.
وقيل : الإنجيل.
وقيل : الحجج التي أقامها الله على اليهود.
وقيل : إبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، وإحياء الموتى ، وهم أربعة : سام بن نوح ، والعازر ، وابن العجوز ، وبنت العشار ، ومن الطير : الخفاش ، فقيل : لم يكن من قبل عيسى ، بل هو صورة ، والله نفخ فيه الروح.
وقيل : كان قبله ، فوضع عيسى على مثاله.
قالوا : وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقاً منه ، لأنه لحم كله.
وأجمل الله ذكر الرسل ، وفصل ذكر عيسى ، لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى ، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيراً من شرع موسى.
{ وأيدناه } : قرأ الجمهور على وزن فعلناه.
وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وحميد ، وابن محيصن ، وحسين ، عن أبي عمرو : أأيدناه ، على وزن : أفعلناه.
وتقدم الكلام على ذلك في المفردات ، وفرق بعضهم بينهما فقال : أما المد فمعناه القوة ، وأما القصر فالتأييد والنصر ، والأصح أنهما بمعنى قويناه ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة.
{ بروح القدس } : قراءة الجمهور : بضم القاف والدّال.
وقرأ مجاهد : وابن كثير : بسكون الدال حيث وقع ، وفيه لغة فتحها.
وقرأ أبو حيوة : القدوس ، بواو.
والروح هنا : اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يحيي الموتى ، قاله ابن عباس ، أو الإِنجيل ، كما سمى الله القرآن روحاً ، قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } قاله ابن زيد ، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى عليه السلام ، أو جبريل عليه السلام ، قاله قتادة والسدّي والضحاك والربيع ، ونسب هذا القول لابن عباس ، قاله ابن عطية ، وهذا أصح الأقوال.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت « أهج قريشاً وروح القدس معك » ، ومرة قال له؛ « وجبريل معك » انتهى كلامه.
قالوا : ويقوي ذلك قوله تعالى : { إذ أيدتك بروح القدس } وقال حسان :
وجبريل رسول الله فينا . . .
وروح القدس ليس له كفاء
وتسمية جبريل بذلك ، لأن الغالب على جسمه الروحانية ، وكذلك سائر الملائكة ، أو لأنه يحيا به الدين ، كما يحيا البدن بالروح ، فإنه هو المتولي لإنزال الوحي ، أو لتكوينه روحاً من غير ولادة.
وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما السلام لإظهار حجته وأمر دينه ، أو لدفع اليهود عنه ، إذ أرادوا قتله ، أو في جميع أحواله.
واختار الزمخشري أن معناه : بالروح المقدسة ، قال : كما يقال حاتم الجود ، ورجل صدق.
ووصفها بالقدس كما قال : وروح منه ، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة.
انتهى كلامه.
وقد تقدّم معنى القدس أنه الطهارة أو البركة.
وقال مجاهد والربيع : القدس من أسماء الله تعالى ، كالقدّوس.
قالوا : وإطلاق الرّوح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسم الله الأعظم مجاز ، لأن الرّوح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه.
ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك ، إلا أن كلاً منها أطلق الرّوح عليه على سبيل التشبيه ، من حيث إن الرّوح سبب للحياة ، فجبريل هو سبب لحياة القلوب بالعلوم ، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها ، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض.
والمشابهة بين جبريل والرّوح أتم ، ولأن هذه التسمية فيه أظهر ، ولأن المراد من أيدناه : قوّيناه وأعناه ، وإسنادها إلى جبريل حقيقة ، وإلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز.
ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص ، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك ، لأنه هو الذي بشر مريم بولادته ، وتولد عيسى بنفخه ، ورباه في جميع الأحوال ، وكان يسير معه حيث سار ، وكان معه حيث صعد إلى السماء.
{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } : الهمزة أصلها للاستفهام ، وهي هنا للتوبيخ والتقريع.
والفاء لعطف الجملة على ما قبلها ، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم ، والأصل فأكلما.
ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف ، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها ، كأنه قال : ولقد آتينا يا بني إسرائيل ، آتيناكم ما آتيناكم.
فكلما جاءكم رسول.
ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف ، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق.
وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى : { كلما رزقوا منها } فأغنى عن إعادته.
والناصب لها قوله : { استكبرتم }.
والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاماً لجميع بني إسرائيل ، إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق ، وتكذيب الرسل ، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم ، والشك والارتياب فيما أتوهم به ، أو يكون عائداً إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك.
وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبنائهم ، لأنهم راضون بفعلهم ، والراضي كالفاعل.
وقد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، وسقوه السم ليقتلوه ، وسحروه.
وبما : متعلق بقوله : جاءكم ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي لا تهواه.
وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق ، ومنه هذه الآية.
وأسند الهوى إلى النفس ، ولم يسند إلى ضمير المخاطب ، فكان يكون بما لا تهوون إشعاراً بأن النفس يسند إليها غالباً الأفعال السيئة { إن النفس لأمّارة بالسوء } { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } { قال بل سوّلت لكم أنفسكم } استكبرتم : استفعل هنا : بمعنى تفعل ، وهو أحد معاني استفعل.
وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه سفه الحق وغمط الناس.
والمعنى قيل : استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسول.
أو استبعاداً للرسالة ، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعة الاستكبار الذي هو محل النقصائص ونتيجة الإعجاب.
وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق ، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكرر مجيء الرسل إليهم ، وهو كما ذكرنا استبكار بمعنى التكبر ، وهو مشعر بالتكلف والتفعل ، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء ، بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته ، لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى ، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة.
{ ففريقاً كذبتم } : ظاهره أنه معطوف على قوله : استكبرتم ، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط ، حيث لا يقدرون على قتله ، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله.
وتهيأ لهم ذلك ، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه.
واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك ، فذكر أقبح أفعالهم معه ، وهو قتله.
وأجاز أبو القاسم الراغب أن { ففريقاً كذبتم } معطوفاً على قوله : { وأيدناه } ، ويكون قوله : أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار.
والأظهر في ترتيب الكلام الأول ، وهذا أيضاً محتمل ، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي ، وثم محذوف تقديره : ففريقاً منهم كذبتم ، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ، ولأنه المشترك بين الفريقين : المكذب والمقتول.
{ وفريقاً تقتلون } : وأتى بفعل القتل مضارعاً ، إما لكونه حكيت أنه الحال الماضية ، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس ، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه ، ولما فيه من مناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل ، وإما لكونه مستقبلاً ، لأنهم يرومون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك سحروه وسموه.
وقال صلى الله عليه وسلم عند موته : « ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري » وكان في ذلك على هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم ، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد أمروا بالإيمان به والنصر له ، يرومون قتله.
فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله؟ فقتله عندهم أولى.
قال ابن عطية عن بني إسرائيل : كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ، ثم تقوم سوقهم آخر النهار.
وروي سبعين نبياً ، ثم تقوم سوق نقلهم آخر النهار.
{ وقالوا قلوبنا غلف } : الضمير في قالوا عائد على اليهود ، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات ، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات.
نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية.
وقرأ الجمهور : غلف ، بإسكان اللام.
وتقدم الكلام على سكون اللام ، أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف؟ وأصله الضم ، كحمار وحمر.
قال ابن عطية : وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر.
ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين في نحو : حمر جمع حمار ، دون ضرورة.
وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وابن هرمز ، وابن محيصن ، غلف : بضم اللام ، وهي مروية عن أبي عمرو ، وهو جمع غلاف ، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف ، لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر.
يقال غلفت السيف : جعلت له غلافاً.
فأما من قرأ : غلف بالإسكان ، فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز.
وقال مجاهد : أي عليها غشاوة.
وقال عكرمة : عليها طابع.
وقال الزجاج : ذوات غلف ، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة.
وقيل معناه : خلقت غلفاً لا تتدبر ولا تعتبر.
وقيل : محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين.
ويحتمل عل هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة ، حتى يسكتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون ذلك خبراً منهم بحال قلوبهم ، لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها ، وكانوا يدفعوا بغير ذلك ، وأسباب الدفع كثيرة.
وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم ، أقاموا العلم مقام شيء مجسد ، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفاً له ، ليستدل بالمحسوس على المعقول.
ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم ، فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته ، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي.
ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبنا غلف ، أي مملوءة علماً ، فلا تسع شيئاً ، ولا تحتاج إلى علم غيره ، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره.
ويحتمل أن يكون المعنى : أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم ، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة ، وهي لصلابتها وقوّتها ، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها ، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره.
وقيل : المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه.
{ بل لعنهم الله بكفرهم } : بل : للإضراب ، وليس إضراباً عن اللفظ المقول ، لأنه واقع لا محالة ، فلا يضرب عنه ، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم : إن قلوبهم غلف ، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق ، مفطورة لإدراك الصواب ، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه.
ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم ، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر.
{ فقليلاً مّا يؤمنون } : انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون ، قاله قتادة.
وعلى مذهب سيبويه : انتصابه على الحال ، التقدير : فيؤمنونه ، أي الإيمان في حال قلته.
وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف ، أي فزماناً قليلاً يؤمنون ، لقوله تعالى : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون ، ثم لما أسقط الباء تعدي إليه الفعل ، وهو قول معمر.
وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون ، المعنى : أي فجمعاً قليلاً يؤمنون ، أي المؤمن منهم قليل ، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة ، وملخصه : أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر ، أو للزمان ، أو للمؤمن به ، أو للفاعل.
فبالنسبة إلى المصدر : تكون القلة بحسب متعلقه ، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة.
وبالنسبة إلى الزمان : تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه ، صلى الله عليه وسلم ، قليلاً ، وهو زمان الاستفتاح ، ثم كفروا بعد ذلك.
وبالنسبة إلى المؤمن به : تكون القلة لكونهم لم يبق لهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه ، إذ هم مجسمون ، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة.
وبالنسبة للفاعل : تكون القلة لكون من آمن منهم بالرسول قليلاً.
وقال الواقدي : المعنى أي لا قليلاً ولا كثيراً ، يقال قل ما يفعل ، أي ما يفعل أصلاً.
وقال ابن الأنباري : إن المعنى فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً.
وقال المهدوي : مذهب قتادة أن المعنى : فقليل منهم من يؤمن ، وأنكره النحويون وقالوا : لو كان كذلك للزم رفع قليل.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ، وما ذهبوا إليه من أن قليلاً يراد به النفي صحيح ، لكن في غير هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : { فقليلاً لا يؤمنون } ، لأن قليلاً انتصب بالفعل المثبت ، فصار نظير : قمت قليلاً ، أي قياماً قليلاً.
ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت ، وجعلت قليلاً منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفعل ، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية.
وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم : أقل رجل يقول ذلك ، وقل رجل يقول ذلك ، وقلما يقوم زيد ، وقليل من الرجال يقول ذلك ، وقليلة من النساء تقول ذلك.
وإذا تقرر هذا ، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح.
وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة ، وإنكار النحويين ذلك ، وقولهم : لو كان كذلك للزم رفع قليل.
فقول قتادة صحيح ، ولا يلزم ما ذكره النحويون ، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ، ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك.
وإنما انتصاب قليلاً عنده على الحال من الضمير في يؤمنون ، والمعنى عنده : فيؤمنون قوماً قليلاً ، أي في حالة قلة.
وهذا معناه : فقليل منهم من يؤمن.
وما في قوله : ما يؤمنون ، زائدة مؤكدة ، دخلت بين المعمول والعامل ، نظير قولهم : رويد ما الشعر ، وخرج ما أنف خاطب بدم.
ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية ، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر.
والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول ، وهو أن يكون المعنى : فإيماناً قليلاً يؤمنون ، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان ، وعلى الهيئة ، وعلى المفعول ، وعلى الفاعل ، ولموافقته ظاهر قوله تعالى : { فلا يؤمنون إلا قليلاً }.
وأما قول العرب : مررنا بأرض قليلاً ما تنبت ، وأنهم يريدون لا تنبت شيئاً ، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض ، وإن كان نكرة ، وما مصدرية ، والتقدير : قليلاً إنباتها ، أي لا تنبت شيئاً ، وليست ما زائدة ، وقليلاً نعت لمصدر محذوف ، تقدير الكلام : تنبت قليلاً ، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض ، لأن قولك : تنبت قليلاً ، لا يدل على نفي الإنبات رأساً ، وكذلك لو قلنا : ضربت ضرباً قليلاً ، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً.
{ ولما جاءهم } : الضمير عائد على اليهود ، ونزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم ، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيراً ، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم.
{ كتاب } : هو القرآن ، وإسناد المجيء إليه مجاز.
{ من عند الله } : في موضع الصفة ، ووصفه بمن عند الله جدير أن يقبل ، ويتبع ما فيه ، ويعمل بمضمونه ، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم.
{ مصدّق } : صفة ثانية ، وقدّمت الأولى عليها ، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد ، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله.
لا يقال : إنه يحتمل أن يكون { من عند الله } متعلقاً بجاءهم ، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما.
وفي مصحف أبيّ مصدقاً ، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب ، وإن كان نكرة.
وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط ، فقد تخصصت بالصفة ، فقربت من المعرفة.
{ لما معهم } : هو التوراة والإنجيل ، وتصديقه إما بكونهما من عند الله ، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته.
{ وكانوا } : يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم ، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون.
ويحتمل أن يكون جملة حالية ، أي وقد كانوا ، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون.
وظاهر كلام الزمخشري أن قوله : وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما ، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون ، فدل على أن قوله : وكانوا ، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : ولما.
{ من قبل } : أي من قبل المجيء ، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة.
{ يستفتحون } : أي يستحكمون ، أو يستعلمون ، أو يستنصرون ، أقوال ثلاثة.
يقولون ، إذا دهمهم العدو : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد نعته في التوراة.
واختلفوا في جواب ولما الأولى ، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، واختاره الزمخشري وقدره نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه ، وقدره غيره : كفروا ، فحذف لدلالة كفروا به عليه ، والمعنى قريب في ذلك.
وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله : { فلما جاءهم } جواب لما الأولى ، وكفروا جواب لقوله : فلما جاءهم.
وهو عنده نظير قوله : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف } قال : ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها.
وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو : كفروا به ، وكرر لما لطول الكلام ، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له.
وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد.
وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم ، لما جاء زيد ، فلما جاء خالد أقبل جعفر ، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته ، ولا حجة في هذا المختلف فيه ، فالأولى أن كون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، وأن يكون التقدير : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم } كذبوه ، ويكون التكذيب حاصلاً بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روّية ، بل بادروا إلى تكذيبه.
ثم قال تعالى : { وكانوا من قبل يستفتحون } ، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث قد قرب وقت بعثه ، فكانوا يخبرون بذلك.
{ فلما جاءهم ما عرفوا } : وما سبق لهم تعريفه للمشركين.
{ كفروا به } : ستروه وجحدوه ، وهذا أبلغ في ذمهم ، إذ يكون الشيء المعروف لهم ، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده ، قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } وقال أبو القاسم الراغب : ما ملخصه الاستفتاح ، طلب الفتح ، وهو ضربان : إلهي ، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب ، ومنه { إنا فتحنا لك } فعسى أن يأتي بالفتح.
ودنيوي ، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية ، ومنه { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } فمعنى يستفتحون : أي يعلمون خبره من الناس مرّة ، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة.
وقيل : يطلبون من الله بذكره الظفر.
وقيل : كانوا يقولون إنا ننصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على عبدة الأوثان.
وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى.
وظاهر قوله : ما عرفوا أنه الكتاب ، لأنه أتى بلفظ ما ، ويحتمل أنه يراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن ما قد يعبر بها عن صفات من يعقل ، ويجوز أن يكون المعنى : ما عرفوه من الحق ، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه ، وما تضمنه.
{ فلعنة الله على الكافرين } : لما كان الكتاب جائياً من عند الله إليهم ، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه ، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به.
قابلهم الله بالاستهانة والطرد ، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة ، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة.
{ قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله } { ومن يعلن الله فلن تجد له نصيراً } ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم ، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم ، فجللهم بها ، ثم نبه على علة اللعنة وسببها ، وهي الكفر ، كما قال قبل : { بل لعنهم الله بكفرهم } ، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى ، فتكون الألف واللام للعهد ، أو تكون للعموم ، فيكون هؤلاء فرداً من أفراد العموم.
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون للجنس ، ويكون فيه دخولاً أولياً.
ونعني بالجنس العموم ، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أولياً ليس بشيء ، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض ، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد ، فهي دلالة متساوية.
وإذا كانت دلالة متساوية ، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء.
{ بئسما اشتروا به أنفسهم } : تقدّم الكلام على بئس ، وأما ما فاختلف فيها ، ألها موضع من الإعراب أم لا.
فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب ، كحبذا ، هذا نقل ابن عطية عنه.
وقال المهدوي : قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما ، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب ، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب.
واختلف ، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز ، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة ، وفاعل بئس مضمر مفسر بما ، التقدير : بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم ، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم ، وبه قال الفارسي في أحد قوليه ، واختاره الزمخشري.
ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً ، واشتروا صفة له ، والتقدير : بئس شيئاً شيء اشتروا به أنفسهم ، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف ، فهو في موضع رفع ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أن يكفروا.
وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء ، من أن ما موضعها نصب على التمييز ، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم ، التقدير : بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم.
فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها ، فلا موضع لها من الإعراب.
وأن يكفروا على هذا القول بدل ، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كفرهم.
فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة : أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب ، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها ، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها الرفع ، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس ، فقال سيبويه : هي معرفة تامة ، التقدير : بئس الشيء ، والمخصوص بالذم على هذا محذوف ، أي شيء اشتروا به أنفسهم.
وعزى هذا القول ، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة ، إلى الكسائي.
وقال الفراء والكسائي ، فيما نقل عنهما : أن ما موصولة بمعنى الذي ، واشتروا : صلة ، وبذلك قال الفارسي ، في أحد قوليه ، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال : فالتقدير على هذا القول : بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، كقولك : بئس الرجل زيد ، وما في هذا القول موصولة.
انتهى كلامه ، وهو وهم على سيبويه.
وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع ، على أن تكون مصدرية ، التقدير : بئس اشتراؤهم.
قال ابن عطية : وهذا معترض ، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير.
انتهى كلامه.
وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أنه مرفوع ببئس ، أما إذا جعله المخصوص بالذم ، وجعل فاعل بئس مضمراً والتمييز محذوفاً ، لفهم المعنى.
التقدير : بئس اشتراء اشتراؤهم ، فلا يلزم الاعتراض ، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما ، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف على مذهب الجمهور ، إذ الأخفش يزعم أنها اسم.
والكلام على هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في علم النحو.
اشتروا هنا : بمعنى باعوا ، وتقدم أنه قال : شرى واشترى : بمعنى باع ، هذا قول الأكثرين.
وفي المنتخب إن الاشتراء هنا على بابه ، لأن المكلف ، إذا خاف على نفسه من العقاب ، أتى بأعمال يظن أنها تخلصه ، وكأنه قد اشترى نفسه بها.
فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم ، ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم ، فذمهم الله عليه.
قال : وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول ، يعني بالأول أن يكون بمعنى باع ، وهذا الذي اختاره صاحب المنتخب ، يرد عليه قوله تعالى : { بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } ، فدل على أن المراد ليس اشتراؤهم أنفسهم بالكفر ، ظناً منهم أنهم يخلصون من العقاب ، بل ذلك كان على سبيل البغي والحسد ، لكونه تعالى جعل ذلك في محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتضح أن قول الجمهور أولى.
{ أن يكفروا } : تقدم أن موضعه رفع ، إما ، على أن يكون مخصوصاً بالذم عند من جعل ما قبله من قوله : { بئسما اشتروا } غير تام ، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم ، إذا تأخر ، أهو مبتدأ ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلاً من الضمير في به ، فيكون في موضع خبر.
{ بما أنزل الله } : هو الكتاب الذي تقدّم ذكره ، وهو القرآن.
وفي ذلك من التفخيم إن لم يحصل مضمر ، بل أظهر موصولاً بالفعل الذي هو أنزل المشعر بأنه من العالم العلوي ، ونسب إسناده إلى الله ، ليحصل التوافق من حيث المعنى بين قوله : { كتاب من عند الله } وبين قوله : { بما أنزل الله }.
ويحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل ، إذ كفروا بعيسى وبمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، والكفر بهما كفر بالتوراة.
ويحتمل أن يراد الجميع من قرآن وإنجيل وتوراة ، لأن الكفر ببعضها كفر بكلها.
{ بغياً } : أي حسداً ، إذ لم يكن من بني إسرائيل ، قاله قتادة وأبو العالية والسدّي.
وقيل : معناه ظلماً ، وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا ، أي كفرهم لأجل البغي.
وقال الزمخشري : هو علة اشتروا ، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا.
وقيل : هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله ، والتقدير : بغوا بغياً ، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.
{ أن ينزّل الله } : أن : مع الفعل بتأويل المصدر ، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله ، أي بغوا لتنزيل الله.
