كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه { ويصدون عن سبيل الله } كقوله { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } وقيل : هو مضارع أريد به الماضي عطفاً على { كفروا } وقيل : هو على إضمار مبتدأ أي وهم { يصدون } وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد { والباد } خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله { الحرام } نذيقهم { من عذاب أليم } ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة { المسجد الحرام } فموضع التقدير هو بعد { والباد } لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك.
وقيل : الواو في { ويصدون } زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون.
قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى.
ولا يجيز البصريون زيادة الواو وإنما هو قول كوفي مرغوب عنه.
وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك بجمع إلاّ أن يراد صدهم لأفراد من الناس فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، والظاهر أنه نفس المسجد ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه.
وقيل : الحرم كله لأنهم صدوه وأهله عليه السلام فنزلوا خارجاً عنه لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من الحرم.
وقرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني ، والأحسن أن يكون { العاكف والبادي } هو المبتدأ و { سواء } الخبر ، وقد أجيز العكس.
وقال ابن عطية : والمعنى { الذي جعلناه للناس } قبلة أو متعبداً انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلاّ إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني ، فلا يحتاج إلى هذا التقدير.
وقرأ حفص والأعمش { سواء } بالنصب وارتفع به { العاكف } لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل.
ومن كلامهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء.
وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي { سواء } بالنصب { العاكف فيه } بالجر.
قال ابن عطية : عطفاً على الناس انتهى.
وكأنه يريد عطف البيان الأولى أن يكون بدل تفصيل.
وقرىء { والبادي } وصلاً ووقفاً وبتركها فيهما ، وبإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً { العاكف } المقيم فيه { والبادي } الطارىء عليه ، وأجمعوا على الاستواء في نفس المسجد الحرام واختلفوا في مكة ، فذهب عمر وابن عباس ومجاهد وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دوس مكة ، وأن القادم له النزول حيث وجد وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال به الثوري وكذلك كان الأمر في الصدر الأول.
قال ابن سابط : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ، فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه ، فاتخذ الناس الأبواب وهذا الخلاف مترتب على الخلاف في فتح مكة أكان عنوة أو صلحاً؟ وهي مسألة يبحث عنها في الفقه.
والإلحاد الميل عن القصد.
ومفعول { يرد } قال أبو عبيدة هو { بإلحاد } والباء زائدة في المفعول.
قال الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا . . .
أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوباً قرأ { ومن يرد } إلحاده بظلم أي إلحاداً فيه فتوسع.
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون التقدير { ومن يرد فيه } الناس { بإلحاد }.
وقال الزمخشري : { بإلحاد بظلم } حالان مترادفتان ومفعول { يرد } متروك ليتناول كل متناول ، كأنه قال { ومن يرد فيه } مراد إمّا عادلاً عن القصد ظالماً { نذقه من عذاب أليم } وقيل : الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته.
وعن سعيد بن جبير : الاحتكار.
وعن عطاء : قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله انتهى.
والأولى أن تضمن { يرد } معنى يتلبس فيتعدى بالباء.
وعلق الجزاء وهو { نذقه } على الإرادة ، فلو نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بها إلاّ في مكة وهذا قول ابن مسعود وجماعة.
وقال ابن عباس : الإلحاد هنا الشرك.
وقال أيضاً : هو استحلال الحرام.
وقال مجاهد : هو العمل السيىء فيه.
وقال ابن عمر : لا والله وبلى والله من الإلحاد.
وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكر بمكة من الإلحاد بالظلم ، والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر إذ الكلام يدل على العموم.
وقرأت فرقة { ومن يرد } بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء ومعناه ومن أتى به { بإلحاد } ظالماً.
ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد فيه من أراد فيه بإلحاد ذكر حال أبيهم إبراهيم وتوبيخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإنفاد العالم إليهم { وإذ بوّأنا } أي واذكر { إذ بوّأنا } أي جعلنا { لإبراهيم مكان البيت } مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة.
قيل : واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله { لنبوّأنهم من الجنة غرفاً } وقال الشاعر :
كم صاحب لي صالح . . .
بوّأته بيدي لحدا
وقيل : مفعول { بوّأنا } محذوف تقديره بوّأنا الناس ، واللام في { لإبراهيم } لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه.
والظاهر أن قوله { أن لا تشرك بي شيئاً } خطاب لإبراهيم وكذا ما بعده من الأمر.
وقيل : هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وأن } مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية ، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير.
قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و { بوّأنا } ليس فيه معنى القول ، والأولى عندي أن تكون { أن } الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟ قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له { لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي } من الأصنام والأوثان والأقذار أن تطرح حوله.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك : أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له.
قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن { لا تشرك }.
والقائمون هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
وقرأ الجمهور { وأذّن } بالتشديد أي ناد.
روي أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم وتقدم قول من قال إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقاله الحسن قال : أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال.
قال ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عنهما { وأذن } على فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على { بوّأنا } انتهى.
وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه.
وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن.
قال صاحب اللوامح : وهو عطف على { وإذ بوّأنا } فيصير في الكلام تقديم وتأخير ، ويصير { يأتوك } جزماً على جواب الأمر الذي هو { وطهر } انتهى.
وقرأ ابن أبي إسحاق { بالحج } بكسر الحاء حيث وقع الجمهور بفتحها.
وقرأ الجمهور { رجالاً } وابن أبي إسحاق بضم الراء والتخفيف ، وروي كذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز ، وهو اسم جمع كظؤار وروي عنهم وعن ابن عباس ومجاهد وجعفر بن محمد بضم الراء وتشديد الجيم.
وعن عكرمة أيضاً رجالى على وزن النعامى بألف التأنيث المقصورة ، وكذلك مع تشديد الجيم عن ابن عباس وعطاء وابن حدير ، ورجال جمع راجل كتاجر وتجار.
وقرأ الجمهور { يأتين } فالظاهر عود الضمير { على كل ضامر } لأن الغالب أن البلاد الشاسعة لا يتوصل منها إلى مكة بالركوب ، وقد يجوز أن يكون الضمير يشمل { رجالاً } و { كل ضامر } على معنى الجماعات والرفاق.
وقرأ عبد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة يأتون غلب العقلاء الذكور في البداءة برجال تفضيلاً للمشاة إلى الحج.
وعن ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني أن لا أكون حججت ماشياً ، والاستدلال بقوله { يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر } على سقوط فرض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه ، لكونه لم يذكر في هذه الآية ضعيف لأن مكة ليست على بحر ، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين مشي أو ركوب ، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها.
وقرأ ابن مسعود فج معيق.
قال ابن عباس وغيره من المنافع التجارة.
وقال الباقر : الأجر.
وقال مجاهد وعطاء كلاهما ، واختاره ابن العربي.
قال الزمخشري : ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات.
وعن أبي حنيفة أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج ، فلما حج فضَّل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص ، وكنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا ، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه وقد حسن الكلام تحسيناً بيِّناً أن جمع بين قوله ليذكروا اسم الله عليه.
وقوله { على ما رزقهم } ولو قيل لينحروا { في أيام معلومات } { بهيمة الأنعام } لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة انتهى.
واستدل من قال أن المقصود بذكر اسم الله هو على الذبح والنحر على أن الذبح لا يكون بالليل ولا يجوز فيه لقوله { في أيام } وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي.
وقيل : الذكر هنا حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام : « أنها أيام أكل وشرب » وذكر اسم الله والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة ، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة.
وقالت فرقة منهم مالك وأصحابه : المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، والمعدودات أيام التشريق الثلاثة ، فيوم النحر معلوم لا معدود واليومان بعده معلومان معدودان ، والرابع معدود لا معلوم ويوم النحر ويومان بعده هي أيام النحر عند عليّ وابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وأبي حنيفة والثوري ، وعند الحسن وعطاء والشافعي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وعند النخعي النحر يومان ، وعند ابن سيرين النحر يوم واحد ، وعن أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم.
وقال ابن عطية : ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا معلوم ، ويكون فائدة قوله { معلومات } ومعدودات التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال هي مخصوصات فلتغتنم انتهى.
والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر ، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وتقدم الخلاف في مدلول { بهيمة الأنعام } في أول المائدة ، والظاهر وجوب الأكل والإطعام.
وقيل : باستحبابهما.
وقيل : باستحباب الأكل ووجوب الإطعام.
و { البائس } الذي أصابه بؤس أي شدة.
والتفث : ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث ، وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضي التفث إلاّ بعد ذلك.
وقال ابن عمر : التفث ما عليهم من الحج وعنه المناسك كلها ، والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم.
وقيل : المراد الخروج عما وجب عليهم نذروا أو لم ينذروا.
وقرأ شعبة عن عاصم { وليوفوا } مشدّداً والجمهور مخففاً { وليطوفوا } هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج ، وبه تمام التحلل.
وقيل : هو طواف الصدر وهو طواف الوداع.
وقال الطبري : لا خلاف بين المتأولين أنه طواف الإفاضة.
قال ابن عطية : ويحتمل بحسب الترتيب أن يكون طواف الوداع انتهى.
و { العتيق } القديم قاله الحسن وابن زيد ، أو المعتق من الجبابرة قاله ابن الزبير وابن أبي نجيح وقتادة ، كم جبار سار إليه فأهلكه الله قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج ، فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه وقالوا له : رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه ، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه وأما الحجاج فلم يقصد التسليط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه أو المحرر لم يملك موضعه قط قاله مجاهد ، أو المعتق من الطوفان قاله مجاهد أيضاً وابن جبير ، أو الجيد من قولهم : عتاق الخيل وعتاق الطير أو الذي يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
قال ابن عطية : وهذا يردّه التصريف انتهى.
ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى ، وأما من حيث الإعراب فلأن { العتيق } فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ، ونسب الإعتاق إليه مجازاً إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق ، وينشأ عن كونه معتقاً أن يقال فيه : يعتق فيه رقاب المذنبين.
{ ذلك } خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم { ذلك } أو الواجب { ذلك } وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن { ذلك } قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا وقد كان كذا انتهى.
وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي { ذلك } الأمر الذي ذكرته.
وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا { ذلك } ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم :
هذا وليس كمن يعيا بخطبته . . .
وسط الندى إذا ما ناطق نطقا
وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة ، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال : هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته ، والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمه ، والظاهر عمومه في جميع التكاليف ، ويحتمل الخصوص بما يتعلق بالحج وقاله الكلبي قال : ما أمر به من المناسك ، وعن ابن عباس هي جميع المناهي في الحج : فسوق وجدال وجماع وصيد.
وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل.
وضمير { فهو } عائد على المصدر المفهوم من قوله { ومن يعظم } أي فالتعظيم { خير له عند ربه } أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها ، والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل.
{ وأحلت لكم بهيمة الأنعام } دفعاً لما كانت عليه من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة ، ويعني بقوله { إلا ما يتلى عليكم } ما نص في كتابه على تحريمه ، والمعنى { ما يتلى عليكم } آية تحريمه.
ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات ، وجمعا في قران واحد لأن الشرك من باب الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال { فاجتنبوا } عبادة { الأوثان } التي هي رأس الزور { واجتنبوا قول الزور } كله.
و { من } في { من الأوثان } لبيان الجنس ، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان ، ومن أنكر أن تكون { من } لبيان الجنس جعل { من } لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس ، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا.
قال ابن عطية : ومن قال إن { من } للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى.
وقد يمكن التبعيض فيها بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان ، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج ، فكأنه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة ، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع؟ فكأن للوثن جهات منها عبادتها ، وهو المأمور باجتنابه وعبادتها بعض جهاتها ، ولما كان قول الزور معادلاً للكفر لم يعطف على الرجس بل أفرد بأن كرر له العامل اعتناء باجتنابه.
وفي الحديث : « عدلت شهادة الزور بالشرك ».
ولما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور ضرب مثلاً للمشرك فقال { ومن يشرك بالله } الآية.
قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق ، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من { خر من السماء } فاختطفته { الطير } فتفرق مرعاً في حواصلها ، وعصفت به { الريح } حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة ، وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والإهواء التي تنازع أوكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي { تهوي } مما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة انتهى.
وقرأ نافع { فتخطفه } بفتح الخاء والطاء مشددة وباقي السبعة بسكون الخاء وتخفيف الطاء.
وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش بكسر التاء والخاء والطاء مشددة ، وعن الحسن كذلك إلاّ أنه فتح الطاء مشددة.
وقرأ الأعمش أيضاً تخطه بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة.
وقرأ أبو جعفر والحسن وأبو رجاء : الرياح.
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
إعراب { ذلك } كإعراب { ذلك } المتقدم ، وتقدم تفسير { شعائر الله } في أول المائدة ، وأما هنا فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هي البدن الهدايا ، وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها.
وقال زيد بن أسلم : الشعائر ست : الصفا ، والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن.
وتعظيمها إتمام ما يفعل فيها.
وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد : مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك ، وهذا نحو من قول زيد بن أسلم.
وقيل : شرائع دينه وتعظيمها التزامها والمنافع الأجر ، ويكون والضمير في { فيها } من قوله { لكم فيها منافع } عائداً على الشعائر التي هي الشرائع أي لكم في التمسك بها { منافع إلى أجل } منقطع التكليف { ثم محلها } بشكل على هذا التأويل.
فقيل : الإيمان والتوجه إليه بالصلاة ، وكذلك القصد في الحج والعمرة ، أي محل ما يختص منها بالإحرام { البيت العتيق } وقيل : معنى ذلك ثم أجرها على رب { البيت العتيق } قيل : ولو قيل على هذا التأويل أن { البيت العتيق } الجنة لم يبعدوا الضمير في إنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها أو على التعظمة ، وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام : " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره.
" وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال : «بل اهدها» وأهدى هو عليه السلام مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب " ، وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها ، ويعتقد أن طاعة الله في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد أن يقام به ويسارع فيه ، وذكر { القلوب } لأن المنافق يظهر التقوى وقلبه خال عنها ، فلا يكون مجداً في أداء الطاعات ، والمخلص التقوى بالله في قلبه فيبالغ في أدائها على سبيل الإخلاص.
وقال الزمخشري : فإن تعظيمها { من } أفعال ذوي { تقوى القلوب } فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى { من } ليرتبط به ، وإنما ذكرت { القلوب } لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى.
وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى { من } ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى { من } يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أدانه { من } وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه ، فيكون الضمير في منه عائداً على من فيرتبط الجزاء بالشرط.
وقرىء { القلوب } بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو { تقوى } والضمير في { فيها } عائد على البدن على قول الجمهور ، والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها { إلى أجل مسمى } وهو أن يسميها ويوجبها هدياً فليس له شيء من منافعها.
قاله ابن عباس في رواية مقسم ، ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقال عطاء : منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هدياً بأن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة { إلى أجل مسمى } أي إلى أن تنحر.
وقيل : إلى أن تشعر فلا تركب إلاّ عند الضرورة.
وروى أبو رزين عن ابن عباس : الأجل المسمى الخروج من مكة.
وعن ابن عباس { إلى أجل مسمى } أي إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها.
وقيل : الأجل يوم القيامة.
وقال الزمخشري : إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
و { ثم } للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال ، والمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وإنما يعبد الله بالمنافع الدينية قال تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها إلى البيت أي وجوب نحرها ، أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله { هدياً بالغ الكعبة } والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت لأن الحرم هو حريم البيت ، ومثل هذا في الاتساع قولك : بلغنا البلد وإنما شارفتموه واتصل مسيركم بحدوده.
وقيل : المراد بالشعائر المناسك كلها و { محلها إلى البيت العتيق } يأباه انتهى.
وقال القفال : الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه ، فإذا بلغ منى فهي محله وكل فجاج مكة.
وقال ابن عطية : وتكرر { ثم } لترتيب الجمل لأن المحل قبل الأجل ، ومعنى الكلام عند هاتين الفريقين يعني من قال مجاهد ومن وافقه ، ومن قال بقول عطاء { ثم محلها } إلى موضع النحر فذكر البيت لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره ، والأجل الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله { ثم محلها } مأخوذ من إحلال المحرم معناه ، ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق ، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه قاله مالك في الموطأ انتهى.
والمنسك مفعل من نسك واحتمل أن يكون موضعاً للنسك ، أي مكان نسك ، واحتمل أن يكون مصدراً واحتمل أن يراد به مكان العبادة مطلقاً أو العبادة ، واحتمل أن يراد نسك خاص أو نسكاً خاصاً وهو موضع ذبح أو ذبح ، وحمله الزمخشري على الذبح ، يقال : شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على وجه التقرب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على المناسك انتهى.
وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان ، وبالفتح قرأ الجمهور.
وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه.
قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب.
وقال الأزهري : منسك ومنسك لغتان.
وقال مجاهد : المنسك الذبح ، وإراقة الدماء يقال : نسك إذا ذبح ، والذبيحة نسيكة وجمعها نسك.
وقال الفرّاء : المنسك في كلام العرب المعتاد في خير وبر.
وقال ابن عرفة { منسكاً } أي مذهباً من طاعة الله ، يقال : نسك نسك قومه إذا سلك مذهبهم.
وقال الفراء { منسكاً } عيداً وقال قتادة : حجاً.
{ ليذكروا اسم الله } معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله ، وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك ، ثم خرج إلى الحاضرين فقال { فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أي انقادوا ، وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها لغيره ، وتقدم شرح الإخبات.
وقال عمرو بن أوس : المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
وقرأ الجمهور { والمقيمي الصلاة } بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها.
وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية { الصلاة } بالنصب وحذفت النون لأجلها.
وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون { الصلاة } بالنصب.
وقرأ الضحاك : والمقيم الصلاة ، وناسب تبشير من اتصف بالإخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع الغبرة المحجرة ، والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلاّ الله تعالى مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة ، ولذلك وصفهم بالإخبات والوجل إذا ذكر الله تعالى والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلاّ المؤمنون المصطفون والإنفاق مما رزقهم ومنها الهدايا التي يغالون فيها.
وقرأ الجمهور { البدن } بإسكان الدال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل ، ورويت عن أبي جعفر ونافع.
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً بضم الياء والدال وتشديد النون ، فاحتمل أن يكون اسماً مفرداً بُني على فعل كعتل ، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف ، والجمهور على نصب { والبدن } على الاشتغال أي وجعلنا { البدن } وقرىء بالرفع على الابتداء و { لكم } أي لأجلكم و { من شعائر } في موضع المفعول الثاني ، ومعنى { من شعائر الله } من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيماً لها { لكم فيها خير } قال ابن عباس : نفع في الدنيا ، وأجر في الآخرة.
وقال السدّي أجر.
وقال النخعي : من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب { عليها صواف } أي على نحرها.
قال مجاهد : معقولة.
وقال ابن عمر : قائمة قد صفت أيديها بالقيود.
وقال ابن عيسى : مصطفة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ، اللهم منك وإليك.
وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج : صوافي جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد.
قال الزمخشري : التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى.
والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف ، ولا سيما الجمع المتناهي ، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيراً حتى ادّعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه الله تعالى لا يشرك فيها بشيء ، كما كانت الجاهلية تشرك.
وقرأ الحسن أيضاً { صواف } مثل عوار وهو على قول من قال فكسرت عار لحمه يريد عارياً وقولهم : اعط القوس باريها.
وقرأ عبد الله وابن عمر وابن عباس والباقر وقتادة ومجاهد وعطاء والضحاك والكلبي والأعمش بخلاف عنه صوافن بالنون ، والصافنة من البدن ما اعتمدت على طرف رجل بعد تمكنها بثلاث قوائم وأكثر ما يستعمل في الخيل { فإذا وجبت جنوبها } عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها.
قال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي { القانع } السائل { والمعتر } المعترض من غير سؤال ، وعكست فرقة هذا.
وحكى الطبري عن ابن عباس { القانع } المستغني بما أعطيه { والمعتر } المعترض من غير سؤال.
وحكى عنه { القانع } المتعفف { والمعتر } السائل.
وعن مجاهد { القانع } الجار وإن كان غنياً.
وقال قتادة { القانع } من القناعة { والمعتر } المعترض للسؤال.
وقيل { المعتر } الصديق الزائر.
وقرأ أبو رجاء : القنع بغير ألف أي { القانع } فحذف الألف كالحذر والحاذر.
وقرأ الحسن والمعتري اسم فاعل من اعترى.
وقرأ عمرو وإسماعيل { والمعتر } بكسر الراء دون ياء ، هذا نقل ابن خالويه.
وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح أبو رجاء بخلاف عنه ، وابن عبيد والمعتري على مفتعل.
وعن ابن عباس برواية المقري { والمعتر } أراد المعتري لكنه حذف الياء تخفيفاً واستغناءً بالكسرة عنها ، وجاء كذلك عن أبي رجاء.
قال ابن مسعود : الهدي أثلاث.
وقال جعفر بن محمد أطعم القانع والمعتر ثلثاً ، والبائس الفقير ثلثاً ، وأهلي ثلثاً.
وقال ابن المسيب : ليس لصاحب الهدي منه إلاّ الربع وهذا كله على جهة الاستحباب لا الفرض قاله ابن عطية { كذلك } سخرها لكم أي مثل ذلك التسخير { سخرناها لكم } تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها فتطعنون في لباتها ، منّ عليهم تعالى بذلك ولولا تسخير الله لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة ، وكفى بما يتأبد من الإبل شاهداً وعبرة.
وقال ابن عطية : كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرنا لكم لن ينال الله لحومها ولا دماؤها.
قال مجاهد : أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوباً حول الكعبة ونضح الكعبة حواليها بالدم تقرّباً إلى الله ، فنزلت هذه الآية.
وعن ابن عباس قريب منه ، والمعنى لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر ، والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلاّ بمراعاة النية والإخلاص والاحتياط بشروط التقوى في حل ما قرب به وغير ذلك من المحافظات الشرعية وأوامر الورع ، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقريب ، وإن كثر ذلك منهم قاله الزمخشري وهو تكثير في اللفظ.
وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري وإسحاق الكوفي عن عاصم والزعفراني ويعقوب.
وقال ابن خالويه : تناله التقوى بالتاء يحيى بن يعمر والجحدري.
وقرأ زيد بن علي { لحومها ولا دماءها } بالنصب { ولكن يُناله } بضم الياء وكرر ذكر النعمة بالتسخير.
قال الزمخشري : لتشكروا الله على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تكبروا وتهللوا ، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعديّ تعديته انتهى.
{ وبشر المحسنين } ظاهر في العموم.
قال ابن عباس : وهم الموحدون وروي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
الهدم : معروف وهو نقض ما بُني.
قال الشاعر :
وكل بيت وإن طالت إقامته . . .
على دعائمه لا بدّ مهدوم
الصومعة : موضع العبادة وزنها فعولة ، وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى ، والأصمع من الرجال الحديد القول ، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعبّاد الصابئين ، قاله قتادة ثم استعمل في مئذنة المسلمين.
البيع : كنائس النصارى واحدها بيعة.
وقيل : كنائس اليهود.
البئر : من بأرت أي حفرت ، وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول ، وقد تذكر على معنى القليب.
تعطيل الشيء : إبطال منافعه.
{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوّان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد }.
روى أن المؤمنين لما كثروا بمكة أذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنة من الكفار ويحتال ويغدر ، فنزلت إلى قوله { كفور } وعد فيها بالمدافعة ونهى عن الخيانة ، وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم ، وعلل ذلك بأنه لا يحب أعداءهم الخائنين الله والرسول الكافرين نعمه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج ، وكان المشركون قد صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين ، أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وإذنه لهم في القتال وتمكينهم في الأرض يردهم إلى ديارهم وفتح مكة ، وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى وقال تعالى : { والعاقبة للمتقين } وقرأ الحسن وأبو جعفر ونافع { يدافع } ولولا دفاع الله.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير يدفع { ولولا دفع } وقرأ الكوفيون وابن عامر { يدافع } { ولولا دفع } وفاعل هنا بمعنى المجرد نحو جاوزت وجزت.
وقال الأخفش : دفع أكثر من دافع.
وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسب حساباً.
وقال ابن عطية : يحسن { يدافع } لأنه قد عنّ للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ، ودفعه مدافعة عنهم انتهى.
يعني فيكون فاعل لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى.
وقال الزمخشري : ومن قرأ { يدافع } فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ انتهى.
ولم يذكر تعالى ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم ولما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله لهم في القتال.
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو بضم همزة { أُذن } وفتح باقي السبعة.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص { يقاتلون } بفتح التاء والباقون بكسرها ، والمأذون فيه محذوف أي في القتال لدلالة { يقاتلون } عليه وعلل للإذن { بأنهم ظلموا } كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج ، فيقول لهم : « اصبروا فإني لم أومر بالقتال » حتى هاجر وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيف وسبعين آية.
وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم.
{ وإن الله على نصرهم لقدير } وعد بالنصر والإخبار بكونه يدفع عنهم { الذين أخرجوا } في موضع جر نعت للذين ، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم.
و { إلا أن يقولوا } استثناء منقطع فإن { يقولوا } في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه ، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت { الذين أخرجوا من ديارهم } { إلا أن يقولوا ربنا الله } لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار ، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول : ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه.
وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال { أن يقولوا } في محل الجر على الإبدال من { حق } أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير ، ومثله { هل تنقمون منا إلاّ أن آمنا } انتهى.
وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ، نحو : ما قام أحد إلاّ زيد ، ولا يضرب أحد إلاّ زيد ، وهل يضرب أحد إلاّ زيد ، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل : لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل ، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل ، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه ، ولو قلت قام إلاّ زيد ، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز.
ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ الله لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون { إلاّ أن يقولوا } في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى { حق } وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير { إلاّ أن يقولوا } وهذا لا يصح ، ولو قدرت { إلاّ } بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح ، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم { ربنا الله } فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير ، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول : ما مررت بغير زيد ، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد ، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى ، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ، ويجوز أن تقول : مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل.
{ ولولا دفع الله الناس } الآية فيها تحريض على القتال المأذون فيه قبل ، وأنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ، وكأنه لما قال { أذن للذين يقاتلون } قيل : فليقاتل المؤمنون ، فلولا القتال لتغلب على الحق في كل أمة وانظر إلى مجيء قوله { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } لفسدت الأرض إثر قتال طالوت لجالوت ، وقتل داود جالوت.
وأخبر تعالى أنه لولا ذلك الدفع فسدت الأرض فكذلك هنا.
وقال عليّ بن أبي طالب : ولولا دفع الله بأصحاب محمد الكفار عن التابعين فمن بعدهم ، وأخذ الزمخشري قول عليّ وحسنه وذيل عليه فقال : دفع الله بعض الناس ببعض إظهاره وتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة ، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ، ولا لليهود صلوات ، ولا للمسلمين مساجد ، ولغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا متعبدات الفريقين انتهى.
وقال مجاهد : { ولولا دفع الله } ظلم قوم بشهادات العدول ونحو هذا.
وقال قوم { دفع } ظلم الظلمة بعدل الولاة.
وقالت فرقة { دفع } العذاب بدعاء الأخيار.
وقال قطرب : بالقصاص عن النفوس.
وقيل : بالنبيين عن المؤمنين.
وقال الحسن : لولا أمان الإسلام لخربت متعبدات أهل الذمة ، ومعنى الدفع بالقتال أليق بالآية وأمكن في دفع الفساد.
وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني { فهدمت } مخففاً وباقي السبعة وجماعة مشددة لما كانت المواضع كثيرة ناسب مجيء التضعيف لكثرة المواضع فتكرر الهدم لتكثيرها.
وقرأ الجمهور { وصلوات } جمع صلاة.
وقرأ جعفر بن محمد { وصُلوات } بضم الصاد واللام.
وحكى عنه ابن خالويه { صلوات } بسكون اللام وكسر الصاد ، وحكيت عن الجحدري والجحدري { صلوات } بضم الصاد وفتح اللام ، وحكيت عن الكلبي وأبي العالية بفتح الصاد وسكون اللام { صلوات } والحجاج بن يوسف والجحدري أيضاً وصلوات وهي مساجد النصارى بضمتين من غير ألف ومجاهد كذلك إلا أنه بفتح التاء وألف بعدها والضحاك والكلبي وصلوث بضمتين من غير ألف وبثاء منقوطة بثلاث ، وجاء كذلك عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد كذلك إلاّ أنه بعد الثاء ألف.
وقرأ عكرمة : وصلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف ، والجحدري أيضاً { صَلوات } بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة النقط.
وحكى ابن مجاهد أنه قرىء كذلك إلا أنه بكسر الصاد.
وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري صلوب بالباء بواحدة على وزن كعوب جمع صليب كظريف وظروف ، وأسينة وأسون وهو جمع شاذ أعني جمع فعيل على فعول فهذه ثلاثة عشرة قراءة والتي بالثاء المثلثة النقط.
قيل : هي مساجد اليهود هي بالسريانية مما دخل في كلام العرب.
وقيل : عبرانية وينبغي أن تكون قراءة الجمهور يراد بها الصلوات المعهودة في الملل ، وأما غيرها مما تلاعبت فيه العرب بتحريف وتغيير فينظر ما مدلوله في اللسان الذي نقل منه فيفسر به.
وروى هارون عن أبي عمرو { صلوات } كقراءة الجماعة إلاّ أنه لا ينون التاء كأنه جعله اسم موضع كالمواضع التي قبله ، وكأنه علم فمنعه الصرف للعلمية والعجمة وكملت القراءات بهذه أربع عشرة قراءة والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب معتقدات الأمم فالصوامع للرهبان.
وقيل : للصابئين ، والبيع للنصارى ، والصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين وقاله خصيف.
قال ابن عطية : والأظهر أنه قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات ، وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلاّ البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لهم كتاب على قديم الدهر ، ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك لأنّ هؤلاء ليس لهم ما يَوجب حمايته ولا يوجد ذكر الله إلاّ عند أهل الشرائع انتهى.
والظاهر عود الضمير في قوله { يذكر فيها } على المواضع كلها جميعها وقاله الكلبي ومقاتل ، فيكون { يذكر } صفة للمساجد وإذا حملنا الصلوات على الأفعال التي يصليها أهل الشرائع كان ذلك إما على حذف مضاف أي ومواضع صلوات وإما على تضمين { لهدمت } معنى عطلت فصار التعطيل قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال ، وتأخير المساجد إما لأجل قدم تلك وحدوث هذه ، وإما لانتقال من شريف إلى أشرف.
وأقسم تعالى على أنه تنصر من ينصر أي ينصر دينه وأولياءه ، ونصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم جلاداً وجدالاً وفي ذلك حض على القتال.
ثم أخبر تعالى أنه قوي على نصرهم { عزيز } لا يغالب.
والظاهر أنه يجوز في إعراب { الذين إن مكناهم في الأرض } ما جاز في إعراب { الذين أخرجوا } وقال الزجاج : هو منصوب بدل ممن ينصره ، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر على الخلق ، والظاهر أنه من وصف المأذون لهم في القتال وهم المهاجرون ، وفيه إخبار بالغيب عما يكون عليه سيرتهم إن مكن لهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا ، وكيف يقومون بأمر الدين.
وعن عثمان رضي الله عنه : هذا والله ثناء قبل بلاء ، يريد أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا ، وقالوا : فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله تعالى لم يجعل التمكن ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة لغيرهم من المهاجرين لا حظ في ذلك للأنصار والطلقاء.
وفي الآية أخذ العهد على من مكنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية.
وقيل : نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن وأبي العالية : هم أمّته عليه السلام.
وعن عكرمة : هم أهل الصلوات الخمس ، وهو قريب مما قبله.
وقال ابن أبي نجيح : هم الولاة.
وقال الضحاك : هو شرط شرطه الله من آناه الملك.
وقال ابن عباس : المهاجرون والأنصار والتابعون { ولله عاقبة الأمور } توعد للمخالف ما ترتب على التمكين { وإن يكذبوك } الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم ، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة ، وبنى الفعل للمفعول في { وكذب موسى } أن قومه لم يكذبوه وإنما كذبه القبط { فأمليت للكافرين } أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم ، وفي قوله { فأمليت للكافرين } ترتيب الإملاء على وصف الكفر ، فكذلك قريش أملى تعالى لهم ثم أخذهم في غزوة بدر وفي فتح مكة وغيرهما ، والأخذ كناية عن العقاب والإهلاك ، النكير مصدر كالندير المراد به المصدر ، والمعنى فكيف كان إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالهلاك ومعمورهم بالخراب؟ وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش { فكأين } للتكثير ، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال.
وقرأ أبو عمرو وجماعة أهلكتها بتاء المتكلم ، والجمهور بنون العظمة { وهي ظالمة } جملة حالية { فهي خاوية على عروشها } تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله { أو كالذي مر على قرية } وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل الجملتين من الإعراب؟ أعني { وهي ظالمة فهي خاوية } قلت : الأولى في محل نصب على الحال ، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على { أهلكناها } وهذا الفعل ليس له محل انتهى.
وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن { فكأين } الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله { أهلكناها } فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر ، فيكون قوله { فهي خاوية } في موضع رفع ، لكن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب { فكأين } منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال ، فتكون الجملة من قوله { أهلكناها } مفسرة لذلك الفعل ، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له.
وقرأ الجحدري والحسن وجماعة { معطلة } مخففاً يقال : عطلت البئر وأعطلتها فعطلت ، هي بفتح الطاء ، وعطلت المرأة من الحليّ بكسر الطاء.
قال الزمخشري : ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلاّ أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها ، والمشيد المجصص أو المرفوع البنيان والمعنى كم قرية أهلكنا ، وكم بئر عطلنا عن سقاتها و { قصر مشيد } أخليناه عن ساكنيه ، فترك ذلك لدلالة { معطلة } عليه انتهى.
{ وبئر } { وقصر } معطوفان على { من قرية } و { من قرية } تمييز لكأين ، { وكأين } تقتضي التكثير ، فدل ذلك على أنه لا يراد بقربه وبئر وقصر معين ، وإن كان الإهلاك إنما يقع في معين لكن من حيث الوقوع لا من حيث دلالة اللفظ ، وينبغي أن يكون { بئر } { وقصر } من حيث عطفا على { من قرية } أن يكون التقدير أهلكتهما كما كان أهلكتها مخبراً به عن { كأين } الذي هو القرية من حيث المعنى.
والمراد أهل القرية والبئر والقصر ، وجعل { وبئر معطلة وقصر مشيد } معطوفين على { عروشها } جهل بالفصاحة ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في قوله في { بروج مشيدة } لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه ، وهذا مفرد وأيضاً { مشيد } فاصلة آية.
وقد عين بعض المفسرين هذه البئر.
فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس.
وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن إرم بن عاد.
وعن الضحاك وغيره : أن البئر بحضرموت من أرض الشحر ، والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى ، والبئر في سفحه لا يقر الريح شيئاً يسقط فيها.
روي أن صالحاً عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب.
وهي بحضرموت ، وسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس ، وأقاموا بها زمناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، وأرسل إليهم حنظلة بن صفوان ، وقيل : اسمه شريح بن صفوان نبياً فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وعطل بئرهم وخرب قصرهم.
وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري أنه قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها عكا فكيف يكون بحضرموت.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
ولما ذكر تعالى من كذب الرسل من الأمم الخالية وكان عند العرب أشياء من أحوالهم ينقلونها وهم عارفون ببلادهم وكثيراً ما يمرون على كثير منها قال { أفلم يسيروا } فاحتمل أن يكون حثاً على السفر ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا ، أو يكونوا قد سافروا وشاهدوا فلم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا.
وقرأ مبشر بن عبيد : فيكون بالياء والجمهور بالتاء { فتكون } منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية ، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي.
وقيل : على جواب النفي ، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم ، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على { يسيروا } ، وموردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم ، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله ، ولا ينكر أن للدفاع بالقلب اتصالاً يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق { يعقلون بها } محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و { يعقلون } ما يجب من التوحيد ، وكذلك مفعول { يسمعون } أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي.
والضمير في { فإنها } ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في { لا تعمى } ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله فإنه لا تعمى.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره { الأبصار } وفي { تعمى } راجع إليه انتهى.
وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور ، وليس هذا واحداً منها وهو في باب رب وفي باب نعم.
وبئس ، وفي باب الأعمال ، وفي باب البدل ، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه.
وهذه الخمسة يفسر الضمير فيها المفرد وفي ضمير الشأن ويفسر بالجملة على خلاف فيه أيضاً وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الستة فوجب اطّراحه والمعنى أن أبصارهم سالمة لا عمى بها ، وإنما العمى بقلوبهم ، ومعلوم أن الأبصار قد تعمى لكن المنفي فيها ليس العمى الحقيقي وإنما هو ثمرة البصر وهو التأدية إلى الفكرة فيما يشاهد البصر لكن ذلك متوقف على العقل الذي محله القلب ، ووصفت { القلوب } بالتي { في الصدور }.
قال ابن عطبة مبالغة كقوله { يقولون بأفواههم } وكما تقول نظرت إليه بعيني.
وقال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكان البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها ، واستعماله في القلب استعارة ومثل ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار ، كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقولك : الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً انتهى.
وقوله ولكن تعمّدت به إياه بعينه تعمداً فصل الضمير وليس من مواضع فصله ، والصواب ولكن تعمدته به كما تقول السيف ضربتك به ولا تقول : ضربت به إياك ، وفصله في مكان اتصاله عجمة ، وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر ، والتدبير كقوله تعالى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.
والضمير في { ويستعجلونك } لقريش ، وكان صلى الله عليه وسلم يحذرهم نقمات الله ويوعدهم بذلك دنيا وآخرة وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه ، فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما توعدتنا به لا يقع وإنه لا بعث وفي قوله { ولن يخلف الله وعده } أي إن ذلك واقع لا محالة ، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه.
وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله عليه الصلاة والسلام هو المخبر به عن الله تعالى.
وقال الزمخشري : أنكر استعجالهم بالمتوعد به من العذاب العاجل والآجل ، كأنه قال : ولم يستعجلون به كأنهم يجوّزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف والله عز وعلا لا يخلف الميعاد ، وما وعده ليصيبهم ولو بعد حين وهو سبحانه حليم لا يعجل انتهى.
وفي قوله وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف دسيسة الاعتزال.
وقيل : { ولن يخلف الله وعده } في النظرة والإمهال واختلفوا في هذا التشبه.
فقيل : في العدد أي اليوم عند الله ألف سنة من عددكم.
وفي الحديث الصحيح : « يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وذلك خمسمائة عام » فالمعنى وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله.
وقيل : التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه ، والشدة أي { وإن يوماً } من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله { كألف سنة } من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة ، وكان ذلك اليوم الواحد كألف سنة من سني العذاب والمعنى أنهم لو عرفوا حال الآخرة ما استعجلوه وهذا القول قريب من قول أبي مسلم.
وقيل : التشبيه بالنسبة إلى علمه تعالى وقدرته وإنفاذ ما يريد { كألف سنة } واقتصر على ألف سنة وإن كان اليوم عنده كما لا نهاية له من العدد لكون الألف منتهى العدد دون تكرار ، وهذا القول لا يناسب مورد الآية إلاّ إن أريد أنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة.
وقال ابن عباس : أراد باليوم من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
وقال ابن عيسى يجمع لهم عذاب ألف سنة في يوم واحد ، ولأهل الجنة سرور ألف سنة في يوم واحد.
وقال الفراء : تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة ، وأريد العذاب في الدنيا أي { لن يخلف الله وعده } في إنزال العذاب بكم في الدنيا ، { وإن يوماً } من أيام عذابكم في الآخرة { كألف سنة } من سني الدنيا فكيف تستعجلون العذاب.
وقال الزجاج : تفضل تعالى عليهم بالإمهال والمعنى أن اليوم عند الله والألف سواء في قدرته بين ما استعجلوا به وبين تأخره.
وقرأ الأخوان وابن كثير يعدون بياء الغيبة ، وباقي السبعة بتاء الخطاب وعطفت { فكأين } الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو.
وقال الزمخشري : الأولى وقعت بدلاً عن قوله { فكيف كان نكير } وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله { لن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة } وتكرر التكثير بكائن في القرى لإفادة معنى غير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكها دون إملاء وتأخير ، بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيهاً على أن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.
ثم أمر نبيه أن يقول لأهل مكة { يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير } من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها ، وذكر النذارة دون البشارة وإن كان التقسيم بعد ذلك يقتضيهما لأن الحديث مسوق للمشركين ، و { يا أيها الناس } نداء لهم وهم المقول فيهم { أفلم يسيروا } والمخبر عنهم باستعجال العذاب وإنما ذكر المؤمنون هنا وما أعد الله لهم من الثواب ليغاظ المشركون بذلك وليحرضهم على نيل هذه الرتبة الجليلة التي فيها فوزهم ، وحصر النذارة لأن المعنى ليس لي تعجيل عذابكم ولا تأخيره عنكم وإنما أنا منذركم به.
وقال الكرماني : التقدير بشير و { نذير } فحذف والتقسيم داخل في المقول ، والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك ، ويقال : سعى فلان في أمر فلان فيكون بإصلاح وبإفساد وقد يستعمل في الشر ، يقال : فيه سعى بفلان سعاية أي تحيل ، وكاد في إيصال الشر إليه وسعيهم بالفساد في آيات الله حيث طعنوا فيها فسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ، وثبطوا الناس عن الإيمان بها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني معجزّين بالتشديد هنا وفي حرفي سبأ زاد الجحدري في جميع القرآن أي مثبطين.
وقرأ باقي السبعة بألف.
وقرأ ابن الزبير معجّزين بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزني إذا سبقك ففاتك.
قال صاحب اللوامح : لكنه هنا بمعنى معاجزين أي ظانين أنهم يعجزوننا ، وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون.
وقيل : في { معاجزين } معاندين ، وأما معجّزين بالتشديد فإنه بمعنى مثبطين الناس عن الإسلام ، ويقال : مثبطين.
وقال الزمخشري : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه ، فالمعنى سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم انتهى.
وقال أبو علي الفارسي : معجزين معناه ناسبين أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى العجز كما تقول : فسقت فلاناً إذا نسبته إلى الفسق.
وتقدم شرح أخرى هاتين الجملتين الواردتين تقسيماً.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
العقم : الامتناع من الولادة ، يقال : امرأة عقيم ورجل عقيم لا يولد له ، والجمع عقم وأصله من القطع ، ومنه الملك عقيم أي يقطع فيه الأرحام بالقتل ، والعقيم الذي قطعت ولادتها.
وقال أبو عبيد العقم السد ، يقال : امرأة معقومة الرحم أي مسدودة الرحم.
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وأن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفوّ غفور ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأنما يدعونه من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير }.
لما ذكر تعالى أنه يدفع عن الذين آمنوا وأنه تعالى أذن للمؤمنين في القتال وأنهم كانوا أخرجوا من ديارهم وذكر مسلاة رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب من تقدم من الأمم لأنبيائهم وما آل إليه أمرهم من الإهلاك إثر التكذيب وبعد الإمهال ، وأمره أن ينادي الناس ويخبرهم أنه نذير لهم بعد أن استعجلوا بالعذاب ، وأنه ليس له تقديم العذاب ولا تأخيره ، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم متمنين لذلك مثابرين عليه ، وأنه ما منهم أحد إلاّ وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم ، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الناس على هدى قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام ، ولذلك جاء قبل هذه الآية { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ، ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال { لأغوينهم } وقيل : إن { الشيطان } هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس.
والضمير في { أمنيته } عائد على { الشيطان } أي في أمنية نفسه ، أي بسبب أمنية نفسه.
ومفعول { ألقى } محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ، ومخالفة ذلك الرسول أو النبيّ لأن الشيطان ليس يلقي الخير.
ومعنى { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي يزيل تلك الشبه شيئاً فشيئاً حتى يسلم الناس ، كما قال { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً } و { يحكم الله آياته } أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها { ليجعل ما يلقي الشيطان } من تلك الشبه وزخارف القول { فتنة } لمريض القلب ولقاسيه { وليعلم } من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبيّ من هداية قومه وإيمانهم هو الحق.
وهذه الآية ليس فيها إسناد شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا.
وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلها ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوباً إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالاً وجواباً وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتاباً.
وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثة شيء مما ذكروه فوجب اطّراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه.
والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقال الله تعالى آمراً لنبيه { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلاّ ما يوحى إليّ } وقال تعالى { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل } الآية وقال تعالى : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم } الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية.
وقال تعالى { كذلك لنثبت به فؤادك } وقال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة.
ولنرجع إلى تفسير بعض ألفاظ الآية إذ قد قررنا ما لاح لنا فيها من المعنى فقوله { من قبلك } { من } فيه لابتداء الغاية و { من } في { من رسول } زائدة تفيد استغراق الجنس.
وعطف { ولا نبي } على { من رسول } دليل على المغايرة.
وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا ، وجاء بعد { إلا } جملة ظاهرها الشرط وهو { إذا تمنى ألقى الشيطان } وقاله الحوفي ، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط ، فتقول : ما زيد إلاّ بفعل كذا ، وما رأيت زيداً إلاّ يفعل كذا ، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله { وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا }
أو يكون الماضي مصحوباً بقد نحو : ما زيد إلاّ قد قام ، وما جاء بعد { إلاّ } في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها ، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين { إلاّ } والفعل الذي هو { ألقى } وهو فصل جائز فتكون إلاّ قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل { إلاّ } وهو { ما أرسلنا } وعاد الضمير في { تمنى } مفرداً وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير مطابقاً للمتعاطفين ، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا { وما أرسلنا من قبلك من رسول } { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } { ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و { تمنى } تفعل من المنية.
قال أبو مسلم : التمني نهاية التقدير ، ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله ، ومنى الله لك أي قدر.
وقال رواه اللغة : الأمنية القراءة ، واحتجوا ببيت حسان وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكر فإن التالي مقدر للحروف فذكرها شيئاً فشيئاً انتهى.
وبيت حسان :
تمنى كتاب الله أول ليلة . . .
وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر :
تمنى كتاب الله أول ليلة . . .
تمنى داوود الزبور على الرسل
وحمل بعض المفسرين قوله { إذا تمنى } على تلا و { في أمنيته } على تلاوته.
والجملة بعد { إلاّ } في موضع الحال أي { وما أرسلنا } إلاّ ، وحاله هذه.
وقيل : الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو : ما مررتُ بأحد إلاّ زيد خير منه ، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال ، واللام في { ليجعل } متعلقة بيحكم قاله الحوفي.
وقال ابن عطية : بينسخ.
وقال غيرهما : بألقى ، والظاهر أنها للتعليل.
وقيل : هي لام العاقبة و { ما } في { ما يلقي } الظاهر أنها بمعنى الذي ، وجوَّز أن تكون مصدرية.
والفتنة : الابتلاء والاختبار.
والذين في قلوبهم مرض عامة الكفار.
وقال الزمخشري : المنافقون والشاكون { والقاسية قلوبهم } خواص من الكفار عتاة كأبي جهل والنضر وعتبة.
وقال الزمخشري : المشركون المكذبون { وإن الظالمين } يريد وإن هؤلاء المنافقين والمشركين ، وأصله وإنهم فوضع الظاهر موضع المضمر ، قضاء عليهم بالظلم.
والشقاق المشاقة أي في شق غير شق الصلاح ، ووصفه بالبعيد مبالغة في انتهائه وأنهم غير مرجو رجعتهم منه.
والضمير في : { أنه } قال ابن عطية : عائد على القرآن { والذين أوتوا العلم } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم من قولنا في الآية ما يعود الضمير إليه { فتخبت } أي تتواضع وتتطامن بخلاف من في قلبه مرض وقسا قلبه.
وقرأ الجمهور { لهاد الذين آمنوا } الإضافة ، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين { الهاد }.
المرية : الشك.
والضمير في { منه } قيل : عائد على القرآن.
وقيل : على الرسول.
وقيل : ما ألقى الشيطان ، ولما ذكر حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين ، والظاهر أن { الساعة } يوم القيامة.
قيل : واليوم العقيم يوم بدر.
وقيل : ساعة موتهم أو قتلهم في الدنيا كيوم بدر ، واليوم العقيم يوم القيامة.
وقال الزمخشري : اليوم العقيم يوم بدر ، وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقم على سبيل المجاز.
وقيل : هو الذي لا خير فيه يقال : ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً.
وقيل : لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
وعن الضحاك : إنه يوم القيامة وإن المراد بالساعة مقدماته ويجوز أن يراد بالساعة و { يوم عقيم } يوم القيامة كأنه قيل { حتى تأتيهم الساعة } أو يأتيهم عذابها فوضع { يوم عقيم } موضع الضمير انتهى.
وقال ابن عطية : وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال عقيماً لأنه لا ليلة بعده ولا يوم ، والأيام كلها نتائج يجيء واحد أثر واحد ، وكان آخر يوم قد عقم وهذه استعارة ، وجملة هذه الآية توعد انتهى.
و { حتى } غاية لاستمرار مريتهم ، فالمعنى { حتى تأتيهم الساعة } { أو عذاب يوم عقيم } فتزول مريتهم ويشاهدون الأمر عياناً.
والتنوين في { يومئذ } تنوين العوض ، والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد الغاية أي { الملك } يوم تزول مريتهم وقدره الزمخشري أولاً يوم يؤمنون وهو لازم لزوال المرية ، فإنه إذا زالت المرية آمنوا ، وقدر ثانياً كما قدرنا وهو الأولى.
والظاهر أن هذا اليوم هو يوم القيامة من حيث أنه لا ملك فيه لأحد من ملوك الدنيا كما قال تعالى { لمن الملك اليوم } ويساعد هذا التقسيم بعده ، ومن قال إنه يوم بدر ونحوه فمن حيث ينفذ قضاء الله وحده ويبطل ما سواه ويمضي حكمه فيمن أراد تعذيبه ، ويكون التقسيم إخباراً متركباً على حالهم في ذلك اليوم العقيم من الإيمان والكفر وألفاظ التقسيم ومعانيها واضحة لا تحتاج إلى شرح.
وقابل النعيم بالعذاب ووصفه بالمهين مبالغة فيه.
{ والذين هاجروا } الآية هذا ابتداء معنى آخر ، وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه ، فنزلت مسوِّية بينهم في أن الله يرزقهم { رزقاً حسناً } وظاهر { والذين هاجروا } العموم.
وقال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم.
وروي أن طوائف من الصحابة قالوا : يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
وقال الزمخشري : لما جمعتهم المهاجرة في سبيل الله سوّى بينهم في الموعد أن يعطى من مات منهم مثل ما يعطى من قتل فضلاً منه وإحساناً والله عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم ، حليم عن تفريط المفرط منهم بفضله وكرمه انتهى.
