كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
ثم قرأ عليه السلام : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } الآية.
وتقدّم وعد الشيطان على أمره ، لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه ، فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر ، إذ الأمر استعلاء على المأمور.
وقال الزمخشري : والفاحش عند العرب البخيل ، وقال أيضاً : ويأمركم بالفحشاء ويغريكم على البخل ومنع الصدقات ، انتهى.
فتكون الجملة الثانية كالتوكيد للأولى ، ونظرنا إلى ما شرحه الشراح في الفاحش في نحو قول الشاعر :
حتى تأوى إلى لا فاحش برم . . .
ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
وقال الآخر :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي . . .
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
فقالوا : الفاحش السيء الخلق ، ولو كان الفاحش هو البخيل لكان قوله : ولا شحيح ، من باب التوكيد.
وقال في قول امرىء القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش . . .
إن معناه ليس بقبيح ، ووافق الزمخشري أبا مسلم في تفسير الفاحش بالبخيل ، والفحشاء بالبخل ، قال بعضهم.
وأنشد أبو مسلم قول طرفة :
عقيلة مال الفاحش المتشدّد . . .
قال : والأغلب في كلام العرب ، وفي تفسير البيت الذي أنشده أن الفاحش السيء الردّ لضيفانه ، وسؤَّاله.
قال : وقد وجدنا بعد ذلك شعراً يشهد لتأويل أبي مسلم أن الفحشاء البخل.
وقال راجز من طيء :
قد أخذ المجد كما أرادا . . .
ليس بفحاش يصر الزادا
انتهى.
ولا حجة في هذا البيت على أنه أراد بالفحاش البخيل ، بل يحمل على السيء الخلق ، أو السيء الردّ ، ويفهم البخيل من قوله : يصر الزادا.
{ والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } أي ستراً لذنوبكم مكافأة للبذل ، وفضلاً زيادة على مقتضى ثواب البذل.
وقيل : وفضلاً ، أن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة ، ولما تقدّم قوله : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وكان الحامل لهم على ذلك إنما هو الشح والبخل بالجيد الذي مثيره الشيطان ، بدىء بهذه الجملة من قوله { الشيطان يعدكم الفقر } وإن ما تصدّقتم من الخبيث إنما ذلك من نزغات الشيطان ليقبح لهم ما ارتكبوه من ذلك بنسبته إلى الشيطان ، فيكون أبعد شيء عنه.
ثم ذكر تعالى في مقابلة وعد الشيطان وعد الله بشيئين : أحدهما : الستر لما اجترحوه من الذنوب ، والثاني : الفضل وهو زيادة الرزق والتوسعة في الدنيا والآخرة.
روي أن في التوراة : عبدي ، أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي ، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ، وفي كتاب الله مصداقه : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه }
{ والله واسع عليم } أي : واسع بالجود والفضل على من أنفق ، عليم بنيات من أنفق ، وقيل : عليم أين يضع فضله ، ووردت الأحاديث بتفضيل الإنفاق والسماحة وذمّ البخل ، منها حديث البراء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فكل وأطعم ولا تصرر ، فيعسر عليك الطلب » وقوله صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أردأ من البخل »
{ يؤتي الحكمة من يشاء } قرأ الربيع بن خيثم بالتاء في : تؤتي ، وفي : تشاء ، على الخطاب ، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، والحكمة : القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين.
وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن طلحة : معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره.
وقال ، فيما رواه عنه أبو صالح : النبوّة ، وقاله السدي.
وقال إبراهيم ، وأبو العالية ، وقتادة : الفهم في القرآن.
وقال مجاهد فيما رواه عنه ليث : العلم والفقه؛ وقال فيما رواه عنه ابن نجيح : الإصابة في القول والفعل ، وقاله مجاهد.
وقال الحسن : الورع في دين الله ، وقال الربيع بن أنس : الخشية ، وقال ابن زيد ، وأبوه زيد بن أسلم : العقل في أمر الله.
وقال شريك : الفهم.
وقال ابن قتيبة : العلم والعمل ، لا يسمى حكيماً حتى يجمعهما.
وقال مجاهد أيضاً : الكتابة.
وقال ابن المقفع : ما يشهد العقل بصحته ، وقال القشيري ، وقال فيما روى عنه ابن القاسم : التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضاً : طاعة الله والفقه والدين والعمل به.
وقال عطاء : المغفرة.
وقال أبو عثمان : نور يفرق به بين الوسواس والمقام.
ووجدت في نسخة : والإلهام بدل المقام.
وقال القاسم بن محمد : أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك.
وقال بندار بن الحسين : سرعة الجواب مع إصابة الصواب.
وقال المفضل : الردّ إلى الصواب.
وقال الكتاني : ما تسكن إليه الأرواح.
وقيل إشارة بلا علة ، وقيل : إشهاد الحق على جميع الأحوال.
وقيل : صلاح الدين وإصلاح الدنيا.
وقيل : العلم اللدني.
وقيل : تجريد السر لورود الإلهام.
وقيل : التفكر في الله تعالى ، والاتباع له.
وقيل : مجموع ما تقدّم ذكره : فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة.
قال ابن عطية ، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه : وهذه الأقوال كلها ، ما عدا قول السدي ، قريب بعضها من بعض ، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول ، وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة ، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس.
انتهى كلامه.
وقد تقدّم تفسير الحكمة في قوله : { ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا ، إلاَّ أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك ، فلذلك فسرت هنا.
{ ومن يؤت الحكمة } قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو ضمير : من ، وهو المفعول الأول : ليؤت.
وقرأ يعقوب : ومن يؤت ، بكسر التاء مبنياً للفاعل.
قال الزمخشري : بمعنى ومن يؤته الله. انتهى.
فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك ، ليس في يؤت ضمير نصب حذف ، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط ، كما تقول : أياً تعط درهماً أعطه درهماً.
وقرأ الأعمش : ومن يؤته الحكمة ، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول : ليؤت ، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في : يؤت ، عائد على الله تعالى.
وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى ، وللاعتناء بها ، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها.
{ فقد أوتي خيراً كثيراً } هذا جواب الشرط ، والفعل الماضي المصحوب : بقد ، الواقع جواباً للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ ، مستقبل المعنى.
كهذا.
فهو الجواب حقيقة ، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان ، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط ، لأن الشرط مستقبل ، وما ترتب على المستقبل مستقبل ، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف ، ودل هذا عليه ، التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ ، فقد كذبت رسل من قبلك ، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم.
قال الزمخشري : وخيراً كثيراً ، تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتي أيّ خير كثير. انتهى.
وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم ، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره ، أي خير كثير ، إنما هو على أن يجعل خير صفة لخير محذوف ، أي : فقد أوتي خيراً ، أي خير كثير.
ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب ، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي ، فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف ، تقول : مررت برجل أي رجل كما قال الشاعر :
دعوت امرأً ، أيّ امرىء ، فأجابني . . .
وكنت وإياه ملاذاً وموئلا
وإذا تقرر هذا ، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه؟ أي : إذا كانت صفة ، فتقول : مررت برجل أيّ رجل كريم ، أو لا يجوز؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي ، وأيضاً ففي تقديره : أي خير كثير ، حذف الموصوف وإقامة أي الصفة مقامه ، ولا يجوز ذلك إلاَّ في ندور ، لا تقول : رأيت أي رجل ، تريد رجلاً ، أي رجل إلاّ في ندور.
نحو قول الشاعر :
إذا حارب الحجاج أيَّ منافق . . .
علاه بسيف كلما هُزَّ يقطع
يريد : منافقاً ، أي منافق ، وأيضاً : ففي تقديره : خيراً كثيراً أيّ كثير ، حذف أي الصفة ، وإقامة المضاف إليه مقامها ، وقد حذف الموصوف به ، أي : فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة ، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل.
{ وما يذكر إلاًَّ أولوا الألباب }.
أصله : يتذكر ، فأدغم التاء في الذال ، و : أولو الألباب ، هم أصحاب العقول السليمة ، وفي هذا حث على العمل بطاعة الله ، والامتثال لما أمر به من الإنفاق ، ونهى عنه من التصدّق بالخبيث ، وتحذير من وعد الشيطان وأمره ، ووثوق بوعد الله ، وتنبيه على أن الحكمة هي العقل المميز به بين الحق والباطل ، وذكر التذكر لما قد يعرض للعاقل من الغفلة في بعض الأحيان ، ثم يتذكر ما به صلاح دينه ودنياه فيعمل عليه.
{ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه } ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله ، أو سبيل الشيطان ، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته ، وأتى بالمميز في قوله : من نفقة ، و : من نذر ، وإن كان مفهوماً من قوله : وما أنفقتم ، ومن قوله : أو نذرتم ، من نذر ، لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك ، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، وقيل : تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر ، والنذر على قسمين : محرم وهو كل نذر في غير طاعة الله ، ومعظم نذور الجاهلية كانت على ذلك؛ ومباح مشروط وغير مشروط ، وكلاهما مفسر ، نحو : إن عوفيت من مرض كذا فعليّ صدقة دينار ، ونحو : لله علي عتق رقبة.
وغير مفسر ، نحوه إن عوفيت فعليّ صدقة أو نذر ، وأحكام النذر مذكورة في كتب الفقه.
قال مجاهد معنى : يعلمه ، يحصيه ، وقال الزجاج : يجازي عليه ، وقيل : يحفظه.
وهذه الأقوال متقاربة.
وتضمنت هذه الآية وعداً ووعيداً بترتيب علم الله على ما أنفقوا أو نذروا ، و : من نفقة ، و : من نذر ، تقدم نظائرها في الإعراب فلا تعاد ، وفي قوله : من نذر ، دلالة على حذف موصول قبل قوله : نذرتم ، تقديره : أو ما نذرتم من نذر ، لأن : من نذر ، تفسير وتوضيح لذلك المحذوف ، وحذف ذلك للعلم به ، ولدلالة ما في قوله : وما أنفقتم ، عليه ، كما حذف ذلك في قوله :
أمن يهجو رسول الله منكم . . .
ويمدحه وينصره سواء؟
التقدير : ومن يمدحه ، فحذفه لدلالة : من ، المتقدمة عليه ، وعلى هذا الذي تقرر من حذف الموصول ، فجاء الضمير مفرداً في قوله : { فإن الله يعلمه } ، لأن العطف بأو ، وإذا كان العطف بأو كان الضمير مفرداً ، لأن المحكوم عليه هو أحدهما ، وتارة يراعى به الأول في الذكر ، نحو : زيد أو هند منطلق ، وتارة يراعى به الثاني نحو : زيد أو هند منطلقة.
وأما أن يأتي مطابقاً لما قبله في التثنية أو الجمع فلا ، ولذلك تأوّل النحويون قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } بالتأويل المذكور في علم النحو ، وعلى المهيع الذي ذكرناه ، جاء قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } وقوله تعالى : { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } كما جاء في هذه الآية { فإن الله يعلمه } ولما عزبت معرفة هذه الأحكام عن جماعة ممن تكلم في تفسير هذه الآية ، جعلوا إفراد الضمير مما يتأوّل ، فحكي عن النحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقة فان الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه.
ثم حذف قال ، وهو مثل قوله :
{ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها } وقوله { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } وقول الشاعر :
نحن بما عندنا ، وأنت بما . . .
عندك راضٍ ، والرأي مختلف
وقول الآخر :
رماني بأمر كنت منه ، ووالدي . . .
بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
التقدير : نحن بما عندنا راضون ، وكنت منه بريئاً ، ووالدي بريئاً. انتهى.
فأجرى أو مجرى الواو في ذلك.
قال ابن عطية : ووحد الضمير في يعلمه ، وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص. انتهى.
وقال القرطبي : وهذا حسن ، فإن الضمير يراد به جميع المذكور ، وإن كثر انتهى.
وقد تقدّم لنا ذكر حكم أو ، وهي مخالفة للواو في ذلك ، ولا يحتاج لتأويل ابن عطية لأنه جاء على الحكم المستقر في لسان العرب في : أو.
{ وما للظالمين من أنصار } ظاهره العموم ، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله ، وقال مقاتل : هم المشركون.
وقال أبو سليمان الدمشقي : هم المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمبذورن في المعصية.
وقيل : المنفقو الحرام.
والأنصار : الأعوان جمع نصير ، كحبيب وأحباب ، وشريف وأشراف.
أو : ناصر ، كشاهد وأشهاد ، وجاء جمعاً باعتبار أن ما قبله جمع ، كما جاء : { وما لهم من ناصرين } والمفرد يناسب المفرد نحو : { مالك من الله من ولي ولا نصير } لا يقال : انتفاء الجمع لا يدل على انتفاء المفرد ، لأن ذلك في معرض نفي النفع والإغناء ، وحصول الإستعانة ، فإذا لم يجدِ الجمع ولم يغنِ ، فأحرى أن لا يجدي ولا يغني الواحد.
ولما بيَّن تعالى فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه ، وحذرنا من الجنوح إلى نزغات الشيطان ، وذكرنا بوعد الله الجامع لسعادة الآخرة والدنيا من المغفرة والفضل ، وبين أن هذا الأمر والفرق بين الوعدين لا يدركه إلاَّ من تخصص بالحكمة التي يؤتيها الله من يشاء من عباده ، رجع إلى ذكر النفقة والحث عليها ، وأنها موضوعة عند من لا ينسى ولا يسهو ، وصار ذكر الحكمة مع كونه متعلقاً بما تقدم كالاستطراد ، والتنويه بذكرها ، والحث على معرفتها.
{ إن تبدوا الصدقات } أي : إن تظهروا إعطاء الصدقات.
قال الكلبي : لما نزلت : { وما أنفقتم من نفقة } الآية قالوا : يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت : { إن تبدوا الصدقات } وقال يزيد بن أبي حبيب : نزلت في الصدقه على اليهود والنصارى ، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر ، والصدقات ظاهر العموم ، فيشمل المفروضة والمتطوّع بها.
وقيل الألف واللام للعهد ، فتصرف إلى المفروضة ، فإن الزكاة نسخت كل الصدقات ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب.
وقيل : المراد هنا صدقات التطوّع دون الفرض ، وعليه جمهور المفسرين ، وقاله سفيان الثوري.
وقد اختلفوا : هل الأفضل إظهار المفروضة أم إخفاؤها؟ فذهب ابن عباس وآخرون إلى أن إظهارها أفضل من إخفائها.
وحكى الطبري الإجماع عليه واختاره القاضي أبو يعلى ، وقال أيضاً ابن عباس : إخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها ، وروي عنه : صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً.
قال القرطبي : ومثل هذا لا يقال بالرأي ، وانما هو توقيف ، وقال قتادة : كلاهما إخفاؤه أفضل.
وقال الزجاج : كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ، فأما اليوم فالناس مسيئون الظن فاظهارها أفضل.
وقال ابن العربي : ليس في تفضيل صدقة السرّ على العلانية ، ولا صدقة العلانية على صدقة السر ، حديث صحيح.
{ فنعما هي } الفاء جواب الشرط ، و : نعم ، فعل لا يتصرف ، فاحتيج في الجواب إلى الفاء والفاعل بنعم مضمر مفسر بنكرة لا تكون مفردة في الوجود نحو : شمس وقمر.
و : لا ، متوغلة في الإبهام نحو غير.
ولا أفعل التفضيل نحو أفضل منك ، وذلك نحو : نعم رجلاً زيد ، والمضمر مفرد وإن كان تمييزه مثنى أو مجموعاً ، وقد أعربوا : ما ، هنا تمييزاً لذلك المضمر الذي في نعم ، وقدروه بشيئاً.
فما ، نكرة تامة ليست موصوفة ولا موصولة ، وقد تقدّم الكلام على : ما ، اللاحقة لهذين الفعلين ، أعنى : نعم وبئس ، عند قوله تعالى : { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا } وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وهي : ضمير عائد على الصدقات ، وهو على حذف مضاف أي : فنعما ، ابداؤها ، ويجوز أن لا يكون على حذف مضاف ، بل يعود على الصدقات بقيد وصف الإبداء ، والتقدير في : فنعما هي ، فنعما الصدقات المبدأة وهي مبتدأ على أحسن الوجوه ، وجملة المدح خبر عنه ، والرابط هو العموم الذي في المضمر المستكن في : نعم.
وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص : فنعما ، بكسر النون والعين هنا وفي النساء ، ووجه هذه القراءة أنه على لغة من يحرك العين ، فيقول : نعم ، ويتبع حركة النون بحركة العين ، وتحريك العين هو الأصل ، وهي لغة هذيل ، ولا يكون ذلك على لغة من أسكن العين ، لأنه يصير مثل : جسم مالك ، وهو لا يجوز إدغامه على ما ذكروا.
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : فنعما ، فيهما بفتح النون وكسر العين.
وهو الأصل ، لأن وزنه على فعل.
وقال قوم : يحتمل قراءة كسر العين أن يكون على لغة من أسكن ، فلما دخلت ما وأدغمت حركت العين لالتقاء الساكنين.
وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وقد روي عنهم الإسكان ، والأول أقيس وأشهر ، ووجه الإخفاء طلب الخفة ، وأما الإسكان فاختاره أبو عبيد ، وقال : الإسكان ، فيما يروى ، لغة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اللفظ ، قال لعمرو بن العاص : « نعما المال الصالح للرجل الصالح » وانكر الإسكان أبو العباس ، وأبو إسحاق ، وأبو علي لأن فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدّه.
وقال أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه.
وقال أبو إسحاق : لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث ، وقال أبو علي : لعل أبا عمرو أخفى ، فظنه السامع إسكاناً.
وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر ، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع ، وفي بعض تاآت البزي ، وفي : اسطاعوا وفي : يخصمون.
انتهى ما لخص من كلامهم.
وإنكار هؤلاء فيه نظر ، لأن أئمة القراءة لم يقرأوا إلاَّ بنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا ، تطرق إليهم فيما سواه ، والذي نختاره ونقوله : إن نقل القراآءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه.
{ وإن تخفوها } الضمير المنصوب في : تخفوها ، عائد على الصدقات ، لفظاً ومعنى ، بأي تفسير فسرت الصدقات ، وقيل : الصدقات المبداة هي الفريضة ، والمخفاة هي التطوّع ، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظاً لا معنى ، فيصير نظير : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كذلك : وان تخفوها ، تقديره : وان تخفوا الصدقات غير الأولى ، وهي صدقة التطوّع ، وهذا خلاف الظاهر ، والأكثر في لسان العرب ، وإنما احتجنا في : عندي درِهم ونصفه ، إلى أن نقول : إن الضمير عائد على الدرهم لفظاً لا معنى لاضطرار المعنى إلى ذلك ، لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهماً ونصف هذا الدرهم الذي عنده.
وكذلك قول الشاعر :
كأن ثياب راكبه بريح . . .
خريق وهي ساكنة الهبوب
يريد : ريحاً أخرى ساكنة الهبوب.
{ وتؤتوها الفقراء } فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء.
{ فهو خير لكم } الفاء جواب الشرط ، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله : { وإن تخفوها } التقدير : فالإخفاء خير لكم ، ويحتمل أن يكون : خير ، هنا أريد به خير من الخيور ، و : لكم ، في موضع الصفة ، فيتعلق بمحذوف.
والظاهر انه أفعل التفضيل ، والمفضل عليه محذوف لدلالة المعنى عليه وهو الإبداء ، والتقدير : فهو خير لكم من إبدائها.
وظاهر الآية : أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل ، سواء كانت فرضاً أو نفلاً ، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدّق فيها عن الرياء والمنّ والأذى ، ولو لم يعلم الفقير بنفسه ، وأخفى عنه الصدقة أن يعرف ، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك.
قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا اصطنع إليك فانشره.
وقال العباس بن عبد المطلب : لا يتم المعروف إلاَّ بثلاث خصال : تعجيله ، وتصغيره في نفسك ، وستره.
فإذا عجلته هنيته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا سترته أتممته.
وقال سهل بن هارون :
يخفي صنائِعَه والله يظهرها . . .
إن الجميل اذا أخفيته ظهرا
وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي ، وفي قوله : وتؤتوها الفقراء طباق معنوى ، لأنه لا يؤتي الصدقات إلاَّ الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الصدقاتِ الأغنياءُ.
وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير ، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه.
{ ويكفر عنكم من سيآتكم } قرأ بالواو الجمهور في : ويكفر ، وباسقاطها وبالياء والتاء والنون ، وبكسر الفاء وفتحها ، وبرفع الراء وجزمها ونصبها ، فاسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش ، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء ، ووجه أن بدل على الموضع من قوله : فهو خير لكم لأنه في موضع جزم ، وكأن المعنى : يكن لكم الإخفاء خيراً من الإبداء ، أو على إضمار حرف العطف : أي ويكفر.
وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء.
وقرأ الحسن بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش بالياء ونصب الراء.
وقرأ ابن عباس بالتاء وجزم الراء ، وكذلك قرأ عكرمة إلاَّ أنه فتح الفاء وبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله.
وقرأ ابن هرمز ، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة ، وشهر بن حوشب : بالتاء ونصب الراء.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالنون ورفع الراء.
وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون والجزم ، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء.
فالأظهر أن الفعل مسند إلى الله تعالى ، كقراءة من قرأ : ونكفر ، بالنون فإنه ضمير لله تعالى بلا شك ، وقيل : يعود على الصرف ، أي صرف الصدقات ، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي : ويكفر إخفاء الصدقات ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز لأنه سبب التكفير ، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات ، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : ونحن نكفر ، أي : وهو يكفر ، أي : الله.
أو الإخفاء أي : وهي تكفر أي : الصدقة.
ويحتمل أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على محل ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعاً ، كقوله : { ومن عاد فينتقم الله منه } ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء ، إذ هي في موضع جزم ، كقوله : { ومن يضلل الله فلا هادي }
ونذرهم ، في قراءة من جزم ، ونذرهم ، ومن نصب الراء فبإضمار : أن ، وهو عطف على مصدر متوهم ، ونظيره قراءة من قرأ { يحاسبكم به الله فيغفر } بنصب الراء ، إلاَّ أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله : فهو خير لكم ، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله : يحاسبكم ، فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران.
وقال الزمخشري : ومعناه : وإن تخفوها يكن خيراً لكم ، وأن نكفر عنكم. انتهى.
وظاهر كلامه هذا أن تقديره : وأن نكفر ، يكون مقدّراً بمصدر ، ويكون معطوفاً على : خيراً ، خبر يكن التي قدرها كأنه قال : يكن الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً ، فيكون : أن يكفر في موضع نصب.
والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع ، تقديره من المعنى ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدّثنا ، فالتقدير : ما يكون منك إتيان فحديث ، وكذلك إن تجيء وتحسن إلي أحسن إليك ، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك.
وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط.
كالتقدير الذي قدّرناه في : { يحاسبكم به الله } في قراءة من نصب ، فيغفر ، فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير.
وقال المهدوي : في نصب الراء : هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام.
وقال ابن عطية : بالجزم في الراء أفصح هذه القراآت لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء ، وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء ، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى. انتهى.
ونقول : إن الرفع أبلغ وأعم ، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني ، والرفع يدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات ، أبديت أو أخفيت ، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله ، ولا يختص التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصصه به ، ولا يمكن أن يقال : إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته ، فقد صار التكفير شاملاً للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها ، وإن كان الإخفاء خيراً من الإبداء.
و : من ، في قوله : من سيآتكم ، للتبعيض ، لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات.
وحكى الطبري عن فرقة قالت : من ، زائدة في هذا الموضع.
قال ابن عطية : وذلك منهم خطأ ، وقول من جعلها سببية وقدر : من أجل ذنوبكم ، ضعيف.
{ والله بما تعملون خبير } ختم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الاشياء وخفي ، فناسب الرفع ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي ، والله أعلم.
{ ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } اختلف النقل في سبب نزول هذه الآية ، ومضمونها أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك ، أو على المشركين ، أو نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم من التصدق عليهم ، أو امتنع هو من ذلك ، وقد سأله يهودي ، فنزلت هذه الآية.
وظاهر الهدى أنه مقابل الضلال ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، أي : ليس عليك أن تهديهم ، أي : خلق الهدى في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى الدعاء فهو عليه ، وليس بمراد هنا.
وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نظير : { إن عليك إلا البلاغ } فالمعنى : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعه الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، هداهم ليس إليك.
وجعل الزمخشري هنا الهدى ليس مقابلاً للضلال الذي يراد به الكفر ، فقال : لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغيره ، وما عليك إلاَّ أن تبلغهم النواهي فحسب ، ويبعد ما قاله الزمخشري قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } فظاهره أنه يراد به هدى الإيمان.
وقال الزمخشري قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه ، فينتهي عما نهى عنه. انتهى.
فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال ، وإنما حمله على هدى خاص ، وهو خلاف الظاهر ، كما قلنا.
وقيل : الهداية هنا الغنى أي : ليس عليك أن تغنيهم ، وإنما عليك أن تواسيهم ، فإن الله يغني من يشاء.
وتسمية الغنى : هداية ، على طريقة العرب من نحو قولهم : رشدت واهتديت ، لمن ظفر ، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره . . .
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري ، وفي قوله : هداهم ، طباق معنوي ، إذ المعنى : ليس عليك هدى الضالين ، وظاهر الخطاب في : ليس عليك ، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم.
ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله : { يؤتي الحكمة من يشاء } الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة ، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين : من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال.
فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم ، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى ، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية ، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين ، تجوز الصدقة عليهم.
وقيل : المعنى في : { ليس عليكم هداهم } هو ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل المطلوب منهم الإيمان على سبيل الطوع والاختيار.
وفي قوله : { ولكن الله يهدي من يشاء } رد على القدرية ، وتجنيس مغاير إذ : هداهم اسم ، ويهدي فعل.
{ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } أي : فهو لأنفسكم ، لا يعود نفعه ولا جدواه إلاَّ عليكم ، فلا تمنوا به ، ولا تؤذوا الفقراء ، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر ، فإن ثوابه إنما هو لكم.
وقال سفيان بن عيينة : معنى : فلأنفسكم ، فلأهل دينكم ، كقوله تعالى : { فسلموا على أنفسكم } { ولا تقتلوا أنفسكم } أي : أهل دينكم ، نبه على أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوّع ، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكفار.
وحكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيراً من المعروف ، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنما فعلت مع نفسي ، ويتلو هذه الآية.
وروي عن عليّ ، كرم الله وجهه ، أنه كان يقول : ما أحسنت إلى أحد قط ، ولا أسأت له ثم يتلو :
{ وان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }
{ وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله } أي : وما تنفقون النفقة المعتد لكم قبولها إلاَّ ما كان إنفاقه لابتغاء وجه الله ، فإذا عريت من هذا القصد فلا يعتد بها فهذا خبر شرط فيه محذوف أي : وما تنفقون النفقة المعتدة القبول ، فيكون هذا الخطاب للأمة.
وقيل : هو خير من الله أن نفقتهم أي : نفقة الصحابة ، رضي الله عنهم ، ما وقعت إلاّ على الوجه المطلوب من ابتغاء وجه الله ، فتكون هذه شهادة لهم من الله بذلك ، وتبشيراً بقبولها ، إذ قصدوا بها وجه الله تعالى ، فخرج هذا الكلام مخرج المدح والثناء ، فيكون هذا الخطاب خاصاً بالصحابة.
وقال الزمخشري : وليست نفقتكم إلاَّ لابتغاء وجه الله ، ولطلب ما عنده ، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وهذا فيه إشارة إلى مذهب المعتزلة ، من أن الصدقة وقعت صحيحة ، ثم عرض لها الإبطال.
بخلاف قول غيرهم : إن المن والأذى قارنها.
وقيل : هو نفي معناه النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله ، ومجازه أنه : لما نهى عن أن يقع الإنفاق إلاَّ لوجه الله ، حصل الامتثال ، وإذا حصل الامتثال ، فلا يقع الإنفاق إلاَّ لإبتغاء وجه الله ، فعبر عن النهي بالنفي لهذا المعنى.