وقيل : التقدير بغياً على أن ينزّل الله لأن معناه حسداً على أن ينزّل الله ، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي ، فحذفت على ، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن ، إذا حذف حرف الجر منهما ، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟ وقيل : أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله : بما أنزل الله ، أي بتنزيل الله ، فيكون مثل قول الشاعر :
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص . . .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير : جميع المضارع مخففاً من أنزل ، إلا ما وقع الإجماع على تشديده ، وهو في الحجر ، { وما تنزله } ، إلا أن أبا عمرو شدد على أن ننزل آية في الأنعام ، وابن كثير شدد { وننزل من القرآن ما هو شفاء } ، و { حتى تنزل علينا كتاباً } ، وشدد الباقون المضارع حيث وقع إلا حمزة والكسائي فخففا ، { وينزِّل الغيث } ، في آخر لقمان ، { وهو الذي ينزل الغيث } في الشورى.
والهمزة والتشديد كل منهما للتعدية.
وقد ذكروا مناسبات لقراءات القراء واختياراتهم ولا تصح.
{ من فضله } : من لابتداء الغاية ، والفضل هنا الوحي والنبوة.
وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش ، فيكون في موضع المفعول ، أي أن ينزل الله فضله.
{ على من يشاء }.
على متعلقة بينزل ، والمراد بمن يشاء : محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم ، وكان من العرب ، وعز النبوة من يعقوب إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام كان في إسحاق ، فختم في عيسى ، ولم يكن من ولد إسماعيل نبي غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فختمت النبوة على غيرهم ، وعدموا العز والفضل.
و { من } هنا موصولة ، وقيل نكرة موصوفة.
و { يشاء } على القول الأول : صلة ، فلا موضع لها من الإعراب ، وصفة على القول الثاني ، فهي في موضع خفض ، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه.
{ من عباده } : جار ومجرور في موضع الحال ، تقديره كائناً من عباده ، وأضاف العباد إليه تشريفاً لهم ، كقوله تعالى : { ولا يرضى لعباده الكفر } { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }
{ فباؤا } : أي مضوا ، وتقدم معنى باؤوا.
{ بغضب على غضب } : أي مترادف متكاثر ، ويدل ذلك على تشديد الحال عليهم.
وقيل : المراد بذلك : غضبان معللان بقصتين : الغضب الأول : لعبادة العجل ، والثاني : لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس.
أو الأول : كفرهم بالإنجيل ، والثاني : كفرهم بالقرآن ، قاله قتادة.
أو الأول : كفرهم بعيسى ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن وغيره ، أو الأول : قولهم عزير ابن الله ، وقولهم يد الله مغلولة ، وغير ذلك من أنواع كفرهم ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{ وللكافرين عذاب مهين } : الألف واللام في الكافرين للعهد ، وأقام المظهر مقام المضمر إشعاراً بعلة كون العذاب المهين لهم ، إذ لو أتى ، ولهم عذاب مهين ، لم يكن في ذلك تنبيه على العلة ، أو تكون الألف واللام للعموم ، فيندرجون في الكافرين.
ووصف العذاب بالإهانة ، وهي الإذلال ، قال تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وجاء في الصحيح ، في حديث عبادة ، وقد ذكر أشياء محرّمة فقال : « فمن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له » فهذا العذاب إنما هو لتكفير السيئات ، أو لأنه يقتضي الخلود خلوداً لا ينقطع ، أو لشدته وعظمته واختلاف أنواعه ، أو لأنه جزاء على تكبرهم عن اتباع الحق.
وقد احتج الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر ، لأنه ثبت تعذيبه ، واحتج بها المرجئة على أن الفاسق لا يعذب لأنه ليس بكافر.
{ وإذا قيل لهم } : الأخبار عمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود ، وسياق الآية يدل على أن المراد آباؤهم ، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء ، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله ، وأنهم جنس واحد ، وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك ، وأنهم يتولونهم ، فهم منهم.
{ آمنوا بما أنزل الله } ، الجمهور : إنه القرآن ، وقال الزمخشري : مطلق فبما أنزل الله من كل كتاب.
{ قالوا نؤمن بما أنزل علينا } : يريدون التوراة ، وما جاءهم من الرّسالات على لسان موسى ، ومن بعده من أنبيائهم ، وحذف الفاعل هنا للعلم به ، لأنه معلوم أنه لا ينزل الكتب الإلهية إلا الله أو لجريانه في قوله : { آمنوا بما أنزل الله } ، فحذف إيجازاً إذ قد تقدم ذكره ، وذمّوا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله ، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد ، والمأمور به عام ، فلم يطابق إيمانهم الأمر.
{ ويكفرون } : جملة استؤنف بها الإخبار عنهم ، أو جملة حالية ، العامل فيها قالوا : أي وهم يكفرون.
{ بما وراءه } ، أي بما سواه ، وبه فسر { وأحل لكم ما وراء ذلكم } و { فمن ابتغى وارء ذلك } أي بما بعده ، قاله قتادة ، أي ويكفرون بما بعد التوراة ، وهو القرآن ، أو بما وراءه ، أي بباطن معانيها التي وراء ألفاظها ، ويكون إيمانهم بظاهر لفظها.
{ وهو الحق } ، هو : عائد على القرآن ، أو على القرآن والإنجيل ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضاً.
{ مصدّقاً } : حال مؤكدة ، إذ تصديق القرآن لازم لا ينتقل.
{ لما معهم } : هو التوراة ، أو التوراة والإنجيل ، لأنهما أنزلا على بني إسرائيل ، وكلاهما غير مخالف للقرآن ، وفيه رد عليهم ، لأن من لم يصدق ما وافق التوراة ، لم يصدق بها.
وإذا دل الدليل على كون ذلك منزلاً من عند الله ، وجب الإيمان به ، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض.
{ قل } : أي قل يا محمد ، وقل يا من يريد جدالهم.
{ فلم } : الفاء : جواب شرط مقدر ، التقدير : إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم { تقتلون أنبياء الله } ؟ لأن الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان ، فقولكم : إنكم آمنتم بالتوراة كذب وبهت ، لا يؤمن بالقرآن من استحل محارمه.
وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر.
ويقف البزيّ بالهاء فيقول : فلمه ، وغيره يقف : فلم بغير هاء ، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار ، أو لانقطاع النفس.
وجاء يقتلون بصورة المضارع ، والمراد الماضي ، إذ المعنى : قل فلم قتلتم ، وأوضح ذلك أن هؤلاء الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدر منهم قتل الأنبياء ، وأنه قيد بقوله { من قبل } ، فدل على تقدم القتل.
قال ابن عطية : وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر.
ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسفلاهم ، بقي لهم من قتل الأنبياء جزء ، وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريف عظيم لهم ، وأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله أن يعظم أجلّ تعظيم ، وأن ينصر ، لا أن يقتل.
{ إن كنتم مؤمنين } قيل : إن نافية أي ما كنتم مؤمنين ، لأن من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمناً ، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجامع قتل الأنبياء ، أي ما اتصف بالإيمان من هذه صفته.
قيل : والأظهر أن إن شرطية ، والجواب محذوف ، التقدير : فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد ، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابه وهو : فلم تقتلون؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه.
وقال ابن عطية : وإن كنتم : شرط ، والجواب متقدم.
ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط ، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم.
ومعنى مؤمنين : أي بما أنزل إليكم ، أو متحققين بالإيمان صادقين فيه ، أو مؤمنين بزعمكم.
وأجرى هذا القول مجرى التهكم بهم والاستهزاء ، كما تقول لمن بدا منه ما لا يناسبه : فعلت كذا وأنت عاقل ، أي بزعمك.
{ ولقد جاءكم موسى بالبينات } : أي بالآيات البينات ، وهي الواضحة المعجزة الدالة على صدقه.
وقيل : التسع ، وهي : العصا ، والسنون ، واليد ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر.
وهي المعنى بقوله : { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ، وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوّة } : تقدم تفسير هذه الجمل ، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم ، وهم كاذبون في ذلك.
ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة ، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي ، فكرر عبادة العجل تنبيهاً على عظيم جرمهم.
ولأن ذكر ذلك قبل ، أعقبه تعداد النعم بقوله : { ثم عفونا عنكم } و { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ.
ولأن في قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به ، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختياراً ، حتى ألجئوا إلى القبول اضطراراً ، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة.
ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره.
والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه ، كررته.
وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم ، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.
{ واسمعوا } أي : اقبلوا ما سمعتم ، كقوله : { سمع الله لمن حمده } ، أو { اسمعوا متدبرين لما سمعتم } ، أو { اسمعوا وأطيعوا } لأن فائدة السماع الطاعة ، قاله المفضل.
والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب.
قال الماتريدي : معنى اسمعوا : افهموا.
وقيل : اعملوا ، ووجهه أن السمع يسمع به ، ثم يتخيل ، ثم يعقل ، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملاً.
ولما كان السماع مبتدأ ، والعمل غاية ، وما بينهما وسائط ، صح أن يراد بعض الوسائط ، وصح أن يراد به الغاية.
{ قالوا } : هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم { سمعنا وعصينا } : ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان.
ويؤيده قول ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا : { سمعنا وأطعنا } ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : { سمعنا وعصينا }.
وقيل : القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا شيئاً مما أمروا به ، جعلوا كالناطقين بذلك.
وقيل : يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله ، وإن لم يكن نطق.
وقيل : المعنى سمعنا بآذاننا وعصنيا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله الزمخشري ، قال : قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك.
فإن قلت : فكيف طابق قوله جوابهم؟ قلت : طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، انتهى كلامه.
والقول الأوّل أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه.
{ وأشربوا } : عطف على قالوا سمعنا وعصينا.
فيكون معطوفاً على قالوا ، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة ، قلتم كذا وكذا وأشربتم ، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات ، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل ، أو الواو للحال ، أي وقد أشربوا والعامل قالوا ، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالاً ، والقول الأول هو الظاهر.
{ في قلوبهم } : ذكر مكان الإشراب ، كقوله : { إنما يأكلون في بطونهم } { العجل } : هو على حذف مضافين ، أي حب عبادة العجل من قولك : أشربت زيداً ماء ، والإشراب مخالطة المائع الجامد ، وتوسع فيه حتى صار في اللونين ، قالوا : وأشربت البياض حمرة ، أي خلطتها بالحمرة ، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته ، كما داخل الصبغ الثوب ، وأنشدوا :
إذا ما القلب أشرب حب شيء . . .
فلا تأمل له عند انصرافاً
وقال ابن عرفة : يقال أشرب قلبه حب كذا ، أي حل محل الشراب ومازجه.
انتهى كلامه.
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل ، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، ولهذا قال بعضهم :
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي . . .
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
وأما الطعام فقالوا : وهو مجاور لها ، غير متغلغل فيها ، ولا يصل إلى القلب منه إلا يسير ، وقال :
تغلغل حبّ عثمة في فؤادي . . .
