كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
فذلكم إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة ، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة ، واعتقاد اختصاصه بالألوهية لا أصنامكم المربوبة الباطلة.
وماذا استفهام معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا ، وصحبه التقرير والتوبيخ ، كأنه قيل : ما بعد الحق إلا الضلال ، فالحق والضلال لا واسطة بينهما ، إذ هما نقيضان ، فمن يخطىء الحق وقع في الضلال.
وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً ، كأنه قيل : أي شيء.
والخبر بعد الحق ، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما ، كأنه قيل : الذي بعد الحق؟ وبعد صلة كذا.
ولما ذكر تعالى تلك الصفات ، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو الله ، وأنه مالكهم وأنه هو الحق ، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى : فأنى تصرفون ، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة ، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف.
واستنباط كون الشطرنج ضلالاً من قوله : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، لا يكاد يظهر ، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله ، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع ، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا.
وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون : إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان.
قال : لو كان كذلك ما قال : أنى تصرفون.
كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول : إني عميت.
كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب ، والإشارة بذلك قيل : إلى المصدر المفهوم من تصرفون ، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله : فسيقولون الله حق العذاب عليهم أي : جازاهم مثل أفعالهم.
وقيل : إشارة إلى الحق.
قال الزمخشري : كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك ، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقت كلمة ربك.
وقال ابن عطية : كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف ، وعبادته واجبة كما تقرر ، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم ، واكتسبوا كذلك حقت.
ومعنى فسقوا : تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه ، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي : حق عليهم انتفاء الإيمان.
ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب ، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلاً أي : لأنهم لا يؤمنون.
ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة : أنهم لا يؤمنون بالكسر ، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان : كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة.
وقرأ باقي السبعة على الافراد.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
لما استفهمهم عن أشياء من صفات الله تعالى واعترفوا بها ، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله ، استفهم عن شيء هو سبب العبادة : وهو إبداء الخلق ، وهم يسلمون ذلك.
{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك ، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله ، وأنّ ذلك لوضوحه وقيام برهانه ، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر ، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء.
وجاء الشرع بوجوبه ، فوجب اعتقاده.
ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب فقال : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها ، فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام ، وذلك تأكيد وتثبيت.
ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به ، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزءيها في قوله : فسيقولون الله ، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها.
ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية ، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية إلى الحق وإلى مناهج الصواب ، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع قال تعالى حكاية عن الكليم : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقال : { الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى } فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع ، وهما حالان للجسد والروح.
ولما كانت العقول يلحقها الاضطراب والغلط ، بيّن تعالى أنه لا يهديهما إلا هو بخلاف أصنامهم ومعبوداتهم ، فإنه ما كان منها لا روح فيه جماد لا تأثير له ، وما فيه روح فليس قادراً على الهداية ، بل الله تعالى هو الذي يهديه.
وهدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين ، وإلى الثاني بإلى وباللام.
ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول ، ولا يصح أن يكون لازماً بمعنى يهتدي ، لأن مقابله إنما هو متعد ، وهو قوله قل : الله يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق.
وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى ، وقال : لا نعرف هذا ، وأحق ليست أفعل تفضيل ، بل المعنى حقيق بأن يتبع.
ولما كانوا معتقدين أنّ شركاءهم تهدي إلى الحق ، ولا يسلمون حصر الهداية لله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبادر بالجواب فقال : قل الله يهدي للحق ، ثم عادل في السؤال بالهمزة وأم بين من هو حقيق بالاتباع ، ومن هو غير حقيق ، وجاء على الأفصح الأكثر من فصل أم مما عطفت عليه بالخبر كقوله : { أذلك خير أم جنة الخلد } بخلاف قوله : { أقريب أم بعيد ما توعدون } وسيأتي القول في ترجيح الوصل هنا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقرأ أهل المدينة : إلا ورشا أمن لا يهدي بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال ، فجمعوا بين ساكنين.
قال النحاس : لا يقدر أحد أن ينطق به.
وقال المبرد : من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة ، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة.
وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك : إلا أنه اختلس الحركة.
وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وورش ، وابن محيصن : كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وأصله يهتدي ، فقلب حركة التاء إلى الهاء ، وأدغمت التاء في الدال.
وقرأ حفص ، ويعقوب ، والأعمش عن أبي بكر كذلك ، إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطر إلى الحركة حرّك بالكسر.
قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر.
وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك ، إلا أنه كسر الياء.
ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز يهدي ، ويجيز تهدي ونهدي وأهدى قال : لأن الكسرة في الياء تثقل.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش : يهدي مضارع هدى.
قال الزمخشري : هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي ، أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره ، إلا أنْ يهديه الله.
وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه ، إلا أن يهدي ، إلا أن ينقل أولا يهتدي ، ولا يصح منه الاهتداء إلا بنقلة الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيواناً مطلقاً فيهديه انتهى.
وتقدم إنكار المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري : من أنّ هدى بمعنى اهتدى.
وقال أبو علي الفارسي : وصف الأصنام بأنها لا تهتدي إلا أن تهدى ، ونحن نجدها لا تهتدي وإن هديت.
فوجه ذلك أنه عامل في العبادة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل ، وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن.
وقال ابن عطية : والذي أقول إنّ قراءة حمزة والكسائي يحتمل أن يكون المعنى أم من لا يهدي أحداً إلا أن يهدي ذلك الأحد بهداية من عند الله ، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها أم مَن لا يهتدي إلا أن يهدي فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي ، وفيه تجوز كثير.
ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها.
وقيل : تم الكلام عند قوله : أم من لا يهدي أي لا يهدي غيره ، ثم قال : إلا أن يهدي استثناء منقطع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع.
وقيل : أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى.
ويكون استثناء متصلاً لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية ، بخلاف الأصنام.
فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي : أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ كيف تحكمون استفهام آخر أي : كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء؟ وهاتان جملتان أنكر في الأولى ، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي ، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
الظاهر أن أكثرهم على بابه ، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال :
أربّ يبول الثعلبان برأسه . . .
لقد هان من بالت عليه الثعالب
وقيل : المراد بأكثرهم جميعهم ، والمعنى : ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظناً ، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان ، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم.
والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئاً أي : من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه ، لأنه تجويز لا قطع.
وقيل : وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة ، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه.
وقرأ عبد الله : تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتاً والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن ، وتقليد الآباء.
وقيل : نزلت في رؤساء اليهود وقريش.
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
لما تقدم قولهم : { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } وكان من قولهم : إنه افتراه قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفتري أي : ما صح ، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى.
والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه ، وكونه جامعاً للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى.
والظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي : افتراء ، أي : ذا افتراء ، أو مفترى.
ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك : ما كان زيد ليفعل ، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان ، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها ، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ.
والصحيح أنهما لا يتعاقبان ، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك.
وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ يفتري خبراً لكان ، بل الخبر محذوف.
وأن يفترى معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام ، ووقعت لكنْ هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما : الكذب والتصديق المتضمن الصدق ، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدّقاً لما معكم.
وعن الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة ، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل ، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها ، ولا هي في بلده ولا قومه ، لا بتصديق الاشراط ، لأنهم لم يشاهدوا شيئاً منها.
وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع.
وقرأ الجمهور : تصديق وتفصيل بالنصب ، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي : ولكن كان تصديق أي مصدقاً ومفصلاً.
وقيل : انتصب مفعولاً من أجله ، والعامل محذوف ، والتقدير : ولكن أنزل للتصديق.
وقيل : انتصب على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف.
وقرأ عيسى بن عمر : تفصيل وتصديق بالرفع ، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي : ولكن هو تصديق.
كما قال الشاعر :
ولست الشاعر السفساف فيهم . . .
ولكن مده الحرب العوالي
أي ولكن أنا.
وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون ، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف.
وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف ، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل : ولكن تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب ، كائناً من رب العالمين.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه في ذلك ، فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ، ويكون لا ريب فيه اعتراضاً كما تقول : زيد لا شك فيه كريم انتهى.
فقوله : فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ، إنما يعني من جهة المعنى ، وأما من جهة الإعراب فلا يكون إلا متعلقاً بأحدهما ، ويكون من باب الأعمال وانتفاء الريب عنه على ما بيَّن في البقرة في قوله : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } وجمع بينه وبين قوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا }
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى ، بل جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب وبياناً لما فيها ، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه ، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في البقرة في قوله : { وإن كنتم في ريب } الآية.
وأم متضمنة معنى بل ، والهمزة على مذهب سيبويه أي : بل أيقولون اختلقه.
والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم ، أو إنكار لقولهم واستبعاد.
وقالت فرقة : أم هذه بمنزلة همزة الاستفهام.
وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ومجازه ، ويقولون افتراه.
وقيل : الميم صلة ، والتقدير أيقولون.
وقيل : أم هي المعادلة للهمزة ، وحذفت الجملة قبلها والتقدير : أيقرون به أم يقولون افتراه.
وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال : قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله ، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية ، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى.
والضمير في مثله عائد على القرآن أي : بسورة مماثلة للقرآن ، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز.
وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي : بسورة كتاب أو كلام مثله أي : مثل القرآن.
وقال صاحب اللوامح : هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي : بصورة بشر مثله ، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي العامة إلى القرآن.
وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دون الله أي : من غير الله ، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله ، فلا تستعينوه وحده ، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه.
وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا : لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا ، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ، ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي به.
وقال أبو عبد الله الرازي : مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في : { قل لئن اجتمعت } الآية ، وتحد بعشر سور ، وتحدّ بسورة واحدة ، وتحد بحديث مثله في قوله : { فليأتوا بحديث مثله } وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم ، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها ، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق ، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصاً.
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
قال الزمخشري : بل كذبوا ، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم.
وقال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر ، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله : { هل ينظرون إلا تأويله } والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً ، والمعنى الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة ، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه ، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه.
وقال أبو عبد الله الرازي : يحتمل وجوهاً ، الأول : كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا { أساطير الأوّلين } ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية ، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقله أهله من عز إلى ذل ، ومن ذل إلى عز ، وبفناء الدنيا ، فيعتبر بذلك.
وأن ذلك القصص بوحي من الله ، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ.
الثاني : كلما سمعوا خروف التهجّي ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم ، وقد أجاب الله بقوله : { فيه آيات بينات } الآية.
الثالث : ظهور القرآن شيئاً فشيئاً ، فساء ظنهم وقالوا : { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه.
الرابع : القرآن مملوء من الحشر ، وكانوا ألفوا المحسوسات ، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة.
الخامس : أنه مملوء من الأمر بالعبادات ، وكانوا يقولون : إله العالم غني عن طاعتنا ، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه.
وأجاب تعالى بقوله : { إن أحسنتم أحسنتم } الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة ، فلما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله : بما لم يحيطوا بعلمه ، إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله : ولما يأتهم تأويله ، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصاً.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى التوقع في قوله تعالى : ولم يأتهم تأويله؟ ( قلت ) : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ، ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علوّ شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة ، واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً انتهى.
ويحتاج كلامه هذا إلى نظر.
وقال أيضاً : ويجوز أن يكون المعنى : ولما يأتهم تأويله ، ولما يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق؟ يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب.
فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى.
وبقيت جملة الإحاطة بلم ، وجملة إتيان التأويل بلما ، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق.
والكاف في موضع نصب أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم ، يعني : قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء عاندوا.
قال ابن عطية : قال الزجاج : كيف ، في موضع نصب على خبر كان ، لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه ، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض.
في قولك : كيف زيد؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية ، وينخلع معنى الاستفهام ، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، وانظر قول البخاري : كيف كان بدء الوحي ، فإنه لم يستقيم انتهى.
وقول الزجاج : لا يجوز أن يعمل فيه انظر ، وتعليله : يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً ، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة ، وهي من نظر القلب.
وقول ابن عطية : هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله ، ليس كما ذكر ، بل لكيف معنيان : أحدهما : الاستفهام المحض ، وهو سؤال عن الهيئة ، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل.
والثاني : الشرط.
لقول العرب : كيف تكون أكون وقوله : ولكيف تصرفات إلى آخره ، ليس كيف تحل محل المصدر ، ولا لفظ كيفية هو مصدر ، إنما ذلك نسبة إلى كيف.
وقوله : ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم : كن كيف شئت ، لا يحتمل أن يكون منها ، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية.
وأما كن كيف شئت ، فكيف ليست بمعنى كيفية ، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها.
وجوابها محذوف التقدير : كيف شئت فكن ، كما تقول : قم متى شئت ، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم ، والجواب محذوف تقديره : متى شئت فقم ، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم : إضرب زيداً إنْ أساء إليك ، التقدير : إن أساء إليك فاضربه ، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه.
وأما قول البخاري : كيف كان بدء الوحي؟ فهو استفهام محض ، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلاً سأله فقال : كيف كان بدء الوحي؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك.
والظالمين : الظاهر أنه أريد به الذين من قبلهم ، ويحتمل أن يراد به من عاد عليه ضمير بل كذبوا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة ، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر.
وقيل : هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم ، فمنهم من يؤمن به باطناً ويعلم أنه حق ولكنه كذب عناداً ، ومنهم من لا يؤمن به لا باطناً ولا ظاهراً ، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره ، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها.
وفيه تفريق كلمة الكفار ، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم ، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر.
وقيل : الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب ، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون ، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله : { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون } ومعنى لي عملي أي : جزاء عملي ولكم جزاء عملكم.
ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة ، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان.
والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة ، وضمنها الوعيد كقوله : { قل يا أيها الكافرون } السورة.
وقيل : المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم.
وقال قوم منهم ابن زيد : هي منسوخة بالقتال لأنها مكية ، وهو قول : مجاهد ، والكلبي ، ومقاتل.
وقال المحققون : ليست بمنسوخة ، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله ، وثمراتها من الثواب والعقاب ، ولم ترفع آية السيف شيئاً من هذا.
وبدأ في المأمور بقوله : لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله : أنتم بريئون مما أعمل ، لأنّ هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها ، فناسب أنْ تلي قوله : ولكم عملكم.
ولمراعاة الفواصل ، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة ، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
قال ابن عباس : نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين.
وقال ابن الأنباري : في قوم من اليهود انتهى.
وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن ، والضمير في يستمعون عائد على معنى مَن ، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله : { ومن الشياطين من يغصون له } والمعنى : من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله : أفأنت تسمع الصم أي هم ، وإن استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول ، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل ، فحري بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة ، بخلاف أنْ لو كان الأصم عاقلاً فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء.
وأعاد في قوله : ومنهم من ينظر إليك الضمير مفرداً مذكراً على لفظ من ، وهو الأكثر في لسان العرب.
والمعنى : أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم ، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه ، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة ، إذ مَن كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس ، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة ، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء ، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل ، وبين العمى وفقد البصيرة.
وقوله : أفأنت : تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يكترث بعدم قبولهم ، فإنّ الهداية إنما هي لله.
قال ابن عطية : جاء ينظر على لفظ من ، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى ، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى.
وليس كما قال ، بل يجوز أن تراعى المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع ، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً ، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو.
والمقصود من الآيتين : إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة ، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز ، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق ، فقد أيس من هداية هؤلاء.
وقال الشاعر :
وإذا خفيت على المعني فعاذر . . .
أن لا تراءى مقلة عمياء
ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء ، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئاً ، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه ، ولكن هم ظالمو أنفسهم بالكفر والتكذيب.
واحتمل هذا النفي للظلم أنْ يكون في الدنيا أي : لا يظلمهم شيئاً من مصالحهم ، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه ، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدّر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل.
وتقدم خلاف القراء في ، ولكنّ الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
قرأ الأعمش وحفص : يحشرهم بالياء راجعاً الضمير غائباً عائداً على الله ، إذ تقدّم { أنّ الله لا يظلم الناس شيئاً } ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد ، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى : كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني : فقليل لبثهم ، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة ، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب.
قال ابن عباس : رأوا أنّ طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة.
قال ابن عطية : ويوم ظرف ، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره : واذكر.
ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ، ويصح نصبه بيتعارفون ، والكاف من قوله : كأن ، يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم ، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله : كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى.
أما قوله : ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا ، ولعله أراد ما قاله الحوفي : من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى.
فيكون التقدير : ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا ، وأما قوله : والكاف من قوله كأن ، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم ، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة ، والجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة.
لا يقال : إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق ، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة ، فإنّ ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة ، تقول : مررت في يوم قدم زيد الماضي ، فتصف يوم بالمعرفة ، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا.
وأيضاً فكأن لم يلبثوا إلا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم.
وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره : كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف قبله أي قبل اليوم ، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز.
فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً ، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ ( قلت ) : أما الأولى فحال منهم أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة.
وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني : فتكون حالاً ، وإما أن تكون مبينة لقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة ، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى.
وقال الحوفي : يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، المعنى : اجتمعوا متعارفين.
ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى.
وأما قول ابن عطية : ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، فقد حكاه أبو البقاء فقال : وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله انتهى.
وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز.
وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها ، وأن يكون جملة مستأنفة ، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم.
وقال الكلبي : يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ، وهو تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، وليس تعارف شفقة وعطف ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ، كما قال تعالى : { ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم } وقيل : يعرف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطأ والكفر.
وقال الضحاك : تعارف تعاطف المؤمنين ، والكافرون لا أنساب بينهم.
وقيل : القيامة مواطن ، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون ، والظاهر أن قوله : قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة ، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه.
قال الزمخشري : هو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم.
وقال أيضاً : وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك.
قال ابن عطية : وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى.
وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، وأن يكون كقول غيره : نحشرهم قائلين قد خسر ، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولاً ليتعارفون ، وأن يكون معمولاً لنحشرهم ، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء الله.
وما كانوا مهتدين : الظاهر أنه معطوف على قوله : قد خسر ، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا : إنّ قوله قد خسر من كلامهم ، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا.
ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة الذين أي : كذبوا بلقاء الله ، وانتفت هدايتهم في الدنيا.
ويحتمل أن تكون الجملة كالتوكيل بجملة الصلة ، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد.
وقيل : وما كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة.
وقيل : للإيمان.
وقيل : في علم الله ، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به.
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
إما هي أنْ الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية ، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة.
ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى.
يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن ، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه.
قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان بما ، وأن لا يؤتى بها ، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها ، والإراءة هنا بصرية ، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين ، والكاف خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعض الذي نعدهم يعني : من العذاب في الدنيا.
وقد أراه الله تعالى أنواعاً من عذاب الكفار في الدنيا قتلاً وأسراً ونهباً للأموال وسبياً للذراري ، وضرب جزية ، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم ، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم ، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع.
والظاهر أنّ جواب الشرط هو قوله : فإلينا مرجعهم ، وكذا قاله الحوفي وابن عطية.
قال ابن عطية : ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى أي : إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم.
فثم هاهنا لترتيب الأخبار ، لا لترتيب القصص في أنفسها.
وقال الزمخشري : فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه ، فنحن نريك في الآخرة انتهى.
فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ، لأن قوله : فإلينا مرجعهم صالح أنْ يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه.
وأيضاً فقول الزمخشري : فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط ، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد.
وقرأ ابن أبي عبلة : ثم الله بفتح الثاء أي : هنالك.
ومعنى شهادة الله على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم الله معاقبهم ، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة.
ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
لما بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ، تسلية له وتطميناً لقلبه.
ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة ، بل بعث إليها رسولاً كما قال تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } وقوله : فإذا جاء رسولهم ، إما أن كون إخباراً عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا ، ويكون المعنى : أنه بعث إلى كل أمة رسولاً يدعوهم إلى دين الله وينبئهم على توحيده ، فلما جاءهم بالبينات كذبوه ، فقضى بينهم أي : بين الرسول وأمته ، فأنجى الرسول وعذب المكذبون.
وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي : فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم ، أي : بين الأمة بالعدل ، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، فهذا هو القضاء بينهم قاله : مجاهد وغيره.
ويكون كقوله تعالى : { وجيء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم }
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
الضمير في ويقولون ، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الشحر ، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد ، أو على سبيل الاستخفاف ، ولذلك قالوا : إن كنتم صادقين أي : لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه.
وقولهم : هذا يشهد للقول الأول في الآية قبلها ، وأنها حكاية حال ماضية.
وأنّ معنى ذلك : فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا ، وأنّ كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت.
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة ، أمره عليه السلام أن يقول لهم : ليس ذلك إليّ ، بل ذلك إلى الله تعالى.
وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فكيف أملكه لغيري؟ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله؟ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى.
وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة أجل إلى آخر الآية في الأعراف.
وقرأ ابن سيرين : آجالهم على الجمع.
وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل ، إلا ما شاء الله أنْ أملكه وأقدر عليه.
وقال الزمخشري : هو استثناء منقطع أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب.
ولكل أمة أجل أي : إنّ عذابكم له أجل مضروب عند الله.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني ، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها مع قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع.
وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع؟ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف ، والمسألة من باب الإعمال تنازع.
أرأيت وإن أتاكم على قوله : عذابه ، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين ، وهو الذي ورد به السماع أكثر من إعمال الأول.
فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر ، لأنّ إضماره مختص بالشعر ، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك.
والمعنى : قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه ، وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل ، إذ العذاب كله مرّ المذاق موجب لنفار الطبع منه ، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم ، والتنبيه لهم أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل.
ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب أي : أي شيء شديد تستعجلون منه ، أي : ما أشدّ وأهول ما تستعجلون من العذاب.
وقال الحوفي : الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم ، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير.
وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى.
فظاهر كلام الحوفي : أن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني ، وأنها بمعنى أعلمتم ، وأن جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، وأنه استفهام معناه التقرير ، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ ( قلت ) : تعلق بأرأيتم ، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ، وجواب الشرط محذوف : وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى.
وما قدره الزمخشري غير سائغ ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول : أنت ظالم إن فعلت ، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم.
وكذلك وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير : إن شاء الله نهتد.
فالذي يسوغ أن يقدر إنْ أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان؟ انتهى.
أما تجويزه أن يكون ماذا جواباً للشرط فلا يصح ، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء ، تقول : إنْ زارنا فلان فأي رجل هو ، وإن زارنا فلان فأي يد له بذلك ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة ، والمثال الذي ذكره وهو : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ هو من تمثيله ، لا من كلام العرب.
وأما قوله : ثم تتعلق الجملة بأرأيتم ، إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط ، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني ، وأخبرني تطلب متعلقاً مفعولاً ، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني.
وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط ، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً فلا يصح أيضاً ، لما ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاء الجواب.
وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف ، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها ، فالجملة الاستفهامية معطوفة ، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط.
وأيضاً فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج إلى مفعول ، ولا تقع جملة الشرط موقعه.
وتقدم الكلام في قوله : { بياتاً } في الأعراف مدلولاً وإعراباً.
والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون ، مما بنوم وإما باشتغال بالمعاش والكسب ، وهو نظير قوله : { بغتة } لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب ، بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيىء لحلوله ، وهذا كقوله تعالى : بياتاً وهم نائمون ضحى وهم يلعبون.
ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره ، وهو بمعنى الذي ، ويستعجل صلته ، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي : شيء يستعجله من العذاب المجرمون.
ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولاً كأنه قيل : أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون.
وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ ، وخبره الجملة بعده.
وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ.
والظاهر عود الضمير في منه على العذاب ، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل.
وقيل : يعود على الله تعالى.
والمجرمون هم المخاطبون في قوله : أرأيتم إن أتاكم.
ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأنّ من حق المجرم أنْ يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ ، فكيف يستعجله؟ وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في : { أفلم يسيروا } وفي { أولم يسيروا } وتقدم الكلام على ذلك.
