كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
وقرأ العجاج ورؤبة ابنه : آجوج بهمزة بدل الياء.
وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها.
وقال سعيد بن عبد العزيز : إفسادهم أكل بني آدم.
وقيل : هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر.
وقيل : كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه ، ولا يابساً إلاّ احتملوه ، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلٌّ قد حمل السلاح.
{ فهل نجعل لك خرجاً } استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسن الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر { هل أتبعك على أن تعلمني } وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجاً بألف هنا ، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها.
وقرأ باقي السبعة { خرجاً } فيهما بسكون الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال ، والمعنى جعلا نخرجه من أموالنا ، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج.
وقيل : الخرج المصدر أطلق على الخراج ، والخراج الاسم لما يخرج.
وقال ابن الأعرابي : الخرج على الرؤوس يقال : أدّ خرج رأسك ، والخراج على الأرض.
وقال ثعلب : الخرج أخص والخراج أعم.
وقيل : الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد.
وقال ابن عباس { خرجاً } أجراً.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر { سداً } بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها { قال ما مكني فيه ربي خير } أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم { فأعينوني بقوة } أي بما أتقوّى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء؛ قاله مقاتل وبالآلات؛ قاله الكلبي { ردماً } حاجزاً حصيناً موثقاً.
وقرأ ابن كثير وحميد : ما مكنني بنونين متحركتين ، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية.
ثم فسر الإعانة بالقوة فقال { آتوني زبر الحديد } أي أعطوني.
قال ابن عطية : إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج ، فلم يبق إلاّ استدعاء المناولة انتهى.
وقرأ الجمهور { آتوني }.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني.
وانتصب { زبر } بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر { الحديد }.
وقرأ الجمهور { زبر } بفتح الباء والحسن بضمها ، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برصّ بعضها فوق بعض { حتى إذا ساوى }.
وقرأ الجمهور { ساوى } وقتادة سوّى ، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سُووي مبنياً للمفعول.
وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب ، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً.
وقيل : طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون.
وفي الحديث " أن رجلاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فقال : «كيف رأيته»؟ فقال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال : «قد رأيته» ".
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن { الصدفين } بضم الصاد والدال ، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلاّ أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما ، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال ، ورويت عن قتادة.
وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال.
وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال { حتى إذا جعله ناراً } في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى.
وقرأ الجمهور قال { آتوني } أي أعطوني.
وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال : ائتوني أي جيئوني و { قطراً } منصوب بأفرغ على إعمال الثاني ، ومفعول { آتوني } محذوف لدلالة الثاني عليه.
{ فما اسطاعوا } أي يأجوج ومأجوج { أن يظهروه } أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه وامّلاسه ، ولا أن ينقبوه لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلاّ بأحد هذين : إما ارتقاء وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك.
وقرأ الجمهور { فما اسطاعوا } بحذف التاء تخفيفاً لقربها من الطاء.
وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده.
وقال أبو عليّ هي غير جائزة.
وقرأ الأعشى عن أبي بكر : فما اصطاعوا بالإبدال من السين صاداً لأجل الطاء.
وقرأ الأعمش : فما استطاعوا بالتاء من غير حذف.
{ قال : هذا رحمة من ربي } أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به.
وقال الزمخشري : إشارة إلى السد أي { هذا } السد نعمة من الله و { رحمة } على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته.
قيل : وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم { قال : هذا رحمة من ربي }.
وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة.
والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة ، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج.
وقال الزمخشري : فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي مدكوكاً منبسطاً مستوياً بالأرض ، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك انتهى.
وقرأ الكوفيون : { دكاء } بالمدّ ممنوع الصرف وباقي السبعة دكاً منونة مصدر دككته ، والظاهر أن { جعله } بمعنى صيره فدك مفعول ثان.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى.
وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى ، ووعد بمعنى موعود لا مصدر.
والمعنى { فإذا جاء } موعود { ربي } لا يريد المصدر لأن المصدر قد سبق و { تركنا } هذا الضمير لله تعالى والأظهر أن الضمير في { بعضهم } عائد على يأجوج ومأجوج ، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض.
وقيل : الضمير في { بعضهم } يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله { ونفخ في الصور } فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة ، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام.
و { جمعاً } مصدر كموعد { وعرضنا } أي أبرزنا { جهنم يومئذ } أي يوم إذ جمعناهم.
وقيل : اللام بمعنى على كقوله :
فخر صريعاً لليدين وللفم . . .
وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب.
والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم { عرضاً } وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين.
و { الذين كانت أعينهم } صفة ذم في { غطاءٍ } استعار الغطاء لأعينهم ، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر إليها فيعتبر بها ، واذكر بالتعظيم وهذا على حذف مضاف أي عن آيات { ذكري }.
وقيل { عن ذكري } عن القرآن وتأمل معانيه ، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة ، وهم وإن كانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع { أفحسب الذين كفروا } هم من عبد الملائكة وعزيراً والمسيح واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى ، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء ، ولا يجدون عندهم منتفعاً ويظهر أن في الكلام حذفاً والتقدير { أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ.
وقيل : العباد هنا الشياطين.
روي عن ابن عباس وقال مقاتل : الأصنام لأنها خلقه وملكه ، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف.
وحسب هنا بمعنى ظن وبه قرأ عبد الله أفظن.
وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما وابن محيصن وأبو حيوة والشافعي ومسعود بن صاح { أفحسب } بإسكان السين وضم الباء مضافاً إلى { الذين } أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى عرضهم ، والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا.
وقال أبو الفضل الرازي قال سهل : يعني أبا حاتم معناه : أفحسبهم وحظهم إلاّ أن { أفحسب } أبلغ في الذم لأنه جعله غاية مرادهم انتهى.
وارتفع حسب على الابتداء والخبر { أن يتخذوا }.
وقال الزمخشري : أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك : أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى.
والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسباً ليس باسم فاعل فتعمل ، ولا يلزم من تفسير شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه ، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع.
ثم قال : وذلك مررت برجل خير منه أبوه ، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر ، ومررت برجل أب له صاحبه ، ومررت برجل حسبك من رجل ، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى.
ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة.
{ إنّا أعتدنا } أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضاً ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام ، والنزل هنا يحتمل التفسيرين وكونه موضع النزول قاله الزجاج هنا ، وما هيىء من الطعام للنزيل قول القتبي.
وقيل : جمع نازل ونصبه على الحال نحو شارف وشرف ، فإن كان ما تقدم للضيف وللقادم فيكون كقوله : { فبشرهم بعذاب أليم } وكقول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه { نزلاً } بسكون الزاي.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
أي { قل } يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم { أولئك الذين كفروا } والأخسرون أعمالاً عن عليّ هم الرهبان كقوله { عاملة ناصبة } وعن مجاهد : هم أهل الكتاب.
وقيل : هم الصابئون.
وسأل ابن الكواء علياً عنهم فقال : منهم أهل حروراء.
وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالاً هم كل من دان بدين غير الإسلام ، أو راءى بعمله ، أو أقام على بدعة تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار.
وانتصب { أعمالاً } على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و { الذين } يصح رفعه على أنه خبر مبتدإِ محذوف ، أي هم { الذين } وكأنه جواب عن سؤال ، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على الوصف أو البدل { ضل سعيهم } أي هلك وبطل وذهب و { يحسبون } و { يحسنون } من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين.
ومنه قول أبي عبادة البحتري :
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى . . .
ليعجز والمعتز بالله طالبه
ومن غريب هذا النوع من التجنيس.
قال الشاعر :
سقينني ربي وغنينني . . .
بحت بحبي حين بنّ الخرد
صحف بقوله سقيتني ربي وغنيتني بحب يحيى حين بن الجرد.
وقرأ ابن عباس وأبو السمال { فحبطت } بفتح الباء والجمهور بكسرها.
وقرأ الجمهور { فلا نقيم } بالنون { وزناً } بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله { بآيات ربهم } وعن عبيد أيضاً يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً.
وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم : فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به.
واحتمل قوله { فلا نقيم } إلاّ به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ، ومن لا حسنة له فهو في النار.
واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ.
وفي الحديث : « يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة » ثم قرأ { فلا نقيم } الآية.
وفي الحديث أيضاً : « يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً ».
{ ذلك جزاؤهم } مبتدأ وخبر و { جهنم } بدل و { ذلك } إشارة إلى ترك إقامة الوزن ، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفرداً إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون { جزاؤهم جهنم } مبتدأ وخبراً.
وقال أبو البقاء : { ذلك } أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون { ذلك } مبتدأ و { جزاؤهم } مبتدأ ثان و { جهنم } خبره.
والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى.
ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال : ويجوز أن يكون { ذلك } مبتدأ و { جزاؤهم } بدل أو عطف بيان و { جهنم } الخبر.
ويجوز أن يكون { جهنم } بدلاً من جزاء أو خبر لابتداء محذوف ، أي هو جهنم و { بما كفروا } خبر ذلك ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و { اتخذوا } يجوز أن يكون معطوفاً على { كفروا } وأن يكون مستأنفاً انتهى.
والآيات هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
الفردوس قال الفراء : البستان الذي فيه الكرم.
وقال ثعلب : كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس.
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }.
لما ذكر تعالى ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح { جنات الفردوس } أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما ، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما.
وفي حديث عبادة { الفردوس } أعلاها يعني أعلا الجنة.
قال قتادة وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة.
وقال أبو هريرة جبل تتفجر منه أنهار الجنة.
وفي حديث أبي أمامة { الفردوس } سرة الجنة.
وقال مجاهد { الفردوس } البستان بالرومية.
وقال كعب والضحاك { جنات الفردوس } الأعناب.
وقال عبيد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار.
وقال المبرد : { الفردوس } فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب.
وحكى الزجّاج أنه الأودية التي تنبت ضروباً من النبت ، وهل هو عربي أو أعجمي قولان؟ وإذا قلنا أعجمي فهل هو فارسي أو رومي أو سرياني؟ أقوال.
وقال حسان :
وإن ثواب الله كل موحد . . .
جنان من الفردوس فيها يخلد
قيل : ولم يسمع بالفردوس في كلام العرب إلاّ في هذا البيت بيت حسان ، وهذا لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة . . .
فيها الفراديس ثم الثوم والبصل
الفراديس جمع فردوس.
والظاهر أن معنى { جنات الفردوس } بساتين حول الفردوس ولذلك أضاف الجنات إليه.
ويقال : كرم مفردس أي معرش ، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوساً لاجتماع نخلها وتعريشها على أرضها.
وفي دمشق باب الفراديس يخرج منه إلى البساتين.
و { نزلاً } يحتمل من التأويل ما احتمل قوله { نزلاً } المتقدم.
ومعنى { حولاً } أي محولاً إلى غيرها.
قال ابن عيسى : هو مصدر كالعوج والصغر.
قال الزمخشري : يقال حال عن مكانه حولاً كقوله :
عادني حبها عوداً . . .
يعني لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم ، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه ، ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود انتهى.
وقال ابن عطية : والحول بمعنى التحول.
قال مجاهد متحولاً.
وقال الشاعر :
لكل دولة أجل . . .
ثم يتاح لها حول
وكأنه اسم جمع وكان واحده حوالة وفي هذا نظر.
وقال الزجّاج عن قوم : هي بمعنى الحيلة في التنقل وهذا ضعيف متكلف.
{ قل لو كان البحر }.
قيل سبب نزولها أن اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها ، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ فنزلت معلمة باتساع معلومات الله وأنها غير متناهية وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر ، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله { قل لو كان البحر }.
وقيل قال حيي بن أخطب في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } ثم تقروؤن { وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً } فنزلت يعني إن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله { قل لو كان البحر } أي ماء البحر { مداداً } وهو ما يمد به الدواة من الحبر ، وما يمد به السراج من السليط.
ويقال : السماء مداد الأرض { لكلمات ربي } أي معد الكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته ، وكتب بذلك المداد { لنفد البحر } أي فني ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة ، وليس ببدع أن أجهل شيئاً من معلوماته و { إنما أنا بشر مثلكم } لم أعلم إلاّ ما أُوحي إلي به وأعلمت.
وقرأ الجمهور { مداداً لكلمات ربي }.
وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش ومجاهد والأعرج والحسن والمنقري عن أبي عمرو مدداً لكلمات ربي.
وقرأ الجمهور { تنفد } بالتاء من فوق.
وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى بالياء.
وقرأ السلمي { أن تنفد } بالتشديد على تفعل على المضي ، وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع من نفد مشدداً نحو كسرته فتكسر.
وفي قراءة الجماعة مطاوع لأنفد وجواب لو محذوف لدلالة المعنى عليه تقديره لنفد.
وقرأ الجمهور بمثله مدداً بفتح الميم والدال بغير ألف ، والأعرج بكسر الميم.
وأنتصب { مدداً } على التمييز عن مثل كقوله :
فإن الهوى يكفيكه مثله صبراً . . .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية ، وأبو عمرو في رواية وحفص في رواية بمثله مداداً بألف بين الدالين وكسر الميم.
قال أبو الفضل الرازي : ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمداداً ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتاً.
وفي قوله { بشر مثلكم } إعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدّعي إني ملك { يوحى إليّ } أي عليّ إنما هو مستند إلى وحي ربي ، ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفاراً بعبادة الأصنام ، ثم حض على ما فيه النجاة و { يرجو } بمعنى يطمع و { لقاء ربه } على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه.
وقيل { يرجو } أي يخاف سوء { لقاء ربه } أي لقاء جزاء ربه ، وحمل الرجاء على بابه أجود لبسط النفس إلى إحسان الله تعالى.
ونهى عن الإشراك بعبادة الله تعالى.
وقال ابن جبير : لا يرائي في عمله فلا يبتغي إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره.
قيل " نزلت في جندب بن ز هير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال : «إن الله لا يقبل ما شورك فيه» " وروي أنه قال : " لك أجران أجر السر وأجر العلانية " وذلك إذا قصد أن يقتدى به.
وقال معاوية بن أبي سفيان : هذه آخر آية نزلت من القرآن.
وقرأ الجمهور { ولا يشرك } بياء الغائب كالأمر في قوله { فليعمل }.
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه : ولا تشرك بالتاء خطاباً للسامع والتفاتاً من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب ، وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله بربه ، ولم يأت التركيب بربك إيذاناً بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من في قوله { فمن كان يرجو }.
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها.
وقال مقاتل : إلاّ آية السجدة فهي مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة قبلها قصصاً عجباً كقصة أهل الكهف ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة ذي القرنين ، وهذه السورة تضمنت قصصاً عجباً من ولادة يحيى بين شيخ فانٍ وعجوز عاقر ، وولادة عيسى من غير أب ، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك ، وتقدم الكلام في أول البقرة على هذه الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك و { ذكر } خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو من هذا القرآن { ذكر }.
وقيل { ذكر } خبر لقوله { كهيعص } وهو مبتدأ ذكره الفرّاء.
قيل : وفيه بُعد لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة ، ولا في ذكر الرحمة معناها.
وقيل : { ذكر } مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى { ذكر }.
وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء.
وروي عن الحسن ضمها ، وأمال نافع هاء وياء بين اللفظين ، وأظهر دال صاد عند ذاك.
{ ذكر } وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضاً ضم الياء وكسر الهاء ، وعن عاصم ضم الياء وعنه كسرهما وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء.
قال أبو عمرو الداني : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب.
وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح في شواذ القراءات خارجة عن الحسن : كاف بضم الكاف ، ونصر بن عاصم عنه بضم الهاء وهارون بن موسى العتكي عن إسماعيل عنه بالضم ، وهذه الثلاث مترجم عليها بالضم ولسن مضمومات المحال في الحقيقة لأنهن لو كنّ كذلك لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل نحيت هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز ، وهي التي تسمى ألف التفخيم بضد الألف الممالة فأشبهت الفتحات التي تولدت منهن الضمات ، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسرة بكسرة لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى.
وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض فرقاً بينها وبين ما ائتلف من الحروف ، فيصير أجزاء الكلم فاقتضين إسكان آخرهن ، وأظهر الأكثرون دال صاد عند ذال { ذكر } وأدغمها أبو عمرو.
وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين والجمهور على إخفائها.
وقرأ الحسن وابن يعمر { ذكر } فعلاً ماضياً { رحمة } بالنصب ، وحكاه أبو الفتح وذكره الزمخشري عن الحسن أي هذا المتلو من القرآن { ذكر رحمة ربك } وذكر الداني عن ابن يعمر { ذكر } فعل أمر من التذكير { رحمة } بالنصب و { عبده } نصب بالرحمة أي { ذكر } أن { رحمة ربك عبده }.
وذكر صاحب اللوامح أن { ذكر } بالتشديد ماضياً عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر ، ومعناه أن المتلو أي القرآن { ذكر برحمة ربك } فلما نزع الباء انتصب ، ويجوز أن يكون معناه أن القرآن ذكر الناس تذكيراً أن رحم الله عبده فيكون المصدر عاملاً في { عبده زكريا } لأنه ذكرهم بما نسوه من رحمة الله فتجدد عليهم بالقرآن ونزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون { ذكر } على المضي مسنداً إلى الله سبحانه.
وقرأ الكلبي { ذكر } على المضي خفيفاً من الذكر { رحمة ربك } بنصب التاء { عبده } بالرفع بإسناد الفعل إليه.
وقال ابن خالويه : { ذكر رحمة ربك عبده } يحيى بن يعمر و { ذكر } على الأمر عنه أيضاً انتهى.
و { إذ } ظرف العامل فيه قال الحوفي : { ذكر } وقال أبو البقاء : و { إذ } ظرف لرحمة أو لذكر انتهى.
ووصف نداء بالخفي.
قال ابن جريج : لئلا يخالطه رياء.
مقاتل : لئلا يعاب بطلب الولد في الكبر.
قتادة : لأن السر والعلانية عنده تعالى سواء.
وقيل : أسره من مواليه الذين خافهم.
وقيل : لأنه أمر دنياوي فأخفاه لأنه إن أجيب فذاك بغيته ، وإلاّ فلا يعرف ذلك أحد.
وقيل : لأنه كان في جوف الليل.
وقيل : لإخلاصه فيه فلا يعلمه إلاّ الله.
وقيل : لضعف صوته بسبب كبره ، كما قيل : الشيخ صوته خفات وسمعه تارات.
وقيل : لأن الإخفاء سنة الأنبياء والجهر به يعد من الاعتداء.
وفي التنزيل { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين } وفي الحديث : « إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ».
{ قال رب إني وهن العظم مني } هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه.
وقرأ الجمهور : { وهن } بفتح الهاء.
وقرأ الأعمش بكسرها.
وقرىء بضمها لغات ثلاث ، ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ووحد { العظم } لأنه يدل على الجنس ، وقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام ، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان قصداً آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.
وقال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس.
قال الكرماني : وكان له سبعون سنة.
وقيل : خمس وسبعون.
وقيل : خمس وثمانون.
وقيل : ستون.
وقيل : خمس وستون.
وشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكرياء فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة قاله الزمخشري ، وإلى هذا نظر ابن دريد.
فقال :
واشتعل المبيض في مسوده . . .
مثل اشتعال النار في جزل الغضا
وبعضهم أعرب { شيباً } مصدراً قال : لأن معنى { واشتعل الرأس } شاب فهو مصدر من المعنى.
وقيل : هو مصدر في موضع نصب على الحال ، واشتعال الرأس استعارة المحسوس للمحسوس إذ المستعار منه النار والمستعار له الشيب ، والجامع بينهما الانبساط والانتشار { ولم أكن } نفي فيما مضى أي ما كنت { بدعائك رب شقياً } بل كنت سعيداً موفقاً إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك ، فعلى هذا الكاف مفعول.
وقيل : المعنى { بدعائك } إلى الإيمان { شقياً } بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصاً.
فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول شكراً لله تعالى بما سلف إليه من إنعامه عليه ، أي قد أحسنت إليّ فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن تجيبني آخر كما أجبتني أولاً.
وروي أن حاتماً الطائي أتاه طالب حاجة فقال : أنا أحسنت إليك وقت كذا ، فقال حاتم : مرحباً بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
{ وإني خفت الموالي من ورائي } { الموالي } بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب.
قال الشاعر :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا . . .
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وقال لبيد :
ومولى قد دفعت الضيم عنه . . .
وقد أمسى بمنزلة المضيم
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح { الموالي } هنا الكلالة خاف أن يرثوا ماله وأن يرثه الكلالة.
وروى قتادة والحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه ممن يرث ماله » وقالت فرقة : إنما كان مواليه مهملين الدين فخاف بموته أن يضيع الدين فطلب ولياً يقوم بالدين بعده ، وهذا لا يصح عنه إذ قال عليه السلام : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة » والظاهر اللائق بزكريا عليه السلام من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا.
وكذلك قول من قال : إنما خاف أن تنقطع النبوّة من ولده ويرجع إلى عصبته لأن تلك إنما يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاءه واصطفاه من عباده.
قال الزمخشري كان مواليه وهم عصبته إخوته وبنو عمه شرار بني إسرائيل فخافهم على الدين أن يغيروه وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته ، فطلب عقباً صالحاً من صلبه يقتدى به في إحياء الدين.
وقرأ الجمهور { خفت } من الخوف.
وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعليّ بن الحسين وولده محمد وزيد وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لأبي عامر { خفت } بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث { الموالي } بسكون الياء والمعنى انقطع مواليّ وماتوا فإنما أطلب ولياً يقوم بالدين.
وقرأ الزهري { خفت } من الخوف { الموالي } بسكون التاء على قراءة { خفت } من الخوف يكون { من ورائي } أي بعد موتي.
وعلى قراءة { خفت } يحتمل أن يتعلق { من ورائي } بخفت وهو الظاهر ، فالمعنى أنهم خفوا قدامه أي درجوا فلم يبق منهم من له تقوّ واعتضاد ، وأن يتعلق بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين.
و { ورائي } بمعنى خلفي ومن بعدي ، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه.
وروي عن ابن كثير من وراي مقصوراً كعصاي.
وتقدم شرح العاقر في آل عمران وقوله { من لدنك } تأكيد لكونه ولياً مرضياً بكونه مضافاً إلى الله وصادراً من عنده ، أو أراد اختراعاً منك بلا سبب لأني وامرأتي لا نصلح للولادة.
والظاهر أنه طلب من الله تعالى أن يهبه ولياً ولم يصرح بأن يكون ولد البعد ذلك عنده لكبره وكون امرأته عاقراً.
وقيل : إنما سأل الولد.
وقرأ الجمهور : { يرثني ويرث } برفع الفعلين صفة للولي فإن كان طلب الولد فوصفه بأن تكون الإجابة في حياته حتى يرثه لئلا تكون الإجابة في الولد لكن يحرمه فلا يحصل ما قصده.
وقرأ النحويان والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني وابن محيصن وقتادة بجزمهما على جواب الأمر.
وقرأ عليّ وابن عباس والحسن وابن يعمر والجحدري وقتادة وأبو حرب بن أبي الأسود وجعفر بن محمد وأبو نهيك { يرثني } بالرفع والياء وارث جعلوه فعلاً مضارعاً من ورث.
قال صاحب اللوامح : وفيه تقديم فمعناه { فهب لي من لدنك ولياً } من آل يعقوب { يرثني } إن مت قبله أي نبوّتي وأرثه إن مات قبلي أي ماله ، وهذا معنى قول الحسن.
وقرأ عليّ وابن عباس والجحدري { يرثني } وارث { من آل يعقوب }.
قال أبو الفتح هذا هو التجريد التقدير { يرثني } منه وارث.
وقال الزمخشري وارث أي { يرثني } به وارث ويسمى التجريد في علم البيان ، والمراد بالإرث إرث العلم لأن الأنبياء لا تورث المال.
وقيل : { يرثني } الحبورة وكان حبراً ويرث { من آل يعقوب } الملك يقال : ورثته وورثت منه لغتان.
وقيل : { من } للتبعيض لا للتعدية لأن { آل يعقوب } ليسوا كلهم أنبياء ولا علماء.
وقرأ مجاهد أو يرث من آل يعقوب على التصغير ، وأصله وويرث فأبدلت الواو همزة على اللزوم لاجتماع الواوين وهو تصغير وارث أي غُلَيم صغير.
وعن الجحدري وارث بكسر الواو يعني به الإمالة المحضة لا الكسر الخالص ، والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم.
وقيل : هو يعقوب بن ماثان أخو زكرياء.
وقيل : يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود ومرضياً بمعنى مرضي.
{ يا زكريا } أي قيل له بإثر الدعاء.
وقيل : رزقه بعد أربعين سنة من دعائه.
وقيل : بعد ستين والمنادي والمبشر زكرياء هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى { فنادته الملائكة } الآية والغلام الولد الذكر ، وقد يقال للأثنى غلامة كما قال :
تهان لها الغلامة والغلام . . .
والظاهر أن { يحيى } ليس عربياً لأنه لم تكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فيكون مسمى بالفعل كيعمر ويعيش قد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ.
وعلى أنه عربي.
فقيل : سمي بذلك لأنه يحيى بالحكمة والعفة.
وقيل : يحيى بهدايته وإشاده خلق كثير.
وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء.
وقيل : لأنه يعمر زمناً طويلاً.
وقيل : لأنه حيي بين شيخ كبير وأمّ عاقر.
وقيل : لأنه حيي به عقر أمه وكانت لا تلد.
وقال ابن عباس وقتادة والسدّي وابن أسلم : لم نسم قبله أحداً بيحيى.
قال الزمخشري : وهذا شاهد على أن الأسامي الشنع جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النفر ، حتى قال القائل في مدح قوم :
شنع الأسامي مسبلي أزر . . .
حمر تمس الأرض بالهدب
وقال رؤبة للنسابة البكري : وقد سأله عن نسبه أنا ابن العجاج فقال : قصرت وعرفت انتهى.
وقيل للصلت بن عطاء : كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك ، فقال : كنت غريب الدار غريب الأسم خفيف الحزم شحيحاً بالاشلاء.
فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم إذ كان اسمه الصلت.
وقال مجاهد وغيره { سمياً } أي مثلاً ونظيراً وكأنه من المساماة والسموّ.
قال ابن عطية : وهذا فيه بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى.
وقال ابن عباس أيضاً لم تلد العواقر مثله.
قال الزمخشري : وإنما قيل للمثل سمّي لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير فكل واحد منهما سَمِي لصاحبه.
وقيل : لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصوراً انتهى.
و { أنّى } بمعنى كيف : وتقدم الكلام عليها في قوله { قال رب أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } في آل عمران والعتيّ المبالغة في الكبر.
ويبس العود.
وقرأ أبو بحرية وابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي { عتياً } بكسر العين وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين وصاد صلياً جعلهما مصدرين كالعجيج والرحيل ، وفي الضم هما كذلك إلاّ أنهما على فعول.
وعن عبد الله ومجاهد عسياً بضم العين والسين كمسورة.
وحكاها الداني عن ابن عباس وحكاها الزمخشري عن أُبيّ ومجاهد يقال عتا العود وعسا يبس وجسا.
{ قال : كذلك } أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ { قال ربك } فالكاف رفع أو نصب بقال ، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره { هو عليّ هين } ونحوه { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } وقرأ الحسن { وهو عليّ هين } ولا يخرج هذا إلاّ على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ، وهو عليّ ذلك يهون ، ووجه آخر وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله لا إلى قول زكرياء وقال : محذوف في كلتا القراءتين أي قال { هو عليّ هين } وإن شئت لم تنوه لأن الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ووعده وقوله الحق قاله الزمخشري : وقال ابن عطية وقوله { قال كذلك } قيل إن المعنى قال له الملك { كذلك } فليكن الوجود كما قيل لك { قال ربك } خلق الغلام { عليّ هين } أي غير بدع وكما خلقتك قبل وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن.
وقال الطبري : معنى قوله { كذلك } أي الأمر أن اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو كذلك ولكن { قال ربك } والمعنى عندي قال الملك { كذلك } أي على هذه الحال { قال ربك هو عليّ هين } انتهى.
وقرأ الحسن { هو عليّ هين } بكسر الياء.
وقد أنشدوا قول النابغة :
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة . . .
لوالده ليست بذات عقارب
بكسر ياء المتكلم وكسرها شبيه بقراءة حمزة { وما أنتم بمصرخي } بكسر الياء.
وقرأ الجمهور { وقد خلقتك } بتاء المتكلم.
وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي خلقناك بنون العظمة { ولم تك شيئاً } أي شيئاً موجوداً.
وقال الزمخشري : { شيئاً } لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً يعتد به كقولهم : عجبت من لا شيء إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً.