فباديه مع الخافي يسير
وحسن حذف ذينك المضافين ، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه ، وإن كان المعنى على ما ذكرناه من الحذف.
وقيل : معنى اشربوا : أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به ، من أشربت البعير : إذا شددت حبلاً في عنقه.
وقيل : هو من الشرب حقيقة ، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم : اشربوا ، فشرب جميعهم.
فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ، وهذا قول يردّه في قوله : { في قلوبهم }.
وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن.
وبناؤه للمفعول في قوله : وأشربوا ، دليل على أن ذلك فعل بهم ، ولا يفعله إلا الله تعالى.
وقالت المعتزلة : جاء مبنياً للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته ، كما يقال : معجب برأيه ، أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجنّ دعوهم إليه ، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض ، نسب ذلك إلى المحبة ، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.
{ بكفرهم } : الظاهر أن الباء للسبب ، أي الحامل لهم على عبادة العجل هو كفرهم السابق ، قيل : ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع ، يعنون أن يكون للحال ، أي مصحوباً بكفرهم ، فيكون ذلك كفراً على كفر.
{ قل } يا محمد ، أو قل يا من يجالهم.
{ بئسما ما يأمركم به إيمانكم } : تقدم الكلام في بئس ، وفي المذاهب في ما ، فأغنى عن إعادته.
وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : بهو إيمانكم ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وهي لغة ، والضم في الأصل ، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء ، وعني بإيمانهم الذي زعموا في قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } ، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم ، كما قال أصحاب شعيب : أصلواتك تأمرك أن نترك؟ وقيل : ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم ، وهو إبليس.
وقيل : ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل ، وأضاف : الإيمان إليهم لكونه إيماناً غير صحيح ، ولذلك لم يقل الإيمان ، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله.
والمخصوص بالذمّ محذوف بعدما ، فإن كانت منصوبة ، فالتقدير : بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل ، فيكون يأمركم صفة للتمييز ، أو يكون التقدير : بئس شيئاً شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف ، أو يكون التقدير : بئس شيئاً ما يأمركم ، أي الذي يأمركم ، فيكون يأمركم به إيمانكم.
والمخصوص مقدر بعد ذلك ، أي قتل الأنبياء ، وكذا وكذا.
فيكون ما موصولة ، أو يكون التقدير : بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم ، فيكون ما تامّة.
وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب.
{ إن كنتم مؤمنين } ، قيل : إن نافية ، وقيل : شرطية.
قال الزمخشري : تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم.
انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : وقد يأتي الشرط ، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال الله عن عيسى عليه السلام : { إن كنت قلته فقد علمته } ، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله ، وكذلك { إن كنتم مؤمنين } ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه أقام حجة لقياس بين.
انتهى كلامه ، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمان عنهم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم.
وقيل تقديره : إن كنتم مؤمنين فلا تقتلوا الأنبياء ، ولا تكذبوا الرسل ، ولا تكتموا الحق.
وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى.
{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } : نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عندما قالت اليهود : إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه.
وقال أبو العالية والربيع : سبب نزول هاتين الآيتين قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } و { نحن أبناء الله } و { لن تمسنا النار } الآيات ، وروي مثله عن قتادة.
والضمير في قل ، إما للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومن غيره.
وفسروا الدار الآخرة بالجنة ، قالوا : وذلك معهود في إطلاقها على الجنة.
قال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فساداً } ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة ، { وللدار الآخرة خير للذين يتقون } والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى ، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها ، لأن الدار الآخرة هي موضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا.
وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا ، أو هي آخر ما يسكن.
وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : { وهم بالآخرة هم يوقنون } ومعنى : عند الله ، أي في حكم الله ، كقوله تعالى : { فأولئك عند الله } أي في حكمه { هم الفاسقون } وقيل : المراد بالعندية هنا : المكانة والمرتبة والشرف ، لا المكان.
ومعنى خالصة : أي مختصة بكم ، لا حظ في نعيمها لغيركم.
واختلفوا في إعراب خالصة ، فقيل : نصب على الحال ، ولم يحك الزمخشري غيره ، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت ، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور ، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر ، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده.
وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية ، إذ قالا : ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال ، وعند الله خبر كان.
وقيل : انتصاب خالصة على أنه خبر كان ، فيجوز في لكم أن يتعلق بكانت ، لأن كان يتعلق بها حرف الجر ، ويجوز أن يتعلق بخالصة.
ويجوز أن تكون للتبين ، فيتعلق بمحذوف تقديره : لكم ، أعني نحو قولهم : { سقياً لك } إذ تقديره : لك أدعو.
{ من دون الناس } : متعلق بخالصة ، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص ، وقطع الشركة.
تقول : هذا ولي دونك ، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب.
وفي غير هذا المكان يأتي لمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار.
والمراد بالناس : الجنس ، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله : خالصة.
وقيل : المراد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
وقيل : المراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس : قالوا ، ويطلق الناس ، ويراد به الرجل الواحد ، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة.
{ فتمنوا الموت } : أي سلوه باللسان فقط ، وإن لم يكن بالقلب ، قاله ابن عباس.
أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم ، قاله قوم.
أو فسلوه بقلوبكم على أردإ الحزبين من المؤمنين أومنهم.
وروي عن ابن عباس وغيره ، وقرأ الجمهور : فتمنوا الموت ، بضم الواو ، وهي اللغة المشهورة في مثل : اخشوا القوم.
ويجوز الكسر تشبيهاً لهذه الواو بواو : ولو استطعنا ، كما شبهوا واو لو بواو اخشوا ، فضموا ، فقالوا : لو استطعنا.
وقرأ ابن أبي إسحاق : فتمنوا الموت بالكسر ، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد ، عن أبي عمرو ، أنه قرأ : فتمنوا الموت ، بفتح الواو ، وحركها بالفتح طلباً للتخفيف ، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان.
وحكى أيضاً عن أبي عمرو : واختلاس ضمة الواو.
{ وإن كنتم صادقين } في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم.
وجواب الشرط محذوف ، أي فتمنوا الموت.
وعلق تمنيهم على شرط مفقود ، وهو كونهم صادقين ، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس ، فلا يقع التمني : والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم ، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة ، اختار أن ينتقل إليها ، وأن يخلص من المقام في دار الأكدار ، وأن يصل إلى دار القرار.
كما روي عمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، كعثمان ، وعليّ ، وعمار ، وحذيفة ، أنهم كانوا يختارون الموت ، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة.
وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم : « ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل » لما علم من فضل الشهادة.
وقال ، لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة : « يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل » وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : حبيب جاء على فاقة.
وعن عمار ، لما كان بصفين قال : غداً نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه.
وعن عليّ أنه كان يطوف بين الصفين بغلالة ، فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ لا يبالي أبوك ، أعلى الموت سقط ، أم عليه سقط الموت.
وكان عبد الله بن رواحة ينشد ، وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها . . .
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها . . .
وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير ما يدل على اختيارهما الشهادة ، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له : نقاتل عنك؟ فقال لهم : لا ، وكان له قريب من ألف عبد ، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم ، فقال : من أغمد سيفه فهو حرّ.
فصبر حتى قتل.
وأما سعيد ، فإن الموكلين به ، لما طلبه الحجاج ، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به ، قالوا : لا ندخل في إراقة دم هذا الرجل الصالح ، قالوا له : طلبك ليقتلك ، فاذهب حيث شئت ، ونحن نكون فداء.
فقال : لا والله ، إني سألت ربي الشهادة ، وقد رزقنيها ، والله لا برحت.
وروي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم : « لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي » وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات.
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه فرقاً من الله.
{ ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم } : هذا من المعجزات ، لأنه إخبار بالغيب ، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب في قوله : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } ، لا يمكن أن يتمنى الموت أبداً ، ولذلك كان حرف النفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأبيد ، فيكون قوله : أبداً ، على زعم من ادعى ذلك للتوكيد.
وأما من ادعى أنه بمعنى لا ، فيكون أبداً إذ ذاك مفيداً لاستغراق الأزمان.
ويعني بالأبد هنا : ما يستقبل من زمان أعمارهم.
وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : { ولن يتمنوه } ، وفي الجمعة { ولا يتمنونه } لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ، لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها النفي الأعظم.
انتهى كلامه.
قال المهدوي في ( كتاب التحصيل ) من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتفعت بوفاته صلى الله عليه وسلم.
ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي ، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلاً على صدقه ، ولا يبطل دلالته أن حركوا أيديهم بعد ذلك.
انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين.
قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمني الموت ، إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى كلامه.
وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بيناه.
وهل امتناعهم من تمني الموت ، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمراً وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيباً له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة؟ أقوال ثلاثة.
والظاهر أن ذلك معلل { بما قدمت أيديهم }.
والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : { أرنا الله جهرة } ، وقولهم : { اجعل لنا إلهاً } وقولهم : { فاذهب أنت وربك } واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم.
وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلاً منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله.
وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ، لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون.
ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك : تمني؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ ، ولم ينقل أيضاً أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم ، كونهم لا يصدّقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك.
وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس بتمني الموت.
وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ، لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة.
والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه.
فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت.
ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه.
وذكروا في ما من قوله : { بما قدمت } ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة.
ونسب التقديم لليد مجازاً ، والمعنى بما قدّموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر.
وكثر هذا الاستعمال في القرآن : { ذلك بما قدّمت يداك } { بما قدّمت أيديكم } { فبما كسبت أيديكم } وقيل : المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك بكتابة أيديهم.
{ والله عليم بالظالمين } : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم.
فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد.
وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدّم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم.
وإنما ذكر الظالمين ، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله ، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها ، وانفراده بذلك دون الناس.
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } : الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم.
ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين : أحدهما الضمير ، والثاني أحرص الناس.
وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدّية إلى اثنين ، كقوله تعالى : { وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين ، هو قول من وفقنا على كلامه من المفسرين.
ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب ، ويكون انتصاب أحرص على الحال ، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة ، وهو قال الفارسي.
وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور.
أما من قال بأنها محضة ، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة ، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال.
وأحرص هنا هي أفعل التفضيل ، وهي مؤولة.
بمعنى من ، وقد أضيف إلى معرفة ، فيجوز فيها الوجهان : أحدهما : أن يفرد مذكره ، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع ، ومذكر ومؤنث.
والثاني : أن يطابق ما قبلها.
فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة ، لكان أحارص الناس ، أو أحرصي الناس.
ومن الوجه الثاني قوله : أكابر مجرميها ، كلا الوجهين فصيح.
وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد.
وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد ، وليس بصحيح.