وخلاف الزمخشري للجماعة في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف.
وقال الطبري في قوله : أثم بضم الثاء ، أنّ معناه أهنالك قال : وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى.
وما قاله الطبري من أنّ ثم هنا ليست للعطف دعوى ، وأما قوله : إن المعنى أهنالك ، فالذي يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى ، لا أنْ ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك.
وقرأ طلحة بن مصرّف : أثم بفتح الثاء ، وهذا يناسبه تفسير الطبري أهنالك.
وقرأ الجمهور آلآن على الاستفهام بالمد ، وكذا آلآن وقد عصيت.
وقرأ طلحة والأعرج : بهمزة الاستفهام بغير مد ، وهو على إضمار القول أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به ، فالناصب لقوله : الآن هو آمنتم به ، وهو محذوف.
قيل : تقول لهم ذلك الملائكة.
وقيل : الله ، والاستفهام على طريق التوبيخ.
وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة : آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام ، بل على الخبر ، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور.
وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور ، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام ، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى.
وقد كنتم جملة حالية.
قال الزمخشري : وقد كنتم به تستعجلون يعني تكذبون ، لأن استعجالكم كان على جهة التكذيب والإنكار.
وقال ابن عطية : تستعجلون مكذبين به.
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام.
والظلم ظلم الكفر لا ظلم المعصية ، لأنّ من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخلد فيها.
وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن.
ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة ، وهل تجزون توبيخ لهم وتوضيح أنّ الجزاء هو على كسب العبد.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
أي يستخبرونك.
وأحق هو الضمير عائد على العذاب.
وقيل : على الشرع والقرآن.
وقيل : على الوعيد ، وقيل : على أمر الساعة ، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري : بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد.
وقال ابن عطية : معناه يستخبرونك ، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين : أحدهما الكاف ، والآخر في الابتداء ، والخبر فعلى ما قال : يكون يستنبئونك معلقة.
وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بعن ، تقول : استنبأت زيداً عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو ، والظاهر أنها معلقة عن المفعول الثاني.
قال ابن عطية : وقيل هي بمعنى يستعلمونك.
قال : فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة : أحدها الكاف ، والابتداء ، والخبر سد مسد المفعولين انتهى.
وليس كما ذكر ، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة ، لا يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أنْ تتعدى إلى ثلاثة ، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا.
وارتفع هو على أنه مبتدأ ، وحق خبره.
وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعل به سد مسد الخبر ، وحق ليس اسم فاعل ولا مفعول ، وإنما هو مصدر في الأصل ، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت.
وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار.
وقرأ الأعمش : الحق.
قال الزمخشري : وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل ، وذلك أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل ، أو أهو الذي سميتموه الحق؟ انتهى.
وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيباً لهم : قل إي وربي ، أي نعم وربي.
وإي تستعمل في القسم خاصة ، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة.
قال معناه الزمخشري قال : وسمعتهم يقولون في التصديق أي و ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى.
ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة.
وقال ابن عطية : هي لفظة تتقدّم القسم ، وهي بمعنى نعم ، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : أي ربي أي وربي انتهى.
وقد كان يكتفي في الجواب بقوله : إي وربي ، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله : إي وربي ، مسوقة مؤكدة بأنّ.
واللام مبالغة في التوكيد في الجواب ، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب ، وكان سؤالاً عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع.
قيل : وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه ، بل هو لاحق بكم.
واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم ، فتكون معطوفة على الجواب قبلها.
واحتمل أن تكون إخباراً ، معطوفاً على الجملة المقولة لا على جواب القسم.
وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال : ولن نعجزه هرباً ، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب : أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ، وقال الزجاج : أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة.
وظلمت صفة لنفس.
والظلم هنا الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين.
وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر.
قال الفرزدق :
ولما رأى الحجاج جرد سيفه . . .
أسر الحروري الذي كان أظهرا
وقال آخر :
فأسررت الندامة يوم نادى . . .
برد جمال غاضرة المنادي
وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : { يعلم ما يسرون ما يعلنون } ويحتمل هنا الوجهين.
أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما ناله ، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه ، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب ، وقد قالوا : ربنا غلبت علينا شقوتنا وأما إخفاء الندامة فقيل : أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم ، وهذا فيه بعد ، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة.
وأيضاً وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى ، وهو عام في الرؤساء والسفلة.
وقيل : إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم ، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخاً.
ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة ، ويبقى مبهوتاً جامداً.
وأما من قال : إن معنى قوله : وأسروا الندامة ، أخلصوا لله في تلك الندامة ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي : تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية.
والظاهر أنّ قوله : وقضى بينهم بالقسط ، جملة أخبار مستأنفة ، وليست معطوفة على ما في حيز لما ، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت.
وقال الزمخشري : بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى.
وقيل : يعود على المؤمن والكافر.
وقيل : على الرؤساء والأتباع.
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
قيل : تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أنّ النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به ، وهي لاشيء لها البتة ، لأنّ جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى ، وهو المتصرف فيها ، إذ له الملك والملك.
ويظهر أنّ مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة ، وكان ذلك جواباً كافياً لمن وفقه الله تعالى للإيمان ، كما كان جواباً للأعرابي حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم : آلله أرسلك؟ قوله عليه السلام : «اللهم نعم»فقنع منه بإخباره صلى الله عليه وسلم إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق ، كما قال هرقل : لم يكن ليدع الكذب ويكذب على الله انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته.
وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وأنّ ما سواه فهو ملكه وملكه ، وعبر عن هذا بهذه الآية ، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله : { إن في اختلاف الليل والنهار } الآية وقوله : { هو الذي جعل الشمس ضياء } فاكتفى هنا عن ذكرها.
وإذا كان جميع ما في العالم ملكه ، وملكه كان قادراً على كل الممكنات ، عالماً بكل المعلومات ، غنياً عن جميع الحاجات ، منزهاً عن النقائص والآفات ، وبكونه قادراً على الممكنات كان قادراً على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة ، وقادراً على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه ، فبطل الاستهزاء والتعجيز.
وبتنزيهه عن النقائص كان منزهاً عن الخلف والكذب ، فثبت أن قوله : ألا إن لله ما في السموات والأرض مقدمة توجب الجزم بصحة قوله.
ألا إن وعد الله حق.
وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهاً للغافل ، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف ، ولذلك قال تعالى : ولكن أكثرهم لا يعلمون يعني : لغفلتهم عن هذه الدئل ، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة.
فيجب أن يكون قادراً على إحيائه مرة ثانية ، ولذلك قال : وإليه ترجعون ، فترون ما وعد به.
وقرأ الحسن بخلاف عنه ، وعيسى ابن عمر : يرجعون بالياء على الغيبة.
وقرأ الجمهور : بالتاء على الخطاب.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أحق هو؟ فالناس هم كفار قريش.
وقال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن.
قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى.
ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية.
ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم ، فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض.
وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد.
قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى.
وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة ، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطوّل في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إلى حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة.
فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره.
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : قل بفضل الله وبرحمته فقال : «بكتاب الله والإسلام» فضله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه انتهى.
ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وهلال بن يساف : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن.
وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا ، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن ، والرحمة أن جعلهم من أهله.
وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عمر : الفضل الإسلام ، والرحمة تزيينه في القلوب.
وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن ، واختاره الزجاج.
وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن ، والرحمة السنة.
وعنه أيضاً أنّ الفضل الإسلام ، والرحمة الستر.
وقال عمرو بن عثمان : فضل الله كشف الغطاء ، ورحمته الرؤية واللقاء.
وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان ، والرحمة الجنة.
وقيل : الفضل التوفيق ، والرحمة العصمة.
وقيل : الفضل نعمه الظاهرة ، والرحمة نعمه الباطنة.
وقال الصادق : الفضل المغفرة ، والرحمة التوفيق.
وقال ذون النون : الفضل الجنان ، ورحمته النجاة من النيران.
وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل ، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات ، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه.
وقال ابن عطية : وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان.
ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه ، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته ، والكافرون يقال لهم : بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أنْ لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى.
والظاهر أن قوله : قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا جملتان ، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد.
قال الزمخشري : والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما.
ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك ، فليفرحوا.
ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي : فبمجيئهما فليفرحوا انتهى.
أما إضمار فليعنتوا فلا دليل عليه ، وأما تعليقه بقوله : قد جاءتكم ، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفاً بعد قل ، ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل.
وقال الحوفي : الباء متعلقة بما دل على المعنى أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله.
وقيل : الفاء الأولى زائدة ، ويكون بذلك بدلاً مما قبله ، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة.
وقيل : كررت الفاء الثانية للتوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا ، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا ، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله : { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } لاختلاف المتعلق ، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته ، والمنهى هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر ، ولذلك جاء بعده : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } وقبله : { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم } وقوله : { لفرح فخور } جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء ، ويأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه ، وهذه صفة مذمومة ، وليس ذلك من أفعال الآخرة.
وقول من قال : إنه إذا أطلق الفرح كان مذموماً ، وإذا قيد لم يكن مذموماً كما قال : { فرحين بما آتاهم الله من فضله } ليس بمطرد ، إذ جاء مقيداً في الذم في قوله تعالى : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه ، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محموداً ، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموماً.
وقرأ عثمان بن عفان ، وأبيّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين ، وأبو جعفر المدني ، والسلمي ، وقتادة ، والجحدري ، وهلال بن يساف ، والأعمش ، وعمرو بن قائد ، والعباس بن الفضل الأنصاري : فلتفرحوا بالتاء على الخطاب ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب اللوامح : وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك ، انتهى.
وقال ابن عطية : وقرأ أبي وابن القعقاع ، وابن عامر ، والحسن : على ما زعم هارون.
ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة ، وعن أكثرهم خلاف انتهى.
والجمهور بالياء على أمر الغائب.
وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه ، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمراً للغائب ، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب.
وفي مصحف أبي : فبذلك فافرحوا ، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب.
وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة.
وفي الحديث : «لتأخذوا مصافكم» وقرأ أبو التياح والحسن : فليفرحوا بكسر اللام ، ويدل على أنّ ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحداً في قوله : هو خير مما يجمعون ، فالذي ينبغي أنّ قوله تعالى : بفضل الله وبرحمته ، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد ، ولذلك أشير إليه بذلك ، وعاد الضمير عليه مفرداً.
وقوله : مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم ، بيّن فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحْي.
وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني.
وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولاً أولا لأرأيتم ، والعائد عليها محذوف ، والمفعول الثاني قوله : آلله أذن لكم ، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره : آلله أذن لكم فيه ، وكرر قلْ قبل الخبر على سبيل التوكيد.
وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله : الحوفي والزمخشري.
وقيل : ما استفهامية مبتدأة ، والضمير من الخبر محذوف تقديره : آلله أذن لكم فيه أو به ، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد.
وجعل ما موصولة هو الوجه ، لأن فيه إبقاء.
أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه ، بخلاف جعلها استفهامية ، فإنْ أرأيت إذ ذاك تكون معلقة ، ويكون ما قد سدّت مسد المفعولين ، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى : أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه؟ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى بل ، أتفترون على الله تقريراً للافتراء انتهى ، وأنزل هنا قيل معناه : خلق كقوله : { وأنزلنا الحديد } { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وقيل : أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي : من سبب رزق وهو المطر.
وقال ابن عطية : أنزل لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل ، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراماً وحلالاً.
قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
وقال الضحاك : هو إشارة إلى قوله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً }
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن ، والمعنى : أي شي ظن المفترين يوم القيامة ، أبهم الأمر على سبيل التهديد ، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة.
ويوم منصوب بظن ، ومعمول الظن قيل : تقدير ما ظنهم أّن الله فاعل بهم ، أينجيهم أم يعذبهم.
وقرأ عيسى بن عمر : ما ظن جعله فعلاً ماضياً أي أي ظن الذين يفترون ، فما في موضع نصب على المصدر ، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول : ما تضرب زيداً تريد أي : ضرب تضرب زيداً.
وقال الشاعر :
ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما . . .
لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا
وجيء بلفظ ظنّ ماضياً لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان ، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن ، لكونه عاملاً في يوم القيامة.
وهو ظرف مستقبل ، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم ، فأرسل إليهم الرسل ، وفصل لهم الحلال والحرام ، وأكثرهم لا يشكر هذه النعمة.
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ، ومحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، وذكر فضله تعالى على الناس وأن أكثرهم لا يشكره على فضله ، ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم ، وتلاوة القرآن عليهم ، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم ، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى ، ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن.
والخطاب في قوله تعالى : وما تكون في شأن ، وما تتلوا للرسول صلى الله عليه وسلم وهو عام بجميع شؤونه عليه السلام.
وما تتلوا مندرج تحت عموم شأن ، واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن.
وما في الجملتين نافية ، والضمير في منه عائد على شأن ، ومن قرآن تفسير للضمير ، وخص من العموم لأنّ القرآن هو أعظم شؤونه عليه السلام.
وقيل : يعود على التنزيل ، وفسر بالقرآن لأنّ كل جزء منه قرآن ، وأضمر قبل الذكر على سبيل التفخيم له.
وقيل : يعود على الله تعالى أي : وما تتلوا من عند الله من قرآن.
والخطاب في قوله : ولا تعملون عام ، وكذا إلا كنا عليكم شهوداً.
وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد ، لأنه قد تقدم الأفعل.
والجملة بعد إلا حال وشهوداً رقباء نحصي عليكم ، وإذ معمولة لقوله : شهوداً.
ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً ، وكان المعنى : وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه.
وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي ، ولما كان قوله : إلا كنا عليكم شهوداً فيه تحذير وتنبيه عدل عن خطابه صلى الله عليه وسلم إلى خطاب أمته بقوله : ولا تعملون من عمل ، وإن كان الله شهيداً على أعمال الخلق كلهم.
وتفيضون : تخوضون ، أو تنشرون ، أو تدفعون ، أو تنهضون ، أو تأخذون ، أو تنقلون ، أو تتكلمون ، أو تسعون ، أقوال متقاربة ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله : وما يعزب عن ربك ، تشريفاً له وتعظيماً.
ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض الذي هي محل المخاطبين على السماء ، بخلاف ما في سورة سبأ ، وإن كان الأكثر تقديمها على الأرض.
وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وابن مصرف ، والكسائي ، يعزب بكسر الزاي ، وكذا في سبأ.
والمثقال اسم لا صفة ، ومعناه هنا وزن ذرة.
والذر صغار النمل ، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثالاً لأقل الأشياء وأحقرها ، إذ هي أحقر ما نشاهد.
ثم قال : ولا أصغر من ذلك أي : من مثقال ذرة.
ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها ، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ، ثم أتى بقوله : ولا أكبر ، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء.
ومعلوم أنّ من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقاً بأكبر الأشياء وأظهرها.
وقرأ الجمهور : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ.
وقرأ حمزة وحده : برفع الراء فيهما ، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب ، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء.
وقال الزمخشري تابعاً لاختيار الزجاج : والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ، يكون كلاماً مبتدأ.
وفي العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحاً في موضع الجر أشكال ، لأنّ قولك : لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى.
وإنما أشكل عنده ، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب ، وهذا كلام لا يصح.
وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره : لكن هو في كتاب مبين ، ويزول بهذا التقدير الإشكال.
وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب بعض المحققين من وجهين : أحدهما : أنّ الاستثناء منقطع ، والآخر أنّ العزوب عبارة عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض ، وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلية والمملوكية عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فالمعنى : لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ، كتبه الله ، وأثبت صور تلك المعلومات فيها انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وقال الجرجاني صاحب النظم : إلا بمعنى الواو أي : وهو في كتاب مبين.
والعرب تضع إلاّ موضع واو النسق كقوله : { إلا من ظلم } { إلا الذين ظلموا منهم } انتهى.
وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو ، وتقدم الكلام على قوله : { إلا الذين ظلموا منهم } وسيأتي على قوله : إلا من ظلم إن شاء الله تعالى.
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة.
وقد فسر ذلك في قوله : { الذين آمنوا وكانوا يتقون } وعن سعيد بن جبير : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولياء الله فقال : «هم الذين يذكرون الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة " وعن ابن عباس : الإخبات والسكينة.
وقيل : هم المتحابون في الله.
قال ابن عطية : وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله ، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي ، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذراً من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي انتهى.
وإنما قال : حذرا من مذهب الصوفية ، لأن بعضهم نقل عنه أنّ الولي أفضل من النبي ، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم.
ولابن العربي الطائي كلام في الولي وفي غيره نعوذ بالله منه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله» قالوا : يا رسول الله ومن هم؟ قال : «قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إنّ وجوههم لتنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ألا إن أولياء الله " الآية وتقدم تفسير لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذين يحتمل أن يكون منصوباً على الصفة قاله الزمخشري ، أو على البدل قاله ابن عطية ، أو بإضمار أمدح ، ومرفوعاً على إضمارهم ، أو على الابتداء ، والخبر لهم البشرى.
وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتاً ، أو بدلاً ، وأجيز فيه الخبر بدلاً من ضمير عليهم.
وفي قوله : وكانوا يتقون ، إشعار بمصاحبتهم للتقوى مدة حياتهم ، فحالهم في المستقبل كحالهم في الماضي.
وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن " أو «ترى له» فسرها بذلك وقد سئل.
وعنه في صحيح مسلم : " لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة " وقال قتادة والضحاك : هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة.
وقيل : هي محبة الناس له ، والذكر الحسن.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس : فقال : " تلك عاجل بشرى المؤمن " وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة.
قال تعالى : { تتنزل عليهم الملائكة } الآية قال ابن عطية : ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات ، ويقوي ذلك قوله في هذه الآية : لا تبديل لكلمات الله ، وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم :
« هي الرؤيا » إلا إن قلنا : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى مثالاً من البشرى وهي تعم جميع البشر.
وبشراهم في الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالنور والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم ، وإعطاء الصحف بأيمانهم ، وما يقرأون منها ، وغير ذلك من البشارات.
لا تبديل لكلمات الله ، لا تغيير لأقواله ، ولا خلف في مواعيده كقوله : { ما بيدّل القول لديّ } والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى التبشير والبشرى في معناه.
قال الزمخشري : وذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين.
وقال ابن عطية : إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى.
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
إما أن يكون قولهم أريد به بعض أفراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون من إطلاق العام وأريد به الخاص.
وإما أن يكون مما حذفت منه الصفة المخصصة أي : قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك ، ثم استأنف بقوله : إنّ العزة لله جميعاً أي : لا عزة لهم ولا منعة ، فهم لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك ، إن الغلبة والقهر لله ، وهو القادر على الانتقام منهم ، فلا يعازه شيء ولا يغالبه.
وكأنّ قائلاً قال : لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن؟ فقيل : إنّ العزة لله جميعاً ، ليس لهم منها شيء.
وقرأ أبو حيوة : أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولاً لقولهم : لأن ذلك لا يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ هو قول حق.
وخرجت هذه القراءة على التعليل أي : لا يقع منك حزن لما يقولون ، لأجل أنّ العزة لله جميعاً.
ووجهت أيضاً على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا يظهر هذا التوجيه.
قال الزمخشري : ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن.
وقال القاضي : فتحها شاذ يقارب الكفر ، وإذا كسرت كان استئنافاً ، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب.
وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو ، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما على أن معمولة لقولهم ، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح.
هو السميع لما يقولون ، العليم لما يريدون.
وفي هذه الآية تأمين للرسول صلى الله عليه وسلم من اضرار الكفار ، وأن الله تعالى يديله عليهم وينصره.
{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } { إنا لننصر رسلنا } وقال الأصم : كانوا يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ، فأخبر أنه قادر على أن يسلب منهم ملك الأشياء ، وأن ينصرك وينقل إليك أموالهم وديارهم انتهى.
ولا تضاد بين قوله : إن العزة لله جميعاً ، وقوله : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } لأن عزتهم إنما هي بالله ، فهي كلها لله.
{ ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون }.
المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة ، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكاً له تعالى ، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء ، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب ، وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل.
وقال الزمخشري : يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم ، لا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً فيها ، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون نداً وشريكاً.
ويدل على أنّ من اتخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلا عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر.
والظاهر أنّ ما نافية ، وشركاء مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره : آلهة أو شركاء أي : أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة ، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة ، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء.
وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع ، وشركاء منصوب بيدعون أي : وأي شيء يتبع على تحقير المتبع ، كأنه قيل : من يدعو شريكاً لله لا يتبع شيئاً.
وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من ، والعائد محذوف أي : والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي : وله شركاؤهم.
وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والذي يتبعه المشركون باطل.
وقرأ السلمي : تدعون بالتاء على الخطاب.
قال ابن عطية : وهي قراءة غير متجهة.
وقال الزمخشري : وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تدعون بالتاء ، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يبتعون الله تعالى ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون فعلهم كقوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } انتهى.
وأنّ نافية أي : ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء.
ويخرصون : يقدرون.
ومن قرأ تدعون بالتاء كان قوله : إن يتبعون التفاتاً ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
هذا تنبيه منه تعالى على عظيم قدرته وشمول نعمته لعباده ، فهو المستحق لأنْ يفرد بالعبادة لتسكنوا فيه مما تقاسون من الحركة والتردّد في طلب المعاش وغيره بالنهار ، وأضاف الإبصار إلى النهار مجازاً ، لأن الأبصار تقع فيه كما قال :
ونمت وما ليل المطيّ بنائم . . .
أي : يبصرون فيه مطالب معايشهم.
وقال قطرب : يقال أظلم الليل صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر انتهى.
وذكر علة خلق الليل وهي قوله : لتسكنوا فيه ، وحذفها من النهار ، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل ، وكل من المحذوف يدل على مقابله ، والتقدير : جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة ، ومعنى تسمعون : سماع معتبر.
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد ، ممن قال الملائكة بنات الله ، أو عزير ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، وسبحانه : تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك ، هو الغني علة لنفي الولد ، لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه ، والله تعالى غير محتاج إلى شيء ، فالولد منتف عنه ، وكل ما في السموات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد.
وأنْ نافية ، والسلطان الحجة أي : ما عندكم من حجة بهذا القول.
قال الحوفي : وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني : الذي تعلق به الظرف.
وتبعه الزمخشري فقال : الباء حقها أن تتعلق بقوله : إن عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم نور ، كأنه قيل : إنّ عندكم فيما تقولون سلطان.
وقال أبو البقاء : وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له ، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم ، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين ، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد.
ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين ، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم.
والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد ، ومن قال في الله وفي صفاته قولاً بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح ، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل : متاع قليل جواب على تقدير سؤال ، أن قائلاً قال : كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به ، فقيل : ذلك متاع في الدنيا ، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له ، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته ، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار ، ذكر قصصاً من قصص الأنبياء وما جرى هم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع ، وليعلم المتلوّ عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء ، وما منح الله نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتاباً ولا صحب عالماً ، وأنها طبق ما أخبر به.
فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به ، وأنه نبي لا شك فيه.
والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم.
وكبر معناه عظم مقامي أي : طول مقامي فيكم ، أو قيامي للوعظ.
كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً ليروه وهم قعود ، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه ، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان ، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل.
قال ابن عطية : ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى.
وليس كما ذكر ، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء.
والمقام الإقامة بالمكان ، والمقام مكان القيام.
والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فافعلوا ما شئتم.
وقيل : الجواب فعلى الله توكلت.
وفأجمعوا معطوف على الجواب ، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائماً.
وقال الأكثرون : الجواب فأجمعوا ، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله :
أما تريني قد نحلت ومن يكن . . .
غرضاً لأطراف الأسنة ينحل
فلرب أبلج مثل ثقلك بادن . . .
ضخم على ظهر الجواد مهبل
وقرأ الجمهور : فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه.
قال الشاعر :
أجمعوا أمرهم بليل فلما . . .
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال آخر :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع . . .
هل أعذرت يوماً وأمري مجمع
وقال أبو قيد السدوسي : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه.
وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعاً بعدما كان متفرقاً ، قال : وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا ، ومرة أفعل كذا ، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي : جعله جميعاً ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى ، فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه ، والأصل أجمعت الأمر انتهى.
وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي : ك وأمر شركائكم ، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف.
لأنه يقال أيضاً : أجمعت شركائي ، أو منصوباً بإضمار فعل أي : وادعوا شركاءكم ، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر ، فيكون نظير قوله :
فعلفتها تبناً وماء بارداً . . .
حتى شتت همالة عيناها
في أحد المذهبين أي : وسقيتها ماء بارداً ، وكذا هي في مصحف أبي.
وادعوا شركاءكم ، وقال أبو علي : وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا : جاء البرد والطيالسة.
ولم يذكر الزمخشري في نصب ، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع ، وينبغي أن يكون هذا التخريج على أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في اجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم ، وذلك على أشهر الاستعمالين.
لأنه يقال : أجمع الشركاء ، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا قليلاً ، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلاً.
وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولاً معه خلاف ، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى.
وقرأ الزهري ، والأعمش ، والجحدري ، وأبو رجاء ، والأعرج ، والأصمعي عن نافع ، ويعقوب : بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع ، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال : شركائي ، أو على أنه مفعول معه ، أو على حذف مضاف أي : ذوي الأمر منكم ، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف ، لو ثبت قاله أبو علي.
وفي كتاب اللوامح : أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً ، وجمعت الأموال جميعاً ، فكان الإجماع في الاحداث والجمع في الاعيان ، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر.
وفي التنزيل : { فجمع كيده } انتهى.
وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وسلام ، ويعقوب فيما روي عنه : وشركاؤكم بالرفع ، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا ، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن ، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم.
وقرأت فرقة : وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم أي : وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر :
أكل امرىء تحسبين امرءاً . . .
وتار توقد بالليل ناراً
أي وكل نار ، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه.
والمراد بالشركاء الأنداد من دون الله ، أضافهم إليهم إذ هم يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وأسند الإجماع إلى الشركاء على وجه التهكم كقوله تعالى : { قل ادعو شركاءكم ثم كيدون } أو يراد بالشركاء من كان على دينهم وطريقتهم.
قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجود كيدهم ومكرهم ، فالتقدير : لا تتركوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه انتهى.
وأمره إياهم بإجماع أمرهم دليل على عدم مبالاته بهم ثقة بما وعده ربه من كلاءته وعصمته ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي حالكم معي وصحبتكم لي غماً ، وهماً أي : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة ، وحالكم عليكم غمة.
والغم والغمة كالكرب والكربة ، قال أبو الهيثم : هو من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير.
وقال طرفة :
لعمرك ما أمري عليّ بغمة . . .
نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
وقال الليث : يقال : إنه لفي غمة من أمره إذا لم يتبين له.
وقال الزجاج : أمركم ظاهراً مكشوفاً ، وحسنه الزمخشري فقال : وقد ذكر القول الأول الذي يراد بالأمر فقال : والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول.
والغمة السترة ، من غمه إذا ستره.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا غمة في فرائض الله تعالى » أي لا تستر ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ، بل مكشوفاً مشهوراً تجاهرون به انتهى.
ومعنى اقضوا : إلي أنفذوا قضاءكم نحوي ، ومفعول اقضوا محذوف أي : اقضوا إليّ ذلك الأمر وامضوا في أنفسكم ، واقطعوا ما بيني وبينكم.
وقرأ السري بن ينعم : ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف ، أي : انتهوا إليّ بشركم من أفضى بكذا انتهى إليه.
وقيل : معناه أسرعوا.
وقيل : من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي : فاصحروا به إليّ وأبرزوه.
ومنه قول الشاعر :
أبى الضيم والنعمان تحرق نابه . . .
عليه فأفضى والسيوف معاقله
ولا تنظرون : أي لا تؤخرون ، والنظرة التأخير.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
أي : فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم ، لأنّ توليكم لا يضرني في خاصتي ، ولا قطع عني صلة منكم ، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم ، لم أسألكم عليه أجراً ، إنما يثيبني عليه الله تعالى أي : ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا.
ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر الله الطائعين له ، فكذبوه ، فتموا على تكذيبه ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان.
وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه ، أو بفنجيناه.
وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من ، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين.
ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب ، وإلى ما صار إليه حالهم.
وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب.
والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة ، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم الرسول ، وتسلية له صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
من بعده أي : من بعد نوح رسلاً إلى قومهم ، يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإبراهيم وشعيباً.
والبينات : المعجزات ، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاءوا به.
وجاء النفي مصحوباً بلام الجحود ليدل على أنّ إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع ، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل.
والمعنى : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق ، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها ، كأن لم يبعث إليهم أحد.
ومن قبل متعلق بكذبوا أي : من قبل بعثة الرسل.
وقيل : المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ، ثم لحوا في الكفر وتمادوا ، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجهم في الكفر وتماديهم.
وقال يحيى بن سلام : من قبل معناه من قبل العذاب ، وهذا القول فيه بعد.
وقيل : الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي : فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح ، يعني : أن شنشنتهم واحدة في التكذيب.
قال ابن عطية ، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو : أن تكون ما مصدرية ، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي : من سببه ومن جرائه ، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى.
والظاهر أنّ ما موصولة ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : بما كذبوا به.
ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور ، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير.
وقرأ الجمهور : نطبع بالنون ، والعباس بن الفضل بالياء ، والكاف للتشبيه أي : مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
أي : من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه ، ولا يخص قوله : وملائه بالإشراف ، بل هي عامّة لقوم فرعون شريفهم ومشروفهم.
فاستكبروا تعاظموا عن قبولها ، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها ، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترؤوا على ردّها.
والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات : إن هذا لسحر مبين ، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلاً ، ولم يقولوا إنّ هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها ، واليد وخروجها بيضاء ، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض.
وقرأ مجاهد ، وابن جبير ، والأعمش : لساحر مبين ، جعل خبر إنّ اسم فاعل لا مصدراً كقراءة الجماعة.
ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأنّ ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى : أتقولون؟ مستفهماً على جهة الإنكار والتوبيخ ، حيث جعلوا الحق سحراً ، أسحر هذا أي : مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر.
وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحراً لقوله تعالى : { ولا يفلح الساحر حيث أتى } والظاهر أن معمول أتقولون محذوف تقديره : ما تقدم ذكره وهو إنّ هذا لسحر ، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر :
لنحن الألى قلتم فإني ملتئم . . .
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
ومسألة الكتاب متى رأيت ، أو قلت زيداً منطلقاً.
وقيل : معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره ، كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ، ولا يفلح الساحرون.
كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله.
والذين قالوا : بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم : قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم ، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري : أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب ، وأنت قد علمت أنه فرس ، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم.
وقال بعضهم : قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر ، فهو يسأل أهو سحر؟ لقول بعضهم : إن هذا لسحر ، وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله : أتقولون للحق ، أتعيبونه وتطعنون فيه ، فكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، قال : من قولهم فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء ، ونحو القول الذكر في قوله : سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
لفت عنقه لوها وصرفها.
وقال الأزهري : لفت الشيء وقتله لواه ، وهذا من المقلوب انتهى.
ومطاوع لفت التفت ، وقيل : انفتل.
{ قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين.
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم.
فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون.
فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين.
ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } أجئتنا خطاب لموسى وحده ، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد.
لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة غير الله ، واتخاذ إله دونه.
والكبرياء مصدر.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وأكثر المتأولين : المراد به هنا الملك ، إذ الملوك موصوفون بالكبر ، ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصد والشرس.
وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير :
ملكه ملك رأفة ليس فيه . . .
جبروت منه ولا كبرياء
يعني ما عليه الملوك من ذلك.
وقال ابن الرقاع :
سؤدد غير فاحش لا يداني . . .
ه تحبارة ولا كبرياء
وقال الأعمش : الكبرياء العظمة.
وقال ابن زيد : العلو.
وقال الضحاك أيضاً : الطاعة ، والأرض هنا أرض مصر.
وقرأ ابن مسعود ، وإسماعيل ، والحسن فيما زعم خارجة ، وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف عنهما ، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء ، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ ، والمعنى : أنهم قالوا مقصودك في ذكره إلينا بما جئت ، هو أنْ ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك ، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك ، فنصير أتباعاً لك تاركين دين آبائنا ، وهذا مقصود لا نراه ، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه ، واستعلاؤك علينا.
فالسبب الأول هو التقليد ، والثاني الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعاً.
واقتضى هذان السببان اللذان توهموهما مقصوداً التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين.
ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إنْ ملكا أرض مصر تكبرا وتجبرا كما قال القبطي : إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض.
ولما ادعوا أنّ ما جاء به موسى هو سحر ، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ، ليظهر لسائر الناس أنّ ما أتى به موسى من باب السحر.
والمخاطب بقوله : ائتوني ، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه.
وقرأ ابن مصرف ، وابن وثاب ، وعيسى ، وحمزة ، والكسائي : بكل سحار على المبالغة.
وفي قوله : ألقوا ما أنتم ملقون ، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم.
وفي إيهام ما أنتم ملقون ، تخسيس له وتقليل ، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه.
قال أبو عبد الله الرازي : كيف أمرهم ، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟ قلنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصى ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل ، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر انتهى.
وقرأ أبو عمرو ، ومجاهد وأصحابه ، وابن القعقاع : بهمزة الاستفهام في قوله : آلسحر ممدودة ، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل ، فعلى الاستفهام قالوا : يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ ، والسحر بدل منها.
وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به ، والسحر خبر مبتدأ محذوف.
ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة ، وجملة الاستفهام خبر ، إذ التقدير : أهو السحر ، أو آلسحر هو ، فهو الرباط كما تقول : الذي جاءك أزيد هو؟ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة ، والخبر السحر ، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش : سحر.
وقراءة أبيّ ما أتيتم به سحر.
ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاءوا به ، والسحر خير مبتدأ محذوف أي : هو السحر.
قال ابن عطية : والتعريف هنا في السحر ارتب ، لأنه قد تقدم منكراً في قولهم : إن هذا لسحر ، فجاء هنا بلام العهد كما يقال : أول الرسالة سلام عليك ، وفي آخرها والسلام عليك انتهى.
وهذا أخذه من الفراء.
قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام ، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام ، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى.
وما ذكره هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ، ولا يكون غيره كما قال تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } وتقول : زارني رجل فأكرمت الرجل ، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول : فأكرمته.
والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قولهم : إن هذا لسحر ، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا ، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به ، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاؤوا به ، ولذلك لا يجوز أن يأتي هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائداً على قولهم السحر.
والظاهر أنّ الجمل بعده من كلام موسى عليه السلام.
وسيبطله يمحقه ، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة.
وقيل : هذه الجمل من كلام الله تعالى.
ومعنى بكلماته ، بقضاياه السابقة في وعده.
وقال ابن سلام : بكلماته بقوله : { لا تخف إنك انت الأعلى } وقيل بكلماته بحججه وبراهينه وقرىء بكلمته على التوحيد أي بأمره ومشيئته.
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
الظاهر في الفاء من حيث أنّ مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء.
والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى ، وأنه لا يعود على فرعون ، لأنّ موسى هو المحدث عنه في هذه الآية ، وهو أقرب مذكور.
ولأنه لو كان عائداً على فرعون لم يظهر لفظ فرعون ، وكان التركيب على خوف منه.
ومن ملإهم أن يفتنهم ، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم ، كان أولاً دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، واجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف.
وقال مجاهد والأعمش : معنى الآية أنّ قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا ، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن.
قال ابن عطية : وهذا قول غير صحيح ، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم ، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية.
وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا ، وينفيه قوله : فما آمن ، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به ، لأنه نفي الإيمان ثم أوجبه لبعضهم ، ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل ، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية : إنه القليل ، إلا أنه أراد أنّ لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكيّ وغيره.
وقالت فرقة : إنما سماهم ذرية لأنّ أمهاتهم كانت من بني إسرائيل ، وإماؤهم من القبط.
رواه عكرمة عن ابن عباس : فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء ، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن.
وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى : ابن عباس قال : وكانوا ستمائة ألف ، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين نفساً ، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف.
وقيل : الضمير في قومه يعود على فرعون ، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه.
قال ابن عباس أيضاً : والسحرة أيضاً ، فإنهم معدودون في قوم فرعون.
وقال السدي : كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون.
قال ابن عطية : ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه السلام أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد فشت فيهم السوآت ، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط ، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً ، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه وبايعوه ، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به ، فكيف تعطى هذه الآية أنّ الأقل منهم كان الذي آمن ، فالذي يترجح بحسب هذا أنّ الضمير عائد على فرعون.
ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم ، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر ، فذكر الله ذلك عنهم ثم قال : فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم.
وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا ، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى.
ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي : ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى ، فلا يدل ذلك على أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت به.
والظاهر عود الضمير في قوله : وملاهم ، على الذرية وقاله الأخفش ، واختاره الطبري أي : أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائداً على موسى ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون على أنفسهم.
ويدل عليه قوله تعالى : أن يفتنهم أي يعذبهم.
وقال ابن عباس : أن يقتلهم.
وقيل : يعود على قومه أي : وملا قوم موسى ، أو قوم فرعون.
وقيل : يعود على المضاف المحذوف تقديره : على خوف من آل فرعون ، قاله الفراء.
كما حذف في ، { واسأل القرية } ورد عليه بأنّ الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل.
وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم.
وقيل : ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وأجناد ، وكأنه قيل : على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي : ملا فرعون وقومه ، وقاله الفراء أيضاً : وقيل : لما كان ملكاً جباراً أخبر عنه بفعل الجميع.
وقيل : سميت الجماعة بفرعون مثل هود.
وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي : فتنته ، فكون في موضع جر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل ، وإما على أنه في موضع المفعول به ، أي : على خوف لأجل فتنته ، أو على خوف فتنته.
وقرأ الحسن وجراح ونبيح : يفتنهم بضم الياء من أفتن ، ولعال متجر أو باع ظالم ، أو متعال أو قاهر كما قال :
فاعمد لما تعلو فما لك بالذي . . .
لا تستطيع من الأمور يدان
أي لما تقهر أقوال متقاربة ، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب.
وقيل : كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية ، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه.
وفي الآية مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر ، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه ، وخطاب موسى عليه السلام لمن آمن بقوله : يا قوم ، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه ، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من قتل الآباء وذبح الذرية.
وقيل : قال لهم ذلك حين قالوا إنا لمدركون.
وقيل : حين قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قيل : والأول هو الصواب ، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو :
{ كلا إن معي ربي سيهدين } وقوله : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } الآية وعلق توكلهم على شرطين : متقدم ، ومتأخر.
ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدماً عليه.
فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله ، وإظهار الخضوع وترك التمرّد ، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته ، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره.
وإذا حصل هذان الشرطان فوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ، واعتمد عليه في كل الأحوال.
وأدخل أنْ على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة ، كما تقول : إن كنت رجلاً فقاتل ، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة البينة.
وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه.
وأجابوا موسى عليه السلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم ، ثم سألوا الله تعالى شيئين : أحدهما : أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين.
قال الزمخشري : أي موضع فتنة لهم ، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا ، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا.
وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم : معنى القول الآخر قال : المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أنْ هلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق.
وقالت فرقة : المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فنعذبهم على ذلك في الآخرة.
قال ابن عطية : وفي هذا التأويل قلق.
وقال ابن الكلبي : لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم.
والآخر : ينجيهم من الكافرين أي : من تسخيرهم واستعبادهم.
والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أنْ لا يفتنوا عن دينهم ، وأن يخلصوا من الكفار ، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم ، وأخروا سلامة أنفسهم ، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولاً في قوله : { ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعاً للعبادة والصلاة كما تقول : توطن اتخذ موطناً ، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر.
قال الضحاك : وهي مصر المحروسة ، ومصر من البحر إلى أسوان ، والاسكندرية من أرض مصر.
وقال مجاهد : هي الاسكندرية ، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم ، ومنعهم من الصلوات ، وكلفهم الأعمال الشاقة.
وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأنْ يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام.
وقرأ حفص في رواية هبيرة : تبويا بالياء ، وهذا تسهيل غير قياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، والظاهر أنّ المأمور بأنْ يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها.
ومعنى قبلة مساجد : أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله : النخعي ، وابن زيد ، وروي عن ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضاً : واجعلوا بيوتكم قبل القبلة ، وعنه أيضاً : قبل مكة.
وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء : أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة.
وعن ابن عباس أيضاً وابن جبير : قبلة يقابل بعضها بعضاً.
وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة ، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر.
وبشر المؤمنين يعني : بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة ، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء.
ثم نسق الخطاب عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور ، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيماً له وللمبشر به.
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه ، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلا استكباراً.
أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال ، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى ، دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول : لعن الله إبليس وأخزى الكفرة.
كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سبباً للإيمان به ولشكر نعمه ، فجعوا ذلك سبباً لجحوده ولكفر نعمه.
والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال ، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق.
قال المؤرخون والمفسرون : كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت.
وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة ، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى : آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج ، فكان الإتيان لكي يضلوا.
ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } وكما قال الشاعر :
وللمنايا تربي كل مرضعة . . .
وللخراب يجد الناس عمراناً
وقال الحسن : هو دعاء عليهم ، وبهذا بدأ الزمخشري قال : كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال ، وليكونوا ضلالاً ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا.
ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء ، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم ، وهي قراءة الكوفيين ، وقتادة والأعمش ، وعيسى ، والحسن ، والأعرج بخلاف عنهما.
وقرأ الحرميان ، والعربيان ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وأهل مكة : بفتحها.
وقرأ الشعبي بكسرها ، ولى بين الكسرات الثلاث.
وقيل : لا محذوفة ، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله : أبو علي الجبائي.
وقرأ أبو الفضل الرقاشي : أإنك آتيت على الاستفهام.
ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك.
قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب : صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً ، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد.
وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة.
وقال مجاهد وعطية : أهلكها حتى لا ترى.
وقال ابن زيد : صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة.
قال محمد بن كعب : سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له ، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير ، وأنها الحجارة.
وقال قتادة ، والضحاك ، وأبو صالح ، والقرطبي : جعل سكرهم حجارة.
وقال السدي : مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة.
وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب : أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم ، وفيها آثار النقش ، وعلى هيئة الفلوس ، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ ، وهيئة البطيخ الأخضر ، وعلى هيئة الخيار ، وعلى هيئة القثاء ، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش ، وربما رأوا على صورة الشجر.
واشدد على قلوبهم : وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان.
وقال ابن عباس أيضاً والضحاك : أهلكهم كفاراً.
وقال مجاهد : اشدد عليها بالضلالة.
وقال ابن قتيبة : قس قلوبهم.
وقال ابن بحر : اشدد عليها بالموت.
وقال الكرماني : أي لا يجدوا سلواً عن أموالهم ، ولا صبراً على ذهابها.
وقرأ الشعبي وفرقة : اطمُس بضم الميم ، وهي لغة مشهورة.
فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء ، كما قال الأعشى :
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى . . .
ولا تُلْفينّ إلا وأنفك راغم
ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري ، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله : الأخفش وغيره.
وما بينهما اعتراض ، أو على أنه مجزوم على قول من قال : إن لام ليضلوا لام الدعاء ، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية ، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر ، وكان العذاب الأليم غرقهم.
وقال ابن عباس : قال محمد بن كعب : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فنسبت الدعوة إليهما.
ويمكن أن يكونا دعوا ، ويبعد قول من قال : كنى عن الواحد بلفظ التثنية ، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء.
وروي عن ابن جريج ، ومحمد بن علي ، والضحاك : أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة ، وأعلما أن دعاءهما صادف مقدوراً ، وهذا معنى إجابة الدعاء.
وقيل لهما : لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي ، فإن وعدي لا خلف له.
وقرأ السلمي والضحاك : دعواتكما على الجمع.
وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما خبراً عن الله تعالى ، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما ، وهذا يؤكد قول من قال : إن هارون دعا مع موسى.
وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل ، ثم أمرا بالاستقامة ، والمعنى : الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله تعالى ، وإلزام حجة الله.
وقرأ الجمهور : تتبعان بتشديد التاء والنون ، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون ، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون ، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون ، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر ، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين ، وأما تخفيفها مكسورة فقيل : هي نون التوكيد الخفيفة ، وكسرت كما كسرت الشديدة.
وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب ، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة ، ويونس والفراء يريان ذلك.
وقيل : النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع ، والفعل منفي ، والمراد منه النهي ، أو هو خبر في موضع الحال أي : غير متبعين قاله الفارسي.
والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله : ابن عباس.
أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ، ذكره أبو سليمان.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
قرأ الحسن وجوَّزنا بتشديد الواو ، وتقدّم الكلام في الباء في ببني إسرائيل ، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف.
وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء.
وقرأ الجمهور : وجاوزنا فاتبعهم رباعياً ، قال الزمخشري : وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :
وإذا تجوزها جبال قبيلة . . .
لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال : وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال :
كما جوز السبكي في الباب فينق . . .
انتهى
وقال الحوفي : تبع واتبع بمعنى واحد.
وقال الزمخشري : فاتبعهم لحقهم ، يقال : تبعه حتى اتبعه.
وفي اللوامح : تبعه إذا مشى خلفه ، واتبعه كذلك ، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه ، ومنه العامة يعني : ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل : ألف ألف وستمائة ألف.
وقيل : غير ذلك.
وقرأ الحسن : وعدوا على وزن علو ، وتقدمت في الإنعام.
وعدوا وعدوّا من العدوان ، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر.
روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه : إنما انفلق بأمري ، وكان على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل عليه السلام على فرس أنثى ، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وجنب الجيوش خلفه ، فلما رأى أنّ الانفراق ثبت له استمر ، وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم.
وقرأ الجمهور : أنه بفتح الهمزة على حذف الباء.
وقرأ الكسائي وحمزة : بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام ، أو بدلاً من آمنت ، أو على إضمار القول أي : قائلاً إنه.
ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات ، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب ، أو حرصاً على القبول ولم يقبل الله منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف ، والتوبة بعد المعاينة لا تنفع.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده } وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله : { آلآن وقد كنتم } والمعنى : أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك؟ قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق.
وقيل : بعد أنْ غرق في نفسه.
قال الزمخشري : والذي يحكى أنه حين قال : آمنت ، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب في الله تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه.
وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة الله تعالى فمن زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته ، وفيه جهالتان : إحداهما : أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه.
والآخر : أن من كره الإيمان للكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر ، لأنّ الرضا بالكفر كفر.
والظاهر أن قوله : آلآن إلى آخره من كلام الله له على لسان ملك.
فقيل : هو جبريل.
وقيل : ميكائيل.
وقيل : غيرهما ، لخطابه فاليوم ننجيك.
وقيل : من قول فرعون في نفسه وإفساده وإضلاله الناس ، ودعواه الربوبية.
{ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كان يفسدون } فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر.
وقيل : هو استفهام فيه تهديد أي : أفاليوم ننجيك؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك ، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله : لتكون لمن خلفك لآية ، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام.
قال ابن عباس : ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع ، وببدنك بدرعك ، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له.
وقيل : من ذهب.
وقيل : من حديد وفيها سلاسل من ذهب.
والبدن بدن الإنسان ، والبدن الدرع القصيرة.
قال :
ترى الأبدان فيها مسبغات . . .
على الأبطال والكلب الحصينا
يعني : الدروع.
وقال عمرو بن معدي كرب :
أعاذل شكتي بدني وسيفي . . .
وكل مقلص سلس القياد
وكانت له درع من ذهب يعرف بها ، وقيل : نلقيك ببدنك عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح ، وذلك أبلغ في إهانته.