وانتصاب ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال تقديره : مبتغين ، وعبر بالوجه عن الرضا ، كما قال : ابتغاء مرضاة الله ، وذلك على عادة العرب ، وتنزه الله عن الوجه بمعنى : الجارحة ، وقد تقدم الكلام على نسبة الوجه إلى الله في قوله : { فثم وجه الله } مستوفى ، فأغنى عن إعادته.
{ وما تنفقوا من خير يوف اليكم } أي : يوفر عليكم جزاؤه مضاعفاً ، وفي هذا ، وفيما قبله ، قطع عذرهم في عدم الإنفاق ، إذ الذي ينفقونه هو لهم حيث يكونون محتاجين إليه ، فيوفون كاملاً موفراً ، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها ، وقد جاء قوله تعالى : { ويربي الصدقات } وقوله ، صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : « إذا تصدق العبد بالصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه ، أو فصيله ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد » والضمير في : يوفَّ ، عائد على : ما ، ومعنى توفيته : إجزال ثوابه.
{ وأنتم لا تظلمون } جملة حالية ، العامل فيها يوفَّ.
والمعنى : أنكم لا تنفقون شيئاً من ثواب إنفاقكم.
{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } قال ابن عباس ، ومقاتل : هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، وكانوا نحواً من أربعمائة.
وقال مجاهد : هم فقراء المهاجرين من قريش ، ثم يتناول من كان بصفة الفقر ، وقال سعيد بن جبير : هم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصاروا زمنى ، واختار هذا الكسائي ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس من العدو لقال : حصروا ، وقد تقدّم الكلام على الإحصار والحصر في قوله :
{ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وثبت من اللغة هناك أنه يقال في كل منهما أحصر وحصر ، وحكاه ابن سيده.
وقال السدي : أحصروا من خوف الكفار ، إذ أحاطوا بهم ، وقال قتادة : حبسوا أنفسهم للغزو ، ومنعهم الفقر من الغزو ، وقال محمد بن الفضل : منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلاَّ إلى الله.
وقال الزمخشري : أحصرهم الجهاد ، لا يستطيعون لاشتغالهم به ضرباً في الأرض للكسب. انتهى.
و : للفقراء ، في موضع الخبر لمبتدأ محذوف ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها؟ فقيل : للفقراء ، أي : هي للفقراء.
فبين مصرف النفقة.
وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف ، تقديره : أعجبوا للفقراء ، أو اعمدوا للفقراء ، واجعلوا ما تنفقون للفقراء ، وأبعد القفال في تقدير : إن تبدوا الصدقات للفقراء ، وكذلك من علقه بقوله : { وما تنفقوا من خير } وكذلك من جعل : للفقراء ، بدلاً من قوله : فلأنفسكم ، لكثرة الفواصل المانعة من ذلك.
{ لا يستطيعون ضرباً في الأرض } أي تصرفاً فيها ، إمّا لِزِمْنِهم وإمّا لخوفهم من العدو لقلتهم ، فقلتهم تمنعهم من الاكتساب بالجهاد ، وانكار الكفار عليهم إسلامهم يمنعهم من التصرف في التجارة ، فبقوا فقراء.
وهذه الجملة المنفية في موضع الحال ، أي : أحصروا عاجزين عن التصرف.
ويجوز أن تكون مستأنفة ، لا موضع لها من الإعراب.
{ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }.
قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين حيث وقع ، وهو القياس ، لأن ماضيه على فَعِلَ بكسر العين.
وقرأ باقي السبعة بكسرها ، وهو مسموع في الفاظ ، منها : عمد يعمد ويعمد ، وقد ذكرها النحويون ، والفتح في السين لغة تميم ، والكسر لغة الحجاز ، والمعنى : أنهم لفرط انقباضهم ، وترك المسألة ، واعتماد التوكل على الله تعالى ، يحسبهم من جَهِلَ أحوالهم أغنياء ، و : من ، سببية ، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم ، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ، ولا يسأل ، ويتعلق ، بيحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب ، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل ، لأن فاعل يحسب هو : الجاهل ، وفاعل التعفف هو : الفقراء.
وهذا الشرط هو على الأصح ، ولو لم يكن هذا الشرط منخرماً لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له ، لأنه معرف بالألف واللام ، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب ، وإن كان يجوز نصبه ، لكنه قليل كما أنشدوا.
لا أقعد الجبن عن الهيجاء . . .
أي : للجبن ، وإنما عرف المفعول له ، هنا لأنه سبق منهم التعفف مراراً ، فصار معهوداً منهم.
وقيل : من ، لابتداء الغاية ، أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء مال ، فمحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، وكونها للسبب أظهر ، ولا يجوز أن تتعلق : من ، بأغنياء ، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود ، وذلك أن المعنى : حالهم يخفى على الجاهل به ، فيظن أنهم أغنياء ، وعلى تعليق : من ، بأغنياء يصير المعنى : أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ، ولكن بالتعفف ، والغني بالتعفف فقير من المال ، وأجاز ابن عطية أن تكون : من ، لبيان الجنس ، قال : يكون التعفف داخلاً في المحسبة ، أي : أنهم لا يظهر لهم سؤال ، بل هو قليل.
وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة.
فمن ، لبيان الجنس على هذا التأويل. انتهى.
وليس ما قاله من أن : من ، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس ، لأن لها إعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدّر بموصول ، وما دخلت عليه يحصل خبر مبتدأ محذوف ، نحو : { فاجتنبوا الرجز من الأوثان } التقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
ولو قلت هنا : يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف ، لم يصح هذا التقدير ، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس ، أي : بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف ، لا غنى بالمال.
فتسمى : من ، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس ، وليس المصطلح عليه كما قدمناه ، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية ، لكنها تتعلق : بأغنياء ، لا : بيحسبهم ، ويحتمل أن يكون : يحسبهم ، جملة حالية ، ويحتمل أن يكون مستأنفة.
{ تعرفهم بسيماهم } الخطاب يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أنك تعرف أعيانهم بالسيما التي تدل عليهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : تعرف فقرهم بالسيما التي تدل على الفقر ، من : رثاثة الأطمار ، وشحوب الألوان لأجل الفقر.
وقال مجاهد : السيما الخشوع والتواضع ، وقال السدي : الفاقة ، والجوع في وجوههم ، وقلة النعمة.
وقال ابن زيد : رثاثة أثوابهم ، وصفرة وجوههم.
وقيل : أثر السجود ، واستحسنه ابن عطية ، قال : لأنهم كانوا متفرغين للعبادة ، فكان الأغلب عليهم الصلاة.
وقال القرطبي : هذا مشترك بين الصحابة كلهم لقوله تعالى في حقهم : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } إلا إن كان يكون أثر السجود في هؤلاء أكثر ، وأما من فسر السيما بالخشوع ، فالخشوع محله القلب ، ويشترك فيه الغني والفقير ، والذي يفرق بين الغني والفقير ظاهراً إنما هو : رثاثة الحال ، وشحوب الألوان.
وللصوفية في تفسير السيما مقالات.
قال المرتعش : عزتهم على الفقر ، وقال الثوري : فرحهم بالفقر ، وقال أبو عثمان : إيثار ما عندهم مع الحاجة إليه ، وقيل : تيههم على الغني ، وقيل : طيب القلب وبشاشة الوجه.
والباء متعلقة : بتعرفهم ، وهي للسبب ، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها ، من الحالية ، ومن الاستئناف.
وفي هذه الآية طباق في موضعين : أحدهما : في قوله : أحصروا وضربا في الأرض ، والثاني : في قوله : للفقراء وأغنياء.
{ لا يسألون الناس إلحافاً } إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد ، فالأكثر في لسان العرب إنصراف النفي لذلك القيد ، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ، ونفي الإلحاح أي : وإن وقع منهم سؤال ، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح ، ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد ، فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الإلحاح ، فلا يكون النفي على هذا منصباً على القيد فقط.
قال ابن عباس : لا يسألون إلحافاً ولا غير إلحاف ، ونظير هذا : ما تأتينا فتحدثنا.
فعلى الوجه الأول : ما تأتينا محدثاً ، إنما تأتي ولا تحدث ، وعلى الوجه الثاني : ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث ، وكذلك هذا لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح.
ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف ، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره ، لأنه كان يصير المعنى الأول وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول لأنه نفي الأول على سبيل العموم ، فتنفي مترتباته ، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث ، انتفت جميع مترتبات الإتيان من : المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد ، ولكنه نبه بذكر مترتب واحد لغرض مّا عن سائر المترتبات ، وتشبيه الزجاج هذا المعنى في الآية ، بقول الشاعر :
على لاحبٍ لا يهتدي بمناره . . .
إنما هو مطلق انتفاء الشيئين ، أي لا سؤال ولا إلحاف.
وكذلك : هذا لا منار ولا هداية ، لا إنه مثله في خصوصية النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصح : لا إلحاف فلا سؤال ، لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب : لا يلحفون الناس سؤالاً ، لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص ، فتلخص من هذا كله : أن نفي الشيئين تارة يدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه ، ونبه على بعضها بالذكر لغرض مّا ، وتارة يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فينتفي لنفيه عوارضه.
وقال ابن عطية : تشبيهه ، يعني الزجاج ، الأية ببيت امرىء القيس غير صحيح ، ثم بين أن انتفاء صحة التشبيه من جهة أنه ليس مثله في خصوصية النفي ، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على انتفاء الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال ، وأطال ابن عطية في تقرير هذا ، وقد بينا أن تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، وقررنا ذلك.
وقيل : معنى إلحافاً أنه السؤال الذي يستخرج به المال لكثرة تلطفه ، أي : لا يسألون الناس بالرفق والتلطف ، وإذا لم يوجد هذا ، فلأن لا يوجد بطريق العنف أولى ، وقيل : معنى إلحافاً أنهم يلحفون على أنفسهم في ترك السؤال ، أي : لا يسألون لإلحاحهم على أنفسهم في : تركهم ، السؤال ، ومنعهم ذلك بالتكليف الشديد ، وقيل : من سأل ، فلا بد أن يلح ، فنفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجب لنفي السؤال مطلقاً.
وقيل : هو كناية عن عدم إظهار آثار الفقر ، والمعنى : أنهم لا يضمون إلى السكوت من رثاثة الحال والإنكسار ، وما يقوم مقام السؤال الملحّ ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً ، وأن تكون مستأنفة.
ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد ، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال لذي حالٍ ، وهي مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو.
وجوزوا في إعراب : إلحافاً ، أن يكون مفعولاً من أجله ، وأن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه : يسألون ، فكأنه قال : لا يلحفون.
وأن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره : لا يسألون ملحفين.
{ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } تقدّم : { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } وليس على سبيل التكرار ، والتأكيد بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر فالأول : ذكر أن الخير الذي يعلمه مع غيره إنما هو لنفسه ، وأنه عائد إليه جزاؤه ، والثاني : ذكر أن ذلك الجزاء الناشيء عن الخير يوفاه كاملاً من غير نقص ولا بخس ، والثالث : ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير ، ومقداره ، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب ، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو : العلم.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } قال أبو ذر ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو أمامة ، وعبد الله بن بشر الغافقي ، ومكحول ، ورباح بن بريد ، والأوزاعي : هي في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله ، ومرتبطها.
وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.
وقال ابن عباس أيضاً ، والكلبي : نزلت في علي ، كانت عنده أربعة دراهم ، قال الكلبي ، لم يملك غيرها ، فتصدّق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية.
وقال ابن عباس أيضاً : نزلت في عليّ بعث بوسق تمر إلى أهل الصفة ليلاً ، وفي عبد الرحمن بن عوف بعث إليهم بدراهم كثيرة نهاراً.
وقال قتادة : نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. انتهى.
وقيل : نزلت في أبي بكر ، تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في الجهر.
والآية ، وإن نزلت على سبب خاص ، فهي عامة في جميع ما دلت عليه ألفاظ الآية ، والمعنى أنهم ، فيما قال الزمخشري : يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ، ولم يؤخروه ، ولم يتعللوا بوقت ولا حال. انتهى.
ولم يبين في هذه الآية أفضلية الصدقة في أحد الزمانين ، ولا في إحدى الحالتين اعتماداً على الآية قبلها ، وهي : { إن تبدوا الصدقات } أو جاء تفصيلاً على حسب الواقع من صدقة أبي بكر ، وصدقة علي ، وقد يقال : إن تقديم الليل على النهار ، والسر على العلانية يدل على تلك الأفضلية ، والليل مظنة صدقة السر ، فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل ، والحال التي كانت فيها أفضل.
والباء في : بالليل ، ظرفية ، وانتصاب : سراً وعلانية ، على أنهما مصدران في موضع الحال أي : مسرين ومعلنين ، أو : على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه ، أو : نعتان لمصدر محذوف أي : إنفاقاً سراً ، على مشهور الإغراب في : قمت طويلاً ، أي قياماً طويلاً.
{ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } تقدّم تفسير هذا فلا نعيده ، ودخلت : الفاء في فلهم ، لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه.
قال ابن عطية : وإنما يوجد الشبه ، يعني بين الموصول واسم الشرط ، إذا كان : الذي ، موصولاً بفعل ، وإذا لم يدخل على : الذي ، عامل يغير معناه. انتهى.
فحصر الشبه فيما إذا كان : الذي ، موصولاً بفعل ، وهذا كلام غير محرر ، إذ ما ذكر له قيود :
أولها : أن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف ، وفي الألف واللام خلاف ، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.
الثاني : قوله موصولاً بفعل ، فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك ، بل شرط الفعل أن يكون قابلاً لأداة الشرط ، فلو قلت : الذي يأتيني ، أو : لما يأتيني ، أو : ما يأتيني ، أو : ليس يأتيني ، فله درهم ، لم يجز لأداة الشرط ، لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك ، وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك ، بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك ، فمتى كانت الصلة واحداً منهما جاز دخول الفاء.
وقوله : وإذا لم يدخل على : الذي ، عامل يغير معناه عبارة غير مخلصة ، لأن العامل الداخل عليه كائناً ما كان لا يغير معنى الموصول ، إنما ينبغي أن يقول : معنى جملة الابتداء في الموصول ، وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من : تمن ، أو تشبيه ، أو ظن ، أو غير ذلك.
لو قلت : الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز ، وكان ينبغي أيضاً لابن عطية أن يذكر أن شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقاً بالصلة ، نحو ما جاء في الآية ، لأن ترتب الأجر إنما هو على الإنفاق.
ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ يستدعي كلاماً طويلاً ، وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل ، قد ذكرنا ذلك في كتاب ( التذكرة ) من تأليفنا.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
الربا : الزيادة يقال : ربا يربو وأرباه غيره : وأربى الرجل ، عامل بالربا ، ومنه الربوة والرابي.
وقال حاتم :
وأسمر خطيا كأن كعوبه . . .
نوى القشب قد أربى ذراعاً على العشر
وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها ، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة ، وبالألف.
وتبدل الباء ميماً قالوا : الرما ، كما أبدلوها في كتب قالوا : كتم ، ويثنى : ربوان ، بالواو عند البصريين ، لأن ألفه منقلبة عنها.
وقال الكوفيون : ويكتب بالياء ، وكذلك الثلاثي المضموم الأول نحو : ضحى ، فتقول : ربيان وضحيان ، فإن كان مفتوحاً نحو : صفا ، فاتفقوا على الواو.
وأما الربا الشرعي فهو محدود في كتب الفقهاء على حسب اختلاف مذاهبهم.
تخبط : تفعل من الخبط وهو الضرب على غير استواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي : خبط عشواء ، وتورط في عمياء وقول علقمة :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة . . .
أي : أعطيت من أردت بلا تمييز كرماً.
سلف : مضى وانقضى ، ومنه سالف الدهر أي ماضيه.
عاد عوداً : رجع ، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى صار ، وأنشد :
تعد فيكُمُ جزر الجزور رماحنا . . .
ويرجعن بالأسياف منكسرات
المحق : نقصان الشيء حالاً بعد حال.
ومنه : المحاق في الهلال ، يقال : محقه الله فانمحق وامتحق أنشد الليث :
يزداد حتى إذا ما تمَّ أعقبه . . .
كرّ الجديدين نقصاً ثم ينمحق
{ الذين يأكلون الربى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } مناسبة هذه الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله ، وأنه يكون ذلك من طيب ما كسب ، ولا يكون من الخبيث.
فذُكر نوع غالب عليهم في الجاهلية ، وهو : خبيث ، وهو : الربا ، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا ، وأيضاً فتظهر مناسبة أخرى ، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال ، والربا فيه زيادة مال ، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد ، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه ، كقوله : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } وقول الشاعر :
ومسنونة زرق كأنياب أغوال . . .
وقول الآخر :
خيلاً كأمثال السعالي شرّباً . . .
وقول الآخر :
بخيل عليها جنّة عبقريّة . . .
والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل ، وأن الخبر : عنهم ، مختص بالآكل الربا ، وقيل : عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل ، لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه ، كما قال تعالى : { وأخذهم الربا } وقيل : الربا هنا كناية عن الحرام ، لا يخص الربا الذي في الجاهلية ، ولا الربا الشرعي.
وقرأ العدوي : الربو ، بالواو وقيل : وهي لغة الحيرة ، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة ، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو ، فقال : هذه أفعو ، فأجرى القارىء الوصل إجراء الوقف.
وحكى أبو زيد : أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة ، وهي قراءة بعيدة ، لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة ، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياءً وتلك الضمة كسرة ، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال : في أفعى : أفعو ، في الوقف.
وأن القارىء إما أنه لم يضبط حركة الباء ، أو سمى قربها من الضمة ضماً.
و : لا يقومون ، خبر عن : الذين ، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة حالية ، وهو بعيد جداً ، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه.
وظاهر هذا الإخبار أنه إخبار عن الذين يأكلون الربا ، وقيل : هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك ، بدليل قولهم : { إنما البيع مثل الربى } وقوله : { والله لا يحب كل كفار أثيم } وقوله : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر ، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وجبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد : معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلاَّ كالمجانين ، عقوبة لهم وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها ، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله : لا يقومون يوم القيامة.
وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا ، فجوزي في الآخرة بمثل فعله.
وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أكلة الربا ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون ، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم.
قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره قد جن.
هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :
وتصبح عن غب السرى وكأنها . . .
ألمَّ بها من طائف الجن أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل.
انتهى كلامه.
وهو حسن ، إلاَّ كما يقوم الكاف في موضع الحال ، أو نعتاً لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبويه وغيره ، وتقدم في مواضع.
و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، أي : كقيام الذي ، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلاَّ كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان.
قيل : معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهراً لبطن ، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.
وظاهر الآيه أن الشيطان يتخبط الإنسان ، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس ، وليس في العقل ما يمنع من ذلك ، وقيل : ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه ، فنسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم ، وقيل : أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، يقولون : رجل ممسوس ، وجُنَّ الرجل.
قال الزمخشري : ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات. انتهى.
وتخبط هنا : تفعَّل ، موافق للمجرد ، وهو خبط ، وهو أحد معاني : تفعل ، نحو : تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه.
من المس ، المس الجنون يقال : مس فهو ممسوس وبه مس.
أنشد ابن الأنباري ، رحمة الله تعالى :
أعلل نفسي بما لا يكون . . .
كذي المس جن ولم يخنق
وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، وسمي الجنون مساً كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ويتعلق : من المس ، بقوله : يتخبطه ، وهو على سبيل التأكيد ، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلاَّ من المس ، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي ، فأزال قوله : من المس ، هذا الاحتمال.
وقيل : يتعلق : بيقوم ، أي : كما يقوم من جنونه المصروع.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق قوله : من المس؟.
قلت : بلا يقومون ، أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلاَّ كما يقوم المصروع. انتهى.
وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون ، وهو الذي ذهب إليه في تعلق : من المس ، بقوله : لا يقومون ، ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنه قد شرح المس بالجنون ، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلاَّ في الآخرة ، وهناك ليس بهم جنون ولا مس ، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدنيا ، فيكون المعنى : لا يقومون يوم القيامة ، أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس ، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع.
والوجه الثاني : أن : ما ، بعد : إلاَّ ، لا يتعلق بما قبلها ، إلاَّ إن كان في حيز الاستثناء ، وهذا ليس في حيز الاستثناء ، ولذلك منعوا أن يتعلق { بالبينات والزبر } بقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً } وان التقدير : ما أرسلنا بالبينات والزبر إلاَّ رجالاً.
{ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربى } الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة ، ويكون مبتدأ ، والمجرور الخبر ، أي : ذلك القيام كائن بسبب أنهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره : قيامهم ذلك إلاَّ أن في هذا الوجه فصلاً بين المصدر ومتعلقه الذي هو : بأنهم ، على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر ، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر ، وقدّره الزمخشري : ذلك العقاب بسبب أنهم ، والعقاب هو ذلك القيام ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا ، أي ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا ، أي : مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع ، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ، ولم يعكسوا تنزيلاً لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع ، وهذا من عكس التشبيه ، وهو موجود في كلام العرب.
قاله ذو الرمّة :
ورمل كأروال العذارى قطعته . . .
وهو كثير في أشعار المولدين ، كما قال أبو القاسم بن هانيء :
كأن ضياء الشمس غرّة جعفر . . .
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفاً
وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه ، فيقول : زدني في الأجل وأزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير ، فكذبهم الله تعالى.
وقيل : كانت ثقيف أكثر العرب رباً ، فلما نهوا عنه قالوا : إنما هو مثل البيع.
{ وأحل الله البيع وحرّم الربا }.
ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، وفي ذلك ردّ عليهم إذ ساووا بينهما ، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى ، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره ، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح ، إذ جعل الدليل في إبطال قولهم هو : أن الله أحل البيع وحرم الربا.
وقال بعض العلماء : قياسهم فاسد ، لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه ، والربا فيه التغابن وأكل المال البطل ، لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها ، بخلاف البيع ، فإن الثمن مقابل بالمثمن.
.
قال جعفر الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس ، وقيل : حرم لأنه متلف للأموال ، مهلك للناس.
وقال بعضهم : يحتمل أن يكون : { وأحل الله البيع وحرم الربا } من كلامهم ، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم ، فكان ذلك كفراً منهم.
والظاهر : عموم البيع والربا في كل بيع ، وفي كل ربا ، إلاَّ ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان ، فلا يقدّم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلاَّ ببيان ، وهذا فرق ما بين العام والمجمل ، وقيل : هو عموم دخله التخصيص ، ومجمل دخله التفسير ، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه.
والظاهر أن الآية كما قالوا في الكفار ، لقوله : { فله ما سلف } لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف ، بل ينقض ويردّ فعله ، وإن كان جاهلاً بالتحريم ، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية.
{ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } حذف تاء التأنيث من : جاءته ، للفصل ، ولأن تأنيث الموعظة مجازي.
وقرأ أبيّ ، والحسن : فمن جاءته بالتاء على الأصل ، وتلت عائشة هذه الآية سألتها العالية بنت أبقع ، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقداً من زيد بن أرقم ، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه ، فقالت عائشة : بئسما شريت وما اشتريت ، فابلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن يتوب ، فقالت العالية : أرأيت إن لم آخذ منه إلاَّ رأس مالي؟ فتلت الآية عائشة.
والموعظة : التحريم ، أو : الوعيد ، أو : القرآن ، أقوال.
ويتعلق : من ربه ، بجاءته ، أو : بمحذوف ، فيكون صفة لموعظة ، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه ، الناظر له في مصالحه ، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة.
إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده ، فانتهى تبع النهي ، ورجع عن المعاملة بالربا ، أو عن كل محرم من الاكتساب { فله ما سلف } أي ما تقدم له أخذه من الربا لا تبعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ، ومن كان يتجر هنالك.
وهذا على قول من قال : الآية مخصوصة بالكفار ، ومن قال : إنها عامة فمعناه : فله ما سلف ، قبل التحريم.
{ وأمره إلى الله } الظاهر أن الضمير في : أمره ، عائد على المنتهي ، إذ سياق الكلام معه ، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ، كما تقول : أمره إلى طاعة وخير ، وموضع رجاء ، والأمر هنا ليس في الربا خاصة ، بل وجملة أموره ، وقيل : في الجزاء والمحاسبة ، وقيل : في العفو والعقوبة ، وقيل : أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة ، لا إلى الذين عاملهم ، فلا يطالبونه بشيء ، وقيل : المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة ، قال الحسن.
وقيل : الضمير يعود على : ما سلف ، أي في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : يعود على ذي الربا ، أي : في أن يثبته على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية.
قاله ابن جبير ، ومقاتل ، وقيل : يعود على الربا أي في إمرار تحريمه ، أو غير ذلك ، وقيل : في عفو الله من شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي.
{ ومن عاد } إلى فعل الربا ، والقول بأن البيع مثل الربا ، قال سفيان : ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدّم تفسير هذه الجملة الواقعة خبراً : لمن ، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد ، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأييد.
وقال الزمخشري : وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق. انتهى.
وهو جارٍ على مذهبه الإعتزالي في : أن الفاسق يخلد في النار أبداً ولا يخرج منها ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات ، وروي عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله ، وسأل مالكاً رحمه الله رجلٌ رأى سكران يتقافز ، يريد أن يأخذ القمر ، فقال : امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر ، أتطلق امرأته؟ فقال له مالك ، بعد أن ردّه مرتين : امرأتك طالق ، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا ، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب.
{ يمحق الله الربا } أي : يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير؛ وعن ابن مسعود : أن الربا وإن كثر ، فعاقبته إلى قل.
وروى الضحاك عن ابن عباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقةٍ وصلة رحم وجهادٍ ونحو ذلك.
{ ويربي الصدقات } قيل : الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة ، وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة ، وقيل : الزيادة معنوية ، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة ، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث.
وقرأ ابن الزبير ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم : يمحق ويربي ، من : محق وربى مشدّداً.
وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق ، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير.
{ والله لا يحب كل كفار أثيم } فيه تغليط أمر الربا وإيذان أنه من فعل الكفار لا من فعل أهل الإسلام ، وأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم ، وإن كان تعالى لا يحب الكافر ، تنبيهاً على عظم أمر الربا ومخالفة الله وقولهم : { إنما البيع مثل الربا } وأنه لا يقول ذلك ، ويسوي بين البيع والربا ليستدل به على أكل الربا إلاَّ مبالغ في الكفر ، مبالغ في الإثم.
وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث اختلف اللفظان.
وقال ابن فورك : ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في : كفار ، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض. انتهى.
وهذا فيه بعد ، إذ إطلاق القرآن : الكافر ، والكافرون ، والكفار ، إنما هو على من كفر بالله ، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية ، كقوله : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته }
وقال ابن فورك : ومعنى الآية : { والله لا يحب كل كفار أثيم } محسناً صالحاً ، بل يريده مسيئاً فاجراً ، ويحتمل أن يريد : والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم.
وقال ابن عطية : وهذه تأويلات مستكرهة : أما الأول فأفرط في تعدية الفعل ، وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ، ولطف به ، وحرص على حفظه وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه ، نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن.
انتهى كلامه.
والحب حقيقة ، وهو الميل الطبيعي ، منتف عن الله تعالى ، وابن فورك جعله بمعنى الإرادة ، فيكون صفة ذات ، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهار الدلائل ، فيكون صفة فعل وقد تقدّم الكلام على ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا ، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة ، وأنه كافر أثيم ، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين.
وظاهر الآية العموم ، وقال مكي : معناه أن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا ما أنزل عليهم ، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات. انتهى.
ونص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإن كانا مندرجين في عموم الأعمال البدنية والمالية ، وألفاظ الآية تقدّم تفسيرها.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } قيل : نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم ، وقيل : في عباس ، وقيل : في عثمان ، وقال السدّي : في عباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، وملخصه أنهم أرادوا أن يتقاضوا رباهم ، فنزلت.