{ قال } أي زكريا { رب اجعل لي آية } أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقيناً كما قال إبراهيم عليه السلام { ولكن ليطمئن قلبي } لا لتوقف منه على صدق ما وعد به ، ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك.
وقال الزجاج : وقعت البشارة مطلقة فلم يعرف الوقت فطلب الآية ليعرف وقت الوقوع.
{ قال آيتك } روي عن ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله ، فإذا أراد مناداة أحد لم يطقه.
و { سوياً } حال من ضمير أي { لا تكلم } في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة قاله الجمهور وعن ابن عباس { سوياً } عائد على الليالي أي كاملات مستويات فتكون صفة لثلاث ، ودل ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن.
وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي { أن لا تكلم } برفع الميم جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم.
وقرأ الجمهور بنصبها جعلوا أن الناصبة للمضارع { فخرج على قومه من المحراب } أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس ، ومحرابه موضع مصلاه ، والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران { فأوحى إليهم } أي أشار.
قال قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي أوحى إليهم أشار ، وذكره الزمخشري عن مجاهد قال : ويشهد له إلاّ رمزاً.
وعن ابن عباس كتب لهم على الأرض.
وقال ابن عطية : وقال مجاهد : بل كتب لهم في التراب وكلا الوجهين وحي انتهى.
وقال عكرمة : كتب في ورقة والوحي في كلام العرب الكتابة.
ومنه قول ذي الرمة :
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها . . .
بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة :
كوحي صحائف من عهد كسرى . . .
فأهداها لأعجم طمطميِّ
وقال جرير :
كأن أخا اليهود يخط وحياً . . .
بكاف في منازلها ولام
والجمهور على أن المعنى { أن سبحوا } صلوا.
وقيل أمرهم بذكر الله والتسبيح.
قال المفسرون كان يخرج على قومه بكرة وعشياً فيأمرهم بالصلاة إشارة.
وقال صاحب التحرير والتحبير وعندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص بالتسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمراً عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول : سبحان الله سبحان الخالق ، فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح انتهى.
وقال الزمخشري وابن عطية و { أن } مفسرة.
وقال الحوفي { أن سبحوا } { أن } نصب بأوحى.
وقال أبو البقاء : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى أي انتهى.
وقرأ طلحة أن سبحوه بهاء الضمير عائدة على الله تعالى.
وروى ابن غزوان عن طلحة أن سبحن بنون مشددة من غير واو ألحق فعل الأمر نون التوكيد الشديد.
{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السنّ الذي يؤمر فيه قال الله له على لسان الملك وأبعد التبريزي في قوله إن المنادي له أبوه حين ترعرع ونشأ ، والصحيح ما سبق لقوله { وآتيناه الحكم صبياً } و { الكتاب } هو التوراة.
قال ابن عطية بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجوداً انتهى.
وليس كما قال بل قيل له كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك.
وقيل : { الكتاب } هنا اسم جنس أي اتل كتب الله.
وقيل : { الكتاب } صحف إبراهيم.
وقال الحسن وعلمه التوراة والإنجيل وأرسله إلى بني إسرائيل ، وكان يصوم ويصلي في حال طفوليته ويدعو إلى الله بقوة بجد واستظهار وعمل بما فيه والحكم النبوة أو حكم الكتاب أو الحكمة أو العلم بالأحكام أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة أو الفراسة الصادقة أقوال { صبياً } أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة.
وقيل : ابن سنتين.
وقيل : ابن ثلاث.
وعن ابن عباس في حديث مرفوع : « ابن سبع سنين » { وحناناً } معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس في رواية والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عبيدة والفراء وأنشد أبو عبيدة :
تحنن على هداك المليك . . .
فإن لكل مقام مقالا
قال : وأكثر ما تستعمل مثنى كما قال :
حنانيك بعض الشر أهون من بعض . . .
وقال ابن الأنباري : المعنى وجعلناه { حناناً } لأهل زمانه.
وقال مجاهد وتعطفاً من ربه عليه.
وعن ابن جبير : ليناً.
وعن عكرمة وابن زيد : محبة ، وعن عطاء تعظيماً.
وقوله { وزكاة } عن الضحاك وقتادة عملاً صالحاً.
وعن ابن السائب : صدقة تصدق بها على أبويه.
وعن الزجاج تطهيراً.
وعن ابن الأنباري زيادة في الخير.
وقيل ثناء كما يزكي الشهود.
{ وكان تقياً }.
قال قتادة : لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا همَّ بامرأة.
وقال ابن عباس : جعله متقياً له لا يعدل به غيره.
وقال مجاهد : كان طعامه العشب المباح وكان للدمع في خديه مجار بائنة { وبراً بوالديه } أي كثير البر والإكرام والتبجيل.
وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وأبو نهيك وأبو مجلز { وبراً } في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر { ولم يكن جباراً } أي متكبراً { عصياً } أي عاصياً كثير العصيان ، وأصله عصوى فعول للمبالغة ، ويحتمل أن يكون فعيلاً وهي من صيغ المبالغة.
{ وسلام عليه }.
قال الطبري : أي أمان.
قال ابن عطية : والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله ، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة ، فقال يحيى لعيسى : ادع لي فأنت خير مني ، فقال له عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي.
وقال أبو عبد الله الرازي : { يوم ولد } أي أمان عليه من أن يتاله الشيطان { ويوم يموت } أي أمان من عذاب القبر { ويوم يبعث حياً } من عذاب الله يوم القيامة.
وفي قوله { ويوم يبعث حياً } تنبيه على كونه من الشهداء لقوله { بل أحياء عند ربهم يرزقون } وهذا السلام يحتمل أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة انتهى.
والأظهر أنه من الله لأنه في سياق { وآتيناه الحكم }.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا وطلبه الولد وإجابة الله إياه فولد له من شيخ فان وعجوز له عاقر وكان ذلك مما يتعجب منه ، أردفه بما هو أعظم في الغرابة والعجب وهو وجود ولد من غير ذكر ، فدل ذلك على عظم قدرة الله وحكمته ، وأيضاً فقص عليهم ما سألوه من قصة أهل الكهف وأتبع ذلك بقصة الخضر وموسى ، ثم قص عليهم ما سألوه أيضاً وهو قصة ذي القرنين ، فذكر في هذه السورة قصصاً لم يسألوه عنها وفيها غرابة ، ثم أتبع ذلك بقصة إبراهيم وموسى وهارون موجزة ، ثم بقصة إسماعيل وإدريس ليستقر في أذهانهم أنه أطلع نبيه على ما سألوه وعلى ما لم يسألوه ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام وحيه في ذلك واحد يدل على صدقه وصحة رسالته من أمي لم يقرأ الكتب ولا رحل ولا خالط من له علم ولا عنى بجمع سير.
و { الكتاب } القرآن.
و { مريم } هي ابنة عمران أم عيسى ، و { إذ } قيل ظرف زمان منصوب باذكر ، ولا يمكن ذلك مع بقائه على الظرفية لأن الاستقبال لا يقع في الماضي.
وقال الزمخشري : { إذ } بدل من { مريم } بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وقته ، إذ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيها انتهى.
ونصب { إذ } باذكر على جهة البدلية يقتضي التصرف في { إذ } وهي من الظروف التي لم يتصرف فيها إلاّ بإضافة ظرف زمان إليها.
فالأولى أن يجعل ثم معطوف محذوف دل المعنى عليه وهو يكون العامل في { إذ } وتبقى على ظرفيتها وعدم تصرفها ، وهو أن تقدر مريم وما جرى لها { إذ انتبذت } واستبعد أبو البقاء قول الزمخشري قال : لأن الزمان إذا لم يكن حالاً عن الجثة ولا خبراً عنها ولا وصفاً لها لم يكن بدلاً منها انتهى.
واستبعاده ليس بشيء لعدم الملازمة.
قال : وقيل التقدير خبر مريم فإذ منصوبة لخبر.
وقيل : حال من هذا المضاف المحذوف.
وقيل : { إذ } بمعنى أن المصدرية كقولك : أكرمك إذ لم تكرمني أي إن لم تكرمني.
قال أبو البقاء : فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي { واذكر } { مريم } انتباذها انتهى.
و { انتبذت } افتعل من نبذ ، ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت.
قال السدّي { انتبذت } لتطهر من حيضها وقال غيره : لتعبد الله وكانت وقفاً على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فتنحت من الناس كذلك ، وانتصب { مكاناً } على الظرف أي في مكان ، ووصف بشرقي لأنه كان مما يلي بيت المقدس أو من دارها ، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة الشرق من حيث تطلع الشمس.
وعن ابن عباس : اتخذت النصارى الشرق قبلة لميلاد عيسى عليه السلام.
وقيل : قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أي شيء يسترها ، وكان موضعها المسجد فبينا هي في مغتسلها أتاها الملَك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئاً أو حسن الصورة مستوي الخلق.
وقال قتادة { شرقياً } شاسعاً بعيداً انتهى.
والحجاب الذي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادة ربها.
قال السدّي : كان من جدران.
وقيل : من ثياب.
وعن ابن عباس : جعلت الجبل بينها وبين الناس { حجاباً } وظاهر الإرسال من الله إليها ومحاورة الملَك تدل على أنها نبية.
وقيل : لم تنبأ وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها للملك كما رئي جبريل عليه السلام في صفة دحية.
وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام.
والظاهر أن الروح جبريل لأن الدين يحيا به ويوحيه أو سماه روحه على المجاز محبة له وتقريباً كما تقول لحبيبك : أنت روحي.
وقيل عيسى كما قال وروح منه ، وعلى هذا يكون قوله { فتمثل } أي الملك.
وقرأ أبو حيوة وسهل { روحنا } بفتح الراء لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقرّبين في قوله { فأما إن كان من المقرّبين فروح وريحان } أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا.
وذكر النقاش أنه قرىء { روحنا } بتشديد النون اسم ملك من الملائكة وانتصب { بشراً سوّياً } على الحال لقوله وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً.
قيل : وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه ، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت به من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاءً لها وسبراً لعفتها.
وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت فجلست في المشرقة وراء الجبل فأتاها الملَك.
وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس ، وتعليقها الاستعاذة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعاذة ولا تجدي إلاّ عند من يتقي الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل الاستعاذة به فإني عائذة به منك.
وجواب الشرط محذوف أي فإني أعوذ.
وقال الزجاج : فستتعظ بتعويذي بالله منك.
وقيل : فاخرج عني.
وقيل : فلا تتعرض لي وقول من قال تقي اسم رجل صالح أو رجل فاسد ليس بسديد.
وقيل : { إن } نافية أي ما { كنت تقياً } أي بدخولك عليّ ونظرك إليّ ، ولياذها بالله وعياذها به وقت التمثيل دليل على أنه أول ما تمثل لها استعاذت من غير جري كلام بينهما.
{ قال } أي جبريل عليه السلام { إنما أنا رسول ربك } الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك ، وهو الذي استعذت به وقوله لها ذلك تطمين لها وإني لست ممن تظن به ريبه أرسلني إليك ليهب.
وقرأ شيبة وأبو الحسن وأبو بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي ومن السبعة نافع وأبو عمر : وليهب أي ليهب ربك.
وقرأ الجمهور وباقي السبعة { لأهب } بهمزة المتكلم وأسند الهبة إليه لما كان الإعلام بها من قبله.
وقال الزمخشري : { لأهب لك } لأكون سبباً في هبة الغلام بالنفخ في الروع.
وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك ، ويحتمل أن يكون محكياً بقول محذوف أي قال { لأهب } والغلام اسم الصبي أول ما يولد إلى أن يخرج إلى سن الكهولة.
وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله.
وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها { ولم أك بغياً } تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بنكاح وبسفاح.
وقال الزمخشري : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله { من قبل أن تمسوهنّ } أو لمستم النساء والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن يراعى فيه الكنايات والآداب انتهى.
والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا ، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي.
قيل : ولو كان فعيلاً لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية.
وقال ابن جنيّ في كتاب التمام : هي فعيل ، ولو كانت فعولاً لقيل بغوكما قيل فلان نهو عن المنكر انتهى.
قيل : ولما كان هذا اللفظ خاصاً بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار كحائض وطالق ، وإنما يقال للرجل باغ.
وقيل : بغى فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل أي مبغية بطلبها أمثالها.
{ قال كذلك قال ربك هو عليّ هين } الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا { ولنجعله } يحتمل أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا { ولنجعله } أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك ، والضمير في { ولنجعله } عائد على الغلام وكذلك في قوله { وكان } أي وكان وجوده { أمراً } مفروغاً منه ، وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك.
وذكروا أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها أو فيه وفي كمها وقال : أي دخل الروح المنفوخ من فمها ، والظاهر أن المسند إليه النفخ هو الله تعالى لقوله { فنفخنا } ويحتمل ما قالوا : { فحملته } أي في بطنها والمعنى فحملت به.
قيل : وكانت بنت أربع عشرة سنة.
وقيل : بنت خمس عشرة سنة قاله وهب ومجاهد.
وقيل : بنت ثلاث عشرة سنة.
وقيل : اثنتي عشرة سنة.
وقيل : عشرة سنين.
قيل : بعد أن حاضت حيضتين.
وحكى محمد بن الهيصم أنها لم تكن حاضت بعد.
وقيل : لم تحض قط مريم وهي مطهرة من الحيض ، فلما أحست وخافت ملامة الناس أن يظن بها الشر فارتمت به إلى مكان قصي حياءً وفراراً.
روي أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها قاله وهب.
وقيل : إلى موضع يعرف ببيت لحم بينه وبين إيليا أربعة أميال.
وقيل : بعيداً من أهلها وراء الجبل.
وقيل : أقصى الدار.
وقيل : كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف فلما قيل حملت من الزنا خاف عليها قتل الملك هرب بها ، فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إنه من روح القدس فلا تقتلها فتركها حملته في ساعة واحدة فكما حملته نبذته عن ابن.
وقيل : كانت مدة الحمل ثلاث ساعات.
وقيل : حمل في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة.
وقيل : ستة أشهر.
وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر.
وقيل : ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلاّ عيسى وهذه أقوال مضطربة متناقضة كان ينبغي أن يضرب عنها صفحاً إلاّ أن المفسرين ذكروها في كتبهم وسوّدوا بها الورق ، والباء في { به } للحال أي مصحوبة به أي اعتزلت وهو في بطنها كما قال الشاعر :
تدوس بنا الجماجم والتريبا . . .
أي تدوس الجماجم ونحن على ظهورها.
ومعنى { فأجاءها } أي جاء بها تارة فعدي جاء بالباء وتارة بالهمزة.
قال الزمخشري : إلاّ أن استعماله قد يغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء الإتراك ، لا تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول : بلغته وأبلغنيه ، ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلاّ في الإعطاء ولم يقل آتيت المكان وآتانيه فلان انتهى.
أما قوله وقول غيره إن الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين ذلك عن لسان العرب ، والإجاءة تدل على المطلق فتصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت : أقمت زيداً فإنه قد يكون مختاراً لذلك وقد يكون قد قسرته على القيام.
وأما قوله الإتراك لا تقول إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز لك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياساً فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا : أجاء فيجيز ذلك ، وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية ، وأن أصله أتى وليس كذلك بل آتى مما بُني على أفعل وليس منقولاً من أتى بمعنى جاء ، إذ لو كان منقولاً من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأول إذا عديته بالهمزة تقول : أتى المال زيداً ، وآتى عمراً زيداً المال ، فيختلف التركيب بالتعدية لأن زيداً عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني.
وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس فدل على أنه ليس على ما قاله.
وأيضاً فآتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى.
وقوله : ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال : أتيت المكان كما تقول : جئت المكان.
وقال الشاعر :
أتوا ناري فقلت منون أنتم . . .
فقالوا الجن الجن قلت عموا ظلاما
ومن رأى النقل بالهمزة قياساً قال : أتانيه.
وقرأ الجمهور { فأجاءها } أي ساقها.
وقال الشاعر :
وجار سار معتمداً إليكم . . .
أجاءته المخافة والرجاء
وأما فتحه الجيم الأعمش وطلحة.
وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم.
قال ابن عطية وشبيل بن عزرة فاجأها من المفاجأة.
وقال صاحب اللوامح شبيل بن عزرة : فاجأها.
فقيل : هو من المفاجأة بوزن فاعلها فبدلت همزتها بألف تخفيف على غير قياس ، ويحتمل أن تكون همزة بين بين غير مقلوبة.
وروي عن مجاهد كقراءة حماد عن عاصم.
وقرأ ابن كثير في رواية { المخاض } بكسر الميم يقال مخضت الحامل مخاضاً ومخاضاً وتمخض الولد في بطنها : و { إلى } تتعلق بفأجاءها ، ومن قرأ فاجأها من المفاجأة فتتعلق بمحذوف أي مستندة أي في حال استنادها إلى النخلة ، والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى عليه السلام كان بيت لحم ، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس ، ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فعمدته فيه وهو اليوم الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء ، ومن زعم أنها ولدته بمصر قال : بكورة اهناس.
قيل : ونخلة مريم قائمة إلى اليوم ، والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها.
وقيل : إن الله أنبت لها نخلة تعلقت بها.
وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة يابس بال أصله مدوّد لا رأس له ولا ثمر ولا خضرة ، وأل إما لتعريف الجنس أو الداخلة على الأسماء الغالبة كأن تلك الصحراء كان بها جذع نخلة معروف فإذا قيل { جذع النخلة } فهم منه ذلك دون غيره.
وأرشدها تعالى إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولظهور تلك الآيات منها فتستقر نفسها وتقر عينها ، فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه { يا ليتني مت قبل هذا } وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيغبنها ذلك ، وهذا مباح وعلى هذا الحد تمنى عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين.
وأما النهي عن ذلك فإنما هو لضر نزل بالبدن ، وتقدم الخلاف من القراء في كسر الميم من مت وضمها في آل عمران ، والنسي الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقة الطمث.
وقرأ الجمهور بكسر النون وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح.
وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وحفص بفتح النون.
وقرأ محمد بن كعب القرظي : نسأ بكسر النون والهمز مكان الياء وهي قراءة نون الأعرابي.
وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضاً نسأ بفتح النون والهمز وهو مصدر من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء ، فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء.
وقال ابن عطية : وقرأ بكر بن حبيب نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض والنفض.
قال الفراء نسي ونسي لغتان كالوتر والوتر والفتح أحب إليّ.
وقال أبو علي الفارسي الكسر أعلى اللغتين.
وقال ابن الأنباري : من كسر فهو اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض ، ومنه فتح فمصدر نائب عن اسم كما يقال : رجل دنف ودنف والمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر يسد مسد الوصف ، ويمكن أن يكونا لمعنى كالرطل والرطل والإشارة بقوله هذا إلى الحمل.
وقيل : { قبل هذا } اليوم أو { قبل هذا } الأمر الذي جرى.
وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية { منسياً } بكسر الميم اتباعاً لحركة السين كما قالوا منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء.
وقيل : تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة ، وبضد ما قربت من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام ، أو لحزنها على الناس أو يأثم الناس بسببها.
وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت و { قالت يا ليتني مت }.
وقال وهب : أنساها كرب الولادة وما سمعت من الناس بشارة الملائكة بعيسى.
وقرأ زر وعلقمة فخاطبها مكان { فناداها } وينبغي أن يكون تفسيراً لا قراءة لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، والمنادي الظاهر أنه عيسى أي فولدته فأنطقه الله وناداها أي حالة الوضع.
وقيل : جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقاله الحسن وأقسم على ذلك.
قيل : وكان يقبل الولد كالقابلة.
وقرأ ابن عباس { فناداها } ملك { من تحتها }.
وقرأ البراء بن عازب وابن عباس والحسن وزيد بن عليّ والضحاك وعمرو بن ميمون ونافع وحمزة والكسائي وحفص { من } حرف جر.
وقرأ الابنان والأبوان وعاصم وزر ومجاهد والجحدري والحسن وابن عباس في رواية عنهما { من } بفتح الميم بمعنى الذي و { تحتها } ظرف منصوب صلة لمن ، وهو عيسى أي ناداها المولود قاله أبيّ والحسن وابن جبير ومجاهد و { أن } حرف تفسير أي { لا تحزني } والسري في قول الجمهور الجدول.
وقال الحسن وابن زيد وقتادة عظيماً من الرجال له شأن.
وروي أن الحسن فسر الآية فقال : أجل لقد جعله الله { سرياً } كريماً فقال حميد بن عبد الرحمن : يا أبا سعيد إنما يعني بالسري الجدول ، فقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ، ولكن غلبنا الأمراء.
ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع.
وقالت فَرِقة : بل كانت النخلة مطعمة رطباً.
وقال السدّي : كان الجذع مقطوعاً وأجرى تحته النهر لجنبه ، والظاهر أن المكلم هو عيسى وأن الجذع كان يابساً وعلى هذا ظهرت لها آيات تسكن إليها وحزنها لم يكن لفقد الطعام والشراب حتى تتسلى بالأكل والشرب ، ولكن لما ظهر في ذلك من خرق العادة حتى يتبين لقومها أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
قال ابن عباس : كان جذعاً نخراً فلما هزت إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ، ثم اخضر فصار بلحاً ، ثم احمر فصار زهواً ثم رطباً كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع من بين يديها لا يتسرح منه شيء.
وإلى حرف بلا خلاف ويتعلق بقوله { وهُزِّي } وهذا جاء على خلاف ما تقرر في علم النحو من أن الفعل لا يتعدى إلى الضمير المتصل ، وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا علم وهما لمدلول واحد لا يقال : ضربتك ولا زيد ضربه أي ضرب نفسه ولا ضربني إنما يؤتى في مثل هذه التراكيب بالنفس فتقول : ضربت نفسك وزيد ضرب نفسه وضربت نفسي والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا تقول : هززت إليك ولا زيد هز إليه ولا هززت إلى ولهذا زعموا في قول الشاعر :
دع عنك نهياً صيح في حجراته . . .
ولكن حديثاً ما حدثت الرواحل
وفي قول الآخر :
وهوّن عليك فإن الأمو . . .
ر بكف الإله مقاديرها
إنّ عن وعلى ليسا حرفين وإنما هما اسمان ظرفان ، وهذا ليس ببعيد لأن عن وعلى قد ثبت كونهما اسمين في قوله :
من عن يمين الحبيا نظرة قبل . . .
وفي قوله :
غدت من عليه بعدما تم ظمؤها . . .
وبعض النحويين زعم أن على لا تكون حرفاً البتة ، وأنها اسم في كل مواردها ونسب إلى سيبويه ، ولا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسماً لإجماع النحاة على حرفيتها كما قلنا.
ونظير قوله تعالى { وهزي إليك } قوله تعالى { واضمم إليك جناحك } وعلى تقرير تلك القاعدة ينبغي تأويل هذين ، وتأويله على أن يكون قوله { إليك } ليس متعلقاً بهزي ولا باضمم ، وإنما ذلك على سبيل البيان والتقدير أعني إليك فهو متعلق بمحذوف كما قالوا في قوله
{ إني لكما لمن الناصحين } وما أشبهه على بعض التأويلات.
والباء في { بجذع } زائدة للتأكيد كقوله { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال أبو عليّ كما يقال : ألقى بيده أي ألقى يده.
وكقوله :
سود المحاجر لا يقرآن بالسور . . .
أي لا يقرآن السور.
وأنشد الطبري :
فؤاد يمان ينبت السدر صدره . . .
وأسفله بالمرخ والسهان
وقال الزمخشري أو على معنى أفعلي الهز به.
كقوله :
يخرج في عراقيبها نصلي . . .
قالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذلك التحنيك ، وقالوا : كان من العجوة قاله محمد بن كعب.
وقيل : ما للنفساء خير من الرطب.
وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب.
وقرأ الجمهور { تساقط } بفتح التاء والسين وشدها بعد ألف وفتح القاف.
وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب ومسروق وحمزة كذلك إلاّ أنهم خففوا السين.
وقرأ حفص { تساقط } مضارع ساقطت.
وقرأ أبو السمال تتساقط بتاءين.
وقرأ البراء بن عازب والأعمش في رواية يساقط بالياء من تحت مضارع أساقط.
وقرأ أبو حيوة ومسروق.
تسقط بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف.
وعن أبي حيوة كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت ، وعنه تسقط بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف ، وعنه كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت ، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه أنه قرأ رطب جني بالرفع على الفاعلية ، وأما النصب فإن قرأ بفعل متعد نصبه على المفعول أو بفعل لازم فنصبه على التمييز ، ومن قرأ بالياء من تحت فالفعل مسند إلى الجذع ، ومن قرأ بالتاء فمسند إلى النخلة ، ويجوز أن يكون مسنداً إلى الجذع على حدّ { يلتقطه بعض السيارة } وفي قراءة من قرأ يلتقطه بالتاء من فوق.
وأجاز المبرد في قوله { رطباً } أن يكون منصوباً بقوله { وهزي } أي { وهزي إليك بجذع النخلة } رطباً تساقط عليك ، فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال فيكون قد حذف معمول { تساقط } فمن قرأه بالياء من تحت فظاهر ، ومن قرأ بالتاء من فوق فإن كان الفعل متعدياً جاز أن يكون من باب الإعمال ، وإن كان لازماً فلا لاختلاف متعلق هزي إذ ذاك والفعل اللازم.
وقرأ طلحة بن سليمان { جنياً } بكسر الجيم إتباعاً لحركة النون والرزق فإن كان مفروغاً منه فقد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ، ولذلك أمرت مريم بهز الجذع وعلى هذا جاءت الشريعة وليس ذلك بمناف للتوكل.
وعن ابن زيد قال عيسى لها لا تحزني ، فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس؟ { يا ليتني مت قبل هذا } الآية فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام { فكلي واشربي وقرّي عيناً }.
قال الزمخشري : أي جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله { فكلي واشربي وقرّي عيناً } أي وطيبي نفساً ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك انتهى.
ولما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية والمجاورة قوله { تساقط عليك رطباً جنياً } ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال : { وقرّي عيناً } أي لا تحزني ، ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحداً.
وقرىء { وقري } بكسر القاف وهي لغة نجدية وتقدم ذكرها.
وقرأ أبو عمرو في ما روى عنه ابن رومي ترئن بالإبدال من الياء همزة وروى عنه لترؤن بالهمز أيضاً بدل الواو.
قال ابن خالويه : وهو عند أكثر النحويين لحن.
وقال الزمخشري : وهذا من لغة من يقول لتأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال انتهى.
وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة { ترين } بسكون الياء وفتح النون خفيفة.
قال ابن جنيّ : وهي شاذة يعني لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون.
كما قال الأفوه الأودي :
أما ترى رأسي أزرى به . . .
مأس زمان ذي انتكاس مؤوس
والآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول الظاهر أنه ولدها.
وقيل جبريل على الخلاف الذي سبق ، والظاهر أنه أبيح لها أن تقول ما أُمِرَت بقوله وهو قول الجمهور.
وقالت فرقة : معنى { فقولي } أي بالإشارة لا بالكلام وإلاّ فكان التناقض ينافي قولها انتهى.
ولا تناقض لأن المعنى { فلن أكلم اليوم إنسياً } بعد { قولي } هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليه المعنى ، أي { فإما ترين من البشر أحداً } وسألك أو حاورك الكلام { فقولي }.
وقرأ زيد بن عليّ صياماً وفسر { صوماً } بالإمساك عن الكلام.
وفي مصحف عبد الله صمتاً.
وعن أنس بن مالك مثله.
وقال السدّي وابن زيد : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام انتهى.
والصمت منهي عنه ولا يصح نذره.
وفي الحديث : « مره فليتكلم » وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق وأمرت بنذر الصوم لأن عيسى بما يظهر الله عليه يكفيها أمر الاحتجاج ومجادلة السفهاء.
وقوله { إنسياً } لأنها كانت تكلم الملائكة دون الإنس.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{ فأتت به } قيل إتيانها كان من ذاتها.
قيل : طهرت من النفاس بعد أربعين يوماً وكان الله تعالى قد أراها آيات واضحات ، وكلمها عيسى ابنها وحنت إلى الوطن وعلمت أن عيسى سيكفيها من يكلمها فعادت إلى قومها.
وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إليها بولدك ، وكان الشيطان قد أخبر قومها بولادتها وفي الكلام حذف أي فلما رأوها وابنها { قالوا } قال مجاهد والسدّي : الفري العظيم الشنيع.
وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية { فرياً } بسكون الراء ، وفيما نقل ابن خالويه فرئاً بالهمز ، و { هارون } شقيقها أو أخوها من أمّها ، وكان من أمثل بني إسرائيل ، أو { هارون } أخو موسى إذ كانت من نسله ، أو رجل صالح من بني إسرائيل شبهت به ، أو رجل من النساء وشبهوها به أقوال.
والأولى أنه أخوها الأقرب.
وفي حديث المغيرة حين خصمه نصارى نجران في قوله تعالى { يا أخت هارون } والمدة بينهما طويلة جداً فقال له الرسول : « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم » وأنكروا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين ، فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالباً تكون زاكية إذا زكت الأصول ، وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك.
وقرأ عمر بن لجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريراً { ما كان أبوك امرأ سوء } لجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلاً كونها فيها مسوع جواز الابتداء وهو الإضافة ، ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة ، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ونفي البغاء يوجب العفة لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان.
روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك.
وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى فتركوها.
{ فأشارت } أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه.
وقيل : كان المستنطق لعيسى زكريا.
ويروى أنهم لما أشاروا إلى الطفل قالوا : استخفافها بنا أشد علينا من زناها ، ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها أي إن من كان في المهد يُربيّ لا يكلم ، وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام.
وقيل : بوحي من الله إليها.
و { كان } قال أبو عبيدة : زائدة.
وقيل : تامّة وينتصب { صبياً } على الحال في هذين القولين ، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي ، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله { وكان الله غفوراً رحيماً } وفي قوله { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } والمعنى { كان } وهو الآن على ما كان ، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن { كان } هذه بأنها ترادف لم يزل وما ردّ به ابن الأنباري كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها ، وهذه نصبت { صبيا } خبراً لها ليس بشيء لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال ، والعامل فيها الاستقرار.
وقال الزمخشري : كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام وأنه مسوق للتعجب ، ووجه آخر أن يكون { نكلم } حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس { صبياً }.
{ في المهد صبيا } فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا انتهى.
والظاهر أن { من } مفعول بنكلم.
ونقل عن الفراء والزجّاج أن { من } شرطية و { كان } في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف { نكلم } وهو قول بعيد جداً.
وعن قتادة أن { المهد } حجر أمه.
وقيل : سريره.
وقيل : المكان الذي يستقر عليه.
وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى ، وأنطقه الله تعالى أولاً بقوله { إني عبد الله آتاني الكتاب } ردّاً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى.
وفي قوله { عبد الله } والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمّه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلاّ مبرأة مصطفاة و { الكتاب } الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما أقوال.
وظاهر قوله { وجعلني نبياً } أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً.
وقيل : إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه ، ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد { وجعلني مباركاً } قال مجاهد : نفاعاً.
وقال سفيان : معلم خير.
وقيل : آمراً بمعروف ، ناهياً عن منكر.
وعن الضحاك : قضاء للحوائج و { أينما كنت } شرط وجزاؤه محذوف تقديره { جعلني مباركاً } وحذف لدلالة ما تقدم عليه ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لجعلني السابق لأن { أين } لا يكون إلاّ استفهاماً أو شرطاً لا جائز أن يكون هنا استفهاماً ، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه ، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال.
وقيل : { الزكاة } زكاة الرؤوس في الفطر.
وقيل الصلاة الدعاء ، و { الزكاة } التطهر.
و { ما } في { ما دمت } مصدرية ظرفية.
وقال ابن عطية.
وقرأ { دمت } بضم الدال عاصم وجماعة.
وقرأ { دمت } بكسر الدال أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو انتهى.
والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا { دمت حياً } بضم الدال ، وقد طالعنا جملة من الشواذ فلم نجدها لا في شواذ السبعة ولا في شواذ غيرهم على أنها لغة تقول { دمت } تدام كما قالوا مت تمات ، وسبق أنه قرىء { وبراً } بكسر الباء فإما على حذف مضاف أي وذا بر ، وإما على المبالغة جعل ذاته من فرط بره ، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد ، ومن قرأ { وبراً } بفتح الباء ، فقال الحوفي وأبو البقاء : إنه معطوف على { مباركاً } وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي { أوصاني } ومتعلقها ، والأولى إضمار فعل أي وجعلني { براً }.
وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قرىء وبر بكسر الباء والراء عطفاً على { بالصلاة والزكاة }.
وقوله : { بوالدتي } بيان محل البر وأنه لا والد له ، وبهذا القول برأها قومها.
والجبار كما تقدم المتعاظم وكان في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب حيث جنه الليل لا مسكن له ، وكان يقول : سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي ، والألف واللام في { والسلام } للجنس.
قال الزمخشري : هذا التعريف تعريض بلعنة متهمي مريم وأعدائهما من اليهود ، وحقيقته أن اللام للجنس فإذا قال : وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ، ونظيره { والسلام على من اتبع الهدى } يعني إن العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.
وقيل : أل لتعريف المنكر في قصة يحيى في قوله { وسلام } نحو { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً } فعصى فرعون الرسول أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ.
وسبق القول في تخصيص هذه المواطن.
وقرأ زيد بن علي { يوم ولدت } أي يوم ولدتني جعله ماضياً لحقته تاء التأنيث ورجح وسلام عليّ والسلام لكونه من الله وهذا من قول عيسى عليه السلام.
وقيل : سلام عيسى أرجح لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه فسلم نائباً عن الله.
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
الإشارة بذلك إلى المولود الذي ولدته مريم المتصف بتلك الأوصاف الجميلة ، و { ذلك } مبتدأ و { عيسى } خبره و { ابن مريم } صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل ، والمقصود ثبوت بنوّته من مريم خاصة من غير أب فليس بابن له كما يزعم النصارى ولا لغير رشدة كما يزعم اليهود.
وقرأ زيد بن عليّ وابن عامر وعاصم وحمزة وابن أبي إسحاق والحسن ويعقوب { قول الحق } بنصب اللام ، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن { عيسى } أنه { ابن مريم } ثابت صدق ليس منسوباً لغيرها ، أي إنها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل ، أي أقول { الحق } وأقول قول { الحق } فيكون { الحق } هنا الصدق وهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي القول { الحق } كما قال { وعد الصدق } أي الوعد الصدق وإن عنى به الله تعالى كان القول مراداً به الكلمة كما قالوا كلمة الله كان انتصابه على المدح وعلى هذا تكون الذي صفة للقول ، وعلى الوجه الأول تكون { الذي } صفة للحق.
وقرأ الجمهور { قول } برفع اللام.
وقرأ ابن مسعود والأعمش قال بألف ورفع اللام.
وقرأ الحسن { قول } بضم القاف ورفع اللام وهي مصادر كالرهب والرهب والرهب وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أي نسبته إلى أمه فقط { قول الحق } فتتفق إذ ذاك قراءة النصب وقراءة الرفع في المعنى.
وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل انتهى.
وهذا الذي ذكر لا يكون إلاّ على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن اللفظ لا يكون الذات.
وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال : بألف جعله فعلاً ماضياً { الحق } برفع القاف على الفاعلية ، والمعنى قال الحق وهو الله { ذلك } الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو { عيسى ابن مريم } و { الذي } على هذا خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي.
وقرأ عليّ كرم الله وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي في رواية { تمترون } بتاء الخطاب والجمهور بياء الغيبة ، وامترى افتعل إما من المرية وهي الشك ، وإما من المراء وهو المجادلة والملاحاة ، وكلاهما مقول هنا قالت اليهود ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالثها ثلاثة وهو الله { ما كان لله أن يتخذ من ولد } هذا تكذيب للنصارى في دعواهم أنه ابن الله ، وإذا استحالت البنوة فاستحالة الإلهية مستقلة أو بالتثليث أبلغ في الاستحالة ، وهذا التركيب معناه الانتفاء فتارة يدل من جهة المعنى على الزجر { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } وتارة على التعجيز { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } وتارة على التنزيه كهذه الآية ، ولذلك أعقب هذا النفي بقوله { سبحانه } أي تنزه عن الولد إذ هو مما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا تتعلق به القدرة لاستحالته ، إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده فهو منزه عن التوالد.
وتقدم الكلام على الجملة من قوله { إذا قضى أمراً }.
وقرأ الجمهور { وإن الله } بكسر الهمزة على الاستئناف.
وقرأ أُبي بالكسر دون واو ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو { وإن } بالواو وفتح الهمزة ، وخرجه ابن عطية على أن يكون معطوفاً على قوله هذا { قول الحق } { وإن الله ربي } كذلك.
وخرجه الزمخشري على أن معناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه كقوله { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } انتهى.
وهذا قول الخليل وسيبويه وفي حرف أبي أيضاً ، وبأن { الله } بالواو وباء الجر أي بسبب ذلك فاعبدوه.
وأجاز الفراء في { وإن } يكون في موضع خفض معطوفاً على والزكاة ، أي { وأوصاني بالصلاة والزكاة } وبأن الله ربي وربكم انتهى.
وهذا في غاية البعد للفصل الكثير ، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى الأمر { إن الله ربي وربكم }.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أن يكون المعنى ، وقضى { إن الله ربي وربكم } فهي معطوفة على قوله { أمراً } من قوله { إذا قضى أمراً } والمعنى { إذا قضى أمراً } وقضى { إن الله } انتهى.
وهذا تخبيط في الإعراب لأنه إذا كان معطوفاً على { أمراً } كان في حيز الشرط ، وكونه تعالى ربنا لا يتقيد بالشرط وهذا يبعد أن يكون قاله أبو عمرو بن العلاء فإنه من الجلالة في علم النحو بالمكان الذي قل أن يوازنه أحد مع كونه عربياً ، ولعل ذلك من فهم أبي عبيدة فإنه يضعف في النحو والخطاب في قول { وربكم } قيل لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى أمر الله تعالى أن يقول لهم { ذلك عيسى ابن مريم } أي قل لهم يا محمد هذا الكلام.
وقيل : الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله { إني عبد الله } الآية وإن الله معطوف على الكتاب ، وقد قال وهب عهد عيسى إليهم { إن الله ربي وربكم } ومن كسر الهمزة عطف على قوله { إني عبد الله } فيكون محكياً.
يقال : وعلى هذا القول يكون قوله { ذلك عيسى ابن مريم } - إلى - { وإن الله } حمل اعتراض أخبر الله تعالى بها رسوله عليه السلام.
والإشارة بقوله { هذا } أي القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة ، هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إلى النجاة { فاختلف الأحزاب من بينهم } هذا إخبار من الله للرسول بتفرق بني إسرائيل فرقاً ، ومعنى { من بينهم } أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف سببه غيرهم.
و { الأحزاب } قال الكلبي : اليهود والنصارى.
وقال الحسن : الذين تحزبوا على الانبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس انتهى.
فالضمير في { بينهم } على هذا ليس عائداً على { الأحزاب }.
وقيل : { الأحزاب } هنا المسلمون واليهود والنصارى.
وقيل : هم النصارى فقط.
وعن قتادة إن بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم.
فقال أحدهم : عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات ، فكذبه الثلاثة واتبعته اليعقوبية.
ثم قال أحد الثلاثة : عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعته النسطورية ، وقال أحد الاثنين : عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله فكذبه الرابع وأتبعته الإسرائيلية.
وقال الرابع : عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعته فرقة من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة ، فغلب المؤمنون وظهرت اليعقوبية على الجميع فروي أن في ذلك نزلت { إن الذين يكفرون بآيات الله } آية آل عمران ، والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل.
وبين هنا أصله ظرف استعمل اسماً بدخول { من } عليه.
وقيل : { من } زائدة.
وقيل البين هنا البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق.
و { مشهد } مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدراً ومكاناً وزماناً ، فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، وإن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف ، وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة ، يجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر ، وأن يكون من مكان الشهادة ، وأن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات يوم القيامة.
وعن قتادة : هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وقيل ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم اختلافهم ، وتقدم الكلام على التعجب الوارد من الله في قوله تعالى { فما أصبرهم على النار } وأنه لا يوصف بالتعجب.
قال الحسن وقتادة : لئن كانوا صماً وبكماً عن الحق فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ، ولكنهم يسمعون ويبصرون حيث لا ينفعهم السمع ولا البصر.
وعن ابن عباس أنهم أسمع شيء وأبصره.
وقال علي بن عيسى : هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ، ويبصرون ما يسود وجوههم.
وعن أبي العالية : إنه أمر حقيقة للرسول أي { أسمع } الناس اليوم وأبصرهم { بهم } وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلولين { لكن الظالمون } عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين ، و { اليوم } أي في دار الدنيا.
وقال الزمخشري : أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم ، والمراد بالضلال المبين إغفال النظر والاستماع انتهى.
{ وأنذرهم } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير لجميع الناس.
وقيل : يعود على الظالمين.
و { يوم الحسرة } يوم ذبح الموت وفيه حديث.
وعن ابن زيد : يوم القيامة.
وقيل : حين يصدر الفريقان إلى الجنة والنار وعن ابن مسعود : حين يرى الكفارة مقاعدهم التي فاتتهم من الجنة لو كانوا مؤمنين.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون { يوم الحسرة } اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة ، ومنها يوم الموت ، ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك انتهى.
و { إذ } بد من { يوم الحسرة }.
قال السدّي وابن جريج : { قُضِي الأمر } ذبح الموت.
وقال مقاتل : قضى العذاب.
وقال ابن الأنباري المعنى { إذ قضي الأمر } الذي فيه هلاككم.
وقال الضحاك : يكون ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر.
وعن ابن جريج أيضاً : إذا فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
وقيل إذا { قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } وقيل : إذا يقال { امتازوا اليوم أيها المجرمون } وقيل : إذا قضى سد باب التوبة وذلك حين تطلع الشمس من مغربها.
{ وهم في غفلة }.
قال الزمخشري : متعلق بقوله { في ضلال مبين } عن الحسن { وأنذرهم } إعراض وهو متعلق بأنذرهم أي { وأنذرهم } على هذه الحال غافلين غير مؤمنين.
وقال ابن عطية : { وهم في غفلة } يريد في الدنيا الآن { وهم لا يؤمنون } كذلك انتهى.
وعلى هذا يكون حالاً والعامل فيه { وأنذرهم } والمعنى أنهم مشتغلون بأمور دنياهم معرضون عما يراد منهم ، والظاهر أن يكون المراد بقوله { وقضي الأمر } أمر يوم القيامة.
{ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة.
وقرأ الجمهور { يرجعون } بالياء من تحت مبنياً للمفعول ، والأعرج بالتاء من فوق.
وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء من تحت مبنياً للفاعل على وحكى عنهم الداني بالتاء.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{ واذكر } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد اتل عليهم نبأ { إبراهيم } وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيهما وعبادتهما من دون الله ، وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد جماداً والفريقان وإن اشتركا في الضلال ، والفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم مع أبيه عليه السلام تذكيراً للعرب بما كان إبراهيم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سالكو غير طريقه ، وفيه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق ، والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب ، وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل يقال : صدقني الطعام كذا وكذا قفيزاً ، وعود صدق للصلب الجيد فوصف إبراهيم بالصدق على العموم في أقواله وأفعاله ، والصديقية مراتب ألا ترى إلى وصف المؤمنين بها في قوله { من النبيين والصدّيقين } ومن غريب النقل ما ذهب إليه بعض النحويين من أن فعيلاً إذا كان من متعد جاز أن يعمل فتقول هذا شريب مسكر كما أعملوا عند البصريين فعولاً وفعالاً ومفعالاً.
وقال الزمخشري : والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسوله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان { نبياً } في نفسه لقوله تعالى { بل جاء بالحق وصدق المرسلين } وكان بليغاً في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني { إبراهيم }.
و { إذ قال } نحو قولك : رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ، ويجوز أن تتعلق { إذ } بكان أو ب { صديقاً نبياً } أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات انتهى.
فالتخريج الأول يقتضي تصرف { إذ } وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف ، والتخريج الثاني مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف.
والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلاّ إلى لفظ واحد ، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا ، وجائز أن يكون معمولاً لصديقاً لأنه نعت إلاّ على رأي الكوفيين ، ويحتمل أن يكون معمولاً لنبياً أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال ، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد.
وقرأ أبو البر هثيم إنه كان صادقاً.
وفي قوله { يا أبت } تلطف واستدعاء بالنسب.
وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر { يا أبت } بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة ، وتقدم الكلام على { يا أبت } في سورة يوسف عليه السلام ، وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء ، واستفهم إبراهيم عليه السلام عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الضم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئاً تنبيهاً على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتفت عنه هذه الأوصاف.
وخطب الزمخشري فقال : انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطاً فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحاً في ذلك نصيحة ربه جل وعلا.
حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار » ، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري.
وسرد الزمخشري بعد هذا كلاماً كثيراً من نوع الخطابة تركناه.
و { ما لا يسمع } الظاهر أنها موصولة ، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول { يسمع } و { يبصر } منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق.
و { شيئاً }.
إما مصدر أو مفعول به ، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جواباً ، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق.
وقال { من العلم } على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك ، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبىء ، إذ في لفظ { جاءني } تجدد العلم ، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالالوهية والعبادة أقوال ثلاثة { فاتبعني } على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام { أهدك صراطاً مستقيماً } وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة.
وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصياً للرحمن ، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى ، فهو عدوّ لك ولأبيك آدم من قبل.
وكان لفظ الرحمن هنا تنبيهاً على سعة رحمته ، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى ، وإعلاماً بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة ، وإن كان مختاراً لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلاّ ما اختار لنفسه من عصيانهم.
{ يا أبت إني أخاف } قال الفرّاء والطبري { أخاف } أعلم كما قال
{ فخشينا أن يرهقهما } أي تيقنا ، والأولى حمل { أخاف } على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيساً من إيمانه بل كان راجياً له وخائفاً أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب ، وخوّفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدّب معه إذ لم يصرّح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف ، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك { ورضوان من الله أكبر } أي من النعيم السابق ذكره ، وصدر كل نصيحة بقوله { يا أبت } توسلاً إليه واستعطافاً.
وقيل : الولاية هنا كونه مقروناً معه في الآخرة وإن تباغضاً وتبرأ بعضهما من بعض.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير إني أخاف أن تكون ولياً في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن.
وقوله { أن يمسك عذاب من الرحمن } لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة ، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير موالياً للشيطان ، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سبباً لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه ، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإرشاداً إلى الهدى « لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ».
{ قَال } أي أبوه { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } استفهم استفهام إنكار ، والرغبة عن الشيء تركه عمداً وآلهته أصنامه ، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل { يا أبت } بيا بني.
قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدأ في قوله { أراغب أنت عن آلهتي } لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد.
وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى.
والمختار في إعراب { أراغب أنت } أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، و { أنت } فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون { أراغب } خبراً و { أنت } مبتدأ بوجهين :
أحدهما : أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ.
والثاني : أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو { أراغب } وبين معموله الذي هو { عن آلهتي } بما ليس بمعمول للعامل ، لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ بخلاف كون { أنت } فاعلاً فإن معمول { أراغب } فلم يفصل بين { أراغب } وبين { عن آلهتي } بأجنبي إنما فصل بمعمول له.
ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسماً على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق { تنته } محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه ، وأن يكون { لئن لم تنته } عن الرغبة عن آلهتي { لأرجمنك } جواب القسم المحذوف قبل { لئن }.
قال الحسن : بالحجارة.
وقيل : لأقتلنك.
وقال السدي والضحاك وابن جريج : لأشتمنك.
قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف { واهجرني } ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني { واهجرني } لأن { لأرجمنك } تهديد وتقريع انتهى.
وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه ، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية.
فقوله { واهجرني } معطوف على قوله { لئن لم تنته لأرجمنك } وكلاهما معمول للقول.
وانتصب { ملياً } على الظرف أي دهراً طويلاً قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما ، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم : أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له.
وقال الشاعر :
فعسنا بها من الشباب ملاوة . . .
فالحج آيات الرسول المحبب
وقال سيبويه : سير عليه مليّ من الدهر أي زمان طويل.
وقال ابن عباس وغيره : { ملياً } معناه سالماً سوّياً فهو حال من فاعل { واهجرني }.
قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستنداً بحالك غنياً عني { ملياً } بالاكتفاء.
وقال السدي : معناه أبداً.
ومنه قول مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته . . .
وبكت عليه المرملات ملياً
وقال ابن جبير : دهراً ، وأصل الحرف المكث يقال : تمليت حيناً.
وقال الزمخشري : أو { ملياً } بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به انتهى.
{ قال سلام عليك }.
قرأ أبو البرهثيم : سلاماً بالنصب.
قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام.
وقال النقاش حليم : خاطب سفيهاً كقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } وقيل : هي تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم } الآية وبقوله { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } الآية.
و { قال } إبراهيم لأبيه { سلام عليك } وما استدل به متأول ، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم : « لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام » ورفع { سلام } على الابتداء ونصبه على المصدر ، أي سلمت سلاماً دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة ، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلاّ بشرط الإيمان.
ومعنى { سأستغفر لك } أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر.
قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع ، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي ، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه.
وقال الزمخشري : ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع ، فأما القضية العقلية فلا تأباه ، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل ، والذي يدل على صحته قوله تعالى { إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكراً ومستثنى عما وجب فيه.
وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن مستدلاً بقوله { إلاّ عن موعدة وعدها إياه } فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله { لئن لم تنته } الآية.
فكيف يكون وعده بالإيمان؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه.
والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف ، وتقدم شرحه لغة في قوله { كأنك حفي عنها } وقال ابن عباس : رحيماً.
وقال الكلبي : حليماً.
وقال القتبي : باراً.
وقال السدي : حفيك من يهمه أمرك ، ولما كان في قوله { لأرجمنك } فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ، وإن كان قد صدر منه إغلاظ.
ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم ، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء ، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر ، والأظهر أن قوله { وأدعو ربي } معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث : « الدعاء العبادة » لقوله { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء { رب هب لي حكماً } إلى آخره ، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً } مع التواضع لله في كلمة { عسى } وما فيه من هضم النفس.
وفي { عسى } ترج في ضمنه خوف شديد ، ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولاداً أنبياء ، والأرض المقدّسة فكان فيها ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدّاً لعضده ، وإسحاق أصغر من إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق.
وقوله { من رحمتنا } قال الحسن : هي النبوة.
وقال الكلبي : المال والولد ، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة.
ولسان الصدق : الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس ، وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية.
واللسان في كلام العرب الرسالة الرائعة كانت في خير أو شر.
قال الشاعر :
إني أتتني لسان لا أسر بها . . .
وقال آخر :
ندمت على لسان كان مني . . .
ولسان العرب لغتهم وكلامهم.
استجاب الله دعوته { واجعل لي لسان صدق } في الآخرين فصيره قدوة حتى عظمه أهل الأديان كلهم وادعوه.
وقال تعالى { ملة أبيكم إبراهيم } و { ملة إبراهيم حنيفاً } { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } وأعطى ذلك ذريته فأعلى ذكرهم وأثنى عليهم ، كما أعلى ذكرهم وأثنى عليهم كما أعلى ذكره وأثنى عليه.
جثا : قعد على ركبتيه ، وهي قعدة الخائف الذليل يجثو ويجثي جثواً وجثاية.
حتم الأمر : أوجبه.
الندى والنادي : المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة.
وقيل : مجلس أهل الندى وهو الكرم.
وقيل : المجلس فيه الجماعة.
قال حاتم :
فدعيت في أولى الندى . . .
ولم ينظر إليّ بأعين خزر
الري : مصدر رويت من الماء ، واسم مفعول أي مروي قاله أبو علي.
الزي : محاسن مجموعة من الزي وهو الجمع.
كلا : حرف ردع وزجر عند الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين ، وذهب الكسائي ونصر بن يوسف وابن واصل وابن الأنباري إلى أنها بمعنى حقاً ، وذهب النضر بن شميل إلى أنها حرف تصديق بمعنى نعم ، وقد تستعمل مع القسم.
وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أن كلا رد لما قبلها فيجوز الوقف عليها وما بعدها استئناف ، وتكون أيضاً صلة للكلام بمنزلة إي والكلام على هذه المذاهب مذكور في النحو.
الضد : العون يقال : من أضدادكم أي أعوانكم ، وكان العون سمي ضداً لأنه يضاد عدوك وينافيه بإعانته لك عليه : الأز والهز والاستفزاز أخوات ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، ومنه أزيز المرجل وهو غليانه وحركته.
وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة : قدم على سبيل التكرمة ، الأدّ والإدّ : بفتح الهمزة وكسرها العجب.
وقيل : العظيم المنكر والأدّة الشدة ، وأدنيّ الأمر وآدني أثقلني وعظم علي أدّاً.
الهد : قال الجوهري هدّاً البناء هداً كسره.
وقال المبرد : هو سقوط بصوت شديد ، والهدة صوت وقع الحائط ونحوه يقال : هديهد بالكسر هديداً.
وقال الليث : الهد الهدم الشديد.
الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح غيب طرفه في الأرض ، والركاز المال المدفون.
وقيل : الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم.
قال الشاعر :
فتوجست ركز الأنيس فراعها . . .
عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قرأ الكوفيون { مخلصاً } بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة ، أي أخلصه الله للعبادة والنبوة.
كما قال تعالى { إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك والرياء ، أو أخلص نفسه وأسلم وجهه لله.
ونداؤه إياه هو تكليمه تعالى إياه.
و { الطور } الجبل المشهور بالشام ، والظاهر أن { الأيمن } صفة للجانب لقوله في آية أخرى { جانب الطور الأيمن } بنصب الأيمن نعتاً لجانب الطور ، والجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولكن كان على يمين موسى بحسب وقوفه فيه ، وإن كان من اليمن احتمل أن يكون صفة للجانب وهو الراجح ليوافق ذلك في الآيتين ، واحتمل أن يكون صفة للطور إذ معناه الأسعد المبارك.
قال ابن القشيري : في الكلام حذف وتقديره { وناديناه } حين أقبل من مدين ورأى النار من الشجرة وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر { من جانب الطور } أي من ناحية الجبل.
{ وقربناه نجياً } قال الجمهور : تقريب التشريف والكلام واليوم.
وقال ابن عباس : أدنى موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام ، وقاله أبو العالية وميسرة.
وقال سعيد : أردفه جبريل على السلام.
قال الزمخشري : شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة حيث كلمه بغير واسطة ملك انتهى.
ونجى فعيل من المناجاة بمعنى مناج كالجليس ، وهو المنفرد بالمناجاة وهي المسارة بالقول.
وقال قتادة : معنى نجاه صدقه ومن في من رحمتنا للسبب أي من أجل رحمتنا له أو للتبعيض أي بعض رحمتنا.
قال الزمخشري : و { أخاه } على هذا الوجه بدل و { هارون } عطف بيان كقولك رأيت رجلاً أخاك زيداً انتهى.
والذي يظهر أن أخاه مفعول بقوله { ووهبنا } ولا ترادف من بعضاً فتبدل منها ، وكان هارون أسن من موسى طلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته فأجابه و { إسماعيل } هو ابن إبراهيم أبو العرب يمنّيها ومضريها وهو قول الجمهور.
وقيل : إنه إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فشجوا جلدة رأسه فخيره فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته ، وصدق وعده أنه كانت منه مواعيد لله وللناس فوفي بالجميع ، فلذلك خص بصدق الوعد.
قال ابن جريج : لم يعد ربه موعدة إلاّ أنجزها ، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح ، ووعد رجلاً أن يقيم له بمكان فغاب عنه مدة.
قيل : سنة.
وقيل : اثني عشر يوماً فجاءه ، فقال : ما برحت من مكانك؟ فقال : لا والله ، ما كنت لأخلف موعدي.
{ وكان يأمر أهله }.
قال الحسن : قومه وأمته ، وفي مصحف عبد الله وكان يأمر قومه.
وقال الزمخشري : كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنهم أولى من سائر الناس
{ وأنذر عشيرتك الأقربين } و { وأمر أهلك بالصلاة } { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } أي ترى أنهم أحق فتصدق عليهم بالإحسان الديني أولى.
وقيل : { أهله } أمته كلهم من القرابة وغيرهم ، لأن أمم النبيين في عداد أهاليهم ، وفيه أن حق الصالح أن لا يألو نصحاً للأجانب فضلاً عن الأقارب والمتصلين ، وأن يخطيهم بالفوائد الدينية ولا يفرط في ذلك انتهى.
وقال أيضاً ذكر إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً كالتلقيب نحو الحليم الأواه والصديق ، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
وقرأ الجمهور { مرضياً } وهو اسم مفعول أي مرضو وفاعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة ، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنها وليت حركة ، ولو بنيت من ذوات الواو مفعلاً لصار مفعلاً لأن الواو لا تكون طرفاً وقبلها متحرك في الأسماء المتمكنة غير المتقيدة بالإضافة ، ألا ترى أنهم حين سموا بيغزو الغازي من الضمير قالوا : بغز حين صار اسماً ، وهذا الإعلال أرجح من التصحيح ، ولأنه اعتل في رضي وفي رضيان تثنية رضي.
وقرأ ابن أبي عبلة : مرضواً مصححاً.
وقالت العرب : أرض مسنية ومسنوة ، وهي التي تسقى بالسواني.
و { إدريس } هو جد أبي نوح وهو أخنوخ ، وهو أول من نظر في النجوم والحساب ، وجعله الله من معجزاته وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط ، وكان خياطاً وكانوا قبل يلبسون الجلود ، وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل.
وقال ابن مسعود : هو إلياس بعث إلى قومه بأن يقولوا لا إله إلاّ الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا.
و { إدريس } اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة ، ولا جائز أن يكون إفعيلاً من الدرس كما قال بعضهم لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلاّ سبب واحد وهو العلمية.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون معنى { إدريس } في تلك اللغة قريباً من ذلك أي من معنى الدرس ، فحسبه القائل مشتقاً من الدرس.
والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة انتهى.
وقاله جماعة وهو رفع النبوة والتشريف والمنزلة في السماء كسائر الأنبياء.
وقيل : بل رفع إلى السماء.
قال ابن عباس : كان ذلك بأمر الله كما رفع عيسى كان له خليل من الملائكة فحمله على جناحه وصعد به حتى بلغ السماء الرابعة ، فلقي هنالك ملك الموت فقال له : إنه قيل لي اهبط إلى السماء الرابعة فاقبض فيها روح إدريس وإني لأعجب كيف يكون هذا ، فقال له الملك الصاعد : هذا إدريس معي فقبض روحه.
وروي أن هذا كله كان في السماء السادسة قاله ابن عباس.
وكذلك هي رتبته في حديث الإسراء في بعض الروايات من حديث أبي هريرة وأنس يقتضي أنه في السماء الرابعة.
وعن الحسن : إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة.
وقال قتادة : يعبد الله مع الملائكة في السماء السابعة ، وتارة يرفع في الجنة حيث شاء.
وقال مقاتل : هو ميت في السماء.
{ أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء و { من } في { من النبيين } للبيان ، لأن جميع الأنبياء منعم عليهم و { من } الثانية للتبعيض ، وكان إدريس { من ذرية آدم } لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح ، لأنه من ولد سام بن نوح { ومن ذرية إبراهيم } إسحاق وإسماعيل ويعقوب وإسرائيل معطوف على إبراهيم ، وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل ، وكذلك عيسى لأن مريم من ذريته.
{ وممن هدينا } يحتمل العطف على { من } الأولى أو الثانية ، والظاهر أن { الذين } خبر لأولئك.
{ وإذا تتلى } كلام مستأنف ، ويجوز أن يكون { الذين } صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر.
وقرأ الجمهور { تتلى } بتاء التأنيث.
وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس ، وابن ذكوان في رواية التغلي بالياء.
وانتصب { سجداً } على الحال المقدرة قاله الزجّاج لأنه حال خروره لا يكون ساجداً ، والبكي جمع باك كشاهد وشهود ، ولا يحفظ فيه جمعه المقيس وهو فعلة كرام ورماة والقياس يقتضيه.
وقرأ الجمهور { بكياً } بضم الباء وعبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي بكسرها اتباعاً لحركة الكاف كعصي ودلي ، والذي يظهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله.
قيل : ويجوز أن يكون مصدر البكا بمعنى بكاء ، وأصله بكو وكجلس جلوساً.
وقال ابن عطية : و { بكياً } بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك انتهى.
وقوله ليس بسديد لأن اتباع حركة الكاف لا تعين المصدرية ، ألا تراهم قروؤا { جثياً } بكسر الجيم جمع جاث ، وقالوا عصي فاتبعوا.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
نزل { فخلف } في اليهود عن ابن عباس ومقاتل ، وفيهم وفي النصارى عن السدي ، وفي قوم من أمّة الرسول يأتون عند ذهاب صالحيها يتبارزون بالزنا ينزو في الأزقة بعضهم على بعض عن مجاهد وقتادة وعطاء ومحمد بن كعب القرظي.
وعن وهب : هم شرّابو القهوة ، وتقدم الكلام على { خلف } في الأعراف ، وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز.
وقال القرظي واختاره الزجّاج : إضاعتها الإخلال بشروطها.
وقيل : إقامتها في غير الجماعات.
وقيل : عدم اعتقاد وجوبها.
وقيل : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع.
والاسباب ، و { الشهوات } عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله.
وعن عليّ من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور.
وقرأ عبد الله والحسن وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم الصلوات جمعاً.
والغيّ عند العرب كل شر ، والرشاد كل خير.
قال الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره . . .
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
وقال الزجاج : هو على حذف مضاف أي جزاء غي كقوله { يلق أثاماً } أي مجازة آثام.
وقال ابن زيد : الغي الخسران والحصول في الورطات.
وقال عبد الله بن عمرو وابن مسعود وكعب : غيّ واد في جهنم.
وقال ابن زيد : ضلال.
وقال الزمخشري : أو { غياً } عن طريق الجنة.
وحكى الكرماني : آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح.
وقيل : هلاك.
وقيل : شر.
وقرىء فيما حكى الأخفش { يلقون } بضم الياء وفتح اللام وشد القاف.
{ إلا من تاب } استثناء ظاهره الاتصال.
وقال الزجاج : منقطع { وآمن } هذا يدل على أن تلك الإضاعة كفر ، وقرأ الحسن { يدخلون } مبنياً للفاعل ، وكذا كل ما في القرآن من { يدخلون }.
وقرأ كذلك هنا الزهري وحميد وشيبة والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان.
وقرأ ابن غزوان عن طلحة : سيدخلون بسين الاستقبال مبنياً للفاعل.
وقرأ الجمهور جنات نصباً جمعاً بدلاً من { الجنة } { ولا يظلمون شيئاً } اعتراض أو حال.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو { جنات } رفعاً جمعاً أي تلك جنات وقال الزمخشري الرفع على الابتداء انتهى يعني والخبر { التي }.
وقرأ الحسن بن حي وعليّ بن صالح جنة عدن نصباً مفرداً ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله.
وقرأ اليماني والحسن وإسحاق الأزرق عن حمزة جنة رفعاً مفرداً و { عدن } إن كان علماً شخصياً كان التي نعتاً لما أضيف إلى { عدن } وإن كان المعنى إقامة كان { التي } بدلاً.
وقال الزمخشري : { عدن } معرفة علم لمعنى العدن وهو الإقامة ، كما جعلوا فينة وسحر وأمس في من لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس ، فجرى العدن كذلك.
أو هو علم الأرض الجنة لكونه مكان إقامة ، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلاّ موصوفة ، ولما ساغ وصفها بالتي انتهى.
وما ذكره متعقب.
أما دعواه أن عدناً علم لمعنى العدن فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب ، وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه.
وأما قوله ولو لا ذلك إلى قوله موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة ، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع علم ما بيناه في كتبنا في النحو ، فملازمته فاسدة.
وأما قوله : ولما ساغ وصفها بالتي فلا يتعين كون التي صفة ، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً و { بالغيب } حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أو وهم غائبون عنها لا يشاهدونها ، ويحتمل أن تكون الباء للسبب أي بتصديق الغيب والإيمان به.
وقال أبو مسلم : المراد الذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر ، والظاهر أن { وعده } مصدر.
فقيل : { مأتياً } بمعنى آتياً.
وقيل : هو على موضوعه من أنه اسم المفعول.
وقال الزمخشري : { مأتياً } مفعول بمعنى فاعل ، والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها ، أو هو من قولك أتى إليه إحساناً أي كان وعده مفعولاً منجزاً ، والقول الثاني وهو قوله : والوجه مأخوذ من قول ابن جريج قال : { وعده } هنا موعوده وهو الجنة ، و { مأتياً } يأتيه أولياؤه انتهى.
{ إلا سلاماً } استثناء منقطع وهو قول الملائكة { سلام عليكم بما صبرتم } وقيل : يسلم الله عليهم عند دخولها.
ومعنى { بكرة وعشياً } يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن.
وقال مجاهد : لا بكرة ولا عشي ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
وقد ذكر نحوه قتادة أن تكون مخاطبة بما تعرف العرب في رفاهة العيش.
وقال الحسن : خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش ، وذلك أن كثيراً من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم ، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان.
وقال الزمخشري : اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته ، وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها.
وما أحسن قوله { وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً } { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } الآية أي أن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم { لغواً } فلا يسمعون لغواً إلاّ ذلك فهو من وادي قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . .
بهن فلول من قراع الكتائب
أو { لا يسمعون فيها } إلاّ قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة على الاستثناء المنقطع ، أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلام هي دار السلامة وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء.
فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الكلام.
وقال أيضاً : ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير.
ولأن المتنعم عند العرب من وجد غداءً وعشاءً.
وقيل : أراد دوام الرزق ودروره كما تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً ، ولا يقصد الوقتين المعلومين انتهى.
وقرأ الجمهور { نورث } مضارع أورث ، والأعمش نورثها بإبراز الضمير العائد على الموصول ، والحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الواو وتشديد الراء.
والتوريث استعارة أي تبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث ، والأتقياء يلقون ربهم قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة ، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى.
وقيل : أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا.
{ وما نتنزل إلاّ بأمر ربك } أبطأ جبريل عن الرسول مرة ، فلما جاء قال : « يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا » ؟ فنزلت.
وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل عليه السلام تأخر في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف وهي كالتي في الضحى ، وتنزل تفعل وهي للمطاوعة وهي أحد معاني تفعل ، تقول : نزلته فتنزل فتكون لمواصلة العمل في مهلة ، وقد تكون لا يلحظ فيه ذلك إذا كان بمعنى المجرد كقولهم : تعدى الشيء وعداه ولا يكون مطاوعاً فيكون تنزل في معنى نزل.
كما قال الشاعر :
فلست لأنسى ولكن لملاك . . .
تنزل من جو السماء يصوب
وقال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل ، ومعنى النزول على الإطلاق.
كقوله :
فلست لأنسى البيت
لأنه مطاوع نزّل ونزّل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل ، والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً غبّ وقت انتهى.
وقال ابن عطية : وهذه الواو التي في قوله { وما نتنزل } هي عاطفة جملة كلام على أخرى واصلة بين القولين ، وإن لم يكن معناهما واحداً.
وحكى النقاش عن قوم أن قوله و { ما نتنزل } متصل بقوله { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } وهذا قول ضعيف انتهى.
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا ومريم وذكر إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ثم ذكر أنهم أنعم تعالى عليهم وقال { ومن ذرية إبراهيم } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم ، وذكر تعالى أنه خلف بعد هؤلاء خلف وهم اليهود والنصارى أصحاب الكتب لأن غيرهم لا يقال فيهم أضاعوا الصلاة إنما يقال ذلك فيمن كانت له شريعة فرض عليهم فيها الصلاة بوحي من الله تعالى ، وكان اليهود هم سبب سؤال قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم تلك المسائل الثلاث ، وأبطأ الوحي عنه ففرحت بذلك قريش واليهود وكان ذلك من اتباع شهواتهم ، هذا وهم عالمون بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { وما نتنزل } تنبيهاً على قصة قريش واليهود ، وأن أصل تلك القصة إنما حدثت من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وختماً لقصص أولئك المنعم عليهم لمخاطبة أشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم واستعذاراً من جبريل عليه السلام للرسول بأن ذلك الإبطاء لم يكن منه إذ لا يتنزل إلاّ بأمر الله تعالى ، ولما كان إبطاء الوحي سببه قصة السؤال وكونه صلى الله عليه وسلم لم يقرن أن يجيبهم بالمشيئة ، وكان السؤال متسبباً عن اتباع اليهود شهواتهم وخفيات خبثهم اكتفى بذكر النتيجة المتأخرة عن ذكر ما آثرته شهواتهم الدنيوية وخبثهم.
قال أبو العالية : ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى ، وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث ، وما بين ذلك ما بين النفختين.
قال ابن عطية : وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم ، وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله.
وقال ابن جريج : ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد ، وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة ، وما بين ذلك هو مدة الحياة.
وفي كتاب التحرير والتحبير { ما بين أيدينا } الآخرة { وما خلفنا } الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان.
وقال مجاهد : عكسه.
وقال الأخفش : { ما بين أيدينا } قبل أن نخلق { وما خلفنا } بعد الفناء { وما بين ذلك } ما بين الدنيا والآخرة.
وقال مجاهد وعكرمة وأبو العالية : ما بين النفختين.
وقال الأخفش : حين كوننا.
وقال صاحب الغينان : { ما بين أيدينا } نزول الملائكة من السماء ، { وما خلفنا } من الأرض { وما بين ذلك } ما بين السماء والأرض.
قال ابن القشيري مثل قول ابن جريج ، ثم قال : حصر الأزمنة الثلاثة وهي أن كلها لله هو منشئها ومدبر أمرها على ما يشاء من تقديم إنزال وتأخيره انتهى.
وفيه بعض تلخيص وتصرف.
وقال ابن عطية : إنما القصد الإشعار بملك الله تعالى لملائكته ، وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد بما بين الأيدي وما خلف الأمكنة التي فيها تصرفهم والمراد بما بين ذلك هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهاً كأنه قال : نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتنزل إلاّ بأمر ربك انتهى.
وما قاله فيه ابن عطية له إلى آخره ذهب إلى نحوه الزمخشري قال له : ما قدامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن.
وما نحن فيها ، فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلاّ بأمر المليك ومشيئته ، والمعنى أنه محيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلاّ صادراً عما توجبه حكمته ويأمرنا ويأذن لنا فيه انتهى.
وقال البغوي : له علم ما بين أيدينا.
وقال أبو مسلم وابن بحر : { وما نتنزل } الآية ليس من كلام الملائكة وإنما هو من كلام أهل الجنة بعضهم لبعض إذا دخلوها وهي متصلة بالآية الأولى إلى قوله { وما بين ذلك } أي ما ننزل الجنة إلاّ بأمر ربك له { ما بين أيدينا } أي في الجنة مستقبلاً { وما خلفنا } مما كان في الدنيا وما بينهما أي ما بين الوقتين.
وحكى الزمخشري هذا القول فقال : وقيل هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة أي وما ننزل الجنة إلاّ بإذن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة ، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازي عليها.
ثم قال تعالى تقريراً لهم { وما كان ربك نسياً } لأعمال العاملين غافلاً عما يجب أن يثابوا به ، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السموات والأرض وما بينهما انتهى.
وقال القاضي : هذا مخالف للظاهر من وجوه.
أحدهما : أن ظاهر التنزيل نزول الملائكة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولقوله { بأمر ربك } فظاهر الأمر بحال التكليف أليق.
وثانيها : خطاب من جماعة لواحد ، وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة.
وثالثها : أن ما في مساقه { وما كان ربك نسياً رب السموات والأرض } لا يليق بحال التكليف ولا يوصف به الرسول انتهى.
وقرأ الجمهور { وما نتنزل } بالنون عنى جبريل نفسه والملائكة.
وقرأ الأعرج بالياء على أنه خبر من الله.
قيل : والضمير في يتنزل عائد على جبريل عليه السلام.
قال ابن عطية : ويردّه له { ما بين أيدينا } لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضمير للوحي انتهى.
ويحمل ذلك القول على إضمار أي وما يتنزل جبريل إلاّ بأمر ربك قائلاً له { ما بين أيدينا } أي يقول ذلك على سبيل الاستعذار في البطء عنك بأن ربك متصرف فينا ليس لنا أن نتصرف إلاّ بمشيئته ، وإخبار أنه تعالى ليس بناسيك وإن تأخر عنك الوحي.
وارتفع { رب السموات } على البدل أو على خبر مبتدإٍ محذوف.
وقرأ الجمهور { هل تعلم } بإظهار اللام عند التاء.
وقرأ الأخوان وهشام وعليّ بن نصر وهارون كلاهما عن أبي عمرو والحسن والأعمش وعيسى وابن محيصن بالإدغام فيهما.
قال أبو عبيدة : هما لغتان وعلى الإدغام أنشدوا بيت مزاحم العقيلي :
فذر ذا ولكن هل تعين متيماً . . .
على ضوء برق آخر الليل ناصب
وعدي فاصطبر باللام على سبيل التضمين أي اثبت بالصبر لعبادته لأن العبادة تورد شدائد ، فاثبت لها وأصله التعدية بعلى كقوله تعالى { واصطبر عليها } والسميّ من توافق في الاسم تقول : هذا سميك أي اسمه مثل اسمك ، فالمعنى أنه لم يسم بلفظ الله شيء قط ، وكان المشركون يسمون أصنامهم آلهة والعزّى إله وأما لفظ الله فلم يطلقوه على شيء من أصنامهم.
وعن ابن عباس : لا يسمى أحد الرحمن غيره.
وقيل : يحتمل أن يعود ذلك على قوله { رب السموات والأرض وما بينهما } أي هل تعلم من يسمى أو يوصف بهذا الوصف ، أي ليس أحد من الأمم يسمى شيئاً بهذا الاسم سوى الله.
وقال مجاهد وابن جبير وقتادة { سمياً } مثلاً وشبيهاً ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً.
قال ابن عطية : وكان السميّ بمعنى المسامي والمضاهي فهو من السمو ، وهذا قول حسن ولا يحسن في ذكر يحيى انتهى.
يعني لم نجعل له من قبل { سمياً }.
وقال غيره : يقال فلان سميّ فلان إذا شاركه في اللفظ ، وسمِّيه إذا كان مماثلاً له في صفاته الجميلة ومناقبه.
ومنه قول الشاعر :
فأنت سمي للزبير ولست للزبير . . .
سمياً إذ غدا ما له مثل
وقال الزجاج : هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له خالق وقادراً إلاّ هو.
وقال الضحاك : ولداً رداً على من يقول ولد الله.
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
قيل : سبب النزول أن رجلاً من قريش قيل هو أُبَيّ بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه ، وقال للرسول : أيبعث هذا؟ وكذب وسخر ، وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم.
كقول الفرزدق :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به . . .
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
أسند الضرب إلى بني عبس مع قوله نبا بيدي ، ورقاء وهو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي ، أو للجنس الكافر المنكر للبعث أو المعنى أُبَيّ بن خلف ، أو العاصي بن وائل ، أو أبو جهل ، أو الوليد بن المغيرة أقوال.
وقرأ الجمهور { أئذا } بهمزة الاستفهام.
وقرأت فرقة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إذا بدون همزة الاستفهام.
وقرأ الجمهور { لسوف } باللام.
وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف ، فعلى قراءته تكون إذاً معمولاً لقوله سأخرج لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله ، على أن فيه خلافاً شاذاً وصاحبه محجوج بالسماع.
قال الشاعر :
فلما رأته آمناً هان وجدها . . .
وقالت أبونا هكذا سوف يفعل
فهكذا منصوب بفعل وهو بحرف الاستقبال.
وحكى الزمخشري أن طلحة بن مصرف قرأ لسأخرج ، وأما على قراءة الجمهور وما نقله الزمخشري من قراءة طلحة فاللام لام الابتداء فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فيقدر العالمل محذوفاً من معنى { لسوف أخرج } تقديره إذا ما مت أبعث.
وقال الزمخشري : فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت : لم تجامعها إلاّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض ، واضمحل عنها معنى التعريف انتهى.
وما ذكر من أن اللام تعطي معنى الحال مخالف فيه ، فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال ، وأما قوله كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلاّ على مذهب من يزعم أن الأصل فيه إله ، وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شيء ، ولو قلنا إن أصله إله وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض ، إذ لو كانت للعوض من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره ، ولما جاز حذفها في النداء قالوا : يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذ.
وقال ابن عطية : واللام في قوله { لسوف } مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلاً قال للكافر : إذا مت يا فلان لسوف تخرج حياً ، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد ، وكرر اللام حكاية للقول الأول انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا التقدير ولا أن هذا حكاية لقول تقدم ، بل هذا من الكافر استفهام فيه معنى الجحد والإنكار ، ومن قرأ إذا ما أن تكون حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليه ، وإما أن يكون إخباراً على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك إذ لم يرد به مطابقة اللفظ للمعنى.
وقرأ الجمهور { أُخرج } مبنياً للمفعول.
وقرأ الحسن وأبو حيوة مبنياً للفاعل.
وقال الزمخشري : وإيلاؤه أي وإيلاء الظرف حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ، ومنه جاء إنكارهم فهو كقولك للمسيء إلى المحسن أحين تمت عليك نعمة فلأن أسأت إليه.
وقرأ أبو بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبو حاتم ومن السبعة عاصم وابن عامر ونافع { أو لا يذكر } خفيفاً مضارع ذكر.
وقرأ باقي السبعة بفتح الذال والكاف وتشديدهما أصله يتذكر أدغم التاء في الذال.
وقرأ أُبَيّ يتذكر على الأصل.
قال الزمخشري : الواو عاطفة لا يذكر على يقول ، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف انتهى.
وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها ، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام ، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو فيقر الهمزة على حالها ، وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة.
{ أنّا خلقناه من قبل } أي أنشأناه واخترعناه من العدم الصرف إلى الوجود ، فكيف ينكر النشأة الثانية وهذه الحجة في غاية الاختصار والإلزام للخصم ، ويسمى هذا النوع الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي ، وقد تكرر هذا الاحتجاج في القرآن : { ولم يك شيئاً } إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه يدل على أن المعدوم لا يسمى شيئاً.
وقال أبو علي الفارسي : { ولم يك شيئاً } موجود أو هي نزعة اعتزالية والمحذوف المضاف إليه { قبل } في التقدير قدره بعضهم { من قبل } بعثه ، وقدره الزمخشري { من قبل } الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه انتهى.
ولما أقام تعالى الحجة الدامغة على حقية البعث أقسم على ذلك باسمه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتفخيماً ، وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيماً لحقه ورفعاً منه كما رفع من شأن السماء والأرض بقوله { فورب السماء والأرض إنه لحق } والواو في { والشياطين } للعطف أو بمعنى مع يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم ، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وهذا إذا كان الضمير في { لنحشرنهم } للكفرة وهو قول ابن عطية وما جاء بعد ذلك فهو من الإخبار عنهم وبدأ به الزمخشري ، والظاهر أنه عام للخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ولم يفرق بين المؤمنين والكافرين كما فرق في الجزاء ، وأحضروا جميعاً وأوردوا النار ليعاين المؤمنون الأهوال التي نجوا منها فيسروا بذلك ويشمتوا بأعدائهم الكفار ، وإذا كان الضمير عاماً فالمعنى يتجاثون عند موافاة شاطىء جهنم كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التوافق للحساب قبل الوصول إلى الثواب والعقاب.
وقال تعالى في حالة الموقف { وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها } و { جثياً } حال مقدرة.
وعن ابن عباس : قعوداً ، وعنه جماعات جماعات جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة.
وقال مجاهد والحسن والزجّاج : على الركب.
وقال السدّي قياماً على الركب لضيق المكان بهم.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص { جثياً } و { عتياً } و { صلياً } بكسر الجيم والعين والصاد والجمهور بضمها { ثم لننزعن } أي لنخرجن كقوله { ونزع يده } وقيل : لنرمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم ، والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب.
قال أبو الأحوص : يبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً.
وقال الزمخشري : يمتاز من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب فقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، والضمير في { أيهم } عائد على المحشورين المحضرين.
وقرأ الجمهور { أيهم } بالرفع وهي حركة بناء على مذهب سيبويه ، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة : و { أشد } خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة لأيهم وحركة إعراب على مذهب الخليل ويونس على اختلاف في التخريج.
و { أيهم أشد } مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل أي الذين يقال فيهم { أيهم أشد }.
وفي موضع نصب فيعلق عنه { لننزعن } على مذهب يونس ، والترجيح بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على من كل شيعة كقوله { ووهبنا لهم من رحمتنا } أي { لننزعن } بعض { كل شيعة } فكأن قائلاً قال : من هم؟ فقيل إنهم أشد { عتياً } انتهى.
فتكون { أيهم } موصولة خبر مبتدأ محذوف ، وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه ، وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين ، وقرن الخليل تخريجه بقول الشاعر :
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل . . .
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت يقال فيّ لا حرج ولا محروم ، ورجح الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبويه في هذه المسألة.
قال سيبويه : ويلزم على هذا أن يجوز اضرب السارق الخبيث الذي يقال له قيل ، وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة.
ومذهب الكسائي أن معنى { لننزعن } لنناذين فعومل معاملته فلم تعمل في أي انتهى.
ونقل هذا عن الفراء.
قال المهدوي : ونادى تعلق إذا كان بعده جملة نصب فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ.
وقال المبرد : { أيهم } متعلق بشيعة ، فلذلك ارتفع والمعنى من الذين تشايعوا { أيهم أشد } كأنهم يتبادرون إلى هذا ، ويلزم أن يقدر مفعولاً { لننزعن } محذوفاً وقدر أيضاً في هذا المذهب من الذين تشايعوا { أيهم } أي من الذين تعاونوا فنظروا { أيهم أشد }.
قال النحاس : وهذا قول حسن.
وقد حكى الكسائي أن التشايع هو التعاون.
وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول : في { أيهم } معنى الشرط ، تقول : ضربت القوم أيهم غضب ، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا فعلى هذا يكون التقدير إن اشتد عتوهم أو لم يشتد.
وقرأ طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش { أيهم } بالنصب مفعولاً بلننزعنّ ، وهاتان القراءتان تدلان على أن مذهب سيبويه أنه لا يتحتم فيها البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها ، وقد نقل عنه تحتم البناء وينبغي أن يكون فيه على مذهبه البناء والإعراب.
قال أبو عمرو الجرمي : خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول لأضربن أيهم قائم بالضم بل بنصبها انتهى.
وقال أبو جعفر النحاس : وما علمت أحداً من النحويين إلاّ وقد خطأ سيبويه ، وسمعت أبا إسحاق يعني الزجاج يقول : ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلاّ في موضعين هذا أحدهما.
قال : وقد أعرب سيبويه أياً وهي مفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟.
و { على الرحمن } متعلق بأشد.
و { عتياً } تمييز محول من المبتدإ تقديره { أيهم } هو عتوه { أشد على الرحمن } وفي الكلام حذف تقديره فيلقيه في أشد العذاب ، أو فيبدأ بعذابه ثم بمن دونه إلى آخرهم عذاباً.
وفي الحديث : " إنه تبدو عنق من النار فتقول : إني أمرت بكل جبار عنيد فتلتقطهم " وفي بعض الآثار : «يحضرون جميعاً حول جهنم مسلسلين مغلولين ثم يقدم الأكفر فالأكفر».
قال ابن عباس : { عتياً } جراءة.
وقال مجاهد : فجراً.
وقيل : افتراء بلغة تميم.
وقيل : { عتياً } جمع عات فانتصابه على الحال.
{ ثم لنحن أعلم } أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً غير موضعه ، لأنا قد أحطنا علماً بكل واحد فأولى بصلى النار نعلمه.
قال ابن جريج : أولى بالخلود.
وقال الكلبي { صلياً } دخولاً.
وقيل : لزوماً.
وقيل : جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى.
والواو في قوله { وإن منكم } للعطف.
وقال ابن عطية : { وإن منكم إلاّ واردها } قسم والواو تقتضيه ، ويفسره قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاّ تحلة القسم " انتهى.
وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلاّ إذا كان الجواب باللام أو بأن ، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا.
وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم ، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ، ولا يجوز ذلك إلاّ إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم : نعم السير على بئس العير ، أي على عير بئس العير.
وقول الشاعر :
والله ما زيد بنام صاحبه . . .
أي برجل نام صاحبه.
وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.
وقرأ الجمهور { منكم } بكاف الخطاب ، والظاهر أنه عام للخلق وأنه ليس الورود الدخول لجميعهم ، فعن ابن مسعود والحسن وقتادة هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها.
وعن ابن عباس : قد يرد الشيء ولم يدخله كقوله { ولما ورد ماء مدين } ووردت القافلة البلد ولم تدخله ، ولكن قربت منه أو وصلت إليه.
قال الشاعر :
فلما وردن الماء زرقاً جمامة . . .
وضعن عصى الحاضر المتخيم
وتقول العرب : وردنا ماء بني تميم وبني كلب إذا حضروهم ودخلوا بلادهم ، وليس يراد به الماء بعينه.
وقيل : الخطاب للكفار أي قل لهم يا محمد فيكون الورود في حقهم الدخول ، وعلى قول من قال الخطاب عام وأن المؤمنين والكافرين يدخلون النار ولكن لا تضر المؤمنين ، وذكروا كيفية دخول المؤمنين النار بما لا يعجبني نقله في كتابي هذا لشناعة قولهم إن المؤمنين يدخلون النار وإن لم تضرهم.
وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة وإن منهم بالهاء للغيبة على ما تقدم من الضمائر.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى بيِّن ، واسم { كان } مضمر يعود على الورود أي كان ورودهم حتماً أي واجباً قضي به.
وقرأ الجمهور { ثم } بحرف العطف وهذا يدل على أن الورود عام.
وقرأ عبد الله وابن عباس وأبيّ وعليّ والجحدري وابن أبي ليلى ومعاوية بن قرة ويعقوب ثَمَّ بفتح الثاء أي هناك ، ووقف ابن أبي ليلى ثمه بهاء السكت.
وقرأ الجمهور : { ننجي } بفتح النون وتشديد الجيم.
وقرأ يحيى والأعمش والكسائي وابن محيصن بإسكان النون وتخفيف الجيم.
وقرأت فرقة نجي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة.
وقرأ علي : ننحي بحاء مهملة مضارع نحى ، ومفعول { اتقوا } محذوف أي الشرك والظلم هنا ظلم الكفر.
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه ، كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس ، فقالوا للمؤمنين : { أي الفريقين خير مقاماً } أي منزلاً وسكناً { وأحسن ندياً } ولما أقام الحجة على منكري البعث وأتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا ، وذلك عندهم يدل على كرامتهم على الله.
وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن يتلي بالياء والجمهور بالتاء من فوق كان المؤمن يتلو على الكافر القرآن وينوه بآيات النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول الكافر : إنما يحسن الله لأحب الخلق إليه وينعم على أهل الحق ، ونحن قد أنعم علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ، ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة.
ومعنى { بينات } مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني أو ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين.
و { بينات } حال مؤكدة لأن آياته تعالى لا تكون إلاّ بهذا الوصف دائماً.
وقرأ الجمهور { مقاماً } بفتح الميم.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمر وبضم الميم واحتمل الفتح والضم أن يكون مصدراً أو موضع قيام أو إقامة ، وانتصابه على التمييز.
ثم ذكر تعالى كثرة ما أهلك من القرون ممن كان أحسن حالاً منهم في الدنيا تنبيهاً على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم كما فعل بغيرهم واتعاظاً لهم إن كانوا ممن يتعظ ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من حسن الأثاث والري ، ويعني إهلاك تكذيب لما جاءت به الرسل.
و { من قرن } تبيين لكم و { كم } مفعول بأهلكنا.
وقال الزمخشري : و { هم أحسن } في محل النصب صفة لكم.
ألا ترى أنك لو تركت { هك } لم يكن لك بد من نصب { أحسن } على الوصفية انتهى.
وتابعه أبو البقاء على أن { هم أحسن } صفة لكم ، ونص أصحابنا على أن { كم } الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها ، فعلى هذا يكون { هم أحسن } في موضع الصفة لقرن ، وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه ، ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربياً فصار كلفظ جميع.
قال { لما جميع لدينا محضرون } وقال : نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وتقدم تفسير الأثاث في سورة النحل.
وقرأ الجمهور { ورئياً } بالهمزة من رؤية العين فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقي.
وقال ابن عباس : الرئي المنظر.
وقال الحسن : معناه صوراً.
وقال الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيواب وابن سعدان وابن ذكوان وقالون ورياً بتشديد الياء من غير همز ، فاحتمل أن يكون مهموز الأصل من الرواء والمنظر سهلت همزته بإبدالها ياء ثم أدغمت الياء في الياء ، واحتمل أن يكون من الريّ ضد العطش لأن الريان من الماء له من الحسن والنضارة ما يستحب ويستحن ، كماله منظر حسن من وجه آخر مما يرى ويقابل.
وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش عن عاصم وحميد { ورئياً } بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا ، وكأنه من راء.
قال الشاعر :
وكل خليل رآني فهو قائل . . .
من أجل هذا هامة اليوم أو غد
وقرىء ورياءً بياء بعدها ألف بعدها همزة ، حكاها اليزيدي وأصله ورئاء من المراءاة أي يرى بعضهم بعضاً حسنه.
وقرأ ابن عباس ، فيما روي عنه طلحة ورياً من غير همز ولا تشديد ، فتجاسر بعض الناس وقال هي لحن وليس كذلك بل لها توجيه بأن تكون من الرواء ، وقلب فصار { ورئياً } ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء وحذفت ، أو بأن تكون من الريّ وحذفت إحدى الياءين تخفيفاً كما حذفت في لا سيما ، والمحذوفة الثانية لأنها لام الكلمة لأن النقل إنما حصل للكلمة بانضمامها إلى الأولى فهي أولى بالحذف.
وقرأ ابن عباس أيضاً وابن جبير ويزيد البربري والأعسم المكي وزياً بالزاي مشدد الياء وهي البزة الحسنة ، والآلات المجتمعة المستحسنة.
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{ فليمدد } يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء ، وكان المعنى الأضل منا ومنكم مدّ الله له ، أي أملى له حتى يؤول إلى عذابه.
وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل ، ويحتمل أن يكون خبراً في المعنى وصورته صورة الأمر ، كأنه يقول : من كان ضالاً من الأمم فعادة الله له أنه يمدد له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة.
وقال الزمخشري : أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك ، وإنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } أو كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } والظاهر أن { حتى } غاية لقوله { فليمدد } والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم فيها إلى أن يعاينوا العذاب بنصرة الله المؤمنين أو الساعة ومقدماتها.
وقال الزمخشري : في هذه الآية وجهان أحدهما أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها ، والآيتان اعتراض بينهما أي قالوا { أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً } { حتى إذا رأوا ما يوعدون } أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { إما العذاب } في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم ، وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً ، وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه ، وأنهم { شر مكاناً وأضعف جنداً } لا { خير مقاماً وأحسن ندياً } وأن المؤمنين على خلاف صفتهم.
انتهى هذا الوجه وهو في غاية البعد لطول الفصل بين قوله قالوا : { أي الفريقين } وبين الغاية وفيه الفصل بجملتي اعتراض ولا يجيز ذلك أبو علي.
قال الزمخشري : والثاني أن يتصل بما يليها فذكر نحواً مما قدمناه ، وقابل قولهم خير مكاناً بقوله { شر مكاناً } وقوله { وأحسن ندياً } بقوله { وأضعف جنداً } لأن الندي هو المجلس الجامع لوجوه القوم والأعوان ، والأنصار والجند هم الأعوان ، والأنصار و { إما العذاب وإما الساعة } بدل من ما المفعولة برأوا.
و { من } موصولة مفعولة بقوله { فسيعلمون } وتعدى إلى واحد واستفهامية ، والفعل قبلها معلق والجملة في موضع نصب.
ولما ذكر إمداد الضال في ضلالته وارتباكه في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذلك بزيادة هدى للمهتدي وبذكر { الباقيات } التي هي بدل من تنعمهم في الدنيا الذي يضمحل ولا يثبت.
و { مرداً } معناه مرجعاً وتقدم تفسير { الباقيات الصالحات } في الكهف.
وقال الزمخشري : { يزيد } معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في الضلالة مداً ويمد له الرحمن { ويزيد } أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ، ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه انتهى.
ولا يصح أن يكون { ويزيد } معطوفاً على موضع { فليمدد } سواء كان دعاء أم خبراً بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر إن كانت { من } موصولة أو في موضع الجواب إن كانت { من } شرطية ، وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ أو جملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على الخبر خبر ، والمعطوف على جملة الجزاء جزاء ، وإذا كانت أداة الشرط اسماً لا ظرفاً تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقول مقامه ، وكذا في الجملة المعطوفة عليها.
وقال الزمخشري : هي { خير } { ثواباً } من مفاخرات الكفار { وخير مرداً } أي وخير مرجعاً وعاقبة أو منفعة من قولهم ليس لهذا الأمر مرد وهل يرد مكاني زيداً.
فإن قلت : كيف قيل خير ثواباً كان لمفاخراتهم ثواباً حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه؟ قلت : كأنه قيل ثوابهم النار على طريقة قوله فاعتبوا بالصيلم.
وقوله :
شجعاء جربها الذميل تلوكه . . .
أصلاً إذا راح المطي غراثاً
وقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع . . .
ثم بنى عليه خير ثواباً وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له عقابك النار.
فإن قلت : فما وجه التفضيل في الخبر كان لمفاخرهم شركاء فيه؟ قلت : هذا من وجيز كلامهم يقولون : الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده انتهى.
{ أفرأيت الذي كفر بآياتنا } نزلت في العاصي بن وائل عمل له خباب بن الأرث عملاً وكان قيناً ، فاجتمع له عنده دين فتقاضاه فقال : لا أنصفك حتى تكفر بمحمد ، فقال خباب : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك.
فقال العاصي : أو مبعوث أنا بعد الموت؟ فقال خباب : نعم ، قال : فائت إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك.
وقال الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة وقد كانت للوليد أيضاً أقوال تشبه هذا الغرض ، ولما كانت رؤية الأشياء سبيلاً إلى الإحاطة بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر ، والفاء للعطف أفادت التعقيب كأنه قيل : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر عقيب قصة أولئك ، والآيات : القرآن والدلالات على البعث.
وقرأ الجمهور { ولداً } أربعتهن هنا ، وفي الزخرف بفتح اللام والواو ويأتي الخلاف في نوح.
وقرأ الأعمش وطلحة والكسائي وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني بضم الواو وإسكان اللام ، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى على الجنس لا ملحوظاً فيه الإفراد وإن كان مفرد اللفظ ، وعلى هذه القراءة فقيل هو جمع كأسد وأسد ، واحتج قائل ذلك بقول الشاعر :
ولقد رأيت معاشراً . . .
قد ثمروا مالاً وولداً
وقيل : هو مرادف للولد بالفتحتين واحتجوا بقوله :
فليت فلاناً كان في بطن أمه . . .
وليت فلاناً كان ولد حمار
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر بكسر الواو وسكون اللام والهمزة في اطلع للاستفهام ، ولذلك عادلتها { أم }.
وقرىء بكسر الهمزة في الابتداء وحذفها في الوصل على تقدير حذف همزة الاستفهام لدلالة { أم } عليها كقوله :
بسبع رمين الجمر أم بثمان . . .
يريد أبسبع ، وجاء التركيب في أرأيت على الوضع الذي ذكره سيبويه من أنها تتعدى لواحد تنصبه ، ويكون الثاني استفهاماً فأطلع وما بعده في موضع المفعول الثاني لأرأيت ، وما جاء من تركيب أرأيت بمعنى أخبرني على خلاف هذا في الظاهر ينبغي أن يرد إلى هذا بالتأويل.
قال الزمخشري : { أطلع الغيب } من قولهم : أطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه واطلع الثنية.
قال جرير :
لاقيت مطلع الجبال وعوراً . . .
وتقول : مر مطلعاً لذلك الأمر أي عالياً له مالكاً له ، ولاختيار هذه الكلمة شأن تقول : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار ، والمعنى أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلاّ بأحد هذين الطريقين ، إما علم الغيب ، وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إلى ذلك.
والعهد.
قيل كلمة الشهادة.
وقال قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول.
وعن الكلبي : هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك.
و { كلا } ردع وتنبيه على الخطأ الذي هو مخطىء فيما تصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه.
وقرأ أبو نهيك { كلا } بالتنوين فيهما هنا وهو مصدر من كلّ السيف كلاً إذا نبا عن الضريبة ، وانتصابه على إضمار فعل من لفظه وتقديره كلوا كلاً عن عبادة الله أو عن الحق.
ونحو ذلك ، وكنى بالكتابة عن ما يترتب عليها من الجزاء.
فلذلك دلت السين التي للاستقبال أي سنجازيه على ما ما يقول.
وقال الزمخشري : فيه وجهان.
أحدهما : سيظهر له ونعلمه أنّا كتبنا قوله على طريقه قوله :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ . . .
أي تبين وعلم بالانتساب أني لست ابن لئيمة.
والثاني : أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك يعني أنه لا يبخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان ، واستأخر فجردها هنا لمعنى الوعيد انتهى.
وقرأ الجمهور { سنكتب } بالنون والأعمش بياء مضمومة والتاء مفتوحة مبنياً للمفعول ، وذكرت عن عاصم { ونمد } أي نطول له { من العذاب } الذي يعذب به المستهزئون أو نزيده من العذاب ونضاعف له المدد.
وقرأ عليّ بن أبي طالب { ونمد له } يقال مده وأمده بمعنى { ونرثه ما يقول } أُي نسلبه المال والولد فنكون كالوارث له.
وقال الكلبي : نجعل ما يتمنى من الجنة لغيره.
وقال أبو سهيل : نحرمه ما يتمناه من المال والولد ونجعله لغيره.
قال الزمخشري : ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالاً وولداً ، وبلغت به أشعبيته أن تألّى على الله في قوله { لأوتين } لأنه جواب قسم مضمر ، ومن يتألَّ على الله يكذبه فيقول الله عز وعلا : هب أنّا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة { ويأتينا فرداً } غداً بلا مال ولا ولد كقوله تعالى
{ ولقد جئتمونا فرادى } الآية فما يجدي عليه تمنيه وتأليه.
ويحتمل أن هذا القول إنما يقوله ما دام حياً ، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله { ويأتينا } رافضاً له { منفرداً } عنه غير قائل له انتهى.
وقال النحاس : { ونرثه ما يقول } معناه نحفظه عليه للعاقبة ومنه العلماء ورثة الأنبياء أي حفظة ما قالوه انتهى.
و { فرداً } تتضمن ذلته وعدم أنصاره ، و { يقول } صلة { ما } مضارع ، والمعنى على الماضي أي ما قال.
والضمير في { واتخذوا } لعبادة الأصنام وقد تقدم ما يعود عليه وهم الظالمون في قوله { ونذر الظالمين } فكل ضمير جمع ما بعده عائد عليه إن كان مما يمكن عوده عليه ، واللام في { ليكونوا } لام كي أي { ليكونوا } أي الآلهة { لهم عزاً } يتعززون بها في النصرة والمنفعة والإنقاذ من العذاب.
{ كلا } قال الزمخشري : { كلا } ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة.
وقرأ ابن نهيك { كلا سيكفرون بعبادتهم } أي سيجحدون { كلا سيكفرون بعبادتهم } كقولك : زيد مررت بغلامه وفي محتسب ابن جنيّ { كلا } بفتح الكاف والتنوين ، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والإعتقاد كلاً ، ولقائل أن يقول إن صحت هذه الرواية فهي { كلا } التي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريراً انتهى.
فقوله وقرأ ابن نهيك الذي ذكر ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية وأبو نهيك بالكنية وهو الذي يحكى عنه القراءة في الشواذ وأنه قرأ { كلا } بفتح الكاف والتنوين وكذا حكاه عنه أبو الفتح.
وقال ابن عطية وهو يعني { كلا } نعت للآلهة قال : وحكى عنه أي عن أبي نهيك أبو عمر والداني { كلا } بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه { سيكفرون } تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه.
وأما قول الزمخشري ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد لأنه قال إنها التي للردع ، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نوناً وتشبيهه بقواريراً ليس بجيد لأن قواريراً اسم رجع به إلى أصله ، فالتنوين ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف.
وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز؟ قولان ، ومنقول أيضاً أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم ، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة.
وذكر الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ كل بضم الكاف ورفع اللام ورفعه على الابتداء والجملة بعده الخبر ، وتقدم ظاهر وهو الآلهة وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن الضمير في { سيكفرون } عائد على أقرب مذكور محدث عنه.
فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم كما قال : { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } وفي آخرها { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون }
وتكون { آلهة } هنا مخصوصاً بمن يعقل ، أو يجعل الله للآلهة غير العاقلة إدراكاً تنكر به عبادة عابديه.
ويجوز أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة أن يكونوا كما قالوا { والله ربنا ما كنا مشركين } لكن قوله { ويكونون } يرجح القول الأول لاتساق الضمائر لواحد ، وعلى القول الآخر يختلف الضمائر إذ يكون في { سيكفرون } للمشركين وفي { يكونون } للآلهة.
ومعنى { ضداً } أعواناً قاله ابن عباس.
وقال الضحاك : أعداءً.
وقال قتادة : قرناء.
وقال ابن زيد : بلاءً.
وقال ابن عطية : معناه يجيئهم منه خلاف ما كانوا أمّلوه فيؤول بهم ذلك إلى ذلة ضد ما أملوه من العز ، فالضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد.
وقال الزمخشري : والضد العون وحد توحيد وهم يد على من سواهم لإتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم ، ومعنى كونهم عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ أرسلنا } معناه سلطناً أو لم نحل بينهم وبينهم مثل قوله { نقيض له شيطاناً } وتعديته بعلى دليل على أنه تسليط و { تؤزهم } تحركهم إلى الكفر.
وقال قتادة : تزعجهم.
وقال ابن زيد : تشليهم.
وقال الزمخشري : تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات ، والمعنى خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولو شاء لمنعهم ، والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة من الكفار وأقاويلهم.
عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلاّ أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت ونحوه قوله تعالى { ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار } انتهى.
وقيل { نعد } أعمالهم لنجازيهم.
وقيل : آجالهم فإذا جاء أحللنا العقوبة بهم.
وقيل : أيامهم التي سبق قضاؤنا أن نمهلهم إليها.
وقيل : أنفاسهم ، وانتصب { يوم } باذكر أو احذر مضمرة أو على تقدير يكون ذلك جواباً لسؤال مقدر تقديره متى يكون ذلك أو سيكفرون بعبادتهم أو بيكونون عليهم ضداً أو معنى بعداً ، وتضمن العدّ والإحصاء معنى المجازاة ، أو { يوم نحشر } ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو بلا يملكون ، وكلها مقول في نصب { يوم } والأوجه الأخير.
وعدى { نحشر } بإلى { الرحمن } تعظيماً لهم وتشريفاً.
وذكر صفة الرحمانية التي خصهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر ، فجاءت لفظة { الرحمن } مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم ، ولفظ السوق فيه إزعاج وهو إن عدِّي بإلى جهنم تفظيعاً لهم وتبشيعاً لحال مقرهم.
ولفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عنده.
وعن عليّ : على نوق رحالها ذهب ، وعلى نجائب سرجها ياقوت.
وعنه أيضاً إنهم يجيئون ركباناً على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد.
وروى عمرو بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن ، روى أنه يركب كل أحد منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم.
والظاهر أن هذه الوفادة بعد انقضاء الحساب وأنها النهوض إلى الجنة كما قال { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } وشبهوا بالوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلاً وليست وفادة حقيقية لأنها تتضمن الإنصراف من الموفود عليه ، وهؤلاء مقيمون أبداً في ثواب ربهم وهو الجنة والورد العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء.
قال الراجز :
ردي ردي ورد قطاة صماً . . .
كدرية أعجبها برد الماء
ولما كان من يرد الماء لا يرده إلاّ لعطش ، أطلق الورد على العطاش تسمية للشيء بسببه.
وقرأ الحسن والجحدري يحشر المتقون ويساق المجرمون مبنياً للمفعول ، والضمير في { لا يملكون } عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه ، والاستثناء متصل و { من } بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء { ولا يملكون } استئناف إخبار.
وقيل : موضه نصب على الحال من الضمير في { لا يملكون } ويكون عائداً على المجرمين.
والمعنى غير مالكين أن يشفع لهم ، ويكون على هذا الاستثناء منقطعاً.
وقيل : الضمير في { لا يملكون } عائد على المتقين والمجرمين ، والاستثناء متصل.
وقيل : عائد على المتقين ، واتخاذ العهد هو العمل الصالح الذي يحصل به في حيِّز من يشفع.
وتظافرت الأحاديث على أن أهل العلم والصلاح يشفعون فيشفعون.
وفي الحديث : « إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته أكثر من بني تميم » وقال قتادة : كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين.
وقال بعض من جعل الضمير للمتقين : المعنى لا يملك المتقون { الشفاعة } إلاّ لهذا الصنف ، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم ، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني { لا يملكون الشفاعة لأحد إلاّ من اتخذ } فيكون في موضع نصب كما قال :
فلم ينج إلاّ جفن سيف ومئزرا . . .
أي لم ينج شيء إلا جفن سيف.
وعلى هذه الأقوال الواو ضمير.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون يعني الواو في { لا يملكون } علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث ، والفاعل من { اتخذ } لأنه في معنى الجمع انتهى.
ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميراً.
وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة.
وأيضاً قالوا : والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلاّ بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف ، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل ، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى ، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلاّ بسماع.
وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلاّ شفاعة من { اتخذ }.
والعهد هنا.
قال ابن عباس : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله.
وفي الحديث : « من قال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله كان له عند الله عهد » وقال السدي : العهد الطاعة.
وقال ابن جريج : العمل الصالح.
وقال الليث : حفظ كتاب الله.
وقيل : عهد الله إذنه لمن شاء في الشفاعة من عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي أمره به أي لا يشفع إلاّ المأمور بالشفاعة المأذون له فيها.
ويؤيده { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن } { لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم { لا يملكون الشفاعة } إلاّ العصاة المؤمنون فإنهم سيشفع فيهم ، فيكون الاستثناء متصلاً.
وفي الحديث : « لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلاّ الله ، فيقول : يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي » انتهى.
وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد.
وقال ابن عطية أيضاً : ويحتمل أن يراد بمن اتخذ محمد عليه الصلاة والسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس.
وقوله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } والضمير في { لا يملكون } لأهل الموقف انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } الضمير في { قالوا } عائد على بعض اليهود حيث قالوا عزير ابن الله ، وبعض النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله ، وبعض مشركي العرب حيث قالوا : الملائكة بنات الله { لقد جئتم } أي قل لهم يا محمد { لقد جئتم } أو يكون التفاتاً خرج من الغيبة إلى الخطاب زيادة تسجيل عليهم بالجرأة على الله والتعرض لسخطه وتنبيه على عظيم ما قالوا.
وقرأ الجمهور { إداً } بكسر الهمزة وعليّ بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن بفتحها أي شيئاً أداً حذف المضاف وأقيم المصدر مقامه.
وقرأ نافع والكسائي يكاد بالياء من تحت وكذا في الشورى وهي قراءة أبي حيوة والأعمش.
وقرأ باقي السبعة بالتاء.
وقرأ ينفطرن مضارع انفطر وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وابن عامر هنا وهي قراءة أبي بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي ويعقوب وأبي عبيد.
وقرأ باقي السبعة { يتفطرن } مضارع تفطر والتي في الشورى قرأها أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء والنون وباقي السبعة بالياء والتاء والتشديد.
وقرأ ابن مسعود يتصدعن وينبغي أن يجعل تفسيراً لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه ، ولرواية الثقاة عنه كقراءة الجمهور.
وقال الأخفش { تكاد } تريد وكذلك قوله { أكاد أخفيها } وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر :
وكادت وكدت وتلك خير إرادة . . .
لو عاد من زمن الصبابة ما مضى
ولا حجة في هذا البيت ، والمعروف أن الكيدودة مقاربة الشيء وهذه الجمل عند الجمهور من باب الاستعارة لبشاعة هذا القول ، أي هذا حقه لو فهمت الجمادات قدره وهذا مهيع للعرب.
قال جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت . . .
سور المدينة والجبال الخشع
وقال آخر :
ألم تر صدعاً في السماء مبيناً . . .
على ابن لبني الحارث بن هشام
وقال الآخر :
فأصبح بطن مكة مقشعرّاً . . .
كأن الأرض ليس بها هشام
وقال آخر :
بكى حارث الجولان من فقد ربه . . .
وحوران منه خاشع متضائل
حارث الجولان : موضع.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت : فيه وجهان أحدهما أن الله يقول : كدت أفعل هذه بالمسوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي ووقاري ، وإني لا أعجل بالعقوبة كما قال
{ إن الله يمسك السموات والأرض } الآية.
والثاني : أن يكون استعظاماً للكلمة ، وتهويلاً من فظاعتها ، وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه.
وقواعده ، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجرام العظيمة التي هي قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر انتهى.
وقال ابن عباس إن هذا الكلام فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيماً لله تعالى.
وقيل : المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة.
وقيل : { تكاد السموات يتفطرن } أي تسقط عليهم { وتنشق الأرض } أي تخسف بهم { وتخر الجبال هدّاً } أي تنطبق عليهم.
وقال أبو مسلم : تكاد تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول ، وانتصب { هدّاً } عند النحاس على المصدر قال : لأن معنى { تخرّ } تنهد انتهى.
وهذا على أن يكون { هداً } مصدراً لهد الحائط يهد بالكسر هديداً وهداً وهو فعل لازم.
وقيل { هداً } مصدر في موضع الحال أي مهدودة ، وهذا على أن يكون { هداً } مصدر هد الحائط إذا هدمه وهو فعل متعد ، وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولاً له أي لأنها تهد ، وأجاز الزمخشري في { أن دعوا } ثلاثة أوجه.
قال أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه كقوله :
على حالة لو أن في القوم حاتماً . . .
على جوده لضن بالماء حاتم
وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه لجملتين ، قال : ومنصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي { هداً } لأن دعوا علل الخرور بالهد ، والهد بدعاء الولد للرحمن ، وهذا فيه بعد لأن الظاهر أن { هداً } لا يكون مفعولاً بل مصدر من معنى { وتخر } أو في موضع الحال ، قال : ومرفوعاً بأنه فاعل { هداً } أي هدها دعاء الولد للرحمن ، وهذا فيه بعد لأن ظاهر { هداً } أن يكون مصدراً توكيدياً ، والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيد لم يعمل بقياس إلاّ إن كان أمراً أو مستفهماً عنه ، نحو ضربا زيداً ، واضربا زيداً على خلاف فيه.
وأما إن كان خبراً كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الرحمن فلا ينقاس بل ما جاء من ذلك هو نادر كقوله :
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم . . .
أي وقف صحبي.
وقال الحوفي وأبو البقاء { أن دعوا } في موضع نصب مفعول له ، ولم يبينا العامل فيه.
وقال أبو البقاء أيضاً : هو في موضع جر على تقدير اللام ، قال : وفي موضع رفع أي الموجب لذلك دعاؤهم ، ومعنى { دعوا } سموا وهي تتعدّى إلى اثنين حذف الأول منهما ، والتقدير سموا معبودهم ولداً للرحمن أي بولد لأن دعا هذه تتعدى لاثنين ، ويجوز دخول الباء على الثاني تقول : دعوت ولدي بزيد ، أو دعوت ولدي زيداً.
وقال الشاعر :
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن . . .
أخاها ولم أرضع لها بلبان
وقال آخر :
ألا رب من يدعي نصيحاً وإن يغب . . .
تجده بغيب منك غير نصيح
وقال الزمخشري : اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولداً ، قال أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام : « من ادّعى إلى غير مواليه » وقول الشاعر :
إنّا بني نهشل لا ندعي لأب . . .
أي لا ننتسب إليه انتهى.
وكون { دعوا } هنا بمعنى سموا هو قول الأكثرين.
وقيل : { دعوا } بمعنى جعلوا.
و { ينبغي } مطاوع لبغي بمعنى طلب ، أي وما يتأتى له إتخاذ الولد لأن التوالد مستحيل والتبني لا يكون إلاّ فيما هو من جنس المتبنى ، وليس له تعالى جنس و { ينبغي } ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا : أنبغى وقد عدّها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط و { من } موصولة بمعنى الذي أي ما كل الذي في السموات وكل تدخل على الذي لأنها تأتي للجنس كقول تعالى { والذي جاء بالصدق } ونحو :
وكل الذي حملتنّي أتحمل . . .
وقال الزمخشري : { من } موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله :
رب من أنضجت غيظاً صدره . . .
انتهى.
والأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل.
وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب إلاّ آتٍ بالتنوين { الرحمن } بالنصب والجمهور بالإضافة و { آتي } خبر { كل } وانتصب { عبداً } على الحال.
وتكرر لفظ { الرحمن } تنبيهاً على أنه لا يستحق هذا الاسم غيره ، إذ أصول النعم وفروعها منه ومن في السموات والأرض يشمل من اتخذوه معبوداً من الملائكة وعيسى وعزيراً بحكم ادعائهم صحة التوالد أو بحكم زعمهم ذلك فأشركوهم في العبادة إذ خدمة الأبناء خدمة الآباء ، فأخبر تعالى أنه ما من معبود لهم في السموات أو في الأرض إلاّ يأتي الرحمن عبداً منقاداً لا يدعيّ لنفسه شيئاً مما نسبوه إليه.
ثم ذكر تعالى أنه { أحصاهم } وأحاط بهم وحصرهم بالعدد ، فلم يفته أحد منهم وانتصب { فرداً } على الحال أي منفرداً ليس معه أحد ممن جعلوه شريكاً ، وخبر { كلهم آتيه } { فرداً } وكلّ إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفرداً على لفظ كل ، فتقول : كلكم ذاهب ، ويجوز أن يعود جمعاً مراعاة للمعنى فتقول : كلكم ذاهبون.
وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الإتفاق على جواز الوجهين ، وعلى الجمع جاء لفظ الزمخشري في تفسير هذه الآية في الكشاف { وكلهم } متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره ، وقد خدش في ذلك أبو زيد السهيلي فقال : كل إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني إلى معرفة فلا يحسن إلاّ إفراد الخبر حملاً على المعنى ، تقول : كلكم ذاهب أي كل واحد منكم ذاهب ، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح فإن قلت : في قوله { وكلهم آتيه } إنما هو حمل على اللفظ لأنه اسم مفرد قلنا : بل هو اسم للجمع واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد ، تقول : القوم ذاهبون ، ولا تقول : القوم ذاهب وإن كان لفظ القوم كلفظ المفرد ، وإنما حسن كلكم ذاهب لأنهم يقولون كل واحد منكم ذاهب فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى انتهى.
ويحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب ، أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان.
والسين في { سيجعل } للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا ، وجيء بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة ، وكانوا ممقوتين من الكفرة ، فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإسلام وفشا.
واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا على الإطلاق كما في الترمذي.
قال : « إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه ، قال : فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض » قال الله عز وجل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } إلى آخر الحديث وقال : هذا حديث صحيح.
قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى أي إن الله تعالى لما أخبر عن إتيان كل من في السموات والأرض في حال العبودية والانفراد ، أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم { وداً } وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله للعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه انتهى.
وقال الزمخشري : وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم.
وقال أيضاً : والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع مبرة أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة ، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم انتهى.
وقيل : في الكلام حذف والتقدير سيدخلهم دار كرامته ويجعل لهم { وداً } بسبب نزع الغل من صدورهم بخلاف الكفار ، فإنهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ، وفي النار أيضاً يتبرأ بعضهم من بعض.
وقرأ الجمهور { وداً } بضم الواو.
وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها.
وقرأ جناح بن حبيش { وداً } بكسر الواو.
قيل : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن عوف كان اليهود والنصارى والمنافقون يحبونه ، وكان لما هاجر من مكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل : نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ألقى الله لهم وداً في قلب النجاشي ، وذكر النقاش أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب.
وقال محمد بن الحنفية : لا تجد مؤمناً إلاّ وهو يحب علياً وأهل بيته انتهى.
ومن غريب هذا ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ بن يوسف الأنصاري الشاطبي رحمه الله تعالى لزبينا بن إسحاق النصراني الرسغي :
عدّي وتيم لا أحاول ذكرهم . . .
بسوء ولكني محب لهاشم
وما تعتريني في عليّ ورهطه . . .
إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم . . .
وأهل النهي من أعرب وأعاجم
فقلت لهم إني لأحسب حبهم . . .
سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
وذكر أبو محمد بن حزم أن بغض عليّ من الكبائر.
والضمير في { يسرناه } عائد على القرآن ، أي أنزلناه عليك ميسراً سهلاً { بلسانك } أي بلغتك وهو اللسان العربي المبين.
{ لتبشر به المتقين } أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم واللد جمع.
وقال ابن عباس : { لداً } ظلمة ، ومجاهد فجاراً ، والحسن صماً ، وأبو صالح عوجاً عن الحق ، وقتادة ذوي جدل بالباطل آخذين في كل لديد بالمراء أي في كل جانب لفرط لجاجهم يريد أهل مكة.
{ وكم أهلكنا } تخويف لهم وإنذار بالإهلاك بالعذاب والضمير في قوله { قبلهم } عائد على { قوماً لداً } و { هل تحس } استفهام معناه النفي أي لا تحس.
وقرأ الجمهور : { هل تحس } مضارع أحس.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني { تحس } بفتح التاء وضم الحاء.
وقرىء { تحس } من حسه إذا شعر به ومنه الحواس والمحسوسات.
وقرأ حنظلة { أو تسمع } مضارع أسمعت مبنياً للمفعول.
وقال ابن عباس : الركز الصوت الخفي.
قال ابن زيد الحس.
وقال الحسن : لما أتاهم عذابنا لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع.
وقيل : المعنى ماتوا ونسي ذكرهم فلا يخبر عنهم مخبر.
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
هذه السورة مكية بلا خلاف ، كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت قاله عليّ.
وقال الضحاك : صلّى عليه السلام هو وأصحابه فأطال القيام لما أنزل عليه القرآن ، فقالت قريش : ما أنزل عليه إلاّ ليشقى.
وقال مقاتل : قال أبو جهل والنضر والمطعم : إنك لتشقى بترك ديننا فنزلت.
ومناسبة هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسير القرآن بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم أي بلغته وكان فيما علل به قوله { لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً } أكد ذلك بقوله { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى } والتذكرة هي البشارة والنذارة ، وإن ما ادعاه المشركون من إنزاله للشقاء ليس كذلك بل إنما نزل تذكرة ، والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو : يس وألر وما أشبههما ، وتقدم الكلام على ذلك في أول البقرة.
وعن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : معنى { طه } يا رجل.
فقيل بالنبطية.
وقيل بالحبشية.
وقيل بالعبرانية.
وقيل لغة يمنية في عك.
وقيل في عكل.
وقال الكلبي : لو قلت في عك يا رجل لم يجب حتى تقول { طه }.
وقال السدّي معنى { طه } يا فلان.
وأنشد الطبري في معنى يا رجل في لغة عك قول شاعرهم :
دعوت بطه في القتال فلم يجب . . .
فخفت عليه أن يكون موائلاً
وقول الآخر :
إن السفاهة طه من خلائقكم . . .
لا بارك الله في القوم الملاعين
وقيل هو اسم من أسماء الرسول.
وقيل : من أسماء الله.
وقال الزمخشري : ولعل عكاً تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء فقالوا في يا طأ واختصروا هذا فاقتصروا على ها ، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفي في البيت المستشهد به :
إن السفاهة طه في خلائقكم . . .
لا قدس الله أخلاق الملاعين
انتهى.
وكان قد قدم أنه يقال إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل ، ثم تخرص وحزر على عك بما لا يقوله نحوي هو أنهم قلبوا الياء طاء وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء ، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه.
وقيل : طا فعل أمر وأصله طأ ، فخففت الهمزة بإبدالها ألفاً وها مفعول وهو ضمير الأرض ، أي طأ الأرض بقدميك ولا تراوح إذ كان يراوح حتى تورمت قدماه.
وقرأت فرقة منهم الحسن وعكرمة وأبو حنيفة وورش في اختياره { طه }.
قيل : وأصله طأ فحذفت الهمزة بناء على قلبها في يطأ على حد لا هناك المرتع بُني الأمر عليه وأدخلت هاء السكت وأجري الوصل مجرى الوقف ، أو أصله طأ وأبدلت همزته هاء فقيل { طه }.
وقرأ الضحاك وعمرو بن فائد : طاوي.
وقرأ طلحة ما نزل عليك بنون مضمومة وزاي مكسورة مشددة مبنياً للمفعول { القرآن } بالرفع.
وقرأ الجمهور { ما أنزلنا عليك القرآن } ومعنى { لتشقى } لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله { لعلك باخع نفسك } والشقاء يجيء في معنى التعب ومنه المثل : أتعب من رائض مهر.
وأشقى من رائض مهر.
قال الزمخشري : أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة انتهى.
وقيل : أريد رد ما قاله أبو جهل وغيره مما تقدم ذكره في سبب النزول.
و { لتشقى } و { تذكرة } علة لقوله { ما أنزلنا } وتعدى في { لتشقى } باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير { ما أنزلنا } هو لله ، وضمير { لتشقى } للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولما اتحد الفاعل في { أنزلنا } و { تذكرة } إذ هو مصدر ذكر ، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافاً والجمهور يشترطونه.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أما يجوز أن تقول : ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله { أن تحبط أعمالكم } قلت : بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في { واختار موسى قومه } وأما النصبة في { تذكرة } فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى.
وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقاً عليه بل في ذلك خلاف.
أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله؟
وقال ابن عطية : { إلا تذكرة } يصح أن ينصب على البدل من موضع { لتشقى } ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى.
وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال : فإن قلت : هل يجوز أن يكون { تذكرة } بدلاً من محل { لتشقى } ؟ قلت : لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى.
ويعني باختلاف الجنسين أن نصب { تذكرة } نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في { لتشقى } بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى { إنا أنزلنا } إليك { القرآن } لتحمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة و { ما أنزلنا عليك } هذا المتعب الشاق { إلاّ } ليكون { تذكرة } وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون { تذكرة } حالاً ومفعولاً له { لمن يخشى } لمن يؤول أمره إلى الخشية انتهى.
وهذا معنى متكلف بعيد من اللفظ وكون { إلاّ تذكرة } بدل من محل { لتشقى } هو قول الزجاج.
وقال النحاس : هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليست بشقاء.
وقال الحوفي : ويجوز أن يكون { تذكرة } بدلاً من { القرآن } ويكون { القرآن } هو { التذكرة } وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدراً أي لكن ذكرنا به { تذكرة }.
قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو { لتشقى } ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى.
والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح.
وانتصاب { تنزيلاً } على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل { تنزيلاً ممن خلق }.
وقال الزمخشري : في نصب { تنزيلاً } وجوه أن يكون بدلاً من { تذكرة } إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له ، لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمراً ، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى { ما أنزلنا } { إلاّ تذكرة } أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص ، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله { تذكرة لمن يخشى } تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى.
والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة.
وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل { تذكرة } و { تنزيلاً } حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس ، وأيضاً فمدلول { تذكرة } ليس مدلول { تنزيلاً } ولا { تنزيلاً } بعض { تذكرة } فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها.
وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة ، وأما نصبه على المدح فبعيد ، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة.
وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمار هو ، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه ، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف.
وفي قوله { ممن خلق } تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته ، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله { ممن خلق } التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه ، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين.
وقال الزمخشري ويجوز أن يكون { أنزلنا } حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى.
وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه.
و { العلى } جمع العليا ووصف { السموات } بالعُلَى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى ، والظاهر رفع { الرحمن } على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو { الرحمن }.
وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في { خلق } انتهى.
وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ، و { الرحمن } لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و { خلق } صلة ، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط.
وأجاز الزمخشري أن يكون رفع { الرحمن } على الابتداء قال يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق.
وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر.
قال الزمخشري : صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلاّ بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلاّ الذي والتي فيجوز نعتهما ، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون { الرحمن } صفة لمن فالأحسن أن يكون { الرحمن } بدلاً من من ، وقد جرى { الرحمن } في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل.
وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو { على العرش استوى } وعلى قراءة الرفع إن كان بدلاً كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر ، فيكون { الرحمن } والجملة خبرين عن هو المضمر.
وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف.
وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله { على العرش } ثم يقرأ { استوى له ما في السموات } على أن يكون فاعلاً لاستوى لا يصح إن شاء الله.
ولما ذكر تعالى أنه اخترع السموات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى { له } ملك جميع { ما } حوت { السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى } أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب.
وعن السدّي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.
وقيل : { ما تحت الثرى } ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيداً لقوله { وما في الأرض } إلاّ إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيداً.
وقيل : المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير { له } علم { ما في السموات }.
ولما ذكر تعالى أولاً إنشاء السموات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله : { وإن تجهر بالقول } للرسول ظاهر أو المراد أمته ، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلاّ بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر ، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال { يعلم سركم وجهركم } والظاهر أن { أخفى } أفعل تفضيل أي { وأخفى } من السر.
قال ابن عباس : { السر } ما تسره إلى غيرك ، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء.
وعن ابن عباس أيضاً { السر } ما أسره في نفسه ، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه.
وعن قتادة : قريب من هذا.
وقال مجاهد : { السر } ما تخفيه من الناس { وأخفى } منه الوسوسة.
وقال ابن زيد { السر } سر الخلائق { وأخفى } منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري.
وقيل : { السر } العزيمة { وأخفى } منه ما لم يخطر على القلب ، وذهب بعض السلف إلى أن قوله { وأخفى } هو فعل ماض لا أفعل تفضيل أي { يعلم } أسرار العباد { وأخفى } عنهم ما يعلمه هو كقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه } وقوله { ولا يحيطون به علماً } قال ابن عطية : وهو ضعيف.
وقال الزمخشري : وليس بذلك قال : فإن قلت : كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت : معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول } وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر انتهى.
والجلالة مبتدأ و { لا إله إلاّ هو } الخبر و { له الأسماء الحسنى } خبر ثان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى؟ فقيل : هو { الله } و { الحسنى } تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير ، وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية ، والأفعال التي لا يمكن صدورها إلاّ منه ، وذكروا أن هذه { الأسماء } هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » وذكرها الترمذي مسندة.
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
ولما ذكر تعالى تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسوله أتبعه بقصة موسى ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ، كما قال تعالى { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } فقال تعالى : { وهل أتاك حديث موسى } وهذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وعلى التأسي.
وقيل : { هل } بمعنى قد أي قد { أتاك } ، والظاهر خلاف هذا لأن السورة مكية.
والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا.
وقيل : إنه استفهام معناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى ، ونحن الآن قاصّون قصته لتتسلى وتتأسى وكان من حديثه أنه عليه السلام لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخته فأذن له ، وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره ، فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته حامل فلا يدري أليلاً تضع أم نهاراً ، فسار في البرية لا يعرف طرقها ، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور.
قيل : كان رجلاً غيوراً يصحب الرفقة ليلاً ويفارقهم نهاراً لئلا ترى امرأته ، فأضل الطريق.
قال وهب : ولد له ابن في الطريق ولما صلد زنده { رأى ناراً }.
والظاهر أن { إذ } ظرف للحديث لأنه حدث.
وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفاً لمضمر أي { ناراً } كان كيت وكيت ، وأن تكون مفعولاً لأذكر { امكثوا } أي أقيموا في مكانكم ، وخاطب امرأته وولديه والخادم.
وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية { لأهله امكثوا } بضم الهاء وكذا في القصص والجمهور بكسرها { إني آنست } أي أحسست ، والنار على بعد لا تحس إلاّ بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت ، والإيناس أعم من الرؤية لأنك تقول { آنست } من فلان خيراً.
وقال الزمخشري : الإيناس الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه ، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم.
وقيل : هو إبصار ما يؤنس به لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم.
ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعل ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به انتهى.
والظاهر أنه رأى نوراً حقيقة.
وقال الماوردي : كانت عند موسى { ناراً } وكانت عند الله نوراً.
قيل : وخيِّل له أنه نار.
قيل : ولا يجوز هذا لأن الإخبار بغير المطابق لا يجوز على الانبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولفظة على ههنا على بابها من الاستعلاء ، ومعناه إن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ، أو لأن المصطلين بها والمستمتعين إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها ومنه قول الأعشى :
ويأت على النار الندى والمحلق . . .
وقال ابن الأنباري : على بمعنى عند وبمعنى مع وبمعنى الباء ، وذكر الزجّاج أنه ضل عن الماء فترجى أن يلقى من يهديه الطريق أو يدله على الماء ، وانتصب { هدى } على أنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا { هدى } أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق.
وقيل : { هدى } في الدين قاله مجاهد وقتادة وهو بعيد ، وهو وإن كان طلب من يهديه الطريق فقد وجد الهدى على الإطلاق.
والضمير في { أتاها } عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب قاله ابن عباس.
وقيل : سمرة قاله عبد الله.
وقيل : عوسج قاله وهب.
وقيل : عليقة عن قتادة ومقاتل والكلبي وكان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته ، فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة ، ووقف متحيراً وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة و { نودي } وهو تكليم الله إياه.
وقرأ الجمهور : { إني } بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين ، وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين.
و { أنا } مبتدأ أو فصل أو توكيد لضمير النصب ، وفي هذه الأعاريب حصل التركيب لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر : وأني بفتح الهمزة والظاهر أن التقدير بأني { أنا ربك }.
وقال ابن عطية : على معنى لأجل { إني أنا ربك فاخلع نعليك } و { نودي } قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو عليّ :
ناديت باسم ربيعة بن مكدم . . .
إن المنوّه باسمه الموثوق
انتهى.
وعلمه بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقاً منه تعالى فيه أو بالاستدلال بالمعجزة ، وعند المعتزلة لا يكون ذلك إلاّ بالمعجز فمنهم من عينه ومنهم من قال : لا يلزم أن يعرف ما ذلك المعجز قالوا : ولا يجوز أن يكون ذلك بالعلم الضروري لأنه ينافي التكليف ، والظاهر أن أمره تعالى إياه بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما يخلع عند الملوك غاية في التواضع.
وقيل : كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما.
وفي الترمذي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبّة صوف وكمة صوف وسراويل صوف ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت » قال : هذا حديث غريب ، والكمة القلنسوة الصغيرة وكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ قول عكرمة وقتادة والسدّي ومقاتل والكلبي والضحاك.
وقيل : كانتا من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعهما لبيان بركة الوادي المقدس ، وتمس قدماه تربته وروى أنه خلق نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
و { المقدس } المطهر و { طوى } اسم علم عليه فيكون بدلاً أو عطف بيان.
وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيص بكسر الطاء منوناً.
وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منوناً.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون.
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون.
وقرأ عيس بن عمر والضحاك طاوى أذهب فمن نون فعلى تأويل المكان ، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولاً عن فعل نحو زفر وقثم ، أو أعجمياً أو على معنى البقعة ، ومن كسر ولم ينون فمنع الصرف باعتبار البقعة.
وقال الحسن : { طوى } بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء وبمعناه وذلك لأن الثنا بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره ، فكذلك الطوى على هذه القراءة.
وقال قطرب { طوى } من الليل أي ساعة أي قدس لك في ساعة من الليل لأنه نودي بالليل ، فلحق الوادي تقديس محدد أي { إنك بالواد المقدس } ليلاً.
قرأ طلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وخلف في اختياره وأما بفتح الهمزة وشد النون اخترناك بنون العظمة.
وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية { وأنا } بكسر الهمزة والألف بغير النون بلفظ الجمع دون معناه لأنه من خطاب الملوك اخترناك بالنون والألف عطفاً على { إني أنا ربك } لأنهم كسروا ذلك أيضاً ، والجمهور { وأنا اخترتك } بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه.
وقرأ أُبَيّ وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم { اخترتك } بتاء عطفاً على { إني أنا ربك } ومفعول { اخترتك } الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك.
والظاهر أن { لما يوحى } من صلة استمع وما بمعنى الذي.
وقال الزمخشري وغيره : { لما يوحى } للذي يوحى أو للوحي ، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى.
ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني ، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني.
وقال أبو الفضل الجوهري : لما قيل لموسى صلوات الله على نبينا وعليه استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ، ووقف ليستمع وكان كل لباسه صوفاً.
وقال وهب : أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل ، وذلك هو الاستماع لما يحب الله وحذف الفاعل في { يوحى } للعلم به ويحسنه كونه فاصلة ، فلو كان مبنياً للفاعل لم يكن فاصلة والموحى قوله { إني أنا الله } إلى آخره معناه وحّدني كقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون } إلى آخر الجمل جاء ذلك تبييناً وتفسيراً للإبهام في قوله { لما يوحى }.
وقال المفسرون { فاعبدني } هنا وحدني كقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون } معناه ليوحدون ، والأولى أن يكون { فاعبدني } لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة ، ثم عطف عليه ما هو قد يدخل تحت ذلك المطلق فبدأ بالصلاة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة ، والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكري أن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق ، أو لأن تذكرني خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو خلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر ، أو لتكون لي ذاكراً غير ناسٍ فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به كما قال
{ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } واللام على هذا القول مثلها في قوله { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها من قوله عليه الصلاة والسلام : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ".
قال الزمخشري : وكان حق العبادة أن يقال لذكرها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا ذكرها».
ومن يتمحل له يقول : إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله ، أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي أو لأن الذكر والنسيان من الله عز وجل في الحقيقة انتهى.
وفي الحديث بعد قوله : «فليصلها إذا ذكرها» قوله «إذ لا كفارة لها إلاّ ذلك» ثم قرأ { وأقم الصلاة لذكري }.
وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء : للذكرى بلام التعريف وألف التأنيث ، فالذكرى بمعنى التذكرة أي لتذكيري إياك إذا ذكرتك بعد نسيانك فأقمها.
وقرأت فرقة لِذِكْرَى بألف التأنيث بغير لام التعريف.
وقرأت فرقة : للذكر.
ولما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وإقامة الصلاة ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد للجزاء فقال { إن الساعة آتية } وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثواباً وإما عقاباً.
وقرأ أبو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد أَخْفِيها بفتح الهمزة ورويت عن ابن كثير وعاصم بمعنى أظهرها أي إنها من صحة وقوعها وتيقن كونها تكاد تظهر ، ولكن تأخرت إلى الأجل المعلوم وتقول العرب : خفيت الشيء أي أظهرته.
وقال الشاعر :
خفاهن من إيقانهن كأنما . . .
خفاهن ودق من عشي مجلب
وقال آخر :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه . . .
وإن توقدوا الحرب لا نقعد
ولام { لتجزَى } على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها { لتجزَى } كل نفس.
وقرأ الجمهور { أُخْفِيها } بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر ، والهمزة هنا للإزالة أي أزلت الخفاء وهو الظهور ، وإذا أزلت الظهور صار للستر كقولك : أعجمت الكتاب أزلت عنه العجمة.
وقال أبو علي : هذا من باب السلب ومعناه ، أزيل عنها خفاءها وهو سترها ، واللام على قراءة الجمهور.
قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال { إن الساعة آتية } لنجزي انتهى ، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا { أكاد أخفيها } جملة اعتراضية ، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله.
وقيل : { أخفيها } بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان ، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر.
قال أبو عبيدة : خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و { أكاد } من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا ، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال { أكاد أخفيها } حتى لا تظهر ألبتة ، ولكن لا بد من ظهورها.
وقالت فرقة { أكاد } بمعنى أريد ، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم.
قال أبو مسلم : ومن أمثالهم لا أفعل ذلك : ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله.
وقالت فرقة : خبر كاد محذوف تقديره { أكاد } أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي :
هممت ولم أفعل وكذت وليتني . . .
تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل.
وتم الكلام ثم استأنف الإخبار بأنه يخفيها واختاره النحاس.
وقالت فرقة : معناه { أكاد أخفيها } من نفسي إشارة إلى شدة غموضها عن المخلوقين وهو مروي عن ابن عباس.
ولما رأى بعضهم قلق هذا القول قال معنى من نفسي : من تلقائي ومن عندي.
وقالت فرقة { أكاد } زائدة لا دخول لها في المعنى بل الإخبار أن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها ، وروي هذا المعنى عن ابن جبير ، واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى { لم يكد يراها } وبقول الشاعر وهو زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه . . .
فما إن يكاد قرنه يتنفس
وبقول الآخر :
وأن لا ألوم النفس مما أصابني . . .
وأن لا أكاد بالذي نلت أنجح
ولا حجة في شيء من هذا.
وقال الزمخشري : { أكاد أخفيها } فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به.
وقيل : معناه { أكاد أخفيها } من نفسي ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف ، ومحذوف لا دليل عليه مطرح.
والذي غزهم منه أن في مصحف أبي { أكاد أخفيها } من نفسي وفي بعض المصاحف { أكاد أخفيها } من نفسي فكيف أظهركم عليها انتهى.
ورويت هذه الزيادة أيضاً عن أُبَيّ ذكر ذلك ابن خالويه.
وفي مصحف عبد الله { أكاد أخفيها } من نفسي فكيف يعلمها مخلوق.
وفي بعض القراءات وكيف أظهرها لكم وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشيء قال : كذت أخفيه من نفسي ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء قال معناه قطرب وغيره.
وقال الشاعر : . . .
أيام تصحبني هند وأخبرها
ما كدت أكتمه عني من الخبر . . .
وكيف يكتم من نفسه ومن نحو هذا من المبالغة ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، والضمير في { أخفيها } عائد على { الساعة } و { الساعة } يوم القيامة بلا خلاف ، والسعي هنا العمل.
والظاهر أن الضمير في { عنها } و { بها } عائد على الساعة.
وقيل : على الصلاة.
وقيل { عنها } عن الصلاة و { بها } أي بالساعة ، وأبعد جداً من ذهب إلى أن الضمير في { عنها } يعود على ما تقدم من كلمة { لا إله إلاّ أنا فاعبدني }.
والظاهر أن الخطاب في { فلا يصدنك } لموسى عليه السلام ، ولا يلزم من النهي عن الشيء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة ، فينبغي أن يكون لفظاً وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه ، وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لفظاً ولأمته معنى.
وقال الزمخشري : فإن قلت : العبارة أنهى من لا يؤمن عن صدّ موسى ، والمقصود نهي موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق؟ قلت : فيه وجهان.
أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب ، فذكر السبب ليدل على المسبب.
والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا.
المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته وذلك سبب رؤيته إياه ، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب كأنه قيل : فكن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه { فتردى } يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى.
وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء.
{ وما تلك بيمينك يا موسى } هو تقرير مضمنه التنبيه ، وجمع النفس لما يورد عليها وقد علم تعالى في الأزل ما هي وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وجل في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضناضة ، ويتقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة و { ما } استفهام مبتدأ و { تلك } خبره و { يمينك } في موضع الحال كقوله { وهذا بعلي شيخاً } والعامل اسم الإشارة.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون { تلك } أسماً موصولاً صلته بيمينك ، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون ، قالوا : يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاً حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل : وما التي بيمينك؟ وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفاً كأنه قيل : وما التي استقرت بيمينك؟ وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه تعالى لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم.
{ قال هي عصاي }.
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري عصَيّ بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم.
وقرأ الحسن عَصَايِ بكسر الياء وهي مروية عن ابن أبي إسحاق أيضاً وأبي عمرو معاً ، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين.
وعن أبي إسحاق والجحدري عَصَايْ بسكون الياء.
{ أتوكأ عليها } أي أتحامل عليها في المشي والوقوف ، وهذا زيادة في الجواب كما جاء «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
في جواب من سأل أيتوضأ بماء البحر؟ وكما جاء في جواب ألهذا حج؟ قال : «نعم ولك أجر».
وحكمة زيادة موسى عليه السلام رغبته في مطاولة مناجاته لربه تعالى ، وازدياد لذاذته بذلك كما قال الشاعر :
وأملي عتاباً يستطاب فليتني . . .
أطلت ذنوباً كي يطول عتابه
وتعداده نعمه تعالى عليه بما جعل له فيها من المنافع ، وتضمنت هذه الزيادة تفصيلاً في قوله { أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } وإجمالاً في قوله { ولي فيها مآرب أخرى }.
وقيل : { أتوكأ عليها } جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال { هي عصاي } قال له تعالى فما تصنع بها؟ قال : { أتوكأ عليها } الآية.
وقيل : سأله تعالى عن شيئين عن العصا بقوله { وما تلك } وبقوله { بيمينك } عما يملكه ، فأجابه عن { وما تلك } ؟ بقوله { هي عصاي } وعن قوله { بيمينك } بقوله { أتوكأ عليها وأهش } إلى آخره انتهى.
وفي التحقيق ليس قوله { بيمينك } بسؤال وقدم في الجواب مصلحة نفسه في قوله { أتوكأ عليها } ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله { وأهش }.
وقرأ الجمهور { وَأَهُشُّ } بضم الهاء والشين المعجمة ، والنخعي بكسرها كذا ذكر أبو الفضل الرازي وابن عطية وهي بمعنى المضمومة الهاء والمفعول محذوف وهو الورق.
قال أبو الفضل : ويحتمل ذلك أن يكون من هش يهش هشاشة إذا مال ، أي أميل بها على غنمي بما أصلحها من السوق وتكسير العلف ونحوهما ، يقال منه : هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولأن انتهى.
وقرأ الحسن وعكرمة : وأَهُسُّ بضم الهاء والسين غير معجمة ، والهس السوق ومن ذلك الهس والهساس غير معجمة في الصفات.
ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ وأَهُسُّ بضم الهمزة من أهس رباعياً وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة ومجاهد وأَهُشُّ بضم الهاء وتخفيف الشين قال : ولا أعرف وجهه إلاّ أن يكون بمعنى العامة لكن فرّ من قراءته من التضعيف لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي.
فيكون كتخفيف ظلت ونحوه.
وذكر الزمخشري عن النخعي أنه قرأ { وأهش } بضم الهمزة والشين المعجمة من أهش رباعياً قال : وكلاهما من هش الخبز يهش إذا كان يتكسر لهشاشته.
ذكر على التفصيل والإجمال المنافع المتعلقة بالعصا كأنه أحس بما يعقب هذا السؤال من أمر عظيم يحدثه الله تعالى فقال ما هي إلاّ عصا لا تنفع إلاّ منافع بنات جنسها كما ينفع العيدان ليكون جوابه مطابقاً للغرض الذي فهمه من فحوى كلام ربه ، ويجوز أن يريد عز وجل أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه على عقب ذلك الآية العظيمة كأنه يقول أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة.
كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها وقالوا اسم العصا نبعة انتهى.
وقرأت فرقة { غنمي } بسكون النون وفرقة عليّ غنمي بإيقاع الفعل على الغنم.
والمآرب ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب.
وكانت تقيه الهوامّ ويردّ بها غنمه وإن بعدوا وهذه العصا أخذها من بيت عصى الأنبياء التي كانت عند شعيب حين اتفقا على الرعية هبط بها آدم من الجنة وطولها عشرة أذرع ، وقيل : اثنتا عشرة بذراع موسى عليه السلام وعامل المآرب وإن كان جمعاً معاملة الواحدة المؤنثة فأتبعها صفتها في قوله أخرى ولم يقل آخر رعياً للفواصل وهي جائز في غير الفواصل.
وكان أجود وأحسن في الفواصل.
وقرأ الزهري وشيبة : مارب بغير همز كذا قال الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات ويعني والله أعلم بغير هم محقق ، وكأنه يعني أنهما سهلاها بين بين.
{ قال ألقها } الظاهر أن القائل هو الله تعالى ، ويبعد قول من قال يجوز أن يكون القائل الملك بإذن الله ومعنى { ألقها } اطرحها على الأرض ومنه قول الشاعر :
فألقت عصاها واستقر بها النوى . . .
وإذا هي التي للمفاجأة ، والحية تنطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ، ولا تنافي بين تشبيهها بالجان في قوله { فلما رآها تهتز كأنها جان } وبين كونها ثعباناً لأن تشبيهها بالجان هو في أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعباناً أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها.
قيل : كان لها عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فماً وبين لحييها أربعون ذراعاً.
وعن ابن عباس : انقلبت ثعباناً تبتلع الصخر والشجر والمحجن عنقاً وعيناها تتقدان ، فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول.
ومعنى { تسعى } تنتقل وتمشي بسرعة ، وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقى تكاليف النبوّة ومشاق الرسالة ، ثم أمره تعالى بالإقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها وذلك حين ولى مدبراً ولم يعقب.
وقيل : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها.
وقيل : لما قال له الله { لا تخف } بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها ويبعد ما ذكره مكي في تفسيره أنه قيل له خذ مرة وثانية حتى قيل له { خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } فأخذها في الثالثة لأن منصب النبوة لا يليق أن يأمره ربه مرة وثانية فلا يمتثل ما أمر به ، وحين أخذها بيده صارت عصا والسيرة من السير كالركبة والجلسة ، يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة.
وقيل : سير الأولين.
وقال الشاعر :
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها . . .
فأول راض سيرة من يسيرها
واختلفوا في إعراب { سيرتها } فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل { واختار موسى قومه } يعني إلى { سيرتها } قال : ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول { سنعيدها }.
وقال هذا الثاني أبو البقاء قال : بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها.
وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب على الظرف أي { سنعيدها } في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى.
و { سيرتها } وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّ بواسطة ، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عاده بمعنى عاد إليه.
ومنه بيت زهير :
وعادك أن تلاقيها عداء . . .
فيتعدى إلى مفعولين انتهى.
وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي.
قال : ووجه ثالث حسن وهو أن يكون { سنعيدها } مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها ، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية ، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب { سيرتها } بفعل مضمر أي تسير { سيرتها الأولى } يعني { سنعيدها } سائرة { سيرتها الأولى } حيث كنت تتوكأ عليها ، ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.
والجناح حقيقة في الطائر والملك ، ثم توسع فيه فأطلق على اليد وعلى العضد وعلى جنب الرجل.
وقيل لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة ، وسمي جناح الطائر لأنه يجنح به عند الطيران ، ولما كان المرغوب من ظلمة أو غيرها إذا ضم يده إلى جناحه فتر رغبة وربط جأشه أمره تعالى أن يضم يده إلى جناحه ليقوى جأشه ولتظهر له هذه الآية العظيمة في اليد.
والمراد إلى جنبك تحت العضد.
ولهذا قال { تخرج } فلو لم يكن دخول لم يكن خروج كما قال في الآية الأخرى { وأدخل يدك في جيبك تخرج } وفي الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير { واضمم يدك إلى جناحك } تنضم وأخرجها { تخرج } فحذف من الأول وأبقى مقابله ، ومن الثاني وأبقى مقابله وهو { اضمم } لأنه بمعنى أدخل كما يبين في الآية الأخرى.
{ تخرج بيضاء من غير سوء } قيل خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها شمس ، وكان آدم اللون وانتصب { بيضاء } على الحال والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة ، وكما كنوا عن جذيمة وكان أبرص بالأبرص والبرص أبغض شيء إلى العرب وطباعهم تنفر منه وأسماعهم تمج ذكره فكنى عنه.
وقوله { من غير سوء } متعلق ببيضاء كأنه قال ابيضت { من غير سوء }.
وقال الحوفي : { من غير سوء } في موضع النعت لبيضاء ، والعامل فيه الاستقرار انتهى.
ويقال له عند أرباب البيان الاحتراس لأنه لو اقتصر على قوله { بيضاء } لأوهم أن ذلك من برص أو بهق.
وانتصب { آية } على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد.
وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباً على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال ، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه ، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون { آية } بدلاً من { بيضاء } وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في { بيضاء } أي تبيض { آية }.
وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها { آية } أو آتيناك { آية }.
واللام في { لنريك } قال الحوفي متعلقة باضمم ، ويجوز أن تتعلق بتخرج.
وقال أبو البقاء : تتعلق بهذا المحذوف يعني المقدر جعلناها أو آتيناك ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه { آية } أي دللنا بها { لنريك }.
وقال الزمخشري : { لنريك } أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض { آياتنا الكبرى } أو { لنريك } بهما { الكبرى } من { آياتنا } أو { لنريك من آياتنا الكبرى } فعلنا ذلك ، ونعني أنه جاز أن يكون مفعول { لنريك } الثاني { الكبرى } أو يكون { من آياتنا } في موضع المفعول الثاني.
وتكون { الكبرى } صفة لآياتنا على حد { الأسماء الحسنى } و { مآرب أخرى } بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة ، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء.
والذي نختاره أن يكون { من آياتنا } في موضع المفعول الثاني ، و { الكبرى } صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه { الكبرى }.
وإذا جعلت { الكبرى } مفعولاً لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل ، وأيضاً إذا جعلت { الكبرى } مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلاً منهما فيها معنى التفضيل.
ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد { لنريك من آياتنا الكبرى } لأنه جعل { الكبرى } مفعولاً ثانياً { لنريك } وجعل ذلك راجعاً إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلاّ تغيير اللون ، وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الشجر والحجر ، ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مراراً فكانت أعظم من اليد.
ولما أراه تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولاً من عنده تعالى وعلل حكمة الذهاب إليه بقوله { إنه طغى } وخص فرعون وإن كان مبعوثاً إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعّي الإلهية وقومه تباعه.
قال وهب بن منبه : قال الله لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي أرعاك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي ونصري ، وألبسك جنة من سلطاني تستكمل بها العزة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لولا الحجة والقدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي.
وقل له قولاً ليناً فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلاّ بعلمي في كلام طويل.
قال : فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام.
وقيل : أكثر فجاءه ملك فقال انفذ ما أمرك ربك.
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلاّ ذو جأش رابط وصدر فسيح ، فسأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر ، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب ، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط.
وقال ابن جريج : معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك.
وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك.
والقيام بما كلفتنيه من أعبائها ، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة.
وقال مجاهد : كانت من الجمرة التي أدخلها فاه وكانت آسية قد ألقى الله محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه ، فبيناهي ترقصه يوماً أخذه فرعون في حجره فأخذ خصلة من لحيته.
وقيل : لطمه.
وقيل : ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعا بالسياف فقالت : إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر.
فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى.
وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة.
وعن ابن عباس كانت في لسانه رتة.
وقيل : حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحداً بعدها.
وقال قطرب : كانت فيه مسكة عن الكلام.
وقال ابن عيسى : العقدة كالتمتمة والفأفأة.
وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله ، قيل : وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين.
وقيل : زالت لقوله { قد أوتيت سؤلك يا موسى } وهو قول الحسن ، قيل : وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال { عقدة } فإذا حل عقدة فقد آتاه الله سؤله.
وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة ، وإنما قال ذلك فرعون تمويهاً وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته؟.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لي في قوله { اشرح لي صدري ويسر لي أمري } ما جدواه والكلام بدون مستتب؟ قلت : قد أبهم الكلام أولاً فقال { اشرح لي } { ويسر لي } فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره ، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل.
وقال أيضاً : وفي تنكير العقدة وإن لم يقل { واحلل عقدة } { لساني } أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة ، و { من لساني } صفة للعقدة كأنه قيل { عقدة من } عقد { لساني } انتهى.
ويظهر أن { من لساني } متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي.
وأجاز أبو البقاء الوجهين والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه.
وقيل : من الوزر وهو الملجأ يلتجىء إليه الإنسان.
وقال الشاعر :
من السباع الضواري دونه وزر . . .
والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع . . .
وما نرى بشراً لم يؤذهم بشر
فالملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره.
وقال الأصمعي : هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة ، والقياس أزير وكذا قال الزمخشري : قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيئاً صالحاً كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم ، فلما قلب في أخيه قلبت فيه ، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز.
ونظراً إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلى ادعاء قلب الهمزة واواً لأن لنا اشتقاقاً واضحاً وهو الوزر ، وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهو أيضاً إبدال غير لازم ، وجوزوا أن يكون { لي وزيراً } مفعولين لاجعل و { هارون } بدل أو عطف بيان ، وأن يكون { وزيراً } و { هارون } مفعولية ، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و { أخي } بدل من { هارون } في هذين الوجهين.
قال الزمخشري : وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى.
ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة ، والأمر هنا بالعكس.
وجوزوا أن يكون { وزيراً من أهلي } هما المفعولان و { لي } مثل قوله { ولم يكن له كفواً أحد } يعنون أنه به يتم المعنى.
و { هارون } على ما تقدم.
وجوزوا أن ينتصب { هارون } بفعل محذوف أي اضمم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف.
وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وابن عامر { أَشدد } بفتح الهمزة { وأُشْرِكْهُ } بضمها فعلاً مضارعاً مجزوماً على جواب الأمر وعطف عليه { وأشركه }.
وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدِّد به مضارع شدّد للتكثير ، والتكرير أي كلما حزنني أمر شددت { به أزري }.
وقرأ الجمهور { أشدد } { وأشركه } على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة ، وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك في النبوة أحداً.
وفي مصحف عبد الله أخي وأشدد.
وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل { أخي } مرفوعاً على الابتداء { وأشدد } خبره ويوقف على { هارون } انتهى.
وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة ، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام ، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سبباً تلزم منه العبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير.
{ كي نسبحك } ننزهك عما لا يليق بك { ونذكرك } بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص ، ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على الله بصفات الكمال ومحله اللسان ، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان.
و { كثيراً } نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال ، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه { إنك كنت بنا بصيراً } عالماً بأحوالنا.
والسؤل فعل بمعنى المسؤل كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول ، والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة ، وجعل أخيك وزيراً وذلك من المنة عليه.
ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و { مرة } معناه منة و { أخرى } تأنيث آخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة ، وليست { أخرى } هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى ، وتخيل ذلك بعضهم فقال : سماها { أخرى } وهي أولى لأنها { أخرى } في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره ، فهذه يلحظ فيها معنى التأخر.
والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهَّلتك للرسالة.
وفي قوله { مرة أخرى } إجمال يفسره قوله { إذ أوحينا إلى أمّك }.
قال الجمهور : هي وحي إلهام كقوله { وأوحى ربك إلى النحل } وقيل : وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام ، وإما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوّة كما بعث إلى مريم وهذا هو الظاهر لظاهر قوله { يأخذه عدوّ لي وعدوّ له } ولظاهر آية القصص { إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين } ويبعد ما صدر به الزمخشري قوله : من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله { وإذ أوحيت إلى الحواريين } لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون ، وكان في زمن الحواريين زكريا ويحيى.
وفي قوله { ما يوحى } إبهام وإجمال كقوله { إذ يغشى السدرة ما يغشى } { فغشيهم من اليم ما غشيهم } وفيه تهويل وقد فسر هنا بقوله { أن اقذفيه في التابوت }.
قال الزمخشري : و { أن } هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول.
وقال ابن عطية : و { أن } في قوله { أن اقذفيه } بدل من ما يعني أنّ { أن } مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب.
والوجهان سائغان والظاهر أن { التابوت } كان من خشب.
وقيل : من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً.
وقيل : قطناً محلوجاً وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في { اليم } وهو اسم للبحر العذب.
وقيل : اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله { فأغرقناهم في اليم } ولم يغرقوا في النيل.
والظاهر أن الضمير في { فاقذفيه في اليم } عائد على موسى ، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا { التابوت } إنما ذكر { التابوت } على سبيل الوعاء والفضلة.
وقال ابن عطية : والضمير الأول في { اقذفيه } عائد على موسى وفي الثاني عائد على { التابوت } ويجوز أن يعود على موسى.
وقال الزمخشري : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى.
ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا فعوده على { التابوت } في قوله { فاقذفيه في اليم فليلقه اليم } راجح ، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرحج ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله { فإنه رجس } عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير.
و { فليلقه } أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « قوموا فلأصل لكم » أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله { يأخذه }.
وقال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطىء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل { فليلقه اليم بالساحل } انتهى.
وقال الترمذي : إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به ، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر.
وقال الفراء : { فاقذفيه في اليم } أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم ، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه.
وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابناً فأباح لها ذلك.
وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء.
فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعدو الذي لله ولموسى هو فرعون ، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته { قصيه } وهي لا تدري أين استقر.
{ وألقيت عليك محبة مني }.
قيل : محبة آسية وفرعون ، وكان فرعون قد أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه.
قال ابن عباس : أحبه الله وحببه إلى خلقه.
وقال عطية : جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه.
وقال قتادة : كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلاّ أحبه.
وقال ابن عطية : وأقوى الأقوال أنه القبول.
وقال الزمخشري : { مني } لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.
وقرأ الجمهور { ولِتُصْنَعَ } بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتُرَبَّى ويحسن إليك.
وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به.
قال قريباً منه قتادة.
وقال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك { ولتصنع } أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك.
وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء.
قال ثعلب : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني.
وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر ، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام.
{ إذ تمشي أختك } قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى ، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره ، فبصرت به في طوافها فقالت { هل أدلكم على من يكفله لكم وهم له ناصحون } فتعلقوا بها وقالوا : أنت تعرفين هذا الصبيّ؟ فقالت : لا ، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها : كوني معي في القصر ، فقالت : ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت : نعم ، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب ، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه ، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة.
والعامل في { إذ } قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ.
وقال الزمخشري العامل في { إذ تمشي } { ألقيت } أو تصنع ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إذ أوحينا } فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك.
وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى.
وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة.
وقال الحوفي : { إذ } متعلقة بتصنع ، ولك أن تنصب { إذ } بفعل مضمر تقديره واذكر.
وقرأ الجمهور { كي تَقَرُّ } بفتح التاء والقاف.
وقرأت فرقة بكسر القاف ، وتقدم أنهما لغتان في قوله { وقري عيناً } وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول.
و { قتلت نفساً } هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون ، فغفر الله له باستغفاره حين قال { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود ، والغمّ بلغة قريش القتل ، وقيل : من غم التابوت.
وقيل : من غم البحر ، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين.
والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي { فتناك } ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان.
وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة.
ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى.
وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين.
وقال وهب : ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير { وفتناك فتوناً } فخرجت خائفاً إلى { أهل مدين } فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب ، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.
{ ثم جئت } إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك.
{ على قدر } أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه.
وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون.
وقال الشاعر :
نال الخلافة أو جاءت على قدر . . .
كما أتى ربه موسى على قدر
{ واصطنعتك لنفسي } أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان ، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال : اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان.
وقال الزمخشري : هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلاً لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلاً فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى.
ومعنى { لنفسي } أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي ، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك.
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
الونى : الفتور ، يقال : ونى يني وهو فعل لازم ، وإذا عُدِيَّ فبعن وبفي وزعم بعض البغداديين أنه يأتي فعلاً ناقصاً من أخوات ما زال وبمعناها ، واختاره ابن مالك وأنشد :
لا يني الخب شيمة الحب . . .
ما دام فلا تحسبنه ذا ارعواء
وقالوا : امرأة آنآءة أي فاترة عن النهوض ، أبدلوا من واوها همزة على غير قياس.
قال الشاعر :
فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر . . .
{ اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فائتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان فيها أن يشرك أخاه هارون فذكر الله أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه ، فأمره هنا وأخاه بالذهاب و { أخوك } معطوف على الضمير المستكن في { اذهب أنت وربك } في سورة المائدة وقول بعض النحاة ، أن { وربك } مرفوع على إضمار فعل ، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا.
وروي أن الله أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى.
وقيل : سمع بمقدمه.
وقيل : ألهم ذلك وظاهر { بآياتي } الجمع.
فقيل : هي العصا ، واليد ، وعقدة لسانه.
وقيل : اليد ، والعصا.
وقد يطلق الجمع على المثنى وهما اللتان تقدم ذكرهما ولذلك لما قال : فائت بآية ألقى العصا ونزع اليد ، وقال : فذانك برهانان.
وقيل العصا مشتملة على آيات انقلابها حيواناً ، ثم في أول الأمر كانت صغيرة ثم عظمت حتى صارت ثعباناً ، ثم إدخال موسى يده في فمها فلا تضرّه.
وقيل : ما أعطي من معجزة ووحي.
{ ولا تنيا } أي لا تضعفا ولا تقصرا.
وقيل : تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما ، ويجوز أن يراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها ، فكان جديراً أن يطلق عليه اسم الذكر.
وقرأ ابن وثاب : ولا تِنَيَا بكسر التاء اتّباعاً لحركة النون.
وفي مصحف عبد الله ولا تهنا أي ولا تلنا من قولهم هين لين ، ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني.
فقيل : { اذهبا إلى فرعون } أي بالرسالة وأبعد من ذهب إلى أنهما أمرا بالذهاب أولاً إلى الناس وثانياً إلى فرعون ، فكرر الأمر بالذهاب لاختلاف المتعلق ، ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله { إنه طغى } أي تجاوز الحد في الفساد ودعواه الربوبية والإلهية من دون الله.
والقول اللين هو مثل ما في النازعات { هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } وهذا من لطيف الكلام إذ أبرز ذلك في صورة الاستفهام والمشورة والعرض لما فيه من الفوز العظيم.
وقيل : عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته.
وقيل : لا تجبهاه بما يكره وألطفا له في القول لما له من حق تربية موسى.
وقيل : كنياه وهو ذو الكنى الأربع أبو مرة ، وأبو مصعب ، وأبو الوليد ، وأبو العباس.
وقيل : القول اللين لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولِينها خفتها على اللسان.
وقال الحسن : هو قولهما إن لك ربًّا وإن لك معاداً وإن بين يديك جنة وناراً فآمن بالله يدخلك الجنة يقِكَ عذاب النار.
وقيل : أمرهما تعالى أن يقدما المواعيد على الوعيد كما قال الشاعر :
أقدم بالوعد قبل الوعيد . . .
لينهى القبائل جهالها
وقيل : حين عرض عليه موسى وهارون عليهما السلام ما عرضا شاور آسية فقالت : ما ينبغي لأحد أن يرد هذا فشاور هامان وكان لا يبت أمراً دون رأيه ، فقال له : كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكاً فتصير مملوكاً ورباً فتصير مربوباً فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى ، والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله تعالى أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه ، وفائدة إرسالهما مع علمه تعالى أنه لا يؤمن إقامة الحجة عليه وإزالة المعذرة كما قال تعالى : { ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله } الآية.
وقيل : القول اللين ما حكاه الله هنا وهو { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك } - إلى قوله - { والسلام على من اتبع الهدى } وقال أبو معاذ : { قولاً ليناً } وقال الفراء لعل هنا بمعنى كي أي كي يتذكر أو يخشى كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرك ، أي كي تأخذ أجرك.
وقيل : لعل هنا استفهام أي هل يتذكر أو يخشى ، والصحيح أنها على بابها من الترجِّي وذلك بالنسبة إلى البشر وفي قوله { لعله يتذكر أو يخشى } دلالة على أنه لم يكن شاكاً في الله.
وقيل : { يتذكر } حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخرَّ ساجداً لله راغباً أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فرجاً أن يتذكر حلم الله وكرمه وأن يحذر من عذاب الله.
وقال الزمخشري : أي { يتذكر } ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذغان للحق { أو يخشى } أن يكون الأمر كما يصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.
فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط تسبق الخيل انتهى.
وقال الشاعر :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا . . .
كما تقدم فارط الوراد
وفي الحديث : « أنا فرطكم على الحوض » أي متقدمكم وسابقكم ، والمعنى إننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها.
وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في روايته { أن يفرط } مبنياً للمفعول أي يسبق في العقوبة ويسرع بها ، ويجوز أن يكون من الإفراط ومجاوزة الحد في العقوبة خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعذاب من شيطان ، أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية ، أو من حبه الرياسة ، أو من قومه القبط المتمرّدين الذين قال الله فيهم { قال الملأ من قوم فرعون } { وقال الملأ من قومه } وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن { يُفْرِط } بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية { أو أن يطغى } في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي تجرئة عليك وقسوة قلبه ، وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب والتجافي عن التفوه بالعظيمة.
والمعية هنا بالنصرة والعون أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما.
وقال ابن عباس { أسمع } جوابه لكما { وأرى } ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم { فأتياه } كرر الأمر بالإتيان { فقولا إنا رسولا ربك } وخاطباه بقولهما { ربك } تحقيراً له وإعلاماً أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدَّعي الربوبية.
وأُمرا بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء.
وقد ذكر في غير هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان فجملة ما دعى إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل.
ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا { قد جئناك بآية من ربك } وتكرر أيضاً قولهما { من ربك } على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور ، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما.
وقال الزمخشري : { قد جئناك بآية من ربك } جارية من الجملة الأولى وهي { إنّا رسولا ربك } مجرى البيان والتفسير ، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية ، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك { قد جئتكم ببينة من ربكم } { فأت بآية إن كنت من الصادقين } { أو لو جئتك بشيء مبين } انتهى.
وقيل : الآية اليد.
وقيل : العصا ، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك.
والظاهر أن قوله { والسلام على من اتبع الهدى } فصل للكلام ، فالسلام بمعنى التحية رغباً به عنه وجرياً على العادة في التسليم عند الفراغ من القول ، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له.
وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم.
وقيل : هو مدرج متصل بقوله { إنا قد أوحي إلينا } فيكون إذ ذاك خبراً بسلامة المهتدين من العذاب.
وقيل { على } بمعنى اللام أي والسلامة لمن { اتبع الهدى }.
وقال الزمخشري : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين ، وتوبيخ خزَنة النار والعذاب على المكذبين انتهى.
وهو تفسير غريب.
وقد يقال : السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } وبنى { أُوحِي } لما لم يسم فاعله ، ولم يذكر الموحى لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحى ما لا يليق به ، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان.
وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب.
وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال { فمن ربكما يا موسى } خاطبهما معاً وأفرد بالنداء موسى.
قال ابن عطية : إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات.
وقال الزمخشري لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه ، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى ، ويدل عليه قوله { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } انتهى.
واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا حيث خصه بالسؤال والنداء معاً ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز.
قال الزمخشري : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق انتهى.
والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وقال الشاعر :
وله في كل شيء خلقة . . .
وكذلك الله ما شاء فعل
وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل وقال الضحاك { خلقه } من المنفعة المنوطة به المطابقة له { ثم هدى } أي يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه ، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه.
قال القشيري : والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء ، وعلى هذا مفعول { أعطى } الأول { كل شيء } والثاني { خلقه } وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدّي وهو أن المعنى { أعطى كل شيء } مخلوقه من جنسه أي كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة.
فلم يزاوج منهما غير جنسه ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه.
وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة.
وقال الحسن وقتادة { أعطى كل شيء } صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقيل { كل شيء } هو المفعول الثاني لأعطى و { خلقه } المفعول الأول أي { أعطى } خليقته { كل شيء } يحتاجون إليه ويرتفقون به.
وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خَلَقَهُ بفتح اللام فعلاً ماضياً في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء ، ومفعول { أعطى } الثاني حذف اقتصاراً أي { كل شيء خلقه } لم يخله من عطائه وإنعامه { ثم هدى } أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه.
وقيل : حذف اختصاراً لدلالة المعنى عليه ، أي { أعطى كل شيء خلقه } ما يحتاج إليه وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته.
{ قال : فما بال القرون الأولى } لما أجابه موسى بجواب مسكت ، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون ، وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به ، والحيدة والمغالطة.
قيل : سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القُصّاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، ولم يكن عنده عليه السلام علم بالتوراة إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال { علمها عند ربي }.
وقيل : مراده من السؤال عنها لم عبدت الأصنام ولم تعبد الله إن كان الحق ما وصفت؟ وقيل : مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تُجَازَى فقال { علمها عند ربي } فأجابه بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلاّ هو.
وقال النقاش : إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون { يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } الآية فرد علم ذلك إلى الله لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة.
وقيل لما قال { إنّا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } قال فرعون { فما بال القرون الأولى } فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا.
وقيل : لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون : إن كان ما ذكرت في غاية الظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه ، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها.
فعارض الحجة النقلية ، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال : ما تقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم ، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم ، فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده { في كتاب } ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي { لا يضل } كما تضل أنت { ولا ينسى } كما تنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة قاله الزمخشري.
والظاهر عود الضمير في { علمها } إلى { القرون الأولى } أي مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليه أن يخطىء شيئاً أو ينساه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه ، وضللته لغتان فلم يهتد إليه كقولك : ضللت الطريق والمنزل ولا يقال أضللته إلاّ إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء.
وقال الزجاج : ضللته أضله إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو ، وأضللته والكتاب هنا اللوح المحفوظ.
وقيل { في كتاب } فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر.
وقيل : الضمير في { علمها } عائد على القيامة لأنه سأله عن بعث الأمم.
وقال السدّي { لا يضل } لا يغفل.
وقال ابن عيسى { لا يضل } لا يذهب عليه تقول العرب ضل منزله بغير ألف.
وفي الحيوان أضل بعيره بالألف.
وقيل : التقدير { لا يضل ربي } الكتاب { ولا ينسى } ما فيه قاله مقاتل.
وقال القفال { لا يضلْ } عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات { ولا ينسى } إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير.
وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه.
وقال مجاهد : معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره.
وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب صواباً وإذا عرفه لا ينساه ، وقال أبو عبد الله الرازي : علم الله صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب لأن ذلك لا يعقل ، فالمعنى أن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب ، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها ، ويتأكد هذا بقوله { لا يضل ربي ولا ينسى } أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكة زيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة انتهى.
وفيه بعض تلخيص.
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي لا يُضِلُّ بضم الياء أي { لا يضلّ } الله ذلك الكتاب فيضيع { ولا ينسى } ما أثبته فيه.
وقرأ السلمي لا يُضِلُّ ربِيَ ولا يُنْسَى مبنيتين للمفعول ، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه.
وقيل : هما في موضع وصف لقوله { في كتاب } والضمير العائد على الموصوف محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه.
والظاهر أن الضمير في { ولا ينسى } عائد على الله.
وقيل : يحتمل أن يعود على { كتاب } أي لا يدع شيئاً فالنسيان استعارة كما قال { إلاّ أحصاها } فأسند الإحصاء إليه من حيث الحصر فيه ، وعن ابن عباس لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق ، وأمر شتّ متفرّق؛ وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى ، ومعناه متفرقة ، وشتان اسم فاعل سحت : لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم ، وأصله استقصاء الحلق للشعر.
وقال الفرزدق وهو تميمي :
وعض زمان يا ابن مروان لم يك . . .
من المال إلا مسحت أو محلق
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب.
الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب.
الصف : موضع المجمع قاله أبو عبيدة ، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى ، وقد يكون مصدراً ويقال جاؤوا صفاً أي مصطفين.
التخييل : إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم.
قال الشاعر :
ألا يا لقومي للخيال المشوق . . .
وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
{ الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى }.
ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله { ولا ينسى } ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته ، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت ، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى { فأخرجنا } وقوله { كلوا وارعوا أنعامكم } وقوله { ولقد أريناه } فيكون قوله { فأخرجنا } و { أريناه } التفاتاً من الضمير الغائب في { جعل } وسلك إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله { ربي } فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله { فأخرجنا } { ولقد أريناه }.
وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون { فأخرجنا } من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل { فأخرجنا } ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله { وأنزل من السماء ماء } ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات.
وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي { مَهْداً } بفتح الميم وإسكان الهاء ، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل : مصدران مهد مهداً ومهاداً.
وقال أبو عبيد : مهاد اسم ، ومهد الفعل يعني المصدر.
وقال آخر { مهداً } مفرد ومهاد جمعه ، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم ، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم.
والضمير في { به } عائد على الماء أي بسببه.
{ أزواجاً } أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا } { أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا } { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا ، ولا يدخل تحت قدرة احد والأجود أن يكون { شتى } في موضع نصب نعتاً لقوله { أزواجاً } لأنها المحدث عنها.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة للنبات ، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَ بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع ، يعني أنها { شتى } مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.
قالوا : من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله { كلوا وارعوا أنعامكم } أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي { فأخرجنا } قائلين أي آذنين في الانتفاع بها ، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها ، عُدِيّ هنا { وارعوا } ورعى يكون لازماً ومتعدياً تقول : رعت الدابة رعياً ، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج.
وأشار بقوله { إن في ذلك } للآيات السابقة من جعل الأرض مهداً وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات.
وقالوا { النُّهى } جمع نهية وهو العقل سُمِّيَ بذلك لأنه ينهى عن القبائح ، وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدى.
والضمير في { منها } يعود على الأرض ، وأراد خلق أصلهم آدم.
وقيل : ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً قاله عطاء الخراساني.
وقيل : من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيهاً على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز المجاز { وفيها نعيدكم } أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها { ومنها نخرجكم تارة } بالبعث { تارة } مرة { أخرى } يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردّهم كما كانوا أحياء.
وقوله { أخرى } أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله { منها خلقناكم } أخرجناكم.
{ ولقد أريناه آياتنا كلها } هذا إخبار من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أن قوله { فأخرجنا } إنما هو خطاب له عليه السلام { أريناه آياتنا } هي المنقولة من رأي البصرية ، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و { آياتنا } ليس عاماً إذ لم يره تعالى جميع الآيات ، وإنما المعنى آياتنا التي رآها ، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد.
وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة.
وقيل : المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا.
وقيل : يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم ، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به { فكذب بها } جميعاً { وأبى } أن يقبل شيئاً منها انتهى.
وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد.
وقيل : { أريناه } هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين ، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا { آياتنا كلها } هي الآيات التسع.
قيل : ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السموات والأرض فيكون من رؤية العين.
وقال ابن عطية وأُبيّ : يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير { فكذب } موسى { وأَبَى } أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته.
قيل : ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال : من سحر ، ولهذا { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى } ويبعد هذا القول قوله { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ رب السموات والأرض بصائر } وقوله { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا } فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر.
وفي قوله { أجئتنا لتخرجنا } وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة ، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جداً إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساوياً للقتل في قوله { أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } وقوله { بسحرك } تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملكاًَ مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر ، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة ، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته فقال { فلنأتينك بسحر مثله } ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قَوِيَ وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس ، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه ، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله { بسحرك } لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرتا من قبله { فلنأتينك } جواب لقسم محذوف ، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك ، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر.
والظاهر أن { موعداً } هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله { قال موعدكم يوم الزينة } ومعنى { لا نخلفه } أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعه قوله { موعدكم يوم الزينة }.
وقال القشيري : الأظهر أنه مصدر ولذلك قال { لا نخلفه } أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه.
وقال الزمخشري : إن جعلته زماناً نظراً في قوله { موعدكم يوم الزينة } مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب { مكاناً } وإن جعلته مكاناً لقوله { مكاناً سُوى } لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله { موعدكم يوم الزينة } وقراءة الحسن غير مطابقة له { مكاناً } جميعاً لأنه قرأ { يوم الزينة } بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد ، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد.
ويجعل الضمير في { نخلفه } و { مكاناً } بدل من المكان المحذوف.
فإن قلت : كيف طابقته قوله { موعدكم يوم الزينة } ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم ، فبذكر الزمان علم المكان.
وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير ، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى ، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل { بيننا وبينك } وعداً { لا نخلفه } فإن قلت : فبم ينتصب { مكاناً } ؟ قلت : بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر ، فإن قلت : كيف يطابقه الجواب؟ قلت : أما على قراءة الحسن فظاهر ، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة.
ويجوز على قراءة الحسن أن يكون { موعدكم } مبتدأ بمعنى الوقت و { ضحى } خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله { لا نخلفه } وهو موصول ، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم.
وقوله و { ضحى } خبره على نية التعريف فيه ، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة ، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة.
ولو قلت : جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه.
وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأمر.
وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد.
وقال الحوفي { موعداً } مفعول اجعل { مكاناً } ظرف العامل فيه اجعل.
وقال أبو علي { موعداً } مفعول أولا لاجعل و { مكاناً } مفعول ثان ، ومنع أن يكون { مكاناً } معمولاً لقوله { موعداً } لأنه قد وصف.
قال ابن عطية : وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها ، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل { ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان } فقوله إذ متعلق بقوله لمقت.
وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون { مكاناً } نصباً على المفعول الثاني لنخلفه ، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى.
وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل ، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون ، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف ، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله ، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف ، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر ، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون.
{ ولا أنت } معطوف على الضمير المستكن في { نخلفه } المؤكد بقوله { نحن }.
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير { سُوًى } بضم السين منوناً في الوصل.
وقرأ باقي السبعة بكسرها منوناً في الوصل.
وقرأ الحسن أيضاً { سُوى } بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد.
وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف ، ومعنى { سُوًى } أي عدلاً ونصفة.
قال أبو علي : كأنه قال قربه منكم قربه منا.
وقال غيره : إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن ، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة.
وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها ، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا.
وقال الأخفش { سوى } مقصور إن كسرت سينه أو ضممت ، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل ، ووسط بين الفريقين.
وقال الشاعر :
وإن أبانا كان حل بأهله سوى . . .
بين قيس قيس غيلان والفزر
قال : وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك ، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس.
وقالت فرقة : معنى { مكاناً سُوًى } مستوياً من الأرض أي لا وَعر فيه ، ولا جبل ، ولا أكمة ، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما ، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه.
وقالت فرقة : معناه مكاناً سوى : مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة.
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن { يوم الزينة } كان عيداً لهم ويوماً مشهوداً وصادف يوم عاشوراء ، وكان يوم سبت.
وقيل : هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم.
وقيل : يوم النيروز وكان رأس سنتهم.
وقيل : يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة.
وقيل : يوم سوق لهم.
وقيل : يوم عاشوراء.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فائد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة ، والناس نصب في كلتا القراءتين.
قال صاحب اللوامح { وأن يحشر } الحاشر { الناس ضحى } فحذف الفاعل للعلم به انتهى.
وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين.
وقال غيره { وأن يحشر } القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة ، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله { موعدكم } وجعل { يحشر } لفرعون ويجوز أن يكون { وأن يحشرْ } في موضع رفع عطفاً على { يوم الزينة } وأن يكون في موضع جر عطفاً على { الزينة } وانتصب { ضحًى } على الظرف وهو ارتفاع النهار ، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى ، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
والظاهر أن قوله { قال موعدكم يوم الزينة } من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون { فاجعل بيننا وبينك موعداً } ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس.
ولقوله { موعدكم } وهو خطاب للجميع ، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون.
{ فتولى فرعون } أي معرضاً عن قبول الحق أو { تولّى } ذلك الأمر بنفسه أو فرجع إلى أهله لاستعداد مكائده ، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا.
أقوال { فجمع كيده } أي ذوي كيده وهم السحرة.
وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها { ثم أتى } للموعد الذي كانوا تواعدوه.
وأتى موسى أيضاً بمن معه من بني إسرائيل قال لهم موسى { ويلكم لا تفتروا على الله كذباً } وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة ، خاطبهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب.
وعن وهب لما قال للسحرة { ويلكم } قالوا ما هذا بقول ساحر { فيسحتكم } يهلككم ويستأصلكم ، وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال ، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه { من افترى } على الله الكذب.
ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته { فتنازعوا أمرهم } أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير { فَيُسْحِتَكُمْ } بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعياً.
وقرأ باقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثياً.
وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم.
وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه ، وعن قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر.
وقال الزمخشري : والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول ، ثم { قالوا إن هذان لساحران } فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما انتهى.
وحكى ابن عطية قريباً من هذا القول عن فرقة قالوا : إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا { إن هذان لساحران } والأظهر أن تلك قيلت علانية ، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع.
وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون { هذان } بألف ونون خفيفة { لساحران } واختلف في تخريج هذه القراءة.
فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران ، وخبر { إن } الجملة من قوله { هذان لساحران } واللام في { لساحران } داخلة على خبر المبتدأ ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ.
وقال الزجاج : اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف ، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد.
وقيل : ها ضمير القصة وليس محذوفاً ، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها { إن هذان لساحران } وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف.
وقيل { إنْ } بمعنى نعم ، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و { هذان لساحران } مبتدأ وخبر واللام في { لساحران } على ذينك التقديرين في هذا التخريج ، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير ، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حُكِي ذلك عن الكسائي ، ولبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذرة.
وقال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً.
وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير { إنْ } بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون { هذان } ابن كثير ، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هي المخففة من الثقيلة و { هذان } مبتدأ و { لساحران } الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين ، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ.
وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها ، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمرو إن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف ، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله { فذانك برهانان } { إحدى ابنتي هاتين } بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً.
وقال الزجاج : لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف.
وقال أبو عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف ، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها ، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمرو : هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب.
وقرأ عبد الله إن ذان إلا ساحران قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لأُبَيّ.
وقال ابن مسعود : إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من { النجوى } انتهى.
وقرأت فرقة ما هذا إلاّ ساحران وقولهم { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما } تبعوا فيه مقالة فرعون { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك } ونسبوا السحر أيضاً لهارون لما كان مشتركاً معه في الرسالة وسالكاً طريقته ، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصاً لهما وحطاً من قدرهما ، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما ، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك ، والظاهر أن الضمير في { قالوا } عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضاً.
وقيل : خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم ، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها.
و { المثلى } تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى.
وقيل : عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى ، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم ، وعن علي نحو ذلك قال : وتصرفات وجوه الناس إليهما.
وقيل : هو على حذف مضاف أي { ويذهبا } بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى { أرسل معنا بني إسرائيل } بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر ، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها.
وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله { فجمع كيده } قوله { فأجمعوا كيدكم } وقيل : هو من كلام فرعون ، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض.
وقرأ الجمهور { فأجمعوا } بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعياً أي اعزموا واجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم كالمسألة المجمع عليها.
وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله { فتولى فرعون فجمع كيده } وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام.
وتداعوا إلى الإتيان { صفاً } لأنه أهيب في عيون الرائين ، وأظهر في التمويه وانتصب { صفاً } على الحال أي مصطفين أو مفعولاً به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم.
وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفاً.
قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم.
وقال صاحب اللوامح : وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في العامة كذلك { وقد أفلح اليوم } أي ظفر وفاز ببغيته من طلب العلوّ في أمره وسعى سعيه ، واختلفوا في عدد السحرة اختلافاً مضطرباً جداً فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر عصي وحبال ، وأكثر ما قيل تسعمائة ألف.
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
في الكلام حذف تقديره فجاؤوا مصطفين إلى مكان الموعد ، وبيد كل واحد منهم عصا وحبل ، وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه فوقفوا و { قالوا : يا موسى إما أن تلقي } وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا.
قيل : خيروه ثقة منهم بالغلب لموسى ، وكانوا يعتقدون أن أحداً لا يقاومهم في السحر.
وقال الزمخشري : وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وتواضع له وخفض جناح ، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم ، وكان الله عز وجل ألهمهم ذلك وعلم موسى عليه السلام اختيار إلقائهم أولاً مع ما فيه من مقابلة الأدب بأدب حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر ويستنفذوا أقصى طرقهم ومجهودهم ، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه وسلط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية بينة للناظرين بينة للمعتبرين انتهى.
وهو تكثير وخطابة وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعاً وإما أن يكون منصوباً والمعنى أنك تختار أحد الأمرين ، وقدّر الزمخشري الرفع الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبر المبتدأ محذوف ، واختار أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله { وإما أن نكون أول من ألقى } فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإن كان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدّرنا إلقاؤك أول ، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزم من ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية.
وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه.
وقدّر الزمخشري النصب اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وتفسير الإعراب { إما } نختار { أن تلقي } وتقدم نحو هذا التركيب في الأعراف.
{ قال بل ألقوا } لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به لأن الغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة ، وتعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط أي ألقوا إن كنتم محقين لقوله { فأتوا بسورة من مثله } ثم قال { إن كنتم صادقين } وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا.
قال أبو البقاء : { فإذا حبالهم } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان ، والعامل فيه ألقوا انتهى.
فقوله { فإذا } الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب ، وإنما هي للعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف.
وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان وهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه ، وقوله : والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو { حبالهم وعصيهم } إن لم يجعلها هي في موضع الخبر ، لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل ، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً فإذا رفعنا رابضاً كانت إذا معمولة ، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان ، وإذا نصبتا كانت خبراً ولذلك تكتفي بها ، وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد.
وقال الزمخشري : يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى { فإذا حبالهم وعصيهم } ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم ، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى.
فقوله : والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح ، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضاً وقوله الطالبة ناصباً لها صحيح ، وقوله : وجملة تضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها ، فلا تمكن الإضافة.
وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها ، وقوله والجملة ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول : خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه ، وأما قوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدّر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه.
فإذا قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى أنه فاجأني السبع وهجم ظهوره.
وقرأ الحسن وعيسى عُصِيَهُم بضم العين حيث كان وهو الأصل لأن الكسر اتباع لحركة الصاد وحركة الصاد لأجل الياء.
وفي كتاب اللوامح الحسن وعُصْيهم بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضاً جمع كالعامّة لكنه على فعل.
وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح والوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنياً للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و { أنها تسعى } بدل اشتمال من ذلك الضمير.
وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضاً ضمير ما ذكر و { أنها تسعى } بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى.
وقال ابن عطية : إنها مفعول من أجله.
وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل ، و { أنها تسعى } في موضع نصب على المفعول به.
ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى ، ومن بني تخيل للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنون وكسر الياء ، فالمخيل لهم ذلك هو الله والضمير في { إليه } الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل { قال بل ألقوا } ولقوله بعد { فأوجس في نفسه خيفة موسى } وقيل : يعود على فرعون ، والظاهر من القصص أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة ، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان ، فروى أنهم جعلوا في الحبال زئبقاً وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك فتحركت العصي والحبال معه.
وقيل : حفروا الأرض وجعلوا تحتها ناراً وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق ، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدّرك.
وقيل : إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا { سحروا أعين الناس } فكان الناظر يخيل إليه أنها تنتقل.
وتقدم شرح أوجس.
وقال الزمخشري : كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله وهو قول الحسن.
وقيل : كان خوفه على الناس أن يفتتنوا لهول ما رأى قبل أن يلقي عصاه وهو قول مقاتل ، والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن و { خيفة } أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون خوفه بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب.
{ إنك أنت الأعلى } تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف ، وبالأعلوية الدالة على التفضيل { وألق ما في يمينك } لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة.
قال الزمخشري : وقوله { ما في يمينك } ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبالِ بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العُوَيد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها ، وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها ، فألقه تتلقفها بإذن الله وتمحقها انتهى.
وهو تكثير وخطابه لا طائل في ذلك.
وفي قوله { تلقف } جمل على معنى ما لا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة ، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء.
وقرأ الجمهور تَلَقَّف بفتح اللام وتشديد القاف مجزوماً على جواب الأمر.
وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى.
وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم { تَلْقَفْ } بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن قنبل أنه كان يشدد من تلقّف يريد يتلقف.
وقرأ الجمهور { كيد } بالرّفع على أن { ما } موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية أي أن صنعتم كيد ، ومعنى { صنعوا } هنا زوّروا وافتعلوا كقوله { تلقف ما يأفكون } وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ { كيد سحر } بالنصب مفعولاً لصنعوا وما مهيئة.
وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سِحْر بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر ، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته ، أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو.
وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل من سحر ، وأفرد ساحر من حيث إن فعل الجميع نوع واحد من السحر ، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه.
وقال الزمخشري : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله { ولا يفلح الساحر } أي هذا الجنس انتهى.
وعرف في قوله { ولا يفلح الساحر } لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } وقال الزمخشري : إنما نكر يعني أولاً من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج :
في سعي دنيا طال ما قد مدت . . .
وفي حديث عمر رضي الله عنه : لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر كأنه قال : إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى.
وقول العجاج.
في سعي دنيا ، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى ، ولا يستعمل تأنيثه إلاّ بالألف واللام أو بالإضافة وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة.
ومعنى { ولا يفلح } لا يظفر ببغيته { حيث أتى } أي حيث توجه وسلك.
وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح.
وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جمل محذوفة ، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا ، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر { فَأُلْقِي السحرة سجداً } وجاء التركيب { فألقي السحرة } ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك ، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين.
وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز ، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضاً كقوله { لكان لزاماً وأجل مسمى } وأزواجاً من نبات إذا كان شتى صفة لقوله أزواجاً ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيد إذا لوأولا تقتضي ترتيباً على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون ، وطائفة بقولهم : رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع.
وقيل : قدم { هارون } هنا لأنه كان أكبر سناً من { موسى }.
وقيل لأن فرعون كان ربَّى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربى موسى فيقول أنا ربيته.
وقالوا : رب هارون وموسى ولم يكتفوا بقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا { برب } هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين.
وتقدم الخلاف في قراءة { آمنتم } وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف.
وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له ، وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو { فما آمن لموسى } { لن نؤمن لك } { وما أنت بمؤمن لنا } { فآمن له لوط } واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب ، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم ، ولما كان الجذع مقراً للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدِّيَ الفعل بفي التي للوعاء.
وقيل في بمعنى على.
وقيل : نقر فرعون الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفاً لهم حقيقة حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً ومن تعدية صلب بفي قول الشاعر :
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة . . .
فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا
وفرعون أول من صلب ، وأقسم فرعون على ذلك وهو فعل نفسه وعلى فعل غيره ، وهو { ولتعلمنّ أينا } أي أيي وأي من آمنتم به.
وقيل : أيي وأي موسى ، وقال ذلك على سبيل الاستهزاء لأن موسى لم يكن من أهل التعذيب وإلى هذا القول ذهب الزمخشري قال : بدليل قوله { آمنتم له } واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } وفيه نفاحة باقتداره وقهره وما ألفه وضَرِيَ به من تعذيب الناس بأنواع العذاب ، وتوضيع لموسى عليه السلام واستضعاف مع الهزء به انتهى.
وهو قول الطبري قال : يريد نفسه وموسى عليه السلام ، والقول الأول أذهب مع مخرقة فرعون { ولتعلمنّ } هنا معلق و { أينا أشد } جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله { ولتعلمنّ } سدّت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان { لتعلمنّ } معدى تعدية عرف ، ويجوز على الوجه أن يكون { أينا } مفعولاً { لتعلمن } وهو مبني على رأي سيبويه و { أشد } خبر مبتدأ محذوف ، و { أينا } موصولة والجملة بعدها صلة والتقدير و { لتعلمنّ } من هو { أشد عذاباً وأبقى }.
{ قالوا لن نؤثرك } أي لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك { على ما جاءنا من البينات } وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها.
وفي قولهم هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله.
وفي نسبة المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم ، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر فكانوا على جلية من العلم بالمعجز ، وغيرهم يقلدهم في ذلك وأيضاً فكانوا هم الذين حصل لهم النفع بها فكانت بينات واضحة في حقهم.
والواو في { والذي فطرنا } واو عطف على { ما جاءنا } أي وعلى { الذي فطرنا } لما لاحت لهم حجة الله في المعجزة بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو الله تعالى وذكروا وصف الاختراع وهو قولهم { الذي فطرنا } تبييناً لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء ربوبيته وإلاهيته وهو عاجز عن صرف ذبابة فضلاً عن اختراعها.
وقيل : الواو للقسم وجوابه محذوف ، ولا يكون { لن نؤثرك } جواباً لأنه لا يجاب في النفي بلن إلاّ في شاذ من الشعر و { ما } موصولة بمعنى الذي وصلته { أنت قاض } والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه.
قيل : ولا يجوز أن تكون { ما } مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال ، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى.
وهذا ليس مجمعاً عليه بل قد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن { ما } المصدرية توصل بالجملة الاسمية.
وانتصب { هذه الحياة } على الظرف وما مهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في { هذه الحياة الدنيا } لا في الآخرة ، بل في الآخرة لنا النعيم ولك العذاب.
وقرأ الجمهور { تقضي } مبنياً للفاعل خطاباً لفرعون.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تُقْضَى مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فأُجْرِي مجرى المفعول به ، ثم بُني الفعل لذلك ورفع به كما تقول : صم يوم الجمعة وولد له ستون عاماً.
ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده ولا أنه قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } وقيل : أنفذ فيهم وعيده وصلبهم على الجذوع وإكراهه إياهم على السحر.
قيل : حملهم على معارضة موسى.
وقيل : كان يأخذ ولدان الناس ويجربهم على ذلك فأشارت السحرة إلى ذلك قاله الحسن { والله خير وأبقى } ردّ على قوله { أينا أشد عذاباً وأبقى } أي وثواب الله وما أعده لمن آمن به ، روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائماً ففعل فوجده ويحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويظهر من قولهم أئن لنا لأجراً عدم الإكراه.
{ إنه من يأت } - إلى - { من تزكى } قيل هو حكاية لهم عظة لفرعون.
وقيل : خبر من الله لا على وجه الحكاية تنبيهاً على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة موعظة وتحذيراً ، والمجرم هنا الكافر لذكر مقابله { ومن يأته مؤمناً } ولقوله { لا يموت فيها ولا يحيا } أي يعذب عذاباً ينتهي به إلى الموت ثم لا يجهز عليه فيستريح ، بل يعاد جلده ويجدد عذابه فهو لا يحيا حياة طيبة بخلاف المؤمن الذي يدخل النار فهم يقاربون الموت ولا يجهز عليهم فهذا فرق بين المؤمن والكافر.
وفي الحديث « إنهم يماتون إماتة » وهذا هو معناه لأنه لا يموت في الآخرة و { تَزَكَّى } تطهَّر من دنس الكفر.
وقيل : قال لا إله إلا الله.
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
هذا استئناف إخبار عن شيء من أمر موسى عليه السلام وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان ، حدث فيها لموسى وفرعون حوادث ، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقَوُيَ أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ، فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه ، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب ، فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى فلما كملت الآيات أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يخرج بني إسرائيل في الليل سارياً والسَرْي مسير الليل.
ويحتمل أنْ { أن } تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع و { بعبادي } إضافة تشريف لقوله { ونفخت فيه من روحي } والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدماً بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده.
وقيل : كان الوحي بالضرب حين قارب فرعون لحاقه وقوي فزع بني إسرائيل ، ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان ، فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم ، واتصل الخبر فرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى الله إلى موسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل ، ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله ، فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة.
قيل : وكان في خيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان.
وقيل : أكثر من هذا فضرب موسى عليه السلام البحر فانفرق اثنتي عشرة فرقة طرقاً واسعة بينها حيطان الماء واقفة ، ويدل عليه فكان كل فرق كالطود العظيم.
وقيل : بل هو طريق واحد لقوله { فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً } انتهى.
وقد يراد بقوله { طريقاً } الجنس فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل ، ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم : إنما انفلق من هيبتي وتقدم غرق فرعون وقومه في سورة يونس.
والظاهر أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا البحر بقوّة ، وتحامل على العصا ويوضحه في آية أخرى { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } فالمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً فتعدى إلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسبباً عن الضرب جعل كأنه المضروب.
وقال الزمخشري : { فاضرب لهم طريقاً } فاجعل لهم من قولهم : ضرب له في ماله سهماً ، وضرب اللبن عمله انتهى.
وفي الحديث : « اضربوا لي معكم بسهم » ولما لم يذكر المضروب حقيقة وهو البحر ، ولو كان صرّح بالمضروب حقيقة لكان التركيب طريقاً فيه ، فكان يعود على البحر المضروب و { يبساً } مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرت عليه الصبا فجففته كما روي ، ويقال : يبس يبساً ويبساً كالعدم والعدم ومن كونه مصدراً وصف به المؤنث قالوا : شاة يبس وناقة يبس إذا جف لبنها.
وقرأ الحسن يَبْساً بسكون الباء.
قال صاحب اللوامح : قد يكون مصدراً كالعامة وقد يكون بالإسكان المصدر وبالفتح الاسم كالنفض.
وقال الزمخشري : لا يخلو اليبس من أن يكون مخففاً عن اليبس أو صفة على فعل أو جمع يابس كصاحب وصحب ، وصف به الواحد تأكيداً لقوله ومعاً جياعاً جعله لفرط جوعه كجماعة جياع انتهى.
وقرأ أبو حيوة : يابساً اسم فاعل.
وقرأ الجمهور : لا تخاف وهي جملة في موضع الحال من الضمير { فاضرب } وقيل في موضع الصفة للطريق ، وحذف العائد أي لا تخاف فيه.
وقرأ الأعمش : وحمزة وابن أبي ليلى { لا تخف } بالجزم على جواب الأمر أو على نهي مستأنف قاله الزجاج.
وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش دَرْكاً بسكون الراء والجمهور بفتحها ، والدرك والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك { ولا تخشى } أنت ولا قومك غرقاً وعطفه على قراءة الجمهور لا تخاف ظاهر ، وأما على قراءة الجزم فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلة نحو قوله { فأضلونا السبيلا } وعلى أنه إخبار مستأنف أي وأنت { لا تخشى } وعلى أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة قليلة.
وقال الشاعر :
إذا العجوز غضبت فطلق . . .
ولا ترضاها ولا تملق
وقرأ الجمهور : { فَأَتْبَعَهمْ } بسكون التاء ، وأتبع قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد كقوله { فأتبعه الشيطان } وقد يتعدى إلى اثنين كقوله : وأتبعناهم ذرياتهم فتكون التاء زائدة أي جنوده ، أو تكون للحال والمفعول الثاني محذوف أي رؤساؤه وحشمه.
وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن فاتَّبعَهم بتشديد التاء وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآن إلا { فأتبعه شهاب ثاقب } والباء في بجنوده في موضع الحال كما تقول : خرج زيد بسلاحه أو الباء للتعدي لمفعول ثان بحرف جر ، إذ لا يتعدى اتبع بنفسه إلا إلى حرف واحد.
وقرأ الجمهور { فغشيهم من اليم ما غشيهم } على وزن فعل مجرد من الزيادة.
وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل في القراءة الأولى { ما } وفي الثانية الفاعل الله أي فغشاهم الله.
قال الزمخشري : أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب لهلاكهم.
وقال { ما غشيهم } من باب الاختصار ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة ، أي { غشيهم } ما لا يعلم كَنَهَهُ إلاّ الله.