وقيل : نخرجك صحيحاً لم يأكلك شيء من الدواب.
وقيل : بدناً بلا روح قاله مجاهد.
وقيل : نخرجك من ملكك وحيداً فريداً.
وقيل : نلقيك في البحر من النجاء ، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو سلاح.
وقيل : نتركك حتى تغرق ، والنجاء الترك.
وقيل : نجعلك علامة ، والنجاء العلامة.
وقيل : نغرقك من قولهم : نجى البحر أقواماً إذا أغرقهم.
وقال الكرماني : يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي : نسرع بهلاكك.
وقيل : معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بها ، وكان قصيراً أشقر أزرق قريب اللحية من القامة ، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه له يعرفونه بصورته ، وببدنك إذا عنى به الجثة تأكيد كما تقول : قال فلان بلسانه وجاء بنفسه.
وقرأ يعقوب : ننجيك مخففاً مضارع أنجى.
وقرأ أبيّ ، وابن السميقع ، ويزيد البربري : ننحيك بالحاء المهملة من التنحية.
ورويت عن ابن مسعود أي : نلقيك بناحية مما يلي البحر.
قال كعب : رماه البحر إلى الساحل كأنه ثور.
وقرأ أبو حنيفة : بأبدانك أي بدروعك ، أو جعل كل جزء من البدن بدناً كقولهم : شابت مفارقه.
وقرأ ابن مسعود ، وابن السميقع : بندائك مكان ببدنك ، أي : بدعائك ، أي بقولك آمنت إلى آخره.
لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع ، أو بما ناديت به في قومك.
ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال : أنا ربكم الأعلى ، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.
ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيراً أحمر كأنه ثور.
لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق ، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية.
وقيل : لمن يأتي بعدك من القرون ، وقيل : لمن بقي من قبط مصر وغيرهم.
وقرىء : لمن خلفك بفتح اللام أي : من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك ، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك.
ومعنى كونه آية : أن يظهر للناس عبوديته ومهانته ، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم.
وقرأت فرقة : لمن خلقك من الخلق وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده.
وقيل : المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك ، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة : إنَّ مثله لا يغرق ولا يموت ، آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وإنَّ كثيراً من الناس ظاهره الناس كافة ، قاله الحسن.
وقال مقاتل : من أهل مكة عن آياتنا أي : العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفنات العلى ، لغافلون لا يتدبرون ، وهذا خبر في ضمنه توعد.
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك ، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم ، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون ، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها.
والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق ، وسياق الآيات يشهد لهم.
وقيل : هم الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع ، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله : { لنبوئنهم من الجنة غرفاً } وقيل : يجوز أن يكون مصدراً.
ومعنى صدق أي : فضل وكرامة ومنة { في مقعد صدق } وقيل : مكان صدق الوعد ، وكان وعدهم فصدقهم وعده.
وقيل : صدق تصدّق به عليهم ، لأن الصدقة والبر من الصدق.
وقيل : صدق فيه ظن قاصده وساكنه.
وقيل : منزلاً صالحاً مرضياً ، وعن ابن عباس : هو الأردن وفلسطين.
وقال الضحاك وابن زيد ، وقتادة : الشام وبيت المقدس.
وقال مقاتل : بيت المقدس.
وعن الضحاك أيضاً : مصر ، وعنه أيضاً : مصر والشام.
قال ابن عطية : والأصح أنه الشام وبيت المقدس بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر ، على أنه في القرآن كذلك.
{ وأورثناها بني إسرائيل } يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك.
وقد يحتمل أن يكون وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى.
وقيل : ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري ، وهذا على قول من قال : إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر أنه بوّأهم مبوّأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي : المآكل المستلذات ، أو الحلال ، فما اختلفوا أي : كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه السلام في أول حاله ، حتى جاءهم العلم أي : علم التوراة فاختلفوا ، وهذا ذم لهم.
أي أن سبب الإيقاف هو العلم ، فصار عندهم سبب الاختلاف ، فتشعبوا شعباً بعدما قرؤوا التوراة.
وقيل : العلم بمعنى المعلوم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة ، وكانوا يستفتحون به أي : يستنصرون ، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته يستنصرون به في الحروب يقولون : اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون ، فلما جاء قالوا : النبي الموعود به من ولد يعقوب ، وهذا من ولد إسماعيل ، فليس هو ذاك ، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
وقيل : العلم القرآن ، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد ، وقول بعضهم من كلام الله وليس لنا إنما هو للعرب.
وصدق به قوم فآمنوا ، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا ، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل.
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
الظاهر أنّ إنْ شرطية.
وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أنّ إنْ نافية.
قال الزمخشري : أي مما كنت في شك فسئل ، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى.
وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده ، أو المحقق وجوده ، المنبهم زمان وقوعه ، كقوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } والذي أقوله : إنّ إنْ الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } ومستحيل أن يكون له ولد ، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : { فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية } أي فافعل.
لكنّ وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل ، وهذه الآية من ذلك.
ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية ، فقال ابن عطية : الصواب أنها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى.
ولذلك جاء : { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } وقال قوم : الكلام بمنزلة قولك : إن كنت ابني فبرني ، وليس هذا المثال بجيد ، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه السلام : { أأنت قلت للناس } انتهى.
وهذا القول مروي عن الفراء.
قال الكرماني : واختاره جماعة ، وضعف بأنه يُصير تقدير الآية : أأنت في شك؟ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك.
وقيل : كنى هنا بالشك عن الضيق أي : فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك.
وقيل : كنى بالشاك عن العجب أي : فإن كنت في تعجب من عناد فرعون.
ومناسبة المجاز أنّ التعجب فيه تردد ، كما أن الشك تردد بين أمرين.
وقال الكسائي : معناه إن كنت في شك أنّ هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه السلام حين اختلفوا عليه؟ وقال الزمخشري : فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً فسئل الذين يقرؤون الكتاب ، والمعنى : أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويبالغ في ذلك فقال تعالى : فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى.
وقيل أقوال غير هذه ، وقرأ يحيى وابراهيم : يقرؤون الكتب على الجمع.
والحق هنا : الإسلام ، أو القرآن ، أو النبوة ، أو الآيات ، والبراهين القاطعة ، أقوال : فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب ، والخطاب للسامع غير الرسول.
وكثيراً ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص ، والمراد غيره ، وروي أنه عليه السلام قال : « لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق » وعن ابن عباس : والله ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحداً منهم.
والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه ، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدىء به أولاً.
فنهى عنه ، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
ذكر تعالى عباداً قضى عليهم بالشقاوة فلا تتغير ، والكلمة التي حقت عليهم قال قتادة : هي اللعنة والغضب.
وقيل : وعيده أنهم يصيرون إلى العذاب.
وقال الزمخشري : قول الله تعالى الذي كتب في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره ، وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد الله تعالى عن ذلك انتهى.
وكلامه أخيراً على طريقة الاعتزال.
وقال أبو عبد الله الرازي : المراد من هذه الكلمة كلم الله بذلك ، وإخباره عنه ، وخلقه في العبد مجموع القدرة ، والداعية وهو موجب لحصول ذلك الأمر.
وقال ابن عطية : المعنى أنّ الله أوجب لهم سخطه من الأزل وخلقهم لعذابه ، فلا يؤمنون ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان ، كما صنع فرعون وأشباهه ، وذلك وقت المعاينة.
وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال ، وبعث كل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله.
ويجوز أن يكون العذاب الأليم عند تقطع أسبابهم يوم القيامة ، وتقدم الخلاف في قراءة كلمة بالإفراد وبالجمع.
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ ، وكثيراً ما جاءت في القرآن للتحضيض ، فهي بمعنى هلا.
وقرأ أبي وعبد الله فهلا ، وكذا هو في مصحفيهما ، والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه ، وإذا كانت للتوبيخ فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشيء ، كقول الشاعر :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم . . .
بني ضوطري لولا الكمى المقنعا
لم يقصد حضهم على عقر الكمى المقنع ، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع.
والمعنى : فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم ، فيكون الإيمان نافعاً لهم في هذه الحال.
وقوم منصوب على الاستثناء المنقطع ، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش ، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس.
وقال ابن عطية : هو بحسب اللفظ استثناء منقطع ، وكذلك رسمه النحويون ، وهو بحسب المعنى متصل ، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس ، والنصب هو الوجه ، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب ، وذلك مع انقطاع الاستثناء.
وقالت فرقة : يجوز فيه الرفع ، وهذا مع اتصال الاستثناء.
وقال المهدوي : والرفع على البدل من قرية ، وقال الزمخشري : وقرىء بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي ، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها ، وذكر جواز فتحها.
وقوم يونس : هم أهل نينوي من بلاد الموصل ، كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم يونس فأقاموا على تكذيبه سبع سنين ، وتوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام.
وقيل : بعد أربعين يوماً.
وذكر المفسرون قصة قوم يونس وتفاصيل فيها ، وفي كيفية عذابهم الله أعلم بصحة ذلك ، ويوقف على ذلك في كتبهم.
وقال الطبري : وذكره عن جماعة أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن ينب عليهم بعد معاينة العذاب.
وقال الزجاج : هؤلاء دنا منهم العذاب ولم يباشرهم كما باشر فرعون ، فكانوا كالمريض الذي يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يباشره العذاب فلا توبة له.
وقال ابن الأنباري : علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين.
قال السدي : إلى حين ، إلى وقت انقضاء آجالهم.
وقيل : إلى يوم القيامة ، وروي عن ابن عباس.
ولعله لا يصح ، فعلى هذا يكونون باقين أحياء ، وسترهم الله عن الناس.
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قيل : نزلت في أبي طالب ، لأنه صلى الله عليه وسلم أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصاً على إيمانه.
ولما كان أحرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهاداً في نجاة العالمين من العذاب ، أخبره تعالى أنه خلق أهلاً للسعادة وأهلاً للشقاوة ، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل ، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد.
والمقصود بيان أنّ القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى.
وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل ، لكن من غير ذلك الاسم فللَّه تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء ، وليس ذلك لغيره.
وقال الزمخشري : ولو شاء ربك مشيئة القسر وإلالجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعاً ، مجتمعين على الإيمان ، مطبقين عليه ، لا يختلفون ألا ترى إلى قوله تعالى : { أفأنت تكره الناس } يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت.
وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشان في المكره من هو ، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه ، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشير انتهى.
وقوله : مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة.
وقال ابن عطية : المعنى أنّ هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم ، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً ، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك ، وادع ولا عليك ، فالأمر محتوم.
أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم ، وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره؟ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي : ادع وقاتل من خالفك ، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة.
وقالت فرقة : المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان؟ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام ، وأنها منسوخة بآية السيف ، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى.
ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء ، وهو تفسير الجبائي والقاضي.
ومعنى إلا بإذن الله.
أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه.
وقال الزمخشري : بتسهيله وهو منح الإلطاف.
ويجعل الرجس : وهو الخذلان على الذين لا يعقلون ، وهم المصرون على الكفر.
وسمى الخذلان رجساً وهو العذاب ، لأنه سببه انتهى.
وهو على طريق الاعتزال.
وقال ابن عباس : الرجس السخط ، وعنه الإثم والعذوان.
وقال مجاهد : ما لا خير فيه.
وقال الحسن ، وأبو عبيدة ، والزجاج : العذاب.
وقال الفراء : العذاب والغضب.
وقال الحسن أيضاً : الكفر.
وقال قتادة : الشيطان ، وقد تقدّم تفسيره ، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا.
وقرأ أبو بكر ، وزيد بن علي : ونجعل بالنون ، وقرأ الأعمش : ويجعل الله الرجز بالزاي.
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
أمر تعالى بالفكر فيما أودعه تعالى في السموات والأرض ، إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته ، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب ، وما يختص بذلك من المنافع والفوائد ، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان ، وخصوصاً حال الإنسان.
وكثيراً ما ذكر الله تعالى في كتابه الحض على الفكر في مخلوقاته تعالى وقال : ماذا في السموات والأرض تنبيهاً على القاعدة الكلية ، والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها.
ثم لما أمر بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات.
والنذر جمع نذير ، إما مصدر فمعناه الإنذارات ، وإما بمعنى منذر فمعناه المنذرون والرسل.
وما الظاهر أنها للنفي ، ويجوز أن تكون استفهاماً أي : وأي شيء تغني الآيات وهي الدلائل؟ وهو استفهام على جهة التقرير.
وفي الآية توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين.
وقرأ الحرميان ، والعربيان ، والكسائي : قل انظروا بضم اللام ، وقرىء : وما تغني بالتاء ، وهي قراءة الجمهور وبالياء.
وماذا يحتمل أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في السموات.
ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي ، وصلته في السموات.
وانظروا معلقة ، فالجملة الابتدائية في موضع نصب ، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي ، ويكون مفعولاً لقوله : انظروا ، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى ، وإن كانت قلبية تعدت بفي.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما في قوله : وما تغني ، مفعولة لقوله : انظروا ، معطوفة على قوله : ماذا أي : تأملوا نذر غنى الآيات.
والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك ، كفعل قوم يونس ، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات.
والآية على هذا تحريض على الإيمان ، وتجوز اللفظ على هذا التأويل ، إنما هو في قوله : لا يؤمنون انتهى.
وهذا احتمال فيه ضعف.
وفي قوله : مفعولة معطوفة على قوله ماذا ، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول ، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا ، فيكون ماذا موصولة.
وانظروا بصرية لما تقدم ، والأيام هنا وقائع الله فيم ، كما يقال أيام العرب لوقائعها.
وفي الاستفهام تقرير وتوعد ، وحض على الإيمان ، والمعنى : إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب ، وإذا آمنوا نجوا ، هذه سنة الله في الأمم الخالية.
قل فانتظروا أمر تهديد أي : انتظروا ما يحل بكم كما حل بمن قبلكم من مكذبي الرسل.
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
لما تقدم قوله : فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، وكان ذلك مشعراً بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومضرحاً بهلاكهم في غير ما آية ، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال : ثم ننجي رسلنا ، والمعنى : إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل ، ثم نجينا الرسل والمؤمنين.
ولذلك قال الزمخشري : ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية.
والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره : مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ، ننجي من آمن بك يا محمد ، ويكون حقاً على تقدير : حق ذلك حقاً.
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حقاً بدلاً من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره : إنجاء مثل ذلك حقاً.
وأجاز أن يكون كذلك ، وحقاً منصوبين بننجي التي بعدهما ، وأن يكون كذلك منصوباً بننجي الأولى ، وحقاً بننجي الثانية ، وأجاز هو تابعاً لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع ، وقدره الأمر كذلك : وحقاً منصوب بما بعدها.
وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين ، وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً.
قال القاضي : حقاً علينا المراد به الوجوب ، لأن تخليص الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ، ولولاه ما حسن من الله أن يلزمهم : الأفعال الشاقة.
وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدّم ، وأجيب بأنه حق.
بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق ، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً.
وقرأ الكسائي ، وحفص : ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى ، وخط المصحف ننج بغير ياء.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
خطاب لأهل مكة يقول : إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم ، فبدأ أولاً بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهاً لآرائهم ، وأثبت ثانياً من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم.
وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي.
دلالة على البدء وهو الخلق ، وعلى الإعادة ، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم ، وكثيراً ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة ، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به ، وصيرورتهم إلى الله بعده ، فهو الجدير بأنْ يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها.
وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله ، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح ، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له ، المفرد له بالعبادة ، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة ، وطابق الباطن الظاهر.
قال الزمخشري : يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحي إليّ في كتابه.
وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه ، أأثبت أم أتركه وأوافقكم ، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ، ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ماتعبدون } وأمرت أن أكون أصله : بأن أكون ، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة ، مع أنّ وأنّ يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير { فاصدع بما تؤمر } انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي : اختار ، واستغفر ، وأمر ، وسمى ، ولبى ، ودعا بمعنى سمى ، وزوّج ، وصدّق ، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني ، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو : بريت القلم بالسكين ، فيجيز السكين بالنصب.
وجواب إن كنتم في شك قوله : فلا أعبد ، والتقدير : فأنا لا أعبد ، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم ، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ.
وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله.
ومن عاد فينتقم الله منه أي : فهو ينتقم الله منه.
وتضمن قوله : فلا أعبد ، معنى فأنا مخالفكم.
وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله : وأمرت ، مراعى فيها المعنى.
لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين ، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر.
وقد أجاز ذلك النحويون ، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو.
ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي : وأوحي إليّ أن أقم ، فاحتمل أن تكون مصدرية ، واحتمل أن تكون حرف تفسير ، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى ، ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون ، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى.
والوجه هنا المنحى ، والمقصد أي : استقم للدين ولا تحد عنه ، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين.
وحنيفاً : حال من الضمير في أقم ، أو من المفعول.
وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين ، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم ، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية ، وكونها حرف تفسير.
وإذا كان دعاء الأصنام منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها ، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازاً أي : فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك.
وجواب الشرط فإنك وخبرها ، وتوسطت إذاً بين اسم إنّ والخبر ، ورتبتها بعد الخبر ، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة.
قال الحوفي : الفاء جواب الشرط ، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير ، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى.
وقال الزمخشري : إذا جواب الشرط ، وجواب لجواب مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان ، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، { إنّ الشرك لظلم عظيم } انتهى.
وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل ، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعاً في سورة البقرة.
ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع ، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله ، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك ، وأتى في الضر بلفظ المس ، وفي الخير بلفظ الإرادة ، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية ، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر ، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع ، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله : فلا كاشف له إلا هو ، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير ، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة.
وجاء جواب : وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب ، وجاء جواب : وإن يردك بنفي عام ، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره ، لأن إرادته قديمة لا تتغير ، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو.
والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة ، فإنها صفة ذات ، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلاً إشعاراً بأنّ الخيور من الله تعالى ، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل.
ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال : يصيب به من يشاء من عباده ، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما : الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب ، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه.
ولما تقدم قوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فأخر الضر ، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر.
وأيضاً فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم ، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدىء بها.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني؟ ( قلت ) : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة ، والإصابة في كل واحد من الضر والخير ، وأنه لا رادّ لما يريد منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الإنجاز ، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله : يصيب به من يشاء من عباده ، والمراد بالمشيئة المصلحة.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
الحق : القرآن ، أو الرسول ، أو دين الإسلام ، ثلاثة أقوال والمعنى : فإنما ثواب هدايته حاصل له ، ووبال ضلاله عليه ، والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى من العبد ، هذا مذهب أهل السنة.
وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك ، وأنَّ من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك.
وقال القاضي : إنه تعالى بيّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ، فلا يجب عليّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم ، وفي تخليصكم من العذاب الأليم ، أزيد مما فعلت.
وقال الزمخشري : لم يبق لكم عذر ولا على الله تعالى حجة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه.
واللام وعلى على معنى النفع والضر ، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق.
وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك ، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير انتهى.
وكلامه تذييل كلام القاضي ، وهو جار على مذهب المعتزلة.
وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في الله من أذى الكفار وإعراضهم ، وغيا الأمر بالصبر بقوله : حتى يحكم الله وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع.
وذهب ابن عباس وجماعة إلى أنّ قوله : وما أنا عليكم بوكيل واصبر ، منسوخ بآية السيف.
وذهب جماعة إلى أنه محكم ، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها ، بل ذلك لله.
وقوله : واصبر على ، الصبر على طاعة الله وحمل أثقال النبوة وأداء الرسالة ، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف ، وإلى هذا مال المحققون.
وروي أنه لما نزلت : واصبر ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال : « إنكم ستجدون بعدي اثرة فاصبروا حتى تلقوني » قال الزمخشري : يعني أنّي أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة ، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة.
قال أنس : فلم نصبر ، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي الله عنهما يوقف عليها من كتابه.
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
قال ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وجابر بن زيد : هذه السورة مكية كلها ، وعن ابن عباس : مكية كلها إلا قوله : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } الآية.
وقال مقاتل : مكية إلا قوله : فلعلك تارك الآية.
وقوله : { أولئك يؤمنون به } نزلت في ابن سلام وأصحابه.
وقوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } نزلت في نبهان التمار.
وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : الم ذلك الكتاب ، وأحكمت صفة له.
ومعنى الإحكام : نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم.
وهو الموثق في الترصيف ، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل ، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً ، فالمعنى : جعلت حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله : { الكتاب الحكيم } وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها ، فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم . . .
إني أخاف عليكم أن أغضبا
وعن قتادة : أحكمت من الباطل.
قال ابن قتيبة : أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول ، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلم فثم على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل.
إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب أجمعه محكم مفصل ، والإحكام الذي هو ضد النسخ ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك.
وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب.
وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ، ولكن لا يقتضيه اللفظ.
وقيل : فصلت معناه فسرت ، وقال الزمخشري : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص.
وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري ، وزيد بن علي ، وابن كثير في رواية : ثم فصلت بفتحتين ، خفيفة على لزوم الفعل للآيات.
قال صاحب اللوامح : يعني انفصلت وصدرت.
وقال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس ، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره.
قال الزمخشري : وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي : أحكمتها أنا ، ثم فصلتها.
( فإن قلت ) : ما معنى؟ ثم ( قلت ) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الأحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل انتهى.
يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان ، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة.
ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر.
قال الزمخشري : أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي : من عنده إحكامها وتفصيلها.
وفيه طباق حسن ، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى.
ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى.
وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير ، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر ، لأنه لا يحتاج إلى إضمار.
وقيل : التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا ، فيكون مفعولاً من أجله ، ووصلت أنْ بالنهي.
وقيل : أنْ نصبت لا تعبدوا ، فالفعل خبر منفي.
وقيل : أنْ هي المخففة من الثقيلة ، وجملة النهي في موضع الخبر ، وفي هذه الأقوال العامل فصلت.
وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها ، أو التقدير : من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله ، أو في الكتاب ألا تعبدوا ، أو هي أنْ لا تعبدوا ، أو ضمن أنْ لا تعبدوا ، أو تفصله أنْ لا تعبدوا ، فهو بمعزل عن علم الإعراب.
والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي : إني لكم نذير من جهته وبشير ، فيكون في موضع الصفة ، فتعلق بمحذوف أي : كائن من جهته.
أو تعلق بنذير أي : أنذركم من عذابه إنْ كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
وقيل : يعود على الكتابة أي : نذير لكم من مخالفته ، وبشير منه لمن آمن وعمل به.
وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم.
وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا ، نهي أو نفي أي : لا يعبد إلا الله.
وأمر بالاستغفار من الذنوب ، ثم بالتوبة ، وهما معنيان متباينان ، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر ، والمعنى : أنه لا يبقى لها تبعة.
والتوبة الانسلاخ من المعاصي ، والندم على ما سلف منها ، والعزم على عدم العود إليها.
ومن قال : الاستغفار توبة ، جعل قوله : ثم توبوا ، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها.
قال ابن عطية : وثم مرتبة ، لأن الكافر أول ما ينيب ، فإنه في طلب مغفرة ربه ، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى ثمّ في قوله : ثم توبوا إليه؟ ( قلت ) : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة.
وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وزيد بن علي ، وابن محيصن : يمتعكم بالتخفيف من أمتع ، وانتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل ، أو على أنه مفعول به.
لأنك تقول : متعت زيداً ثوباً ، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور ، أو حسن العمل وقطع الأمل ، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية ، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب ، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال.
وقال الزمخشري : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، وعيشة واسعة ، ونعمة متتابعة.
قال ابن عطية : وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها ، وهذا ضعيف.
لأنّ الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة ، وربما زادوا على المسلمين في ذلك.
قال : ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل ، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته ، والسرور بمواعيده ، والكافر ليس في شيء من هذا ، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله : ابن عباس والحسن.