وفي قوله : ومراتب استحقاقهم دسيسة الاعتزال ، والتسوية في الوعد بالرزق لا تدل على تفضيل في قدر المعطى ، ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل.
وقيل : المقتول والميت في سبيل الله شهيدان.
والرزق الحسن يحتمل أن يراد به رزق الشهداء في البرزخ ، ويحتمل أنه بعد يوم القيامة في الجنة وهو النعيم فيها.
وقال الكلبي : هو الغنيمة.
وقال الأصلم : هو العلم والفهم كقول شعيب { ورزقني منه رزقاً حسناً } وضعف هذان القولان لأنه تعالى جعل الرزق الحسن جزاء على قتلهم في سبيل الله أو موتهم بعد هجرتهم ، وبعد ذلك لا يكون الرزق في الدنيا.
والظاهر أن { خير الرازقين } أفعل تفضيل ، والتفاوت أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره تعالى ، وبأنه الأصل في الرزق وغيره إنما يرزق بماله من الرزق من جهة الله.
ولما ذكر الرزق ذكر المسكن فقال { ليدخلنهم مدخلاً يرضونه } وهو الجنة يرضونه يختارونه إذ فيه رضاهم كما قال { لا يبغون عنها حولاً } وتقدم الخلاف في القراءة بضم الميم أو فتحها في النساء ، والأولى أن يكون يراد بالمدخل مكان الدخول أو مكان الإدخال ، ويحتمل أن يكون مصدراً.
{ ذلك ومن عاقب } الآية قيل : نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم فأبى المؤمنون من قتالهم وأبى المشركون إلاّ القتال ، فلما اقتتلوا جدّ المؤمنون ونصرهم الله.
ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو مات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.
وقال ابن جريج : الآية في المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجوه والتقدير الأمر ذلك.
قال الزمخشري : تسمية الابتداء بالجزاء لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه كما يجملون النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة فإن قلت : كيف طابق ذكر العفو الغفور هذا الموضع؟ قلت : المعاقب مبعوث من جهة الله عز وجل على الإخلال بالعقاب ، والعفو عن الجاني على طريق التنزيه لا التحريم ومندوب إليه ومستوجب عند الله المدح إن آثر ما ندب إليه وسلك سبيل التنزيه ، فحين لم يؤثر ذلك وانتصر وعاقب ولم ينظر في قول { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } { وأن تعفوا أقرب للتقوى } { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } فإن { الله لعفوّ غفور } أي لا يلومه على ترك ما بعثه عليه وهو ضامن لنصره في كرته الثانية من إخلاله بالعفو وانتقامه من الباغي عليه ، ويجوز أن يضمن له النصر على الباغي فيعرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو ، ويلوح به ذكر هاتين الصفتين أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلاّ القادر على حده ذلك ، أي ذلك النصر بسبب أنه قادر.
ومن آيات قدرته البالغة أنه { يولج الليل في النهار } و { النهارَ في الليل } أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار.
وأنه { سميع } لما يقولون { بصير } بما يفعلون وتقدم في أوائل آل عمران شرح هذا الإيلاج.
{ ذلك } أي ذلك الوصف بخلق الليل والنهار والإحاطة بما يجري فيهما وإدراك كل قول وفعل بسبب { أن الله } { الحق } الثابت الإلهية وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة ، وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً.
وقرأ الجمهور { وأن ما } بفتح الهمزة.
وقرأ الحسن بكسرها.
وقرأ الاخوان وأبو عمرو وحفص { يدعون } بياء الغيبة هنا في لقمان.
وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وكلاهما الفعل فيه مبني للفاعل.
وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري يدعو بالياء مبنياً للمفعول والواو عائدة على ما على معناها و { ما } الظاهر أنها أصنامهم.
وقيل : الشياطين والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وهما أمران مشاهدان مجيء الظلمة والنور ، ذكر أيضاً ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو نزول المطر وإنبات الأرض وإنزال المطر واخضرار الأرض مرئيان ، ونسبة الإنزال إلى الله تعالى مدرك بالعقل.
وقال أبو عبد الله الرازي : الماء وإن كان مرئياً إلاّ أن كون الله منزله من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ، لأن المقصود من تلك الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان.
كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدو شاكراً له.
ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.
فإن قلت : فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟ قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنتم مثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.
وقال ابن عطية : وقوله { فتصبح الأرض } بمنزلة قوله فتضحى أو تصير عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ووقع قوله { فتصبح } من حيث الآية خبراً ، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله { ألم تر } فاسد المعنى انتهى.
ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافياً للاخضرار ، ولا كون المعنى فاسداً.
وقال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } فقال : هذا واجب وهو تنبيه.
كأنك قلت : أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
قال ابن خروف ، وقوله فقال هذا واجب ، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان ، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه ، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى.
ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه.
وقال بعض شراح الكتاب { فتصبح } لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى { أن الله أنزل } فالأرض هذا حالها.
وقال الفراء { ألم تر } خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى.
ويقول إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله
{ ألست بربكم قالوا بلى } وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب ، فإذا قلت : ما تأتينا فتحدثنا بالنصب ، فالمعنى ما تأتينا محدثاً إنما يأتي ولا يحدث ، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث ، فالحديث منتفٍ في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة ، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود.
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله :
ألم تسأل فتخبرك الرسوم . . .
يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم ، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك ، إنما هو مترتب على الإنزال ، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرض عليها ، والحالة التي لابست الأرض ، والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر بن معونة العكلي ، يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف :
يسمو بناظرتين تحسب فيهما . . .
لما أجالهما شعاع سراج
لما نزلت بحصن أزبر مهصر . . .
للقرن أرواح العدا محاج
فأكر أحمل وهو يقعي باسته . . .
فإذا يعود فراجع أدراجي
وعلمت أني إن أبيت نزاله . . .
أني من الحجاج لست بناجي
فقوله : فأكر تصوير للحالة التي لابسها.
والظاهر تعقب اخضرار الأرض إنزال المطر وذلك موجود بمكة وتهامة فقط قاله عكرمة وأخذ تصبح على حقيقتها أي : تصبح ، من ليلة المطر.
وذهب إلى أن الاخضرار في غير مكة وتهامة يتأخر.
وقال ابن عطية : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي قد نسفتها الرياح قد اخضرّت بنبات ضعف انتهى.
وإذا جعلنا { فتصبح } بمعنى فتصير لا يلزم أن يكون ذلك الاخضرار في وقت الصباح ، وإذا كان الاخضرار متأخراً عن إنزال المطر فثم جمل محذوفة التقدير ، فتهتز وتربو فتصبح يبين ذلك قوله تعالى { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت } وقرىء { مخضرة } على وزن مفعلة ومسبعة أي ذات خضر ، وخص تصبح دون سائر أوقات النهار لأن رؤية الأشياء المحبوبة أول النهار أبهج وأسر للرائي.
{ إن الله لطيف } أي باستخراج النبات من الأرض بالماء الذي أنزله { خبير } بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره.
وقيل { خبير } بلطيف التدبير { خبير } بالصنع الكثير.
وقيل : { خبير } بمقادير مصالح عباده فيفعل على قدر ذلك من غير زيادة ولا نقصان.
وقال ابن عباس { لطيف } بأرزاق عباده { خبير } بما في قلوبهم من القنوط.
وقال الكلبي { لطيف } بأفعاله { خبير } بأعمال خلقه.
وقال الزمخشري { لطيف } وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء { خبير } بمصالح الخلق ومنافعهم.
وقال ابن عطية : واللطيف المحكم للأمور برفق.
{ ما في الأرض } يشمل الحيوان والمعادن والمرافق.
وقرأ الجمهور { والفلك } بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن ، وانتصب عطفاً على { ما } ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيهاً على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها ، وهذا هو الظاهر.
وجوز أن يكون معطوفاً على الجلالة بتقدير وأن { الفلك } وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و { تجري } حال على الإعراب الظاهر.
وفي موضع الجر على الإعراب الثاني.
وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر ، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون { تجري } حالاً.
والظاهر أن { أن تقع } في موضع نصب بدل اشتمال ، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض.
وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة { أن تقع } والكوفيون لأن لا تقع.
وقوله { إلا بإذنه } أي يوم القيامة كأن طي السماء بعض هذه الهيئة لوقوعها ، ويجوز أن يكون ذلك وعيداً لهم في أنه إن أذن في سقوطها كسفاً عليكم سقطت كما في قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً و { إلا بإذنه } متعلق بأن تقع أي { إلاّ بإذنه } فتقع.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله { إلاّ بإذنه } على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، فكأنه أراد إلاّ بإذنه فيه يمسكها انتهى.
ولو كان على ما قاله ابن عطية لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء أي يكون التقدير ويمسك السماء بإذنه.
{ وهو الذي أحياكم } أي بعد أن كنتم جماداً تراباً ونطفة وعلقة ومضغة وهي الموتة الأولى المذكورة في قوله تعالى { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } و { الإنسان }.
قال ابن عباس : هو الكافر.
وقال أيضاً : هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأُبيّ بن خلف.
وهذا على طريق التمثيل.
{ لكفور } لجحود لنعم الله ، يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها.
و { لكل أمة جعلنا منسكاً } روي أنها نزلت بسبب جدال الكفار بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين : تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم ، ولا تأكلون ما قتل الله فنزلت بسبب هذه المنازعة.
وقال ابن عطية { هم ناسكوه } يعطى أن المنسك المصدر ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه انتهى.
ولا يتعين ما قال إذ قد يتسع في معمول اسم الفاعل كما يتسع في معمول الفعل فهو موضع اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به على السعة ، ومن الاتساع في ظرف المكان قوله :
ومشرب أشربه رسيل . . .
لا آجن الماء ولا وبيل
مشرب مكان الشرب عاد عليه الضمير ، وكان أصله أشرب فيه فاتسع فيه فتعدى الفعل إلى ضميره ومن الاتساع سير بزيد فرسخان.
وقرىء { فلا ينازعنك } بالنون الخفيفة أي أثبت على دينك ثباتاً لا يطمعون أن يجذبوك ، ومثله { ولا يصدنك عن آيات الله } وهذا النهي لهم عن المنازعة من باب لا أرينك ههنا ، والمعنى فلا بد لهم بمنازعتك فينازعوك.
وقرأ أبو مجلز { فلا ينازعنك } من النزع بمعنى فلا يقلعنك فيحملونك من دينك إلى أديانهم من نزعته من كذا و { الأمر } هنا الدين ، وما جئت به وعلى ما روي في سبب النزول يكون { في الأمر } بمعنى في الذبح { لعلى هدى } أي إرشاد.
وجاء و { لكل أمة } بالواو وهنا { لكل أمة } لأن تلك وقعت مع ما يدانها ويناسبها من الآي الورادة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً قاله الزمخشري.
{ وإن جادلوك } آية موادعة نسختها آية السيف أي وإن أبوا للجاجهم إلاّ المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين { الله يحكم بينكم } خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يلقى منهم.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
السطو : القهر.
وقال ابن عيسى : السطوة إظهار ما يهول للإخافة.
{ ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير }.
لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أعقب تعالى أنه عالم بجميع { ما في السماء والأرض } فلا تخفى عليه أعمالكم و { إن ذلك في كتاب } قيل : هو أم الكتاب الذي كتبه الله قبل خلق السموات والأرض ، كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ.
والإشارة بقوله { إن ذلك على الله يسير } قيل : إلى الحكم السابق ، والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته.
وقال الزمخشري : ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه ، والإحاط بذلك وإثباته وحفظه عليه يسير لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم انتهى.
وفي قوله لأن العالم الذات فيه دسيسة الاعتزال لأن من مذهبهم نفي الصفات فهو عالم لذاته لا يعلم عندهم.
{ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً } أي حجة وبرهاناً سماوياً من جهة الوحي والسمع { وما ليس لهم به علم } أي دليل عقلي ضروري أو غيره.
{ وما للظالمين } أي المجاوزين الحد في عبادة ما لا يمكن عبادته { من نصير } ينصرهم فيما ذهبوا إليه أو إذا حل بهم العذاب.
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } أي يتلوه الرسول أو غيره { آياتنا } الواضحة في رفض آلهتهم ودعائهم إلى توحيد الله وعبادته { تعرف في وجوه الذين كفروا } أي الذين ستروا الحق وغطوه وهو واضح بين والمنكر مصدر بمعنى الإنكار.
ونبه على موجب المنكر وهو الكفر وناب الظاهر مناب المضمر كأنه قيل : تعرف في وجوههم لكنه نبه على العلة الموجبة لظهور المنكر في وجوههم ، والمنكر المساءة والتجهم والبسور والبطش الدال ذلك كله على سوء المعتقد وخبث السريرة ، لأن الوجه يظهر فيه الترح والفرح اللذان محلهما القلب.
{ يكادون يسطون } أي هم دهرهم بهذه الصفة فهم يقاربون ذلك طول زمانهم ، وإن كان قد وقع منهم سطو ببعض الصحابة في شاذ من الأوقات.
قال ابن عباس : { يسطون } يبسطون إليهم.
وقال محمد بن كعب : يقعون بهم.
وقال الضحاك : يأخذونهم أخذاً باليد والمعنى واحد.
وقرأ عيسى بن عمر يعرف مبنياً للمفعول المنكر ووقع { قل } هل أنبئكم { بشر من ذلكم } وعيد وتقريع والإشارة إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم ، أو إلى ما أصابهم من الكراهة والبسور بسبب ما تلي عليهم.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
الذباب : الحيوان المعروف يجمع على ذباب بكسر الذال وضمها ، وعلى ذبّ والمَذبَّة ما يطرد به الذباب ، وذباب السيف طرفه والعين إنسانها ، وأسنان الإبل.
سلبت الشيء : اختطفته بسرعة.
استنقذ : استفعل بمعنى أفعل أي أنقذ نحو أبل واستبل.
{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير }.
لما ذكر تعالى أن الكفار يعبدون ما لا دليل على عبادته لا من سمع ولا من عقل ويتركون عبادة من خلقهم ، ذكر ما عليه معبوداتهم من انتفاء القدرة على خلق أقل الأشياء بل على ردّ ما أخذه ذلك الأقل منه ، وفي ذلك تجهيل عظيم لهم حيث عبدوا من هذه صفته لقوله { إن الذين تدعون } بتاء الخطاب.
وقيل : خطاب للمؤمنين أراد الله أن يبين لهم خطأ الكافرين فيكون { تدعون } خطاباً لغيرهم الكفار عابدي غير الله.
وقيل : الخطاب عام يشمل من نظر في أمر عبادة غير الله ، فإنه يظهر له قبح ذلك.
و { ضُرب } مبني للمفعول ، والظاهر أن ضارب المثل هو الله تعالى ، ضرب مثلاً لما يعبد من دونه أي بين شبهاً لكم ولمعبودكم.
وقيل : ضارب المثل هم الكفار ، جعلوا مثلاً لله تعالى أصنامهم وأوثانهم أي فاسمعوا أنتم أيها الناس لحال هذا المثل ونحوه ما قال الأخفش قال : ليس ههنا { مثل } وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلاً.
وقيل : هو { مثل } من حيث المعنى لأنه { ضرب مثل } من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً؟ قلت : قد سميت الصفة أو القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة عندهم انتهى.
وقرأ الجمهور { تدعون } بالتاء.
وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو بالياء وكلاهما مبني للفاعل.
وقرأ اليماني وموسى الأسواري بالياء من أسفل مبنياً للمفعول.
وقال الزمخشري { لن } أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً ، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال : محال أن يخلقوا انتهى.
وهذا القول الذي قاله في { لن } هو المنقول عنه أن { لن } للنفي على التأييد ، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل { لن } مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله { أفمن يخلق كمن لا يخلق } كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح ، والاستدلال عليه مذكور في النحو.
وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث إنّ الاختراع صفة له تعالى ثابتة مختصة لا يشركه فيها أحد ، وثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو أمر سلب { الذباب } وعدم استنقاذ شيء مما { يسلبهم } وكان الذباب كثيراً عند العرب ، وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك.
وعن ابن عباس : كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
وموضع { ولو اجتمعوا له } قال الزمخشري : نصب على الحال كأنه قال مستحيل : أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه ، وتعاونهم عليه انتهى.
وتقدم لنا الكلام على نظير { ولو } هذه ، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة ، كأنه قيل { لن يخلقوا ذباباً } على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك.
{ ضعف الطالب والمطلوب } قال ابن عباس : الصنم والذباب ، أي ينبغي أن يكون الصنم طالباً لما سلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان.
وقيل { المطلوب } الآلهة و { الطالب } الذباب فضعف الآلهة أن لا منعة لهم ، وضعف الذباب في استلابه ما على الآلهة.
وقال الضحاك : العابد والمعبود فضعف العابد في طلبهم الخير من غير جهته ، وضعف المعبود في إيصال ذلك لعابده.
وقال الزمخشري : وقوله { ضعف الطالب والمطلوب } كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب ، وذاك مغلوب والظاهر أنه إخبار بضعف الطالب والمطلوب.
وقيل : معناه التعجب أي ما أضعف الطالب والمطلوب
.
{ ما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوه حق معرفته حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه ، ولم يؤهلوا خالقهم للعبادة ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة { الله يصطفي } الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة { أأنزل عليه الذكر من بيننا } الآية ، وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله عليهم بأن رسله ملائكة وبشر ، ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شيء وإليه مرجع الأمور كلها.
ولما ذكر تعالى أنه اصطفى رسلاً من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به الرسل من التكاليف وهو الصلاة قيل : كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بكوع وسجود واتفقوا على مشروعية السجود في آخر آية
{ ألم تر أن الله يسجد له } وأما في هذه الآية فمذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا يسجد فيها ، ومذهب الشافعي وأحمد أنه يسجد فيها وبه قال عمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس { واعبدوا ربكم } أي افردوه بالعبادة { وافعلوا الخير } قال ابن عباس : صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ، ويظهر في هذا الترتيب أنهم أمروا أولاً بالصلاة وهي نوع من العبادة ، وثانياً بالعبادة وهي نوع من فعل الخير ، وثالثاً بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم.
{ وجاهدوا في الله } أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمته يشمل جهاد الكفار والمبتدعة وجهاد النفس.
وقيل : أمر بجهاد الكفار خاصة { حق جهاده } أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك ، وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصاً بالله من حيث هو مفعول لوجهه ومن أجله ، فالإضافة تكون بأدنى ملابسة.
قال الزمخشري : ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
ويوم شهدناه سليماً وعامراً . . .
انتهى.
يعني بالظرف الجار والمجرور ، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير.
و { حق جهاده } من باب هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وعالم جداً.
وعن مجاهد والكلبي أنه منسوخ بقوله { فاتقوا الله ما استطعتم } { هو اجتباكم } أي اختاركم لتحمل تكليفاته وفي قوله { هو } تفخيم واختصاص ، أي هو لا غيره.
{ من حرج } من تضييق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل بل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص.
وانتصب { ملة أبيكم } بفعل محذوف ، وقدره ابن عطية جعلها { ملة } وقال الزمخشري : نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين { ملة أبيكم } كقوله : الحمد لله الحميد ، وقال الحوفي وأبو البقاء : اتبعوا ملة إبراهيم.
وقال الفراء : هو نصب على تقدير حذف الكاف ، كأنه قيل كلمة { أبيكم } بالإضافة إلى أبيه الرسول ، وأمة الرسول في حكم أولاده فصار أباً لأمته بهذه الوساطة.
وقيل : لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب طلب الأكثر فأضيف إليهم.
وجاء قوله { ملة } { إبراهيم } باعتبار عبادة الله وترك الأوثان وهو المسوق له الآيات المتقدمة ، فلا يدل ذلك على الاتباع في تفاصيل الشرائع.
والظاهر أن الضمير في { هو سماكم } عائد على { إبراهيم } وهو أقرب مذكور ولكل نبيّ دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } فاستجاب الله له فجعلها أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، وقاله ابن زيد والحسن.
وقيل : يعود { هو } إلى الله وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك.
وعن ابن عباس : إن الله { سماكم المسلمين من قبل } أي في كل الكتب { وفي هذا } أي القرآن ، ويدل على أن الضمير لله قراءة أبيّ الله سماكم.
قال ابن عطية : وهذه اللفظة يعني قوله { وفي هذا } تضعيف قول من قال الضمير لإبراهيم ، ولا يتوجه إلاّ على تقدير محذوف من الكلام مستأنف انتهى.
وتقدير المحذوف وسميتم في هذا القرآن المسلمين ، والمعنى أنه فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم.
{ ليكون الرسول شهيداً عليكم } أنه قد بلغكم { وتكونوا شهداء على الناس } بأن الرسل قد بلغتهم ، وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلاّ منه فهو خير مولى وناصر.
وعن قتادة أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلاّ نبي.
قيل للنبي : أنت شهيد على أمتك.
وقيل له : ليس عليك حرج.
وقيل له : سل تعط.
وقيل : لهذه الأمة : { وتكونوا شهداء على الناس } وقيل لهم { ما جعل عليكم في الدين من حرج } وقيل لهم { ادعوني أستجب لكم } { واعتصموا } قال ابن عباس سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره.
وقال الحسن تمسكوا بدين الله.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
السلالة :فعالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه وقال أمية خلق البرية من سلالة منتن . . .
وإلى السلالة كلها ستعود
والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه قال الشاعر
فجاءت به عصب الأديم غضنفرا . . .
سلالة فرج كان غير حصين
وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والنحاتة
سيناء وسينون: اسمان لبقعة وجمهور العرب على فتح سين سيناء فالألف فيه للتأنيث كصحراء فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تكسر السين فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم أيضاً عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث وعند البصريين يمتنع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق كعلباء ودرحاء قيل وهو جبل فلسطين وقيل بين مصر وأيلة
الدهن : عصارة الزيتون واللوز وما أشبههما مما فيه دسم والدهن بفتح الدال مسح الشيء بالدهن هيهات اسم فعل يفيد الاستبعاد فمعناها بعد وفيها لغات كثيرة ذكرناها في كتاب التكميل لشرح التسهيل ويأتي منها ما قرىء به إن شاء الله
الغثاء : الزبد وما ارتفع على السيل ونحو ذلك مما لا ينتفع به قاله أبو عبيد وقال الأخفش الغثاء والجفاء واحد وهو ما احتمله السيل من القذر والزبد وقال الزجاج البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل خالط زبده انتهى وتشدد ثاؤه وتخفف ويجمع على أغثاء شذوذاً وروى بيت امرىء القيس من السيل والغثاء بالتخفيف والتشديد بالجمع
تترى : واحداً بعد واحد قال الأصمعي وبينهما مهلة وقال غيره المواترة التتابع بغير مهلة وتاؤه مبدلة من واو على غير قياس إذ أصله الوتر كتاء تولج وتيقور الأصل وولج وويقور لأنه من الولوج والوقار وجمهور العرب على عدم تنوينه فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تنونه وينبغي أن تكون الألف فيه للإلحاق كهي في علقي المنون وكتبه بالياء يدل على ذلك ومن زعم أن التنوين فيه كصبراً ونصراً فهو مخطىء لأنه يكون وزنه فعلاً ولا يحفظ فيه الإعراب في الراء فتقول تتر في الرفع وتتر في الجر لكن ألف الإلحاق في المصدر نادر ولا يلزم وجود النظير وقيل تترى اسم جمع كأسرى وشتى المعين الميم فيه زائدة ووزنه مفعول كمخيط وهو المشاهد جريه بالعين تقول عانه أدركه بعينه كقولك كبده ضرب كبده وأدخله الخليل في باب ع ي ن وقيل الميم أصلية من باب معن الشيء معانة كثر فوزنه فعيل وأجاز الفراء الوجهين وقال جرير :
إن الذين غدوا بلبك غادروا . . .
وشلاً بعينك ما يزال معينا
الغمرة : الجهالة ، ورجل غمرغافل لم يجرب الأمور وأصله الستر ومنه الغمر للحقد لأنه يغطي القلب والغمر للماء الكثير لأنه يغطي الأرض والغمرة الماء الذي يغمر القامة والغمرات الشدائد ورجل غامر إذا كان يلقي نفسه في المهالك ودخل في غمار الناس أي في زحمتهم
الجؤار : مثل الخوار جأر الثور يجأر صاح وجأر الرجل إلى الله تضرع بالدعاء قاله الجوهري وقال الشاعر يراوح من صلوات المليك فطوراً سجوداً وطوراً جؤاراً وقيل الجؤار الصراخ باستغاثة قال جأر ساعات النيام لربه
السامر : مفرد بمعنى الجمع يقال قوم سامر وسمر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر والسمير الرفيق بالليل في السهر ويقال له السمار أيضاً ويقال لا أفعله ما أسمر ابنا سمير والسمير الدهر وابناه الليل والنهار
نكب : عن الطريق ونكب بالتشديد إذا عدل عنه اللجاج في الشيء التمادي عليه
هذه السورة مكية بلا خلاف ، وفي الصحيح للحاكم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة » ثم قرأ قد { أفلح المؤمنون } إلى عشر آيات.
ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله { يا أيها الذين آمنوا اركعوا } الآية وفيها { لعلكم تفلحون } وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله { قد أفلح المؤمنون } إخباراً بحصول ما كانوا رجوه من الفَلاح.
وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد { قد أفلح المؤمنون } بضم الهمزة وكسر اللام مبنياً للمفعول ، ومعناه ادخلوا في الفلاح فاحتمل أن يكون من فلح لازماً أو يكون أفلح يأتي متعدياً ولازماً.