ولما تقدّم قوله : { فله ما سلف } وكان المعنى : فله ما سلف قبل التحريم ، أي : لا تبعة عليه فيما أخذه قبل التحريم ، واحتمل أن يكون قوله : ما سلف ، أي : ما تقدّم العقد عليه ، فلا فرق بين المقبوض منه وبين ما في الذمة ، وإنما يمنع إنشاء عقد ربوي بعد التحريم ، أزال تعالى هذا الإحتمال بأن أمر بترك ما بقي من الربا في العقود السابقة ، قبل التحريم ، وأن ما بقي في الذمة من الربا هو كالمنشأ بعد التحريم ، وناداهم بإسم الإيمان تحريضاً لهم على قبول الأمر بترك ما بقي من الربا ، وبدأ أولاً بالأمر بتقوى الله ، إذ هي أصل كل شيء ، ثم أمر ثانياً بترك ما بقي من الربا.
وفتحت عين : وذروا ، حملاً على : دعوا ، وفتحت عين : دعوا ، حملاً على : يدع ، وفتحت في يدع ، وقياسها الكسر ، إذ لامه حرف حلق وقرأ الحسن : ما بقا ، بقلب الياء ألفاً ، وهي لغة لطيء ، ولبعض العرب.
وقال علقمة بن عبدة التميمي :
زها الشوق حتى ظل إنسان عينه . . .
يفيض بمغمور من الماء متأق
وروي عنه أيضاً أنه قرأ : ما بقي ، باسكان الياء وقال الشاعر :
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي . . .
على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا
وقال جرير :
هو الخليفة فارضوا ما رضى لكم . . .
ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
{ إن كنتم مؤمنين } تقدّم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم : { يا أيها الذين آمنوا } وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة ، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه : إن كنت رجلاً فافعل كذا قاله ابن عطية ، أو بأن المعنى : إن صح إيمانكم ، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباثه امتثال ما أمرتم به من ذلك ، قاله الزمخشري ، وفيه دسيسه اعتزال ، لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها ، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمناً ، مدعى المعتزلة.
وقيل : ان بمعنى إذ أي إذ كنتم مؤمنين قاله مقاتل بن سليمان ، وهو قول لبعض النحويين ، أن : إن ، تكون بمعنى : إذ ، وهو ضعيف مردود ولا يثبت في اللغة ، وقيل : هو شرط يراد به الاستدامة ، وقيل : يراد به الكمال ، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصرّ الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر ، هذا وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها ، وقيل : الإيمان متغاير بحسب متعلقه ، فمعنى الأول : { يا أيها الذين آمنوا } بألسنتهم.
ومعنى الثاني : { إن كنتم مؤمنين } بقلوبكم.
وقيل : يحتمل أن يريد : يا أيها الذي آمنوا بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء ، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد ، إذ لا ينفع الأول إلاَّ بهذا ، قاله ابن فورك.
قال ابن عطية : وهو مردود بما روي في سبب الآية. انتهى.
يعني أنها نزلت في عباس ، وعثمان ، أو في عباس ، وخالد ، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء ، وقيل : هو شرط محض في ثقيف على بابه ، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. انتهى.
وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلاَّ على تأويل استدامة الإيمان ، وذكر ابن عطية : أن أبا السماك ، وهو العدوي ، قرأ هنا : من الرِّبو ، بكسر الراء المشدّدة وضم الباء وسكون الواو ، وقد ذكرنا قراءته كذلك في قوله : { الذين يأكلون الربا } وشيئاً من الكلام عليها.
وقال أبو الفتح : شذ هذا الحرف في أمرين ، أحدهما : الخروج من الكسر إلى الضم بناءً لازماً ، والآخر : وقوع الواو بعد الضمة في آخر الأسم ، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل ، نحو : يغزو ، ويدعو.
وأما ذو ، الطائية بمعنى : الذي فشاذة جداً ، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع ، فتقول : رأيت ذا قام.
وجه القراءة أنه فخم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم : الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة.
انتهى كلام أبي الفتح.
ويعني بقوله : بناءً لازماً ، أنه قد يكون ذلك عارضاً نحو : الحبك ، فكسرة الحاء ليست لازمة ، ومن قولهم الردؤ ، في الوقف ، فضمة الدال ليست لازمة ، ولذلك لم يوجد في أبنية كلامهم فعل لا في اسم ولا فعل ، وأما قوله : وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل ، نحو : يغزو ، فهذا كما ذكر إلاَّ أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع ، فله أن يقول : لما لم يكن ذلك لازماً في النصب والجر ، لم يكن ناقصاً لما ذكروا ، ونقول : إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للاتباع ، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة تغزو.
{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ظاهره : فإن لم تتركوا ما بقي من الربا ، وسمي الترك فعلاً ، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى.
وقال الرازي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، ومن ذهب إلى هذا قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها.
وقرأ حمزة ، وأبو بكر في غير رواية البرجمي ، وابن غالب عنه : فآذنوا ، أمر من : آذن الرباعي بمعنى : أعلم ، مثل قوله : { فقل آذنتكم على سواء }
وقرأ باقي السبعة : فأذنوا ، أمر من : أذن ، الثلاثي ، مثل قوله : { لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن }
وقرأ الحسن : فأيقنوا بحرب.
والظاهر أن الخطاب في قوله : { فإن لم تفعلوا } هو لمن صدرت الآية بذكره ، وهم المؤمنون ، وقيل : الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا ، فعلى هذا المحاربة ظاهرة ، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب ، كما جاء : « من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة » وقيل : المراد نفس الحرب.
ونقول : الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام ، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة ، أو ممن لا يقدر عليه ، حاربه كما تحارب الفئة الباغية.
وقال ابن عباس : من عامل بالربا يستتاب ، فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه.
ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحاً للربا ، مصراً على ذلك ، ومعنى الآية : فإن لم تنتهوا حاربكم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : المعنى : فأنتم حرب الله ورسوله ، أي : أعداء.
والحرب داعية القتل ، وقالوا : حرب الله النار ، وحرب رسوله السيف.
وروي عن ابن عباس أنه : « يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب » والباء في بحرب على قراءة القصر للإصاق ، تقول : أذن بكذا ، أي : علم ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : المعنى فاستيقنوا بحرب من الله.
وقال الزمخشري : وهو من الأذن ، وهو الاستماع ، لأنه من طريق العلم. انتهى.
وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر.
وقال ابن عطية : هي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه ، فكأنه قيل لهم : قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله.
ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون ، إذ هم الآذنون فيها ، وبها ، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله ، وتيقنهم لذلك.
انتهى كلامه.
فيظهر منه ان الباء في : { بحرب } ظرفية.
أي : فاذنوا في حرب ، كما تقول أذن في كذا ، ومعناه أنه سوغه ومكن منه.
قال أبو علي : ومن قرأ فآذنوا بالمدّ ، فتقديره : فأعلموا من لم بنته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم علمهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم.
فقراءة المد أرجح ، لأنها أبلغ وآكد.
وقال الطبري : قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المدّ بإعلام غيرهم ، وقال ابن عطية : والقراءتان عندي سواء ، لأن المخاطب محصور ، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل : فآذنوا ، فقد عمهم الأمر.
وإن قيل : فآذنوا ، بالمدّ فالمعنى : أنفسكم ، أو : بعضكم بعضاً.
وكأن هذه القراءة تقتضي فسحاً لهم في الارتياء والتثبت ، فأعلموا نفوسكم هذا ، ثم انظروا في الأرجح لكم : ترك الربا أو الحرب. انتهى.
وروي : أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يد لنا بحرب الله ورسوله.
ومن ، في قوله : من الله ، لابتداء الغاية ، وفيه تهويل عظيم ، إذ الحرب من الله تعالى ومن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يطيقه أحد ، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف ، أي : من حروب الله.
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت : كان هذا أبلغ لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. انتهى.
وإنما كان أبلغ لأن فيها نصاً بأن الحرب من الله لهم ، فالله تعالى هو الذي يحاربهم ، ولو قيل : بحرب الله ، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل ، فيكون الله هو المحارب لهم ، وأن تكون مضافة للمفعول ، فيكونوا هم المحاربين الله.
فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله.
{ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } أي : إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال : أصولها ، وأما الأرباح فزوائد وطوارئ عليها.
قال بعضهم : إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله ، فيصير مالهم فيأ للمسلمين ، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلاَّ ذلك ، ومفهوم الشرط أنه : إن لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم ، وتسمية أصل المال رأساً مجاز.
{ لا تظلمون ولا تظلمون } قرأ الجمهر الأول مبنياً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول ، أي : لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال ، وقيل : بالمطل.
وقرأ أبان ، والمفضل ، عن عاصم الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبيناً للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : وإن تبتم ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله.
والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة ، وقيل : الجملة حال من المجرور في : لكم ، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل ، قاله الأخفش.
{ وإن كان ذو عسرة فظرة إلى ميسرة } شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا ، فنزلت.
قيل : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وقيل : أمر به في صدر الإسلام ، فإن ثبت هذا فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه : جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة : اليسر.
وقرأ الجمهور : ذو عسرة ، على أن : كان ، تامة ، وهو قول سيبويه ، وأبي علي ، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون : كان ، ناقصة هنا.
وقدّر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر ، وقدر أيضاً : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق ، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا ، لا إقتصاراً ولا اختصاراً لعلة ذكروها في النحو.
وقرأ أبي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وابن عباس : ذا عسرة.
وقرأ الأعمش : معسراً.
وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان إسمها ضميراً تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام ، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه.
وقرىء : ومن كان ذا عسرة ، وهي قراءة أبان بن عثمان.
وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان : فإن كان ، بالفاء ، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسراً ، وذلك بعد : إن كان ، فقيل : يختص بأهل الربا.
ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم ، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا ، وفيهم نزلت.
وقيل : ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار ، وأن العدم طارىء جاذب يحتاج إلى أن يثبت.
{ فنظرة إلى ميسرة } قرأ الجمهور : فنِظرة ، على وزن نِبقة.
وقرأ أبو رجاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : بسكون الظاء وهي لغة تميمية ، يقولون في : كبد كبد.
وقرأ عطاء : فناظرة ، على وزن : فاعلة وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } وكقوله : { تظن أن يفعل بها فاقرة } وكقوله : { يعلم خائنة الأعين } وقال : قرأ عطاء : فناظره ، بمعنى : فصاحب الحق ناظره ، أي : منتظره ، أو : صاحب نظرته ، على طريقة النسب ، كقولهم : مكان عاشب ، وباقل ، بمعنى : ذو عشب وذو بقل.
وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها. انتهى.
ونقلها ابن عطية.
وعن مجاهد : جعلاه أمراً ، والهاء ضمير الغريم.
وقرأ عبد الله : فناظروه ، أي : فأنتم ناظروه.
أي : فأنتم منتظروه.
فهذه ست قراآت ، ومن جعله اسم مصدر أو مصدراً فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه.
وقرأ نافع وحده : ميسرة ، بضم السين ، والضم لغة أهل الحجاز ، وهو قليل؛ كمقبرة ، ومشرفة ، ومسربة.
والكثير مفعلة بفتح العين.
وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة ، وهي لغة أهل نجد.
وقرأ عبد الله : إلى ميسوره ، على وزن مفعول مضافاً إلى ضمير الغريم ، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم : ما له معقول ولا مجلود ، أي : عقل وجلد ، ولم يثبت سيبويه مفعولاً مصدراً ، وقرأ عطاء ومجاهد : إلى ميسره ، بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم.
وقرىء كذلك بفتح السين ، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة.
كقوله :
واخلفوك عد الأمر الذي وعدوا . . .
أي : عدة ، وهذا أعني حذف التاء لأجل الإضافة ، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين ، وأداهم إلى هذا التأويل : أن مفعلاً ليس في الأسماء المفردة ، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد :
أبلغ النعمان عنى مألكا . . .
أنه قد طال حبسي وانتظار
وفي قول جميل :
بثين الزمي لا إنَّ لا إن لزمته . . .
على كثرة الواشين أي معون
فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة.
وكذلك قوله :
ليوم روع أو فعال مكرم . . .
هذا تأويل أبي علي ، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء.
وقال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، يعني في الآحاد ، كذا قال أبو علي ، وحكي عن سيبويه : مهلك ، مثلث اللام.
وأجاز الكسائي أن يكون : مفعل ، واحداً ولا يخالف قول سيبويه ، إذ يقال : ليس في الكلام كذا ، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان ، كأنه لا يعتد بالقليل ، ولا يجعل له حكم.
وتقدّم شيء من الإشارة إلى الخلاف : أهذا الإنظار يختص بدين الربا؟ وهو قول ابن عباس ، وشريح ، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره؟ وهو قول أبي هريرة ، والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن خيثم ، وعامة الفقهاء.
وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة ، منها : « من أنظر معسراً ، ووضع عنه ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » ومنها : « يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : يا رب ما عملت لك خيراً قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالاً فكنت أوسع على المقتر ، وأنظر المعسر ، فيقول الله عز وجل : أنا أحق بذلك منك.
فتجاوزوا عن عبدي »
{ وأن تصدقوا خير لكم } أي : تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار ، قاله الضحاك والسدي ، وابن زيد ، والجمهور.
وقيل : وان تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة ، وهذا ضعيف ، لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين ، فالحمل على فائدة جديدة أولى.
ولأن : أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها ، والمراد بالخير : حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة.
وقال قتادة : ندبوا إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير.
وقرأ الجمهور : وأن تصدقوا ، بادغام التاء في الصاد ، وقرأ عاصم : تصدقوا ، بحذف التاء.
وفي مصحف عبد الله : تتصدقوا ، بتاءين وهو الأصل ، والإدغام تخفيف.
والحذف أكثر تخفيفاً.
{ وإن كنتم تعلمون } : يريد العمل ، فجعله من لوازم العلم ، وقيل : تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض ، وقيل : تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم.
قيل : آخر آية نزلت آية الربا ، قاله عمر ، وابن عباس ، ويحمل على أنها من آخر ما نزل ، لأنه الجمهور قالوا : آخر آية نزلت : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } فقيل : قبل موته بتسع ليال ، ثم لم ينزل شيء.
وروي : بثلاث ساعات ، وقيل : عاش بعدها صلى الله عليه وسلم أحداً وثمانين يوماً.
وقيل : أحداً وعشرين يوماً.
وقيل : سبعة أيام.
وروي أنه قال : « اجعلوها بين آية الربا وآية الدين » وروي أنه قال عليه السلام : جاءني جبريل فقال : إجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة.
وتقدم الكلام على : واتقوا يوماً ، في قوله : { واتقوا يوماً لا تجزى }
وقرأ يعقوب ، وأبو عمرو : ترجعون ، مبنياً للفاعل ، وخبر عباس عن أبي عمرو ، وقرأ باقي السبعة مبنياً للمفعول وقرأ الحسن : يرجعون ، على معنى يرجع جميع الناس ، وهو من باب الالتفات.
قال ابن جني : كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب ، فقال لهم : واتقوا ، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقاً بهم. انتهى.
وقرأ أبي : تردون ، بضم التاء ، حكاه عنه ابن عطية.
وقال الزمخشري : وقرأ عبد الله : يردون.
وقرأ أبي : تصيرون. انتهى.
قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أظهر لقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه.
{ ثم توفى كل نفس } أي تعطى وافياً جزاء { ما كسبت } من خير وشر ، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب ، وفيه ردّ على الجبرية.
{ وهم لا يظلمون } أي : لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب ، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب ، وأعاد الضمير أولاً في : كسبت ، على لفظ : النفس ، وفي قوله : وهم لا يظلمون ، على المعنى لأجل فاصلة الآي ، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة ، ومن قرأ : يرجعون ، بالياء فتجيء : وهم ، عليه غائباً مجموعاً لغائب مجموع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
تداين : تفاعل من الدين ، يقال : داينت الرجل عاملته بدين معطياً أو آخذاً ، كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك.
قال رؤبة :
داينت أروى والديون تقضى . . .
فمطلت بعضاً وأدّت بعضاً
ويقال : دنت الرجل إذا بعته بدين ، وادّنت أنا أي : أخذت بدين.
أمل وأملى لغتان : الأولى لأهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لتميم ، يقال : أمليت وأمللت على الرجل أي : ألقيت عليه ما يكتبه ، وأصله في اللغة الإعادة مرة بعد أخرى قال الشاعر :
ألا يا ديار الحيّ بالسبعان . . .
أمل عليها بالبلى الملوان
وقيل : الأصل أمللت ، أبدل من اللام ياء لأنها أخف.
البخس : النقص ، يقال منه : بخس يبخس ، ويقال بالصاد ، والبخس : إصابة العين ، ومنه : استعير بخس حقه ، كقولهم : عوّر حقه ، وتباخسوا في البيع تغابنوا ، كان كل واحد يبخس صاحبه عن ما يريده منه باحتياله.
السأم والسآمة : الملل من الشيء والضجر منه ، يقال منه : سئم يسأم.
الصغير : اسم فاعل من صغر يصغر ، ومعناه قلة الجرم ، ويستعمل في المعاني أيضاً.
القسط : بكسر القاف : العدل ، يقال منه : أقسط الرجل أي عدل ، وبفتح القاف : الجور ، ويقال منه : قسط الرجل أي جار ، والقسط بالكسر أيضاً : النصيب.
الرهن : ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه ، ويقال : رهن يرهن رهناً ، ثم أطلق المصدر على المرهون ، ويقال : رهن الشيء دام.
قال الشاعر :
اللحم والخبز لهم راهن . . .
وقهوة راووقها ساكب
وأرهن لهم الشراب : دام ، قال ابن سيده : ورهنه ، أي : أدامه ، ويقال : أرهن في السلعة إذا غالى بها حتى أخذها بكثير الثمن.
قال الشاعر :
يطوى ابن سلمى بها من راكب بعرا . . .
عيدية أرهنت فيها الدنانير
العيد : بطن من مهر ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة ، ويقال ، من الرهن الذي هو من التوثقة : أرهن إرهاناً.
قال همام بن مرة :
فلما خشيت أظافيرهم . . .
نجوت وأرهنتهم مالكاً
وقال ابن الأعرابي ، والزجاج : يقال في الرهن رهنت وأرهنت.
وقال الأعشى :
حتى يقيدك من بنيه رهينة . . .
نعش ويرهنك السماك الفرقدا
وتقول : رهنت لساني بكذا ، ولا يقال فيه : أرهنت ، ولما أطلق الرهن على المرهون صار إسماً ، فكسر تكسير الأسماء وانتصب بفعله نصب المفاعيل ، فرهنت رهناً كرهنت ثوباً.
الإصر : الامر الغليظ الصعب ، والآصرة في اللغة : الأمر الرابط من ذمام ، أو قرابة ، أو عهد ، ونحوه.
والإصار : الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، يقال : أصر يأصر أصراً ، والإصر ، بكسر الهمزة الاسم من ذلك ، وروي الأُصر بضمها وقد قرىء به.
قال الشاعر :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم . . .
والحامل الإصر عنهم بعدما عرقوا
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } قال ابن عباس : نزلت في السلم خاصة ، يعنى : أن سلم أهل المدينة كان السبب ، ثم هي تتناول جميع الديون بالإجماع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر بالنفقة في سبيل الله ، وبترك الربا ، وكلاهما يحصل به تنقيص المال ، نبه على طريق حلال في تنمية المال وزيادته ، وأكد في كيفية حفظه ، وبسط في هذه الآية وأمر فيها بعدة أوامر على ما سيأتي بيانه.
وذكر قوله؛ بدين ، ليعود الضمير عليه في قوله : فاكتبوه ، وإن كان مفهوماً من : تداينتم ، أو لإزالة اشتراك : تداين ، فإنه يقال؛ تداينوا ، أي جازى بعضهم بعضاً ، فلما قال : بدين ، دل على غير هذا المعنى.
أو للتأكيد ، أو ليدل على أي دين كان صغيراً أو كبيراً ، وعلى أي وجه كان من سلم أو بيع.
{ إلى أجل مسمى } ليس هذا الوصف احترازاً من أن الدين لا يكون إلى أجل مسمى ، بل لا يقع الدين إلاَّ إلى أجل مسمى ، فأما الآجال المجهولة فلا يجوز ، والمراد بالمسمى الموقت المعلوم ، نحو التوقيت بالنسبة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم يجز لعدم التسمية ، و : إلى أجل ، متعلق : بتداينتم ، أو في موضع الصفة لقوله : بدين ، فيتعلق بمحذوف.
{ فاكتبوه } أمر تعالى بكتابته لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان ، وأبعد من الجحود.
وظاهر الأمر الوجوب ، وقد قال بعض أهل العلم ، منهم الطبري ، وأهل الظاهر.
وقال الجمهور : هو أمر ندب يحفظه به المال ، وتزال به الريبة ، وفي ذلك حث على الاعتراف به وحفظه ، فإن الكتاب خليفة اللسان ، واللسان خليفة القلب.
وروي عن أبي سعيد الخدري ، وابن زيد ، والشعبي ، وابن جريج أنهم كانوا يرون أن قوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } ناسخ لقوله : { فاكتبوه } وقال الربيع وجب بقوله : فاكتبوه ، ثم خفف بقوله : فإن أمن.
{ وليكتب بينكم كاتب بالعدل } وهذا الأمر قيل : على الوجوب على الكفاية كالجهاد ، قال عطاء ، وغيره : يجب على الكاتب أن يكتب على كل حال ، وقال الشعبي ، أيضاً : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدّي : هو واجب مع الفراغ.
واختار الراغب أن الصحيح كون الكتابة فرضاً على الكفاية ، وقال : الكتابة فيما بين المتبايعين ، وإن لم تكن واجبة ، فقد تجب على الكتابة إذا أتوه ، كما أن الصلاة النافلة ، وإن لم تكن واجبة على فاعلها ، فقد يجب على العالم تبيينها إذا أتاه مستفت.
ومعنى : بينكم ، أي : بين صاحب الدين والمستدين ، والبائع والمشتري ، والمقرض والمستقرض ، والتثنية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين لأن يتهم في الكتابة ، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعاً على ما سطره الكاتب.
ومعنى : بالعدل ، أي : بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه ولا في قلمه ميل لأحدهما على الآخر.
واختلف فيما يتعلق به : بالعدل ، فقال الزمخشري : بالعدل ، متعلق بكاتب صفة له ، أي : بكاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط ، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ، ولا ينقص.
وفيه أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط ، حتى يجيء مكتوبه معدّلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلاَّ فقيهاً ديناً.
وقال ابن عطية : والباء متعلقة بقوله تعالى : وليكتب ، وليست متعلقة بكاتب ، لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلاَّ العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتخبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلاَّ عدولاً مرضيين ، وقيل : الباء زائدة ، أي فليكتب بينكم كاتب العدل.
وقال القفال في معنى { بالعدل } : أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلاً إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل ، فيحتاج الحاكم إلى التوقف.
وقرأ الحسن : وليكتب ، بكسر لام الأمر ، والكسر الأصل.
{ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة.
و : كاتب ، نكرة في سياق النهي ، فتعم.
وأن يكتب مفعول ، ولا يأب ، ومعنى : كما علمه الله ، أي : مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق ، لا يبدّل ولا يغير ، وفي ذلك حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب ، وفيه تنبيه على المنة بتعليم الله إياه.
وقيل : المعنى كما أمره الله به من الحق ، فيكون : علم ، بمعنى : أعلم ، وقيل : المعنى كما فضله الله بالكتاب ، فتكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل ما فضله الله ، فيكون كقوله { وأحسن كما أحسن الله إليك } أي : لأجل إحسان الله إليك.
والظاهر تعلق الكاف بقوله : أن يكتب ، وقيل : تم الكلام عند قوله : أن يكتب ، وتتعلق الكاف بقوله : فليكتب ، وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلقاً بقوله : فليكتب ، لكان النظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون : كما ، متعلقاً بما في قوله : ولا يأب ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه. انتهى.
وهو خلاف الظاهر.
وتكون الكاف في هذا القول للتعليل ، وإذا كان متعلقاً بقوله : أن يكتب ، كان قوله : ولا يأب ، نهياً عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم أمر بتلك الكتابة ، لا يعدل عنها ، أمر توكيد.
وإذا كان متعلقاً بقوله : فليكتب ، كان ذلك نهياً عن الامتناع من الكتابة على الإطلاق ، ثم أمر بالكتابة المقيدة.
وقال الربيع ، والضحاك : ولا يأب ، منسوخ بقوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد }.
{ فليكتب وليملل الذي عليه الحق } أي : فليكتب الكاتب ، وليملل من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمّته ، والمستوثق منه بالكتابة.
{ وليتق الله ربه } ، فيما يمليه ويقربه ، وجمع بين اسم الذات وهو : الله ، وبين هذا الوصف الذي هو : الرب ، وإن كان اسم الذات منطوقاً على جميع الأوصاف.
ليذكره تعالى كونه مربياً له ، مصلحاً لأمره ، باسطاً عليه نعمه.
وقدم لفظ : الله ، لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم.
{ ولا يبخس منه شيئاً } أي : لا ينقص بالمخادعة أو المدافعة ، والمأمور بالإملال هو المالك لنفسه.
وفك المضاعفين في قوله : وليملل ، لغة الحجاز ، وذلك في ما سكن آخره بجزم ، نحو ، هذا ، أو وقف نحو : أملل ، ولا يفك في رفع ولا نصب.
وقرىء : شيئاً ، بالتشديد.
{ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } قال مجاهد ، وابن جبير : هو الجاهل بالأمور والإملاء.
وقال الحسن : الصبي والمرأة ، وقال الضحاك ، والسدّي : الصغير.
وضعف هذا لأنه قد يصدق السفيه على الكبير ، وذكر القاضي أبو يعلى : أنه المبذر.
وقال الشافعي : المبذر لماله المفسد لدينه.
وروي عن السدي : أنه الأحمق ، وقيل : الذي يجهل قدر المال فلا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره.
وقال ابن عباس : الجاهل بالاسلام.
{ أو ضعيفاً } قال ابن عباس : وابن جبير : إنه العاجز ، والأخرس ، ومن به حمق.
وقال مجاهد ، والسدي : الأحمق.
وذكر القاضي أبو يعلى ، وغيره : أنه الصغير.
وقيل : المدخول العقل ، الناقص الفطرة.
وقال الشيخ : الكبير ، وقال الطبري : العاجز عن الإملاء لعيّ أو لخرس.
{ أو لا يستطيع أن يملّ هو } قال أبن عباس : لعي أو خرس أو غيبة ، وقيل : بجنون ، وقيل : بجهل بما له أو عليه.
وقيل : لصغر.
والذي يظهر تباين هؤلاء الثلاثة ، فمن زعم زيادة : أو ، في قوله : أو ضعيفاً ، أو زيادتها في هذا ، وفي قوله : أو لا يستطيع ، فقوله ساقط ، إذ : أو ، لا تزاد ، وأن السفه هو تبذير المال والجهل بالتصرف ، وأن الضعف هو في البدن لصغر أو إفراط شيخ ينقص معه التصرف ، وأن عدم استطاعته الإملاء لعي أو خرس ، لأن الإستطاعة هي القدرة على الإملاء.
وهذا الشرح أكثره عن الزمخشري.
وقال ابن عطية : ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان ، ويترتب الحق لهم في كل جهات سوى المعاملات : كالمواريث إذا قسمت ، وغير ذلك.
والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ، وهذه الصفة لا تخلو من حجر ولي أو وصي ، وذلك وليه.
والضعيف المدخول العقل الناقص الفطرة ، ووليه وصي أو أب ، والذي لا يستطيع أن يمل هو الغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك ، ووليه وكيله ، والأخرس من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع ، وربما اجتمع اثنان أو الثلاثة في شخص. انتهى.
وفيه بعض تلخيص ، وهو توكيد الضمير المستكن في : أن يملّ ، وفيه من الفصاحة ما لا يخفى ، لأن في التأكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه.
وقرىء شاذاً بإسكان هاء : هو ، وإن كان قد سبقها ما ينفصل ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل بالواو والفاء واللام ، نحو : وهو ، فهو ، لهو.
وهذا أشذ من قراءة من قرأ : ثم هو يوم القيامة ، لأن ثم شاركت في كونه للعطف ، وأنها لا يوقف عليها فيتم المعنى.
{ فليملل وليه بالعدل }.
الضمير في وليه عائد على أحد هؤلاء الثلاثة ، وهو الذي عليه الحق ، وتقدّم تفسير ابن عطية للولي.