وقال ابن جبير : يوم القيامة ، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي : يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير ، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده.
ويحتمل أن يعود على كل أي : جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء ، كما قال : { نوف إليهم أعمالهم } أي جزاءها.
والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات ، وتقدم أمران بينهما تراخ ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا ، كما قال : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً } الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة ، وناسب كل جواب لما وقع جواباً له ، لأنّ الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله ، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا.
والتوبة هي المنجية من النار ، والتي تدخل الجنة ، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة.
والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي : وإنْ تتولوا.
وقيل : هو ماض للغائبين ، والتقدير قيل لهم : إني أخاف عليكم.
وقرأ اليماني ، وعيسى بن عمر : وإن تولوا بضم التاء واللام ، وفتح الواو ، مضارع وليّ ، والأولى مضارع أولى.
وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة : وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به ، وهو ضد التبري.
وقرأ الأعرج : تولوا بضم التاء واللام.
وسكون الواو ، مضارع أولى ، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال.
وقيل : هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أنّ كبير صفة لعذاب ، وخفض على الجوار.
وباقي الآية تضمنت تهديداً عظيماً وصرحت بالبعث ، وذكر أنّ قدرته عامة لجميع ما يشاء ، ومن ذلك البعث ، فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم.
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس.
وعنه أيضاً : في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء.
وقيل : في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالرسول صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى الرسول قاله : عبد الله بن شدّاد.
وقيل : في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا ، وأرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا ، على عداوته كيف يعلم بنا؟ ذكره الزجاج.
وقيل : فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري.
ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور.
وقرأ سعيد بن جبير : يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب.
قال صاحب اللوامح : ولا يعرف الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم ، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار ، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل البعض من الكل.
وقال أبو البقاء : ماضية أثنى ، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه : عرضوها للاثناء ، كما يقال : أبعت الفرس إذا عرضته للبيع.
وقرأ ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، ونصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن ابزي ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو الأسود الدؤلي ، وأبو رزين ، والضحاك : تثنوني بالتاء مضارع اثنوني على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع ، بمعنى تنطوي صدورهم.
وقرأ أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنوني بالياء صدورهم بالرفع ، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة.
وقرأ ابن عباس أيضاً ليثنون بلام التأكيد في خبر إنْ ، وحذف الياء تخفيفاً وصدورهم رفع.
وقرأ ابن عباس أيضاً ، وعروة ، وابن أبي أبزي ، والأعشى : يثنون ووزنه يفعوعل من الثن ، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء ، كما ينثني الهش من النبات.
أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع.
وقرأ عروة ومجاهد أيضاً : كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن ، وصدورهم رفع ، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل : أشاح.
وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن.
المتقدّم ، مثل تحمارّ وتصفارّ ، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر ، فانقلبت همزة.
وقرأ الأعشى : يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام ، صدورهم بالنصب.
قال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه لأنه يقال : ثنيت ، ولم أسمع ثنأت.
ويجوز أنه قلب الياء ألفاً على لغة من يقول : أعطأت في أعطيت ، ثم همز على لغة من يقول :
{ ولا الضالين } وقرأ ابن عباس : يثنوي بتقديم الثاء على النون ، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي.
قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى.
وإنما قال ذلك لأنه لاحط الواو في هذا الفعل لا يقال : ثنوته فانثوى كما يقال : رعوته أي كففته فارعوى فانكف ، ووزنه أفعل.
وقرأ نضير بن عاصم ، وابن يعمر ، وابن أبي إسحاق : يثنون بتقديم النون على الثاء ، فهذه عشر قراآت في هذه الكلمة.
والضمير في أنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار أي : يطوون صدورهم على عدواته.
قال الزمخشري : يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه ، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه ، يعني : ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم.
ونظير إضمار يريدون ، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } معناه : فضرب فانفلق.
ومعنى ألا حين : يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام : { جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم } انتهى.
فالضمير في منه على قوله عائد على الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى.
ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عطية.
قال : قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر ، وردّوا إليه ظهورهم ، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منهم وكراهية للقائه ، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية انتهى.
فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقاً بقوله : يثنون ، وكذا قال الحوفي.
وقيل : هي استعارة للغل ، والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عليها ، فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها ، ليخفي في ظنهم عن الله عز وجل ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى.
فعلى هذا يكون حين معمولاً لقوله : يعلم ، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم.
وقال أبو البقاء : ألا حين العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون ، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم.
وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين ، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على الله تعالى.
قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه ، وأضمر في نفسه همته.
وقال مجاهد : يطوونها على الكفر.
وقال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء.
وقال قتادة : يخفون ليسمعوا كلام الله.
وقال ابن زيد : يكتمونها إذا ناجى بعضهم بعضاً في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل : يثنونها حياءً من الله تعالى ، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية.
ومنه قول الخنساء :
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها . . .
وتارة أتغشى فضل أطماري
وقيل : المراد بالثياب الليل ، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر ، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل ، وقرأ ابن عباس : على حين يستغشون.
قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا . . .
وقلت ألما أصح والشيب وازع
انتهى.
وقال ابن عباس : ما يسرون بقلوبهم ، وما يعلنون بأفواههم.
وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار.
وقال ابن الأنباري : معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم.
وقال الزمخشري : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم ، واستغشائهم بثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده.
وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأنّ ذلك كله من أعمال القلوب ، وأعمال القلوب خفيه جدًّا ، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى الله عليه وسلم وتغشية ثيابهم ، وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى.
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق ، وعلى الله ظاهر في الوجوب ، وإنما هو تفضل ، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب.
قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض ، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن.
وعنه أيضاً : مستقرها في الرحم ، ومستودعها في الصلب.
وقال الربيع بن أنس : مستقرها في أيام حياتها ، ومستودعها حين تموت وحين تبعث.
وقيل : مستقرها في الجنة أو في النار ، ومستودعها في القبر ، ويدل عليه : { حسنت مستقرّاً } { وساءت مستقراً } وقيل : ما يستقر عليه عملها ، ومستودعها ما تصير إليه.
وقيل : المستقر ما حصل موجوداً من الحيوان ، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر.
وقال الزمخشري : المستقر مكانه من الأرض ومسكنه ، والمستودع حيث كان موجوداً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى.
ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين ، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان ، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه ، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي : كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني : وذكرها مكتوب فيه مبين.
وقيل : الكتاب هنا مجاز ، وهو إشارة إلى علم الله ، وحمله على الظاهر أولى.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً ، ذكر ما يدل على كونه قادراً ، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس.
والظاهر أنّ قوله : وكان عرشه على الماء ، تقديره قبل خلق السموات والأرض ، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل.
قال كعب : خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ، ثم وضع العرش على الماء.
وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء؟ قال : كان على متن الريح ، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق.
قال الزمخشري : أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه.
ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم ، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون.
( فإن قلت ) : كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ ( قلت ) : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق الله ، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً ، واستمع أيهم أحسن صوتاً ، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى.
وفي قوله : ومن كفر وعصى عاقبه ، دسيسة الاعتزال.
وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتاً ، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر ، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف.
وقيل : ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا التأويل أن هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر.
وقيل : تقدير الفعل ، وخلقكم ليبلوكم.
وقيل : في الكلام جمل محذوفة ، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى ، وفعل ذلك ليبلوكم.
ومعنى أيكم أحسن عملاً : أهذا أحسن أم هذا.
قال ابن بحر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أيكم أحسن عقلاً ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله» ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه.
وقال الحسن : أزهد في الله.
وقال مقاتل : أتقى لله.
وقال الضحاك : أكثركم شكراً.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فكيف قيل : أيكم أحسن عملاً وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح؟ ( قلت ) : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم ، وليكون ذلك تيقظاً للسامعين وترغيباً في حيازة فضلهم انتهى.
ولئن قلت ، خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقرأ عيسى الثقفي : ولئن قلت بضم التاء إخباراً عنه تعالى ، والمعنى : ولئن قلت مستدلاً على البعث من بعد الموت ، إذ في قوله تعالى : وهو الذي خلق ، دلالة على القدرة : العظيمة ، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة ، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه.
وقرىء : أيكم بفتح الهمزة.
قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق إنك تشتري لحماً ، بمعنى علك أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه ، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا : ويجوز أن يضمن.
قلت معنى ذكرت انتهى يعني : فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت ، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي : إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث.
أي : إن البعث.
وقيل : أشاروا بهذا إلى القرآن ، وهو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره.
قال ابن عطية : كذبوا وقالوا : هذا سحر ، فهذا تناقض منهم إن كان مفطوراً بقربات الله فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا ، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور ، إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى.
وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وفرقة من السبعة : سحر.
وقرأت فرقة : ساحر ، يريدون والساحر كاذب مبطل ، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم واستهزائهم ، والعذاب هنا عذاب القيامة.
وقيل : عذاب يوم بدر.
وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين ، والظاهر العذاب الموعود به ، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله : ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والجمهور ، ومعناه : إلى حين.
ووقت معلوم ما يحبسه استفهام ، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء.
قال الطبري : سميت المدة أمة ، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى ، فهي على هذا المدة الطويلة ، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه.
والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله : مصروفاً ، فهو معمول لخبر ليس.
وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا : لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل ، ونسب هذا المذهب لسيبويه ، وعليه أكثر البصريين.
وذهب الكوفيون والمبرد : إلى أنه لا يجوز ذلك ، وقالوا : لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل.
وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو : إن اليوم زيداً مسافر ، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها ، ولا بمعموله ، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية ، وقول الشاعر :
فيأبى فما يزداد إلا لجاجه . . .
وكنت أبياً في الخفا لست أقدم
وتقدم تفسير جملة وحاق بهم.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإنْ تأخر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله ، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله.
والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس ، والمعنى : إنَّ هذا الخلق في سجايا الناس ، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح ، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله : إلا الذين صبروا متصلاً.
وقيل : المراد هنا بالإنسان الكافر.
وقيل : المراد به إنسان معين ، فقال ابن عباس : هو الوليد بن المغيرة ، وفيه نزلت.
وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي ، وذكره الواحدي ، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ومعنى رحمة : نعمة من صحة ، وأمن وجدة ، ثم نزعناها أي سلبناها منه.
ويؤوس كفور ، صفتا مبالغة والمعنى : إنه شديد اليأس كثيره ، ييأس أنْ يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة ، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه.
كفور كثير الكفران ، لما سلف لله عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدىء بالنعمة ولم يسبقه الضر ، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر.
ومعنى ذهب السيئات أي : المصائب التي تسوءني.
وقوله هذا يقتضي نظراً وجهلاً ، لأن ذلك بإنعام من الله ، وهو يعتقد أنّ ذلك اتفاق أو بعد ، وهو اعتقاد فاسد.
إنه لفرح أشر بطر ، وهذا الفرح مطلق ، فلذلك ذم المتصف به ، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيداً بما فيه خير كقوله : { فرحين بما آتاهم الله من فضله } وقرأ الجمهور : لفرح بكسر الراء ، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم.
وقرأت فرقة : لفرح بضم الراء ، وهي كما تقول : ندس ، ونطس.
وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء ، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات.
ومنها الشكر على النعماء.
أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه ، وأجر كبير هو الجنة ، فيقتضي الفوز بالثواب.
ووصف الأجر بقوله : كبير ، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف ، والأمن العذاب ، ورضا الله عنهم ، والنظر إلى وجهه الكريم.
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
قال الزمخشري : كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاد ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم.
ومن اقتراحاتهم : لولا أنزل عليه كنز ، أو جاء معه ملك ، وكانوا لا يعتدون بالقرآن ، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي : لعلك تترك أن تلقيه إليهم ، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به ، وضائق به صدرك بأنْ تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه.
ثم قال : إنما أنت نذير أي : ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا ، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه.
وقال ابن عطية : سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك ، وقالوا : إئت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحو هذا من الأقوال ، فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة ، وقفه بها توقيفاً رادّاً على أقوالهم ، ومبطلاً لها.
وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره به ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
ولعلك ههنا بمعنى التوقيف والتقرير ، وما يوحي إليه هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم ، وتسفيه آبائهم أو غيره.
ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة ، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم كما جاءت آيات الموادعة.
وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك ، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً ، لأنه وصف لازم ، وضائق وصف عارض.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ ( قلت ) : ليدل على أن ضيق عارض غير ثابت ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً.
ومثله قولك : سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد انتهى.
وليس هذا الحكم مختصاً بهذه الألفاظ ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث ، فنقول : حاسن من حسن ، وثاقل من ثقل ، وفارح من فرح ، وسامن من سمن ، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه :
بمنزلة أما اللئيم فسامن بها . . .
وكرام الناس باد شحوبها
والظاهر عود الضمير في به على بعض.
وقيل : على ما ، وقيل : على التبليغ ، وقيل : على التكذيب ، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل ، والمعنى : هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك؟ وقدروا كراهته أن يقولوا ، ولئلا يقولوا ، وبأن يقولوا ، ثلاثة أقوال.
والكنز المال الكثير.
وقالوا : أنزل ، ولم يقولوا أعطى ، لأن مرادهم التعجيز ، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة ، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض.
وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان ، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار ، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال ، كالناقة لثمود ، وآنسه تعالى بقوله؛ إنما أنت نذير ، أي : الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم ، فإن ذلك إنما هو لله تعالى.
وقال مقاتل : وقيل : كافل بالمصالح قادر عليها.
وقال ابن عطية : المحصي لإيمان من شاء ، وكفر من شاء.
قيل : وهذه الآية منسوخة ، وقيل : محكمة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة أي : أيقولون افتراه.
وقال ابن القشيري : أم استفهام توسط الكلام على معنى : أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن ، أم يقولون إنه ليس من عند الله ، فإن قالوا : إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى.
فجعل أم متصلة ، والظاهر الانقطاع كما قلنا ، والضمير في افتراه عائد على قوله : ما يوحى إليك ، وهو القرآن.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم أنه ليس من عند الله ، وأنه هو الذي افتراه ، وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة ، إذ كانت هذه السورة مكية ، والبقرة مدنية ، وسورة يونس أيضاً مكية ، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة ، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم ، وكأنه يقول : هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام ، وإنما عين بقوله : مثله ، في حسن النظم والبيان وإن كان مفترى.
وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأنْ يفعل أمثالاً مما فعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال له : افعل مثلاً واحداً ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى : { أنؤمن لبشرين مثلنا } وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله : { ثم لا يكونوا أمثالكم } { وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون } وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى ، والمجموع أي : مثلين وأمثال.
والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل سورة منها له.
وقال ابن عطية : وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد ، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده ، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم : عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير ، والغرض واحد ، واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه ، فهذه غاية التوسعة.
وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر ، لأنّ هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه ، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب ، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة.
وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم : افتراه وكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس.
وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك ، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة ، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه ، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفترى.
وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة ، ووقوفها على النظم مرة انتهى.
والظاهر أن قوله : مثله ، لا يراد به المثلية في كون المعارض عشر سور ، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن.
وروي عن ابن عباس : أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود.
فقوله : مثله ، أي مثل هذه عشر السور ، وهذه السور أكثرها مدني ، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس.
والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم ، عائد على من طلب منهم المعارضة ، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين.
وجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم ، كما جاء { فإن لم يستجيبوا لك } قاله : مجاهد.
وقيل : ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين ، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإنْ لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه.
واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو ، وأن توحيده واجب ، فهل أنتم مسلمون؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي : دوموا على العلم وازدادوا يقيناً وثبات قدم أنه من عند الله.
ومعنى فهل أنتم مسلمون : أي مخلصو الإسلام ، وقال مقاتل : بعلم الله ، بإذن الله.
وقال الكلبي : بأمره.
وقال القتبي : من عند الله ، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم ، وفي لكم عائد على الكفار ، لعود الضمير على أقرب مذكور ، ولكون الخطاب يكون لواحد.
ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم ، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم ، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو ، ولأن يكون قوله : فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإسلام ، لا أنه يراد به الإخلاص.
ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة ، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم ، أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفترى فتمكن معارضته ، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم ، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم ، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب.
وقرأ زيد بن علي : إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها ، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي : أنّ التنزيل ، واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي : إن الذي نزله ، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار المناقضين في القرآن ، ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة.
وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا ، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء } الآية.
وقال مجاهد : هي في الكفرة ، وفي أهل الرياء من المؤمنين.
وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرائين ، فتلا هذه الآية.
وقال أنس : هي في اليهود والنصارى.
قال ابن عطية : ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم.
وقيل : في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فاسهم لهم ، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط ، ولا يعتقد آخره.
فإنّ الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء ، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته.
وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماماً يتنغم بألفاظ القرآن ، ويرتله أحسن ترتيل ، ويطيل ركوعه وسجوده ، ويتباكى في قراءته ، وإذا صلى وحده اختلسها اختلاساً ، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه ، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس ، وأهل الرباط المتصدق عليهم.
وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه ، كما جاء في : « السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه » وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جداً ، وإذا تعلم علماً راءى به وتبجح ، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا.
وقد فشا الرياء في هذه الآية فشواً كثيراً حتى لا تكاد ترى مخلصاً لله لا في قول ، ولا في فعل ، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
وقرأ الجمهور : نوفّ بنون العظمة ، وطلحة بن ميمون : يوف بالياء على الغيبة.
وقرأ زيد بن علي : يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى.
وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول ، وأعمالهم بالرفع ، وهو على هذه القراآت مجزوم جواب الشرط ، كما انجزم في قوله : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة ، ولهذا جزم الجواب.
ولعله لا يصح ، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد ، وكان يكون مجزوماً ، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب مضارعاً ليس مخصوصاً بكان ، بل هو جائز في غيرها.
كما روي في بيت زهير :
ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه . . .
ولو رام أن يرقى السماء بسلم
وقرأ الحسن : نوفي بالتخفيف وإثبات الياء ، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب ، واحتمل أن يكون مرفوعاً كما ارتفع في قول الشاعر :
وإن شل ريعان الجميع مخافة . . .
يقول جهاراً ويلكم لا تنفروا
والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار ، فإنْ اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم : ليس يجب لهم و لا يحق لهم إلا النار كقوله : { فجزاؤه جهنم } وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير.
والضمير في قوله : ما صنعوا فيها ، الظاهر أنه عائد على الآخرة ، والمحرور متعلق بحبط ، والمعنى : وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة.
ويجوز أن تتعلق بقوله : صنعوا ، فيكون عائداً على الحياة الدنيا ، كما عاد عليها في فيها قبل.
وما في فيما صنعوا بمعنى الذي.
أو مصدرية ، وباطل وما بعده توكيد لقوله : وحبط ما صنعوا ، وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل ، وما كانوا هو المبتدأ ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية.
وقرأ زيد بن علي : وبطل جعله فعلاً ماضياً.
وقرأ أبي ، وابن مسعود : وباطلاً بالنصب ، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون ، فهو معمول خبر كان متقدماً.
وما زائدة أي : وكانوا يعملون باطلاً ، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين.
وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها ، ويشهد للجواب قوله تعالى : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } ومن منع تأول.
وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون ، فتكون ما فاعلة ، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر ، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له.
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
لمّا ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة ، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير : كمن يريد الحياة الدنيا.
وكثيراً ما حذف في القرآن كقوله : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } وقوله : { أمّن هو قانت آناء الليل } وهذا استفهام معناه التقرير.
قال الزمخشري : أي ، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم ، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً ، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ، كان على بينة من ربه أي : على برهان من الله تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل ، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي : شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من الله ، أو شاهد من القرآن ومن قبله.
ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي : ويتلو ذلك أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى.
وقرىء كتاب موسى بالنصب ، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أنّ القرآن حق ، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه ، شاهد ممن كان على بينة كقوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } { ومن قبله كتاب موسى } ويتلوه ومن قبل التوراة إماماً كتاباً مؤتماً في الدين قدوة فيه انتهى.
وقيل في أفمن كان : المؤمنون بالرسول ، وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : محمد والمؤمنون جميعاً ، والبينة القرآن أو الرسول ، والهاء للمبالغة والشاهد.
قال ابن عباس ، والنخعي ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعكرمة : هو جبريل.
وقال الحسن بن علي : هو الرسول.
وقال أيضاً مجاهد : هو ملك وكله الله بحفظ القرآن.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل ، وقيل : هو علي بن أبي طالب.
وروى المنهال عن عبادة بن عبد الله ، قال علي كرم الله وجهه : ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك؟ قال : ويتلوه شاهد منه ، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي.
وقيل : هو الإنجيل قاله : الفراء.
وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل ، وقيل : صورة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخايله ، لأنّ كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول ، أو إلى القرآن.
ويتلوه بمعنى يتبعه ، أو يقرؤه ، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره : كتاب موسى بالنصب عطفاً على مفعول يتلوه ، أو بإضمار فعل.
وإذا لم يعن بالشاهد الإنجيل فإنما خص التوراة بالذكر ، لأنّ الملتين مجتمعتان على أنها من عند الله ، والإنجيل يخالف فيه اليهود ، فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.
وهذا يجري مع قول الجن : { إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى } ومع قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وانتصب إماماً على الحال ، والذي يظهر في تفسير هذه الآية أنه تعالى لما ذكر الكفار وأنهم ليس لهم إلا النار ، أعقب بضدهم وهم المؤمنون ، وهم الذين على بينة من ربهم ، والشاهد القرآن ، ومنه عائد على ربه.
ويدل على أنّ الشاهد القرآن ذكر قوله : ومن قبله ، أي : ومن قبل القرآن كتاب موسى ، فمعناه : أنه تظافر على هدايته شيئان : كونه على أمر واضح من برهان العقل ، وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين القرآن والتوراة ، فاجتمع له العقل والنقل.
والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعى معنى مع ، فجمع والضمير في به يعود إلى التوراة ، أو إلى القرآن ، أو إلى الرسول ، ثلاثة أقوال.
والأحزاب جميع الملل قاله : ابن جبير ، أو اليهود ، والنصارى ، قاله قتادة.
أو قريش قاله : السدي ، أو بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبيد الله ، قاله مقاتل.
وقال الزمخشري : يعني أهل مكة ومن ضامّهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
فالنار موعده أي : مكان وعده الذي يصيرون إليه.
وقال حسان :
أوردتمونا حياض الموت ضاحية . . .
فالنار موعدها والموت لاقيها
والضمير في منه عائد على القرآن ، وقيل : على الخبر ، بأن الكفار موعدهم النار.
وقرأ الجمهور : في مرية بكسر الميم ، وهي لغة الحجاز.
وقرأ السلمي ، وأبو رجاء ، وأبو الخطاب السدوسي ، والحسن : بضمها وهي لغة أسد وتميم والناس أهل مكة قاله : ابن عباس ، أو جميع الكفار من شاك وجاهل ومعاند قاله : صاحب العيتان.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
لما سبق قولهم : أم يقولون افتراه ، ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً ، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله الولد ، واتخذوا معه آلهة ، وحرموا وحللوا من غير شرع الله ، وعرضهم على الله بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم ، وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله { وعرضوا على ربك صفاً } والاشهاد : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف ، والأشهاد الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا ، أو الأنبياء ، أو هما المؤمنون ، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم أقوال.
وفي قوله : هؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم.
وفي قوله : على ربهم أي : على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم ، وكانوا جديرين أن لا يكذبوا عليه ، وهذا كما تقول إذا رأيت مجرماً : هذا الذي فعل كذا وكذا.
وتقدم تفسير الجملة بعد هذا.
وهم تأكيد لقوله : وهم ، وقوله : معجزين ، أي كانوا لا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، وما كان لهم من ينصرهم ويمنعهم من العقاب ، ولكنه أراد انظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم.
قال الزمخشري : وهو كلام الاشهاد يعني : أن كلامهم من قولهم هؤلاء إلى آخر هذه الجملة التي هي وما كان لهم من دون الله من أولياء.