وقرأ طلحة أيضاً بفتح الهمزة واللام وضم الحاء.
قال عيسى بن عمر : سمعت طلحة بن مصرف يقرأ قد أفلحوا المؤمنون ، فقلت له : أتلحن؟ قال : نعم ، كما لحن أصحابي انتهى.
يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي وليس بلحن لأنه على لغة أكلوني البراغيث.
وقال الزمخشري : أو على الإبهام والتفسير.
وقال ابن عطية : وهي قراءة مردودة ، وفي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل نحو { ويمح الله الباطل } وقال الزمخشري : وعنه أي عن طلحة { أُفلحُ } بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله :
فلو أن الأطباء كان حولي . . .
انتهى.
وليس بجيد لأن الواو في { أفلح } حذفت لالتقاء الساكنين وهنا حذفت للضرورة فليست مثلها.
قال الزمخشري : قد تقتضيه لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه انتهى.
والخشوع لغة الخضوع والتذلل ، وللمفسرين فيه هنا أقوال : قال عمرو بن دينار : هو السكون وحسن الهيئة.
وقال مجاهد : غض البصر وخفض الجناح.
وقال مسلم بن يسار وقتادة : تنكيس الرأس.
وقال الحسن : الخوف.
وقال الضحاك : وضع اليمين على الشمال.
وعن عليّ : ترك الالتفات في الصلاة.
وعن أبي الدرداء : إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام.
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده ، ومن الخشوع أن تستعمل الآداب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك والاختصار وتقليب الحصى.
وفي التحرير : اختلف في الخشوع ، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحله القلب ، وهو أول علم يرفع من الناس قاله عبادة بن الصامت.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أضيفت الصلاة إليهم؟ قلت : لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته ، وأما المصلى له فغني متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
{ اللغو } ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل ، وما توجب المروءة اطراحه يعني أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف انتهى.
وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوي تعديته باللام كالفعل ، وكذلك إذا تأخر لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء { للزكاة } باللام ولو جاء منصوباً لكان عربياً والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل ، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير فيكون على حذف أي لأداء الزكاة { فاعلون } إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكى أو يضمن فاعلون معنى مؤدون ، وبه شرحه التبريزي.
وقيل { للزكاة } للعمل الصالح كقوله { خيراً منه زكاة } أي عملاً صالحاً قاله أبو مسلم.
وقيل : الزكاة هنا النماء والزيادة ، واللام لام العلة ومعمول { فاعلون } محذوف التقدير { والذين هم } لأجل تحصيل النماء والزيادة { فاعلون } الخير.
وقيل : المصروف لا يسمى زكاة حتى يحصل بيد الفقير.
وقيل : لا تسمى العين المخرجة زكاة ، فكان التغيير بالفعل عن إخراجه أولى منه بالأداء ، وفيه رد على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله : ألا قال مؤدُّون ، قال في التحرير والتحبير : وهذا كما قيل لا عقل ولا نقل ، والكتاب العزيز نزل بأفصح اللغات وأصحها بلا خلاف.
وقد قال أمية بن أبي الصلت :
المطعمون الطعام في السنة الأز . . .
مة والفاعلون للزكوات
ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية ، بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون انتهى.
وقال الزمخشري : وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة يعني على أن الزكاة يراد بها العين وهو على حذف مضاف ، أي لأداء الزكوات ، وعلل ذلك بجمعها يعني أنها إذا أريد بها العين صح جمعها ، وإذا أريد بها التزكية لم تجمع لأن التزكية مصدر ، والمصادر لا تجمع وهذا غير مسلم بل قد جاء منها مجموعاً ألفاظ كالعلوم والحلوم والأشغال ، وأما إذا اختلفت فالأكثرون على جواز جمعها وهنا اختلفت بحسب متعلقاتها فإخراج النقد غير إخراج الحيوان وغير إخراج النبات والزكاة في قول أمية مما جاء جمعاً من المصادر ، فلا يتعدى حمله على المخرج لجمعه.
وحفظ لا يتعدى بعلى.
فقيل : على بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله { ونصرناه من القوم } أي على القوم قاله الفراء ، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن { حافظون } معنى ممسكون أو قاصرون ، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله
{ أمسك عليك زوجك } وتكلف الزمخشري هنا وجوهاً.
فقال { على أزواجهم } في موضع الحال أي الأوّالين على أزواجهم أو قوّامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلاناً ، ونظيره كان زياد على البصرة أي والياً عليها.
ومنه قولهم : فلان تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشاً أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين ، كأنه قيل : يلامون { إلا على أزواجهم } أي يلامون على كل مباشر إلاّ على ما أطلق لهم { فإنهم غير ملومين } عليه أو يجعله صلة لحافظين من قولك احفظ عليّ عنان فرسي على تضمينه معنى النفي ، كما ضمن قولهم : نشدتك الله إلاّ فعلت بمعنى ما طلبت منك إلاّ فعلك انتهى.
يعني أن يكون حافظون صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى ، أي والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم ، فيكون استثناء مفرغاً متعلقاً فيه على بما قبله كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت ، ومعناه النفي أي ما طلبت منك.
وهذه التي ذكرها وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة.
وقوله { أو ما ملكت } أريد بما النوع كقوله { فانكحوا ما طاب لكم } وقال الزمخشري : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث انتهى.
وقوله وهم الإناث ليس بجيد لأن لفظ هم مختص بالذكور ، فكان ينبغي أن يقول وهو الإناث على لفظ ما أوهن الإناث على معنى ما ، وهذا الاستثناء حد يجب الوقوف عنده ، والتسرّي خاص بالرجال ولا يجوز للنساء بإجماع ، فلو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فاعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار.
وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يبقيان على نكاحهما وفي قوله { أو ما ملكت أيمانهم } دلالة على تعميم وطء ما ملك باليمين وهو مختص بالإناث بإجماع ، فكأنه قيل { أو ما ملكت أيمانهم } من النساء.
وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف ، ويخص أيضاً في الآية بتحريم وطء الحائض والأَمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر ، ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والاستمناء ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء ، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى أي خلاف ذلك.
وقيل : لا يكون وراء هنا إلاّ على حذف تقديره ما وراء ذلك.
والجمهور على تحريم الاستمناء ويسمى الخضخضة وجلد عميرة يكنون عن الذكر بعميرة ، وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة ، وسأل حرملة بن عبد العزيز مالكاً عن ذلك فتلا هذه الآية وكان جرى في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بما استدل مالك من قوله
{ فمن ابتغى وراء ذلك } فقلت له : إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر بذلك في أشعارها ، وكان ذلك كثيراً فيها بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ، ولم يكونوا ينكرون ذلك.
وأما جلد عميرة فلم يكن معهوداً فيها ولا ذكره أحد منهم في أشعارهم فيما علمناه فليس بمندرج في قوله { وراء ذلك } ألا ترى أن محل ما أبيح وهو نساؤهم بنكاح أو تسرٍّ فالذي وراء ذلك هو من جنس ما أحل لهم وهو النساء ، فلا يحل لهم شيء منهن إلاّ بنكاح أو تسر ، والظاهر أن نكاح المتعة لا يندرج تحت قوله { فمن ابتغى وراء ذلك } لأنها ينطلق عليها اسم زوج.
وسأل الزهري القاسم بن محمد عن المتعة فقال : هي محرمة في كتاب الله وتلا { والذين هم لفروجهم حافظون } الآية ولا يظهر التحريم في هذه الآية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية لأمانتهم بالإفراد وباقي السبعة بالجمع ، والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد ، فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل ، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس.
والأمانة : هي الشيء المؤتمن عليه ومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى ، والأمانة أيضاً المصدر وقال تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها } والمؤدى هو العين المؤتمن عليه أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر.
وقرأ الإخوان على صلاتهم بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع.
والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولاً بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية ، وثنى بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت.
قال الزمخشري : ووحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت ، وجمعت آخراً لتفاد المحافظة على إعدادها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل.
{ أولئك } أي الجامعون لهذه الأوصاف { هم الوارثون } الأحقاء أن يسموا ورّاثاً دون من عداهم ، ثم ترجم الوارثين بقوله { الذين يرثون الفردوس } فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر ، ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم انتهى.
وتقدم الكلام في { الفردوس } في آخر الكهف.
{ ولقد خلقنا الإنسان } الآية لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ، ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة.
وقال ابن عطية : هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة كلام على جملة ، وإن تباينت في المعاني انتهى.
وقد بيّنا المناسبة بينهما ولم تتباين في المعاني من جميع الجهات.
و { الإنسان } هنا.
قال قتادة وغيره ورواه عن سلمان وابن عباس آدم لأنه انسل من الطين { ثم جعلنا } عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلاّ له ونظيره { حتى توارت بالحجاب } أو على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله.
وعن ابن عباس أيضاً أن { الإنسان } ابن آدم و { سلالة من طين } صفوة الماء يعني المني وهو اسم جنس ، والطين يراد به آدم إذ كانت نشأة من الطين كما سمى عرق الثرى أو جعل من الطين لكونه سلالة من أبويه وهما متغذيان بما يكون من الطين.
وقال الزمخشري : خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة انتهى.
فجعل الإنسان جنساً باعتبار حالتيه لا باعتبار كل مردود منه و { من } الأولى لابتداء الغاية و { من } الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله { من الأوثان } انتهى.
ولا تكون للبيان إلاّ على تقدير أن تكون السلالة هي الطين ، أما إذا قلنا أنه ما انسل من الطين فتكون لابتداء الغاية.
والقرار مكان الاستقرار والمراد هنا الرحم.
والمكين المتمكن وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقوله طريق سائر لكونه يسار فيه ، وتقدم تفسير النطفة والعلقة والمضغة.
وقرأ الجمهور عظاماً و { العظام } الجمع فيهما.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن عليّ بالإفراد فيهما.
وقرأ السلمي وقتادة أيضاً والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضاً بجمع الأول وإفراد الثاني فالإفراد يراد به الجنس.
وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس لأن الإنسان ذو عظام كثيرة انتهى.
وهذا لا يجوز عند سيبويه وأصحابنا إلاّ في الضرورة وأنشدوا :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا . . .
ومعلوم أن هذا لا يلبس لأنهم كلهم ليس لهم بطن واحد ومع هذا خصوا مجيئه بالضرورة { ثم أنشأناه خلقاً آخر } قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد ، هو نفخ الروح فيه.
وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا.
وقالت فرقة : نبات شعره.
وقال مجاهد : كمال شبابه.
وقال ابن عباس أيضاً تصرفه في أمور الدنيا.
قال ابن عطية : وهذا التخصيص لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجود النطق والإدراك ، وأول رتبة من كونه آخر نفخ الروح وآخره تحصيله المعقولات إلى أن يموت انتهى.
ملخصاً وهو قريب مما رواه العوفي عن ابن عباس ، ويدل عليه قوله بعد ذلك { ثم إنكم بعد ذلك لميتون }.
وقال الزمخشري ما ملخصه : { خلقاً آخر } مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً ناطقاً سميعاً بصيراً ، وأودع كل عضو وكل جزء منه عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، وقد احتج أبو حنيفة بقوله { خلقاً آخر } على أن غاصب بيضة أفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ.
وقال { أنشأنا } جعل إنشاء الروح فيه وإتمام خلقه إنشاءً له.
قيل : وفي هذا رد على النظام في زعمه أن الإنسان هو الروح فقط ، وقد بيّن تعالى أنه مركب من هذه الأشياء ورد على الفلاسفة في زعمهم أن الإنسان شيء لا ينقسم ، وتبارك فعل ماض لا يتصرف.
ومعناه تعالى وتقدس و { أحسن الخالقين } أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب { أحسن } صفة ، ومن قال غير محضة أعربه بدلاً.
وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين ، ومعنى { الخالقين } المقدرين وهو وصف يطلق على غير الله تعالى كما قال زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع . . .
ض القوم يخلق ثم لا يفري
قال الأعلم : هذا مثل ضربه يعني زهيراً ، والخالق الذي لا يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه والفري القطع.
والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه.
وقال ابن عطية : معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه وأنشد بيت زهير.
قال : ولا تُنفي هذه اللفظة عن البشر في معنى الصنع إنما هي منفية بمعنى الاختراع.
وقال ابن جريج : قال { الخالقين } لأنه أذن لعيسى في أن يخلق وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه ، أي { أحسن الخالقين } خلقاً أي المقدرين تقديراً.
وروي أن عمر لما سمع { ولقد خلقنا الإنسان } إلى آخره قال { فتبارك الله أحسن الخالقين } فنزلت.
وروي أن قائل ذلك معاذ.
وقيل : عبد الله بن أبي سرح ، وكانت سبب ارتداده ثم أسلم وحَسُنَ إسلامه.
وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون بالألف يريد حدوث الصفة ، فيقال أنت مائت عن قليل وميت ولا يقال مائت للذي قد مات.
قال الفراء : إنما يقال في الاستقبال فقط وكذا قال ابن مالك ، وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه ما لم يقدر الوقوع ، يعني إنه لا يقال لمن مات مائت.
وقال الزمخشري : والفرق بين الميت والمائت أن الميت كالحي صفة ثابتة ، وأما المائت فيدل على الحدوث ، تقول : زيد مائت الآن ومائت غداً كقولك : يموت ونحوها ضيق وضائق في قوله { وضائق به صدرك } انتهى.
والإشارة بقوله بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء { خلقاً آخر } أي وانقضاء مدّة حياتكم.
{ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولاً ، ثم بالإعدام ثم بالإيجاد ، وذكره الموت والبعث لا يدل على انتفاء الحياة في القبر لأن المقصود ذكر الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة في القبر من جنس الإعادة ومعنى { تبعثون } للجزاء فإن قلت : الموت مقطوع به عند كل أحد ، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به فوجب القطع به فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب : أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيهاً للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه ، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى ، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي ، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكداً مبالغاً فيه ليقصر ، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء ، ولم تؤكد جملة البعث إلاّ بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكاراً وإنه حتم لا بد من كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان ، وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله { لميتون } ولم تدخل في { تبعثون } فأجبت : بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالباً فلا تجامع يوم القيامة ، لأن أعمال { تبعثون } في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال ، وإنما قلت غالباً لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل كقوله تعالى
{ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة } على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و { سبع طرائق } السموات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض ، طارق النعل جعله على نعل ، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجّاج كقوله { طباقاً } وقيل : لأنها طرائق الملائكة في العروج.
وقيل : لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها.
وقيل : لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى.
قال ابن عطية : ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء.
{ وما كنا عن الخلق غافلين } نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم ، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء { بقدر } بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم { فأسكناه في الأرض } أي جعلنا مقره في الأرض.
وعن ابن عباس : أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل.
وفي قوله { فأسكناه في الأرض } دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض ، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه.
قال الزمخشري : { على ذهاب به } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى.
و { ذهاب } مصدر ذهب ، والباء في { به } للتعدية مرادفة للهمزة كقوله { لذهب بسمعهم } أي لأذهب سمعهم.
وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم ، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين } وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلاّ وهو من السماء.
قال ابن عطية : ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلاّ فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض ، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى.
وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر ، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقياً على حاله ما انتفع به من ملوحته.
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال { فأنشأنا لكم به جنات } وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ، ووصف النخل والعنب بقوله { لكم فيها } إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطباً ويابساً رطباً وعنباً وتمراً وزبيباً ، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً ، ويحتمل أن يكون قوله { ومنها تأكلون } من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن صنعة يغتلها ، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه.
كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري.
وقال الطبري : وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما ، والضمير في { ولكم فيها } عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات ، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب.
وعطف { وشجرة } على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام.
وقال الجمهور { سيناء } اسم الجبل كما تقول : جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص.
وقال مجاهد : معنى { سيناء } مبارك.
وقال قتادة : معناه الحسن والقولان عن ابن عباس.
وقيل الحسن بالحبشة.
وقيل : بالنبطية.
وقال معمر عن فرقة : معناه ذو شجر.
وقيل : { سيناء } اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده قاله مجاهد أيضاً.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين وهي لغة لبني كنانة.
وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح وهي لغة سائر العرب.
وقرأ سيني مقصوراً وبفتح السين والأصح أن { سيناء } اسم بقعة وأنه ليس مشتقاً من السناء لاختلاف المادتين على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء.
وقرأ الجمهور { تنبت } بفتح التاء وضم الباء والباء في { بالدهن } على هذا باء الحال أي { تنبت } مصحوبة { بالدهن } أي ومعها الدهن.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء ، فقيل { بالدهن } مفعول والباء زائدة التقدير تنبت الدهن.
وقيل : المفعول محذوف أي { تنبت } جناها و { بالدهن } في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن.
وقيل : أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال ، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير :
قطينا بها حتى إذا أنبت البقل . . .
بلفظ أنبت.
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنياً للمفعول و { بالدهن } حال.
وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن بالنصب.
وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف ، وما رووا من قراءة عبد الله يخرج الدهن وقراءة أُبي تثمر بالدهن محمول على التفسير لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ، ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور والصبغ الغمس والائتدام.
وقال مقاتل : الصبغ الزيتون والدهن الزيت جعل تعالى في هذه الشجرة تأدماً ودهناً.
وقال الكرماني : القياس أن يكون الصبغ غير الدهن لأن المعطوف غير المعطوف عليه.
وقرأ الأعمش وصبغاً بالنصب.
وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف ، فالنصب عطف على موضع { بالدهن } كان في موضع الحال أو في موضع المفعول ، والصباغ كالدبغ والدباغ وفي كتاب ابن عطية.
وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعاً { للآكلين } كأنه يريد تفسير الصبغ.
ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام ، ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله { من شجرة مباركة زيتونة } قيل : وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل { ولكم فيها منافع } من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل ، وأدرج باقي المنافع في قوله { ولكم فيها منافع كثيرة } ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن { الفلك } سفائن البحر.
قال ذو الرمة :
سفينة بر تحت خدي زمامها . . .
يريد صيدح ناقته.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
لما ذكر أولاً بدء الإنسان وتطوّره في تلك الأطوار ، وما امتن به عليه مما جعله تعالى سبباً لحياتهم ، وإدراك مقاصدهم ، ذكر أمثالاً لكفار قريش من الأمم السابقة المنكرة لإرسال الله رسلاً المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله ، فابتدأ قصة نوح لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولاً آدم في قوله { من سلالة من طين } ولقصته أيضاً مناسبة بما قبلها إذ قبلها { وعلى الفلك تحملون } فذكر قصة من صنع الفلك أولاً وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه الفلك من نعمة الله ، كل هذه القصص يحذر بها قريشاً نقم الله ويذكرهم نعمه.
{ ما لكم من إله غيري } جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفرداً بالإلهية فكأنها تعليل لقوله { اعبدوا الله } { أفلا تتقون } أي أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره { فقال الملأ } أي كبراء الناس وعظماؤهم ، وهم الذين هم أعصى الناس وأبعدهم لقبول الخير.
{ ما هذا إلاّ بشر مثلكم } أي مساويكم في البشرية.
{ فأنى تؤفكون } اختصاص بالرسالة.
{ يريد أن يتفضل عليكم } أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله : { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر ، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه السلام ، وأن تكون إلى ما كلمهم به من الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم ، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر ، وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر.
وقولهم { ما سمعنا بهذا } الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلاّ فنبوّة إدريس وآدم لم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه ، ولهذا قالوا { إن هو إلاّ رجل به جنة } ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون { فتربصوا به } أي انتظروا حاله حتى يجلى أمره وعاقبة خبره.
فدعا ربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه.
وقال الزمخشري : يدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه ، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } انتهى.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن { قال رب } بضم الباء ، وتقدم توجيهه في قوله { قال رب احكم } بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذه الآية في سورة هود ، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق ، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم.
قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلاّ ملك أو نبي انتهى.
ثم أمره أن يدعوه بأنه ينزله { منزلاً مباركاً } قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة.
وقيل : عند الخروج منها.
وقرأ الجمهور { مُنزلاً } بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدراً ومكاناً أي إنزالاً أو موضع إنزال.
وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان : بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول { إن في ذلك } خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أي إن في ما جرى على هذه أمّة نوح لدلائل وعبراً { وإن كنا لمبتلين } أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله { ولقد تركناها آية فهل من مدكر.
}
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح ، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين.
وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري : هم ثمود ، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة.
وفي آخر القصة { فأخذتهم الصيحة } ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف ، وفي هود ، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح.
وقال تعالى { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كإخوانه وجه ، وأنفذ وبعث وهنا عُدِّي بفي ، جعلت الأمة موضعاً للإرسال كما قال رؤبة :
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام . . .
وجاء بعث كذلك في قوله { ويوم نبعث في كل أمة } { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } و { إن } في { أن اعبدوا الله } يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا { وقال الملأ } بالواو.
وفي الأعراف وسورة هود في قصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله ، أي اجتمع قوله الذي هو حق ، وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر ، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت { بلقاء الآخرة } أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها { وأترفناهم } أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم ، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين ، وكان العطف مشعراً بغلبة التكذيب والكفر ، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم ، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم ، وأن تكون جملة حالية أي وقد { أترفناهم } أي { كذبوا } في هذه الحال ، ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي { كذبوا } في حال الإحسان إليهم ، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي.
وقوله { يأكل مما تأكلون منه } تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم ، وأن لا مزية له عليهم ، والظاهر أن ما موصولة في قوله { مما تشربون } وأن العائد محذوف تقديره { مما تشربون } منه لوجود شرائط الحذف ، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله : مررت بالذي مررت ، وحسن هذا الحذف ورجحه كون { تشربون } فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله { مما تأكلون منه } وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله { ويشرب مما تشربون } على حذف أي { مما تشربون } منه ، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة لأن ما إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى.
يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه ، فيكون المحذوف ضميراً متصلاً وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلاّ أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال { مما تأكلون منه } فعداه بمن التبعيضية ، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير { مما تشربون } منه ، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح.
وقال الزمخشري : حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه انتهى.
فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم.
وقال الزمخشري { إذاً } واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى.
وليس { إذاً } واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين { إنكم } والخبر و { إنكم } والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة ، ولو كانت { إنكم } والخبر جواباً للشرط للزمت الفاء في { إنكم } بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلاّ عند الفراء ، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ.
واختلف المعربون في تخريج { أنكم } الثانية ، والمنقول عن سيبويه أن { أنكم } بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد ، وخبر { إنكم } الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره { إنكم } تبعثون { إذا متم } وهذا الخبر المحذوف هو العامل في { أذلة } وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن { أنكم } الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار ، وعلى هذا يكون { مخرجون } خبر { أنكم } الأولى ، والعامل في { إذا } هو هذا الخبر ، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى.
وذهب الأخفش إلى أن { أنكم مخرجون } مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره : يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبراً لأنكم ، ويكون جواب { إذا } ذلك الفعل المحذوف ، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر { إنكم } ويكون عاملاً في { إذا }.
وذكر الزمخشري قول المبرد بادئاً به فقال : ثنى { إنكم } للتوكيد ، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و { مخرجون } خبر عن الأول وهذا قول المبرد.
قال الزمخشري : أو جعل { إنكم مخرجون } مبتدأ و { إذا متم } خبراً على معنى إخراجكم إذا متم ، ثم أخبر بالجملة عن { أنكم } انتهى.
وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه.
قال : أو رفع { إنكم مخرجون } بفعل هو جزاء الشرط كأنه قيل { إذا متم } وقع إخراجكم انتهى.
وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبراً عن { أنكم } ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه ، وأن يكون خبر { إنكم } ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في { إذا } وفي قراءة عبد الله { أيعدكم } { إذا متم } بإسقاط { إنكم } الأولى.
وقرأ الجمهور { هيهات هيهات } بفتح التاءين وهي لغة الحجاز.
وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس.
وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين ، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأول وخالفه في الثاني.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين ، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنه أيضاً ، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين.
وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضاً بإسكانهما ، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعباً كبيراً بالحذف والإبدال والتنوين وغيره ، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة ، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعاً لهيهات ، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون { هيهات } إلاّ أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه ، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع ، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد ، فقال واحد : هيهات هيهة ، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالباً إلاّ مكررة ، وجاءت غير مكررة في قول جرير :
وهيهات خل بالعقيق نواصله . . .
وقول رؤبة :
هيهات من متحرق هيهاؤه . . .
و { هيهات } اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهراً أو مضمراً ، وهنا جاء التركيب { هيهات هيهات لما توعدون } لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم ، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقياً لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في { هيت لك } لبيان المهيت به.
وقال الزجاج : البعد { لما توعدون } أو بعد { لما توعدون } وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية { هيهات } وقول الزمخشري : فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر.
وقال ابن عطية : طوراً تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد ، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود { لما توعدون } انتهى.
وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل ، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولا يجيز البصريون شيئاً من هذا.
وقال ابن عطية أيضاً في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل ، وخبره { لما توعدون } أي البعد لوعدكم كما تقول : النجح لسعيك.
وقال صاحب اللوامح : فأما من قال { هيهات } فرفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد { لما توعدون } والتكرار للتأكيد ، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى.
وقرأ ابن أبي عبلة { هيهات هيهات } ما { توعدون } بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات.