وقال الزمخشري : الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يملّ عنه وهو يصدّقه.
وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه يعود على الحق ، فيكون الولي هو الذي له الحقّ.
وروي ذلك عن ابن عباس والربيع.
قال ابن عطية : ولا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد البينة على شيء ويدخل مالا في ذمّة السفيه ، بإملاء الذي له الدين ، هذا شيء ليس في الشريعة.
قال الراغب : لا يجوز أن يكون ولي الحق كما قال بعضهم ، لأن قوله لا يؤثر إذ هو مدّع.
و : بالعدل ، متعلق بقوله : فليملل ، ويحتمل أن تكون الباء للحال ، وفي قوله : بالعدل ، حث على تحريه لصاحب الحق ، والمولى عليه ، وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على الصغير ، واستدل بها على جواز تصرف السفيه ، وعلى قيام ولاية التصرفات له في نفسه وأمواله.
{ واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أي : اطلبوا للإشهاد شهيدين ، فيكون استفعل للطلب ، ويحتمل أن يكون موافقة أفعل أي : وأشهدوا ، نحو : استيقن موافق أيقن ، واستعجله بمعنى أعجله.
ولفظ : شهيد ، للمبالغة ، وكأنهم أمروا بأن يستشهدوا من كثرت منه الشهادة ، فهو عالم بمواقع الشهادة وما يشهد فيه لتكرر ذلك منه ، فأمروا بطلب الأكمل ، وكان في ذلك إشارة إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلاَّ وهو مقبول عندهم.
من رجالكم ، الخطاب للمؤمنين ، وهم المصدّر بهم الآية ، ففي قوله : من رجالكم ، دلالة على أنه لا يستشهد الكافر ، ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك أبو حنيفة.
وإن اختلفت مللهم ، وفي ذلك دلالة على اشتراط البلوغ ، واشتراط الذكورة في الشاهدين.
وظاهر الآية أنه : يجوز شهادة العبد ، وهو مذهب شريح ، وابن سيرين ، وابن شبرمة ، وعثمان البتي ، وقيل عنه : يجوز شهادته لغير سيده.
وروي عن علي أنه كان يقول : شهادة العبد على العبد جارية جائزة.
وروي المغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه.
وروي عن أنس أنه قال : ما أعلم أن أحداً ردّ شهادة العبد.
وقال الجمهور : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة في إحدى الروايتين ، ومالك ، وابن صالح ، وابن أبي ليلى ، والشافعي : لا تقبل شهادة العبد في شيء.
وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، والحسن.
وظاهر الآية يدل على أن شهادة الصبيان لا تعتبر ، وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة ، وابن شبرمة ، والشافعي.
وروي ذلك عن : عثمان ، وابن عباس ، وابن الزبير.
وقال ابن أبي ليلى : تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وروي ذلك عن علي ، قال مالك : تجوز شهادتهم في الجراح وحدها بشروط ذكرت عنه في كتب الفقه.
وظاهر الآية اشتراط الرجولية فقط في الشاهدين.
فلو كان الشاهد أعمى ، ففي جواز شهادته خلاف.
ذهب أبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه لا يجوز بحال.
وروي ذلك عن علي ، والحسن ، وابن جبير ، وإياس بن معاوية.
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا علم قبل العمى جازت ، أو بعده فلا.
وقال زفر : لا يجوز إلا في النسب ، يشهد أن فلان بن فلان ، وقال شريح ، والشعبي : شهادته جائزة.
قال مالك ، والليث : تجوز ، وإن علمه حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه ، وإن شهد بزنا أو حدّ قذف لم تقبل شهادته.
ولو كان الشاهد أخرس ، فقيل : تقبل شهادته بإشارة ، وسواء كان طارئاً أم أصلياً ، وقيل : لا تقبل.
وإن كان أصمّ ، فلا تقبل في الأقوال ، وتقبل فيما عدا ذلك من الحواس.
ولو شهد بدوي على قروي ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز إلاَّ في الجراح.
وروى ابن القاسم عنه : لا تجوز في الحضر إلاَّ في وصية القروي في السفر وفي البيع.
{ فإن لم يكونا رجلين } الضمير عائد على الشهيدين أي : فإن لم يكن الشهيدان رجلين ، والمعنى أنه : إن أغفل ذلك صاحب الحق ، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له ، وكان على هذا التقدير ناقصة.
وقال قوم : بل المعنى : فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال ، وهذا لا يتم إلاَّ على اعتقاد أن الضمير في : يكونا ، عائد على : شهيدين ، بوصف الرجولية ، وتكون : كان ، تامّة ، ويكون : رجلين ، منصوباً على الحال المؤكد ، كقوله : { فإن كانتا اثنتين } على أحسن الوجهين.
{ فرجل وامرأتان } ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالشاهد ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فرجل وامرأتان يشهدون ، أو : فاعل ، أي فليشهد رجل ، أو : مفعول لم يسم فاعله ، أي فليستشهد ، وقيل : المحذوف فليكن ، وجوّز أن تكون تامّة ، فيكون رجل فاعلاً ، وأن تكون ناقصة ، ويكون خبرها محذوفاً وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصاراً ولا اختصاراً.
وقرىء شاذاً : وامرأتان ، بهمزة ساكنة ، وهو على غير قياس ، ويمكن أن سكنها تخفيفاً لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر :
يقولون جهلاً ليس للشيخ عيّل . . .
لعمري لقد أعيَلتُ وأن رقوبُ
يريد : وأنا رقوب ، قيل : خفف الهمزة بإبدالها ألفاً ثم همزة بعد ذلك ، قالوا : الخأتم ، والعأم.
وظاهر الآية يقتضي جواز شهادة المرأتين مع الرجل في سائر عقود المداينات ، وهي كل عقد وقع على دين سواء كان بدلاً أم بضعاً ، أم منافع أم دم عمد ، فمن ادّعى خروج شيء من العقود من الظاهر لم يسلم له ذلك إلاَّ بدليل.
وقال الشافعي : لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ، ولا يجوز في الوصية إلاَّ الرجل ، ويجوز في الوصية بالمال.
وقال الليث : تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا قتل العمد الذي يقاد منه.
وقال الأوزاعي : لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح.
وقال الحسن بن حيى : لا تجوز شهادتهنّ في الحدود.
وقال الثوري : تجوز في كل شيء إلاَّ الحدود.
وقال مالك لا تجوز في الحدود ولا القصاص ، ولا الطلاق ولا النكاح ، ولا الأنساب ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق.
وقال الحسن ، والضحاك : لا تجوز شهادتهنّ إلاَّ في الدين.
وقال عمر ، وعطاء ، والشعبي : تجوز في الطلاق.
وقال شريح : تجوز في العتق ، وقال عمر ، وابنه عبد الله : تجوز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح.
وقال علي : تجوز في العقد.
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وعثمان البتي : لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ، وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق.
وأدلة هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقة.
وأما قبول شهادتهنّ مفردات فلا خلاف في قبولها في : الولادة ، والبكارة ، والاستهلال ، وفي عيوب النساء الإماء وما يجري مجرى ذلك مما هو مخصوص بالنساء.
وأجاز أبو حنيفة شهادة الواحدة العدلة في رؤية الهلال إذ هو عنده من باب الإخبار ، وكذلك شهادة القابلة مفردة.
{ ممن ترضون من الشهداء } قيل : هذا في موضع الصفة لقوله : { فرجل وامرأتان } وقيل : هو بدل من قوله : رجالكم ، على تكرير العامل ، وهما ضعيفان ، لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف ، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين ، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين ، فعرى عنه : رجل وامرأتان ، والذي يظهر أنه متعلق بقوله : واستشهدوا ، أي : واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء ، ليكون قيداً في الجميع ، ولذلك جاء متأخراً بعد ذكر الجميع ، والخطاب في ترضون ظاهره أنه للمؤمنين ، وفي ذلك دلالة على أن في الشهود من لا يرضى ، فيدل على هذا على أنهم ليسوا محمولين على العدالة حيث تثبت لهم.
وقال ابن بكير وغيره : الخطاب للحكام ، والأول أوْلى لأنه الظاهر ، وإن كان المتلبس بهذه القضايا هم الحكام ، ولكن يجيء الخطاب عاماً ويتلبس به بعض الناس ، وقيل : الخطاب لأصحاب الدين.
واختلفوا في تفسير قوله : { ممن ترضون } فقال ابن عباس : من أهل الفضل والدين والكفاءة.
وقال الشعبي : ممن لم يطعن في فرج ولا بطن ، وفسر قوله بأنه لم يقذف امرأة ولا رجلاً ، ولم يطعن في نسب.
وروي : من لم يطعن عليه في فرج ولا بطن ، ومعناه : لا ينسب إلى ريبة ، ولا يقال إنه ابن زنا.
وقال الحسن : من لم تعرف له خربة.
وقال النخعي : من لا ريبة فيه.
وقال الخصاف : من غلبت حسناته سيآته مع اجتناب الكبائر.
وقيل : المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال : أن يكون حراً ، بالغاً ، مسلماً ، عدلاً ، عالماً بما يشهد به ، لا يجر بشهادته منفعة لنفسه ، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ، ولا بترك المروءة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف : أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود ، وما يجب فيها من العظائم ، وأدّى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار ، قبلت شهادته ، لأنه لا يسلم عبد من ذنب ، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر ، ولا من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها ، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافاً أو مجانةً أو فسقاً ، لا أن تركها على تأويل ، وكان عدلاً ، ومن يكثر الحلف بالكذب ، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر ، ولا معروف بالكذب الفاحش ، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شتام الناس والجيران ، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور ، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا : سمعناه يشتم.
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : تقبل شهادة أهل الأهواء العدول ، إلاَّ صنفاً من الرافضة وهم الخطابية.
وقال محمد : لا أقبل شهادة الخوارج ، وأقبل شهادة الحرورية ، لأنهم لا يستحلون أموالنا ، فإذا خرجوا استحلوا.
وروي عن أبي حنيفة أنه : لا يجوز شهادة البخيل.
وعن إياس بن معاوية لا يجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ، ولا التجار الذين يركبون البحر ، وعن بلال بن أبي بردة ، وكان على البصرة ، أنه لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته.
وردّ عمر بن عبد العزير شهادة من ينتف عنفقته ويخفي لحيته.
ورد شريح شهادة رجل اسمه ربيعة ويلقب بالكويفر ، فدعي : يا ربيعة ، فلم يجب ، فدعي : يا ربيعة الكويفر ، فأجاب ، فقال له شريح : دعيت باسمك فلم تجب ، فلما دعيت بالكفر أجبت! فقال : أصلحك الله! إنما هو لقب.
فقال له : قم ، وقال لصاحبه : هات غيره.
وعن أبي هريرة : لا يجوز شهادة أصحاب الحمر ، يعني : النخاسين.
وعن شريح : لا يجيز شهادة صاحب حمام ، ولا حمال ، ولا ضيق كم القباء ، ولا من قال : أشهد بشهادة الله عز وجل ، وعن محمد : لا تقبل شهادة من ظهرت منه مجانة ، ولا شهادة مخنث ، ولا لاعب بالحمام يطيرهنّ ، ورد ابن أبي ليلى شهادة الفقير ، وقال : لا يؤمن أن يحمله فقره على الرغبة في المال.
وقال مالك : لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير ، وتجوز في الشيء التافه.
وعن الشافعي : إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته ، وعنه : إذا كان أكثر أمره الطاعة ، ولم يقدم على كبيرة ، فهو عدل ، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون ، والسمت الحسن ، وحفظ الحرمة ، وتجنب السخف ، والمجون ، لا تفسر بنظافة الثوب ، وفراهة المركوب ، وجودة الآلة ، والشارة الحسنة.
لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.
واختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة ، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد؟ ففي كتاب عمر لأبي موسى : والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلاَّ مجلوداً في حدّ ، أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً أو قرابة.
وكان الحسن ، لما ولي القضاء ، يجيز شهادة المسلمين إلاَّ أن يكون الخصم يجرح الشاهد.
وقال ابن شبرمة : إن طعن المشهود عليه فيهم سألت عنهم في السرّ والعلانية.
وقال محمد ، وأبو يوسف : يسأل عنهم ، وإن لم يطعن فيهم في السرّ والعلانية ، ويزكيهم في العلانية.
وقال مالك : لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السرّ.
وقال الليث : إنما كان الوالي يقول للخصم : إن كان عندك من يخرج شهادتهم فأت به ، وإلاَّ أجزنا شهادتهم عليك.
وقال الشافعي : يسأل عنه في السرّ ، فإذا عدل سأل عن تعديله في العلانية.
وأما ما ذكر من اعتبار نفي التهمة عن الشاهد إذا كان عدلاً ، فاتفق فقهاء الأمصار على بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلاَّ ما حكي عن البتي ، قال : تجوز شهادة الولد لوالديه ، والأب لأبنه وامرأته ، وعن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لأبنه.
وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث إلى أنه : لا يجوز شهادة أحد الزوجين للآخر.
وعن أبي حنيفة : لا تجوز شهادة الأجير الخاص لمستأجره ، وتجوز شهادة الأجير المشترك له.
وقال مالك : لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلاَّ أن يكون مبرزاً في العدالة.
وقال الأوزاعي : لا تجوز مطلقاً.
وقال الثوري : تجوز إذا كان لا يجر إلى نفسه منفعة.
ومن وردت شهادته لمعنى ، ثم زال ذلك المعنى ، فهل تقبل تلك الشهادة فيه؟
قال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا تقبل إذا ردّت لفسق أو زوجية ، وتقبل إذا ردّت لرق أو كفر أو صبي.
وقال مالك : لا تقبل إن ردت لرق أو صبي.
وروي عن عثمان بن عفان مثل هذا.
وظاهر الآية : أن الشهود في الديون رجلان ، أو رجل وامرأتان ، ممن ترضون ، فلا يقضى بشاهد واحد ويمين ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، والثوري والحكم ، والأوزاعي.
وبه قال عطاء ، وقال : أول من قضى به عبد الملك بن مروان ، وقال الحكم : أوّل من حكم به معاوية.
واختلف عن الزهري ، فقيل ، قال : هذا شيءأحدثه الناس لا بدّ من شهيدين ، وقال أيضاً : ما أعرفه ، وإنها البدعة ، وأول من قضاه معاوية ، وروي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين وقال مالك ، والشافعي وأتباعهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : يحكم به في الأموال خاصة ، وعليه الخلفاء الأربعة وهو عمل أهل المدينة ، وهو قول أبيّ بن كعب ، ومعاوية ، وأبي سلمة ، وأبي الزياد ، وربيعة.
{ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } قرأ الأعمش ، وحمزة : إن تضل بكسر الهمزة ، جعلها حرف شرط فتذكر ، بالتشديد ورفع الراء وجعله جواب الشرط.
وقرأ الباقون بفتح همزة : أن ، وهي الناصبة ، وفتح راء فتذكر عطفاً على : أن تضل وسكن الذال وخفف الكاف ابن كثير ، وأبو عمرو.
وفتح الذال ، وشدّد الكاف الباقون من السبعة.
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمران : تضل ، بضم التاء وفتح الضاد مبنياً للمفعول ، بمعنى : تنسى ، كذا حكى عنهما الداني.
وحكى النقاش عن الجحدري : أن تضل ، بضم التاء وكسر الضاد ، بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا ذهبا فلم تجدهما.
وقرأ حميد بن عبد الرحمن ، ومجاهد : فتذكر ، بتخفيف الكاف المكسورة ، ورفع الراء ، أي فهي : تذكر وقرأ زيد بن أسلم : فتذاكر ، من الذاكرة.
والجملة الشرطية من قوله { أن تضل إحداهما فتذكر } على قراءة الأعمش وحمزة قال ابن عطية : في موضع رفع بكونه صفة للمذكر ، وهما المرأتان. انتهى.
كان قد قدم أن قوله { ممن ترضون من الشهداء } في موضع الصفة لقوله { فرجل وامرأتان } فصار نظير : جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان ، وفي جواز مثل هذا التركيب نظر ، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم حبليان على عقلاء ، وأما على قول من أعرب : ممن ترضون ، بدلاً من : رجالكم ، وعلى ما اخترناه من تعلقه بقوله : واستشهدوا ، فلا يجوز أن تكون جملة الشرط صفة لقوله : وامرأتان ، للفصل بين الموصوف والصفة بأجنبي ، وأما : أن تضل ، بفتح الهمزة ، فهو في موضع المفعول من أجله ، أي لأن تضل على تنزيل السبب ، وهو الإضلال.
منزلة المسبب عنه ، وهو الإذكار ، كما ينزل المسبب منزلة السبب لالتباسهما واتصالهما ، فهو كلام محمول على المعنى ، أي : لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، ونظيره : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يطرق العدو فأدفعه ، ليس إعداد الخشبة لأجل الميل إنما إعدادها لإدعام الحائط إذا مال ، ولا يجوز أن يكون التقدير : مخالفة أن تضل ، لأجل عطف فتذكر عليه.
وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس أن التقدير : كراهة أن تضل ، قال أبو جعفر : وهذا غلط ، إذ يصير المعنى كراهة أن تذكر.
ومعنى الضلال هنا هو عدم الاهتداء للشهادة لنسيان أو غفلة ، ولذلك قوبل بقوله : فتذكر ، وهو من الذكر ، وأما ما روي عن أبي عمرو بن العلاء ، وسفيان بن عيينة من أن قراءة التخفيف ، فتذكر ، معناه : تصيرها ذكراً في الشهادة ، لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموع شهادتها كشهادة ذكر ، فقال الزمخشري : من بدع التفاسير.
وقال ابن عطية : هذا تأويل بعيد غير صحيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلاَّ الذكر. انتهى.
وما قالاه صحيح ، وينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى ، أما من جهة اللغة فإن المحفوظ أن هذا الفعل لا يتعدى ، تقول : أذكرت المرأة فهي مذكر إذا ولدت الذكور ، وأما : أذكرت المرأة ، أي : صيرتها كالذكر ، فغير محفوظ.
وأما من جهة المعنى ، فإن لو سلم أن : أذكر ، بمعنى صيرها ذكراً فلا يصح ، لأن التصيير ذَكَراً شامل للمرأتين ، إذ ترك شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر فليست إحداهما أذكرت الأخرى على هذا التأويل ، إذ لم تصر شهادتهما وحدها بمنزلة شهادة ذكر.
ولما أبهم الفاعل في : أن تضل ، بقوله : إحداهما ، أبهم الفاعل في : فتذكر ، بقوله : إحداهما ، إذ كل من المرأتين يجوز عليها الضلال ، والإذكار ، فلم يرد : بإحداهما ، معيَّنة.
والمعنى : إن ضلت هذه أذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه أذكرتها هذه ، فدخل الكلام معنى العموم ، وكأنه قيل : من ضل منهما أذكرتها الأخرى ، ولو لم يذكر بعد : فتذكر ، الفاعل مظهراً للزم أن يكون أضمر المفعول ليكون عائداً على إحداهما الفاعل بتضل ، ويتعين أن يكون : الأخرى ، هو الفاعل ، فكان يكون التركيب : فتذكرها الأخرى.
وأما على التركيب القرآني فالمتبادر إلى الذهن أن : إحداهما ، فاعل تذكر ، والأخرى هو المفعول ، ويراد به الضالة ، لأن كلاًّ من الإسمين مقصور ، فالسابق هو الفاعل ، ويجوز أن يكون : إحداهما ، مفعولاً ، والفاعل هو الأخرى لزوال اللبس ، إذ معلوم أن المذكرة ليست الناسية ، فجاز أن يتقدّم المفعول ويتأخر الفاعل ، فيكون نحو : كسر العصا موسى ، وعلى هذا الوجه يكون قد وضع الظاهر موضع المضمر المفعول ، فيتعين إذ ذاك أن يكون الفاعل هو : الأخرى ، ومن قرأ : أن ، بفتح الهمزة و : فتذكر ، بالرفع على الاستئناف ، قيل : وقال : إن تضل إحداهما ، المعنى : أن النسيان غالب على طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة ، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان عن المرأة الواحدة ، فأقيمت المرأتان مقام الرجل ، حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى ، وفيه دلالة على تفضيل الرجل على المرأة.
و : تذكر ، يتعدّى لمفعولين ، والثاني محذوف ، أي : فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، وفي قوله { فتذكر إحداهما الأخرى } دلالة على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها ، وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط ، إذ الخط والكتابة مأمور به لتذكر الشهادة ، ويدل عليه قوله : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها.
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا كتب خطه بالشهادة فلا يشهد حتى يذكرها؛ وقال محمد بن أبي ليلى ، إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها.
وقال الثوري : إذا ذكر أنه شهد ، ولا يذكر عدد الدراهم ، فإنه لا يشهد.
{ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال قتادة : سبب نزولها أن الرجل كان يطوف في الحراء العظيم ، فيه القوم ، فلا يتبعه منهم أحد ، فأنزلها الله.
وظاهر الآية : أن المعنى : ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة إذا ما دعوا لها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع وغيرهم.
وهذا النهي ليس نهي تحريم ، فله أن يشهد ، وله أن لا يشهد.
قاله عطاء ، والحسن.
وقال الشعبي : إن لم يوجد غيره تعين عليه أن يشهد ، وإن وجد فهو مخير ، وقيل : المعنى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم ، ولاحق بن حميد ، وابن زيد.
وروى النقاش : هكذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صح هذا عنه ، عليه السلام ، لم يعدل عنه فيكون نهي تحريم.
وقال ابن عباس أيضاً ، والحسن ، والسدي : هي في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً ، وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن ، جمعت الأمرين ، والمسلمون مندوبون إلى معاونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة في كثرة الشهود ، والأمن من تعطيل الحق ، فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وأن يتخلف لغير عذر ، ولا إثم عليه.
وإذا كانت الضرورة ، وخيف تعطيل الحق أدنى خوف ، قوي الندب وقرب من الوجوب.
وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة ، فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة.
وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الطرف آكد ، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء. انتهى.
{ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } لما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة ، نهى أيضاً عن السآمة في كتابة الدين ، كل ذلك ضبط لأموال الناس ، وتحريض على أن لا يقع النزاع ، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهمٌ فيه أو إنكار ، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف ، وقدم الصغير اهتماماً به ، وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى.
ونص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره ، فكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل ، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره ، لأن الأجل بعض أوصافه ، والأجل هنا هو الوقت الذي اتفق المتداينان على تسميته.
وقال الماتريدي : فيه دلالة على جواز السلم في الثياب ، لأن ما يؤكل أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير ، وإنما يقال ذلك في العددي والذرعي. انتهى.
ولا يظهر ما قال : إذ الصغر ، والكبر هنا لا يراد به الجرم ، وإنما هو عبارة عن القليل والكثير ، فمن أسلم في مقدار ويبة ، أو في مقدار عشرين أردباً ، صدق على الأول أنه حق صغير ودين صغير ، وعلى الثاني انه دين كبير وحق كبير.
قيل : ومعنى : ولا تسأموا ، أي لا تكسلوا ، وعبر بالسأم عن الكسل ، لأن الكسل صفة المنافق ، ومنه الحديث : « لا يقل المؤمن كسلت » ، وكأنه من الوصف الذي نسبه الله إليهم في قوله : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } وقيل : معناه لا تضجروا ، و : أن تكتبوا ، في موضع نصب على المفعول به ، لأن سئم متعد بنفسه.
كما قال الشاعر :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش . . .
ثمانين عاماً لا أبك لك يسأم
وقيل : يتعدّى سئم بحرف جر ، فيكون : أن تكتبوه ، في موضع نصب على إسقاط الحرف ، أو في موضع جر على الخلاف الذي تقدم بين سيبويه والخليل ، ومما يدل على أن سئم يتعدّى بحرف جر قوله :
ولقد سئمت من الحياة وطولها . . .
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وضمير النصب في : تكتبوه ، عائد على الدَّين ، لسبقه ، أو على الحق لقربه ، والدَّين هو الحق من حيث المعنى ، وكان من كثرت ديونه يمل من الكتابة ، فنهوا عن ذلك.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، و : أن تكتبوه ، مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخل بكتابته. انتهى.
وهذا الذي قاله فيه بُعد.
وقرأ السلمى : ولا يسأموا ، بالياء وكذلك : أن يكتبوه ، والظاهر في هذه القراءة أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الشهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود على المتعاملين أو على الكتاب.
وانتصاب : صغيراً أو كبيراً ، على الحال من الهاء في : أن تكتبوه ، وأجاز السجاوندي نصب : صغيراً ، على أن يكون خبراً لكان مضمرة ، أي : كان صغيراً ، وليس موضع إضمار كان ، ويتعلق : إلى أجله ، بمحذوف لا تكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سرت إلى الكوفة ، والتقدير : أن تكتبوه مستقراً في الذمة إلى أجل حلوله.
{ ذلكم أقسط عند الله } الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الكتابة ، وقيل الكتابة والاستشهاد وجميع ما تقدّم مما يحصل به الضبط ، و : أقسط ، أعدل قيل : وفيه شذوذ ، لأنه من الرباعي الذي على وزن : أفعل ، يقال : أقسط الرجل أي عدل ، ومنه وأقسطوا ، وقد راموا خروجه عن الشذوذ الذي ذكروه ، بأن يكون : أقسط ، من قاسط على طريقة النسب بمعنى : ذي قسط ، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : انظر هل هو من قسط بضم السين ، كما تقول : أكرم من كرم. انتهى.
وقيل : من القسط بالكسر ، وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتق منه فعل ، وليس من الإقساط ، لأن أفعل لا يبنى من الأفعال.
وقال الزمخشري : فإن قلت : مم بنى فعلاً التفضيل.
أعني : أقسط.
وأقوم؟.
قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام. انتهى.
لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل.
بني من أفعل ، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب يكون من : فعل وفعل وفعل وأفعل ، فظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبني من أفعل ، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبني منه أفعل التفضيل ، فما انقاس في التعجب : انقاس في التفضيل ، وما شذ فيه شذ فيه.
وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب على ثلاثة مذاهب : الجواز ، والمنع ، والتفضيل.
بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يبني منه أفعل للتعجب ، أو لا تكون للنقل ، فيبنى منه.
وزعم أن هذا مذهب سيبويه ، وتؤول قوله : وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل ، ومن منع ذلك مطلقاً ضبط قول سيبويه.
وأفعل على أنه على صيغة الأمر ، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل ، وبناؤه من : فعل وفعل وفعل وعلى أفعل وحجج هذه المذاهب مستوفاة في كتب النحو.
والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنياً من قسط الثلاثي بمعنى عدل قال ابن السيد في ( الاقتضاب ) ما نصبه : حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة : قسط جار ، وقسط عدل ، وأقسط بالألف عدل لا غير.
وقال ابن القطاع : قسط قسوطاً وقسطاً ، جار وعدل ضد ، فعلى هذا لا يكون شاذاً.
ومعنى : أقسط عند الله.
أعدل في حكم الله أن لا يقع التظالم.
{ وأقوم للشهادة } إن كان من أقام ففيه شذوذ على قول بعضهم ، ومن جعله مبنياً من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ فيه ، وتقدّم قول الزمخشري إنه جائز على مذهب سيبويه أن يكون من أقام ، وقال أيضاً : يجوز أن يكون على معنى النسب من قويم. انتهى.
وعد بعض النحويين في التعجب ما أقومه في الشذوذ ، وجعله مبنياً من استقام ، ويتعلق : للشهادة ، بأقوم ، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول : زيد أضرب لعمرو من خالد ، ولا يجوز حذف هذه اللام والنصب إلاَّ في الشعر كما قال الشاعر.
وأضرب منا بالسيوف القوانسا . . .
وقد تؤول على إضمار فعل أي : تضرب القوانس ومعنى : أقوم للشهادة ، أثبت وأصح.
{ وأدنى أن لا ترتابوا } أي أقرب لانتفاء الريبة.
وقرأ السلمي : أن لا يرتابوا بالياء ، والمفضل عليه محذوف ، وحسن حذفه كونه أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً للمبتدأ ، وتقديره : الكتب أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وقدّر : أدنى ، لأن : لا ترتابوا ، وإلى أن لا ترتابوا ، و : من أن لا ترتابوا.