وقد يظهر أن قوله تعالى : ألا لعنة الله على الظالمين من كلام الله تعالى لا على سبيل الحكاية ، ويدل لقول الزمخشري قوله : { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } الآية فكما أنه من كلام المخلوقين في تلك الآية ، فكذلك هنا يضاعف لهم العذاب يشدد ويكثر ، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة ، لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله ، وصدّ عباده عن سبيل الله ، وبغى العوج لها ، وهي الطريقة المستقيمة.
ما كانوا يستطيعون السمع إخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة يعني : السمع للقرآن ، ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما كانوا يبصرون أي : ينظرون إليه لبغضهم فيه.
ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف ، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردّهم عن ذلك مشيختهم؟ أو إخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي : أنه تعالى حتم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون لذلك سماعاً ينتفعون به ، ولا يبصرون لذلك.
وقيل : الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي : فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء.
ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً ، وما على هذه الأقوال نفي.
وقيل : ما مصدرية أي : يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم ، والمعنى : أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد.
وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية ، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع أنْ وأن أختيها ، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى.
وقال الزمخشري : أراد أنهم لفرط تصامّهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع ، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل ، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي انتهى.
يعني : أنه يمكن أن يستدل به على أنّ العبد لا قدرة له ، لأن الله تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع ، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته.
والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم ، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى ، فخسروا في تجارتهم خسراناً لا خسران أعظم منه.
وهو على حذف مضاف أي : راحة أو سعادة أنفسهم ، وإلا فأنفسهم باقية معذبة.
وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة ، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع.
لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم ، وبنيا ، والمعنى : حق ، وما بعده رفع به على الفاعلية.
وقال الحوفي : جرم منفي بلا بمعنى حق ، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء ، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم.
وقال قوم : إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك : لا رجل ، ومعناها لا بد ولا محالة.
وقال الكسائي : معناها لا ضد ولا منع ، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله ، وتكون جرم هنا من معنى القطع ، نقول : جرمت أي قطعت.
وقال الزجاج : لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم.
ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا : إن الأصنام تنفعهم.
وجرم فعل ماض معناه كسب ، والفاعل مضمر أي كسب هو ، أي : فعلهم ، وإنّ وما بعدها في موضع نصب على المفعول به ، وجرم القوم كاسبهم.
وقال الشاعر :
نصبنا رأسه في جذع نخل . . .
بما جرمت يداه وما اعتدينا
وقال آخر :
جريمة ناهض في رأس نيق . . .
ترى لعظام ما جمعت صليبا
ويقال : لا جرم بالكسر ، ولا جر بحذف الميم.
قال النحاس : وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات : لا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، قال : وناس من فزارة يقولون : لا جرم.
وحكى الفراء فيه لغتين أخريين ، قال : بنو عامر يقولون : لا ذا جرم ، وناس من العرب يقولون : لا جرم بضم الجيم.
وقال الجبائي في نوادره : حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك ، قال : ويقال لا ذا جرم ، ولا ذو جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن ذا جرم ، ولا أن جرم ، ولا عن جرم ، ولا ذا جر ، والله بغير ميم لا أفعل ذاك.
وحكى بعضهم بغير لا جرم : أنك أنك فعلت ذاك ، وعن أبي عمرو : لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم ، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : سو ترى يريدون سوف ترى.
ولما كان خسران النفس أعظم الخسران ، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة ، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء ، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار ، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة ، والفريقان هنا الكافر والمؤمن.
ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين ، جاء التمثيلم هنا مبتدأ بالكافر فقال : كالأعمى والأصم.
ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين ، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق ، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضاً ، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع ، وليستا بضدّين ، لأنه لا تعاقب بينهما.
ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه ، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر :
إلى الملك القرن وابن الهمام . . .
وليث الكريهة في المزدحم
ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده ، وفي لفظة الأصم وضده ، لأنه تعالى لما ذكرانسداد العين أتبعه بانسداد السمع ، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع ، وذلك هو الأسلوب في المقابلة ، والأتم في الإعجاز.
ويأتي إن شاء الله تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه : { أن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } واحتمل أنْ تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ ، فيكون معناها معنى المثل ، فكأنه قيل : مثل الفريقين مثل الأعمى.
واحتمل أن يراد بالمثل الصفة ، وبالكاف مثل ، فيكون على حذف مضاف أي : كمثل الأعمى ، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس ، فأعمى البصيرة أصمها ، شبه بأعمى البصر أصم السمع ، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه ، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها.
وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول ، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه ، ويسعى في هداية نفسه.
وانتصب مثلاً على التمييز ، قال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً انتهى.
وفيه بعد ، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله : هل يستوي مثلاهما.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح ، ثم بهود ، ثم بصالح ، ثم بلوط ، مقدّماً عليه ابراهيم بسبب قوم لوط ، ثم بشعيب ، ثم بموسى وهارون ، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين.
وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن.
وقرأ النحويان وابن كثير : أني بفتح الهمزة أي : بأبي ، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول.
وقال أبو علي في قراءة الفتح : خروج من الغيبة إلى المخاطبة ، قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أنْ أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى.
وأنْ لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحاً في غير هذه السورة ، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح ، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة.
وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة ، والمراعى قبلها : إما أرسلنا وإما نذير مبين ، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي : بأن لا تعبدوا إلا الله ، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فإذا وصف به العذاب؟ ( قلت ) : مجازى مثله ، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيرهما قولك : نهاره صائم انتهى.
وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم ، وهو من كثر ألمه.
فإنْ كان أليم بمعنى مؤلم ، فنسبته لليوم مجاز ، وللعذاب حقيقة.
لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة ، وأخبر أنه رسول من عند الله ، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية ، واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق ، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي : فنحن لا نساويهم ، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل.
أي : أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا ، فكيف امتزت بأنك رسول الله؟ وفي قوله : إلا الذين هم أراذلنا ، مبالغة في الإخبار ، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه ، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك.
وفي الحديث « إنهم كانوا حاكة وحجامين» وقال النحاس : هم الفقراء والذين لا حسب لهم ، والخسيسو الصناعات.
وفي حديث هرقل : «أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل قبل» وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها ، والأنفة من الانقياد لغيرهم ، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد.
ونراك يحتمل أن تكون بصرية ، وأن تكون علمية.
قالوا : وأراذل جمع الجمع ، فقيل : جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب.
وقيل : جمع أرذال ، وقياسه أراذيل.
والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعاً ، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقاً.
وقال الزمخشري : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوّة ، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم : وما نرى لكم علينا من فضل ، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً ، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية.
وقرأ أبو عمرو ، وعيسى الثقفي : بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه : أول الرأي.
وقرأ باقي السبعة : بادي بالياء من بدا يبدو ، ومعناه ظاهر الرأي.
وقيل : بادي بالياء معناه بادىء بالهمز ، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها.
وذكروا أنه منصوب على الظرف ، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي : وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي ، أو في أول رأينا ، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم.
واحتمل هذا الوجه معنيين : أحدهما : أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم ، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك.
والمعنى الثاني : أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادىء دون تعقب ، ولو تثبتوا لم يتبعوك ، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي.
وقال الزمخشري : اتبعوك أول الرأي ، أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى.
وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة ، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان ، لأنّ في مقدرة فيه أي : في ظاهر الأمر ، أو في أول الأمر.
وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك ، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك ، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو : قام إلا زيداً القوم ، أو مستثنى نحو : جاء القوم إلا زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو ، وبادىء الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة.
وأجيب بأنه ظرف ، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب ، أي أنك ذاهب في جهد رأي ، والظروف يتسع فيها.
وإذا كان العامل أراذلنا فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم ، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم.
وقيل : بادي الرأي نعت لقوله : بشراً.
وقيل : انتصب حالاً من ضمير نوح في اتبعك ، أي : وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك.
وقيل : انتصب على النداء لنوح أي : يا بادي الرأي ، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد ، قالوا : ذلك تعجيزاً له.
وقيل : انتصب على المصدر ، وجاء الظرف والمصدر على فاعل ، وليس بالقياس.
فالرأي هنا إما من رؤية العين ، وإما من الفكر.
قال الزمخشري : وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى.
وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه ، والمعنى : ليس لكم علينا زيادة في مال ، ولا نسب ، ولا دين.
وقال ابن عباس : في الخلق والخلق ، وقيل : بكثرة الملك والملك ، وقيل : بمتابعتكم نوحاً ومخالفتكم لنا ، وقيل : من شرف يؤهلكم للنبوّة ، وقال الكلبي : نظنكم نتيقنكم ، وقال مقاتل : نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم ، وقال صاحب العتيان : بل نظنكم كاذبين توسلاً إلى الرئاسة والشهرة.
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
لما حكى شبههم في إنكار نبوّة نوح عليه السلام وهي قولهم : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } ذكر أنّ المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوّة والرسالة ، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان ، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده ، وما يجب له وما يمتنع ، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق ، وقيام الحجة على الخصم ، ولو قال : على اني على حق من ربي لقالوا له كذبت ، كقوله : { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } الآية فقال فيها : وإن يك كاذباً فعليه كذبه.
والبينة البرهان ، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوّة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوّة والحكمة.
والظاهر أن البينة غير الرحمة ، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة ، وبالرحمة النبوّة.
ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة ، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة ، فعميت عليكم.
الظاهر أنّ الضمير عائد على البينة ، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة ، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم ، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها.
فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفرداً ظاهر ، وإن كانت غيرها كما اخترناه.
فقوله : وآتاني رحمة من عنده ، اعتراض بين المتعاطفين.
قال الزمخشري : حقه أن يقال : فعميتا.
( قلت ) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره ، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة ، وإما على الرحمة ، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد.
ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له الغمام لأنه يغمه.
وقيل : هذا من المقلوب ، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه . . .
قال أبو علي : وهذا مما يقلب ، هذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن : { فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله } انتهى.
والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة ، وأما قول الشاعر : فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف.
وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين ، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب ، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على.
ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ، ولا تقول عميت على كذا؟ وقرأ الإخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول ، أي أبهمت عليكم وأخفيت ، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل.
وقرأ أبيّ ، وعليّ ، والسلميّ ، والحسن ، والأعمش : فعماها عليكم.
وروى الأعمش عن أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما حقيقته؟ ( قلت ) : حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ، ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.
( فإن قلت ) : فما معنى قراءة أبيّ؟ ( قلت ) : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين انتهى.
وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة ، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على { أرأيتم } مشبعاً ، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما منصوب ، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية.
تقول : أرأيتك زيداً ما صنع ، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة.
وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني ، وقررنا هناك أن قوله : { أرأيتكم إن أتاكم عذاب من الله } أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله.
أرأيتكم يطلبه منصوباً ، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً ، فأعمل الثاني ، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً ، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم ، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها ، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها ونحوه ، فسيكفيكهم الله ، ويجوز فسيكفيك إياهم ، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها ، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل.
قال : وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه.
وقال ابن أبي الربيع : إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير ، تقول : أعطيتكه.
قال تعالى : أنلزمكموها؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له ، قال سيبويه : فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً ، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب ، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك : أعطيتكه وقد أعطاكه.
قال الله تعالى : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ، فهذا كهذا ، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى.
فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك.
وقال الزمخشري : وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم ، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً.
والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين ، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى.
وأخذه الزمخشري من الزجاج ، قال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق.
وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب . . .
والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون ، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً.
قال النحاس : ويجوز على قول يونس أنلزمكمها ، كما تقول : أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : أنوحيها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ.
قال ابن عطية : وفي قراءة أبيّ بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا ، ومعناه من تلقاء أنفسنا.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى.
ومعنى شطر نحو ، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
تلطف نوح عليه السلام بندائه بقوله : ويا قوم ، استدراجاً لهم في قبول كلامه ، كما تلطف إبراهيم عليه السلام بقوله «يا أبت يا أبت» وكما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله : « يا قوم يا قوم» والضمير في عليه عائد إلى الإنذار.
وإفراد الله بالعبادة المفهوم من قوله لهم : { إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله } وقيل : على الدين ، وقيل : على الدعاء إلى التوحيد ، وقيل : على تبليغ الرسالة.
وكلها أقوال متقاربة ، والمعنى : إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أنّ أدعوكم إلى الله ، وإني لا أبتغي عما ألقيه إليكم من شرائع الله مالاً ، فلا يتفاوت حالكم وحالهم.
وأيضاً فلعلهم ظنوا أنه يريد الاسترفاد منهم ، فنفاه بقوله : لا أسألكم عليه مالاً إنْ أجري إلاّ على الله ، فلا تحرموا أنفسكم السعادة الأبدية بتوهم فاسد.
ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم ، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم ، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين رفعاً لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء.
ونظير هذا ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرد أتباعه الذين لم يكونوا من قريش.
وقرىء : بطارد بالتنوين ، قال الزمخشري : على الأصل يعني : أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا يضاف ، وهذا ظاهر كلام سيبويه.
ويمكن أن يقال : إن الأصل الإضافة لا العمل ، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما : شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه.
والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة ، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه.
إنهم ملاقوا ربهم : ظاهره التعليل لانتفاء طردهم ، أي : إنهم يلاقون الله ، أي : جزاءه ، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد.
وقال الزمخشري : معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم ، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي منهم ، وما أعرف غيره منهم ، أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادي الرأي من غير نظر ولا تفكر ، وما عليّ أنْ أشق على قلوبهم وأتعرف ذلك منهم حتى أطردهم ونحوه { ولا تطرد الذين يدعون } الآية أو هم مصدّقون بلقاء ربهم ، موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة انتهى.
ووصفهم بالجهل لكونهم بنوا أمرهم على الجهل بالعواقب ، والاغترار بالظواهر.
أو لأنهم يتسافلون على المؤمنين ويدعونهم أراذل من قوله : ألا لا يجهلن أحد علينا.
أو تجهلون لقاء ربكم ، أو تجهلون أنهم خير منكم ، أو وصفهم بالجهل في هذا الاقتراح ، وهو طرد المؤمنين ونحوه : من ينصرني ، استفهام معناه لا ناصر لي من عقاب الله إن طردتهم عن الخير الذي قد قبلوه ، أو لأجل إيمانهم قاله : الفراء ، وكانوا يسألونه أنْ يطردهم ليؤمنوا به أنفة منهم أن يكونوا معهم على سواء ، ثم وقفهم بقوله : أفلا تذكرون ، على النظر المؤدّي إلى صحة هذا الاحتجاج.
وتقدم تفسير الجمل الثلاث في الأنعام.
وتزدري تفتعل ، والدال بدل من التاء قال :
ترى الرجل النحيف فتزدريه . . .
وفي أثوابه أسد هصور
وأنشد الفراء :
يباعده الصديق وتزدريه . . .
حليلته وينهره الصغير
والعائد على الموصول محذوف أي : تزدرونهم ، أي : تستحقرهم أعينكم.
ولن يؤتيهم معمول لقوله : ولا أقول ، وللذين معناه لأجل الذين.
ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب ، أي : ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله ولا يبطل أجورهم ، الله أعلم بما في أنفسهم ، تسليم لله أي : لست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك لله تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه.
وقيل : هو رد على قولهم : اتبعك أراذلنا ، أي لست أحكم عليهم بأنْ لا يكون لهم خير لظنكم بهم ، إن بواطنهم ليست كظواهرهم ، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم ، إني لو فعلت ذلك لمن الظالمين ، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه ، قد جادلتنا الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة.
وقال الكلبي : دعوتنا.
وقيل : وعظتنا ، وقيل : أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك.
وقرأ ابن عباس : فأكثرت جدلنا كقوله : { وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً } فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي بما تعدناه ، أو مصدرية ، وإنما كثرت مجادلته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم.
قال : إنما يأتيكم به الله ، أي ليس ذلك إليّ إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي : إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه ، ولا أن تمتنعوا.
ولما قالوا : قد جادلتنا ، وطلبوا تعجيل العذاب ، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال : ولا ينفعكم نصحي.
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : نصحي بفتح النون ، وهو مصدر.
وقراءة الجماعة بضمها ، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر ، واحتمل أن يكون اسماً.
وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله : ولا ينفعكم نصحي ، وهو دليل على جواب الشرط تقديره : إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، والشرط الثاني : اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله : ولا ينفعكم نصحي ، تقديره : إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي.
وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول ، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً ، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم ، فلا ينفعكم نصحي ، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو : إنْ كان الله يريد أن يغويكم.
فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي.
ونظيره : { وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها } وقال الزمخشري : قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله : لا ينفعكم نصحي ، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني.
وقال ابن عطية : وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك.
والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأنّ إرادة البشر غير مغنية ، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي ، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى.
وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال : جواب الأول النصح ، وجواب الثاني النفع.
والظاهر أنّ معنى يغويكم يضلكم من قوله : غوى الرجل يغوي وهو الضلال.
وفيه إسناد الإغواء إلى الله ، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون : إن الضلال هو من العبد.
وقال الزمخشري : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء ، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشاداً وهداية انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال ، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف ، فلا ينبغي أن يقال : إذا عرف الله كما قال الزمخشري ، وللمعتزلي أن يقول : لا يتعين أن تكون إن شرطية ، بل هي نافية والمعنى : ما كان الله يريد أن يغويكم ، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى ، ويكون قوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح ، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم ، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر.
وقيل : معنى يغويكم يهلككم ، والغوي المرض والهلاك.
وفي لغة طيء : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً ، والغوي بضم الفصيل وقاله : يعقوب في الإصلاح.
وقيل : فقده اللبن حتى يموت جوعاً قاله : الفراء ، وحكاه الطبري يقال منه : غوى يغوي.
وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ، أو لما يهلك بعد.
قال ابن الأنباري : وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه ، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجوداً في لسان العرب ، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره.
وإذا كان معنى يغويكم يهلككم ، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني ، بل الحجة من غير هذا ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي؟ وفي قوله : هو ربكم ، تنبيه على المعرفة بالخالق ، وأنه الناظر في مصالحكم ، إن شاء أن يغويكم ، وإن شاء أن يهديكم.
وفي قوله : وإليه ترجعون ، وعيد وتخويف.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قيل : هذه الآية اعترضت في قصة نوح ، والإخبار فيها عن قريش.
يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي : افترى القرآن ، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه ، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده ، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح ، أي : بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه ، فقال عليه السلام قل : إن افتريته فعليّ إثم إجرامي ، والإجرام مصدر أجرم ، ويقال : أجر وهو الكثير ، وجرم بمعنى.
ومنه قول الشاعر :
طريد عشيرة ورهين ذنب . . .
بما جرمت يدي وجنى لساني
وقرىء أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم ، ذكره النحاس ، وفسر بآثامي.
ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ ، وقيل : مما تجرمون من الكفر والتكذيب.
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
قرأ الجمهور وأوحي مبنياً للمفعول ، أنه بفتح الهمزة.
وقرأ أبو البرهشيم : وأوحي مبنياً للفاعل ، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين ، وعلى إجراء أوحى مجرى قال : على مذهب الكوفيين ، أيأسه الله من إيمانهم ، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى عنهم.
ومعنى إلا من قد آمن أي : من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه ، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون ، وهو حزنه عليهم في استكانة.
وابتأس افتعل من البؤس ، ويقال : ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه ، وقال الشاعر :
وكم من خليل أو حميم رزئته . . .
فلم نبتئس والرزء فيه جليل
وقال آخر :
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس . . .
منه واقعد كريماً ناعم البال
وقال آخر :
فارس الخيل إذا ما ولولت . . .
ربة الخدر بصوت مبتئس
وقال آخر :
في مأتم كنعاج ص . . .
رة يبتئسن بما لقينا
صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك ، فقد حان وقت الانتقام منهم.
واصنع عطف على فلا تبتئس ، بأعيننا بمرأى منا ، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها ، ولا يحول بين العمل وبينه أحد.
والجمع هنا كالمفرد في قوله : ولتصنع على عيني ، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها.
وقرأ طلحة بن مصرف : باعينا مدغمة.
ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع.
وعن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
قيل : ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك ، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة.
وقول من قال : معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف ، لأن قوله : واصنع الفلك ، مغن عن ذلك.
وفي الحديث : « كان زان سفينة نوح جبريل » والزان القيم بعمل السفينة.
والذين ظلموا قوم نوح ، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم ، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق ، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله : { يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
ويصنع الفلك حكاية حال ماضية ، والفلك السفينة.
ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال : يا رب ما أنا بنجار ، قال : بلى ، ذلك بعيني.
فأخذ القدوم ، وجعلت يده لا تخطىء ، فكانوا يمرون به ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً؟ وقيل : كانت الملائكة تعلمه ، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه ، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني ، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه ، والخشب من الساج قاله : قتادة ، وعكرمة ، والكلبي.
قيل : وغرسه عشرين سنة.
وقيل : ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس.
وقال عمرو بن الحرث : لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان.
وقال ابن عباس : من خشب الشمشار ، وهو البقص قطعة من جبل لبنان.
واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول ، وفي مقدار مدة عملها ، وفي المكان الذي عملت فيه ، ومقدار طولها وعرضها ، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء.
وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت ، قالوا : يا نوح ما تصنع؟ قال : ابني بيتاً يمشي على الماء ، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله : مقاتل.
وقيل : لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر ، فكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً.
وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه ، وقال : مستأنف على تقدير سؤال سائل.
وجوزوا أن يكون العامل قال : وسخروا صفة لملا ، أو بدل من مرّ ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه.
قال ابن عطية : وسخروا منه استجهلوه ، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ، ولا كانت ، فوجه الاستجهال واضح ، وبذلك تظاهرت التفاسير ، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى ، فأنا نسخر منكم في المستقبل كما تسخرون منا الآن أي : مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا ، وأحرقتم في الآخرة ، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال : قريباً من معناه الزجاج.
أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم ، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر ، وبناء على ظاهر الحال ، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق.
وقال ابن جريج : إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة.
والسخرية استجهال مع استهزاء.
وفي قوله : فسوف تعلمون ، تهديد بالغ ، والعذاب المخزي الغرق ، والعذاب المقيم عذاب الآخرة ، لأنه دائم عليهم سرمد.
ومن يأتيه مفعول بتعلمون ، وما موصولة ، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد.
وقال ابن عطية : وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين ، واقتصر على الواحد انتهى.
ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً ، لأنّ أصله خبر مبتدأ ، ولا اختصاراً هنا ، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله : من يأتيه.
وقيل : مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء ، ويأتيه الخبر ، والجملة في موضع نصب ، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين.
وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء ، ويحل بكسرها بمعنى ويجب.
قال الزمخشري : حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه ، ومعنى يخزيه : يفضحه ، أو يهلكه ، أو يذله ، وهو الغرق.
أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام ، وهي هنا غاية لقوله : ويصنع الفلك.
ويصنع كما قلنا حكاية حال أي : وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود.
والجملة من قوله : وكلما مرّ عليه حال ، كأنه قيل : ويصنعها ، والحال أنه كلما مر ، وأمرنا واحد الأمور ، أو مصدر أي : أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال ، وللملائكة بالتصرف في ذلك ، ونحو هذا مما يقدر في النازلة.
وفار : معناه انبعث بقوة ، والتنور وجه الأرض ، والعرب تسميه تنوراً قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والزهري ، وابن عيينة ، أو التنور الذي يخبز فيه ، وكان من حجارة ، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله : الحسن ، ومجاهد ، وروي أيضاً عن ابن عباس.
وقيل : كان لآدم ، وقيل : كان تنور ، نوح ، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله : قتادة ، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة ، أو من أقصى دار نوح قاله : مقاتل ، أو موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن ، أو طلوع الشمس وروي عن علي ، أو نور الصبح من قولهم : نور الفجر تنويراً قاله : علي ومجاهد ، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب : «حمي الوطيس» والوطيس أيضاً مستوقد النار ، فلا فرق بين حمى وفار ، إذ يستعملان في النار.