وهي قراءة واضحة.
وقالوا { إن هي } هذا الضمير يفسره سياق الكلام لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا { أيعدكم أنكم } الآية فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء ، فتضمن أن لا حياة إلاّ حياتهم.
وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله أن الحياة { إلاّ حياتنا } الدنيا ثم وضع { هي } موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبنيها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول : ما شاءت ، والمعنى : لا حياة إلاّ هذه الحياة الدنيا لأن { إن } الثانية دخلت على { هي } التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.
{ نموت ونحيا } أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى ، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلاّ حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية ، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث { وما نحن له بمؤمنين } أي بمصدّقين ، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم { قال : عما قليل } أي عن زمن قليل ، وما توكيد للقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب.
قيل : أي بعد الموت تصيرون نادمين.
وقيل { عما قليل } أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع الرجوع ، واللام في { ليصبحن } لام القسم و { عما قليل } متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين ، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها ، ألا ترى أنه لو كان مفعولاً به لم يجز تقديمه لو قلت : لأضربن زيداً لم يجز زيداً لأضربن ، وهذا الذي قررناه من أن { عما قليل } يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفاً أو مجروراً أو غيرهما ، فعلى قول هو لا يكون { عما قليل } يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره { عما قليل } تنصر لأن قبله قال { رب انصرني }.
وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقاً.
وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة ، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزاً والله أعلم انتهى.
{ فأخذتهم الصيحة } قال الزمخشري : صيحة جبريل عليه السلام صاح عليهم فدمرهم { بالحق } بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك : فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان انتهى.
وعن ابن عباس { الصيحة } الرجفة.
وقيل : هي نفس العذاب والموت.
وقيل : العذاب المصطلم.
قال الشاعر :
صاح الزمان بآل زيد صيحة . . .
خروا لشنتها على الأذقان
وقال المفضل : { بالحق } بما لا مدفع له كقولك : وجاءت سكرة الموت بالحق.
وانتصب بعداً بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعداً.
أي هلكوا ، يقال بعد بعداً وبعداً نحو رشد رشداً ورشداً.
وقال الحوفي { للقوم } متعلق ببعداً.
وقال الزمخشري : و { للقوم الظالمين } بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو { هيت لك } و { لما توعدون } انتهى فلا تتعلق ببعداً بل بمحذوف.
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{ قروناً } قال ابن عباس : هم بنو إسرائيل.
وقيل : قصة لوط وشعيب وأيوب ويونس صلوات الله عليهم { ما تسبق } إلى آخر الآية تقدم الكلام عليها في الحجر { ثم أرسلنا رسلنا تترى } أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي { تترى } منوناً وباقي السبعة بغير تنوين ، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد ، وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولاً إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة ، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه ، فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل ، والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته ولم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.
{ فأتبعنا بعضهم بعضاً } أي بعض القرون أو بعض الأمم بعضاً في الإهلاك الناشىء عن التكذيب.
و { أحاديث } جمع حديث وهو جمع شاذ ، وجمع أحدوثة وهو جمع قياسي.
والظاهر أن المراد الثاني أي صاروا يتحدث بهم وبحالهم في الإهلاك على سبيل التعجب والاعتبار وضرب المثل بهم.
وقال الأخفش : لا يقال هذا إلاّ في الشر ولا يقال في الخير.
قيل : ويجوز أن يكون جمع حديث ، والمعنى أنه لم يبق منهم عين ولا أثر إلاّ الحديث عنهم.
وقال الزمخشري : الأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وأفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع ، وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع ، وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير وهو لم يلفظ له بواحد فأحرى { أحاديث } وقد لفظ له وهو حديث ، فالصحيح أنه جمع تكسير لا اسم جمع لما ذكرناه.
{ بآياتنا } قال ابن عباس هي التسع وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والبحر ، والسنون ، ونقص من الثمرات { وسلطان مبين } قيل : هي العصا واليد ، وهما اللتان اقترن بهما التحدي ويدخل في عموم اللفظ سائر آياتهما كالبحر والمرسلات الست ، وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون بل هي خاصة ببني إسرائيل.
وقال الحسن : { بآياتنا } أي بديننا.
{ وسلطان مبين } هو المعجز ، ويجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات ، وبسلطان مبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء فقد فارقتها في قوة دلالتها على قول موسى عليه السلام.
قيل : ويجوز أن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها كانت أمّ آيات موسى وأولاها ، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بالضرب بها ، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء ، جعلت كأنها ليست بعض الآيات لما استبدت به من الفضل فلذلك عطفت عليها كقوله { وجبريل وميكال } ويجوز أن يراد بسلطان مبين الآيات أنفسها أي هي آيات وحجة بينة { فاستكبروا } عن الإيمان بموسى وأخيه نفة.
{ قوماً عالين } أي رفيعي الحال في الدنيا أي متطاولين على الناس قاهرين بالظلم ، أو متكبرين كقوله { إن فرعون علا في الأرض } أي وكان من شأنهم التكبر.
والبشر يطلق على المفرد والجمع كقوله { فأما ترينّ من البشر أحداً } ولما أطلق على الواحد جازت تثنيته فلذلك جاء { لبشرين } ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولا يؤنث ، وقد يطابق تثنية وجمعاً و { قومهما } أي بنو إسرائيل { لنا عابدون } أي خاضعون متذللون ، أو لأنه كان يدّعي الإلهية فادّعى الناس العبادة ، وإن طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
وقال أبو عبيد : العرب تسمي كل من دان للملك عابداً ، ولما كان ذلك الإهلاك كالمعلول للتكذيب أعقبه بالفاء أي فكانوا ممن حكم عليهم بالغرق إذ لم يحصل الغرق عقيب التكذيب.
{ موسى الكتاب } أي قوم موسى و { الكتاب } التوراة ، ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قوله { لعلهم } ولا يصح عود هذا الضمير في { لعلهم } على فرعون وقومه لأن { الكتاب } لم يؤته موسى إلا بعد هلاك فرعون لقوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } { لعلهم } ترج بالنسبة إليهم { لعلهم يهتدون } لشرائعها ومواعظها.
{ وجعلنا ابن مريم وأمه } أي قصتهما وهي { آية } عظمى بمجموعها وهي آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول آية لدلالة الثاني أي وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية.
والربوة هنا.
قال ابن عباس وابن المسيب : الغوطة بدمشق ، وصفتها أنها { ذات قرار ومعين } على الكمال.
وقال أبو هريرة : رملة فلسطين.
وقال قتادة وكعب : بيت المقدس ، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء ، وأنه يزيد على أعلى الأرض ثمانية عشر ميلاً.
وقال ابن زيد ووهب : الربوة بأرض مصر ، وسبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرها المفسرون.
وقرأ الجمهور { رُبوة } بضم الراء وهي لغة قريش ، والحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم وابن عامر بفتحها ، وأبو إسحاق السبيعي بكسرها وابن أبي إسحاق رباوة بضم الراء بالألف ، وزيد بن عليّ والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف.
وقرىء بكسرها وبالألف { ذات قرار } أي مستوية يمكن القرار فيها للحرث والغراسة ، والمعنى أنها من البقاع الطيبة.
وعن قتادة : ذات ثمار وماء ، يعني أنها لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.
ونداء { الرسل } وخطابهم بمعنى نداء كل واحد وخطابه في زمانه إذ لم يجتمعوا في زمان واحد فينادون ويخاطبون فيه ، وإنما أتى بصورة الجمع ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يوحد به ويعمل عليه.
وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء بلفظ الجمع لقيامه مقام { الرسل } وقيل : ليفهم بذلك أن هذه طريقة كل رسول كما تقول تخاطب تاجراً : يا تجار اتقوا الربا.
وقال الطبري : الخطاب لعيسى ، وروي أنه كان يأكل من غزل أمه والمشهور من بقل البرية.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي { آويناهما } وقلنا لهما هذا الذي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا وكلا مما رزقناكما واعملا صالحاً اقتداء بالرسل والطيبات الحلال لذيذاً كان أو غير لذيذ.
وقيل : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ويشهد له { ذات قرار ومعين } وقدم الأكل من الطيبات على العمل الصالح دلالة على أنه لا يكون صالحاً إلاّ مسبوقاً بأكل الحلال.
{ إني بما تعملون عليم } تحذير في الظاهر والمراد اتباعهم { وإن هذه أمتكم } الآية تقدم تفسير مثلها في أواخر الأنبياء.
وقرأ الكوفيون { وإن } بكسر الهمزة والتشديد على الاستئناف ، والحرميان وأبو عمرو بالفتح والتشديد أي ولأن ، وابن عامر بالفتح والتخفيف وهي المخففة من الثقيلة ، ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه قوله { وإن هذه أمتكم }.
وقوله { فتقطعوا } وجاء هنا { وأنا ربكم فاتقون } وهو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء { فاعبدون } لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين من قوم نوح ، والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا { فتقطعوا } بالفاء إيذاناً بأن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى ، وذلك مبالغة في عدم قبولهم وفي نفارهم عن توحيد الله وعبادته.
وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء ، واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة ، وفرح كل حزب بما لديه دليل على نعمته في ضلاله ، وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريبة عنده في أنه الحق.
ولما ذكر تعالى من ذكر من الأمم ومآل أمرهم من الإهلاك حين كذبوا الرسل كان ذلك مثالاً لقريش ، فخاطب رسوله في شأنهم بقوله { فذرهم في غمرتهم حتى حين } وهذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقائل هو شاعر ، وقائل ساحر ، وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم من الأمم كما قال { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } قال الكلبي { في غمرتهم } في جهالتهم.
وقال ابن بحر : في حيرتهم.
وقال ابن سلام : في غفلتهم.
وقيل : في ضلالتهم { حتى حين } حتى ينزل بهم الموت.
وقيل : حتى يأتي ما وعدوا به من العذاب.
وقيل : هو يوم بدر.
وقيل : هي منسوخة بآية السيف.
وقرأ الجمهور { في غمرتهم } وعليّ بن أبي طالب وأبو حيوة والسلمي في غمراتهم على الجمع لأن لكل واحد غمرة ، وعلى قراءة الجمهور فغمرة تعم إذا أضيفت إلى عام.
وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال الشاعر :
كأني ضارب في غمرة لعب . . .
سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخره انتهى.
ثم وقفهم تعالى على خطأ رأيهم في أن نعمة الله عليهم بالمال ونحوه إنما هي لرضاه عن حالهم ، وبيّن تعالى أن ذلك إنما هو إملاء واستدراج إلى المعاصي واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعاجلة بالإحسان.
وقرأ ابن وثاب { إنما نمدهم } بكسر الهمزة.
وقرأ ابن كثير في رواية يمدهم بالياء ، وما في { أنما } إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها ، وخبر إن هي الجملة من قوله { نسارع لهم في الخيرات } والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره : نسارع لهم به في الخيرات ، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس.
وتقدم نظيره في قوله { إنما نمدهم به } وقال هشام بن معونة : الضرر الرابط هو الظاهر وهو { في الخيرات } وكان المعنى { نسارع لهم } فيه ثم أظهر فقال { في الخيرات } فلا حذف على هذا التقدير ، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو { نسارع } على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل ، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات.
وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف ، ويجوز الوقف على { وبنين } كما تقول حسبت إنما يقوم زيد ، وحسبت أنك منطلق ، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى ، وإن كان في ما يقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر.
وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل { نسارع } ضمير يعود على ما بمعنى الذي ، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع ، هو أي إمدادنا.
وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول.
وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع { بل لا يشعرون } إضراب عن قوله { أيحسبون } أي بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور فيتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخير وفيه تهديد ووعيد.
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم والإشفاق أبلغ التوقع والخوف ومنهم من حمل الخشية على العذاب والمعنى والذين هم من عذاب رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وهو قول الكلبي ومقاتل و مّنْ خَشْيَةِ متعلق بمشفقون قاله الحوفي وقال ابن عطية و مِنْ في مّنْ خَشْيَةِ هي لبيان جنس الإشفاق والإشفاق إنما هو من عذاب الله والآيات تعم القرآن والعبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر وفي كل شيء له آية
ثم ذكر نفي الإشراك وهو عبادتهم آلهتهم التي هي الأصنام إذ لكفار قريش أن تقول نحن نؤمن بآيات ربنا ونصدق بأنه المخترع الخالق وقيل ليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشرك لله لأن ذلك داخل في قوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ المراد نفي الشرك للحق وهو أن يخلصوا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله وطلب رضوانه وقرأ الجمهور يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن لا يقبل منهم لتقصيرهم أنهم أي وجلة لأجل رجوعهم إلى الله أي خائفة لأجل ما يتوقعون من لقاء الجزاء قال ابن عباس وابن جبير هو عام في جميع أعمال البر كأنه قال والذين يفعلون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما أتوا من الإتيان أي يفعلون ما فعلوا قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله قال ( لا يا ابنة الصديق ولكنه هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل ) قيل وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة والطاعة تطلب التصحيح وقال الحسن المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً وقرأ الأعمش أَنَّهُمْ بالكسر وقال أبو عبد الله الرازي ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز والثانية على تحصيل الإيمان بالله والثالثة على ترك الرياء في الطاعة والرابعة على أن المستجمع لهذه الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع خوف من التقصير وهو نهاية مقامات الصديقين انتهى
أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ جملة في موضع خبر أن قال ابن زيد الخَيْرَاتِ المخافتة والإيمان والكف عن الشرك قال الزمخشري يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ يحتمل معنيين أحدهما أن يراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا المنافع ووجوه الإكرام كما قال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين انتهى وقرأ الحر النحوي يسرعون مضارع أسرع يقال أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد وأما المسارعة فالمسابقة أي يسارعون غيرهم قال الزجاج يُسَارِعُونَ أبلغ من يسرعون انتهى وجهة المبالغة أن المفاعلة تكون من اثنين فتقتضي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه
وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ الظاهر أن الضمير في لَهَا عائد على الخَيْرَاتِ أي سابقون إليها تقول سبقت لكذا وسبقت إلى كذا ومفعول سَابِقُونَ محذوف أي سابقون الناس وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله يُسَارِعُونَ وثبوته بقوله سَابِقُونَ وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله وقال الزمخشري لَهَا سَابِقُونَ أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها انتهى وهذان القولان عندي واحد قال أيضاً أو إياها سابقون أي ينالوها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا انتهى ولا يدل لفظ لَهَا سَابِقُونَ على هذا التفسير لأن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال لهم وهم يسبقون الخيرات هذا لا يصح وقال أيضاً ويجوز أن كون لَهَا سَابِقُونَ خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى وهذا مروي عن ابن عباس قال المعنى سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى انتهى والظاهر القول الأول وباقيها متعسف وتحميل للفظ غير ظاهره وقيل الضمير في لَهَا عائد على لجنة وقيل على الأمم
وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في آخر البقرة وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق يشير إلى الصحف الت يقرؤون فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ وقيل القرآن
بَلْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء مّنْ هَاذَا أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون أو من الكتاب الذي لدينا أو من القرآن والمعنى من اطراح هذا وتركه أو يشير إلى الذين بجملته أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم ) أقوال خمسة وَلَهُمْ أَعْمَالٌ من دون ذلك أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم فالمعنى أنهم ضالون معرضون عن الحق وهم مع ذلك لهم سعايات فساد وصفهم تعالى بحالتي شر قال هذا المعنى قتادة وأبو العالية وعلى هذا التأويل الإخبار عما سلف من أعمالهم وعماهم فيه وقيل الإشارة بذلك إلى قوله مّنْ هَاذَا وكأنه قال لهم أعمال من دون الحق أو القرآن ونحوه وقال الحسن ومجاهد إنما أخبر بقوله وَلَهُمْ أَعْمَالٌ عما يستأنف من أعمالهم أي أنهم لهم أعمال من الفساد وعن ابن عباس أَعْمَالٌ سيئة دون الشرك وقال الزمخشري وَلَهُمْ أَعْمَالٌ متجاوزة متخطئة لذلك أي لما وصف به المؤمنون هم معتادون وبها ضارون ولا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب و حَتَّى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية انتهى وقيل الضمير في قوله بَلِ يعود إلى المؤمنين المشفقين هُمْ فِى غَمْرَةٍ من هذا وصف لهم بالحيرة كأنه قيل وَهُمْ مع ذلك الخوف والوجل كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه ويريد بالأعمال الأول الفرائض وبالثاني النوافل
حتى إذا أخذنا مترفيهم رجوع إلى وصف الكفار قاله أبو مسلم قال أبو عبد الله الرازي وهو أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما اتصل به كان أولى من رده إلى ما بعده خصوصاً وقد رغب المرء في الخير بأن يذكر أن أعمالهم محفوظة كما يحذر بذلك من الشر وأن يوصف بشدة فكرة في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبوله أو رده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر فإن قيل فما المراد بقوله مّنْ هَاذَا قلنا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم بين استيلاء ذلك على قلوبهم انتهى وتقدم قول الزمخشري في حَتَّى أنها التي يبتدأ بعدها الكلام وأنها غاية لما قبلها وقد ردّ ذلك أنهم معتادون لها حتى يأخذهم الله بالعذاب وقال الحوفي حَتَّى غاية وهي عاطفة إِذَا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط إِذَا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إِذَا والتقدير جأروا فيكون جأد العامل في إِذَا الأولى والعامل في الثانية أَخَذْنَا انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلاً أن يرد
وقال ابن عطية و حَتَّى حرف ابتداء لا غير و إِذَا الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى وقال مكي أي لكفار قريش أعمال من الشر دون أعمال أهل البر لَهَا عَامِلُونَ إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يضجون ويستغيثون والمترفون المنعمون والرؤساء والعذاب القحط سبع سنين والجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقال ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد وقيل العذاب قتلهم يوم بدر وقيل عذاب الآخرة والظاهر أن الضمير في إِذَا هُمْ عائد على مُتْرَفِيهِمْ إذ هم المحدث عنهم صاحوا حين نزل بهم العذاب وقيل يعود على الباقين بعد المعذبين قال ابن جريج المعذبون قتلى بدر والذين يَجْئَرُونَ أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا
لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ أي يقال لهم إما حقيقة تقول لهم الملائكة ذلك وإما مجازاً أي لسان الحال يقول ذلك هذا إن كان الذين يجأرون هم المعذبون وعلى قول ابن جريج ليس القائل الملائكة وقال قتادة يَجْئَرُونَ يصرخون بالتوبة فلا يقبل منهم وقال الربيع بن أنس تجأرون تجزعون عبر بالصراخ بالجزع إذ الجزع سببه إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ أي لا تمنعون من عذابنا أو لا يكون لكم نصر من جهتنا فالجوار غير نافع لكم ولا مجد
قَدْ كَانَتْ ءايَتِى هي آيات القرآن تَنكِصُونَ ترجعون استعارة للإعراض عن الحق وقرأ علي بن أبي طالب تَنكِصُونَ بضم الكاف والضمير في بِهِ عائد على المصدر الدال عليه تَنكِصُونَ أي بالنكوص والتباعد من سماع الآيات أو على الآيات لأنها في معنى الكتاب وضمن مُسْتَكْبِرِينَ معنى مكذبين فعُدِّي بالباء أو تكون الباء للسبب أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو والجمهور على أن الضمير في بِهِ عائد على الحرم والمسجد وإن لم يجر له ذكر وسوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وأنه لم تكن لهم معجزة إلاّ أنهم ولاته والقائمون به وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) ويحسنه أن في قوله تُتْلَى عَلَيْكُمْ دلالة على التالي وهو الرسول عليه السلام وهذه أقوال تتعلق فيها بمستكبرين وقيل تتعلق بسامراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب من أتى به
وقرأ الجمهور سَامِراً وابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمر وسمراً بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر وابن عباس أيضاً وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك كذلك وبزيادة ألف بين الميم والراء جمع سامر أيضاً وهما جمعان مقيسان في مثل سامر
وقرأ الجمهور تَهْجُرُونَ بفتح التاء وضم الجيم وروى ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات قال ابن عباس تَهْجُرُونَ الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر وقال ابن زيد وأبو حاتم من هجر المريض إذا هذى أي يقولون اللغو من القول وقرأ ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد بضم التاء وكسر الجيم مضارع اهجر أي يقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش قال ابن عباس إشارة إلى السب للصحابة وغيرهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضاً وزيد بن عليّ وعكرمة وأبو نهيك وابن محيصن أيضاً وأبو حيوة كذلك إلاّ أنهم فتحوا الهاء وشددوا الجيم وهو تضعيف من هجر ماضي الهجر بالفتح بمعنى مقابل الوصل أو الهذيان أو ماضي الهجر وهو الفحش وقال ابن جني لو قيل إن المعنى أنكم مبالغون في المجاهرة حتى أنكم إن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على الاقتضاح لكان وجهاً
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، أي أفلم يتفكروا فيما جاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به ، وبخهم ووقفهم على تدبره وأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد قال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر ، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولاً بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانياً بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ، أي إرسال الرسل ليس بدعاً ولا مستغرباً بل جاءت الرسل الأمم قبلهم ، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب آباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان ، وروي : لا تسبوا مضر ، ولا ربيعة ، ولا الحارث بن كعب ، ولا أسد بن خزيمة ، ولا تميم بن مرة ولا قساً وذكر أنهم كانوا مسلمين وأن تبعاً كان مسلماً وكان على شرطه سليمان بن داود وبخهم ثالثاً بأنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش ، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له صلى الله عليه وسلم طرقت آذان قريش فلم تنكر منها شيئاً أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلاً ، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه.
ثم وبخهم رابعاً بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل ، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سبباً لانقيادهم إلى الحق لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتاً وأوصافاً وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية ، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشؤوا عليه من اتباع الباطل ، ولما لم يجدوا له مدفعاً لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.
{ بل جاءهم بالحق } أي بالقرآن المشتمل على التوحيد وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا.
{ وأكثرهم للحق كارهون } يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكباراً من توبيخ قومه أن يقولوا : صبأ وترك دين آبائه { ولو اتبع الحق أهواءهم } قرأ ابن وثاب { ولو اتبع } بضم الواو والظاهر أنه { الحق } الذي ذكر قبل في قولهم { بل جاءهم بالحق } أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعاً أهواءهم لانقلب شراً وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه.
وقال أيضاً : دل بهذا على عظم شأن الحق ، فلو { اتبع أهواءهم } لانقلب باطلاً ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام.
وقيل : لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذلك حقاً لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي ، وكان في ذلك فساد السموات والأرض.
وقيل : كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لم يصح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا } وقيل : كانت آراؤهم متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم.
وقال قتادة { الحق } هنا الله تعالى.
فقال الزمخشري : معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلهاً ولما قدر على أن يمسك السموات والأرض.
وقال ابن عطية : ومن قال إن { الحق } في الآية هو الله تعالى وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح تشعب له لفظة { اتبع } وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق ، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سموات ، وأما نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله انتهى.
وقرأ الجمهور : بنون العظمة وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو ويونس عن أبي عمرو بياء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضاً وأبو البر هثيم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول عليه السلام ، وأبو عمرو في رواية { آتيناهم } بالمد أي أعطيناهم ، والجمهور { بذكرهم } أي بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس.
وقرأ عيسى بذكراهم بألف التأنيث ، وقتادة نذكرهم بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح ، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا.
وقال الزمخشري : { بذكرهم } أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم ، وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين.
{ أم تسألهم خرجاً } هذا استفهام توبيخ أيضاً المعنى بل أتسألهم مالاً فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله ، قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال { أم تسألهم } على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق والكثير من عطاء الخالق خير فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره علنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلاّ إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر انتهى.
وتقدم الكلام في قوله { خرجاً فخراج } في قوله تعالى { فهل نجعل لك خرجاً } في الكهف قراءة ومدلولاً.
وقرأ الحسن وعيسى خراجاً فخرج فكلمت بهذه القراءة أربع قراءات ، وفي الحرفين { فخراج ربك } أي ثوابه لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان.
وقال الكلبي : فعطاؤه لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة.
وقيل : فرزقه ويؤيده { خير الرازقين } قال الجبائي : { خير الرازقين } دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده ، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً انتهى.
وهذا مدلول { خير } الذي هو أفعل التفضيل ومدلول { الرازقين } الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل.
ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } وهو دين الإسلام ، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلاّ من كان راجياً للثواب خائفاً من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه ، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة ، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار.
قال ابن عباس : { لناكبون } لعادلون.
وقال الحسن : تاركون له.
وقال قتادة : حائرون.
وقال الكلبي : معرضون ، وهذه أقوال متقاربة المعنى.
{ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر } قيل : هو الجوع.
وقيل : القتل والسبي.
وقيل : عذاب الآخرة أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد وهذا القول بعيد بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله { ولقد أخذناهم بالعذاب } إلى آخر الآية استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولاً ، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم.
والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج.
وسبب نزول الآية دليل على ذلك روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة ، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت الرحمة للعالمين؟ فقال : «بلى» فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية.
والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الهزل والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله والمؤمنين وإفراطهم فيها.
وقيل : المعنى ولو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما ريء فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبوا بنار جهنم أبلسوا ، كقوله { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } { لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون } فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة ، وعلى الأول كان في الدنيا.
ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول : استحال انتقل من حال إلى حال ، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباع بابه لشعر كقوله :
أعوذ بالله من العقراب . . .