ثم حذف حرف الجر فبقي منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي سبق.
ونسق هذه الأخبار في غاية الحسن ، إذ بدىء أولاً بالأشرف ، وهو قوله { أقسط عند الله } أي : في حكم الله ، فينبغي أن يتبع ما أمر به ، إذ اتباعه هو متعلق الدين الإسلامي ، وبنى لقوله : { وأقوم للشهادة } لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة ، وجاء بالياء.
و { أدنى أن لا يرتابو } لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله في الكتابة والإشهاد ، فعنهما تنشأ أقربية انتفاء الريبة ، إذ ذلك هو الغاية في أن لا يقع ريبة ، وذلك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالباً ، فيثلج الصدر بما كتب ، وأشهد عليه.
و : ترتابوا ، بني افتعل من الريبة ، وتقدم تفسيرها في قوله { لا ريب فيه } قيل : والمعنى : أن لا ترتابوا بمن عليه الحق أن ينكر ، وقيل : أن لا ترتابوا بالشاهد أن يضل ، وقيل : في الشهادة ومبلغ الحق والأجل ، وقيل : المعنى أقرب لنفي الشك للشاهد والحاكم والمتعاملين ، وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك ولا لبس ولا نزاع.
{ إلاَّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } في التجارة الحاضرة قولان : أحدهما : ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن؛ والثاني : ما يجوزه المشتري من العروض المنقولة ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل : كالمطعوم ، بخلاف الأملاك.
ولهذا قال السدي ، والضحاك : هذا فيما إذا كان يداً بيدٍ تأخذه وتعطي.
وفي معنى الإدارة ، قولان : أحدهما : يتناولونها من يد إلى يد.
والثاني : يتبايعونها في كل وقت ، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض ، وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة ، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها ، ولحقت بمبايعة الديون ، ولما كانت الكتابة في التجارة الحاضرة الدائرة بينهم شاقة ، رفع الجناح عنهم في تركها ، ولأن ما بيع نقداً يداً بيدٍ لا يكاد يحتاج إلى كتابة ، إذ مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون ، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها ، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يداً بيد.
وهذا الاستثناء في قوله : إلاَّ أن تكون ، منقطع لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة.
وقيل : هو استثناء متصل ، وهو راجع إلى قوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلاَّ أن يكون الأجل قريباً.
وهو المراد من التجارة الحاضرة.
وقيل : هو متصل راجع إلى قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } وقرأ عاصم : تجارة حاضرة ، بنصبهما على أن كان ناقصة ، التقدير إلاَّ أن تكون هي أي التجارة.
وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون : تكون ، تامة.
و : تجارة ، فاعل بتكون ، وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة وخبرها الجملة من قوله : تديرونها بينكم.
ونفي الجناح هنا معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، هذا على مذهب أكثر المفسرين ، إذا الكتابة عندهم ليست واجبة ، ومن ذهب إلى الوجوب فمعنى : لا جناح ، لا إثم.
{ وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ، ناجزاً أو كالئاً ، لأنه أحوط وأبعد مما عسى أن يقع في ذلك من الاختلاف ، وقيل : يعود إلى التجارة الحاضرة ، لما رخص في ترك الكتابة أمروا بالإشهاد.
قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } روي ذلك عن الجحدري ، والحسن ، وعبد الرحمن بن يزيد ، والحكم.
وقيل : هي محكمة ، والأمر في ذلك على الوجوب قال ذلك أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، والنخعي ، وداود بن علي ، وابنه أبو بكر ، والطبري.
قال الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل وقال عطاء : أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم ، أو نصف درهم ، أو ثلاث دراهم ، أو أقل من ذلك.
وقال الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلاَّ أن يشهد ، وإلاَّ كان مخالفاً لكتاب الله عز وجل.
وذهب الحسن وجماعة إلى أن هذا الأمر على الندب والإرشاد لا على الحتم.
قال ابن العربي : وهذا قول الكافة.
{ ولا يضار كاتب ولا شهيد } هذا نهي ، ولذلك فتحت الراء لأنه مجزوم.
والمشدّد إذا كان مجزوماً كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها ، لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه ، فلو فك ظهر فيه الجزم.
واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارّا أحداً بأن يزيد الكاتب في الكتابة ، أو يحرف.
وبأن يكتم الشاهد الشهادة ، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها.
قال معناه الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد.
واختاره : الزجاج لقوله بعد : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، ويمتنع من الشهادة ، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد ، ولأنه تعالى قال ، فيمن يمتنع من أداء الشهادة { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } والآثم والفاسق متقاربان.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : بأن يقولا : علينا شغل ولنا حاجة.
واحتمل أن يكون مبنياً للمفعول ، فنهى أن يضارّهما أحد بأن يعنتا ، ويشق عليهما في ترك أشغالهما ، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، والضحاك ، والسدي.
ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر : ولا يضارر ، بالفك وفتح الراء الأولى.
رواها الضحاك عن ابن مسعود ، وابن كثير عن مجاهد ، واختاره الطبري لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له ، وللمشهود له ، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدّم ، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة ، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما ، وهم يجدون غيرهما.
ورجح هذا القول بأنه لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ، وإذا كان خطاباً للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم ، وحكى أبو عمرو عن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق : أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل.
والفك لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم.
وقرأ ابن القعقاع ، وعمرو بن عبيد : ولا يضار ، بجزم الراء ، وهو ضعيف لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن ، لكن الألف لمدّها يجري مجرى المتحرك ، فكأنه بقي ساكنان ، والوقف عليه ممكن.
ثم أجريا الوصل مجرى الوقف.
وقرأ عكرمة : ولا يضارر ، بكسر الراء الأولى والفك ، كاتباً ولا شهيداً بالنصب أي : لا يبدأهما صاحب الحق بضرر.
ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروي مقسم عن عكرمة أنه قرأ : ولا يضارّ ، بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن محيصن : ولا يضارّ ، برفع الراء المشدّدة ، وهي نفي معناه النهي.
وقد تقدّم تحسين مجيء النهي بصورة النفي ، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه ، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ ، لأنه صار مما لا يقع ، ولا ينبغي أن يقع.
{ وإن تفعلوا فأنه فسوق بكم } ظاهره أن مفعول : تفعلوا ، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : ولا يضار ، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه ، أي الضرار ، فسوق بكم أي : ملتبس بكم ، أو تكون الباء ظرفية ، أي : فيكم ، وهذا أبلغ ، إذ جعلوا محلاً للفسق.
والخطاب في : تفعلوا ، عائد على الكاتب والشاهد ، إذ كان قوله : ولا يضار ، قد قدر مبنياً للفاعل ، وأما إذا قدر مبنياً للمفعول فالخطاب للمشهود لهم.
وقيل : هو راجع إلى ما وقع النهي عنه ، والمعنى وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه ، أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به ، فهو عام في جميع التكاليف ، فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته.
{ واتقوا الله } أي : في ترك الضرار ، أو : في جميع أوامره ونواهيه ، ولما كان قوله { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } خطاباً على سبيل الوعيد ، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق.
{ ويعلمكم الله } هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها : التعليم للعلوم ، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في : واتقوا ، تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التعليم والهداية.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالاً مقدرة. انتهى.
وهذا القول ، أعني : الحال ، ضعيف جداً ، لأن المضارع الواقع حالاً ، لا يدخل عليه واو الحال إلاَّ فيما شذ من نحو : قمت وأصك عينه.
ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ.
{ والله بكل شيء عليم } إشارة إلى احاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء.
وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي ، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر ، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير ، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف ، وليست في معنى واحد ، فالأولى : حث على التقوى ، والثانية : تذكر بالنعم ، والثالثة : تتضمن الوعد والوعيد.
وقيل : معنى الآية الوعد ، فإن من اتقى علمه الله ، وكثيراً ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : واتقوا الله ويعلمكم الله ، ومن أين تعرف التقوى؟ وهل تعرف إلاَّ بالعلم؟.
{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهن مقبوضة }.
مفهوم الشرط يقتضي امتناع الاستيثاق بالرهن ، وأخذه في الحضر ، وعند وجدان الكاتب ، لأنه تعالى علق جواز ذلك على وجود السفر وفقدان الكاتب ، وقد ذهب مجاهد ، والضحاك : إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، ونقل عنهما أنهما لا يجوِّزان الارتهان إلاَّ في حال السفر ، وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر ، ومع وجود الكاتب ، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار ، لأنه مظنة فقدان الكاتب ، وإعواز الإشهاد ، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة ، ونبه بالسفر على كل عذر ، وقد يتعذر الكاتب في الحضر؛ كأوقات الاشتغال والليل وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر ، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه.
وقرأ الجمهور : كاتباً ، على الإفراد.
وقرأ أبي ، ومجاهد ، وأبو العالية : كاتباً على أنه مصدر ، أو جمع كاتب.
كصاحب وصحاب.
ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة ، ونفي الكتابة يقتضي أيضاً نفي الكتب.
وقرأ ابن عباس والضحاك : كتاباً ، على الجمع اعتباراً بأن كل نازلة لها كاتب ، وروي عن أبي العالية : كتباً جمع كتاب ، وجمع اعتباراً بالنوازل أيضاً.
وقرأ الجمهور : فرهان ، جمع رهن نحو : كعب وكعاب.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : فرهن ، بضم الراء والهاء.
وروي عنهما تسكين الهاء.
وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما ، فقيل : هو جمع رهان ، ورهان جمع رهن ، قاله الكسائي ، والفراء.
وجمع الجمع لا يطرد عند سيبويه ، وقيل : هو جمع رهن ، كسقف ، ومن قرأ بسكون الهاء فهو تخفيف من رهن ، وهي لغة في هذا الباب ، نحو : كتب في كتب ، واختاره أبو عمرو بن العلاء وغيره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف الرهان إلاَّ في الخيل لا غير ، وقال يونس : الرهن والرهان عربيان ، والرهن في الرهن أكثر ، والرهان في الخيل أكثر. انتهى.
وجمع فعل على فعل قليل ، ومما جاء فيه : رهن قول الأعشى :
آليت لا يعطيه من أبنائنا . . .
رهناً فيفسدهم كرهن أفسدا
وقال بكسر : رهن ، على أقل العدد لم أعلمه جاء ، وقياسه : أفعل ، فكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل. انتهى.
والظاهر من قوله : مقبوضة ، اشتراط القبض.
وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وقبض وكيله ، وإما قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال الجمهور به وقال عطاء ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى : ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ، ولم يقع القبض ، فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلاَّ بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلاَّ بالقبض.
واختلفوا في استمراره ، فقال مالك : إذا ردّه بعارية أو غيرها بطل.
وقال أبو حنيفة : إن ردّه بعارية أو وديعة لم يبطل.
وقال الشافعي : يبطل برجوعه إلى يد الراهن مطلقاً.
والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتاً متقومّة يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية.
فقال الجمهور : لا يجوز رهن ما في الذمّة.
وقالت المالكية : يجوز ، وقال الجمهور : لا يصح رهن الغرر ، مثل : العبد الآبق ، والبعير الشارد ، والأجنة في بطون أمّهاتها ، والسمك في الماء ، والثمرة قبل بدو صلاحها.
وقال مالك : لا بأس بذلك.
واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك ، والشافعي : يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم.
وقال أبو حنيفة : لا يصح مطلقاً.
وقال الحسن بن صالح : يجوز فيما لا يقسم ، ولا يجوز فيما يقسم.
ومعنى : على سفر ، أي : مسافرين ، وقد تقدّم الكلام على مثله في آية الصيام.
ويحتمل قوله : ولم تجدوا ، أن يكون معطوفاً على فعل الشرط ، فتكون الجملة في موضع جزم ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ، فتكون الجملة في موضع نصب.
ويحتمل أن يكون معطوفاً على خبر كان ، فتكون الجملة في موضع نصب ، لأن المعطوف على الخبر خبر ، وارتفاع : فرهان ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : فالوثيقة رهان مقبوضة.
{ فان أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته } أي : إن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن ، فليؤدّ الغريم أمانته ، أي ما ائتمنه عليه رب المال وقرأ أبيّ : فإن أومن ، رباعيا مبنياً للمفعول ، أي : آمنه الناس ، هكذا نقل هذه القراءة عن أبيّ الزمخشري ، وقال السجاوندي : وقرأ أبيّ : فإن ائتمن ، افتعل من الأمن ، أي : وثق بلا وثيقة صك ، ولا رهن.
والضمير في : أمانته ، يحتمل أن يعود إلى رب الدين ، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن.
والأمانة : هو مصدر أطلق على الشيء الذي في الذمّة ، ويحتمل أن يراد به نفس المصدر ، ويكون على حذف مضاف ، أي : فليؤدّ دين أمانته.
واللام في : فليؤدّ ، للأمر ، وهو للوجوب.
وأجمعوا على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، ويجوز إبدال همزة : فليؤدّ ، واواً نحو : يوجل ويوخر ويواخذ ، لضمة ما قبلها.
وروى أبو بكر عن عاصم : الذي اؤتمن ، برفع الألف ، ويشير بالضمة إلى الهمزة.
قال ابن مجاهد : وهذه الترجمة غلط.
وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر.
وقرأ ابن محيصن ، وورش بإبدال الهمزة ياء ، كما أبدلت في بئر وذئب ، وأصل هذا الفعل : أؤتمن ، بهمزتين : الأولى همزة الوصل ، وهي مضمومة.
والثاني : فاء الكلمة ، وهي ساكنة ، فتبدل هذه واواً لضمة ما قبلها ، ولاستثقال اجتماع الهمزتين ، فإذا اتصلت الكلمة بما قبلها رجعت الواو إلى أصلها من الهمزة ، لزوال ما أوجب إبدالها.
وهي همزة الوصل ، فإذا كان قبلها كسرة جاز إبدالها ياءً لذلك.
وقرأ عاصم في شاذه : اللذتمن ، بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياساً على : اتسر ، في الافتعال من اليسر.
قال الزمخشري : وليس بصحيح ، لأن التاء منقلبة عن الهمزة في حكم الهمزة ، واتزر عامّي ، وكذلك ريّا في رؤيا.
انتهى كلامه.
وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح ، وأن اترز عامي يعني : أنه من إحداث العامّة ، لا أصل له في اللغة ، قد ذكره غيره ، أن بعضهم أبدل وأدغم ، فقال : اتمن واتزر ، وذكر أن ذلك لغة رديئة.
وأما قوله : وكذلك ريّا في رؤيا ، فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله : واترز عامي ، فيكون إدغام ريّاً عامياً.
وإما أن يعود إلى قوله : فليس بصحيح ، أي : وكذلك إدغام : ريا ، ليس بصحيح.
وقد حكى الإدغام في ريا الكسائي.
{ وليتق الله ربه } أي عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال ، وجمع بين قوله : الله ربه ، تأكيداً لأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله : { وليملل الذي عليه الحق } فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق ، وحين أداء ما لزمه من الدين ، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء.
{ ولا تكتموا الشهادة } هذا نهي تحريم ، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق.
وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد ، ويخبر حيث ما استخبر.
ولا تقل : أخبر بها عن الأمير ، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.
وقرأ السلمي : ولا يكتموا ، بالياء على الغيبة.
{ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها ، والكتم من معاصي القلب ، لأن الشهادة علم قام بالقلب ، فلذلك علق الإثم به.
وهو من التعبير بالبعض عن الكل : ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ).
وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد ، ألا ترى أنك تقول : أبصرته عيني؟ وسمعته أذني؟ ووعاه قلبي؟ فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم ، ومكان اقترافه ، وعنه يترجم اللسان.
ولئلا يظنّ أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
وقراءة الجمهور : آثم ، اسم فاعل من : أثم قلبه ، و : قلبه ، مرفوع به على الفاعلية ، و : آثم ، خبر : إن ، وجوّز الزمخشري أن يكون : آثم ، خبراً مقدّماً ، و : قلبه ، مبتدأ.
والجملة في موضع خبر : إن ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون.
وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون يعني : آثم ابتداء وقلبه فاعل يسدّ مسدّ الخبر ، والجملة خبر إن.
انتهى.
وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام ، نحو : أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ وما قائم الزيدان؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن ، إذ يجيز : قائم الزيدان؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام.
قال ابن عطية : ويجوز أن يكون : قلبه ، بدلاً على بدل بعض من كل ، يعنى : أن يكون بدلاً من الضمير المرفوع المستكن في : آثم ، والإعراب الأول هو الوجه.
وقرأ قوم : قلبَه ، بالنصب ، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة.
وقال : قال مكي : هو على التفسير يعنى التمييز ، ثم ضعف من أجل أنه معرفة.
والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة.
وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به ، نحو قولهم : مررت برجل حسن وجهه ، ومثله ما أنشد الكسائي رحمه الله تعالى :
أنعتها إني من نعاتها . . .
مدارة الأخفاف مجمراتها
غلب الدفار وعفريناتها . . .
كوم الذرى وادقة سراتها
وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز ، وعلى مذهب المبرد ممنوع ، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام ، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل ، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر ، لأن ذلك جائز.
وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف ، نحو : زيد منطلق العاقل ، نص عليه سيبويه ، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد ، فأحرى في البدل ، لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه.
ونقل الزمخشري وغيره : أن ابن أبي عبلة قرأ : أثم قلبه ، بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء ، جعله فعلاً ماضياً.
وقلبه بفتح الباء نصباً على المفعول بأثم ، أي : جعله آثماً.
{ والله بما تعملون عليم } بما تعملون عام في جميع الأعمال ، فيدخل فيها كتمان الشهادة وأداؤها على وجهها.
وفي الجملة توعد شديد لكاتم الشهادة ، لأن علمه بها يترتب عليه المجازاة ، وإن كان لفظ العلم يعم الوعد والوعيد.
وقرأ السلمي : بما يعملون ، بالياء جرياً على قراءته ، و : لا يكتموا ، بالياء على الغيبة.
وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة.
التجنيس المغاير في قوله : إذا تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب.
وفي قوله : ولا يأب كاتب أن يكتب.
وفي قوله : ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم.
وفي قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم.
وفي قوله : أؤتمن أمانته.
والتجنيس المماثل في قوله : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها.
والتأكيد في قوله : تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب ، إذ يفهم من قوله : تداينتم ، قوله : بدين ، ومن قوله : فليكتب ، قوله : كاتب.
والطباق في قوله : أن تضل إحداهما فتذكر ، لأن الضلال هنا بمعنى النسيان.
وفي قوله : صغيراً أو كبيراً.
والتشبيه في قوله : أن يكتب كما علمه الله.
والاختصاص في قوله : كاتب بالعدل.
وفي قوله : فليملل وليه بالعدل ، وفي قوله : أقسط عند الله وأقوم للشهادة.
وفي قوله : تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
والتكرار في قوله : فاكتبوه وليكتب ، وأن يكتب كما علمه الله ، فليكتب ، ولا يأب كاتب ، وفي قوله : فليملل الذي عليه الحق ، فإن كان الذي عليه الحق.
كرر الحق للدّعاء إلى اتباعه ، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالاً واستعلاء ، وفي قوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
وفي قوله : واتقوا الله ، ويعلمكم الله ، والله.
والحذف في قوله : يا أيها الذين آمنوا ، حذف متعلق الإيمان.
وفي قوله : مسمى ، أي بينكم فليكتب الكاتب ، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط ، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين ، وليتق الله ربه في املائه سفيهاً في الرأي أو ضعيفاً في البينة ، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب ، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين ، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا أي دعائهم صاحب الحق للتحمل ، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم ، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة تديرونها بينكم ، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها ، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين ، أو رجلاً وامرأتين ، ولا يضارّ كاتب ولا شهيد أي صاحب الحق ، أو : لا يضار صاحب الحق كاتباً ولا شهيداً ، ثم حذف وبنى للمفعول ، وأن تفعلوا الضرر ، واتقوا عذاب الله ، ويعلمكم الله الصواب ، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتباً يتوثق بكتابته ، فالوثيقة رهن أمن بعضكم بعضاً ، فأعطاه مالاً بلا إشهاد ولا رهن أمانته من غير حيف ولا مطل ، وليتق عذاب الله ، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها.
وتلوين الخطاب ، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة ، في قوله : فاكتبوه ، وليكتب ، ومن الغيبة إلى الحضور في قوله : ولا يأب كاتب ، وأشهدوا.
ثم انتقل إلى الغيبة بقوله : ولا يضار ، ثم إلى الحضور بقوله : ولا تكمتوا الشهادة ، ثم إلى الغيبة بقوله : ومن يكتمها ، ثم إلى الحضور بقوله : بما تعملون.
والعدول من فاعل إلى فعيل ، في قوله : شهيدين ، ولا يضار كاتب ولا شهيد.
والتقديم والتأخير في قوله : فليكتب ، وليملل ، أو الإملال ، بتقديم الكتابة قبل ، ومن ذلك : ممن ترضون من الشهداء ، التقدير واستشهدوا ممن ترضون ، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم.
انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية من أنواع الفصاحة.
وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي : من الأمر بالكتابة للمتداينين ، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل ، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة ، ومن أمره ثانياً بالكتابة ، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن ، أو لوليه إن لم يمكنه ، ومن الأمر بالاستشهاد ، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه ، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها ، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيراً ، ومن الثناء على الضبط بالكتابة ، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع ، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب ، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق ، ومن الأمر بالتقوى ، ومن الإذكار بنعمة التعلم ، ومن التهديد بعد ذلك ، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض ، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن ، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة ، ومن النهي عن كتم الشهادة ، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم ، ومن التهديد آخرها بقوله : { والله بما تعملون عليم } فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع ، وقد قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفوس والدماء ، فقال :
« من قتل دون ماله فهو شهيد » وقال : « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم » ولصيانتها والمنع من إضاعتها ، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس ، وحجر الجنون ، وحجر الصغر ، وحجر الرق ، وحجر المرض ، وحجر الإرتداد.
{ لله ما في السموات وما في الأرض } قال الشعبي ، وعكرمة : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها ، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، قال مقاتل ، والواقدي : نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين.
ومناسبتها ظاهرة ، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمه أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : { وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدّة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة.
فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته.
ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين.
والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكاً له لأنه تعالى هو المنشىء له ، الخالق.
وقيل : المعنى لله تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السموات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليباً لما لا يعقل على من يعقل ، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة.
وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة.
{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } ظاهر : ما ، العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ، لأن علمه ليس ناشئاً عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام.
بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلاَّ بعد إيجاده ، فعلمه محدث.
وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة ، أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ، وقيل : من الاحتيال للربا ، وقال مجاهد : من الشك واليقين ، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب ، قوله : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }
وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد.
وقال القاضي عبد الجبار : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم.
انتهى كلامه.
وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم ، رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم » وقال : « إن تظهروا العمل أو تسروه »
وقال أبو علي : يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه ، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق.
ودلت على أن الثواب والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية.
وقال الزمخشري : من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب ، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله : فيغفر لمن يشاء ، لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه ، أو أضمر.
ويعذب من يشاء من استوجب العقوبة بالإصرار. انتهى.
وهذه نزعة إعتزالية ، وأهل السنة يقولون : إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرّاً على المعصية ولم يتب ، فهو في المشيئة ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
ثم قال الزمخشري : ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس ، وحديث النفس ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه.
وعن عبد الله بن عمر ، أنه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشجه ، فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : في أنفسكم ، يقتضي قوّة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلاَّ على تجوز. انتهى.
وقال بعضهم : إن هذه الآية مسنوخة بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وينبغي أن يجعل هذا تخصيصاً إذا قلنا : إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت : ما ، في قوله : { ما في أنفسكم } والأصح أنها محكمة ، وأنه تعالى يحاسبهم على ما عملوا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، وقيل : العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها.
وروي هذا المعنى عن عائشة.
ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة ، فبين الله ما أراد بها وخصصها ، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفساً إلاَّ وسعها ، والخواطر ليس دفعها في الوسع ، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم.
والآية خبر ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، وانجزم : يحاسبكم ، على أنه جواب الشرط ، وقيل : عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب : العالم ، فالمعنى : أنه يعلم ما في السرائر والضمائر ، وقيل : الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة ، ويكون التقدير : يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح.
وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، ويزيد ، ويعقوب ، وسهل : فيغفر لمن يشاء ويعذب ، بالرفع فيهما على القطع ، ويجوز على وجهين : أحدهما : أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف.
والآخر : أن يعطف جملة من فعل وفاعل على تقدّم.
وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفاً على الجواب.
وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار : أن ، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب ، تقديره : يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب ، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر :
فان يهلك أبو قابوس يهلك . . .
ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش . . .
أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجزم : ونأخذ ، ورفعه ونصبه.
وقرأ الجعفي ، وخلاد ، وطلحة بن مصرف : يغفر لمن يشاء ، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله.
قال ابن جني : هي على البدل من : يحاسبكم ، فهي تفسير للمحاسبة. انتهى.
وليس بتفسير ، بل هما مترتبان على المحاسبة ، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله
{ ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب }
وقال الزمخشري : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، لأن التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل ، أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه.
وأحب زيداً عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان.
انتهى كلامه.
وفيه بعض مناقشة.
أولاً : فلقوله : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، وليس الغفران والعذاب تفصيلاً لجملة الحساب ، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب.
وأما الثانية : فلقوله بعد ان ذكر بدل البعض والكل : وبدل الاشتمال : هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان.
أما بدل الاشتمال فهو يمكن ، وقد جاء لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل ، إذ الفعل لا يقبل التجزيء ، فلا يقال في الفعل : له كل وبعض إلاَّ بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى ، إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض.
قال الزمخشري ، وقد ذكر قراءة الجزم : فإن قلت : كيف يقرأ الجازم؟.
قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأً فاحشاً ، وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو.
انتهى كلامه.
وذلك على عادته في الطعن على القراء.
وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأً فاحشاً إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل ، وسيبويه وأصحابه : إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون قال أبو سعيد.
ولا نعلم أحداً خالفه إلاَّ يعقوب الحضرمي ، وإلاَّ ما روي عن أبي عمرو ، وأنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركاً ما قبلها ، نحو : { يغفر لمن } { والعمر لكيلا } { واستغفر لهم الرسول } فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر ، نحو { الأنهار لهم } و { النار ليجزي } فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو { من مصر لامرأته } { والأبرار لفي نعيم } { ولن تبور ليوفيهم } { والحمير لتركبوها } فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلاَّ ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه ، عن اليزيدي ، عنه : أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين ، والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعاً على الإدغام نحو { ويغفر لكم } انتهى.
وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعاً ، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي ، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين ، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة ، كما ذكرناه ، وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان.
والإدغام وجه من القياس ، ذكرناه في كتاب ( التكميل لشرح التسهيل ) من تأليفنا ، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا ، وما ضبطوا ، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام ، وعقد هذا الرجل باباً قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب ليس محصوراً فيما نقله البصريون فقط ، والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم : أبو عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمي.
وكبراء أهل الكوفة : الرواسي ، والكسائي ، والفراء ، وأجازوه ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ، إذ من علم حجة على من لم يعلم.
وأما قول الزمخشري : إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روى ذلك عنه الرواة ، ومنهم : أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت في اللغات.
قال النقاش : يغفر لمن ينزع عنه ، ويعذب من يشاء إن أقام عليه.
وقال الثوري : يغفر لمن يشاء العظيم ، ويعذب من يشاء على الصغير.
وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : كلفوا أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق.
قال ابن عطية : وهذا غير بين ، وإنما كان من الخواطر تأويلاً تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت تكليفاً.
{ والله على كل شيء قدير }.
لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة.
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } سبب نزولها أنه لما نزل : { وإن تبدوا ما في أنفسكم } الآية أشفقوا منها ، ثم تقرر الأمر على أن { قالوا سمعنا وأطعنا } فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، فمدحهم الله وأثنى عليهم ، وقدّم ذلك بين يدي رفقه بهم ، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم ، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى ، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من : ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء ، إذ { قالوا سمعنا وأطعنا } وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله ، أعاذنا الله تعالى من نقمه.