قال الله تعالى : { سمعوا لها شهيقاً وهي تفور } ولا فرق بين الوطيس والتنور.
والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار ، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص ، ويحتمل أن تكون للجنس.
ففار النار من التنانير ، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران.
ولا تنافي بين هذا وبين قوله : { وفجرنا من الأرض ينبوعاً } إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير ، والتفجير غير الفوران ، فحصل الفوران للتنور ، والتفجير للأرض.
والضمير في فيها عائد على الفلك ، وهو مذكر أنث على معنى السفينة ، وكذلك قوله : وقال اركبوا فيها.
وقرأ حفص : من كل زوجين بتنوين ، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول ، واثنين نعت توكيد ، وباقي السبعة بالإضافة ، واثنين مفعول احمل ، وزوجين بمعنى العموم أي : من كل ما له ازدواج ، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره.
قال ابن عطية : ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج ، فيقال : هذا زوج ، هذا وهما زوجان ، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى : { ثمانية أزواج } ثم فسرها وفي قوله { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } وقال الأخفش : وقد يقال في كلام العرب للاثنين زووج ، هكذا تأخذه العدديون.
والزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله تعالى : { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } وقال تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } انتهى.
ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء ، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره الله أن يحمل من الزوجين اثنين ، يعني : ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان.
فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى ، وكانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للوحوش ، والوسطى للطعام والشراب ، والعليا له ولمن آمن.
وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل ، وعلى اثنين إن أضيف ، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار.
قال الزمخشري : سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال ، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة ، وابنه كنعان.
ومن آمن عطف على وأهلك ، قيل : كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة ، وقيل : كانوا ثلاثة وثمانين.
وقال ابن عباس : آمن معه ثمانون رجلاً ، وعنه ثمانون إنساناً ، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث ، وثلاث كنائن له ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل.
وقيل : كانوا ثمانية وسبعين ، نصفهم رجال ، ونصفهم نساء.
وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم : نوح ، وبنوه سام وحام ويافث ، وستة ناس من كان آمن به وأزواجهم جميعاً.
وعن ابن إسحاق : كانوا عشرة : خمسة رجال ، وخمس نسوة.
وقيل : كانوا تسعة ونوح ، وثمانية أبناء له وزوجته.
وقيل : كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت ، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم ، وهو قول : قتادة ، والحكم ، وابن عيينة ، وابن جريج ، ومحمد بن كعب.
وقال الأعمش : كانوا سبعة : نوح ، وثلاث كنائن ، وثلاث بنين.
وهذه أقوال متعارضة ، والذي أخبر الله تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل ، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم الله عددهم إلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
رسا الشيء يرسو ، ثبت واستقر.
قال :
فصبرت نفساً عند ذلك حرة . . .
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
{ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } : الضمير في : وقال ، عائد على نوح أي : وقال نوح حين أمر بالحمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله : اركبوا فيها.
وقيل : الضمير عائد على الله ، والتقدير : وقال الله لنوح ومن معه ، ويبعد ذلك قوله : إن ربي لغفور رحيم.
قيل : وغلب من يعقل في قوله : اركبوا ، وإنْ كانوا قليلاً بالنسبة لما لا يعقل ممن حمل فيها ، والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة ، لأنه لا يليق بما لا يعقل.
وعدى اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها ، أو معنى ادخلوا فيها.
وقيل : التقدير اركبوا الماء فيها.
وقيل : في زائدة للتوكيد أي : اركبوها.
والباء في بسم الله في موضع الحال ، أو متبركين بسم الله.
ومجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان ، لأنهما يجيئان لذلك.
أو ظرفا زمان على جهة الحذف ، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاج ، أي : وقت قدوم الحاج ، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف ، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل.
ويجوز أن يكون باسم الله حالاً من ضمير فيها ، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية ، أي : اركبوا فيها ملتبساً باسم الله إجراؤها وإرساؤها أي : ببركة اسم الله.
أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء ، وباسم الله الخبر ، والجملة حال من الضمير في فيها.
وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة ، والحال مقدرة.
ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا ، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالاً.
ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر ، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولاً بالركوب ، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر الله أو بأمره وقدرته ، فالجملتان كلامان محكيان.
يقال : كما أن الجملة الثانية محكية أيضاً بقال.
وقال الضحاك : إذا أراد جري السفينة قال بسم الله مجراها فتجري ، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله مرساها فتقف.
وقرأ مجاهد ، والحسن ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وشيبة ، والجمهور من السبعة الحرميان ، والعربيان ، وأبو بكر : مجراها بضم الميم.
وقرأ الأخوان ، وحفص : بفتحها ، وكلهم ضم ميم مرساها.
وقرأ ابن مسعود ، وعيسى الثقفي ، وزيد بن عليّ ، والأعمش ، مجراها ومرساها بفتح الميمين ، ظرفي زمان أو مكان ، أو مصدرين على التقارير السابقة.
وقرأ الضحاك ، والنخعي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وابن جند ، والكلبي ، والجحدري ، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم الله ، فهما في موضع خبر ، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين.
وقال ابن عطية : وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم الله انتهى.
ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ يكونا معرفتين.
وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة ، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرّف.
إن ربي لغفور ستور عليكم ذنوبكم بتوبتكم وإيمانكم ، رحيم لكم إذا نجاكم من الغرق.
وروي في الحديث : « أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع » وعن عكرمة : لعشر خلون من رجب.
وهي تجري بهم إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة ، وبهم حال أي : ملتبسة بهم ، والمعنى : تجري وهم فيها في موج كالجبال ، أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها.
روي أن السماء أمطرت جميعها حتى لم يكن في الهواء جانب إلا أمطر ، وتفجرت الأرض كلها بالنبع ، وهذا معنى التقاء الماء.
وروي أن الماء علا على الجبال وأعالي الأرض أربعين ذراعاً ، وقيل : خمسة عشر.
وكون السفينة تجري في موجٍ دليل على أنه كان في الماء موج ، وأنه لم يطبق الماء ما بين السماء والأرض ، وأنّ السفينة لم تكن تجري في جوف الماء والماء أعلاها وأسفلها ، فكانت تسبح في الماء كما تسبح السمكة ، كما أشار إليه الزجاج والزمخشري وغيرهما.
وقد استبعد ابن عطية هذا قال : وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ ثم كيف استقامت حياة من في السفينة؟ وأجاب الزمخشري : بأن الجريان في الموج كان قبل التطبيق ، وقيل أنْ يعم الماء الجبال.
ألا ترى إلى قول ابنه : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.
ونادى نوح ابنه ، الواو لا ترتب.
وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله : وهي تجري بهم في موج ، وفي إضافته إليه هنا وفي قوله : إن ابني من أهلي ، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه ، وهو قول : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن جبير ، وميمون بن مهران ، والجمهور ، واسمه كنعان.
وقيل : يام ، وقيل : كان ابن قريب له ودعاه بالبنوّة حناناً منه وتلطفاً.
وقرأ الجمهور : بكسر تنوين نوح ، وقرأ وكيع بن الجراح : بضمه ، أتبع حركته حركة الإعراب في الحاء.
قال أبو حاتم : هي لغة سوء لا تعرف.
وقرأ الجمهور : بوصل هاء الكناية بواو ، وقرأ ابن عباس : أنه بسكون الهاء ، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي : وهذا على لغة الازد الشراة ، يسكنون هاء الكناية من المذكر ، ومنه قول الشاعر :
ونضواي مشتاقان له أرقان . . .
وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل ، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون :
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش . . .
إلا لأن عيونه سيل واديها
وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت.
قال أبو الفتح : ذلك على النداء.
وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء.
وقرأ عليّ ، وعروة ، وعليّ بن الحسين ، وابنه أبو جعفر ، وابنه جعفر : ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي : ابنها مضافاً لضمير امرأته ، فاكتفى بالفتحة عن الألف.
قال ابن عطية : وهي لغة ، ومنه قول الشاعر :
إما تقود بها شاة فتأكلها . . .
أو أن تبيعه في بعض الأراكيب
وأنشد ابن الأعرابي على هذا :
فلست بمدرك ما فات مني . . .
بلهف ولا بليت ولا لواني
انتهى.
يريد تبيعها وتلهفاً ، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف ، قال ابن عطية : وليس كما قال انتهى.
وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة ، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف ، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء ، وأجاز ذلك الأخفش.
وقرأ أيضاً عليّ وعروة ابنها بفتح الهاء وألف أي : ابن امرأته.
وكونه ليس ابنه لصلبه ، وإنما كان ابن امرأته قول : علي ، والحسن ، وابن سيرين ، وعبيد بن عمير.
وكان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه ، قال قتادة : فقلت له : إن الله حكى عنه أن ابني من أهلي ، وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل مني ، فعلى هذا يكون ربيباً.
وكان عكرمة ، والضحاك ، يحلفان على أنه ابنه ، ولا يتوهم أنه كان لغير رشدة ، لأن ذلك غضاضة عصمت منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وروي ذلك عن الحسن وابن جريج ، ولعله لا يصح عنها.
وقال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه ابنه ، وأما قراءة من قرأ ابنه أو ابنها فشاذة ، ويمكن أن نسب إلى أمه وأضيف إليها ، ولم يضف إلى أبيه لأنه كان كافراً مثلها ، يلحظ فيه هذا المعنى ولم يضف إليه استبعاداً له ، ورعياً أن لا يضاف إليه كافر ، وإنما ناداه ظناً منه أنه مؤمن ، ولولا ذلك ما أحب نجاته.
أو ظناً منه أنه يؤمن إنْ كان كافراً لما شاهد من الأهوال العظيمة ، وأنه يقبل الإيمان.
ويكون قوله : اركب معنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان ، وتأكد بقوله : ولا تكن مع الكافرين ، أي اركب مع المؤمنين ، إذ لا يركب معهم إلا مؤمن لقوله : ومن آمن.
وفي معزل أي : في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين.
وقيل : في معزل عن دين أبيه ، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة ، والمعنى : اركب معنا في السفينة فتنجو ولا تكن مع الكافرين فتهلك.
وقرأ عاصم يا بني بفتح الياء ، ووجه على أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، وأصله يا بنيا كقولك : يا غلاماً ، كما اجتزأ باقي السبعة بالكسرة عن الياء في قراءتهم يا بني بكسر الياء ، أو أن الألف انحذفت لالتقائها مع راء اركب.
وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجير على العادة ، فلذلك قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي : من وصول الماء إليّ فلا أغرق ، وهذا يدل على عادته في الكفر ، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به.
قيل : والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه ، والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وأنه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت ، وأنّ من رحم يقع فيه من على المعصوم.
والضمير الفاعل يعود على الله تعالى ، وضمير الموصول محذوف ، ويكون الاستثناء منقطعاً أي : لكنْ من رحمة الله معصوم ، وجوزوا أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم ، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة ، كما قالوا لابن أي : ذو لبن ، وذو عصمة ، مطلق على عاصم وعلى معصوم ، والمراد به هنا المعصوم.
أو فاعل بمعنى مفعول ، فيكون عاصم بمعنى معصوم ، كماء دافق بمعنى مدفوق.
وقال الشاعر :
بطيء الكلام رخيم الكلام . . .
أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتوناً.
ومن للمعصوم أي : لا ذا عصمة ، أو لا معصوم إلا المرحوم.
وعلى هذين التجويزين يكون استثناء متصلاً ، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق أخرى : وهو حذف مضاف وقدره : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم ، يعني في السفينة انتهى.
والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف ، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، لأنه لما قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح : لا عاصم ، أي لا عاصم موجود.
ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل يدل عليه عاصم ، أي : لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله ، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف.
ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بقوله : لا عاصم ، ولا أن يكون من أمر الله متعلقاً به ، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولاً ، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه وإعرابه ، ولا يبنى وهو مبنى ، فبطل ذلك.
وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبراً لقوله : لا عاصم.
قال الحوفي : ويجوز أن يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار ، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم.
وقال ابن عطية : واليوم ظرف وهو متعلق بقوله : من أمر الله ، أو بالخبر الذي تقديره : كائن اليوم انتهى.
وردّ ذلك أبو البقاء فقال : فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم ، لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة ، بل الخبر من أمر الله ، واليوم معمول من أمر الله.
وقال الحوفي : ويجوز أن يكون اليوم نعتاً لعاصم ومن الخبر انتهى.
ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث ، كما لا يكون خبراً.
وقرىء إلا من رحم بضم الراء مبنياً للمفعول ، وهذا يدل على أنّ المراد بمن في قراءة الجمهور الذين فتحوا الراء هو المرحوم لا الراحم ، وحال بينهما أي بين نوح وابنه.
قيل : كانا يتراجعان الكلام ، فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة ، وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق.
وقال الفراء : بينهما أي بين ابن نوح والجبل الذي ظن أنه يعصمه.
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
البلع : معروف ، والفعل منه بلع بكسر اللام وبفتحها لغتان حكاهما الكسائي والفراء ، يبلع بلعاً ، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء.
الإقلاع : الإمساك ، يقال : أقلع المطر ، وأقلعت الحمى ، أي أمسكت عن المحموم.
وقيل : أقلع عن الشيء تركه ، وهو قريب من الإمساك.
غاض الماء نقص في نفسه ، وغضته نقصته ، جاء لازماً ومتعدياً.
الجودي : علم لجبل بالموصل ، ومن قال بالجزيرة أو بآمد ، فلأنهما قريبان من الموصل.
وقيل الجودي : اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :
سبحانه ثم سبحانا نعوذ له . . .
وقبلنا سبح الجودي والجمد
{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين.
قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين.
قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } : قال الزمخشري : نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص ، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله : يا أرض ويا سماء ، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله : ابلعي ماءك وأقلعي ، من الدلالة على الاقتدار العظيم ، وأنّ السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء ، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون ، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه ، وقدرته على كل مقدور ، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له ، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب.
فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا بطء.
وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن ، قال الحسن : يدل على عظمة هذه الأجسام ، والحق تعالى مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء ، وأراد فصار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلوّ قدرته وهيبته انتهى.
وبناء الفعل في وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر.
قال الزمخشري : ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء ، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكون قاهر ، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ، ولا أن تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره.
ولما ذكرنا من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم ، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : ابلعي واقلعي ، وذلك وان كان الكلام لا يخلو من حسن ، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب ، وما عداها قشور انتهى.
وأكثره خطابة ، وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية ، وعلى هذا جمهور الحذاق.
وقيل : إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب.
وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال : هذا كلام القادرين ، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال : هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله.
وقال ابن عباس في قوله : وقضي الأمر ، غرق من غرق ، ونجا من نجا.
وقال مجاهد : قضي الأمر بهلاكهم ، وقال ابن قتيبة ، قضي الأمر فرغ منه ، وقال ابن الأنباري : أحكمت هلكة قوم نوح ، وقال الزمخشري : أنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه.
واستوت أي استقرت السفينة على الجودي ، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرّم قاله : ابن عباس ، والضحاك.
وقيل : يوم الجمعة ، وقيل : في ذي الحجة.
وأقامت على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء.
وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي.
وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك.
وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة.
قال ابن عطية : وهما لغتان ، وقال صاحب اللوامح : هو تخفيف ياءي النسب ، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه ، والظاهر أن قوله : وقيل بعداً من قول الله تعالى كالأفعال السابقة ، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل ، وقيل : من قول نوح والمؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون من قول الملائكة ، قيل : ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن ، ثم قول محسوس.
ومعنى بعد هلاكاً يقال : بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك ، واللام في للقوم من صلة المصدر.
وقيل : تتعلق بقوله : وقيل ، والتقدير وقيل لأجل الظالمين ، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز.
ومعنى ونادى نوح ربه أي : أراد أن يناديه ، ولذلك أدخل الفاء ، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والإخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال : ولسقطت كما لم تدخل في قوله : { إذ نادى ربه نداء خفياً قال رب } والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً ، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة ، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن.
وفي قوله : إن ابني من أهلي ، ظهور أنه ولده لصلبه.
ومعنى من أهلي أي : الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله : { احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك } ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله بقوله : إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله : ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله ، وحسن الخطاب بقوله : وإن وعدك الحق ، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي ، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم.
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون من الحكمة حاكم بمعنى النسبة ، كما يقال : دارع من الدرع ، وحائض وطالق على مذهب الخليل انتهى.
ومعنى ليس من أهلك على قول من قال : إنه ابنه لصلبه أي الناجين ، أو الذين عمهم الوعد.
ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة ، إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة ، فعلى هذا نفي ما قدّر أنه داخل في قوله : وأهلك ، ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله بأنه عمل غير صالح.
والظاهر أنّ الضمير في أنه عائد على ابن نوح لا على النداء المفهوم من قوله : ونادى المتضمن سؤال ربه ، وجعله نفس العمل مبالغة في ذمه كما قال : فإنما هي إقبال وإدبار ، هذا على قراءة جمهور السبعة.
وقرأ الكسائي : عمل غير صالح جعله فعلاً ناصباً غير صالح ، وهي قراءة : علي ، وأنس ، وابن عباس ، وعائشة ، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يرجح أن الضمير يعود على ابن نوح.
قيل : ويرجح كون الضمير في أنه عائد على نداء نوح المتضمن السؤال أنّ في مصحف ابن مسعود أنه عمل غير صالح إن تسألني ما ليس لك به علم.
وقيل : يعود على الضمير في هذه القراءة على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمنه سؤال نوح المعنى : أن كونه مع الكافرين وتركه الركوب مع المؤمنين عمل غير صالح ، وكون الضمير في إنه عائداً على غير ابن نوح عليه السلام تكلف وتعسف لا يليق بالقرآن.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهلا قيل إنه عمل فاسد؟ ( قلت ) : لما نفاه من أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك ، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك.
وقرأ الصاحبان : تسألنّ بتشديد النون مكسورة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك ، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون ، وابن كثير بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس.
وقرأ الحسن وابن أبي مليكة : تسألني من غير همز ، من سال يسال ، وهما يتساولان ، وهي لغة سائرة.
وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها ، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو ، وحذفها الباقون.
قال الزمخشري : فلا تلتمس ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه ، وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه.
( فإن قلت ) : لم سمى نداءه سؤالاً ولا سؤال فيه؟ ( قلت ) : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز ، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.
( فإن قلت ) قد وعد الله أن ينجيَ أهله ، وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأنّ العدة قد سبقت له ، وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وجعل سؤاله جهلاً؟ ( قلت ) : إن الله عز وجل قدم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح ، وأن كلهم ليسوا بناجين ، وأنْ لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه.
وقال ابن عطية : معنى قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد ، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أنّ ذلك لحق واجب عند الله ، ولكنّ نوحاً عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير ، وعلى هذا القدر وقع عقابه ، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين.
ويحتمل قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، أي : لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين ، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال : إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر :
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا . . .
ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه ، فتتعلق الباء بالمستقر.
واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي ، والمعنى في الآية واحدة.
وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلاً في قوله : إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه ، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية.
وقيل : سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل ، وقيل : قبل أن عرف هلاكه ، وقيل : بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة.
أنْ أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً بأدبك ، واتعاظاً بموعظتك ، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله.
قال ابن عطية : والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة ، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه.
وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا ، وظاهر قوله : فلا تسألن ما ليس لك به علم ، يعم النحوين من السؤال ، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر ، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى ، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدباً مع ربه فقال : وإلا تغفر لي ، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك ، وهذا كما قال آدم عليه السلام.
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
بني الفعل للمفعول ، فقيل : القائل هو الله تعالى ، وقيل : الملائكة تبليغاً عن الله تعالى.
والظاهر الأول لقوله : منا.
وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض ، والباء للحال أي : مصحوباً بسلامة وأمن وبركات ، وهي الخيرات النامية في كل الجهات.
ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي : اهبط مسلماً عليك مكرماً.
وقرىء اهبط بضم الباء ، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذاناً له بمغفرة ربه له ورحمته إياه ، وبإقامته في الأرض آمناً من الآفات الدنيوية ، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان ، فكان ذلك تبشيراً له بعود الأرض إلى أحسن حالها ، ولذلك قال : وبركات عليك أي دائمة باقية عليك.
والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي : ناشئة من الذين معك ، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر.
قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات.
وقيل لهم : أمم ، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى.
وهذا فيه بعد تكلف ، إذ يصير التقدير : وعلى أمم هم من معك ، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه ، وعلى أمم معك أو على من معك ، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم ، وأبعد عن اللبس.
وارتفع أمم على الابتداء.
قال الزمخشري : وسنمتعهم صفة ، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأن قوله : ممن معك ، يدل عليه ، والمعنى : أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك ، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى.
ويجوز أن يكون أمم مبتدأ ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، والتقدير : وأمم منهم أي ممن معك ، أي ناشئة ممن معك ، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه ، فحذف منه وهو صفة لمنوان ، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة.
ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم ، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل ، فكان مثل قول الشاعر :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له . . .
بشق وشق عندنا لم يحول
وقال القرطبي : ارتفعت وأمم على معنى : ويكون أمم انتهى.
فإنْ كان أراد تفسير معنى فحسن ، وإن أراد الإعراب ليس بجيد ، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون ، وقال الأخفش : هذا كما تقول كلمت : زيداً وعمرو جالس انتهى.
فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل ، واحتمل أنْ تكون الواو للحال ، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة.
وقال أبو البقاء : وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره : اهبط أنت وأمم ، وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد ، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى.
وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان ، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله : ومن آمن ، ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين ، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح ، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط ، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد ، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون ، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة ، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة ، وذلك من باب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد كثير الرماد.
وظاهر قوله : ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه ، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط ، أو معهم نساؤهم ، انتظم قول المفسرين أنّ نوحاً عليه السلام هو أبو الخلق كلهم ، وسمي آدم الأصغر لذلك.
وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد ، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم ، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر ، إلا إن أريد بالذين معه أولاده ، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص.
وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه ، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين ، بل هم عبارة عن الكفار.
وقيل : هم قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، عليهم الصلاة والسلام.
تلك إشارة إلى قصة نوح ، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } في آل عمران ، وتلك إشارة للبعيد ، لأنّ بين هذه القصة والرسول مدداً لا تحصى.
وقيل : الإشارة بتلك إلى آيات القرآن ، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله ، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك ، وأعلمناهم بها ليكون مثالاً لهم وتحذيراً أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك ، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله : فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ عن الله ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذا القصة.
ومعنى ما كنت تعلمها : أي مفصلة كما سردناها عليك ، وعلم الطوفان كان معلوماً عند العالم على سبيل الإجمال ، والمجوس الآن ينكرونه.
والجملة من قوله : ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها ، أو من مجرور إليك ، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال : أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، والإشارة بقوله : من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات ، وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن.
وقال الزمخشري : ولا قومك معناه : أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ، ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم كما تقول : لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده؟.
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله : أرسلنا نوحاً إلى قومه ، عطف الواو على المجرور ، والمنصوب على المنصوب ، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو : ضرب زيد عمراً ، وبكر خالداً ، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو : ضربت زيداً ، وفي البيت عمراً ، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين : هل يجوز في الكلام ، أو يختص بالشعر؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف ، وقراءة الكسائي غيره بالخفض ، وقيل : ثم فعل محذوف أي : وأرسلنا إلى عاد أخاهم ، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل ، والأول من عطف المفردات ، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين.
وهوداً بدل أو عطف بيان.
وقرأ محيصن : يا قوم بضم الميم كقراءة حفص : قل رب احكم بالحق بالضم ، وهي لغة في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره ، وافتراؤهم قال الحسن : في جعلهم الألوهية لغير الله تعالى.
وقال الزمخشري : باتخاذكم الأوثان له شركاء.
والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى الله ، ونبه بقوله : الذي فطرني ، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام ، واعتقادهم أنها تفعل ، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة.
وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر ، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعاً إلى أنه إذا لم أطلب عرضاً منكم ، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم ، كأنه قيل : أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله تعالى ، وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك.
وتقدّم الكلام في { استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين وعمارات حراصاً عليها أشد الحرص ، فكانوا أحوج شيء إلى الماء ، وكانوا مدلين بما أوتوا من هذه القوة والبطش والبأس مهيئين في كل ناحية.
وقيل : أراد القوة في المال ، وقيل : في النكاح.
قيل : وحبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وعقمت أرحام نسائهم.
وقد انتزع الحسن بن علي رضي الله عنه من هذا ومن قوله : ويمددكم بأموال وبنين ، أن كثرة الاستغفار قد يجعله الله سبباً لكثرة الولد.
وأجاب من سأله وأخبره أنه ذو مال ولا يولد له بالاستغفار ، فأكثر من ذلك فولد له عشر بنين.
وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم ، أنه الولد وولد الولد.
وقال مجاهد وابن زيد : في الجسم والبأس ، وقال الضحاك : خصباً إلى خصبكم ، وقيل : نعمة إلى نعمته الأولى عليكم ، وقيل : قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم.
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
اعتراه بكذا : أصابه به ، وقيل افتعل من عراه يعروه.
الناصية : منبت الشعر في مقدم الرأس ، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته.
ونصوت الرجل انصوه نصواً ، مددت ناصيته.
{ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتهآ إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ } : ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك ، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد جاءهم بآيات كثيرة ، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا : ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان ، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر » وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا ، كأنه قيل : صادرين عن قولك ، قاله الزمخشري.
وقيل : عن للتعليل كقوله تعالى : { إلا عن موعدة وعدها إياه } فتتعلق بتاركي ، كأنه قيل لقولك ، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية ، فقال : أي لا يكون قولك سبباً لتركنا ، إذ هو مجرد عن آية ، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه ، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون ، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها ، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين ، كما قالت قريش : معلم مجنون { أم يقولون به جنة } واعتراك جملة محكية بنقول ، فهي في موضع المفعول ، ودلت على بله شديد وجهل مفرط ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم.
وقول هود لهم في جواب ذلك : إني أشهد الله إلى آخره ، حيث تبرأ من آلهتهم ، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون ، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له ، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه ، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة.
ومثله قول نوح لقومه : { ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون } وأكد براءته من آلهتهم وشركهم ، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم ( قلت ) : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد ، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى.
وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا ، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً ، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً ، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو : قام وضربت زيداً.
وما في ما تشركون موصولة ، إما مصدرية ، وإما بمعنى الذي أي : بريء من إشراككم آلهة من دونه ، أو من الذين تشركون ، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل ، والخطاب إنما هو لقومه.
وقال الزمخشري : أنتم وآلهتكم انتهى.
قيل : ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم ، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود ، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم ، فلم يقدروا على نيله بسوء ، ثم ذكر توكله عل الله معلماً أنه ربه وربهم ، ومنبهاً على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه ، ومفوضاً أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده ، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه ، فأنتم من جملة أولئك المقهورين.
وقوله : آخذ بناصيتها تمثيل ، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته ، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته ، حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته.
قال ابن جريج : وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع قالت : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام ، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه ، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه ، قوله الصدق ، ووعده الحق.
وقرأ الجمهور : فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى.
وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي : تولوا بضم التاء ، واللام مضارع ولّى ، وقيل : تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول ، أي : فقل لهم قد أبلغتكم ، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضياً وإضمار القول.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تولوا فعلاً ماضياً ، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي : فقد أبلغتكم انتهى.
فلا يحتاج إلى إضمار ، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود ، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل.
وقال التبريزي : هو عائد على كفار قريش ، وهو من تلوين الخطاب ، انتقل من خطاب قوم هود إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكأنه قيل : أخبرهم عن قصة قوم هود ، وادعهم إلى الإيمان بالله لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود ، فإن تولوا فقل لهم : قد أبلغتكم.
وجواب الشرط هو قوله : فقد أبلغتكم ، وصح أن يكون جواباً ، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل ، فكأنه قيل : فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب.
ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله : ويستخلف ربي قوماً غيركم.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط؟ ( قلت ) : معناه فإن تولوا لم أعاقب على تفريط في الإبلاغ ، فإنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول.
وقال ابن عطية : المعنى أنه ما عليّ كبيرهم منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان.
وقرأ الجمهور : ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي : يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم.
وقرأ حفص في رواية هبيرة : بجزمها عطفاً على موضع الجزاء ، وقرأ عبد الله كذلك ، وبجزم ولا تضروه ، وقرأ الجمهور : ولا تضرونه أي شيئاً من الضرر بتوليتكم ، لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار والمنافع.
قال ابن عطية : يحتمل من المعنى وجهين : أحدهما : ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئاً أي : لا ينقص ملكه ، ولا يختل أمره ، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود ولا تنقصونه شيئاً.
والمعنى الآخر : ولا تضرونه أي : ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ، ولا على انتصار منه ، ولا تقابلون فعله بشيء يضره انتهى.
وهذا فعل منفي ومدلوله نكرة ، فينتفي جميع وجوه الضرر ، ولا يتعين واحد منها.
ومعنى حفيظ رقيب محيط بالأشياء علماً لا يخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مؤاخذتكم ، وهو يحفظني مما تكيدونني به.
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
الجبار : المتكبر.
العنيد : الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يصغي إليه ، من عند يعند حاد عن الحق إلى جانب ، وقيل : ومنه عندي كذا أي : في جانبي.
وقال أبو عبيدة : العنيد والعنود والمعاند والعاند المعارض بالخلاف ، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم : عاند.
{ ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ.
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود } : الأمر واحد الأمور ، فيكون كناية عن العذاب ، أو عن القضاء بهلاكهم.
أو مصدر أمر أي أمرنا للريح أو لخزنتها.
والذين آمنوا معه قيل : كانوا أربعة آلاف ، قيل : ثلاثة آلاف.
والظاهر تعلق برحمة منا بقوله : نجينا أي ، نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم ، لا بأعمالهم الصالحة.
أو كنى بالرحمة عن أعمالهم الصالحة ، إذ توفيقهم لها إنما هو بسبب رحمته تعالى إياهم.
ويحتمل أن يكون متعلقاً بآمنوا أي : أنّ إيمانهم بالله وبتصديق رسوله إنما هو برحمة الله تعالى إياهم ، إذ وفقهم لذلك.
وتكررت التنجية على سبيل التوكيد ، ولقلق من لو لاصقت منا فأعيدت التنجية وهي الأولى ، أو تكون هذه التنجية هي من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه ، فأعيدت لأجل اختلاف متعلقيها.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما معنى تكرير التنجية؟ ( قلت ) : ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى ، وكانت التنجية من عذاب غليظ قال : وذلك أن الله عز وعلا بعث عليهم السموم ، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضواً عضواً انتهى.
وهذا قاله الزجاج.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد ، وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح ، فيكون المقصود على هذا تعديد النعمة ، والمشهور في عذابهم بالريح أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها ، وتحمل الظعينة كما هي ، ونحو هذا.
وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : { فسيحوا في الأرض } فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف الإخبار عنهم فقال : جحدوا بآيات ربهم أي : أنكروها.
وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيهاً على أنه مالكهم ومربيهم ، فأنكروا آياته ، والواجب إقرارهم بها.
وأصل جحد أن يتعدى بنفسه ، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء ، كما عدى كفر بنفسه في قوله : ألا أن عادا كفروا ربهم ، إجراء له مجرى جحد.
وقيل : كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر.
وعصوا رسله ، قيل : عصوا هوداً والرسل الذين كانوا من قبله ، وقيل : ينزل تكذب الرسول الواحد منزلة تكذيب الرسل ، لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته كقوله :
{ لا نفرق بين أحد من رسله } وأتبعوا أي : اتبع سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم ، والمعنى : أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به.
قال الكلبي : الجبار هو الذي يقتل على الغضب ، ويعاقب على المعصية ، وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد.
وذكر ابن الأنباري : أنه العظيم في نفسه ، المتكبر على العباد.
والظاهر أن قوله : واتبعوا عام في جميع عاد.
وقال الزمخشري : لما كانوا تابعين له دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله انتهى.
فظاهر كلامه يدل على أن اللعنة مختصة بالتابعين للرؤساء ، ونبه على علة اتباع اللعنة لهم في الدارين بأنهم كفروا ربهم ، فالكفر هو الموجب للعنة.
ثم كرر التنبيه بقوله : ألا في الدعاء عليهم تهويلاً لأمرهم ، وتفظيعاً له ، وبعثاً على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.
وفائدة قوله : قوم هود مزيد التأكيد للمبالغة في التنصيص ، أو تعيين عاد هذه من عاد ارم ، لأنّ عاداً إثنان ولذلك قال تعالى : وأنه أهلك ، عاداً الأولى ، فتحقق أن الدعاء على عاد هذه ، ولم تلتبس بغيرها.
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
قرأ ابن وثاب والأعمش : وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي ، والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة.
أنشأكم اخترعكم وأوجدكم ، وذلك باختراع آدم أصلهم ، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع.
وقيل : من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات ، المتولد منه الغذاء ، المتولد منه المني ودم الطمث ، المتولد منهما الإنسان.
وقيل : من بمعنى في واستعمركم جعلكم عماراً.
وقيل : استعمركم من العمر أي : استبقاكم فيها قاله الضحاك أي ، أطال أعماركم.
وقيل : من العمرى ، قاله مجاهد : فيكون استعمر في معنى أعمر ، كاستهلكه في معنى أهلكه.
والمعنى : أعمركم فيها دياركم ، ثم هو وارثها منكم.
أو بمعنى : جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره.
وقال زيد بن أسلم : استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار.
وقيل : ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها ، إن ربي قريب أي : داني الرحمة ، مجيب لمن دعاه.
قد كنت فينا مرجواً.
قال كعب : كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم ، لأنه كان ذا حسب وثروة.
وعن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا.
وقال مقاتل : كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم ، إذ كان يبغض أصنامهم ، ويعدل عن دينهم ، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه.
وذكر الماوردي يرجون خيره ، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره.
وبسط الزمخشري هذا القول فقال : فينا فيما بيننا مرجواً كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد ، فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور مسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أنْ لا خير فيك انتهى.
وقيل : لما كان قوى الخاطر ، وكان من قبيلتهم ، قوي رجاؤهم في أنْ ينصر دينهم ويقوي مذهبهم.
وقال ابن عطية : والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله : مرجواً مشوراً ، نؤمل فيك أن تكون سيداً سادًّا مسدّ الأكابر ، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم : أتنهانا.
وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال : معناه حقيراً ، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير ، فليس ذلك في كلام العرب ، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى ، وذلك أنّ القصد بقولهم : مرجواً بقول : لقد كنت فينا سهلاً مرامك ، قريباً رد أمرك ممن لا يظن أنْ يستعجل من أمره مثل هذا.
فمعنى مرجواً أي : مؤخراً اطراحه وغلبته.
ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار ، ولذلك فسر بحقير ، ثم يجيء قولهم : أتنهانا ، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى.
وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية ، وأنا وإننا لغتان لقريش.
قال الفراء : من قال إننا أخرج الحرف على أصله ، لأن كناية المتكلمين ن ، فاجتمعت ثلاث نونات.
ومن قال : أنا استثقل ، اجتماعها ، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى.
والذي أختاره أن ن ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة ، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن ، وإنما المحذوفة النون الثانية من أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال ، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة ، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف.
وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين ، ولم يعهد حذف نون ن ، فكان حذفها من أن أولى.
ومريب اسم فاعل من متعد ، أرابه أوقعه في الريبة ، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.
أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة ، وأسند ذلك إلى الشك إسناداً مجازياً ، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر.
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح ، والمفعول الثاني هنا لأرأيتم محذوف يدل عليه قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته ، والتقدير : أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة.
وقال ابن عطية : أرأيتم هو من رؤية القلب ، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها ، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة ، وهي كان على بينة من ربه ، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال : قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أوامره ، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية : وفي الكلام محذوف تقديره : أيضرني شككم ، أو أيمكنني طاعتكم ، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى.
وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم ، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم ، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته ، فما تزيدونني غير تخسير.
قال الزمخشري : غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران ، وأقول أنكم خاسرون انتهى.
يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي : نسبته أي الفسق والفجور.
قال ابن عباس : معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى.
فهو على حذف مضاف أي : غير بصارة تخسيركم.
وقال مجاهد : ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خساراً ، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان.
وقال ابن عطية : فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم ، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم ، وفي حيزهم ، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه : أنا أريدك خيراً وأنت تريدني سوءاً ، وكان الوجه البين أن يقول : وأنت تريد شراً ، لكن من حيث كنت مريد خير ، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى.
وقيل : التقدير فما تحملونني عليه ، غير أني أخسركم أي : أرى منكم الخسران.
وقيل : التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها.
قيل وهذا أقرب ، لأن قوله : فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين ، فأصير من الهالكين الخاسرين.
وانتصب آية على الحال ، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقاً ، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً لآية ، فلما تقدم على النكرة كان حالاً ، والعامل فيها محذوف.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فبم يتعلق لكم؟ ( قلت ) : بآية حالاً منها متقدمة ، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها ، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى.
وهذا متناقض ، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية ، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها ، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف ، فتناقض هذا الكلام ، لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة ، ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها ، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية.
وقرأت فرقة : تأكل بالرفع على الاستئناف ، أو على الحال.
وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيراً ، وذلك ثلاثة أيام ، ثم يقع عليكم ، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى ، فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحداً لأنه كان برضا منهم ، وتمالؤ.
ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم ، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي : يتصرف ، يقال : ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : في داركم جمع دارة ، كساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
له داع بمكة مشمعل . . .
وآخر فوق دارته ينادي
ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي داراً انتهى.
ذلك أي : الوعد بالعذاب غير مكذوب ، أي صدق حق.
والأصل غيره مكذوب فيه ، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به ، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق ، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول.
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
الصيحة : فعلة للمرة الواحدة من الصياح ، يقال : صاح يصبح إذا صوت بقوة.
{ فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } : والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود.
قيل : الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي : ونجيناهم من خزي ، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ.
وقرأ طلحة وأبان بن تغلب : ومن خزي بالتنوين ، ونصب يومئذ على الظرف معمولاً لخزي.
وقرأ الجمهور بالإضافة ، وفتح الميم نافع والكسائي ، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ ، وهو غير متمكن.
وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب ، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي : ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة ، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى.
وهذا ليس بجيد ، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله ، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها ، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملة التي تكون في يوم القيامة.
وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز ، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام ، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود ، منع حمزة وحفص صرفه ، وصرفه الباقون ، لثمود صرفه الكسائي ، ومنعه باقي السبعة.
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها ، وجعلت فوقها حجارة لتنضجها فهي حنيذ ، وحنذت الفرس أحضرته شوطاً أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق.
أوجس الرجل قال الأخفش : خامر قلبه ، وقال الفراء : استشعر ، وقيل : أحس.
والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوساً وتوجس تسمع وتحسس.
قال :
وصادقتا سمع التوجس للسرى . . .
لهجس خفي أو لصوت مندد
الضحك معروف ، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله : { فليضحكوا قليلاً } ويقال : ضحك بفتح الحاء ، والضحكة الكثير الضحك ، والضحكة المضحوك منه ، ويقال : ضحكت الأرنب أي حاضت ، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد : ضحك بمعنى حاض ، وعرف ذلك غيرهم.
وقال الشاعر أنشده اللغويون :
وضحك الأرانب فوق الصفا . . .
كمثل دم الجوف يوم اللقا
وقال الآخر :
وعهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة . . .
ولم يعد حقاً ثديها أن يحلما
أي حائضاً في لبانة ، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد.
ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت ، وضحكت الشجرة سال منها صمغها وهو شبه الدم ، وضحك الحوض امتلأ وفاض.
الشيح : معروف ، والفعل شاخ يشيخ ، وقد يقال للأنثى : شيخة.
قال :
وتضحك مني شيخة عبشمية . . .
ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ، ومن أسماء الجموع مشيخة ومشيوخاء.
المجيد قال ابن الأعرابي : الرفيع.
يقال : مجد يمجد مجداً ومجادة ومجد ، لغتان أي كرم وشرف ، وأصله من قولهم : مجدت الإبل تمجد مجداً شبعت.
وقال : أمجدت الدابة أكثرت علفها ، وقال أبو حية النميري :
تزبد على صواحبها وليست . . .
بماجدة الطعام ولا الشراب
أي : ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب.
وقال الليث : أمجد فلان عطاء ومجده إذا كثره ، ومن أمثالهم «في كل شجر نار» واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار.
وقال ابن عطية : مجد الشيء إذا حسنت أوصافه.
الروع : الفزع قال الشاعر :
إذا أخذتها هزة الروع أمسكت . . .
بمنكب مقدام على الهول أروعا
{ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب قالت يويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت { إنه حميد مجيد } : تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف ، وإنما أدرج شيئاً من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط ، لأنّ له مدخلاً في قصة لوط ، وكان ابراهيم بن خالة لوط.
والرسل هنا الملائكة ، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر : بالولد ، وبالخلة ، وبإنجاء لوط ومن آمن معه.
قيل : كانوا اثنى عشر ملكاً ، روى ذلك عن ابن عباس.
وقال السدي : أحد عشر ، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل.
وقال الضحاك : تسعة ، وقال محمد بن كعب : ثمانية ، وحكى الماوردي : أربعة ، وقال ابن عباس وابن جبير : ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل.
وقال مقاتل : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت.
وروي : أن جبريل عليه السلام كان مختصاً بإهلاك قوم لوط ، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام ، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه.
قيل : وكانت الملائكة جرداً مرداً على غاية من الحسن والجمال والبهجة ، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعالى حكاية عما قيل في يوسف : { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } وقال الغزي :
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة . . .
حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي : سلمنا عليك سلاماً ، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا ، قال ابن عطية : ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا ، لا حكاية للفظهم ، قاله : مجاهد ، والسدي.
ولذلك عمل فيه القول ، كما تقول لرجل قال : لا إله إلا الله قلت : حقاً وإخلاصاً ، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى.
ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول ، يعني في اللفظ ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول.
وسلام خبر مبتدأ محذوف أي : أمري أو أمركم سلام ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي : عليكم سلام ، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال :
إ ذا ذقت فاها قلت طعم مدامة . . .
أي طعمه طعم مدامة.
وقرأ الإخوان قال : سلم ، والسلم السلام كحرم وحرام ، ومنه قول الشاعر :
مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت . . .
كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
اكتل اتخذ إكليلاً.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول : نحن سلم لكم انتهى.
ونصب سلاماً يدل على التجدد ، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار ، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله : الفراء.
وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل ، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن ، وبفي ، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي.
وأن تكون ما مصدرية ، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء ، وأن تكون بمعنى الذي أي : فلبثه ، أو الذي لبثه ، أو الذي لبثه ، والخبر أن جاء على حذف أي : قدر مجيئه ، وهذا من أدب الضيافة ، وهو تعجيل القرى.
وكان مال إبراهيم البقر ، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل.
قال مجاهد : حنيذ مطبوخ ، وقال الحسن : نضيج مشوي سمين يقطر ودكا.
وقال السدي : سمين ، وقيل : سميط لا يصل إليه ، أي إلى العجل.
والمعنى : لا يمدون أيديهم إلى أكله ، فلم ينف الوصول الناشىء عن المد بل جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل.
نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت . . .
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وقيل : نكر فيما يرى ، وأنكر فيما لا يرى من المعاني ، فكأنّ الشاعر قال : وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر.
ومنه قول أبي ذؤيب :
فنكرنه فنفرن وامترست به . . .
هو جاء هادية وهاد جرشع
وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه ، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أو لا ويكون بتلفت ومسارعة ، لا بتحديد النظر ، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل.
قيل : كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروهاً.
وقيل : كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه.
قال الزمخشري : ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم ، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه ، أو لتعذيب قومه.
ألا ترى إلى قولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا.
قال مقاتل : فأوجس وقع في قلبه.
وقال الحسن : حدث به نفسه ، قيل : وأصل الوجوس الدخول ، فكأن الخوف دخل عليه.
والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر ، وكان مشغوفاً بإكرام الأضياف ، فلذلك جاؤوا في صورهم ، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم ، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر ، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فنهوه عن شيء وقع في نفسه ، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى : { يعلمون ما تفعلون } وفي الحديث الصحيح : « قالت الملائكة ربي عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة » الحديث ، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف.
وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء : في موضع الحال ، قال أبو البقاء : من ضمير الفاعل في أرسلنا ، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله ، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل.
وقال الحوفي : والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته ، يعني امرأة ابراهيم.
والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي : قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه ، قائمة أي : لخدمة الأضياف ، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب ، ونازلة البوادي والصحراء ، ولم يكن التبرج مكروهاً ، وكانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله : مجاهد.
وجاء في شريعتنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي : وكانت امرأته عروساً ، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه.
وقال وهب : كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم.
وقال ابن إسحاق : قائمة تصلي.
وقال المبرد : قائمة عن الولد.
قال الزمخشري : وفي مصحف عبد الله وامرأته قائمة وهو قاعد.
وقال ابن عطية : وفي قراءة ابن مسعود : وهي قائمة وهو جالس.
ولم يتقدّم ذكر امرأة ابراهيم فيضمر ، لكنه يفسره سياق الكلام.
قال مجاهد وعكرمة : فضحكت حاضت.
قال الجمهور : هو الضحك المعروف.
فقيل : هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه ، يقال : أتيت على روضة تضحك أي مشرقة.
وقيل : هو حقيقة.
فقال مقاتل : وروي عن ابن عباس ضحكت من شدّة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه.
والذين جاؤوه ثلاثة ، وهي تعهده يغلب الأربعين ، وقيل : المائة.
وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم.
وقال السدي : ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت : عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا ، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال وهب بن منبه : وروي عن ابن عباس : ضحكت من البشارة بإسحاق ، وقال : هذا مقدم بمعنى التأخير.
وذكر ابن الأنباري أنّ ضحكها كان سروراً بصدق ظنها ، لأنها كانت تقول لابراهيم : اضمم إليك ابن أخيك لوطاً وكان أخاها ، فإنه سينزل العذاب بقومه.
وقيل : ضحكت لما رأت من المعجز ، وهو أنّ الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حياً يطفر ، والذي يظهر والله أعلم أنهم لما لم يأكلوا ، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم ، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل.
فلما قالوا : لا تخف ، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسرّ ، فلحقها هي من السرور ان ضحكت ، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك.
وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال : فضحكت سروراً بزوال الخيفة.
وذكر محمد بن قيس سبباً لضحكها تركنا ذكره لفظاعته ، يوقف عليه في تفسير ابن عطية : وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة : فضحكت بفتح الحاء.
قال المهدوي : وفتح الحاء غير معروف ، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى ، والمعنى : فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق ، وبأن إسحاق سيلد يعقوب.
قال ابن عطية : أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى ، إذ كان ذلك بأمره ووحيه.
وقال غيره : لما ولد لابراهيم اسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست لكبر سنها ، فبشرت بولد يكون نبياً ويلد نبياً ، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
وإنما بشروها دونه ، لأنّ المرأة أعجل فرحاً بالولد ، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه ، فأتبعوا بشارته ببشارتها.
وقيل : خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد ، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل.
والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل : ومن بعد إسحاق ، أو من خلف إسحاق ، وبمعنى بعد ، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة ، وعن ابن عباس أيضاً : أن الوراء ولد الولد ، وبه قال الشعبي : واختاره أبو عبيدة.