الشائلات عقد الأذناب
ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة ، ألا ترى أن من أشبع في قوله :
ومن ذم الزمان بمنتزاح . . .
لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح ، وأنت تقول : استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة ، وتخالف { استكانوا } و { يتضرعون } في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين.
قال الزمخشري : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد.
والملبس : الآيس من الشر الذي ناله.
وقرأ السلمي { مبلسون } بفتح اللام.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
الهمز : النخس والدفع بيد وغيرها ، ومنه مهماز الرائض وهمز الناس باللسان.
البرزخ : الحاجز بين المسافتين.
وقيل : الحجاب بين الشيئين يمنع أحدهما أن يصلى إلى الآخر.
النسب : القرابة من جهة الولادة.
اللفح : إصابة النار الشيء بوهجها وإحراقها.
وقال الزجاج : اللفح أشد من اللقيح تأثيراً.
الكلوح : تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح كلوح الكلب والأسد.
وقيل : الكلوح بسور الوجه وهو تقطيبه ، وكلح الرجل كلوحاً وكلاحاً ودهر كالح وبرد كالح شديد.
العبث : اللعب الخالي عن فائدة.
{ وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الذى * الذى ذَرَأَكُمْ فِى الارض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف اليل والنهار أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاولون * قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين * قُل لّمَنِ الارض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ * بَلْ أتيناهم بالحق وَإِنَّهُمْ لكاذبون * مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ * عالم الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
مناسبة { وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ } لما قبله أنه لما بيَّن إعراض الكفار عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق خاطب قيل المؤمنين ، والظاهر العالم بأسرهم تنبيهاً على أن من لم يعمل هذه الأعضاء في ما خلقه الله تعالى وتدبر ما أودعه فيها من الدلائل على وحدانيته وباهر قدرته فهو كعادم هذه الأعضاء ، وممن قال تعالى فيهم { فَمَا أَغْنِى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء } فمن أنشأ هذه الحواس وأنشئت هي له وأحيا وأمات وتصرف في اختلاف الليل والنهار هو قادر على البعث.
وخص هذه الأعضاء بالذكر لأنه يتعلق بها منافع الدين والدنيا من أعمال السمع والبصر في آيات الله والاستدلال بفكر القلب على وحدانية الله وصفاته ، ولما كان خلقها من أتم النعم على العبد قال { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي تشكرون قليلاً و { مَا } زائدة للتأكيد.
ومن شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها ونفي الند والشريك.
و { ذَرَأَكُمْ } خلقكم وبثكم فيها.
{ وَإِلَيْهِ } أي وإلى حكمه وقضائه وجزائه { تُحْشَرُونَ } يريد البعث والجمع في الآخرة بعد التفرق في الدنيا والاضمحلال.
{ وَلَهُ اختلاف اليل والنهار } أي.
هو مختص به ومتوليه وله القدرة التي ذلك الاختلاف عنها.
والاختلاف هنا التعاقب أي يخلف هذا هذا.
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من هذه تصرفات قدرته وآثار قهره فتوحدونه وتنفون عنه الشركاء والأنداد ، إذ هم ليسوا بقادرين على شيء من ذلك.
وقرأ أبو عمرو في رواية : يعقلون بياء الغيبة على الالتفات.
{ بَلْ قَالُواْ } { بَلِ } إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات { بَلْ قَالُواْ } والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار.
ولما اتخذوا من دون الله تعالى آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط جهلهم بكونهم يقرون بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شيء وهم مع ذلك ينسبون له الولد ويتخذون له شركاء.
وقرأ عبد الله والحسن والجحدري ونصر بن عاصم وابن وثاب وأبو الأشهب وأبو عمرو من السبعة { سَيَقُولُونَ * الله } الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعاً وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام.
وقرأ باقي السبعة { لِلَّهِ } فيها بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظاً ومعنى ، والثانية جاءت على المعنى لأن قولك : من رب هذا؟ ولمن هذا؟ في معنى واحد ، ولم يختلف في الأول أنه باللام.
وقرأ ابن محيصن { العظيم } برفع الميم نعتاً للرب ، وتقول أجرت فلاناً على فلان إذا منعته منه أي وهو يمنع من يشاء ممن يشاء ولا يمنع أحد منه أحداً.
ولا تعارض بين قوله { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا ينفي عنهم وبين ما حكي عنهم من قولهم.
{ سَيَقُولُونَ * الله } لأن قوله { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا ينفي علمهم بذلك ، وقد يقال مثل ذلك في الاحتجاج على وجه التأكيد لعلمهم ، وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرض ومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه ممن في الأرض ملكاً له الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهي أبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركوا به.
وختم ما بعد هذه بقوله { فَإِنّي * تُسْحَرُونَ } مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به في الاحتجاج وأني بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهم عن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته ، والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك.
وقرىء بل آتيتهم بتاء المتكلم ، وابن أبي إسحاق بتاء الخطاب { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما ينسبون إلى الله تعالى من اتخاذ الولد ومن الشركاء وغير ذلك مما هم فيه كاذبون.
ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } أي وما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق به من الصفات العلى ، فنفي الولد تنبيه على من قال : الملائكة بنات الله ، ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال : الأصنام آلهة ، ويحتمل أن يراد به إبطال قول النصارى والثنوية و { مِن وَلَدٍ } و { مِنْ إِلَهٍ } نفي عام يفيد استغراق الجنس ، ولهذا جاء { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله } ولم يأت التركيب إذاً لذهب الإله.
ومعنى { لَذَهَبَ } أي لا نفرد { كُلُّ إله } بخلقه الذي خلق واستبد به وتميز ملك كل واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضاً كحال ملوك الدنيا ، وإذا لم يقع الإنفراد والتغالب فاعلموا أنه إله واحد وإذا لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالو : فالشرط محذوف تقديره ، ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } عليه وهذا قول الفراء : زعم أنه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجاً لها على غير هذا في قوله { وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } في سورة الإسراء : والظاهر أن ما في { بِمَا خَلَقَ } بمعنى الذي وجوز أن تكون مصدرية.
{ سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } تنزيه عن الولد والشريك.
وقرىء عما تصفون بتاء الخطاب.
وقرأ الإبنان وأبو عمرو وحفص { عالم } بالجر.
قال الزمخشري : صفة لله.
وقال ابن عطية : اتباع للمكتوبة.
وقرأ باقي السبعة وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع.
قال الأخفش : الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد.
قال أبو عليّ الرفع أن الكلام قد انقطع ، يعني أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو { عالم }.
وقال ابن عطية : والرفع عندي أبرع.
والفاء في قوله { فتعالى } عاطفة فالمعنى كأنه قال { عالم الغيب والشهادة فتعالى } كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته أي شجع فعظمت ، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ } على إخبار مؤتنف.
و { الغيب } ما غاب عن الناس و { الشهادة } ما شاهدوه انتهى.
{ قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ * رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين * وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون * ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ * حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبّ ارجعون * لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خالدون * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كالحون }.
لما ذكر ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك له ، وكان تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ينتقم منهم ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته ، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء أي إن ترني ما تعدهم واقعاً بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم ، ومعلوم أنه عليه السلام معصوم مما يكون سبباً لجعله معهم ، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهاراً للعبودية وتواضعاً لله ، واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة من هذا القبيل.
وقال أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم.
قال الحسن : كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه.
وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل : الجزاء مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع ، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد.
وقرأ الضحاك وأبو عمر إن الجوني ترئني بالهمز بدل الياء ، وهذا كما قرىء فأما ترئن ولترؤن بالهمز وهو إبدال ضعيف ، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته عليه الصلاة والسلام ولكن تأخيره لأجل يستوفون ، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا.
فقيل : يوم بدر.
وقيل : فتح مكة.
وقيل : هو عذاب الآخرة.
ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلاّ الله و { السيئة } الشرك.
وقال الحسن : الصفح والإغضاء.
وقال عطاء والضحاك : السلام إذا أفحشوا.
وحكى الماوردي : { ادفع } بالموعظة المنكر والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء و { التى هِىَ أَحْسَنُ } أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل ، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن.
قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
وقيل : هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة.
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } يقتصي أنها آية موادعة ، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه.
ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نحسات الشياطين والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به كما يهمز الرائض الدابة لتسرع ، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه.
وقال ابن زيد : همز الشيطان الجنون ، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت.
وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن.
{ حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت } قال الزمخشري : { حتى } يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم ، أو على قوله وإنهم لكاذبون انتهى.
وقال ابن عطية : { حتى } في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى.
فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر.
وقال أبو البقاء { حتى } غاية في معنى العطف ، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم { حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت } ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر :
فياً عجباً حتى كليب تسبني . . .
أي يسبني الناس حتى كليب ، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها.
وقال القشيري : احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ثم قال : مصرون على الإنكار { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم انتهى.
وجمع الضمير في { ارجعون } إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع تعظيماً كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع.
وقال الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم . . .
وقال آخر :
ألا فارحموني يا إله محمد . . .
وإما استغاث أولاً بربه وخاطب ملائكة العذاب وقاله ابن جريج.
والظاهر أن الضمير في { أَحَدِهِمْ } راجع إلى الكفار ، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك.
وقال ابن عباس : من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة.
فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلاً لقوله { وَأَنفِقُواْ مِمَّا * رزقناكم } آية سورة المنافقين.
وقال الأوزاعي : هو مانع الزكاة ، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث : « إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة : نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله ، وأما الكافر فيقول : ارجعون لعلي أعمل صالحاً »
ومعنى { فِيمَا تَرَكْتُ } في الإيمان الذي تركته والمعنى لعلي آتى بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحاً كما تقول : لعلي أبني على أس ، يريد أؤس أساً وأبني عليه.
وقيل : { فِى مَا * تَرَكْتُ } من المال على ما فسره ابن عباس : { كَلاَّ } كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد.
فقيل : هي من قول الله لهم.
وقيل : من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ، ومعنى { هُوَ قَائِلُهَا } لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه ، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث { وَمِن وَرَائِهِمْ } أي الكفار { بَرْزَخٌ } حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث.
وفي هذه الجملة اقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا ، وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه.
وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض { فِى الصور } بفتح الواو جمع صورة ، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو ، وكذا فأحسن صوركم وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء شاذ.
{ فَلاَ أنساب } نفي عام ، فقال ابن عباس : عند النفخة الأولى يموت الناس فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات ، وهذا القول يزبل هول الحشر.
وقال ابن مسعود وغيره : عند قيام الناس من القبور فلهول المطلع اشتغل كل امرىء بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب.
وعن قتادة : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة ، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
وقيل : { فَلاَ أنساب } أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعدّ لهم من ثواب وعقاب ، وإنما التواصل بالأعمال.
وقرأ عبد الله ولا يساءلون بتشديد السين أدغم التاء في السين إذ أصله { يَتَسَاءلُونَ } ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } لأن يوم القيامة مواطن ومواقف ، ويمكن أن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى ، وأما في الثانية فيقع التساؤل.
وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في أوائل الأعراف.
وقال الزمخشري؛ { فِى جَهَنَّمَ خالدون } بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف انتهى.
جعل { فِى جَهَنَّمَ } بدلاً { مِنْ * خَسِرُواْ } وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به { فِى جَهَنَّمَ } أي استقروا في جهنم ، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون { الذين } نعتاً لأولئك ، وخبر { أولئك } { فِى جَهَنَّمَ } والظاهر أن يكون خبراً لأولئك لا نعتاً.
وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان ، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء ، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح.
ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته قال هذا حديث حسن صحيح.
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة كلحون بغير ألف.
{ أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون * قَالَ * اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون * قال كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم * وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون * وَقُل }.
يقول الله لهم على لسان من يشاء من ملائكته { أَلَمْ تَكُنْ ءاياتى } وهي القرآن ، ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم { غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } من قولهم : غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه ، والشقاوة سوء العاقبة.
وقيل : الشقوة الهوى وقضاء اللذات لأن ذلك يؤدي إلى الشقوة.
أطلق اسم المسبب على السبب قاله الجبائي.
وقيل : ما كتب علينا في اللوح المحفوظ وسبق به علمك.
وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم : شقاوتنا بوزن السعادة وهي لغة فاشية ، وقتادة أيضاً والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه كذلك إلاّ أنه بكسر الشين ، وباقي السبعة والجمهور بكسر الشين وسكون القاف وهي لغة كثيرة في الحجاز.
قال الفراء : أنشدني أبو ثروان وكان فصيحاً :
علق من عنائه وشقوته . . .
بنت ثماني عشرة من حجته
وقرأ شبل في اختياره بفتح الشين وسكون القاف.
{ وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ } أي عن الهدى ، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والإقرار بالذنب اعتذار ، فقالوا { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا } أي من جهنم { فَإِنْ عُدْنَا } أي إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك { فَإِنَّا ظالمون } أي متجاوز والحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولاً ثم سومحنا فظلمنا ثانياً.
وحكى الطبري حديثاً طويلاً في مقاولة تكوين بين الكفار وبين مالك خازن النار ، ثم بينهم وبين ربهم جل وعز وآخرها { قَالَ * اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ } قال وتنطبق عليهم جهنم ويقع اليأس ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض.
قال ابن عطية : واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته ، لكن معناه صحيح ومعنى { *اخسؤوا } أي ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا ازجرت ، يقال : خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعدياً ولازماً.
و { لا * تُكَلّمُونِ } أي في رفع العذاب أو تخفيفه.
قيل : هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلاّ الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون.
{ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين }.
قرأ أبيّ وهارون العتكي { أَنَّهُ } بفتح الهمزة أي لأنه ، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة والفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين ، وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ ، ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم ، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر.
وقرأ حمزة والكسائي ونافع { سِخْرِيّاً } بضم السين وباقي السبعة بالكسر.
قال الزمخشري : مصدر سخر كالسخر إلاّ أن في ياء النسب زيادة قوة في الفعل ، كما قيل : الخصوصية في الخصوص وهما بمعنى الهزء في قول الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه.
وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء : ضم السين من السخرة والاستخدام والكسر من السخر وهو الاستهزاء.
ومنه قول الأعشى :
إني أتاني حديث لا أسرّ به . . .
من علو لا كذب فيه ولا سخر
وقال يونس : إذا أريد التخديم فضم السين لا غير ، وإذا أريد الهزء فالضم والكسر.
قال ابن عطية.
وقرأ أصحاب عبد الله وابن أبي إسحاق والأعرج بضم السين كل ما في القرآن.
وقرأ الحسن وأبو عمرو بالكسر إلاّ التي في الزخرف فإنهما ضما السين كما فعل الناس انتهى.
وكان قد قال عن أبي عليّ يعني الفارسي أن قراءة كسر السين أوجه لأنه بمعنى الاستهزاء ، والكسر فيه أكثر وهو أليق بالآية ألا ترى قوله { وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } انتهى قول أبي عليّ ثم قال ابن عطية : ألا ترى إلى إجماع القراء على ضم السين في قوله { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } لما تخلص الأمر للتخديم انتهى.
وليس ما ذكره من إجماع القراء على ضم السين في الزخرف صحيحاً لأن ابن محيصن وابن مسلم كسرا في الزخرف ، ذكر ذلك أبو القاسم بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل.
{ فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } أي هزأة تهزوؤن منهم { حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى } أي بتشاغلكم بهم فتركتم ذكري أي أن تذكروني فتخافوني في أوليائي ، وأسند النسيان إلى فريق المؤمنين من حيث كان سببه.
وقرأ زيد بن عليّ وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع { إِنَّهُمْ هُمُ } بكسر الهمزة وباقي السبعة بالفتح ، ومفعول { جَزَيْتُهُمُ } الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني.
وقال الزمخشري : في قراءة من قرأ { أَنَّهُمْ } بالفتح هو المفعول الثاني أي { جَزَيْتُهُمُ } فوزهم انتهى.
والظاهر أنه تعليل أي { جَزَيْتُهُمُ } لأنهم ، والكسر هو على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلى عامل.
و { الفائزون } الناجون من هلكة إلى نعمة.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير { قال كَمْ } والمخاطب ملك يسألهم أو بعض أهل النار ، فلذا قال عبر عن القوم.
وقرأ باقي السبعة قال.
والقائل الله تعالى أو المأمور بسؤالهم من الملائكة.
وقال الزمخشري : قال في مصاحف أهل الكوفة و { قُلْ } في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام.
وقال ابن عطية : وفي المصاحف قال فيهما إلاّ في مصحف الكوفة فإن فيه { قُلْ } بغير ألف ، وتقدم إدغام باب لبثت في البقرة سألهم سؤال توقيف على المدة.
وقرأ الجمهور { عَدَدَ سِنِينَ } على الإضافة و { كَمْ } في موضع نصب على ظرف الزمان وتمييزها عدد.
وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عدداً بالتنوين.
فقال أبو الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح { سِنِينَ } نصب على الظرف والعدد مصدر أقيم مقام الأسم فهو نعت مقدم على المنعوت ، ويجوز أن يكون معنى { لَّبِثْتُمْ } عددتم فيكون نصب عدداً على المصدر و { سِنِينَ } بدل منه انتهى.
وكون { لَّبِثْتُمْ } بمعنى عددتم بعيد.
ولما سئلوا عن المدة التي أقاموا فيها في الأرض ويعني في الحياة الدنيا قاله الطبري وتبعه الزمخشري فنسوا الفرط هول العذاب حتى قالوا { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أجابوا بقولهم { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ترددوا فيما لبثوا قاله ابن عباس.
وقيل : أريد بقوله { فِى الارض } في جوف التراب أمواتاً وهذا قول جمهور المتأولين.
قال ابن عطية : وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث ، وكانوا قولهم أنهم لا يقومون من التراب قيل لهم لما قاموا { كَمْ لَبِثْتُمْ } وقوله آخراً { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } يقتضي ما قلناه انتهى.
{ فَاسْأَلِ العادين } خطاب للذي سألهم.
قال مجاهد : { العادين } الملائكة أي هم الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم.
وقال قتادة : أهل الحساب ، والظاهر أنهم من يتصف بهذه الصفة ملائكة أو غيرهم لأن النائم والميت لا يعد فيتقدر له الزمان.
وقال الزمخشري : والمعنى لا نعرف من عدد تلك السنين إلاّ أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن يعدكم بفي فسئل من فيه أن يعد ومن يقدر أن يلقي إليه فكره انتهى.
وقرأ الحسن والكسائي في رواية { العادين } بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما تقول.
قال ابن خالويه : ولغة أخرى العاديين يعني بياء مشددة جمع عادي يعني للقدماء.
وقال الزمخشري : وقرىء العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم يستقصرونها فيكف بمن دونهم.
وقرأ الأخوان { قُلْ إِنْ * لَّبِثْتُمْ } على الأمر ، وباقي السبعة و { ءانٍ } نافية أي ما { لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي قريب ولكنكم كذبتم به إذ كنتم لا تعلمون أي لم ترغبوا في العلم والهدى وانتصب { عَبَثاً } على الحال أي عابثين أو على أنه مفعول من أجله ، والمعنى في هذا ما خلقناكم للعبث ، وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة.
وقرأ الأخوان { لاَ تُرْجَعُونَ } مبنياً للفاعل ، وباقي السبعة مبنياً للمفعول ، والظاهر عطف { وَإِنَّكُمْ } على { إِنَّمَا } فهو داخل في الحسبان.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على { عَبَثاً } أي للعبث ولترككم غير مرجوعين انتهى.
{ فتعالى الله } أي تعاظم وتنزه عن الصاحبة والولد والشريك والعبث وجميع النقائص ، بل هو { الملك الحق } الثابت هو وصفاته العلي و { الكريم } صفة للعرش لتنزل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير { الكريم } بالرفع صفة لرب العرش أو { العرش } ، ويكون معطوفاً على معنى المدح.
و { مِنْ } شرطية والجواب { فَإِنَّمَا } و { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } صفة لازمة لا للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } ويجوز أن تكون جملة اعتراض إذ فيها تشديد وتأكيد فتكون لا موضع لها من الإعراب كقولك : من أساء إليك لا أحق بالإساءة منه ، فأسيء إليه.
ومن ذهب إلى أن جواب الشرط هو { لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } هروباً من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له برهان فلا يصح لأنه يلزم منه حذف الفاء في جواب الشرط ، ولا يجوز إلاّ في الشعر وقد خرجناه على الصفة اللازمة أو على الاعتراض وكلاهما تخريج صحيح.
وقرأ الحسن وقتادة ( انه ) لايفلح بفتح الهمزة ، أي هو فوضع الكافرون موضع الضمير حملا على معنى من والجمهور بكسر الهمزة وخبر ( حسابه ) الظرف أنه استئناف وقرأ الحسن يفلح بفتح الفاء واللام وافتتح السورة بقوله { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } وأورد في خاتماتها إنه لا يفلح الكافرون فانظر تفاوت بين الإفتتاح والاختتام ، ثم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يدعوا بالغفران والرحمة وقرأابن محيص وقرأ الحسن وقتادة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } بفتح الهمزة أي هو فوضع { الكافرون } موضع الضمير حملاً على معنى من ، والجمهور بكسر الهمزة وخبر { حِسَابُهُ } الظرف و { أَنَّهُ } استئناف.
وقرأ الحسن { يُفْلِحُ } بفتح الفاء واللام ، وافتتح السورة بقوله { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } وأورد في خاتمتها { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } فانظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام.
ثم أمر رسوله عليه السلام بأن يدعو بالغفران والرحمة.
وقرأ ابن محيصن { رَبّ } بضم الباء.
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
هذه السورة مدنية بلا خلاف ، ولما ذكر تعالي مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها عاملون ، واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم ، واتخاذهم الولد والشريك ، وإلى مآلهم في النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوارٍ بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من كسبهم من الزنا ، فأنزل الله أول هذه السورة تغليظاً في أمر الزنا وكان فيما ذكر وكأنه لا يصح ناس من المسلمين هموا بنكاحهن.
وقرأ الجمهور { سورة } بالرفع فجوّزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه { سورة } أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى عليكم.
وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر { الزانية والزاني } وما بعد ذلك ، والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها بدء وختم إلاّ أن يكون المبتدأ ليس بالبين أنه الخبر إلاّ أن يقدر الخبر في السورة كلها وهذا بعيد في القياس و { أنزلناها } في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأمَّ الدرداء { سورةً } بالنصب فخرج على إضمار فعل أي أتلو سورة و { أنزلناها } صفة.
قال الزمخشري : أو على دونك { سورة } فنصب على الإغراء ، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا { سورة أنزلناها } فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب إلاّ أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلاّ إن اعتقد حذف وصف أي { سورة } معظمة أو موضحة { أنزلناها } فيجوز ذلك.
وقال الفراء : { سورة } حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدّم عليه انتهى.
فيكون الضمير المنصوب في { أنزلناها } ليس عائداً على { سورة } وكان المعنى أنزلنا الأحكام { وفرضناها } سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن ، فليست هذه الأحكام ثابتة بالسنة فقط بل بالقرآن ، والسنة.
وقرأ الجمهور { وفرضناها } بتخفيف الراء أي فرضنا أحكامها وجعلناها واجبة متطوّعاً بها.
وقيل : وفرضنا العمل بما فيها.
وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير بتشديد الراء إما للمبالغة في الإيجاب ، وإما لأن فيها فرائض شتى أو لكثرة المفروض عليهم.
قيل : وكل أمر ونهي في هذه السورة فهو فرض.
{ وأنزلنا فيها آيات } بينات أمثالاً ومواعظ وأحكاماً ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل.
وقرأ الجمهور { الزانية والزاني } بالرفع ، وعبد الله والزان بغير ياء ، ومذهب سيبويه أنه مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم { الزانية والزاني } وقوله { فاجلدوا } بيان لذلك الحكم ، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر { فاجلدوا } وجوزه الزمخشري ، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولاً بما يقبل أداة الشرط لفظاً أو تقديراً ، واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن يدخل عليه أداة الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك ، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في النحو.
وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس { الزانية والزاني } بنصبهما على الاشتغال ، أي واجلدوا { الزانية والزاني } كقولك زيداً فاضربه ، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو والنصب هنا أحسن منه في { سورة أنزلناها } لأجل الأمر ، وتضمنت السورة أحكاماً كثيرة فيما يتعلق بالزنا ونكاح الزواني وقذف المحصنات والتلاعن والحجاب وغير ذلك.
فبدىء بالزنا لقبحه وما يحدث عنه من المفاسد والعار.
وكان قد نشأ في العرب وصار من إمائهم أصحاب رايات وقدّمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها ، ولأن زناها أفحش وأكثر عاراً وللعلوق بولد الزنا وحال النساء الحجبة والصيانة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : قدّمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً؟ قلت : سبقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة على المادة التي منها نشأت الجناية ، فإنها لو لم تطمع الرجل ولم تربض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدىء بذكرها ، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب انتهى.
ولا يتم هذا الجواب في الثانية إلاّ إذا حمل النكاح على العقد لا على الوطء.
وأل في { الزانية والزاني } للعموم في جميع الزناة.
وقال ابن سلام وغيره : هو مختص بالبكرين والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول : رأسه وبطنه وظهره أي ضرب رأسه وبطنه وظهره وهذا مطرد في أسماء الأعيان الثلاثية العضوية ، والظاهر اندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج في المجنون ولا الصبيّ بإجماع.
وقال ابن سلام وغيره : واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد.
وقال الحسن وإسحاق وأحمد : يجلد ثم يرجم : وجلد عليّ رضي الله عنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حجة في كون مرجومة أنيس والغامدية لم ينقل جلدهما لأن ذلك معلوم من أحكام القرآن فلا ينقل إلاّ ما كان زائداً على القرآن وهو الرجم ، فلذلك ذكر الرجم ولم يذكر الجلد.
ومذهب أبي حنيفة أن من شرط الإحصان الإسلام ، ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط ، واتفقوا على أن الأَمة تجلد خمسين وكذا العبد على مذهب الجمهور.
وقال أهل الظاهر : يجلد العبد مائة ومنهم من قال : تجلد الأمة مائة إلاّ إذا تزوجت فخمسين ، والظاهر اندراج الذمّيين في الزانية والزاني فيجلدان عند أبي حنيفة والشافعي وإذا كانا محصنين يرجمان عند الشافعي.
وقال مالك : لا حد عليهما والظاهر أنه ليس على الزانية والزاني حد غير الجلد فقط وهو مذهب الخوارج ، وقد ثبت الرجم بالسنة المستفيضة وعمل به بعد الرسول خلفاء الإسلام أبو بكر وعمر وعليّ ، ومن الصحابة جابر وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد ، واختلفوا في التغريب بنفي البكر بعد الجلد.
وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفي الزاني.
وقال الأوزاعي ومالك : ينفي الرجل ولا تنفى المرأة قال مالك : ولا ينفي العبد نصف سنة ، والظاهر أن هذا الجَلد إنما هو على من ثبت عليه الزنا فلو وجدا في ثوب واحد فقال إسحاق يضرب كل واحد منهما مائة جلدة ، وروي عن عمر وعليّ.
وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد : يؤدبان على مذاهبهم في الأدب ، وأما الإكراه فالمكرهة لا حد عليها وفي حد الرجل المكره خلاف وتفصيل بين أن يكرهه سلطان فلا يحد أو غيره فيحد ، وهو قول أبي حنيفة وقول أبي يوسف ومحمد والحسن بن صالح والشافعي لا يحد في الوجهين ، وقول زفر يحد فيهما جميعاً.
والظاهر أنه لا يندرج في الزنا من أتى امرأة من دبرها ولا ذكراً ولا بهيمة.
وقيل : يندرج والمأمور بالجلد أئمة المسلمين ونوابهم.
واختلفوا في إقامة الخارجي المتعلب الحدود.
فقيل له ذلك.
وقيل : لا وفي إقامة السيد على رقيقه.
فقال ابن مسعود وابن عمر وعائشة وفاطمة والشافعي : له ذلك.
وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر : لا ، وقال مالك والليث : له ذلك إلاّ في القطع في السرقة فإنما يقطعه الإمام ، والجلد كما قلنا ضرب الجلد ولم تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا هيئة المجلود ولا لمحل الجلد ولا لصفة الآلة المجلود بها وذلك مذكور في كتب الفقه.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هذا حكم جميع الزناة والزواني أم حكم بعضهم؟ قلت : بل هو حكم من ليس بمحصن منهم ، فإن المحصن حكمه الرجم فإن قلت : اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني لأن قوله { الزانية والزاني } عام في الجميع يتناوله المحصن وغير المحصن قلت : { الزانية والزاني } بدلان على الجنسين المنافيين لجنسي العفيف والعفيفة دلالة مطلقة ، والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعاً فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كما يفعل بالأسم المشترك انتهى.
وليست دلالة اللفظ على الجنسين كما ذكر دلالة مطلقة لأن دلالة عموم الاستغراق مباينة لدلالة عموم البدل وهو الإطلاق ، وليست كدلالة المشترك لأن دلالة العموم هي كل فرد فرد على سبيل الاستغراق ، ودلالة المشترك تدل على فرد فرد على الاستغراق أعني في الاستعمال وإن كان في ذلك خلاف في أصول الفقه ، لكن ما ذكرته هو الذي يصح في النظر واستعمال كلام العرب.
وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد : ولا يأخذكم بالياء لأن تأنيث الرأفة مجاز وحسن ذلك الفصل.
وقرأ الجمهور بالتاء الرأفة لفظاً.
وقرأ الجمهور { رأفة } بسكون الهمزة وابن كثير بفتحها وابن جريج بألف بعد الهمزة.
وروي هذا عن عاصم وابن كثير ، وكلها مصادر أشهرها الأول والرأفة المنهي أن تأخذ المتولين إقامة الحد.
قال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء : هي في إسقاط الحد ، أي أقيموه ولا يدرأ هذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما.
ومن مذهبهم أن الحد في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد.
وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما : الرأفة المنهي عنها هي في تخفيف الضرب على الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الفرية والخمر ويشدد ضرب الزنا.
وقال الزمخشري : والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجد والمتانة فيه ، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده انتهى.
فهذا تحسين قول أبي مجلز ومن وافقه.
وقال الزهري : يشدّد في الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب.
وقال مجاهد والشعبي وابن زيد : في الكلام حذف تقديره { ولا تأخذكم بهما رأفة } فتعطلوا الحدود ولا تقيموها.
والنهي في الظاهر للرأفة والمراد ما تدعو إليه الرأفة وهو تعطيل الحدود أو نقصها ومعنى { في دين الله } في الإخلال بدين الله أي بشرعه.
قيل : ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الحكم { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } تثبيت وحض وتهييج للغضب لله ولدينه ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل ، وأمر تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظاً على الزناة وتوبيخاً لهم بحضرة الناس ، وسمى الجلد عذاباً إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل ، والطائفة المأمور بشهودها ذلك يدل الاشتقاق على ما يكون يطوف بالشيء وأقل ما يتصور ذلك فيه ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة الحافة بالشيء.
وعن ابن عباس وابن زيد في تفسيرها أربعة إلى أربعين.
وعن الحسن : عشرة.
وعن قتادة والزهري : ثلاثة فصاعداً.
وعن عكرمة وعطاء : رجلان فصاعداً وهو مشهور قول مالك.
وعن مجاهد : الواحد فما فوقه واستعمال الضمير الذي للجمع عائداً على الطائفة في كلام العرب دليل على أنه يراد بها الجمع وذلك كثير في القرآن.
{ الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة } الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره ، ومعنى { لا ينكح } لا يطأ وزاد { المشركة } في التقسيم ، فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلاّ زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة ، والنكاح بمعنى الجماع مروي عن ابن عباس هنا.
وقال الزمخشري : وقيل المراد بالنكاح الوطء وليس بقول لأمرين.
أحدهما : أن هذه الكلمة أينما وردت في القرآن لم يرد بها إلاّ معنى العقد.
والثاني : فساد المعنى وأداؤه إلى قولك الزاني لا يزني إلاّ بزانية ، والزانية لا تزني إلا بزان انتهى.
وما ذكره من الأمر الأول أخذه من الزجاج قال : لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج وليس كما قال ، وفي القرآن حتى تنكح زوجاً غيره ، وبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بمعنى الوطء.
وأما الأمر الثاني فالمقصود به تشنيع الزنا وتشنيع أمره وأنه محرم على المؤمنين.
وقال الزمخشري : وأخذه من الضحاك وحسنه الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا ، والخبث لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته ، وإنما يرغب في فاسقه خبيثة من شكله ، أو في مشركة.
والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين ، ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم محظور لما فيه من التشبه بالفساق ، وحضور.
موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين ، كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب وإقدامه على ذلك انتهى.
وعن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أنها في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات ، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كن من عادتهن الإنفاق على من ارتسم بزواجهن ، فنزلت الآية بسببهن والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية وقوله { لا ينكح } أي لا يتزوج ، وعلى هذين التأويلين فيه معنى التفجع عليهم وفيه توبيخ كأنه يقول : الزاني لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، أي تنزع نفوسهم إلى هذه الخسائس لقلة انضباطهم ، ويرد على هذين التأويلين الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك في قومه { وحرم ذلك على المؤمنين }.
أي نكاح أولئك البغايا ، فيزعم أهل هذين التأويلين أن نكاحهن حرمه الله على أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن : المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة ، قال : وهذا حكم من الله فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلاّ زانية.
وقد روي أن محدوداً تزوج غير محدودة فردّ عليّ بن أبي طالب نكاحها.
{ وحرم ذلك على المؤمنين } يريد الزنا.
وروى الزهراني في هذا حديثاً من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ينكح الزاني المحدود إلاّ مثله » قال ابن عطية : وهذا حديث لا يصح ، وقول فيه نظر ، وإدخال المشرك في الآية يرده وألفاظ الآية تأباه وإن قدرت المشركة بمعنى الكتابية فلا حيلة في لفظ المشرك انتهى.
وقال ابن المسيب : هذا حكم كان في الزناة عام أن لا يتزوج زان إلاّ زانية ، ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله
{ وأنكحوا الأيامى منكم } وقوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وروي ترتيب هذا النسخ عن مجاهد إلاّ أنه قال : حرم نكاح أولئك البغايا على أولئك النفر.
قال ابن عطية : وذكر الإشراك في الآية يضعف هذه المناحي انتهى.
وعن الجبائي إنها منسوخة بالإجماع ، وضعف بأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وتلخص من هذه الأقوال أن النكاح إن أريد به الوطء فالآية وردت مبالغة في تشنيع الزنا ، وإن أريد به التزويج فإما أن يراد به عموم في الزناة ثم نسخ ، أو عموم في الفساق الخبيثين لا يرغبون إلاّ فيمن هو شكل لهم ، والفواسق الخبائث لا يرغبن إلاّ فيمن هو شكل لهن ، ولا يجوز التزويج على ما قرره الزمخشري ، أو يراد به خصوص في قوم كانوا في الجاهلية زناة ببغايا فأرادوا تزويجهن لفقرهم وإيسارهن مع بقائهن على البغاء فلا يتزوج عفيفة ، ولو زنا رجل بامرأة ثم أراد تزويجها فأجاز ذلك أبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وطاوس وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة ومالك والثوري والشافعي ، ومنعه ابن مسعود والبراء ابن عازب وعائشة وقالا : لا يزالان زانيين ما اجتمعا ، ومن غريب النقل أنه لو تزوج معروف بالزنا أو بغيره من الفسوق ثبت الخيار في البقاء معه أو فراقه وهو عيب من العيوب التي يترتب الخيار عليها ، وذهب قوم إلى أن الآية محكمة ، وعندهم أن من زنى من الزوجين فسد النكاح بينهما.
وقال قوم منهم : لا ينفسخ ويؤمر بطلاقها إذا زنت ، فإن أمسكها أثم.
قالوا : ولا يجوز التزويج بالزانية ولا من الزاني فإن ظهرت التوبة جاز.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى ومعنى الثانية؟ قلت : معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفتها بكونها غير مرغوب فيها للأعّفاء ولكن للزناة ، وهما معنيان مختلفان.
وعن عمرو بن عبيد { لا ينكح } بالجزم على النهي والمرفوع فيه معنى النهي ولكن هو أبلغ وآكد كما أن رحمك الله ويرحمك الله أبلغ من ليرحمك ، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى إن عادتهم جارية على ذلك ، وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها انتهى.
وقرأ أبو البر هثيم { وحرم } مبنياً للفاعل أي الله ، وزيد بن عليّ { وحَرُم } بضم الراء وفتح الحاء والجمهور { وحرّم } مشدداً مبنياً للمفعول.
والقذف الرمي بالزنا وغيره ، والمراد به هنا الزنا لاعتقابه إياه ولاشتراط أربعة شهداء وهو مما يخص القذف بالزنا إذ في غيره يكفي شاهدان.
قال ابن جبير : ونزلت بسبب قصة الإفك.
وقيل : بسبب القذفة عاماً ، واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول.
كما قال :
وجرح اللسان كجرح اليد . . .
وقال :
رماني بأمر كنت منه ووالدي . . .
بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
و { المحصنات } الظاهر أن المراد النساء العفائف ، وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ، ومن حيث هن هوى الرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن.
وقيل : المعنى الفروج المحصنات كما قال : { والتي أحصنت فرجها } وقيل : الأنفس المحصنات وقاله ابن حزم : وحكاه الزهراوي فعلى هذين القولين يكون اللفظ شاملاً للنساء وللرجال ، ويدل على الثاني قوله { والمحصنات من النساء } وثم محذوف أي بالزنا ، وخرج بالمحصنات من ثبت زناها أو زناه ، واستلزم الوصف بالإحصان الإسلام والعقل والبلوغ والحرية.
قال أبو بكر الرازي : ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى ، والمراد بالمحصنات غير المتزوجات الرامين أو لمن زوجه حكم يأتي بعد ذلك ، والرمي بالزنا الموجب للحد هو التصريح بأن يقول : يا زانية ، أو يا زاني ، أو يا ابن الزاني وابن الزانية ، يا ولد الزنا لست لأبيك لست لهذه وما أشبه ذلك من الصرائح ، فلو عرض كأن يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية لم يحد في مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي ، ويحد في مذهب مالك ، وثبت الحد فيه عن عمر بعد مشاورته الناس وقال أحمد وإسحاق هو قذف في حال الغضب دون الرضا ، فلو قذف كتابياً إذا كان للمقذوف ولد مسلم.
وقيل : إذا قذف الكتابية تحت المسلم حُدّ وأتفقوا على أن قاذف الصبي لا يُحَد وإن كان مثله يجامع ، واختلفوا في قاذف الصبية.
فقال مالك : يحد إذا كان مثلها يجامع.
وقال مالك والليث : يحد إذا كان مثلها يجامع.
وقال مالك والليث : يحد قاذف المجنون.
وقال غيرهما : لا يحد.
{ والذين يرمون } ظاهره الذكور وحكم الراميات حكمهم ، ولو قذف الصبي أو المجنون زوجته أو أجنبية فلا حدّ عليه أو أخرس وله كناية معروفة أو إشارة مفهومة حد عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة : لا يصح قذفه ولا لعانه ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيراً ما يتسير بها فقلما يطلع أحد عليها ، شدد الله تعالى على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة بعباده وستراً لهم والمعنى { ثم لم يأتوا } الحكام والجمهور على إضافة { أربعة } إلى { شهداء }.
وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم { بأربعة } بالتنوين وهي قراءة فصيحة ، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة ، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك ، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء ، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وقوله { واستشهدوا شهيدين } وكذلك : عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع ، وكذلك ثلاثة أعبد.
وقال ابن عطية : وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى.
وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو : ثلاثة رجال ، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه ، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية ، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز ، وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة ، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم.
وقال أبو حنيفة : شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين ، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه.
والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة ، وروي ذلك عن الحسن والشعبي.
وقال مالك والشافعي : يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس.
{ فاجلدوهم } أمر للإمام ونوابه بالجلد ، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي : لا يحد إلاّ بمطالبته.
وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف ، والظاهر أن العبد القاذف حرّاً إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم { والذين يرمون } وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي : يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة ، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّاً واحداً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث.
وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد.
وقال الشعبي وابن أبي ليلى : إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحدوا حد ، أو قال : لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد ، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود ، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف.
وجلد أبا بكرة وأخاه نافعاً وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة ، ولو أتى بأربعة شهداء فساق.
فقال زفر : يدرأ الحد عن القاذف والشهود.
وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود.
وقال مالك وعبيد الله بن الحسن : يحد الشهود والقاذف.
{ ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبداً وإن أكذب نفسه وتاب ، وهو نهي جاء بعد أمر ، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح : لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب ، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب.
وقال مالك : تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري ، وقال : لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقاً ، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما ، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات.
{ وأولئك هم الفاسقون } الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون ، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبداً.
{ إلاّ الذين تابوا } هذا الاستثناء يعقب جملاً ثلاثة ، جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف ، وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبداً وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي ، وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصاً في الجملة الأخيرة ، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل ، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط ، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره ، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل.
وقال الزمخشري : وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلاً من { هم } في { لهم } وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب ، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسِّقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق.
{ إلاّ الذين تابوا } عن القذف { وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } فينقلبون غير محدودين ولا مردودين ولا مفسقين انتهى.
وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث ، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة.
ولما ذكر تعالى قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن ولذلك قال سعد بن عبادة : يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتي آتي بأربعة شهداء والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك بن سحماء فنزلت { والذين يرمون أزواجهم } واتضح أن المراد بقوله { والذين يرمون المحصنات } غير الزوجات ، والمشهور أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر.
وقيل : نازلة عويمر قبل ، والمعنى بالزنا ولم يكن لهم شهداء ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات ، والمعنى { شهداء } على صدق قولهم.
وقرىء ولم تكن بالتاء.
وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغاً لما بعد إلاّ وهو مؤنث فالفصيح أن يقول ما قام إلاّ هند ، وأما ما قامت إلاّ هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة ، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة.
و { أزواجهم } يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من العمل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : بأحد معنيين أحدهما : أن تكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد وإن كان أجنبياً ، نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية وقد وطئت وطأ حر إما في غير ملك.
والثاني : أن يكون أحدهما ليس من أهل الشهادة بأن يكون محدوداً في قذف أو كافراً أو عبداً ، فأمّا إذا كان أعمى أو فاسقاً فله أن يلاعن.
وقال الثوري والحسن بن صالح : لا لعان إذا كان أحد الزوجين مملوكاً أو كافراً ، ويلاعن المحدود في القذف.
وقال الأوزاعي : لالعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته.
وقال الليث : يلاعن العبد امرأته الحرة والمحدود في القذف.
وعن مالك : الأمة المسلمة والحرة الكتابية يلاعن الحر المسلم والعبد يلاعن زوجته الكتابية ، وعنه : ليس بين المسلم والكافرة لعان إلاّ لمن يقول رأيتها تزني فيلاعن ظهر الحمل أو لم يظهر ، ولا يلاعن المسلم الكافرة ولا زوجته الأمة إلاّ في نفي الحمل ويتلاعن عن المملوكان المسلمان لا الكافران.
وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن ، والظاهر العموم في الرامين وزوجاتهم المرميات بالزنا ، والظاهر إطلاق الرمي بالزنا سواء قال : عاينتها تزني أم قال زنيت وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وكان مالك لا يلاعن إلاّ أن يقول : رأيتك تزنين أو ينفي حملاً بها أو ولداً منها والأعمى يلاعن.
وقال الليث : لا يلاعن إلاّ أن يقول : رأيت عليها رجلاً أو يكون استبرأها ، فيقول : ليس هذا الحمل مني ولم تتعرض الآية في اللعان إلاّ لكيفيته من الزوجين.
وقد أطال المفسرون الزمخشري وابن عطية وغيرهما في ذكر كثير من أحكام اللعان مما لم تتعرض له الآية وينظر ذلك في كتب الفقه.
وقرأ الجمهور { أربع شهادات } بالنصب على المصدر.
وارتفع { فشهادة } خبراً على إضمار مبتدإِ ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدماً أي فعليه أن يشهد أو مؤخراً أي كافيه أو واجبه.
و { بالله } من صلة { شهادات } ويجوز أن يكون من صلة { فشهادة } قاله ابن عطية ، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال ، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات ، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله { فشهادة }.
وقرأ الأخوان وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان { أربع } بالرفع خبر للمبتدأ ، وهو { فشهادة } و { بالله } من صلة { شهادات } على هذه القراءة ، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك.
وقرأ الجمهور { والخامسة } بالرفع فيهما.
وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن إياس ويقال ابن إياس بالنصب فيهما.
وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى ، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر ، ومن نصب الأولى فعطف على { أربع } في قراءة من نصب { أربع } ، وعلى إضمار فعل يدل عليه المعنى في قراءة من رفع { أربع } أي وتشهد { الخامسة } ومن نصب الثانية فعطف على { أربع } وعلى قراءة النصب في { الخامسة } يكون { أن } بعده على إسقاط حرف الجر ، أي بأن ، وجوّز أن يكون { أن } وما بعده بدلاً من { الخامسة }.
وقرأ نافع { أن لعنة } بتخفيف { أنَّ } ورفع { لعنة } و { أن غضب } بتخفيف { أن } و { غضب } فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة ، وهي ان المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن.
وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما ، والحسن { أن لعنة } كقراءة نافع ، و { أن غضب } بتخفيف { أن } و { غضب } مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة.
وقرأ باقي السبعة { أن لعنة الله } و { أن غضب الله } بتشديد { أن } ونصب ما بعدهما اسماً لها وخبر ما بعد.
قال ابن عطية : و { أن } الخفيفة على قراءة نافع في قوله { أن غضب } قد وليها الفعل.
قال أبو علي : وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلاّ أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله { علم أن سيكون } وقوله { أفلا يرون أن لا يرجع } وأما قوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى } فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال.
وأما قوله { أن بورك من في النار } فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى انتهى.
ولا فرق بين { أن غضب الله } و { أن بورك } في كون الفعل بعد أن دعاء ، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي ، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء ، وأورد ابن عطية { أن غضب } في قراءة نافع مورد المستغرب.
{ ويدرؤوا عنها العذاب } أي يدفع و { العذاب } قال الجمهور الحد.
وقال أصحاب الرأي لا حد عليها إن لم يلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج.
وحكى الطبري عن آخرين أن { العذاب } هو الحبس ، والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية وبه قال الليث ، ومكان ضمير الغائب ضمير المتكلم في شهادته مطلقاً وفي شهادتها في قوله عليها تقول عليّ.
فقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف : يقول بعد { من الصادقين } فيما رماها به من الزنا وكذا بعد من الكاذبين ، وكذا هي بعد من الكاذبين و { من الصادقين } فإن كان هناك ولد ينفيه زاد بعد قوله فيما رماها به من الزنا في نفي الولد.
وقال مالك : يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني وهي أشهد بالله ما رآني أزني ، والخامسة تقول ذلك أربعاً و { الخامسة } لفظ الآية.
وقال الشافعي : يقول أشهد بالله أني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ، ويشير إليها إن كان حاضرة أربع مرات ، ثم يقعد الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه ويقول : إن قولك وعليّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا ، فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحد أو اثنين في كل شهادة ، وإن نفي ولدها زاد وأن هذا الولد ما هو مني ، والظاهر أنه إذا طلقها بائناً فقذفها وولدت قبل انقضاء العدة فنفي الولد أنه يحد ويلحقه الولد لأنه لا ينطلق عليها زوجة إلاّ مجازاً.
وعن ابن عباس : إذا طلقها تطليقة أو تطليقتين ثم قذفها حدّ.
وعن ابن عمر : يلاعن.
وعن الليث والشافعي : إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن.
وعن مالك : إن أنكره بعد الثلاث لاعنها.
ولو قذفها ثم بانت منه بطلاق أو غيره فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا حد ولا لعان.
وقال الأوزاعي والليث والشافعي : يلاعن وهذا هو الظاهر لأنها كانت زوجته حالة القذف ، والظاهر من قوله { فشهادة أحدهم } أنه يلزم ذلك فإن نكل حبس حتى يلاعن وكذلك هي ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي : أيهما نكل حدّ هو للقذف وهي للزنا.
وعن الحسن : إذا لاعن وأبت حبست.
وعن مكحول والضحاك والشعبي : ترجم ومشروعية اللعان دليل على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما خلافاً للخوارج في قولهم : إن ذلك كفر من الكاذب منهما لاستحقاق اللعن من الله والغضب.
قال الزمخشري : فإن قلت : لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت : تغليظاً عليها لأنها هي أصل الفجور ومتبعة بإطماعها ، ولذلك كانت مقدّمة في آية الجلد ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخويلة : « والرجم أهون عليك من غضب الله ».
{ ولولا فضل الله } إلى آخره.
قال السدّي فضله منته ورحمته نعمته.
وقال ابن سلام : فضله الإسلام ورحمته الكتمان.
ولما بين تعالى حكم الرامي الحصنات والأزواج كان في فضله ورحمته أن جعل اللعان سبيلاً إلى الستر وإلى درء الحدّ وجواب { لولا } محذوف.
قال التبريزي : تقديره لهلكتم أو لفضحكم أولعاجلكم بالعقوبة أو لتبين الكاذب.
وقال ابن عطية : لكشف الزناة بأيسر من هذا أو لأخذهم بعقاب من عنده ، ونحو هذا من المعاني التي يوجب تقديرها إبهام الجواب.
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح ، والإفك : الكذب والأفتراء.
وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك.
والعصبة : الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام.
{ منكم } أي من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام ، ومنهم منافق ومنهم مسلم ، والظاهر أن خبر { إن } هو { عصبة منكم } و { منكم } في موضع الصفة وقاله.
الحوفي وأبو البقاء.
و { لا تحسبوه } : مستأنف.
وقال ابن عطية { عصبة } رفع على البدل من الضمير في { جاؤوا } وخبر { إن } في قوله و { لا تحسبوه } التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون { عصبة } خبر { إن } انتهى.
والعصبة : عبد الله بن أبيّ رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه ، و { لا تحسبوه } الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى إعراب ابن عطية { لا تحسبوه } الظاهر أنه عائد على الإفك ، وعلى إعراب ابن عطية.
يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم { إن }.
قيل : ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من { جاؤوا } وعلى ما نال المسلمين من الغم ، والمعنى { لا تحسبوه } ينزل بكم منه عار { بل هو خير لكم } لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين.
وقيل : الخطاب بلا تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيراً لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة ، وحيث تاب بعضهم.
وهذا القول ضعيف لقوله بعد : { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } أي جزاء ما اكتسب ، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم ، و { اكتسب } مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه ، وقد يستعمل كسب في الوجهين.
{ والذي تولى } كبره المشهور أنه عبد الله بن أبيّ ، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة.
وقيل : هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده ، وكان ذلك من عبد الله بن أُبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهازه الفرص ، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله.
وقيل : { الذي تولى كبره } حسان ، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له :
توقّ ذباب السيف عني فإنني . . .
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأتقي . . .
من الباهت الرامي البريء الظواهر
وأنشد حسان أبياتاً يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي :
حصان رزان ما تزنّ بريبة . . .
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً . . .
نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب . . .
كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها . . .
وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت عني قلته . . .
فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي . . .
بآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها . . .
تقاصر عنها سورة المتطاول
والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحمنة.
قيل : وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر.
وقيل : لم يحد مسطح.
وقيل : لم يحد عبد الله.
وقيل : لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص.
{ فاجلدوهم ثمانين جلدة } وقابل ذلك بقول : إنما يقال الحد بإقرار أو بينة ، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين ، وقد أخبر تعالى بكفرهم.
وقرأ الجمهور { كبره } بكسر الكاف.
وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف ، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن.
هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة.
وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة : «الكبر الكبر».
وقيل { كبره } بالضم معظمه ، وبالكسر البداءة بالإفك.
وقيل : بالكسر الإثم.
{ لولا إذ سمعتموه } هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب ، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره.
قيل : ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب ، أي كان الإنكار واجباً عليهم ، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم { خيراً } وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه { هذا إفك مبين } هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن ومعنى { بأنفسهم } أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد.
وقيل : معنى { بأنفسهم } بأمهاتهم.
وقيل : بإخوانهم.
وقيل : بأهل دينهم ، وقال { ولا تلمزوا أنفسكم } فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضاً ، وليسلم بعضكم على بعض.
{ لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } جعل الله فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها.
{ فإذا لم يأتوا } فهم في حكم الله وشريعته كاذبون ، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل.
{ ولولا فضل الله } أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة { ورحمة } عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة.
{ لمسكم } العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال : أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض.
{ إذ تلقونه } لعامل في { إذا } { لمسكم }.
وقرأ الجمهور { تلقونه } بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال { إِذ } في التاء النحويان وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض ، يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أُبيّ.
وقرأ ابن السميفع { تُلْقُونَه } بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه { تَلْقَونه } بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي.
وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب : ولق الرجل كذب ، حكاه أهل اللغة.
وقال ابن سيده ، جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير.
وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد ، وكلام في أثر كلام ، يقال : ولق في سيره إذا أسرع قال :
جاءت به عيسى من الشام يلق . . .
وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب.
وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا : تيجل مضارع وجلت.
وقال سفيان : سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال : وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود.
ومعنى { بأفواهكم } وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس محله إلاّ الأفواه كما قال { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } { وتحسبونه هيناً } أي ذنباً صغيراً { وهو عند الله عظيم } من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به ، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل بين { لولا } و { قلتم } ؟ قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها ، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى.
وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك ، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول : لولا زيداً ضربت وهلا عمراً قتلت.
قال الزمخشري : فإن قلت : فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ قلت : الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
فإن قلت : ما معنى { يكون } والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت : معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي { لنا أن نتكلم بهذا } ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق { وسبحانك } تعجب من عظم الأمر.
فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت : الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم كما قيل فيها انتهى.
{ يعظكم الله أن تعودوا } أي في أن تعودوا ، تقول : وعظت فلاناً في كذا فتركه.
{ إن كنتم مؤمنين } حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح.
وقيل : { أن تعودوا } مفعول من أجله أي كراهة { أن تعودوا }.
{ ويبين الله لكم الآيات } أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب ، ويعظكم من المواعظ الشافية.
{ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة }.
قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه.
{ في الذين آمنوا } لعداوتهم لهم ، والعذاب الأليم في الدنيا الحد ، وفي الآخرة النار.
والظاهر في { الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } العموم في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً ، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور ، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد.
وقال الحسن : عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين ، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر وملعون فاعله.
وقال أبو مسلم : هم المنافقون أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله { جاهدِ الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال الكرماني : والله يعلم كذبهم { وأنتم لا تعلمون } لأنه غيب.
وجواب { لولا } محذوف أي لعاقبكم.
{ أن الله روؤف } بالتبرئة { رحيم } بقبول توبة من تاب ممن قذف.
قال ابن عباس : الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
تقدم الكلام على { خطوات الشيطان } تفسيراً وقراءة في البقرة.
والضمير في { فإنه } عائد على { من } الشرطية ، أي فإن متبع خطوات الشيطان { يأمر بالفحشاء } وهو ما أفرط قبحه { والمنكر } وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأساً في الضلال بحيث يكون آمراً يطيعه أصحابه.
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم.
وقرأ الجمهور { ما زكى } بتخفيف الكاف ، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها ، وأماله الأعمش وكبت { زكي } المخفف بالياء وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال ، أو على قراءة من شد الكاف.
{ ولكن الله يزكي من يشاء } ممن سبقت له السعادة ، وكان عمله الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح { والله سميع } لأقوالهم { عليم } بضمائرهم.
{ ولا يأتل } هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف.
وقيل : معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه { لا يألونكم } وقول الشاعر :
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه . . .
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو مسلم.
وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة.
وقال ابن عياش والضحاك : قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك ، وقالوا : لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم.
والآية تتناول من هو بهذا الوصف.
وقرأ الجمهور { يأتل }.
وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف.
قال الشاعر :
تألّى ابن أوس حلفة ليردّني . . .
إلى نسوة كأنهن معائد
والفضل والسعة يعني المال ، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وكان من المهاجرين وممن شهد بدراً ، وكان ما نسب إليه داعياً أبا بكر أن لا يحسن إليه ، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح ، وحين سمع أبو بكر { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } ؟ قال : بلى ، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال : والله لا أنزعها أبداً.
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهثيم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات ، ويناسبه { ألا تحبون } و { أن يؤتوا } نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة { أن يؤتوا } وأن لا يؤتوا فحذف لا ، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا.
وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين.
{ إن الذين يرمون } عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليباً للمذكر على المؤنث.
و { المحصنات } ظاهره أنه عام في النساء العفائف.
وقال النحاس : من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى ، وأن التقدير يرمون الأنفس { المحصنات } فيدخل فيه المذكر والمؤنث.
وقيل : هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك.
وقيل : خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال :
قدني من نصر الخبيبين قدي . . .
يعني عبد الله بن الزبير وأشياعه.
و { الغافلات } السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات ، كما قال الشاعر :
ولقد لهوت بطفلة ميالة . . .
بلهاء تطلعني على أسرارها
وكذلك البله من الرجال في قوله «أكثر أهل الجنة البله».
{ لعنوا في الدنيا والآخرة } في قذف المحصنات.
قيل : هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء.
وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته ، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة ، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له.
ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة ، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله { يوم تشهد عليهم } وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه.
والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم.
وقال الحوفي : العامل فيه عذاب ، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين.
وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي ، ووقع الفصل ، وباقي السبعة بالتاء ، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك ، وليست الحياة شرطاً لوجود الكلام.
وقالت المعتزلة : يخلق في هذه الجوارح الكلام ، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلاّ أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعاً.
وقالوا أيضاً : إنه تعالى ينشىء هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله.
قال القاضي : وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة.
وانتصب { يومئذ } بيوفيهم ، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير يوم إذ تشهد.
وقرأ زيد بن عليّ { يوفيهم } مخففاً والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم.
وقال :
ولم يبق سوى العد . . .
وإن دناهم كما دانوا
ومنه : كما تدين تدان.
وقرأ الجمهور { الحق } بالنصب صفة لدينهم.
وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و { يعلمون } إلى آخره يقوي قول من قال : إن الآية في عبد الله بن أُبيّ لأن كل مؤمن يعلم { أن الله هو الحق المبين }.
قال الزمخشري : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعذاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن { ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به ، وأنه { يوفيهم } جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله { أن الله هو الحق المبين } فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة انتهى.
وهو كلام حسن.
ثم قال بعد كلام فإن قلت : ما معنى قوله { هو الحق المبين } ؟ قلت : معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه ، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى.
وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال.
والظاهر أن { الخبيثات } وصف للنساء ، وكذلك { الطيبات } أي النساء الخبيثات للرجال { الخبيثين } ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن { الخبيثات } من النساء ينزعن للخباث من الرجال ، فيكون قريباً من قوله { الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة } وكذلك { الطيبات } من النساء { للطيبين } من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها.
وفي آخرها : ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه والرسول وأصحابه ، فلم يجعل الله له إلاّ كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث.
وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة : هي الأقوال والأفعال ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلاّ الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه.
وقال بعضهم الكلمات : والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلاّ بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه.
{ أولئك } إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء.
{ مبرؤون مما يقولون } أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة.
غض البصر : أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية.
قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير . . .
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
الخُمر : جمع خمار وهو القنعة التي تلقي المرأة على رأسها ، وهو جمع كثرة مقيس فيه ، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضاً.
قال الشاعر :
وترى الشجراء في ريقه . . .
كرؤوس قطعت فيها الخمر
الجيب : فتح يكون في طريق القميص يبدو منه بعض الجسد.
والعورة : ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل.
والمرأة الأيم : قال النضر بن شميل : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال : آمت تئيم.
وقال الشاعر :
كل امرىء ستئيم من . . .
ه العرس أو منها يئم
أي : سينفرد فيصير أيماً ، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس.
البغاء : الزنا ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء.
المشكاة : الكوة غير النافذة.
قال الكلبي حبشي معرب.
الزجاجة : جوهر مصنوع معروف ، وضم الزاي لغة الحجاز ، وكسرها وفتحها لغة قيس.
الزيت : الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون.
قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد ، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيداً.
وقال الفراء : السراب : ما لصق بالأرض.
وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر ، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري.
وقال الشاعر :
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم . . .
كلمع سراب في الفلا متألق
وقال :
أمر الطول لماع السراب . . .
وقيل : السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة.
اللجي : الكثير الماء ، ولجة البحر معظمة ، وكان لجياً مسنوب إلى اللجة.
الودق : المطر شديده وضعيفه.
قال الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها . . .
ولا أرض أبقل إبقالها
وقال أبو الأشهب العقيلي : هو البرق.
ومنه قول الشاعر :
أثرن عجاجة وخرجن منها . . .
خروج الودق من خلل السحاب
والودق : مصدر ودق السحاب يدق ودقاً ، ومنه استودقت الفرس.
البرد : معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة.
السنا : مقصور من ذوات الواو وهو الضوء.
قال الشاعر :
يضيء سناه أو مصابيح راهب . . .
يقال : سنا يسنو سناً ، والسنا أيضاً نبت يُتداوي به ، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال :
وسن كسنق سناء وسنما . . .
أذعن للشيء : انقاد له.
وقال الزجاج : الإذعان : الإسراع مع الطاعة.
الحيف : الميل في الحكم ، يقال : حاف في قضيته أي جار.
اللواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا } الآية.
فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل { ليس عليكم جناح } الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام ، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به.
والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله { غير بيوتكم } " ويروى أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمي؟ قال : «نعم» قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : «أتحب أن تراها عريانة» قال الرجل : لا ، قال : وغيّا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت " ، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : { لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم } وهذا من باب الكنايات والإرداف ، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال { تستأنسوا } معناه تستأذنوا ، ومن روى عن ابن عباس أن قوله { تستأنسوا } خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول.
و { تستأنسوا } متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب.
وقد قال عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور.
وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً ، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة :
كان رحلى وقد زال النهار بنا . . .
يوم الجليل على مستأنس وحد
ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان.
وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، ما الاستئناس؟ قال : " يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم "
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف.
واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل.
وذهب الطبري في { تستأنسوا } إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شُعر بكم.
قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى.
وقال عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم ، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة.
وفي الحديث : « الاستئذان ثلاث » يعني كماله.
« فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع » والظاهر تقديم الاستئذان على السلام.
وفي حديث أبي داود : قل السلام عليكم أأدخل؟ والواو في { وتسلموا } لا تقتضي ترتيباً فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة.
{ ذلكم } إشارة إلى المصدر المفهوم من { تستأنسوا } و { تسلموا } أي { ذلكم } الاستئناس والتسليم { خير لكم } من تحية الجاهلية.
{ لعلكم تذكرون } أي شرَّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه { لعلكم تذكرون } اعتناء بمصالحكم.
{ فإن لم تجدوا فيها أحداً } أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم { حتى يؤذن لكم } إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه.
{ وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا } وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن ، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين.
{ هو أزكى } أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيراً لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة.
ثم أخبر أنه تعالى { بما تعملون عليم } أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه ، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل.
{ ليس عليكم جناح } قال الزمخشري : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين ، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى.
وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن ، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة ، ولذلك قال { بيوتاً غير بيوتكم } وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة ، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة.
فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق التي في طرق المسافرين.
قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل.
و { فيها متاع } لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز.
وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيسارية والسوق.
قال ابن الحنيفة أيضاً : هي دور مكة ، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة ، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة.
{ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب.
و { من } في { من أبصارهم } عند الأخفش زائدة أي { يغضوا } { أبصارهم } عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه : لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية.
وقال ابن عطية : يصح أن تكون { من } لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى.
ولم يتقدم مبهم فتكون { من } لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس.
{ ويحفظوا فروجهم } أي من الزنا ومن التكشف.
ودخلت { من } في قوله { من أبصارهم } دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم ، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق.
وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار ، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين.
{ ذلك } أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم { إن الله خبير بما يصنعون } من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك.
وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاحتزاز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته.
وقال بعض الأدباء :
وما الحب إلا نظرة إثر نظرة . . .
تزيد نمواً إن تزده لجاجا
ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج.
ثم قال { ولا يبدين زينتهن } واستثنى ما ظهر من الزينة ، والزينة ما تتزين به المرأة من حلّي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى.
وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان ، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها ، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله { إلا ما ظهر منها } يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة.
أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك.
وقال ابن مسعود { ما ظهر منها } هو الثياب ، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب ، وقال تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وفسرت الزينة بالثياب.
وقال ابن عباس : الكحل والخاتم.
وقال الحسن في جماعة : الوجه والكفان.
وقال ابن جريج : الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار.
وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسور.
وقال ابن عباس : الكحل والخاتم فقط.
وقال المسور بن مخرمة : هما والسوار.
وقال الحسن أيضاً : الخاتم والسوار.
وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، فنهاهنّ الله عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ.
وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن.
وفي قوله { وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ } دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، منعهنّ من إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار.
وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما ، وفي السنن لأبي داود أنه عليه السلام قال : « يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه » وقال ابن خويز منداد : إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمَّن { وليضربن } معنى وليلقين وليضعن ، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه.
وقرأ عياش عن أبي عمرو { وليضربن } بكسر اللام وطلحة { بخمرهنّ } بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام { جيوبهن } بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم.
وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يُبدي للأب ما لا يبدى لابن الزوج.
ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال.
وقال الحسن : هما كسائر المحارم في جواز النظر قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب { لا جناح عليهن في آبائهن } ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا ، والإضافة في { نسائهن } إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخدمتهن ، وأكثر السلف على أن قوله { أو نسائهن } مخصوص بمن كان على دينهن.
قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلاّ ما تبدي للأجانب إلاّ أن تكون أَمة لقوله { أو ما ملكت أيمانهن } وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات.
والظاهر العموم في قوله { أو ما ملكت أيمانهن } فيشمل الذكور والإناث ، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة.
وعن مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم ، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها.
وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه.
وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة.
وفي الحديث : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلاّ مع ذي محرم » والعبد ليس بذي محرم.
وقال سعيد بن المسيب : لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء.
قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصياً كان أو فحلاً.
وعن ميسون بنت بحدل الكلابية : إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه ، فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله.
وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى.
والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمر النساء ، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام.
قال ابن عطية : ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمِن الموقوذ بزمانته.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف { أو الطفل } على { من الرجال } قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال ، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم ، ولذلك وصف بالجمع في قوله { الذين لم يظهروا } ومن ذلك قول العرب : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال : أو الأطفال.
و { الطفل } ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعاً.
وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه { يخرجكم طفلاً } انتهى.
ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله { الطفل } من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله { إن الإنسان لفي خسر } ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو.
وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلاً نكره ، ولا يتعين حمل طفلاً هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى { واعتدت لهن متكأ } أي لكل واحدة منهن.
وكما تقول : بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف.
وقوله { لم يظهروا } إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه.
ومنه { فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين قادرين عليه ، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.
وقرأ الجمهور { عورات } بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع.
وروي عن ابن عباس تحريك واو { عورات } بالفتح.
والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة.
ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ { عورات } بالفتح.
قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلاّ فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون : روضات وجورات وعورات ، وسائر العرب بالإسكان.
وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلاّ هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو.
وأنشدني بعضهم :
أبو بيضات رائح متأوب . . .
رفيق بمسح المنكبين سبوح
{ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال.
وقال ابن عباس : هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال.
وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالاً من فضة واتخذت جزعاً فجعلته في ساقها ، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.
وقال الزجاج : وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها انتهى.
وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها : وهي تكره أن لا ينظر إليها ، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن ، وهذا من خفايا الإعلام بحالهن.
وقال مكي : ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
وقال الزمخشري : وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلّي أبلغ.
{ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون } لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه ، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائماً وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا.
وعن ابن عباس { توبوا } مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة.
وقرأ ابن عامر { أيه المؤمنون } ويا أية الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة ، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف.
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
لما تقدمت أوامر ونواةٍ في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالباً لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى ، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه ، فلا يلتفت إلى غيره.
والظاهر أن الأمر في قوله { وانكحوا } للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود { الأيامى } ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح.
وقال الزمخشري : { الأيامى } واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى.
وفي التحرير قال أبو عمر : وأيامى مقلوب أيائم ، وغيره من النحويين ذكر أن أيماً ويتيماً جمعاً على أيامي ويتامى شذوذاً يحفظ ووزنه فعالى ، وهو ظاهر كلام سيبويه.
قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات.
وقالوا : وج ووجياً كما قالوا : زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا : يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى.
وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى.
وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف : الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزءٍ طرأ عليها فهو من البلايا ، ثم قيل في البكر مجازاً لأنها لا زوج لها انتهى.
{ منكم } خطاب للمؤمنين ، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء ، واندرج المؤنث في المذكر في قوله { والصالحين } وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن { الصالحين } من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم ، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك.
وقيل : معنى { والصالحين } أي للنكاح والقيام بحقوقه.
وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك.
و { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } { والله واسع } أي ذو غنى وسعة ، يبسط الله لمن يشاء { عليم } بحاجات الناس ، فيجري عليهم ما قدر من الرزق.
{ وليستعفف } أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها ، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام { الذين لا يجدون نكاحاً }.
قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، ويؤيده قوله { حتى يغنيهم الله من فضله } فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية.
والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل { أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله }.
ومعنى { لا يجدون نكاحاً } أي لا يتمكنون من الوصول إليه ، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر ، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و { حتى يغنيهم } ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم ، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً في استعفافهم وربطاً على قلوبهم ، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولاً بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى.
وهو من كلام الزمخشري وهو حسن ، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم.
{ والذين يبتغون الكتاب } أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة.
{ مما ملكت } يعم المماليك الذكور والإناث.
و { الذين } يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة ، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط ، ويحتمل أن يكون منصوباً كما تقول : زيداً فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيداً فاضرب ، وزيداً اضرب ، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيداً فالفاء في جواب أمر محذوف ، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا.
قال الأزهري : وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال ، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها ، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله { فكاتبوهم } وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود ، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه ، أو لأضربنك بالدرة ، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا ، ويعين ما كاتبه عليه ، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي : لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم.
وقال أكثر العلماء : يجوز على نجم واحد.
وقال ابن خويز منداد : إذا كاتب على مال معجل كان عتقاً على مال ولم تكن كتابة ، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة.
والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك ، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضاً أو الدين قاله الحسن ، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني ، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير.
وقال الشافعي : الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلاّ الصلاح ، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط ، فلو لم يعلم فيه خيراً لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله { فكاتبوهم } والظاهر في { وآتوهم } أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء ، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وَعلى ربعها ، وقتادة عشرها.
وقال عمر : من أول نجومه مبادرة إلى الخير.
وقال مالك : من آخر نجم.
وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان : أمر الناس جميعاً بمواساة المكاتب وإعانته.
وقال زيد بن أسلم : الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله { وفي الرقاب }.
وقال صاحب النظم : لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم ، فلما قال { وآتوهم } دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء ، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة.
وقوله { من مال الله الذي آتاكم } هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده ، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح ، وأيضاً ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه.
{ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد الله بن أُبَيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا ، فشكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل : كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد ، فقال لهما ارجعا فازنيا ، فقالتا : والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا ، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع ، ويؤكد أن يكون { وآتوهم } خطاباً للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن ، لأنه لا يمكن الإكراه إلاّ مع إرادة التحصن ، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه.
وكلمه { إن } وايثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر.
وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين فقال بعضهم { إن أردن } راجع إلى قوله { وأنكحوا الأيامى منكم } وهذا فيه بعد وفصل كثير ، وأيضاً فالأيامى يشمل الذكور والإناث ، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب : إن أرادوا تحصناً فيغلب المذكر على المؤنث.
وقال بعضهم : هذا الشرط ملغى.
وقال الكرماني : هذا شرط في الظاهر وليس بشرط كقوله { إن علمتم فيهم خيراً } ومع أنه وإن كان لم يعلم خيراً صحت الكتابة.
وقال ابن عيسى : جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك ، وقال : لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة انتهى.
و { عرض الحياة الدنيا } هو ما يكسبنه بالزنا.
وقوله { فإن الله } جواب للشرط.
والصحيح أن التقدير { غفور رحيم } لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط ، ويكون ذلك مشروطاً بالتوبة.
ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا { فإن الله } { غفور رحيم } لهن أي للمكرهات ، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط.
وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال : فيه وجهان أحدهما : فإن الله غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل ، والثاني : فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة ، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار.
وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى.
وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب.
فإن قلت : قوله { إكراههن } مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف ، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة قلت : لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً فتجوز المسألة ، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيداً لم تجز.
ولما قدر الزمخشري في أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالاً فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة انتهى.
وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهنّ.
وقرأ { مبينات } بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بيَّن الله في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاماً وحدوداً وفرائض ، فتلك الآيات هي المبينة ، ويجوز أن يكون المراد مبيناً فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها.
وهي ظرف للمبين.
وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء ، فإما أن تكون متعدية أي { مبينات } غيرها من الأحكام والحدود ، فأسند ذلك إليها مجازاً ، وإما أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في المثل.
قد بيَّن الصبح لذي عينين.
أي قد ظهر ووضح.
وقوله { ومثلاً } معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى { ومثلاً } من أمثال الذين من قبلكم ، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة الله في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا.
وقال الضحاك : والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله.
وقال مقاتل : أي شبهاً من حالهم في تكذيب الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم ، فجعلنا ذلك مثلاً لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب.
{ وموعظة للمتقين } أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله { ولا تأخذكم بهما رأفة } { ولولا إذ سمعتموه . . .
. . .
.
يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً } وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة.
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر ، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين ، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض ، ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن عليّ وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة { نور } فعلاً ماضياً و { الأرض } بالنصب.
وإما على حذف أي ذو نور ، ويؤيده قوله { مثل نوره } ويحتمل أن يجعل نوراً على سبيل المدح ، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها ، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها.
قال الشاعر :
كأنك شمس والملوك كواكب . . .
وقال :
قمر القبائل خالد بن زيد . . .
وقال :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة . . .
فقد سار منها بدرها وجمالها
ويروى نورها ، وأضاف النور إلى { السموات والأرض } لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات والأرض ، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به.
وقال ابن عباس : { نور السموات } أي هادي أهل السموات.
وقال مجاهد : مدبر أمور السموات.
وقال الحسن : منور السموات.
وقال أبي : الله به نور السموات أو منه نور السموات أي ضياؤها.
وقال أبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء.
وقيل : المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء.
وقال الكرماني : هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها.
والظاهر أن الضمير في { مثل نوره } عائد على الله تعالى.
واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى.
فقيل : الآيات البينات في قوله { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } وقيل : الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين.
وقيل : النور هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : النور هنا المؤمن.
وقال كعب وابن جبير : الضمير في { نوره } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، أي مثل نور محمد.
وقال أبيّ : هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن.
وروي أيضاً فيها مثل نور من آمن به.
وقال الحسن : يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور ، ونقلت المعنى المقصود بالآية بحلاف عوده على الله تعالى ، ولذلك قال مكي يوقف على { الأرض } في تلك الأقوال الثلاثة.
واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء ، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.