انتهى هذا ، وهو كلام ابن عطية.
وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها ، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل ، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب ، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله ، كان مختتمها أيضاً موافقاً لمفتتحها.
وقد تتبعت أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها ، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء ، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة سورة ، وذلك من أبدع الفصاحة ، حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله ، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم ، يكون أحدهم آخذاً في شيء ، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر ، ثم إلى آخر ، هكذا طويلاً ، ثم يعود إلى ما كان آخذاً فيه أولاً.
ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادىء النظم أنه لا مناسبة له ، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال المروزي : { آمن الرسول } قال الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن عباس في رواية : أن هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل ، وسمعهما صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بلا واسطة ، والبقرة مدنية إلاَّ هاتين الآيتين.
وقال ابن عباس في رواية أخرى ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطاء : إن جبريل نزل عليه بهما بالمدينة ، وهي ردّ على من يقول : إن شاء الله في إيمانه ، لأن الله تعالى شهد بإيمان المؤمنين ، فالشك فيه شك في علم الله تعالى.
انتهى كلامه.
والألف واللام في : الرسول ، هي للعهد ، وهو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كثر في القرآن تسميته من الله بهذا الاسم الشريف ، وما أنزل إليه من ربه شامل لجميع ما أنزل إليه من الله تعالى : من العقائد ، وأنواع الشرائع ، وأقسام الأحكام في القرآن ، وفي غيره.
آمن بأن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وقدّم الرسول لأن إيمانه هو المتقدّم وإيمان المؤمنين متأخر عن إيمانه ، إذ هو المتبوع وهم التابعون في ذلك.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما نزلت عليه ، قال : «يحق له أن يؤمن».
والظاهر أن يكون قوله : والمؤمنون ، معطوفاً على قوله : الرسول ، ويؤيده قراءة علي ، وعبد الله : وآمن المؤمنون ، فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء ، فعلى هذا يكون : كل ، لشمول الرسول والمؤمنين ، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله : من ربه ، ويكون : المؤمنون ، مبتدأ ، و : كل ، مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة.
و : آمن بالله ، جملة في موضع خبر : كل ، والجملة ، من : كل وخبره ، في موضع خبر المؤمنين ، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأوّل محذوف ، وهو ضمير مجرور تقديره : كل منهم آمن ، كقولهم : السمن منوان بدرهم ، يريدون : منه بدرهم ، والإيمان بالله هو : التصديق به ، وبصفاته ، ورفض الأصنام ، وكل معبود سواه.
والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم ، وأنهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم ، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله ، وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده.
وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ، لأن الإيمان بالله هو المرتبة الأولى ، وهي التي يستبد بها العقل إذ وجود الصانع يقربه كل عاقل ، والإيمان بملائكته هي المرتبة الثانية ، لأنهم كالوسائط بين الله وعباده ، والإيمان بالكتب هو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله ، يوصله إلى البشر ، هي المرتبة الثالثة ، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب ، هي المرتبة الرابعة وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا الترتيب في قوله : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله } وقيل : الكلام في عرفان الحق لذاته ، وعرفان الخير للعمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم ، والقوة العملية بفعل الخيرات ، والأولى أشرف ، فبدىء بها ، وهو : الإيمان المذكور ، والثانية هي المشار إليها بقوله { سمعنا وأطعنا } وقيل : للإنسان مبدأ وحال ومعاد ، فالإيمان إشارة إلى المبدأ ، و : سمعنا وأطعنا إشارة إلى الحال ، و : غفرانك ، وما بعده إشارة إلى المعاد.
وقرأ حمزة ، والكسائي : وكتابه ، على التوحيد ، وباقي السبعة : وكتبه ، على الجمع.
فمن وحد أراد كل مكتوب ، سمي المفعول بالمصدر ، كقولهم : نسج اليمين أي : منسوجه قال أبو علي : معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر ، وإن أريد بها الكثير ، كقوله { وادعوهم ثبوراً كثيراً } ولكنه ، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، نحو : كثر الدينار والدرهم ، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، ومن الإضافة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وفي الحديث : « منعت العراق درهمها وقفيزها » يراد به : الكثير ، كما يراد بما فيه لام التعريف.
انتهى ملخصاً.
ومعناه إن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف.
وقال الزمخشري : وقرأ ابن عباس : وكتابه ، يريد القرآن.
أو الجنس ، وعنه : الكتاب أكثر من الكتب.
فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟.
قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية ، قائمة في وحدان الجنس كلها ، لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجموع.
انتهى كلامه.
وليس كما ذكر ، لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاماً ، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد ، فلو قال : أعتقت عبيدي ، يشمل ذلك كل عبد عبد ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد ، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة ، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلاَّ بقرينة لفظية ، كأن يستثني منه ، أو يوصف بالجمع ، نحو : { إن الإنسان لفي خسر إلاَّ الذين آمنوا }
و : أهلك الناسَ الدينارُ الصفرُ والدرهمُ البيضُ ، أو قرينة معنوية نحو : نية المؤمن أبلغ من عمله ، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أربد به العموم ، وحمل على اللفظ في قوله : آمن ، فأفرد كقوله { قل كل يعمل على شاكلته }
وقرأ يحيي بن يعمر : وكتبه ورسله ، بإسكان التاء والسين ، وروي ذلك عن نافع.
وقرأ الحسن : ورسله ، بإسكان السين ، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله : وكتابه ولقائه ورسله.
{ لا نفرق بين أحد من رسله } قرأ الجمهور بالنون ، وقدره : يقولون لا نفرق ، ويجوز أن يكون التقدير : يقول لا نفرق ، لأنه يخبر عن نفسه.
وعن غيره ، فيكون : يقول ، على اللفظ ، و : يقولون ، على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال ، وجوّز الحوفي وغيره أن يكون خبراً بعد خبر لكل.
وقرأ ابن جبير ، وابن يعمر ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ، ويعقوب ، ونص رواة أبي عمر : لا يفرق ، بالياء على لفظ : كل.
قال هارون : وهي في مصحف أبيّ ، وابن مسعود : لا يفرقون ، حمل على معنى : كل بعد الحمل على اللفظ ، والمعنى : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
والمقصود من هذا الكلام إثبات النبوّة ، وهو ظهور المعجزة على وفق الدعوى فاختصاص بعض دون بعض متناقض ، لا ما ادعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم التفضيل بينهم ، و : أحد ، هنا هي المختصة بالنفي ، وما أشبهه؟ فهي للعموم ، فلذلك دخلت : من ، عليها كقوله تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } والمعنى بين آحادهم قال الشاعر :
إذا أمور الناس ديكت دوكا . . .
لا يرهبون أحداً رأوكاً
قال بعضهم : وأحد ، قيل : إنه بمعنى جميع ، والتقدير : بين جميع رسله ، ويبعد عندي هذا التقدير ، لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل.
والمقصود بالنفي هو هذا ، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل البعض ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فثبت أن التأويل الذي ذكره باطل ، بل معنى الآية : لا يفرق أحد من رسله وبين غيره في النبوّة. انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
ولا يعني من فسرها : بجميع ، أو قال : هي في معنى الجميع ، إلا أنه يريد بها العموم نحو : ما قام أحد ، أي : ما قام فرد فرد من الرجال ، مثلاً ، ولا فرد فرد من النساء ، لا أنه نفى القيام عن الجميع ، فيثبت لبعض ، ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد ، فيكون أحد هنا بمعنى واحد ، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي.
ومن حذف المعطوف : سرابيل تقيكم الحر أي والبرد وقول الشاعر :
فما كان بين الخير لو جاء سالماً . . .
أبو حجر إلا ليال قلائل
أي : بين الخير وبيني ، فحذف ، وبيني ، لدلالة المعنى عليه.
{ وقالوا سمعنا وأطعنا } أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، ولا يراد مجرد السماع ، بل القبول والإجابة.
وقدم : سمعنا ، على : وأطعنا ، لأن التكليف طريقه السمع ، والطاعة بعده ، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلاً هذا دهره.
{ غفرانك ربنا } أي : من التقصير في حقك ، أو لأن عبادتنا ، وإن كانت في نهاية الكمال ، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير.
{ وإليك المصير } إقرار بالمعاد.
أي : وإلى جزائك المرجع ، وانتصاب : غفرانك ، على المصدر ، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمراً ، التقدير عند سيبويه : إغفر لنا غفرانك ، قال السجاوندي : ونسبه ابن عطية للزجاج ، وقال الزمخشري : غفرانك منصوب بإضمار فعله ، يقال : غفرانك لاكفرانك ، أي : نستغفرك ولانكفرك.
فعلى التقدير الأول : الجملة طلبية ، وعلى الثاني : خبرية.
واضطرب قول ابن عصفور فيه ، فمرة قال : هو منصوب بفعل يجوز إظهاره ، ومرة قال : هو منصوب يلتزم إضماره.
وعدّه مع : سبحان الله ، واخواتها.
وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به ، أي : نطلب ، أو : نسأل غفرانك.
وجوّز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ ، أي : غفرانك بغيتنا.
والمصير : اسم مصدر من صار يصير ، وهو مبني على : مفعل ، بكسر العين ، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو : يبيت ، ويعيش ، ويحيض ، ويقيل ، ويصير ، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح ، نحو : يضرب ، يكون للمصدر بالفتح يكون للمصدر بالفتح ، وللمكان والزمان نحو : { وجعلنا للناس معاشاً } أي : عيشا ، فيكون : المحيض بمعنى الحيض ، والمصير بمعنى الصيرورة ، على هذا شاذاً.
وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعِل بكسر العين ، أو : مفعَل بفتحها ، وأما الزمان والمكان فبالكسر.
ذهب إلى ذلك الزجاج ، ورده عليه أبو عليّ ، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع ، فحيث بنت العرب المصدر على مفعِل أو مفعَل اتبعناه ، وهذا المذهب أحوط.
{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ظاهره أنه استئناف ، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلاَّ ما هو في وسع المكلف ، ومقتضى إدراكه وبنيته ، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله : { إن تبدوا } الآية ، وظهر تأويل من يقول : إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق ، وهذه الآية نظير.
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } { وما جعل عليكم في الدّين من حرج } { فاتقوا الله ما استطعتم }
وقال الزمخشري : أي ما يكلفها إلاَّ ما يتسع فيه طوقها ، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود ، وهذا إخبار عن عدله ورحمته ، لقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة.
وقيل : هذا من كلام الرسول والمؤمنين ، أي : وقالوا { لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها } والمعنى : أنهم لما قالوا { سمعنا وأطعنا } قالوا : كيف لا نسمع ذلك ، ولا نطيع؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلاَّ ما في وسعنا؟ والوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.
وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف.
وقال ابن عطية : يكلف ، يتعدّى إلى مفعولين.
أحدهما محذوف تقديره : عبادة أو شيئاً. انتهى.
فإن عنى أن أصله كذا ، فهو صحيح ، لأن قوله : إلاَّ وسعها ، استثناء مفرغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك.
بل الثاني هو وسعها ، نحو : ما أعطيت زيداً إلاَّ درهماً ، ونحو : ما ضربت إلاَّ زيداً.
هذا في الصناعة هو المفعول ، وإن كان أصله : ما أعطيت زيداً شيئاً إلاَّ درهماً.
و : ما ضربت أحداً إلاَّ زيداً.
وقرأ ابن أبي عبلة : { إلاَّ وسعها } جعله فعلاً ماضياً.
وأولوه على إضمار : ما ، الموصولة ، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف ، كما أن وسعها في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني ، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله ، كقول حسان :
فمن يهجو رسول الله منكم . . .
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن ينصره ، فحذف : من ، لدلالة : من ، المتقدّمة.
وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول ، لأنه وصلته كالجزء الواحد ، ويجوز أن يكون مفعول : يكلف ، الثاني محذوفاً ، لفهم المعنى ، ويكون : وسعها ، جملة في موضع الحال ، التقدير : لا يكلف الله نفساً شيئاً إلاَّ وسعها ، أي : وقد وسعها ، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول.
قال ابن عطية : وهذا يشير إلى قراءة ابن أبي عبلة ، فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ : إلاَّ وسعته.
كما قال : { وسع كرسيه السموات والأرض } { وسع كل شيء علماً } ولكن يجيء هذا من باب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي في الحجر. انتهى.
وتكلم ابن عطية هنا في تكليف ما لا يطاق ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه غير واقع.
{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }.
أي : ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات ، قاله السدي ، وجماعة المفسرين ، لا خلاف في ذلك.
والخواطر ليست من كسب الإنسان ، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والإكتساب واحد ، والقرآن ناطق بذلك.
قال الله تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة } وقال : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وقال : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة } وقال : { بغير ما اكتسبوا }
ومنهم من فرق فقال : الاكتساب أخص من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره ، والاكتساب لا يكون إلاَّ لنفسه.
يقال : كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله قال الشاعر :
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة . . .
وقال الزمخشري : ينفعها ما كسبت من خير ، ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ غيرها بذنبها ولا يثاب غيرها بطاعتها.
فإن قلت : لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب.
قلت : في الاكتساب اعتمال ، فاما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه.
ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال.
انتهى كلامه.
وقال ابن عطية : وكرر فعل الكسب ، فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام ، كما قال : { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى ، ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازاً لهذا المعنى.
انتهى كلامه.
وحصل من كلام الزمخشري ، وابن عطية : أن الشر والسيئات فيها اعتمال ، لكن الزمخشري قال : إن سبب الاعتمال هو اشتهاء النفس وانجذابها إلى ما تريده ، وابن عطية قال : إن سبب ذلك هو أنه متكلف ، خرق حجاب نهي الله تعالى ، فهو لا يأتي المعصية إلاَّ بتكلف ، ونحا السجاوندي قريباً من منحى ابن عطية ، وقال : الافتعال الالتزام ، وشره يلزمه ، والخير يشرك فيه غيره بالهداية والشفاعة.
والافتعال.
الإنكماش ، والنفس تنكمش في الشر انتهى.
وجاء : في الخير ، باللام لأنه مما يفرح به ويسرّ ، فأضيف إلى ملكه.
وجاء : في الشر ، بعلى من حيث هو أوزار وأثقال ، فجعلت قد علته وصار تحتها ، يحملها.
وهذا كما تقول : لي مال وعلى دين.
{ ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا } هذا على إضمار القول ، أي : قولوا في دعائكم : ربنا لا تؤاخذنا ، والدعاء مخّ العبادة ، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار ، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال ، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع ، وافتتحت كل جملة منها بقولهم : ربنا ، إيذاناً منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم ، ومصلح أحوالهم ، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار ، ولم يأت لفظ : ربنا ، في الجمل الطلبية أخيراً لأنها نتائج ما تقدّم من الجمل التي دعوا فيها : بربنا ، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة ، فقابل { لا تؤاخذنا } بقوله { واعف عنا } وقابل : { ولا تحمل علينا إصراً }.
بقوله : { واغفر لنا } وقابل قوله { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } بقوله : { وارحمنا } لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ، ومن آثار عدم تكليف ما لا يطاق الرحمة.
ومعنى : المؤاخذة ، العاقبة.
وفاعل هنا بمعنى الفعل المجرد ، نحو : أخذ ، لقوله : { فكلا أخذنا بذنبه } وهو أحد المعاني التي جاءت لها فاعل ، وقيل : جاء بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحد ، لأن المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقب بذنبه كالمعين لنفسه في إيذائها ، وقيل انه تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، والمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والتكرم ، إذ لا يجد من يخلصه من عذاب الله إلاَّ هو تعالى ، فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة والنسيان الذي هو : عدم الذكر ، والخطأ موضوعان عن المكلف لا يؤاخذ بهما ، فقال عطاء : نسينا : جهلنا ، وأخطأنا : تعمدنا ، وقال قطرب ، والطبري : نسينا تركنا ، وأخطأنا.
قال الطبري : قصدنا.
وقال قطرب : أخطأنا في التأويل.
قال الأصمعي : يقال أخطأ : سها وخطيء تعمد قال الشاعر :
والناس يلحون الأمير إذا هم . . .
خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
ومن المفسرين من حمل النسيان هنا والإخطاء على ظاهرهما ، وهما اللذان لا يؤاخذ المكلف بهما ، وتجوّز عنهما إن صدرا منه ، وإياه أجاز الزمخشري في آخر كلامه في هذه الآية ، واختاره ابن عطية.
قال الزمخشري : ذكر النيسان والخطأ والمراد بهما ما هما منسيان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله { وما أنسانيه إلا الشيطان } ؟ والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس ، فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلاَّ على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما منهم سبب مؤاخذة إلاَّ الخطأ والنسيان ، ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله ، لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه.
انتهى كلامه.
قال ابن عطية ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ عن المقصود ، وهذا هو الصحيح.
قال قتادة في تفسير الآية : بلغني أن النبي عليه السلام قال : « إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطئها » وقال السدي : لما نزلت هذه الآية تغالوا قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد فعل الله ذلك يا محمد.
فظاهر قوليهما ، يعني قتادة والسدي ما صححته.
وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ.
انتهى كلامه.
وقيل : النسيان فيه ومنه ما لا يعذر فالأول ، كنسيان النجاسة في الثوب بعد العلم بها ، فمثل هذا هو المطلوب عدم المؤاخذة به ، وهو ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب الذكر ، وقيل : هذا دعاء على سبيل التقدير ، فكأنهم قالوا : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذ به ، وقيل : المؤاخذة به غير ممتنعة عقلاً ، وذلك أن الإنسان إذا علم أنه مؤاخذ به استدام التذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلاَّ استدامة التذكر ، وذلك فعل شاق على النفس ، فحسن الدعاء بترك المؤاخذة به.
وقد استدل بهذه الآية على جواز تكليف ما لا يطاق ، وقيل : في الآية دليل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، لأن حمل النسيان والخطأ على ما لا يؤاخذ به قبيح طلبه والدعاء به ، فتعين أن يحمل على ما كان فيه العمد إلى المعصية ، فيكون النسيان ترك الفعل ، والخطأ الفعل.
وقد أمر تعالى المؤمنين بطلب عدم المؤاخذة بهما ، فهو أمر منه لهم أن يطلبوا منه أن لا يعذبهم على المعاصي ، وهذا دليل على إعطائه إياهم هذا المطلوب.
{ ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج ، والربيع ، وابن زيد : الإصر : العهد والميثاق الغليظ وقال ابن زيد أيضاً : الإصر : الذنب الذي لا كفارة فيه ولا توبة منه وقال مالك : الإصر : الأمر الغليظ الصعب وقال عطاء : الإصر : المسخ قردة وخنازير ، وقيل : الإثم.
حكاه ثعلب.
وقيل : فرض يصعب أداؤه ، وقيل : تعجيل العقوبة.
روي ذلك عن قتادة.
وقال الزجاج : محنة تفتننا كالقتل والجرح في بني إسرائيل ، والجعل لمن يكفر سقفاً من فضة.
وقال الزمخشري : العبء الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه مكانه لا يستقل به ، استعير للتكليف الشاق من نحو : قتل النفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وغير ذلك. انتهى.
قال القفال : من نظر في السفر الخامس من التوراة التي يدعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليهم من غليظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة.
وقرأ أبيّ : ولا تحمل ، بالتشديد ، و : آصاراً ، بالجمع.
وروي عن عاصم أنه قرأ : أصراً ، بضم الهمزة.
و : الذين من قبلنا ، المراد به اليهود.
وقال الضحاك : والنصارى.
{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال قتادة : لا تشدّد علينا كما شدّدت على من كان قبلنا.
وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
وقال نحوه ابن زيد.
وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير ، وقال مكحول ، وسلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الغلمة ، وحكاه النقاش عن مجاهد ، وعطاء ، ومكحول.
وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدّة.
وقال النخعي : الحب.
وقال محمد بن عبد الوهاب : العشق ، وقيل : القطيعة.
وقيل : شماتة الأعداء.
روى وهب أن أيوب ، على نبينا وعليه السلام ، قيل له : ما كان أشق عليك في بلائك : قال شماتة الأعداء قال الشاعر :
أشمت بي الأعداء حين هجرتني . . .
والموت دون شماتة الأعداء
وقال السدّي : التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم.
وقيل : عذاب النار.
وقيل : وساوس النفس.
وينبغي أن تحمل هذه التفاسير على أنها على سبيل التمثيل ، لا على سبيل تخصيص العموم.
و : ما ، في ، قوله { ما لا طاقة لنا به } عامّ ، وهذا أعمّ من الذي قبله في الآية ، لأنه قال في تلك : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } فشبه الإصر بالإصر الذي حمله على من قبلهم ، وهنا سألوا أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وهو أعم من الإصر السابق لتخصيصه بالتشبيه.
وعموم هذا ، والتشديد في : ولا تحملنا ، للتعدية.
وفي قراءة أبيّ في قوله : { ولا تحمل علينا إصراً } للتكثير في حمل : كجرحت زيداً وجرّحته ، وقيل : ما لا طاقة لنا به من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا أوّلاً أن يعفيهم من التكاليف الشاقة بقوله : { ولا تحمل علينا إصراً } ثم ثانياً طلبوا أن يعفيهم عما نزل على أولئك من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. انتهى.
والطاقة القدرة على الشيء ، وهي مصدر جاء على غير قياس المصادر ، والقياس طاقة ، فهو نحو : جابة ، من أجاب ، و : غارة ، من أغار.
في ألفاظ سمعت لا يقاس عليها.
فلا يقال : أطال طالة ، وهذا يحتمل وجهين.
أحدهما : أن يعني بما لا طاقة ، ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ، وليس في وسعهم ، وهو المعنى الذي وقع فيه الخلاف.
والثاني : أن يعني بالطاقة ما فيه المشقة الفادحة ، وإن كان مستطاعاً حملها.
فبالمعنى الأول يرجع إلى العقوبات وما أشبهها.
وبالمعنى الثاني يرجع إلى التكاليف قال ابن الأنباري : المعنى لا تحملنا حملاً يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه.
خاطب العرب على حسب ما يعقل فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليه ، وهو مطيق للنظر إليه لكنه يثقل عليه ، ومثله { ما كانوا يستطيعون السمع }
{ واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } تقدّم تفسير العفو والغفران والرحمة ، طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب : وإسقاط العقاب ، ثم ستره عليهم صوناً لهم من عذاب التخجيل ، لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال : عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب ، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولاً لأنه الأهم ، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلي البارىء تعالى لهم وقال الراغب : العفو إزالة الذنب بترك عقوبته ، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله ، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه ، وكشف الإحسان الذي غطى به.
والرحمة إفاضة الإحسان إليه ، فالثاني أبلغ من الأول ، والثالث أبلغ من الثاني. انتهى.
وقيل : واعف عنا من المسخ ، واغفر لنا عن الخسف من القذف ، وقيل : اعف عنا من الأفعال ، واغفر لنا من الأقوال ، وارحمنا بثقل الميزان.
وقيل : واعف عنا في سكرات الموت ، واغفر لنا في ظلمة القبر ، وارحمنا في أهوال يوم القيامة.
وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها.
{ أنت مولانا } المولى مفعل من ولي يلي ، يكون للمصدر والزمان والمكان.
أما إذا أريد به مالك التدبير والتصريف في وجوه الضر والنفع ، أو السيد ، أو الناصر ، أو ابن العم أو غير ذلك من محامله ، فأصله المصدر ، سمي به وغلبت عليه الإسمية ، ووليته العوامل.
{ فانصرنا على القوم الكافرين } أدخل الفاء إيذاناً بالسببية.
لأن كونه تعالى مولاهم ، ومالك تدبيرهم ، وأمرهم ، ينشأ عن ذلك النصرة لهم على أعدائهم ، كما تقول : أنت الشجاع فقاتل ، وأنت الكريم فجد عليّ.
أي : أظهرنا عليهم بما تحدث في قلوبنا من الجرأة والقوّة ، وفي قلوبهم من الخور والجبن.
وتضمنت هذه الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء ، منها : الطباق في { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } والطباق المعنوي في : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } لأن : لها ، إشارة إلى ما يحصل به نفع ، و : عليها ، إشارة إلى ما يحصل به ضرر.
والتكرار في قوله : { وما في الأرض } كرر : ما ، تنبيهاً وتوكيداً.
وفي قوله : { بين أحد من رسله } وفي قوله : ما كسبت وما اكتسبت.
إذا قلنا إنهما بمعنى واحد ، إذ كان يعني : لها ما كسبت.
والتجنيس المغاير في : { آمن والمؤمنون }.
والحذف في عدّة مواضع.
والله أعلم.
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
التوراة : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقاً عربياً.
فأمّا اشتقاق : التوراة ، ففيه قولان : أحدهما : إنها من : ورى الزند يري ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الظلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور.
وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورَّى ، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورى بغيره ، لأن أكثر التوراة تلويح.
وأما وزنها فذهب الخليل ، وسيبويه ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه : وولج ، لأنهما من ورى ، ومن ولج.
فهي : كحوقلة ، وذهب الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية.
ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا.
كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه.
وقال الزجاج : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع.
وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة.
وقد قرىء بذلك على ما سيأتي ان شاء الله تعالى.
الإِنجيل : اسم عبراني أيضاً ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه فعيل.
كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض.
قال الخليل : استنجلت الأرض نجالاً ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء.
والنجل أيضاً : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره.
ونجله أبوه أي : ولده.
وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضاً : الرمي بالشيء.
وقال الزجاج : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي.
قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر ولده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة.
وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه.
وقال الزمخشري : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصحح بعد كونهما عربيين. انتهى.
وكلامه صحيح ، إلاَّ أن في كلامه إستدراكاً في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها.
وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة.
الإنتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والانتصار.
وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ، ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب.
صور : جعل له صورة.
قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إلى حال ، وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة.
والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف.
وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله.
الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس { وزاغت الأبصار } وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال ومال يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل.
التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب.
وقال غيره : التأويل المرد والمرجع.
قال :
أؤول الحكم على وجهه . . .
ليس قضاي بالهوى الجائر
الرسوخ : الثبوت.
قال :
لقد رسخت في القلب منّي مودة . . .
لليلى أبت أيامها أن تغيّرا
الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعِل ، بكسر يالعين.
ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلاَّ أن هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع.
ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني الله فداك ، أي : جعلني الله فداك.
وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة.
لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فأشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدى.
فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً ، فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة { وعنده مفاتح الغيب } { ولدينا كتاب ينطق بالحق } وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها ، بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب.
ومثله : ثم ، و : هنا.
لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة.
ومن أعربها ، وهم قيس ، فتشبيهاً : بعند ، لكون موضعها صالحاً لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لَدُن ، ولُدْنُ ، ولَدْنٌ ، ولَدِنٌ ، ولَدُنِ ، ولَدٌ ولُدْ ، ولَدْ ولَتْ.
بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً ، وإلى الجملة قليلاً.
فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر :
صريع عوانٍ راقهن ورُقنَهُ . . .
لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ
وقال الآخر :
لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم . . .
فلا يك منكم للخلاف جنوحُ
ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر :
تذكر نعماه لدن أنت يافع . . .
إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر
وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال :
وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا . . .
قرابة ذي قربى ولا حق مسلم
وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو.
الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع.
الدأب : العادة.
دأب على كذا : واظب عليه وأدمن.
قال زهير :
لأرتحلنْ بالفجر ثم لأدأبنّ . . .
إلى الليل إلاَّ أن يعرجني طفل
الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب.
{ بسم الله الرحمن الرحيم الم الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم } هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفار وطيبة.
وهي : مدنية الآيات ستين ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصاري نجران ، وكانوا ستين راكباً ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم ، أميرهم : العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم : السيد الأيهم ، وعالمهم : أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائل.
وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم وهيئتهم.
وأقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ، ويزعمون تارة أنه الله ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلاَّ جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد! ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : « بلى ».
قالوا : فحسبنا.
فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال.
وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمّه ، المنكرين لما أنزل الله عليه من الإنجيل.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه ، لما ذكر آخر البقرة { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّ عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، وردّ عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردّ عليهم ، ولما كان مفتتح آية آخر البقرة { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } فكأن في ذلك الإيمان بالله وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف الله تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره صلى الله عليهم.
قرأ السبعة : ألم الله ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة.
وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف.
وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وعمرو بن عبيد ، والرؤاسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بما بعدها كما تقول : واحد اثنان.
وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرؤاسي ، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة.
انتهى.
وقال غيره : ذلك رديء ، لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس. انتهى.
وقال الأخفش : يجوز : ألم الله ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين.
قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله.
واختلفوا في فتحة الميم : فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من الله ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين؟ وكيف؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل.
وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ، لأن حروف الهجاء ينوى بها الوقف ، فينوي بما بعدها الاستئناف.
فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو :
لتسمعن وشيكاً في دياركم . . .
الله أكبر : يا ثارات عثمانا
وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل.
وما يسقط يتلقى حركته ، قاله أبو علي.
وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري ، وأورد أسئلة وأجاب عنها.
فقال : فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلت : ليس هذا بدرج ، لأن ميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت.
وإنما حذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد إثنان ، بالقاء حركة الهمزة على الدال.
انتهى هذا السؤال وجوابه.
وليس جوابه بشيء ، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها.
وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لإلتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو للإتباع.
فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال : قد ، أن تقف على دال : قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولاً واحداً.
وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة.
فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه ، كما زعم الزمخشري ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : إثنان ، فالتقى ساكنان ، دال ، واحد ، و : ثاء ، إثنين ، فكسرت الدال لإلتقائهما ، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل.
وأما ما استدل به للفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقائهم الهمزة على بالهاء ، فلا دلالة فيه ، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من الله ، وأيضاً ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا ، لا أنها موقوف عليها.
ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً.
فقال :
فإن قلت : هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين؟.
قلت : لأن التقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا ابراهيم ، وداود ، وإسحاق.
ولو كان لالتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر.
انتهى هذا السؤال وجوابه.
وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة.
و : لام التعريف ، كالتقاء نون : من ، ولام : الرجل ، إذا قلت : من الرجل.
ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً ، فقال :
فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلاَّ التحريك فحركوا؟
قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن ، أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين.
انتهى هذا السؤال وجوابه.
وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحيئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلاَّ التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا يعني : الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن.
هذا شرح السؤال.
وأما جواب الزمخشري عن سؤاله ، فلا يطابق ، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة.
فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلاً ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة.
وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان.
لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما.
وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فيما لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا للنقل ، وقد ردّ قول الفراء ، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض.
انتهى.
وهو ردّ صحيح.
والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً ، فلوا التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين.
فهذه الحركة التي في ميم : ألم الله ، هي حركة التقاء الساكنين.
والكلام على تفسير : { الم } ، تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة.
والكلام على : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } تقدم في آية { وإلهكم إله واحد لا إله إلا الله } وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا.
ويدل قوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } ترك الجواب لدلالة قوله { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } عليه ، تقديره : كمن قسا قلبه.
ومنه قول الشاعر :
فلا تدفنوني ، إن دفني محرم . . .
عليكم ، ولكن خامري أم عامر
أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر.
قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : الله ، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ، وفيه نظر ، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاماً مبتدأ جزماً ، جملة رادّة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاجوه في عيسى بن مريم ، وقالوا : إنه الله.
انتهى كلامه.
قال ابن كيسان : موضع : ألم ، نصب ، والتقدير : قرأوا ألم ، و : عليكم ألم.
ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا ألم ، و : ذلك ألم.
وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك.
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ، وعلقمة بن قيس : القيام.
وقال خارجة في مصحف عبد الله : القيم ، وروي هذا أيضاً عن علقمة.
{ الله } رفع على الإبتداء ، وخبره : { لا إله إلا هو } و { نزل عليك الكتاب } خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون : نزل ، هو الخبر ، و : لا إله إلا هو ، جملة اعترض.
وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب : { لا إله إلا هو الحي القيوم } فأغنى عن إعادته هنا.
وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة الله ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ، لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو بعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة.
{ نزل عليك الكتاب بالحق } الكتاب هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيراً ، والمراد القرآن ، فصار علماً.
بالغلبة.
وقرأ الجمهور : نزّل ، مشدداً و : الكتاب ، بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : نزل ، مخففاً ، و : الكتابُ ، بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة.
والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : عليك ، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصاً له وتشريفاً بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء.
كأن الكتاب تجلله وتغشاه ، صلى الله عليه وسلم.
ومعنى : بالحق : بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة.
الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة.
وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير.
وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية.
وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية.
وقيل : معنى بالحق : بالحجج والبراهين القاطعة.
والباء : تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقاً نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحاً.
{ مصدقا لما بين يديه } أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقاً ، وهو يدل على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها ، قاله أبو مسلم وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط ، إلاَّ بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان.
فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخاً لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن.
فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقاً لها ، لأن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف.
وانتصاب : مصدقاً ، على الحال من الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال :
أنا ابن دارة معروفاً به نسبي . . .
وهل بدارة يا للناس من عار؟
وقيل : انتصاب : مصدقاً ، على أنه بدل من موضع : بالحق ، وقيل : حال من الضمير المجرور.
و : لما ، متعلق بمصدقاً ، واللام لتقوية التعدية ، إذ : مصدقاً ، يتعدى بنفسه ، لأن فعله يتعدى بنفسه.
والمعنى هنا بقوله { لما بين يديه } المتقدم في الزمان.
وأصل هذا أن يقال : لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه.
كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد.
{ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل } فخم راء التوراة ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأضجعها : أبو عمرو ، والكسائي.
وقرأها بين اللفظين : حمزة ، ونافع.
وروى المسيبي عن نافع فتحها.
وقرأ الحسن : والأنجيل ، بفتح الهمزة ، وهذا يدل على أنه أعجمي ، لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب ، بخلاف إفعيل ، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط ، وإصليت.
وتعلق : من قبل ، بقوله : وأنزل ، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور ، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل : التقدير من قبلك ، فيكون المحذوف ضمير الرسول.
وغاير بين نزل وأنزل ، وإن كانا بمعنى واحد ، إذ التضعيف للتعدية ، كما أن الهمزة للتعدية.
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل؟.
قلت : لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة. انتهى.
وقد تقدم الرد على هذا القول.
وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا التنجيم ، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل ، قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر } و { وأنزل عليك الكتاب } ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل ، مشدداً بالتخفيف ، إلاَّ ما استثني ، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار.
وهو محال.
{ هدى للناس } قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل.
والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر.
وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده ، وحذف من التوراة ، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله { من قبل } ثم استأنف فقال { هدى للناس وأنزل الفرقان } فيكون الهدى للفرقان فحسب ، ويكون على هذا الفرقان القرآن ، وهذا لا يجوز ، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولاً لقوله : وأنزل الفرقان هدى ، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه ، لو قلت : ضربت زيداً ، مجردةً و : ضربت هنداً ، تريد ، وضربت هنداً مجردة لم يجز ، وانتصابه على الحال.
وقيل : هو مفعول من أجله ، والهدى : هو البيان ، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل ، فيكون الناس هنا مخصوصاً ، إذ لم تقع الهداية لكل الناس ، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدىً في ذاتهما ، وأنهما داعيان للهدى ، فيكون الناس عاماً ، أي : هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام.
قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى { وهو عليهم عمًى } أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقول نوح ، { فلم يزدهم دعائي إلاَّ فراراً } انتهى.
قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدىً ، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.
قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ، لأن هذا خبر مجرّد ، و : هدى للمتقين ، خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معدٌّ أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك.
قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر.
انتهى كلام ابن عطية.
وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام.
وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين } وبين قوله : { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس }.
{ وأنزل الفرقان } الفرقان : جنس الكتب السماوية ، لأنها كلها فرقان يفرق بها بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور.
كما قال تعالى : { وآتينا داود زبوراً } أو الفرقان : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه ، واظهاراً لفضله.
واختار هذا القول الأخير ابن عطية.
قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام الذي جادل فيه الوفد.
وقال قتادة ، والربيع ، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ، ونحوه وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث ، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل وقيل : الفرقان : النصر.
وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها الله بإنزال هذه الكتب ، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى ، تصحيح دعواهم بالمعجزات ، وكانت هي الفرقان ، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب ، فلما ذكر أنه أنزلها ، أنزل معها ما هو الفرقان.
وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل.
وقيل : الفرقان : هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل.
فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان.
والفرقان مصدر في الأصل ، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل ، أي : الفارق ، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق.
قال تعالى : { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث }
{ إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد } لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر.
والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار.
و { الذين كفروا } عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم ، وهم نصارى وفد نجران.
وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم.
{ والله عزيز ذو انتقام } أي : ممتنع أو غالب لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدّم أن الوصف : بذو ، أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلاً للعقاب ، وهي من صفات الفعل.
قال الزمخشري : { ذو انتقام } له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. انتهى.
ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ.
{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء } شيء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ، إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك ردّ على النصارى ، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة.
فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفي عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وأحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها ، وأمثالها ، على أيدي رسله.
وفي ذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله ، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم.
وقيل : في قوله { لا يخفى عليه شيء } تحذير من مخالفته سراً وجهراً ، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام.
وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه.
وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفى عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم؟ وكل هذه تخصيصات.
واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله.
وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء ، أبلغ من : يعلم في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : { هو الذي يصوركم } ردّ على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف تشاء.
قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور؟ انتهى.
والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة.
والثالثة : بالإنفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن.
وقال الراغب ، هنا : يصوركم ، بلفظ الحال ، وفي موضع آخر : فصوركم ، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضاً : فصوركم ، إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه.
ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً. انتهى.
وقرأ طاووس : تصوركم ، أي صوركم لنفسه ولتعبده.
كقولك : أثلت مالاً ، أي : جعلته أثلة.
أي : أصلاً.
وتأثلته إذا أثلته لنفسك.
وتأتي : تفعَّل ، بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولي.
ومعنى { كيف يشاء } أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات.
وفي قوله : { كيف يشاء } إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط.
و : كيف ، هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم.
ومفعول : يشاء ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم.
كقوله { ينفق كيف يشاء } أي : كيف يشاء أن ينفق ، و : كيف ، منصوب : بيشاء ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم.
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو.
وقال بعضهم { كيف يشاء } في موضع الحال ، معمول : يصوركم؛ ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك.
وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي مريداً ، فيكون حالاً من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء ، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته.
وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء.
{ لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم } كرر هذه الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وانحصارها فيه ، توكيداً لما قبلها من قوله { لا إله إلاَّ هو } ورداً على من ادعى إلهية عيسى ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ مَن هذان الوصفان له ، هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الاشياء على الإتقان التام.
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات } مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني.
وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله { وروح منه } فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً.
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه.
وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : { كتاباً متشابهاً } معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق.
وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : { إن البقر تشابه علينا } { وأتوا به متشابهاً } أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما.
ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما.
والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين.
قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ.
وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه.
وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً.
وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت.
وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى.
وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة.
وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط.
وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف.
وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال.
وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد؛ والمتشابه : القصص والأمثال.
وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال.
والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان.
وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : { فإذا هي حية تسعى } { فإذا هي ثعبان مبين } و { قلنا احمل } و { فاسلك }
وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر.
وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول.
وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم.
أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : { وروح منه }
وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء.
وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : { قل تعالوا أتل } الآيات و { قضى ربك } الآيات وما سوى المحكم متشابه.
وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك.
وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام.
وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل.
وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا.
ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ؟ نحو : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين { وأن تجمعوا بين الاختين إلاَّ ما قد سلف } يمنع من ذلك؟
ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل.
وقال يحي بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان.
وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } أي كل واحد منهم.
قيل : ويحتمل أن أفراد في موضع الجمع.
نحو : { وعلى سمعهم } وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها.
ومثال ذلك : { لا تدركه الأبصار } { إلى ربها ناظرة } { لا يأمر بالفحشاء } { أمرنا مترفيها } انتهى.
وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن الله لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار.
والمتشابه قوله : { إلى ربها ناظرة }
وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية.
وذكر من المحكم : { وما كان ربك نسيا } { لا يضل ربي ولا ينسى } ومتشابهه : { نسوا الله فنسيهم } ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك.
وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه.
فقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } عند المعتزلة محكم { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } متشابه.
وغيرهم بالعكس.
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية.
فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل.
ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، وقال : يقولون ، ان تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : { وجعلنا على قلوبهم أكنة } { وفي آذانهم وقرا } والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } وفي موضع آخر : { وقالوا قلوبنا غلف }
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : { إلى ربها ناظرة } والآخرون ، بقوله : { لا تدركه الأبصار } ومثبتو الجهة بقوله : { يخافون ربهم من فوقهم } وبقوله : { على العرش استوى } والآخرون بقوله : { ليس كمثله شيء } فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا؟ انتهى كلام الفخر الرازي.
وبعضه ملخص.
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري.
قال :
فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً؟
قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في إستخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه.
إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن.
ولما ذكر تعالى أول السورة { الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه.
وقوله : { منه آيات محكمات } إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء ، والجملة حالية.
ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : { وأخر متشابهات } فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل.
وتقدم الكلام على أخر في قوله : { فعدة من أيام أُخر } فاغنى عن إعادته هنا.
وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي.
{ فأما الذين في قلوبهم زيغ } هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع.
أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم.
وقال الطبري : هو الأشبه.
وذكر محاورة حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل؟ ونحن لا نؤمن بهذا.
فأنزل الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم.
وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق.
وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، وهم الخوارج.
ومن تأول آية لا في محلها.
وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم.
وقال ابن جريح : هم المنافقون.
وقيل : هم جميع المبتدعة.
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ.
{ فيتبعون ما تشابه منه } قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع.
وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : { ولا تساءلون } و { أقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثاً } { والله ربنا ما كنا مشركين } ونحو ذلك.
وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه.
انتهى كلامه ملخصاً.
{ إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :
إحداهما : إبتغاء الفتنة.
قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر.
وقال مجاهد : الشبهات واللبس.
وقال الزجاج : إفساد ذات البين.
وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران.
والعلة الثانية : إبتغاء التأويل.
قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : التأويل : التفسير ، نحو { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة.
وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل.
وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء.
وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه.
وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف؟
وقال الزمخشري : { الذين في قلوبهم زيغ } هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قوله أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه.
انتهى كلامه.
وهو كلام حسن.
{ وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه ان الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، والجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد.
واختاره : الخطابي والفخر الرازي.
ويكون قوله { والراسخون } مبتدأ و { يقولون } خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين.
ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا { آمنا به } ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر.
ولأن قوله : { كل من عند ربنا } يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله ، تعالى.
وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به.
وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله ، والراسخون في العلم يقولون.
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك.
وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص.
ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب.
وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره.
والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك.
ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى
{ وروح منه } إلى غير ذلك.
ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ.
فقوله { إلا الله } مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب.
ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط.
وإن جعلنا { والراسخون } مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ؟.
وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما.
ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه. انتهى.
وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري.
قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع.
ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه.
انتهى كلامه.
وتلخص في إعراب { والراسخون } وجهان :.
أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف.
والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة.
والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل.
وقيل : { الراسخون في العلم } مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام وأصحابه ، بدليل { لكن الراسخون في العلم منهم } يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع.
{ كل من عند ربنا } هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : { آمنا به كل من عند ربنا } وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله :
كيف أصحبت؟ كيف أمسيت؟ مما . . .
يزرع الود في فؤاد الكريم؟
كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ.
والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب.
والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به.
وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً.
{ وما يتذكر إلا أولوا الألباب } أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل.
وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذو لبٍّ.
وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا.
ومعنى الإزاغة هنا الضلالة.
وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله.
وقال الزجاج : المعنى : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد.
وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا.
وهذه نزعة إعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان.
ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا.
وقال الجبائي أيضاً : لا تزغنا عن جنتك وثوابك.
وقال أبو مسلم : أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ.
وقال الزمخشري : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا. انتهى.
وهذه مسألة كلامية : هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخبر؟ أو لا يخلق الشر؟ فالأول : قول أهل السنة.
والثاني : قول المعتزلة.
وكل يفسر على مذهبه.
وقرأ الصديق ، وأبو قائلة ، والجراح : لا تزغ قلوبنا ، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة ، ورفع باء قلوبنا ، جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب.
وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك هاهنا.
ولا أعرفن ربرباً حوراً مدامعه . . .
أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل : بعد اذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و : إِذ ، أصلها أن تكون ظرفاً ، وهنا أضيف إليها : بعد ، فصارت إسماً غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضافة إليها تخرجها عن هذا الحكم.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين } { يوم لا تملك } في قراءة من رفع يوم؟ وقول الشاعر.
على حين عاتبت المشيب على الصبا . . .
على حين من تكتب عليه ذنوبه
على حين الكرام قليل . . .
ألا ليت أيام الصفاء جديد
كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة؟.
{ وهب لنا من لدنك رحمة } سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيماً ، أو ثواباً صادراً عن الرحمة.
ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى.
{ إنك أنت الوهاب } هذا كالتعليل لقولهم : وهب لنا ، كقولك : حل هذا المشكل إنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهوب ، لمناسبة رؤوس الآي ، ويجوز في : أنت ، التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء.
{ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم.
ومعنى : ليوم لا ريب فيه ، أي : لجزاء يوم ، ومعنى : لا ريب فيه ، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وقيل : اللام ، بمعنى : في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس ، بالتنوين ، ونصب : الناس.
وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ، إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، والضمير في : فيه ، عائد على اليوم ، إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع ، أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد.
{ إن الله لا يخلف الميعاد } ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين.
قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، والميعاد : الموعد.
انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد.
وقد استدل الجبائي بقوله { إن الله لا يخلف الميعاد } على القطع بوعيد الفساق مطلقاً ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد.
وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به قال الشاعر :
إذا وعد السرّاءَ أنجز وعده . . .
وإن وعد الضراءَ فالعفو مانعه
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد.
وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث ، والمجازاة ، والإيفاء بما وعد تعالى.
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } قيل : المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الرّوم مني ما أعطوني من المال.
وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس : قريظة ، والنضير.
وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامّة تتناول كل كافر.
ومعنى : من الله ، أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى : أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } وفي قوله : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } وفي قوله : { وتكاثر في الأموال والأولاد } وفي قوله : { لا ينفع مال ولا بنون } بخلاف قوله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة } إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال.
وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء الله.
وقرأ أبو عبد الرحمن : لن يغني ، بالياء على تذكير العلامة.
وقرأ علي : لن يغني ، بسكون الياء.
وقرأ الحسن : لن يغني بالياء أولاً وبالياء الساكنة آخراً ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع.
وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم.
و : من ، لابتداء الغاية عند المبرد ، وبمعنى : عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : { أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون : من ، بمعنى : عند ، ضعيف جداً.
وقال الزمشخري : قوله : من الله ، مثله في قوله : { إن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً } والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق.
ومنه : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي : لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك.
وما عندك.
وفي معناه قوله تعالى : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى } انتهى كلامه.
وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل.
واستدل بقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } { لجعلنا منكم ملائكة } أي : بدل الآخرة وبدلكم.
وقال الشاعر :
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة . . .
ظلماً ويكتب للأمير إفيلا
أي بدل الفصيل ، وشيئاً ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ، لأن معنى : لن تغني ، لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون : من ، في موضع الحال من شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدّم انتصب على الحال.
وتكون : من إذ ذاك للتبعيض.
فتلخص في : من ، أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي.
و : كونها بمعنى : عند ، وهو قول أبي عبيدة.
و : البدلية ، وهو قول الزمخشري ، و : التبعيض ، وهو الذي قررناه.
{ وأولئك هم وقود النار } لما قدم : إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم.
وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر : إن ، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك ، إلى بعدهم.
وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله : { وقودها الناس والحجارة }
وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : وقود ، بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقوداً ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو : حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا.
وقد قيل في المصدر أيضاً : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدّم ذكر ذلك ، و : هم ، يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلاً.
{ كدأب آل فرعون } لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدّم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ، لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخراً إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمن آمن به.
أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاسئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنياد وصاروا إلى النار.
واختلفوا في إعراب : كدأب ، فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية.
وقيل : هو في موضع نصب بوقود ، أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون.
كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري.
وقيل : بفعل مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحتراق ، قاله ابن عطية.
وقيل : من معناه أي عذبوا تعذيباً كدأب آل فرعون.
ويدل عليه وقود النار.
وقيل : بلن تغني ، أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري.
وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي : { أولئك هم وقود النار } على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فان قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري.
وقيل : بفعل منصوب من معنى : لن تغني ، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون.
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفراً كدأب والعامل فيه : كفروا ، قاله الفراء وهو خطأ ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في الصلة.
وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفراً كعادة آل فرعون.
وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في : كذبوا ، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون.
وقيل : يتعلق بقوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } أي : أخذهم أخذاً كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها.
وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيداً قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول.
فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف.
قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة : دأب.
وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر : كدأب ، بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غُلَيْمٌ على أي شيء يجوز كدأب؟ فقلت له : أظنه من : دئب يدأب دأباً ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤباً هكذا حكى النحويون ، منهم الفرّاء ، حكاه في كتاب ( المصادر ).
وآل فرعون : أشياعه وأتباعه.
.
{ والذين من قبلهم } هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم.
فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصرو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموضع : والذين ، جر عطفاً على : آل فرعون.
{ كذبوا بآياتنا } هذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا؟ وما فعل بهم؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر ، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : { كدأب آل فرعون } ثم ابتدأ فقال : { والذين من قبلهم كذبوا } فيكون : الذين ، مبتدأ ، و : كذبوا خبره وفي قوله : بآياتنا ، التفات ، إذ قبله من الله ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم.
و : الآيات ، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه.
{ فأخذهم الله بذنوبهم } رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في : بذنوبهم ، للسبب.
{ والله شديد العقاب } تقدّم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها.
قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة.
حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام.
ومجاز التشبيه في مواضع منها { نزل عليك الكتاب } وحقيقة النزول طرح جرم من علوٍ إلى أسفل ، والقرآن مثبت في اللوح الحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله : { لما بين يديه } القرآن مصدّق لما تقدّمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئاً فشيئاً وفي قوله : { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمراً ، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله : { عذاب شديد } شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله : { يصوركم } شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصوّر يمثل شيئاً ، فيضم جرماً إلى جرم ، ويصوّر منه صورة وفي قوله : { منه آيات محكمات } جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكماً ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرّع منها فروع متعدّدة ترجع إليها بالأم التي يرجع إليها ما تفرّع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والأيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه؛ وفي قوله : { في قلوبهم زيغ } شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله : { وهب لنا من لدنك رحمة } شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير ، بالمحسوس من الأجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله : { وقود النار } شبهم بالحطب الذي لا ينتفع به إلاَّ في الوقود.
وقال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ.
وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلاَّ { كدأب آل فرعون } فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه.
والاختصاص في مواضع ، منها في قوله : { نزل عليك الكتاب } إلى { وأنزل الفرقان } على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله : { لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } خصَّهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده.
وفي قوله : { والراسخون } اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم؛ وفي قوله : { أولوا الألباب } لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ، والاعتيار.
وفي قوله : { لا تزغ قلوبنا } اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله : { إنك جامع الناس ليوم } هو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياءً وفي بطنها أمواتاً ، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلاَّ في ذلك اليوم ، ولا جامع إلاَّ هو تعالى.
وفي قوله : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجاباً من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغاراً ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كباراً.
وكل هذا ورد به الحديث الصحيح.
وفي قوله : { كدأب آل فرعون } خصهم بالذكر ، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغياناً ، وأعظمهم تعنتاً على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذاباً.
والحذف في مواضع ، في قوله : { لما بين يديه } أي : من الكتب و { أنزل التوراة والإنجيل } أي : وأنزل الإنجيل ، لأن الإنزالين في زمانين { هدى للناس } أي : الدين أراد هداهم : { عذاب شديد } ، أي يوم القيامة ،.
{ ذو انتقام } أي ممن أراد عقوبته { في الأرض ولا في السماء } أي ولا في غيرهما { العزيز } أي : في ملكه.
{ الحكيم } أي في صنعه { وأخر } أي : آيات أُخر { زيغ } أي عن الحق { إبتغاء الفتنة } أي : لكم { وابتغاء تأويله } أي : على غير الوجه المراد منه { وما يعلم تأويله } أي : على الحقيقة المطلوبة { ربنا } أي يا ربنا { لا تزغ قلوبنا } أي : عن الحق { بعد إذ هديتنا } أي : إليه { كذبوا بآياتنا } أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علماً على التوحيد { بذنوبهم } أي السالفة.
والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان.
كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه ، بآيات الله ، والله كرر اسمه تعالى تفخيماً ، لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر.
لا إله إلاَّ هو الحي القيوم ، لا إله إلا هو العزيز.
كرر الجملة تنبيهاً على استقرار ذلك في النفوس ، ورداً على من زعم أن معه إلهاً غيره.
ابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله.
كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل.
ربنا لا تزغ ، ربنا إنك.
كرر الدعاء تنبيهاً على ملازمته ، وتحذيراً من الغفلة عنه لما فيه من إظهار الافتقار.
والتقديم والتأخير ، وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولاً ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن.
وقدم القرآن لشرفه ، وعظم ثوابه ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان.
وثنى بالتوراة لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط.
وروى . . .
: أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقاً ، ثم ثلث بالإنجيل ، لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله : { في الأرض ولا في السماء } قدم الأرض على السماء وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ، ليعلمهم ، إطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ، لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه.
والالتفات { ربنا إنك جامع } ثم قال { إن الله } وفي قوله : { كذبوا بآياتنا } ثم قال { والله شديد العقاب }.
والتأكيد : { وأولئك هم وقود النار } فاكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله : { هو الذي يصوركم } قوله { لا إله إلا هو } وأكد بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } قوله { نزل عليك الكتاب }.
والتوسع بإقامة المصدر مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هادياً ، والفارق.
وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من الله ، أي : عند الله ، على قول من أوَّل : من ، بمعنى : عند.
والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
العبرة : الاتعاظ يقال : منه اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففاً ومثقلاً : نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل : وكان الاعتبار انتقالاً عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه ، العَبرة ، وهي الدمع ، لأنها تجاوز العين.
الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شُهى ، نحو : نزوة ونزى ، و : كوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى ، جمع كوة بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام ، وجمع على فعل ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية :
فلولا الشَّهى والله كنت جديرة . . .
بأن أترك اللذات في كل مشهد
القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ابن دريد ، فيكون وزنه : فنعالاً من : قطر يقطر وقيل : أصل ووزن فعلال ، وفيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء الله تعالى.
ويقال منه : قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال وقال الزجاج : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل : قنطرته : عبيته شيئاً على شيء ، ومنه سمي القنطرة.
فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة.
الذهب : معروف ، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب.
وقيل : الذهب جمع ذهبية.
والفضة : معروفة ، وجمعها فضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم.
الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحده : فرس.
وقيل : واحده خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة.
سميت بذلك لاختيالها في مشيها.
وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه.
وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل.
النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد.
وقال الهروي : النعم ، يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم.
وقال ابن قتيبة : الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامى : الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها.
المآب : مفعل من آب يؤوب إياباً.
أي : رجع ، يكون للمصدر والمكان والزمان.
{ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر : إن قريشاً كانوا أغماراً ، ولو حاربتنا لرأيت رجالاً.