وإذا أضيفت إلى معرفة ، كهذين الموضعين ، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه ، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته ، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل ، وتأولوا ما ورد مما يشبهه ، وشذ نحو قوله :
يا رب موسى أظلمي وأظلمه . . .
يريد : أظلمنا حيث لم يضف أظلم إلى ما هو بعضه.
والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، أو على جميع اليهود ، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة.
وأتي بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدّة طلبهم للبقاء ودوام الحياة.
والناس : الألف واللام للجنس فتعم ، أو للعهد.
إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة ، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس ، أو مشركي العرب ، لأن أولئك لا يوقنون ببعث ، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا ، أو بؤسها ، ولذلك قال بعضهم :
تمتع من الدنيا فإنك فان . . .
من النشوات والنسا الحسان
وقال آخر :
إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها . . .
فما لي في شيء سوى ذاك مطمع
{ على حياة } : قدروا فيه أنه على حذف مضاف ، أي على طول حياة ، أو على حذف صفة ، أي على حياة طويلة.
ولو لم يقدر حذف لصح المعنى ، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة ، لأن من كان أحرص على مطلق حياة ، وهو تحققها بأدنى زمان ، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى ، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصاً على حياة ، ولو ساعة واحدة.
وقرأ أبي : على الحياة ، بالألف واللام.
قال الزمخشري ما معناه : قراءة التنكير أبلغ من قراءة أبي ، لأنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة. انتهى.
وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذه الصفة.
{ ومن الذين أشركوا } يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت أفعل التفضيل ، فيكون ذلك من الحمل على المعنى ، لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس.
ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف ، أي وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه.
والذين أشركوا : المجوس ، لعبادتهم النور والظلمة.
وقيل : النار ، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهة مع الله أو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث ، كما قال تعالى : { يقول أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاماً نخرة } وعلى هذه الأقوال يكون : { ومن الذين أشركوا } تخصيصاً بعد تعميم ، إذا قلنا : إن قوله أحرص الناس عام ، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود ، إذ هم أهل كتاب يرجون ثواباً ويخافون عقاباً ، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث.
وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب ، فكانوا أحب الناس في البعد منه ، لأن من توقع شراً كان أنفر الناس عنه ، فلما كانت الحياة سبباً في تباعد العقاب ، كانوا أحرص الناس عليها.
وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال ، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل ، فلا بد من ذكر من ، لأن أحرص الناس جرى على اليهود ، فلو عطفت بغير من لكان معطوفاً على الناس ، فيكون في المعنى : ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا ، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته ، لأن اليهود ليسوا من المشركين ، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا ، لا إذا قلنا : إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل ، فإنه يصح ذلك.
وأما قول من زعم أن قوله : { ومن الذين أشركوا } معطوفاً على الضمير في قوله : ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير.
فهو معنى يصح ، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة ، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة.
وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في : { ومن الذين أشركوا } لعطف مفرد على مفرد ، وأما إذا كانت لعطف الجمل ، فيكون إذ ذاك منقطعاً من الدخول تحت أفعل التفضيل ، ويكون ابتداء ، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضاً.
وتقدّم أن المعنيّ بالذين أشركوا : أهم المجوس؟ أم مشركو العرب؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول؟ وأما على أن يكون استئناف إخبار ، فقال ابن عطية : هم المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه : عش ألف سنة.
وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين.
انتهى كلامه.
قال الزمخشري : والذين أشركوا على هذا ، أي على أنه كلام مبتدأ ، مشار به إلى اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله.
انتهى كلامه.
فعلى هذا القول ، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من { يود } لو عمر ألف سنة ، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة ، ويكون الذين أشركوا من وقوع الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر ، إذ المعنى : ومنهم قوم يود أحدهم ، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف ، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها ، كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } وكقول العرب : منا ظعن ومنا أقام ، وعلى أن تكون الواو في { ومن الذين أشركوا } لعطف المفرد على المفرد ، قالوا : ويكون قوله : { يود أحدهم } جملة في موضع الحال ، أي وادًّا أحدهم ، قالوا : ويكون حالاً من الذين ، فيكون العامل أحرص المحذوف ، أو من الضمير في أشركوا ، فيكون العامل أشركوا.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب في ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادًّا أحدهم ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.
{ أحدهم } : أي واحد منهم ، وليس أحد هنا هو الذي في قولهم ما قام أحد ، لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه.
والفرق بينهما أن أحداً هذا أصوله همزة وحاء ودال ، وأصول ذلك واو وحاء ودال.
فالهمزة في أحدهم بدل من واو ، ولا يراد بقوله : { يود أحدهم } أي يود واحد منهم دون سائرهم ، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل ، أي هذا الحكم عليهم بودهم أن يعمروا ألف سنة ، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل.
فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرص واحد منهم ، وشدّة تعلق قلبه بطول الحياة ، وجدته لو عمر ألف سنة.
{ لو يعمر ألف سنة } : مفعول الودادة محذوف تقديره : يود أحدهم طول العمر.
وجواب لو محذوف تقديره : لو يعمر ألف سنة لسر بذلك ، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه ، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه.
هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان.
وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن ، فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود ، كأنه قال : يود أحدهم تعمير ألف سنة.
فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف ، وعلى القول الأول لا يكون لقوله : { لو يعمر ألف سنة } محل إعراب.
وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول ، كما ذكرنا ، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت : هو حكاية لودادتهم ، ولو في معنى التمني ، وكان القياس لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : يود أحدهم ، كقولهم : حلف بالله ليفعلنّ.
انتهى كلامه.
وفيه بعض إبهام ، وذلك أن يود فعلى قلبي ، وليس فعلاً قولياً ، ولا معناه معنى القول.
وإذا كان كذلك ، فكيف تقول هو حكاية لودادتهم؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوّز ، وذلك أن يجري يود مجرى يقول ، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية ، فكأنه قال : يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة.
ولا تحتاج لو ، إذا كانت للتمني ، إلى جملة جوابية ، لأن معناها معنى : يا ليتني أعمر ، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية.
فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال : أن تكون حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن تكون مصدرية ، وأن تكون للمتني محكية.
ومعنى ألف سنة : العمر الطويل في أبناء جنسه ، فيكون ألف سنة كناية عن الزمان الطويل ، ويحتمل أن يزيد ألف سنة حقيقة ، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة ، لأن التمني يقع على الجائز والمستحيل عادة أو عقلاً ، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكن وقوعه عادة.
{ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } : الضمير من قوله : وما هو عائد على أحدهم ، وهو اسم ما ، وبمزحزحه خبر ما ، فهو في موضع نصب ، وذلك على لغة أهل الحجاز.
وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعمير.
وجوّزوا أيضاً في هذا الوجه ، أعني : أن يكون الضمير عائداً على أحدهم ، أن يكون هو مبتدأ ، وبمزحزحه خبر.
وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، فتكون ما تميمية.
وهذا الوجه ، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية.
وأجازوا أن يكون هو ضميراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله : { لو يعمر } ، وأن يعمر بدل منه ، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ.
وقيل : هو كناية عن التعمير ، وأن يعمر بدل منه ، ولا يعود هو على شيء قبله.
والفرق بين هذا القول والذي قبله ، أن مفسر الضمير هنا هو البدل ، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر.
وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف ، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق.
فهذا يفسره ما قبله ، وذاك يفسره ما بعده.
وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن يكون هو مبهماً ، وأن يعمر موضحه.
يعني : أن يكون هو لا يعود على شيء قبله ، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر.
وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن ، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين ، وهو أن مفسر ضمير الشأن ، وهو المسمى عندهم بالمجهول ، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو : ظننته قائماً زيد ، وما هو بقائم زيد ، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم ، وبقائم في موضع الخبر ، وزيد فاعل بقائم.
وكان المعنى عندهم : ما هو يقوم زيد ، ولذلك أعربوا في : ظننته قائماً زيد ، الهاء ضمير المجهول ، وهي مفعول ظننت ، وقائماً المفعول الثاني ، وزيد فاعل بقائم.
ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر.
قال ابن عطية ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو عماد.
انتهى كلامه ، ويحتاج إلى تفسير ، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ ، فإذا قلت : ما زيد هو القائم ، جوّزوا أن تقول : ما هو القائم زيد.
فتقدير الكلام عندهم ، وما تعميره هو بمزحزحه.
ثم قدم الخبر مع العماد ، فجاء : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، أي تعميره ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطاً.
وتلخص في هذا الضمير : أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة ، أظهرها الأول.
{ والله بصير بما يعملون } : قرأ الجمهور يعملون بالياء ، على نسق الكلام السابق.
وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء ، على سبيل الالتفات والخروج من العيبة إلى الخطاب.
وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد ، وأتى هنا بصفة بصير ، وإن كان الله تعالى متنزهاً عن الجارحة ، إعلاماً بأن علمه ، بجميع الأعمال ، علم إحاطة وإدراك للخفيات.
وما : في بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي يعملونه.
وجوّزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه تعالى محيطاً بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم الله ، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور ، ووالى بعده بالرسل لتجديد دين الله وشرائعه ، وآتى عيسى الأمور الخارقة ، من إحياء الأموات ، وإبراء الأكمة والأبرص ، وإيجاد المخلوق ، ونفخ الروح فيه ، والإنباء بالمغيبات ، وغير ذلك.
وأيده بمن ينزل الوحي على يديه ، وهو جبريل عليه السلام.
ثم مع هذه المعجزات والنعم كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله ، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم ، بادروا إلى تكذيبه ، أو قتلوه ، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم ، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء ، تقوم سوق البقل بينهم ، التي هي أرذل الأسواق ، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهم باقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند الله ، وإن كانوا قبل مجيئه به يذكرون أنه يأتيهم من عند الله.
فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه ، كفروا به ، فختم الله عليهم باللعنة.
وأن سبب طردهم عن رحمة الله هو ما سبق من كفرهم ، وأن إيمانهم كان قليلاً ، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب.
ثم أخذ في ذكر ذمهم ، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات الله من المآكل والرّياسات المنقضية في الزمن اليسير ، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد ، لأن اختص الله بفضله من شاء من عباده ، فلم يرضوا بحكمه ولا باختياره ، فباءُوا بالغضب من الله ، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم.
إذ كان امتناعهم من الإيمان ، إنما هو للتكبر والحسد وعدم الرّضا بالقدر ، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة.
ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله ، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة ، وأنهم يكفروا بما سواها.
هذا والكتب المنزلة من عند الله سواء ، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضاً.
فالكفر ببعضها كفر بجميعها.
ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } ، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء ، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم ، فقد خالف قولهم فعلهم.
ثم كرر عليهم ، توبيخاً لهم ، أن موسى الذي أنزل عليه التوراة ، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها ، قد جاءهم بالأشياء الواضحة والمعجزات الخارقة ، من نجاتهم من فرعون ، وفلق البحر وغير ذلك ، ومع ذلك ، اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلهاً من أبعد الحيوان ذهناً وأبلدها ، وهو العجل المصنوع من حليهم ، المشاهد إنشاؤه وعمله ، وموسى لم يمت بعد ، وكتاب الله طري نزوله عليهم ، لم يتقادم عهده.
وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في التوراة ، وأمروا بالسمع والطاعة ، فأجابوا بالعصيان.
هذا وهم ملجئون إلى الإيمان ، أو كالملجئين ، لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتي الإنسان ما أمر به ، ويقبل ما كلف به من التكاليف.
وتأبيهم لذلك ، وعدم قبولهم ، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهم ومازجتها ، حتى لم تسمع قبولاً لشيء من الحق ، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام ، وأنشدوا :
ملأت ببعض حبك كل قلبي . . .
فإن ترد الزيادة هات قلبا
ثم ذمهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم ، ولا إيمان لهم حقيقة ، بل نسب ذلك إليهم ، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذه إلهاً من دون الله.
ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم ، لا يدخلها أحد سواهم ، فأمرهم بتمني الموت ، لأن من اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي ، يؤثر الوصول إلى ذلك ، وانقضاء ما هو فيه من الذلة والنكد.
وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبداً ، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدّمت أيديهم من الجرائم ، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة.
ثم أخبر ترشيحاً لما قبله من عدم تمنيهم الموت ، أنهم أشدّ الناس حرصاً على حياة ، حتى أنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة ، ولا يرجون ثواباً ، ولا يخافون عقاباً.
ثم ذكر أن أحدهم يودّ أن يعمر ألف سنة ، ومع ذلك فتعميره ، وإن طال ، ليس بمنجيه من عذاب الله.
ثم ختم الآيات بأن الله تعالى مطلع على قبائح أفعالهم ، ومجازيهم عليها.
وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم ، وتناقض أفعالهم وأقوالهم ، ونقص عقولهم ، وكثرة بهتهم ، أعاذنا الله من ذلك ، وسلك بنا أنهج المسالك.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
جبريل : اسم ملك علم له ، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف ، للعلمية والعجمة ، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله ، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة.
ومعنى جبر : عبد وإيل ، اسم من أسماء الله ، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي ، ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً.
وقال المهدوي : ومن قال : جبر ، مثل : عبد وإيل ، اسم من أسماء الله ، جعله بمنزلة حضرموت.
انتهى كلامه.
يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزح ، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب.
وليس ما ذكر بصحيح ، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة ، فيلزم الصرف في الثاني ، وإجراء الأول بوجوه الإعراب ، أو لا يلحظ ، فيركبه تركيب المزج.
فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف ، فكونه لم يسمع فيه الإضافة ، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج.
وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية ، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة.
قالوا : جبريل : كقنديل ، وهي لغة أهل الحجاز ، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص.
وقال ورقة بن نوفل :
وجبريل يأتيه وميكال معهما . . .
من الله وحي يشرح الصدر منزل
وقال عمران بن حطان :
والروح جبريل منهم لا كفاء له . . .
وكان جبريل عند الله مأموناً
وقال حسان :
وجبريل رسول الله فينا . . .
وروح القدس ليس له كفاء
وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة ، وبها قراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن.
قال الفراء : لا أحبها ، لأنه ليس في الكلام فعليل ، وما قاله ليس بشيء ، لأن ما أدخلته العرب في كلامها على قسمين : منه ما تلحقه بأبنية كلامها ، كلجام ، ومنه ما لا تلحقه بها ، كابريسم.
فجبريل ، بفتح الجيم ، من هذا القبيل.
وقيل : جبريل مثل شمويل ، وهو طائر.
وجبرئيل كعنتر يس ، وهي لغة : تميم ، وقيس ، وكثير من أهل نجد.
حكاها الفراء ، واختارها الزجاج وقال : هي أجود اللغات.
وقال حسان :
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة . . .
مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
وقال جرير :
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد . . .
وبجبرئيل وكذبوا ميكال
وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد ، عن أبي بكر ، عن عاصم.
ورواها الكسائي ، عن عاصم ، وكذلك.
إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة ، وهي رواية يحيى بن آدم ، عن أبي بكر ، عن عاصم.
وتروى عن يحيى بن يعمر ، وكذلك.
إلا أن اللام مشدّدة ، وهي قراءة أبان ، عن عاصم ويحيى بن يعمر.
وجبرائيل وجبراييل ، وقرأ بهما ابن عباس وعكرمة.
وجبرالُ وجبرائل بالياء والقصر ، وبها قرأ طلحة.
وجبراييل بألف بعد الراء ، بعدها ياءان ، أولاهما مكسورة ، وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضاً.
وجبرين وجبرين ، وهذه لغة أسد.
وجبرائين.
قال أبو جعفر النحاس : جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية.
إذن : به علم به ، وآذنه : أعلمه.
آذنتكم على سواء : أعلمتكم.
ثم يطلق على التمكين.
إذن لي في كذا : أي مكنني منه.
وعلى الاختيار فعلته بإذنك : أي باختيارك.
ميكائيل : الكلام فيه كالكلام في جبريل ، أعني من منع الصرف.
وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله ، أو ذهب إلى أن معنى ميكا : عبد ، وايل : اسم من أسماء الله تعالى ، وقد تصرفت فيه العرب.
قالوا : ميكال ، كمفعال ، وبها قرأ أبو عمرو وحفص ، وهي لغة الحجاز.
وقال الشاعر :
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد . . .
فيه مع النصر ميكال وجبريل
وكذلك.
إلا أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل ، وكذلك.
إلا أنه بياء بعد الهمزة ، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر ، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي.
وميكييل كميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن ، وكذلك.
إلا أنه لا ياء بعد الهمزة.
وقرىء بها : وميكاييل بياءين بعد الألف ، أولاهما مكسورة ، وبها قرأ الأعمش.
نبذ الشيء ، ينبذه نبذاً : طرحه وألقاه.
الظهر : معروف ، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس : كظهور ، وعلى فعلان : كظهران ، وهو مشتق من الظهور.
تقول : ظهر الشيء ظهوراً ، إذا بدا.
تلا يتلو : تبع.
وتلا القرآن : قرأه وتلا عليه كذب ، قاله أبو مسلم.
وقال أيضاً : تلا عنه صدف ، فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين.
سليمان : اسم أعجمي ، وامتنع من الصرف للعلمية.
والعجمة ، ونظيره من الأعجمية ، في أن في آخره ألفاً ونوناً : هامان ، وماهان ، وسامان ، وليس امتناعه من الصرف للعلمية ، وزيادة الألف والنون : كعثمان ، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف.
والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية.
السحر : مصدر سحر يسحر سحراً ، ولا يوجد مصدر لفعل يفعل على وزن فعل إلا سحر وفعل ، قاله بعض أهل العلم.
قال الجوهري : كل ما لطف ودق فهو سحر.
يقال سحره : أبدى له أمراً يدق عليه ويخفى. انتهى.
وقال :
أداء عراني من حبائك أم سحر . . .
ويقال سحره : خدعه ، ومنه قول امرىء القيس :
أرانا موضعين لأمر عيب . . .
ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نعلل ونخدع.
وسيأتي الكلام على مدلول السحر في الآية.
بابل : اسم أعجمي ، اسم أرض ، وسيأتي تعيينها.
هاروت وماروت : اسمان أعجميان ، وسيأتي الكلام على مدلولهما ، ويجمعان على : هواريت ومواريت ، ويقال : هوارته وموارته ، ومثل ذلك : طالوت وجالوت.
الفتنة : الابتلاء والاختبار.
فتن يفتن فتوناً وفتنة.
المرء : الرجل ، والأفصح فتح الميم مطلقاً ، وحكي الضم مطلقاً ، وحكي اتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول : قام المرء : بضم الميم ، ورأيت المرء : بفتح الميم ، ومررت بالمرء : بكسر الميم ، ومؤنثه المرأة.
وقد جاء جمعه بالواو والنون ، قالوا : المرؤون.
الضرر والنفع معروفان ، ويقال : ضرّ يضر ، بضم الضاد ، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره : الضرّ والضرّ والضرر ، ويقال : ضار يضير ، قال :
يقول أناس لا يضيرك نابها . . .
بلى كل ما شف النفوس يضيرها
ويقال : نفع ينفع نفعاً.
ورأيت في شرح الموجز ، الذي للرماني في النحو ، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي ، وليس بأبي على الأهوازي المقري ، أنه لا يقال منه اسم مفعول نحو منفوع ، والقياس النحوي يقتضيه.
الخلاق ، في اللغة : النصيب ، قاله الزجاج.
قال : لكنه أكثر ما يستعمل في الخير ، قال :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم . . .
إلا السرابيل من قطر وأغلال
والخلاق : القدر ، قال الشاعر :
فما لك بيت لدى الشامخات . . .
وما لك في غالب من خلاق
مثوبة : مفعلة من الثواب ، نقلت حركة الواو إلى الثاء ، ويقال مثوبة.
وكان قياسه الإعلال فتقول : مثابة ، ولكنهم صححوه كما صححوا في الأعلام مكورة ، ونظيرهما في الوزن من الصحيح : مقبره ومقبره.
{ قل من كان عدوًّا لجبريل } : أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا : جبريل عدوّنا ، واختلف في كيفية ذلك ، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، أو محاورتهم مع عمر؟ وملخص العداوة : أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب ، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه ، لأنه يأتي بالخصب والسلم ، ولكونه دافع عن بخت نصّر حين أردنا قتله ، فخرب بيت المقدس وأهلكنا ، ولكونه يطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على سرنا.
والخطاب بقوله : قل للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعمول القول : الجملة بعدو من هنا شرطية.
وقال الراغب : العداوة ، التجاوز ومنافاة الالتئام.
فبالقلب يقال العداوة ، وبالمشي يقال العدو ، وبالإخلال في العدل يقال العدوان ، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدي ، أي غرباء.
{ فإنه نزله } : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ، فلو قلت : من يكرمني؟ فزيد قائم ، لم يجز.
وقوله : { فإنه نزله على قلبك } ، ليس فيه ضمير يعود على من.
وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري ، وهو خطأ ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير ، ولمضي فعل التنزيل ، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء ، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : فعداوته لا وجه لها ، أو ما أشبه هذا التقدير.
والضمير في فإنه عائد على جبريل ، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه.
ألا ترى إلى قوله : { مصدّقاً لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين } ؟ وهذه كلها من صفات القرآن.
ولقوله : { بإذن الله } ، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله.
وقيل : الضمير في فإنه عائد على الله ، وفي نزله عائد على جبريل ، التقدير : فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك.
وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى.
لكن التقدير الأول أولى ، لما ذكرناه ، وليكون موافقاً لقوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ : نزل بالتشديد ، والروح بالنصب.
ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدواً لجبريل ، فعداوته لا وجه لها ، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب ، والهادي والمبشر ، كمن آمن.
ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر ، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله ، أو من كان عدوًّا لجبريل ، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم ، والملزم لهم اتباعك ، وهم لا يريدون ذلك ، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك ، ومن أخذ العهود عليهم فيها ، بأن يتبعوك.
والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة ، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد ، فقد آذيته وأسأت إليه.
{ على قلبك } : أتى بلفظ على ، لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه.
وكانت أبلع من إلى ، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء.
وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه.
وخص القلب ، ولم يأت عليك ، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد.
وفي الحديث : « إن في الجسد مضغة » ثم قال أخيراً : « ألا وهي القلب » أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة.
وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهراً ، لأن قوله : { من كان عدواً لجبريل } ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد قال الله من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك.
وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : ما تكلمت به من قولي : { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } ، وكلامه فيه تثبيج.
وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق :
ألم تر أني يوم جوّ سويقة . . .
دعوت فنادتني هنيدة ماليا
فأحرز المعنى ، ونكب عن نداء هنيدة مالك.
انتهى كلامه ، وهو تخريج حسن ، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ : قل ، لا لقول : مضمر ، وهو ظاهر الكلام { بإذن الله } : أي بأمر الله ، اختاره في المنتخب ومنه : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقد صرح بذلك في : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، قاله ابن عطية؛ أو باختياره ، قاله الماوردي ، أو بتيسيره وتسهيله ، قاله الزمخشري.
{ مصدّقاً لما بين يديه } : انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في نزله ، إن كان يعود على القرآن ، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، لأن المعنى : فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً.
والثاني : أن يكون حالاً من جبريل.
وما : في لما موصولة ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله ، أو التوراة والإنجيل.
والهاء : في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن ، ويحتمل أن تعود على جبريل.
فالمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل والكتب.
{ وهدى وبشرى } : معطوفان على مصدّقاً ، فهما حالان ، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال : وهادياً ومبشراً ، أو من باب المبالغة ، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى ، جعل نفس الهدى والبشرى.
والألف في بشرى للتأنيث ، كهي في رجعى ، وهو مصدر.
وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله : { وبشر الذين آمنوا } في أوائل هذه السورة ، والمعنى : أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية ، وأنه هدى ، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح ، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى.
فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال ، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيباً وجودياً.
فالأول : كونه مصدّقاً للكتب ، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد.
والثاني : أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق.
والثالث : أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية.
وقال الراغب : وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة.
{ للمؤمنين } : خص الهدى والبشرى بالمؤمنين ، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى ، كما قال : { وهو عليهم عمى } ولأن المؤمنين هم المبشرون ، { فبشر عبادي } { يبشرهم ربهم برحمة منه } ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره ، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة.
ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، قالوا : وهذه الآية تعلقت بها الباطنية ، وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول.
وردّ عليهم : بأنه معجزة ظاهرة بنظمه ، وأن الله سماه وحياً وكتاباً وعربياً ، وأن جبريل نزل به ، والملهم لا يحتاج إلى جبريل.
{ من كان عدوًّا لله } : العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة ، وعداوة العبد لله تعالى مجاز ، ومعناها : مخالفة الأمر ، وعداوة الله للعبد ، مجازاته على مخالفته.
{ وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين }.
أكد بقوله : وملائكته ، أمر جبريل ، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة ، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب ، فرد عليهم في الآية السابقة ، بأنه أتى بأصل الخيور كلها ، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة ، من موافقته لكتبهم ، وكونه هدى وبشرى ، فكانت تجب محبته.
وردّ عليهم في هذه الآية ، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجاً تحت عموم ملائكته ، ثم ثانياً تحت عموم رسله ، لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم ، ثم ثالثاً بالتنصيص على ذكره مجرداً مع من يدّعون أنهم يحبونه ، وهو ميكال ، فصار مذكوراً في هذه الآية ثلاث مرار ، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم ، وتنويه بجبريل.
ودلت الآية على أن الله تعالى عدوّ لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال.
ولا يدل ذلك على أن المراد من جمع عداوة الجميع ، فالله تعالى عدوّه ، وإنما المعنى أن من عادى واحداً ممن ذكر ، فالله عدوه ، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع.
وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولاً أو ملكاً فقد كفر.
فقال بعض الناس : الواو هنا بمعنى أو ، وليست للجمع.
وقال بعضهم : الواو للتفصيل ، ولا يراد أيضاً أن يكون عدواً لجميع الملائكة ، ولا لجميع الرسل ، بل هذ من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع ، كقولك : إن كلمت الرجال فأنت طالق ، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال ، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع ، وإنما علق بالجنس ، وإن كان بصورة الجمع ، فلو كلمت رجلاً واحداً طلقت ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل.
فالمعنى أن من عادى الله ، أو ملكاً من ملائكته ، أو رسولاً من رسله ، فالله عدوّ له.
وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله ، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده ، كقوله تعالى : { فأَن لله خمسهُ } وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفاً لهما وتفضيلاً.
وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير ، قدس الله روحه ، أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد ، وهو أن يكون الشيء مندرجاً تحت عموم ، ثم تفرده بالذكر ، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام.
فجبريل وميكال جعلاً كأنهما من جنس آخر ، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس ، فعطف.
وهذا النوع من العطف ، أعني عطف الخاص على العام ، على سبيل التفضيل ، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو ، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف.
وقيل : خصا بالذكر ، لأن اليهود ذكرهما ، ونزلت الآية بسببهما.
فلو لم يذكرا ، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا : لم نعاد الله؟ ولا جميع ملائكته؟ وقيل : خصاً بالذكر دفعاً لإشكال : أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة ، لا واحد منهم.
فكأنه قيل : أو واحد منهم.
وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن ، فابتدىء بذكر الله ، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل ، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم.
فهذا ترتيب بحسب الوحي.
ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم ، لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط ، لا بالنسبة إلى التفضيل.
ويأتي قول الزمخشري : بأن الملائكة أشرف من الأنبياء ، إن شاء الله ، قالوا : واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة.
وقالوا : جبريل أفضل من ميكال ، لأنه قدم في الذكر ، ولأنه ينزل بالوحي والعلم ، وهو مادة الأرواح.
وميكال ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح ، انتهى.
ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح ، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل ، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي.
ومن : في قوله : { من كان عدوًّا } شرطية.
واختلف في الجواب فقيل : هو محذوف ، تقديره : فهو كافر ، وحذف لدلالة المعنى عليه.
وقيل الجواب : { فإن الله عدوّ للكافرين } ، وأتى باسم الله ظاهراً ، ولم يأت بأنه عدوّ لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى ، أو عائد على أقرب مذكور ، وهو ميكال ، فأظهر الاسم لزوال اللبس ، أو للتعظيم والتفخيم ، لأن العرب إذا فخمت شيئاً كررته بالاسم الذي تقدم له منه : { لينصرنه الله } { إن الله لقوي عزيز } وقول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيئا . . .
وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط ، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط.
والرابط هنا الاسم الظاهر وهو : الكافرين ، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي ، ولينص على علة العداوة ، وهي الكفر ، إذ من عادى من تقدّم ذكره ، أو واحداً منهم ، فهو كافر.
أو يراد بالكافرين العموم ، فيكون الرابط العموم ، إذ الكفر يكون بأنواع ، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم ، فيحصل الربط بذلك.
وقال الزمخشري : عدوّ للكافرين ، أراد عدوّ لهم ، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر.
وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً ، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف.
والمعنى : من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب.
انتهى كلامه.
وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم.
ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير ، وأنه لم يلحظ فيه العموم ، وقال ابن عطية : وجاءت العبارة بعموم الكافرين ، لأن عود الضمير على من يشكل ، سواء أفردته أو جمعته ، ولو لم يبال بالإشكال.
وقلنا : المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم.
ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن ، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل.
وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوباً لبعض اليهود في قوله : ذلك عدوّنا ، يعني جبريل ، فنزلت على لسان عمر.
قال ابن عطية : وهذا الخبر ضعيف.
{ ولقد أنزلنا آيات بينات } : سبب نزولها ، فيما ذكر الطبراني ، أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما جئت بآية بينة ، فنزلت.
وقال الزمخشري : قال ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها ، فنزلت انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه لما ذكر تعالى جملاً من قبائح اليهود وذمهم على ذلك ، وكان فيما ذكر من ذلك معاداتهم لجبريل ، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل ، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه السلام أنزل عليه آيات بينات ، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق ، وذلك لوضوحها.
والآيات البينات ، أي القرآن ، أو المعجزات المقرونة بالتحدّي ، أو الإخبار عما خفي وأخفي في الكتب السالفة ، أو الشرائع ، أو الفرائض ، أو مجموع كل ما تقدّم ، أقوال خمسة.
والظاهر مطلق ما يدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها ، وعبر عن وصولها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنزال ، لأن ذلك كان من علوّ إلى ما دونه.
{ وما يكفر بها إلا الفاسقون } : المراد بالفاسقين هنا : الكافرون ، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد ، فليس من باب فسق الأفعال.
وقال الحسن : إذا استعمل الفسق في شيء من المعاصي ، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى.
وناسب قوله : بينات لفظ الكفر ، وهو التغطية ، لأن البين لا يقع فيه إلباس ، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين ، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين.
وستر الواضح لا يقع إلا من متمرد في فسقه ، والألف واللام في الفاسقون ، إما للجنس ، وإما للعهد ، لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود.
وكنى بالفسق هنا عن الكفر ، لأن الفسق : خروج الإنسان عما حدّ له.
وقد تقدّم قول الحسن أنه يدل على أعظم ما يطلق عليه ، فكأنه قيل : وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره ، المنتهي فيه إلى أقصى غاية.
وإلا الفاسقون : استثناء مفرغ ، إذ تقديره : وما يكفر بها أحد ، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد.
ثم استثنى الفساق من أحد ، وأنهم يكفرون بها.
ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء ، فأجاز : ما قام إلا زيداً ، على مراعاة ذلك المحذوف ، إذ لو كان لم يحذف ، لجاز النصب ، ولا يجيز ذلك البصريون.
{ أوَ كلما عاهدوا عهداً } : نزلت في مالك بن الصيف ، قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا ميثاق.
وقيل في اليهود : عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب ، فلما بعث كفروا به.
وقال عطاء : هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها ، كفعل قريظة والنضير.
قال تعالى : { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون } وقرأ الجمهور : أو كلما ، بفتح الواو.
واختلف في هذه الواو فقيل : هي زائدة ، قاله الأخفش.
وقيل : هي أو الساكنة الواو ، وحركت بالفتح ، وهي بمعنى بل ، قاله الكسائي.
وكلا القولين ضعيف.
وقيل : واو العطف ، وهو الصحيح.
وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين : أن الأصل تقديم هذه الواو ، والفاء ، وثم ، على همزة الاستفهام ، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام.
وإن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه ، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف ، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ { وكلما عاهدوا } وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة.
وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ).
والمراد بهذا الاستفهام : الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها ، فصار ذلك عادة لهم وسجية.
فينبغي أن لا يكترث بأمرهم ، وأن لا يصعب ذلك ، فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كفروا بما أنزل عليه ، لأن ما كان ديدناً للشخص وخلقاً ، لا ينبغي أن يحتفل بأمره.
وقرأ أبو السمال العدوي وغيره : أو كلما بسكون الواو ، وخرّج ذلك الزمخشري على أن يكون للعطف على الفاسقين ، وقدّره : وما يكفر بها إلا الذين فسقوا ، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة.
وخرجه المهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره ، بمنزلة أم المنقطعة ، فكأنه قال : بل كلما عاهدوا عهداً ، كقول الرجل للرجل ، لأعاقبنك ، فيقول له : أو يحسن الله رأيك ، أي بل يحسن رأيك ، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين ، إذ يكون أو عندهم بمنزلة بل.
وأنشدوا شاهداً على هذه الدعوى قول الشاعر :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى . . .
وصورتها أو أنت في العين أملح
وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله :
من بين ملجم مهره أو سافع . . .
وقوله :
صدور رماح أشرعت أو سلاسل . . .
يريد : وشافع وسلاسل.
وقد قيل في ذلك : في قوله خطيئة ، أو إثماً ، أن المعنى : وإثما فيحتمل أن تخرّج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو ، كأنه قيل : وكلما عاهدوا عهداً.
وقرأ الحسن وأبو رجاء : أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول ، وهي قراءة تخالف رسم المصحف.
وانتصاب عهداً على أنه مصدر على غيرالصدر ، أي معاهدة ، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى : أعطى ، أي أعطوا عهداً.
وقرىء : عهدوا ، فيكون عهداً مصدراً ، وقد تقدم.
ما المراد بالعهد في سبب النزول ، فأغنى عن إعادته.
{ نبذه } : طرحه ، أو نقضه ، أو ترك العمل به ، أو اعتزله ، أو رماه.
أقوال خمسة ، وهي متقاربة المعنى.
ونسبة النبذ إلى العهد مجاز ، لأن العهد معنى ، والنبذ حقيقة ، إنما هو في المتجسدات :
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } { إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } فنبذ خاتمه ، فنبذ الناس خواتيمهم ، { لنبذ بالعراء } { فريق منهم } : الفريق اسم جنس لا واحد له ، يقع على القليل والكثير.
وقرأ عبد الله : نقضه فريق منهم ، وهي قراءة تخالف سواد المصحف ، فالأولى حملها على التفسير.
{ بل أكثرهم لا يؤمنون } : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، وهو الظاهر ، فيكون أكثرهم مبتدأ ، ولا يؤمنون خبر عنه ، والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه الضمير في عاهدوا ، وهم اليهود.
ومعنى هذا الإضراب هو : انتقال من خبر إلى خبر ، ويكون الأكثر على هذا واقعاً على ما يقع عليه الفريق ، كأنه أعم ، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن ، فكأنه قال : بل الفريق الذي نبذ العهد ، وغير ذلك الفريق ، محكوم عليه بأنه لا يؤمن.
وقيل : يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات ، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق ، أي نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم ، يكون قوله : لا يؤمنون ، جملة حالية ، العامل فيها نبذه ، وصاحب الحال هو أكثرهم.
ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير ، وأسند النبذ إليه ، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلاً ، فبين أن النابذين هم الأكثر ، وصار ذكر الأكثر دليلاً على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم ، فكان هذا إضراباً عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل.
والضمير في أكثرهم عائد على الفريق ، أو على جميع بني إسرائيل.
وعلى كلا الاحتمالين ، ذكر الأكثر محكوماً عليه بالنبذ ، أو بعدم الإيمان ، لأن بعضهم آمن ، ومن آمن فما نبذ العهد.
وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله ، أو نقض عهد الله الذي أخذه على عباده في كتبه ، فهو كافر.
{ ولما جاءهم رسول } : الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل ، أو على علمائهم ، والرسول ، محمد صلى الله عليه وسلم ، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، أو معناه الرسالة ، فيكون مصدراً ، كما فسروا بذلك قوله :
لقد كذب الواشون ما بحت عنده . . .
بليلي ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة ، أقوال ثلاثة.
والظاهر الأول ، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ألا ترى إلى قوله : { قل } قل ، و { فإنه نزله على قلبك } ، { ولقد أنزلنا إليك } ، فصار ذلك كالالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى اسم غائب ، ووصف بقوله : { من عند الله مصدّق } : تفخيماً لشأنه ، إذ الرسول على قدر المرسل.
ثم وصف أيضاً بكونه مصدّقاً لما معهم ، قالوا : وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة ، أو تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو تصديقه : إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله ، وأنه المنزل على موسى ، أو تصديقه : إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة ، أقوال أربعة.
وإذا فسر بعيسى ، فتصديقه هو بالتوراة ، وإذا فسر بالرسالة ، فنسبة المجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز.
وقرأ ابن أبي عبلة : مصدّقاً بالنصب على الحال ، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله : { من عند الله } { لما معهم } : هو التوراة.
وقيل : جميع ما أنزل إليهم من الكتب ، كزبور داود ، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها.
{ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة ، وهو مفعول ثانٍ لأتوا ، على مذهب الجمهور ، ومفعول أول على مذهب السهيلي.
وقد تقدّم القول في ذلك.
{ كتاب الله } : هو مفعول بنبذ.
فقيل : كتاب الله هو التوراة.
ومعنى نبذهم له : اطراح أحكامه ، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ الكفر ببعض ، كفر بالجميع.
وقيل : الإنجيل ، ونبذهم له : اطراحه بالكلية.
وقيل : القرآن ، وهذا أظهر ، إذ الكلام مع الرسول.
فصار المعنى : أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة ، وهم بالعكس ، يكذبون ما جاء به من القرآن ويطرحونه.
وأضاف الكتاب إلى الله تعظيماً له ، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق ، فصار ذلك غاية في ذمهم ، إذ جاءهم من عند الله بكتابه الصدّق لكتابهم ، وهو شاهد بالرسول والكتاب ، فنبذوه { وراء ظهورهم } ، وهذا مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة.
تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق :
تميم بن مرّ لا تكونن حاجتي . . .
بظهر ولا يعيا عليك جوابها
وقالت العرب ذلك ، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه ، ومنه : { واتخذتموه وراءكم ظهرياً } وقال في المنتخب : النبذ والطرح والإلقاء متقاربة ، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس ، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين.
{ كأنهم لا يعلمون } : جملة حالية ، وصاحب الحال فريق ، والعامل في الحال نبذ ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل ، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يعتد به ، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة.
ومتعلق العلم محذوف ، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه ، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد.
وقال الشعبي : هو بين أيديهم يقرأونه ، ولكنهم نبذوا العمل به.
وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير ، وحلوه بالذهب ، ولم يحلوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه.
انتهى كلامه.
وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة.
وقال الماوردي : كأنهم لا يعلمون ما أمروا به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق.
وقيل : معناه كأنهم لا يعلمون أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله ، وأن كل واحد منها حق ، والعمل به واجب.
{ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } ، معنى اتبعوا : أي اقتدوا به إماماً ، أو فضلوا ، لأن من اتبع شيئاً فضله ، أو قصد واو الضمير في واتبعوا لليهود ، فقال ابن زيد والسدّي : يعود على من كان في عهد سليمان.
وقال ابن عباس : في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : يعود على جميع اليهود.
والجملة من قوله : واتبعوا ، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله : ولما جاءهم إلى آخرها ، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع ، وهذا هو الظاهر ، لا أنها معطوفة على قوله : نبذه فريق منهم ، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول ، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول ، بخلاف نبذ كتاب الله ، فإنه مترتب على مجيء الرسول.
وتتلو : تتبع ، قاله ابن عباس ، أو تدعي ، أو تقرأ ، أو تحدث ، قاله عطاء ، أو تروي ، قاله يمان ، أو تعمل ، أو تكذب ، قاله أبو مسلم.
وهي أقوال متقاربة.
وما موصولة ، صلتها تتلو ، وهو مضارع في معنى الماضي ، أي ما تلت.
وقال الكوفيون : المعنى : ما كانت تتلو ، لا يريدون أن صلة ما محذوفة ، وهي كانت وتتلو ، في موضع الخبر ، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي ، كما أنك إذا قلت : كان زيد يقوم ، هو إخبار بقيام زيد ، وهو ماض لدلالة كان عليه.
والشياطين : ظاهره أنهم شياطين الجن ، لأنه إذا أطلق الشيطان ، تبادر الذهن إلى أنه من الجان.
وقيل : المراد شياطين الإنس.
وقرأ الحسن والضحاك : الشياطون ، بالرفع بالواو ، هو شاذ ، قاسه على قول العرب : بستان فلان حوله بساتون ، رواه الأصمعي.
قالوا : والصحيح أن هذا الجن فاحش.
وقال أبو البقاء : شبه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح ، وهو قريب من الغلط.
وقال السجاوندي : خطأه الخازربجي.
على ملك : متعلق بتتلو ، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله : يتلى على زيد القرآن ، وليس الملك هنا بهذا المعنى ، لأنه ليس شخصاً يتلى عليه ، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعنى في ، أي تتلو في ملك سليمان.
وقال أصحابنا : لا تكون على في معنى في ، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول ، فعديت بعلى لأن تقول : تعدى بها ، قال تعالى : { ولو تقوّل علينا } ومعنى : { على ملك سليمان } ، أي شرعه ونبوّته وحاله.
وقيل : على عهده ، وفي زمانه ، وهو قريب.
وقيل : على كرسي سليمان بعد وفاته ، لأنه كان من آلات ملكه.
وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر ، قالوا : وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول ، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف.
وقيل : الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء ، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيماً لشأن ما يتلونه ، لأن الذي كان معه : من المعجزات ، وإظهار الخوارق ، وتسخير الجن والإِنس ، وتقريب المتباعدات ، وتأليف الخواطر ، وتكليم العجماوات ، كان أمراً عظيماً.