وقيل : نزلت في قريش قبل بدر بسنتين ، فحقق الله تعالى ذلك وقيل : لما غلب قريشاً ببدر ، قالت اليهود : هو النبي المبعوث الذي في كتابنا ، لا تهزم له راية.
فقالت لهم شياطينهم : لا تعجلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى.
فلما كانت أحد كفروا جميعهم ، وقالوا : ليس بالنبي المنصور.
وقيل : في أبي سفيان وقومه ، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر ، فنزلت.
ولما أخبر تعالى قيل : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار } ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق ، وهو كالتوكيد لما قبله ، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد ، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقوداً.
وقرأ حمزة ، والكسائي : سيغلبون ويحشرون ، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، خطاباً ، فتكون الجملة معمولاً للقول.
ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير : للذين كفروا ، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل ، بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي سيغلبون ، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة.
كما قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون ، وأجاز بعضهم ، وهو : الفراء ، وأحمد بن يحيى ، وأورده ابن عطية ، إحتمالاً أن يعود الضمير في : سيغلبون ، في قراءة التاء على قريش ، أي : قل لليهود ستغلب قريش ، وفيه بُعْدٌ.
والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ، وأبعد من ذهب إلى أن : إلى ، في معنى : في ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ، يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : وبئس المهاد جهنم.
وكثيراً ما يحذف لفهم المعنى ، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه : أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر ، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها ، وذلك لا يجوز ، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة.
وأمّا من جعل : المهاد ، ما مهدوا لأنفسهم ، أي : بئسما مهدوا لأنفسهم ، وكان المعنى عنده ، و : بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم ، ففيه بُعْدٌ ، ويروى عن مجاهد.
{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا } قال في ( ري الظمآن ) : أجمع المفسرون على أنها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ابن مسعود ، والحسن.
فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال : من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله.
وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء.
ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، وإعلاماً بأن الله سينصر دينه.
وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر.
وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن الله غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء : كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي.
وازداد حسناً بالفصل ، وإذا كان الفصل محسناً في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال :
إن امرأ غره منكن واحدة . . .
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال :
برهرهة رودة رخصة . . .
كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى القضيب ، وفي قوله { في فئتين } محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال.
{ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل الله.
وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر.
والجمهورُ برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر.
وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا.
وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئةٍ ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال :
وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة . . .
ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ
ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل الله ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على الخبر.
وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب.
قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة.
وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة.
وقرأ الجمهور تقاتل بالتاء على تأنيث الفئة وقرأ مجاهد ومقاتل يقاتل بالياء على التذكير قالوا لأن معنى الفئة القوم فرد إليه وجرى على لفظه
يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ قرأ نافع ويعقوب وسهل ترونهم بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس وطلحة ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب فيكون الضمير في لكم للمؤمنين والضمير المرفوع في ترونهم للمؤمنين أيضاً وضمير النصب في ترونهم وضمير الجر في مثليهم عائد على الكافرين والتقدير ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد فيكون ذلك أبلغ في الآية أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ومع ذلك نصرهم الله عليهم وأوقع المسلمون بهم وهذه حقيقة التأييد بالنصر كقوله تعالى كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية وآية الأنفال قصة واحدة وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين والضمير المنصوب في ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين والتقدير ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون ترونهم مثليكم
وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ويحتمل أن يعود الضمير في مثليهم على الفئة المقاتلة في سبيل الله أي ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم والمعنى ترونهم مثليكم وهذا تقليل إذا كانوا نيفاً على ألف والمسلمون في تقدير ثلث منهم فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ لتجترئوا عليهم
وإذن كان الضمير في لكم للكافرين وفي ترونهم الخطاب لهم والمنصوب والمجرور للمؤمنين والتقدير ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم
ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة أي مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم وكانت تلك الرؤية مدداً من الله للمؤمنين كما أمدهم تعالى بالملائكة فإن كانت هذه وآية الأنفال في قصة واحدة فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا كقوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ وأما من قرأ بالياء المفتوحة فالظاهر أن الجملة صفة لقوله وأخرى كافرة وضمير الرفع عائد عليها على المعنى إذ لو عاد على اللفظ لكان تراهم وضمير النصب عائد على فئة تقاتل في سبيل الله وضمير الجرّ في مثليهم عائد على فئة أيضاً وذلك على معنى الفئة إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب تراها مثليها أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها أي ستمائة ونيف وعشرين أو مثلي أنفس الفئة الكافرة أي ألفين أو قريباً من ألفين
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها
ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة أي مثلي الفئة الكافرة والجملة إذ ذاك صفة لقوله وأخرى كافرة ففي الوجه الأول الرابط الواو وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب وإذا كان الضمير في لكم لليهود فالآية كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ) أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار سيغلبون
فمن قرأ بالتاء كان معناه لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل
والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد وانتصب مثليهم على الحال قاله أبو علي ومكي والمهدوي ويقوي ذلك ظاهر قوله رأي العين وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد
قال الزمخشري رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقيل الرؤية هنا من رؤية القلب فيتعدى لإثنين والثاني هو مثليهم ورد هذا بوجهين أحدهما قوله تعالى رأي العين والثاني أن رؤية القلب علم ومحال أن يعلم الشيء شيئين
وأجيب عن الأول بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي أي رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به وعن الثاني بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد فلا يكون ذلك محالاً وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى قال تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ أي فإن اعتقدتم إيمانهن ويدل على هذا قراءة من قرأ ترونهم بضم التاء أو الباء قالوا فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً لا يقيناً فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك وذلك أن أُري بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر وإذا كان كذلك فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم يستحيل أن يحمل على النظر بالعين لأنه كما لا يقع العلم غير مطابق للمعلوم كذلك لا يقع النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم
شبه برؤية العين والرأي مصدر رأى يقال رأى رأياً ورؤية ورؤيا ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ورأيا في الاعتقاد يقال هذا رأي فلان قال رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه
خوارج تراكين قصد المخارج
ومعنى مثليهم قدرهم مرتين وزعم الفراء أن معنى يرونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم كقول القائل عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها وغلطه الزجاج وقال إنما مثل الشيء مساو له ومثلاه مساويه مرتين
وقال ابن كيسان أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم وهذا بعيد وليس المعنى عليه وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك والأخرى أنه آية النبي صلى الله عليه وسلم ) انتهى كلام ابن كيسان
وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر وقيل وثلاثة عشرة لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين فذكر الله المثلين إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد وحكي عن ابن عباس أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ) قال ( يوم بدر القوم ألف ) وقال ابن عباس نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً وقال في رواية لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم قال ألفاً ونقل أن المشركين لما أسروا قالوا للمسلمين كم كنتم قالوا كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة قالوا ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز فلا يمتنع
وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء أي يقويه بعونه وقيل النصر الحجة ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ومفعول من يشاء محذوف أي من يشاء نصره
إِنَّ فِى ذَلِكَ أي النصر وقيل رؤية الجيش مثليهم لَعِبْرَةً أي اتعاظاً ودلالة لاِوْلِى الاْبْصَارِ إن كانت الرؤية بصرية فالمعنى للذين أبصروا الجمعين وإن كانت اعتقادية فالمعنى لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار
زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ قرأ الجمهور زين مبنياً للمفعول والفاعل محذوف فقيل هو الله تعالى قاله عمر لأنه قال حين نزلت الآن يا رب حين زينتها فنزلت قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ الآية ومعنى التزيين خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه وهذا كقوله إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ فزينها تعالى للابتلاء ويدل عليه قراءة زين للناس حب مبنياً للفاعل وهو الضمير العائد على الله في قوله وَاللَّهُ يُؤَيّدُ
وقيل المزين الشيطان وهو ظاهر قول الحسن قال من زينها ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة وتحصيلها من غير وجهها وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من اليهود وغيرهم المفتونين بالدنيا وأضاف المصدر إلى المفعول وهو الكثير في القرآن وعبر عن المشتهيات بالشهوات مبالغة إذ جعلها نفس الأعيان وتنبيهاً على خستها لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم وناهيك لها ذماً قوله صلى الله عليه وسلم ) ( حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره ) وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على سبيل الإجمال ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير فيكون في ذلك تنفير عنها وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ ) ويقال فيهنّ فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال
وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء وفروع عنهنّ وشقائق النساء في الفتن الولد مبخلة مجبنة وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة قدمت الأموال على الأولاد
وظاهر قوله والبنين الذكران وقيل يشمل الإناث وغلب التذكير
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ولأنه يحصل به غالب الشهوات ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد
واختلف في القنطار أهو عدد مخصوص أم ليس كذلك فقيل ألف ومائتا أوقية وقيل اثنا عشر ألف أوقية وقيل ألف ومائتا دينار وكل هذه رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ) الأول رواه أبيّ وقال به معاذ وابن عمر وعاصم بن أبي النجود والحسن في رواية والثاني رواه أبو هريرة وقال به والثالث رواه الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس
وقيل اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار ذهباً وروي عن ابن عباس وعن الحسن والضحاك
وقال ابن المسيب ثمانون ألفاً وقال مجاهد وروي عن ابن عمر سبعون ألف دينار وقال السدي ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل وقال الكلبي ألف مثقال ذهب أو فضة وقال قتادة مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة وقال سعيد بن جبير وعكرمة مائة ألف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا وقيل أربعون أوقية من ذهب أو فضة ذكره مكي وقاله ابن سيده في ( المحكم ) وقيل ثمانية آلاف مثقال وهي مائة رطل وقال ابن سيده في ( المحكم ) القنطار بلغة بربر ألف مثقال وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ) في تفسير وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ قال ألف دينار وحكى الزجاج أنه قيل إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة قال ابن عطية وأظنه وهماً وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل انتهى وقال أبو حمزة الثمالي القنطار بلسان أفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول
وأما الآن فهو عندنا مائة رطل والرطل عندنا ستة عشر أوقية وقال أبو بصرة وأبو عبيدة ملء مسك ثور ذهباً قال ابن سيده وكذا هو بالسريانية وقال ابن الكلبي وكذا هو بلغة الروم وقال الربيع بن أنس المال الكثير بعضه على بعض وقال ابن كيسان المال العظيم وقال أبو عبيدة القنطار عند العرب وزن لا يحد وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال وقال ابن عطية القنطار معيار يوزن به كما أن الرطل معيار
ويقال لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً أي يعدل القنطار وأصح الأقوال الأول والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية انتهى
والمقنطرة مفعللة أو مفيعلة من القنطار ومعناه المجتمعة كما يقول الألوف المؤلفة والبدرة المبدرة اشتقوا منها وصفاً للتوكيد وقيل المقنطرة المضعفة قاله قتادة والطبري
وقيل المقنطرة تسعة قناطير لأنه جمع جمع قاله النقاش وهذا غير صحيح وقال ابن كيسان لا تكون المقنطرة أقل من تسعة وقال الفراء لا تكون أكثر من تسعة وهذا كله تحكم وقال السدي المقنطرة المضروبة دنانير أو دراهم وقال الربيع والضحاك المنضد الذي بعضه فوق بعض وقيل المخزونة المدخورة وقال يمان المدفونة المكنوزة وقيل الحاضرة العتيدة قاله ابن عطية
وقال مروان بن الحكم ما المال إلاَّ ما حازته العيان مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تبيين للقناطير وهو في موضع الحال منها أي كائناً من الذهب وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي الراعية في المروج سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر على حال دون حال فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف كما عدى بالهمزة في قولهم أسمتها قاله ابن عباس وابن جبير والحسن وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ومجاهد والربيع وروي عن مجاهد أنها المطهمة الحسان وقال السدي هي الرائقة من سيما الحسن وقال عكرمة سومها الحسن واختاره النحاس
من قولهم رجل وسيم ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين إلاَّ إن ادعى القلب وقال أبو عبيدة والكسائي المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس وهو من السومة وهي العلامة قال أبو طالب أمين محب للعباد مسوّم
بخاتم ربّ طاهر للخواتم
قال أبو زيد أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى وقال ابن فارس في ( المجمل ) المسومة هي المرسل عليها ركبانها وقال ابن زيد المعدّة للجهاد وقال ابن المبرد المعروفة في البلدان وقال ابن كيسان البلق وقيل ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل وقيل هي الهماليج
وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله والقناطير إلى آخرها غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات أي وحب القناطير وكذا وكذا ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله من النساء فيكون مندرجاً في الشهودات ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل وقيل يراد به المفعول وتقدّم الكلام فيه عند قوله وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ
ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا أشار بذلك وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة لأنه أراد ذلك المذكور أو المتقدم ذكره والمعنى تحقير أمر الدنيا والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء والحرث في ذال ذلك واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ أي المرجع وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع
ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة فالنساء والبنون فيهم النفقة وباقيها فيها الصدقة قاله الماتريدي
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة والبلاغة الخطاب العام ويراد به الخاص في قوله لِلَّذِينَ كَفَرُواْ على قول عامّة المفسرين هم اليهود وهذا من تلوين الخطاب والتجنيس المغاير في تَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ والاحتراس في رَأْىَ الْعَيْنِ قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب فهو من باب الحزر وغلبة الظن والإبهام في زُيّنَ لِلنَّاسِ والتجنيس المماثل في وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ والحذف في مواضع وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
الرضوان : مصدر رضي ، وكسر رائه لغة الحجاز ، وضمها لغة تميم وبكر ، وقيس ، وغيلان.
وقيل : الكسر للاسم ، ومنه : رِضوان خازن الجنة ، والضم للمصدر.
السحر : بفتح الحاء وسكونها ، قال قوم منهم الزجاج : الوقت قبل طلوع الفجر ، ومنه يقال : تسحر أكل في ذلك الوقت ، واستحر : سار فيه قال.
بكرن بكوراً واستحرت بسحرة . . .
فهنّ لوادي الرس كاليد للفم
واستحر الطائر صاح وتحرك فيه قال :
يعل به برد أنيابها . . .
اذا غرّد الطائر المستحر
وأسحر الرجل واستحر ، دخل في السحر قال :
وأدلج من طيبة مسرعاً . . .
فجاء إلينا وقد أسحرا
وقال بعض اللغويين السحر : من ثلث الليل الآخر إلى الفجر ، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر.
وقيل : السحر عند العرب يكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الاسفار.
وأصل السحر الخفاء للطفه ، ومنه السحر والسحر.
{ قل أؤنبئكم بخير من ذلك } نزلت حين قال عمر عندما نزل : { زين للناس } يا رب الآن حين زينتها.
ولما ذكر تعالى أن { عنده حسن المآب } ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا ، لأنه خير خال من شوب المضار ، وباق لا ينقطع.
والهمزة في : أؤنبئكم ، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة.
وقرىء في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير ادخال ألف بينهما ، وبتحقيقهما ، وادخال ألف بينهما ، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما.
ونقل ورش الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة.
وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما.
وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا ، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولما قال : ذلك متاع ، فأفرد ، جاء : بخير من ذلكم ، فأفرد اسم الإشارة ، وإن كان هناك مشاراً به إلى ما تقدّم ذكره ، وهو كثير.
فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك ، و : خير ، هنا أفعل التفضيل ، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور ، ويكون : من ذلكم ، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضاً مما هدوا فيه.
{ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } يحتمل أن يكون للذين متعلقاً بقوله : بخير من ذلكم ، و : جنات ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو جنات ، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله : بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب : جنات ، بالجر بدلاً من : بخير ، كما تقول : مررت برجل زيد ، بالرفع و : زيد بالجر ، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون : جنات ، منصوباً على إضمار : أعني ، ومنصوباً على البدل على موضع بخير ، لأنه نصب.
ويحتمل أن يكون : للذين ، خبرا لجنات ، على أن تكون مرتفعة على الابتداء ، ويكون الكلام تم عند قوله : بخير من ذلكم ، ثم بين ذلك الخير لمن هو ، فعلى هذا العامل في : عند ربهم ، العامل في : للذين ، وعلى القول الأول العامل فيه قوله : بخير.
{ خالدين فيها وأزواج مطهرة } تقدّم تفسير هذا وما قبله.
{ ورضوان من الله } بدأ أولاً بذكر المقر ، وهو الجنات التي قال فيها { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } « فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة ، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني ، حيث علم برضا الله عنه ، كما جاء في الحديث أنه تعالى : « يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا »
ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه ، ولذلك جاء في سورة براءة ، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال : { ورضوان من الله أكبر } يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن.
وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى.
وقال أبو بكر : ورضوان ، بالضم حيث وقع إلاَّ في ثاني العقود ، فعنه خلاف.
وباقي السبعة بالكسر ، وقد ذكرنا أنهما لغتان.
{ والله بصير بالعباد } أي بصير بأعمالهم ، مطلع عليها ، فيجازي كلاً بعمله ، فتضمنت الوعد والوعيد.
ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا.
{ الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئاً من صفاتهم ، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى ، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان ، وأكد الجملة ب : إن مبالغة في الإخبار ، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتباً ذلك على مجرد الإيمان ، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة ، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات ، كما يذهب إليه بعضهم ، لأن من تاب وأطاع الله لا يدخله النار بوعده الصادق ، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي ، ونظيرها ، { ربنا إننا سمعنا منادياً } الآية ، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات.
وقال الماتريدي : مدحهم تعالى بهذا القول ، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان ، والله تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات ، كما قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } فلو كان الإيمان إسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان ، كما لم يرضها بسائر الطاعات ، فالآية حجة من جعل الطاعات من الإيمان ، وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيمان باطل ، لأنه رضيه منهم دون استثناء. انتهى.
قيل : ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاسثنتاء ، لأن قولهم : آمنا ، هو اعتراف بما أمروا به ، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم ، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء ، لا فيما هو متصف به ، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه ، فإن ذلك محال عقلاً.
وأعرب : الذين يقولون ، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب ، ويكون ذلك من توابع : { الذين اتقوا } أو من توابع : العباد ، والأول أظهر.
{ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار } لما ذكر الإيمان بالقول ، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف ، فصبروا على أداء الطاعة ، وعن اجتناب المحارم ، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان ، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم : { ربنا إننا آمنا } وفي جميع ما يخبرون.
وقيل : هم الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية ، وهذا راجع للقول الذي قبله ، ثم بوصف القنوت ، وتقدم تفسيره في قوله : { كل له قانتون } فأغنى عن إعادته ، ثم بوصف الإنفاق ، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى ، فأبى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره ، وهو الإنفاق ، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها ، فالمعنى : الصابرين على تكاليف ربهم ، والصادقين في أقوالهم ، والقانتين لربهم ، والمنفقين أموالهم في طاعته ، والمستغفرين الله لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى ، أخبر أيضاً عنهم ، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة ، هم مستغفرون بالأسحار ، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة ، وخص السحر بالذكر ، وإن كانوا مستغفرين دائماً ، لأنه مظنة الإجابة ، كما صح في الحديث : « أنه تعالى ، تنزه عن سمات الحدوث ، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر » وكانت الصحابة : ابن مسعود ، وابن عمر ، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها ، وكان السحر مستحباً فيه الإستغفار لأن العبادة فيه أشق ، ألا تراهم يقولون : إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم؟! ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى ، والبدن أقل تعباً ، والذهن أرق وأحد ، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه ، وترك فكره بانغماره في وارد النوم.
وقال الزمخشري : إنهم كانوا يقدمون قيام الليل ، فيحسن طلب الحاجة فيه { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } انتهى.
ومعناه ، عن الحسن وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم : المؤمنون ، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة ، إذ ليست في معنى واحد ، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت.
وقال الزمخشري : والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها.
انتهى ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال.
قال المفسرون في الصابرين : صبروا عن المعاصي.
وقيل : عن المصائب.
وقيل : ثبتوا على العهد الأول.
وقيل : هم الصائمون.
وقالوا في الصادقين : في الأقوال.
وقيل : في القول والفعل والنية.
وقيل : في السر والعلانية.
وقالوا في القانتين : الحافظين للغيب.
وقال الزجاج : القائمين على العبادة.
وقيل : القائمين بالحق.
وقيل : الداعين المتضرعين.
وقيل : الخاشعين.
وقيل : المصلين.
وقالوا في المنفقين : المخرجين المال على وجه مشروع.
وقيل : في الجهاد.
وقيل : في جميع أنواع البر.
وقال ابن قتيبة : في الصدقات.
وقالوا في المستغفرين : السائلين المغفرة ، قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وابن عمر ، وأنس ، وقتادة السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشغال ، وقال قتادة أيضاً : المصلين بالأسحار.
وقال زيد بن أسلم : المصلين الصبح في جماعة.
وهذا الذي فسروه كله متقارب.
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط }.
« سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة ، فقال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان ، ثم عرفا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعت ، فقالا : أنت محمد؟ قال : » نعم «.
فقالا : أنت أحمد؟ فقال : » نعم «.
فقالا : نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا.
فقال : » سلاني « فقال أحدهما : أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله ، فنزلت وأسلما.
» وقال ابن جبير : كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فلما نزلت هذه الآية خرت سجدا.
وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى.
وقيل : في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية.
وقيل : إنهم قالوا : ديننا أفضل من دينك ، فنزلت.
وأصل : شهد ، حضر ، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس ، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره.
فقيل : معنى : شهد ، هنا : أعلم.
قاله المفضل وغيره ، وقال الفرّاء ، وأبو عبيدة : قضى ، وقال مجاهد : حكم ، وقيل : بين.
وقال ابن كيسان : شهد بإظهار صنعه.
وفي كل شيء له آية . . .
تدل على أنه الواحد
قال الزمخشري : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص ، وآية الكرسي وغيرهما.
بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك ، واحتجاجهم عليه. انتهى.
وهو حسن.
وقال المروزي : ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده ، كقوله : { قل الأنفال لله والرسول } انتهى.
ومشاركة الملائكة وأولي العلم لله تعالى في الشهادة من حيث عطفا عليه لصحة نسبة الإعلام ، أو صحة نسبة الإظهار والبيان ، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل ، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل ، والرسل لأولي العلم.
وقال الواحدي : شهادة الله بيانه وإظهاره ، والشاهد هو العالم الذي بيّن ما علمه ، والله تعالى بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق ، وشهادة الملائكة بمعنى الإقرار كقوله :
{ قالوا شهدنا على أنفسنا } أي : أقررنا.
فنسق شهادة الملائكة على شهادة الله ، وإن اختلفت معنىً ، لتماثلهما لفظاً.
كقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } لأنها من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار والداعاء وشهادة أولي العلم ويحتمل الإقرار ويحتمل التبيين ، لأنهم أقرّوا وبينوا. انتهى.
وقال المؤرج : شهد الله ، بمعنى : قال الله ، بلغة قيس بن غيلان.
و { أولوا العلم } قيل : هم الأنبياء.
وقيل : مؤمنو أهل الكتاب.
وقيل : المهاجرون والأنصار.
وقيل : علماء المؤمنين.
وقال الحسن : المؤمنون.
والمراد بأولي العلم : من كان من البشر عالماً ، لأنهم ينقسمون إلى : عالم وجاهل ، بخلاف الملائكة.
فإنهم في العلم سواء.
و { أنه لا إله إلا هو } : مفعول : شهد ، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف ، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول ، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين ، بحيث لا ينسقان متجاورين.
وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى ، وعلمهم كله ضروري ، بخلاف البشر ، فإن علمهم ضروري وإكتسابي.
وقرأ أبو الشعثاء : شهد ، بضم الشين مبنياً للمفعول ، فيكون : أنه ، في موضع البدل أي : شهد وحدانية الله وألوهيته.
وارتفاع : الملائكة ، على هذه القراءة على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والملائكة وأولو العلم يشهدون.
وحذف الخبر لدلال المعنى عليه ، ويحتمل أن يكون فاعلاً بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه ، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنياً للفاعل ، والتقدير : وشهد بذلك الملائكة وأولو العلم.
وقرأ أبو المهلب ، عم محارب بن دثار : شهداء الله ، على وزن : فعلاء ، جمعاً منصوباً.
قال ابن جني : على الحال من الضمير في المستغفرين.
وقيل : نصب على المدح ، وهو جمع شهداء ، وجمع شاهد : كظرفاء وعلماء.
وروي عنه ، وعن أبي نهيك : شهداء الله ، بالرفع أي : هم شهداء الله.
وفي القراءتين : شهداء ، مضاف إلى اسم الله.
وروي عن أبي المهلب : شهد بضم الشين والهاء ، جمع : شهيد ، كنذير ونذر ، وهو منصوب على الحال ، واسم الله منصوب.
وذكر النقاش : أنه قرىء كذلك بضم الدال وبفتحها مضافاً لاسم الله في القراءتين.
وذكر الزمخشري ، أنه قرىء : شهداء لله ، برفع الهمزة ونصبها ، وبلام الجر داخلة على اسم الله ، فوجه النصب على الحال من المذكورين ، والرفع على إضمارهم ، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفاً على الضمير المستكن في شهداء ، وأجاز ذلك لوقوع الفاصل بينهما.
وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية ، وإما على الابتداء.
وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه بإدغام : واو ، وهو في : واو ، والملائكة.
وقرأ ابن عباس : { أنه لا إله إلاَّ هو } بكسر الهمزة في : أنه ، وخرج ذلك على أنه أجرى : شهد ، مجرى : قال ، لأن الشهادة في معنى القول ، فلذلك كسر إن ، أو على أن معمول : شهد ، هو { ان الدين عند الله الإسلام }
ويكون قوله : { أنه لا إله إلاَّ هو } جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف ، إذ فيها تسديد لمعنى الكلام وتقوية ، هكذا خرجوه والضمير في : أنه ، يحتمل أن يكون عائداً على : الله ، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله { شهد الله أن لا إله إلا هو } ففي هذه القراءة يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن ، لأنها إذا خففت لم تعمل في غيره إلاَّ ضرورة ، وإذا عملت فيه لزم حذفه.
قالوا : وانتصب : { قائماً بالقسط } على الحال من اسم الله تعالى ، أو من : هو ، أو من الجميع ، على اعتبار كل واحد واحد ، أو على المدح ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو.
أو : على القطع ، لأن أصله : القائم ، وكذا قرأ ابن مسعود ، فيكون كقوله : { وله الدين واصباً } أي الواصب.
وقرأ أبو حنيفة : قيما ، وانتصابه على ما ذكر.
وذكر السجاوندي : أن قراءة عبد الله : قائم ، فأما انتصابه على الحال من اسم الله فعامها شهد ، إذ هو العامل في الحال ، وهي في هذا الوجه حال لازمة ، لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى.
وقال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه ، أي : من الله ، كقوله { وهو الحق مصدقاً } انتهى.
وليس من الحال المؤكدة ، لأنه ليس من باب : { ويوم يبعث حياً } ولا من باب : أنا عبد الله شجاعاً.
فليس { قائماً بالقسط } بمعنى : شهد ، وليس مؤكداً مضمون الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعاً ، وهو زيد شجاعاً.
لكن في هذا التخريج قلق في التركيب ، إذ يصير كقولك : أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعاً.
فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف ، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد ، وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو : هو ، فجوّزه الزمخشري وابن عطية.
قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعلته حالاً من فاعل : شهد ، فهل يصح أن ينتصب حالاً من : هو ، في : { لا إله إلاَّ هو } ؟
قلت : نعم! لأنها حال مؤكدة ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها ، كقوله : أنا عبد الله شجاعاً. انتهى.
ويعني.
أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة قبلها ، وإنما ينتصب بعامل مضمر تقديره : أحق ، أو نحوه مضمراً بعد الجملة ، وهذا قول الجمهور.
والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم ، أو شبيه بالملازم ، فإن كان المتكلم بالجملة مخبراً عن نفسه ، فيقدر الفعل : أحق ، مبنياً للمفعول ، نحو : أنا عبد الله شجاعاً ، أي : أحق شجاعاً.
وإن كان مخبراً عن غيره نحو : هو زيد شجاعاً ، فتقديره : أحقه شجاعاً.
وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى ، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه.