كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
والساحر يدّعي أشياء من هذا النوع : من تسخير الجن ، وبلوغ الآمال ، والتأثير في الخواطر ، بل ويدّعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحر في قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } ، أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر.
وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصاً كثيرة ، الله أعلم به ، ولم تتعرض الآية الكريمة ، ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه ، فلذلك لم نذكره.
{ وما كفر سليمان } : تنزيه لسليمان عن الكفر ، أي ليس ما اختلقته الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان ، لأنه كفر ، ومن نبأه الله تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر ، فضلاً عن الكفر.
وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه ، لأنّ النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر ، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفراً ، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء ، وما كان إلا ساحراً.
ولم يتقدّم في الآيات أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدّم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به.
{ ولكن الشيطان كفروا } : كفرهم ، إما بتعليم السحر ، وإما تعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك.
واستعمال لكن هنا حسن ، لأنها بين نفي وإثبات.
وقرىء : ولكنّ بالتشديد ، فيجب إعمالها ، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو.
وقرىء : بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي.
وإذا خففت ، فهل يجوز إعمالها؟ مسألة خلاف الجمهور على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها ، ونقل ذلك غيره عن الأخفش ، والصحيح المنع.
وقال الكسائي والفراء : الاختيار ، التشديد إذا كان قبلها واو ، والتخفيف إذا لم يكن معها واو ، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها.
كبل : فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل ، لأن بل لا تدخل عليها الواو ، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن ، ولم تكن عاطفة.
انتهى الكلام.
وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة ، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة.
وذهب يونس إلى أنها لبيست من حروف العطف ، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب ، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف ، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله }
وأما إذا جاءت بعدها الجملة ، فتارة تكون بالواو ، وتارة لا يكون معها الواو ، كما قال زهير :
إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره . . .
لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وما ضربت زيداً لكن عمراً ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، فهو من تمثيلهم ، لا أنه مسموع من العرب.
ومن غريب ما قيل في لكن : إنها مركبة من كلم ثلاث : لا للنفي ، والكاف للخطاب ، وأن التي للإثبات والتحقيق ، وأن الهمزة حذفت للاستثقال ، وهذا قول فاسد ، والصحيح أنها بسيطة.
{ يعلمون الناس السحر } : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه ، فالظاهر أنه يعود على الشياطين ، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم ، وهو اختيار الزمخشري.
وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا.
قالوا : أو خبراً ثانياً.
وقيل : حال من الشياطين.
ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وقيل : بدل من كفروا ، بدل الفعل من الفعل ، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى.
والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم.
وقيل : الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين.
على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليه ضمير اتبعوا ، فيكون المعنى : يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس ، فالناس معلمون للمتبعين.
وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين.
واختلف في حقيقة السحر على أقوال : الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات ، كالطيران وقطع المسافات في ليلة.
الثاني : أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها ، ويدل عليه ، { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } وفي الحديث ، حين سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله».
وهو قول المعتزلة : يرون أن السحر ليست له حقيقة ، ووافقهم أبو إسحاق الاسترأباذي من الشافعية.
الثالث : أنه أمر يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، ومنه : { سحروا أعين الناس } كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقاً ، فسجروا تحتها ناراً ، فحميت الحبال والعصي ، فتحركت وسعت.
ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء ، يبين كثير منها في الكتاب المسمى ( بكشف الدّك والشعوذة وإيضاح الشك ) ، وفي كتاب ( إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل ).
وفي الحديث ، حين انشق القمر نصفين بمكة ، قال أبو جهل : اصبروا حتى يأتي أهل البوادي ، فإن لم يخبروا بذلك ، كان محمد قد سحر أعيننا ، فأتوا فأخبروا بذلك ، فقال : ما هذا إلا سحر عظيم.
الرابع : أنه نوع من خدمة الجن ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيآتها ، فلطف ودق وخفي.
الخامس : أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق ، وتتخذ منها أرمدة ومداد ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل فيما يحتاج إليها من السحر.
السادس : أن أصله طلسمات وقلفطريات ، تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر.
السابع : أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر.
قال بعض معاصرينا : هذه الأقوال كلها التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر ، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدّك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادل والصرع ، وما يجري مجرى ذلك.
انتهى كلامه.
ولا يشك في أن السحر كان موجوداً ، لنطق القرآن والحديث الصحيح به.
وأما في زماننا الآن ، فكلما وقفنا عليه في الكتب ، فهو كذب وافتراء ، لا يترت بعليه شيء ، ولا يصح منه شيء ألبتة.
وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء ، يصدّقون بهذه الأشياء ، ويصغون إلى سماعها.
وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم ، إذا أفلس ، وضع كتباً وذكر فيها أشياء من رأسه ، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة.
وقد أطلق اسم السحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة ، لأن فيه قلب الصديق عدواً ، والحبيب بغيضاً.
كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب ، لما فيه من الاستمالة ، وسمي : سحراً حلالاً.
وقد روي أن من البيان لسحراً ، وقال :
وحديثها السحر الحلال لو أنه . . .
لم يجن قتل المسلم المنحرز
وظاهر قوله : { يعلمون الناس السحر } : أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم.
وقيل : المعنى يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على الدلالة تعليماً ، تسمية للمسبب بالسبب.
وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق ، تضر وتنفع ، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك ، وهذا أيضاً تسمية للمسبب بالسبب.
وقيل : يعلمون معناه يعلمون ، أي يعلمونهم بما يتعلمون به السحر ، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم ، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم.
وأما حكم السحر ، فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين ، وإضافة ما يحدثه الله إليها ، فهو كفر إجماعاً ، لا يحل تعلمه ولا العمل به.
وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء.
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك ، بل يحتمل ، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به.
وما كان من نوع التحيل والتخييل والدّك والشعبذة ، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس ، فلا ينبغي تعلمه ، لأنه من باب الباطل.
وإن قصد بذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم ، فلا بأس بتعلمه ، أو اللهو واللعب ، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره.
روي : لست من دد ولا دد مني.
وأما سحر البيان ، فما أريد به تأليف القلوب على الخير ، فهو السحر الحلال ، أو ستر الحق ، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به.
وأما حكم الساحر حدًّا وتوبة ، فقد تعرض المفسرون لذلك ، ولم تتعرض إليه الآية ، وهي مسألة موضوعها علم الفقه ، فتذكر فيه.
{ وما أنزل } : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب ، وأنه معطوف على قوله : السخر ، وظاهر العطف التغاير ، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً.
وقيل : هو معطوف على ما تتلو الشياطين ، أي { واتبعوا ما تتلو الشياطين } ، و { الذي أنزل } وظاهره أن ما علموه الناس ، أو ما اتبعوه هو منزل.
واختلف في هذا المنزل الذي علم ، أو الذي اتبع فقيل : علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً ، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر ، وهذا اختيار الزمخشري.
وقال مجاهد وغيره : المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه ، وهو دون السحر.
وقيل : السحر ليعلم على جهة التحذير منه ، والنهي عنه ، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه.
وقيل : ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان ، والمعنى : افتراء على ملك سليمان ، وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم ، وأنكر أن يكون الملكان نازلاً عليهما السحر ، قال : لأنه كفر ، والملائكة معصومون ، ولأنه لا يليق بالله إنزاله ، ولا يضاف إليه ، لأن الله يبطله ، وإنما المنزل على الملكين الشرع ، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك.
وقيل : ما حرف نفي ، والجملة معطوفة على { وما كفر سليمان } ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكال بالسحر ، فنفى الله ذلك.
{ على الملكين } : قراءة الجمهور بفتح اللام ، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة ، وقد تقدّم الكلام على الملك في قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة } فقيل : هما جبريل وميكال ، كما ذكرناه في هذا القول الأخير.
وقيل : ملكان غيرهما وهما : هاروت وماروت.
وقيل : ملكان غيرهما ، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال ، إن شاء الله.
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن ابزي : الملكين ، بكسر اللام ، فقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر.
وقال الحسن : هما علجان ببابل العراق.
وقال أبو الأسود : هما هاروت وماروت ، وهذا موافق لقول الحسن.
وقال ابن أبزي : هما داود وسليمان ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
وقيل : هما شيطانان.
فعلى قول ابن أبزي تكون ما نافية ، وعلى سائر الأقوال ، في هذه القراءة ، تكون ما موصولة.
ومعنى الإنزال : القذف في قلوبهما.
وقد ذكر المفسرون ، في قراءة من قرأ : الملكين بفتح اللام ، قصصاً كثيراً ، تتضمن : أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله به ، وأن الله تعالى بكتهم ، بأن قال لهم : اختاروا ملكين للهبوط إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما الشهوة ، فحكما بين الناس ، وافتتنا بامرأة ، تسمى بالعربية الزهرة ، وبالفارسية ميذخت ، فطلباها وامتنعت ، إلا أن يعبدا صنماً ، ويشربا الخمر ويقتلا.
فخافا على أمرهما ، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به ، فصعدت ونسيت ما تنزل به ، فمسخت.
وأنهما تشفعا بإدريس إلى الله تعالى ، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل يعذبان.
وذكروا في كيفية عذابهما اختلافاً.
وهذا كله لا يصح منه شيء.
والملائكة معصومون ، { لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون } { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر.
وقيل : سبب إنزال الملكين : أن السحرة كثروا في ذلك الزمان ، وادعوا النبوّة ، وتحدّوا الناس بالسخر.
فجاء ليعلما الناس السحر ، فيتمكنوا من معارضة السحر ، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوّة ، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان ، ويعرض بينهما الالتباس.
فجاء الإيضاح الماهيتين ، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحاً ، أو مندوباً ، فبعثا لذلك ، ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله.
أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشر على مثله ، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة.
وقيل : أنزلا على إدريس ، لأن الملائكة لا يكونون رسلاً لكافة الناس ، ولا بد من رسول من البشر.
{ ببابل } : قال ابن مسعود : هي في سواد الكوفة.
وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين.
وقيل : هي جبل دماوند.
وقيل : هي بالمغرب.
وقيل : في أرض غير معلومة ، فيها هاروت وماروت ، وسميت ببابل ، قال الخليل : لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها ، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرّقتهم الريح في البلاد.
وقيل : لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ.
{ هاروت وماروت } : قرأ الجمهور : بفتح التاء ، وهما بدل من الملكين ، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان ، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما.
وقيل : بدل من الناس ، فتكون الفتحة علامة للنصب ، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين.
وقيل : هما قبيلتان من الشياطين ، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين ، وتكون الفتحة علامة للنصب ، على قراءة من نصب الشياطين.
وأما من رفع الشياطين ، فانتصابهما على الذم ، كأنه قال : أذم هاروت وماروت ، أي هاتين القبيلتين ، كما قال الشاعر :
أقارع عوف لا أحاول غيرها . . .
وجوه قرود تبتغي من تخادع
وهذا على قراءة الملكين ، بفتح اللام.
وأما من قرأ بكسرها ، فيكونان بدلاً من الملكين ، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام ، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما ، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه.
وقرأ الحسن والزهري : هاروت وماروت بالرفع ، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف ، أي هما هاروت وماروت ، إن كانا ملكين.
وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين ، الأول أو الثاني ، على قراءة من رفعه ، إن كانا شيطانين.
وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت ، وأنهما أعجميان.
وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت ، وهو الكسر ، وقوله خطأ ، بدليل منعهم الصرف لهما ، ولو كانا ، كما زعم ، لانصرفا ، كما انصرف جاموس إذا سميت به.
واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً.
{ وما يعلمان من أحد } : قرأ الجمهور : بالتشديد ، من علم على بابها من التعليم.
وقالت طائفة : هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف ، والهمزة بمعنى واحد ، فهو من باب الإعلام ، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف.
وما يعلمان : من أعلم قال : لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه.
والضمير في يعلمان عائد على الملكين ، أي وما يعلم الملكان.
وكذلك قراءة أبي ، أي بإظهار الفاعل لا إضماره.
وقيل : عائد على هاروت وماروت ، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه ، وفي الثاني على البدل ، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس ، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام ، فزيدت هنا لتأكيد ذلك ، بخلاف قولك : ما قام من رجل ، فإنها زيدت لاستغراق الجنس ، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين ، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة ، وأن يكون قبلها غير واجب.
وقد أمعنا الكلام على زيادة من في ( كتاب منهج السالك ) من تأليفنا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد ، والأول أظهر.
{ حتى يقولا } حتى هنا : حرف غاية ، والمعنى انتفاء تعليمهما ، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا : { إنما نحن فتنة }.
وقال أبو البقاء : حتى هنا بمعنى إلا أن ، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره.
وقد ذكره ابن مالك في ( التسهيل ) وأنشد عليه في غيره :
ليس العطاء من الفضول سماحة . . .
حتى تجود وما لديك قليل
قال : يريد إلا أن تجود ، وما في { إنما } كافة ، لإن عن العمل ، فيصير من حروف الابتداء.
وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما ، نحو : إنما زيداً قائم.
{ نحن فتنة } : أي ابتلاء واختبار.
{ فلا تكفر } : قال علي رضي الله عنه : كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه ، كأنهما يقولان : لا تفعل كذا ، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا ، أو القتل ، فأخبر بصفته ليجتنبه.
فكان المعنى في يعلمان : يعلمان.
وقال الزمخشري : فلا تكفر : فلا تتعلم ، معتقداً أنه حق فتكفر.
وحكى المهدوي : أن قولهما { إنما نحن فتنة } ، فلا تكفر استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله.
وقال في ( المنتخب ) قوله : { إنما نحن فتنة } توكيد لقبول الشرع والتمسك به ، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف.
وقيل : فلا تكفر ، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه ، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه.
وقيل : فلا تفعله لتعمل به.
وهذا على قول من قال : تعلمه جائز والعمل به كفر.
وقيل : فلا تكفر بتعليم السحر ، وهذا على قول من قال : إن تعلمه كفر.
وقيل : فلا تكفر بنا ، وهذا على قول : إن الملكين نزلا من السماء بالسحر ، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافراً ، ومن تركه كان مؤمناً ، كما جاء في نهر طالوت ، وقد تقدم ما حكاه المهدوي إن قولهما : فلا تكفر ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل النصيحة.
وقوله : حتى يقولا مطلقاً في القول ، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة ، فقيل مرة ، وقيل سبع مرات ، وقيل تسع مرات ، وقيل ثلاث.
ويحتاج ذلك إلى صحة نقل ، وإن لم يوجد ، فيكون محتملاً ، والمتحقق المرة الواحدة.
واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما ، فقال مجاهد : هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة ، فيتعلمان منهما ما يفرّقان به بين المرء وزوجه.
والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله : { وما يعلمان }.
وقد ذكر المفسرون قصصاً فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما ، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور.
فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه ، أيرى فارساً مقنعاً بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء؟ أو نوراً خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء؟ أو طائراً خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان.
وهذا كله شيء لا يصح ألبتة ، فلذلك لخصنا منه شيئاً ، وإن كان لا يصح ، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه.
{ فيتعلمون } : قاله الفراء ، واختاره الزجاج ، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فيأبون فيتعلمون.
وقال الفرّاء أيضاً : هو عطف على { يعلمون الناس السحر } ، { فيتعلمون منهما }.
وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون ، وقد قال منهما.
وأجازه أبو علي وغيره ، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون ، وإن كان التعليم من الملكين خاصة ، والضمير في منهما راجع إليهما ، لأن قوله : فيتعلمون منهما ، إنما جاء بعد ذكر الملكين.
وقال سيبويه : هو معطوف على كفروا ، قال : وارتفعت فيتعلمون ، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر ، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره ، ولكنه على كفروا فيتعلمون.
يريد سيبويه : أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله : فلا تكفر ، فينصب كما نصب { لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب } لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية ، ليس سبباً لتعلم من يتعلم.
وكفروا : في موضع فعل مرفوع ، فعطف عليه مرفوع ، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا ، أو على يعلمون ، بأن فيه إضمار الملكين.
قيل : ذكرهما من أجل أن التقدير : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس الحسر ، فيتعلمون منهما } ، لأن قوله : { فيتعلمون منهما } إنما جاء بعد ذكر الملكين ، كما تقدّم.
وقد نقل عن سيبويه أن قوله : فيتعلمون ، هو على إضمارهم ، أي فهم يتعلمون ، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل ، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس ، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان ، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد ، وجمع حملاً على المعنى ، كما قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } وهذا العطف ، وإن كان على منفي ، فلذلك المنفي هو موجب في المعنى ، لأن معناه : إنهما يعلمان كل واحد ، إذا قالا له : { إنما نحن فتنة فلا تكفر }.
وذكر الزجاج هذا الوجه.
وقال الزجاج أيضاً : الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون ، واستغنى عن ذكر يعلمان ، بما في الكلام من الدليل عليه.
وقال أبو علي : لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان ، لأنه موجود في النص.
انتهى كلام أبي علي ، وهو كلام فيه مغالطة ، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان ، الداخل عليها ما النافية في قوله : ولا ما يعلمان ، فيكون يعلمان موجوداً في النص ، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية.
وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص.
وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته ، لأنه كان مولعاً بذلك.
وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس.
انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف ، وأكثره كلام المهدوي ، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك.
وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير : فيأبون فيتعلمون ، أو يعلمان فيتعلمون ، أي على مثبت ، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية ، أو معطوفاً على يعلمون الناس ، أو معطوفاً على كفروا ، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى.
فتلك أقوال ستة ، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير.
{ منهما } : الضمير في الظاهر عائد على الملكين ، أي فيتعلمون من الملكين ، سواء قرىء بفتح اللام ، أو كسرها.
وقيل : يعود على السحر ، وعلى الذي أنزل على الملكين ، وقيل : عائد على الفتنة والكفر ، الذي هو مصدر مفهوم من قوله : { فلا تكفر } ، وهذا قول أبي مسلم ، والتقدير عنده : فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
{ ما يفرقون به } : ما موصولة ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأجل عود الضمير عليها.
والمصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف في قول الجمهور ، والذي يفرق به هو السحر.
وعني بالتفريق : تفريق الألفة والمحبة ، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان ، أو تفريق الدين ، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتداً ، فيكون ذلك مفرقاً بينهما.
{ بين المرء } : قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز.
وقرأ الحسن والزهري وقتادة : المر بغير همز مخففاً.
وقرأ ابن أبي إسحاق : المرء بضم الميم والهمزة.
وقرأ الأشهب العقيلي : المرء بكسر الميم والهمز ، ورويت عن الحسن.
وقرأ الزهري أيضاً : المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء.
فأمّا فتح الميم وكسرها وضمها فلغات ، وأما المر بكسر الراء فوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وأما تشديدها بعد الحذف ، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد ، كما روي عن عاصم : مستطرّ بتشديد الراء في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فأقرها على تشديدها فيه.
{ وزوجه } : ظاهره أنه يريد به امرأة الرجل.
وقيل الزوج هنا : الأقارب والإخوان ، وهم الصنف الملائم للإنسان ، ومنه { من كل زوج بهيج } { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } { وما هم بضارّين به } : الضمير الذي هو : هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون.
وقيل : على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا.
وقيل : على الشياطين.
وبضارين : في موضع نصب على أن ما حجازية ، أو في موضع رفع على أن ما تميمية.
والضمير في به عائد على ما في قوله : { ما يفرقون }.
وقرأ الجمهور : بإثبات النون في بضارين.
وقرأ الأعمش : بحذفها ، وخرّج ذلك على وجهين : أحدهما : أنها حذفت تخفيفاً ، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام.
والثاني : أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به ، كما قال :
هما أخوا في الحرب من لا أخا له . . .
وكما قال :
كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي . . .
وهذا اختيار الزمخشري ، ثم استشكل ذلك ، لأن أحداً مجرور بمن ، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال : فإن قلت : كيف يضاف إلى أحد ، وهو مجرور بمن؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور. انتهى.
وهذا التخريج ليس بجيد ، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف ، والجار والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه ، لأنه مشغول بعامل جر ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة.
وأما جعل حرف الجر جزأ من المجرور ، فهذا ليس بشيء ، لأنه مؤثر فيه.
وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء ، والأجود التخريج الأول ، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها.
فمن النثر قول العرب ، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، يريدون : ثنتان ومائتان.
{ من أحد } ، من زائدة ، وأحد : مفعول بضارين.
ومن تزاد في المفعول ، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو : ما ضربت من رجل ، وما ضرب زيد من رجل.
وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل ، لأن المعنى : وما يضرون من أحد.
{ إلا بإذن الله } : مستثنى مفرغ من الأحوال ، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله : { بضارين } ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو : { من أحد } ، ويحتمل أن يكون حالاً من به ، أي السحر المفرق به ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرف المحذوف.
والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناها عند الكلام على المفردات.
فقال الحسن : الإذن هنا : هو التخلية بين المسحور وضرر السحر.
وقال الأصم : العلم.
وقال غيره : الخلق ، ويضاف إلى إذنه كقوله : { كن فيكون } وقيل : الأمر ، قيل : والإذن حقيقة فيه ، واستبعد ذلك ، لأن الله لا يأمر بالسحر ، ولأنه ذمّهم على ذلك.
وأوّل معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة.
كافراً فإن هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله.
وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر ، لكن ذلك لا يضر إلا بإذن الله ، لأنه ربما أحدث الله عنده شيئاً ، وربما لم يحدث.
{ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } : لما ذكر أنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما ، ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك ، بل هو أيضاً يضر من تعلمه.
ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع ، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع ، نفى النفع عنه بالكلية ، وأتى بلفظ لا ، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل.
والظاهر أن { ولا يننفعهم } معطوف على { يضرهم } ، وكلا الفعلين صلة لما ، فلا يكون لها موضع من الإعراب.
وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو ، أي وهو لا ينفعهم ، فيكون في موضع رفع ، وتكون الواو للحال ، فتكون جملة حالية ، وهذا ضعيف.
وقد قيل : الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة.
وقيل : هو في الدنيا والآخرة ، فإن تعلمه ، إن كان غير مباح ، فهو يجر إلى العمل به ، وإلى التنكيل به ، إذا عثر عليه ، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب.
{ ولقد علموا } : الضمير عائد على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام ، وكانوا حاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه ، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه ، ولما أخرجوه بعد موته قالوا : والله ما هذا من عمل سليمان ولا من دخائزه.
وقيل : عائد على من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود.
وقيل : عائد على اليهود قاطبة ، أي علموا ذلك في التوراة.
وقيل : عائد على علماء اليهود.
وقيل : عائد على الشياطين.
وقيل : على الملكين ، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر : فلا تكفر ، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة.
وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك.
وعلم : هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين ، وعلقت عن الجملة ، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد ، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت.
والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها.
واللام في : { لمن اشتراه } هي لام الابتداء ، وهي المانعة من عمل علم ، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق ، وأجازوا حذفها ، وهي باقية على منع العمل ، وخرجوا على ذلك.
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب . . .
يريد لملاك الشيمة.
ومن هنا موصولة ، وهي مرفوعة بالابتداء.
والجملة من قوله : { وما له في الآخرة من خلاق } في موضع الخبر.
واللام في لقد للقسم.
هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين.
وجملة { ولقد علموا } مقسم عليها التقدير : والله لقد علموا.
والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها.
وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما ، وتكون من للشرط ، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء.
قال أبو البقاء : اللام في { لمن اشتراه } هي التي يوطأ بها القسم مثل : { لئن لم تنته } ومن في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط وجواب القسم { ما له في الآخرة من خلاق }.
انتهى كلامه.
فاشتراه في القول الأول صلة ، وفي هذا القول خبر عن من ، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم ، لأنه اجتمع قسم وشرط ، ولم يتقدّمهما ذو خبر ، فكان الجواب للسابق ، وهو القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ.
هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه.
وفي كلا القولين يكون : لمن اشتراه ، في موضع نصب : بيعلموا.
وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط ، وقال هذا ليس موضع شرط ، ولم ينقل عنه توجيه ، كونه ليس موضع شرط.
وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى ، لأن الاشتراء قد وقع ، وجعله شرطاً لا يصح ، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً ، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى.
فلما كان كذلك ، كان ليس موضع شرط.
والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر ، أو الكفر ، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر ، أو القرآن ، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر ، أقوال أربعة.
والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد ، أو الدين ، قاله الحسن؛ أو القوام ، قاله ابن عباس ، أو الخلاص ، أو القدر ، قاله قتادة؛ أقوال خمسة.
{ ولبئس ما شروا به أنفسهم } : تقدّم القول في بئس ، وفي ما الواقعة بعدها ، ومعناه : ذمّ ما باعوا به أنفسهم.
والضمير في به عائد على السحر ، أو الكفر.
والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره : على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر ، أو الكفر.
والضمير في : شروا ، ويعلمون ، باتفاق لليهود.
فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين ، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان ، وفي زمانه ، أو الملكين بفتح اللام ، أو بكسرها ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم.
وإن اتحد المسند إليه ، أوّل العلم الثاني بالعقل ، لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل ، نفى ثمرته.
أو بالعمل ، لأنه من ثمرة العلم ، فلما انتفت الثمرة ، جعل ما ينشأ عنه منفياً ، أو أوّل متعلق العلم ، وهو المحذوف ، أي علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا.
أو علموا نفي الثواب ، ولم يعلموا استحقاق العذاب.
وجواب لو محذوف تقديره : { لو كانوا يعلمون }.
ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم.
{ ولو أنهم آمنوا واتقوا } : قد تقدّم الكلام في لو وأقسامها ، وهي هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، ويأتي الكلام على جوابها إن شاء الله.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون قوله : { ولو أنهم آمنوا } تمنياً لإيمانهم ، على سبيل المجاز ، عن إرادة الله ، إيمانهم واختيارهم له ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا ، ثم ابتدىء : { لمثوبة من عند الله خير } ، انتهى.
فعلى هذا لا يكون للجواب لازم ، لأنها قد تجاب إذا كانت للتمني بالفاء ، كما يجاب ليت.
إلا أن الزمخشري دس في كلامه هذا ، ويحرجه مذهبه الاعتزالي ، حيث جعل التمني كناية عن إرادة الله ، فيكون المعنى : إن الله أراد إيمانهم ، فلم يقع مراده ، وهذا هو عين مذهب الاعتزال ، والطائفة الذين سموا أنفسهم عدلية :
قالوا يريد ولا يكون مراده . . .
عدلوا ولكن عن طريق المعرفه
وأنهم آمنوا ، يتقدّر بمصدر كأنه قيل : ولو إيمانهم ، وهو مرفوع.
فقال سيبويه : هو مرفوع بالابتداء ، أي ولو إيمانهم ثابت.
وقال المبرد : هو مرفوع على الفاعلية ، أي ولو ثبت إيمانهم.
ففي كل من المذهبين حذف للمسند ، وإبقاء المسند إليه.
والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو ، والضمير في أنهم لليهود ، أو الذين يعلمون السحر ، قولان.
والإيمان والتقوى : الإيمان التام ، والتقوى الجامعة لضروبها ، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به ، وتقوى الكفر والسحر ، قولان متقاربان.
{ لمثوبة } : اللام لام الابتداء ، لا الواقعة في جواب لو ، وجواب لو محذوف لفهم المعنى ، أي لا ثيبوا ، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي ، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم ، وترتبه عليهما ، هذا قول الأخفش ، أعني أن الجواب محذوف.
وقيل : اللام هي الواقعة في جواب لو ، والجواب : هو قوله : { لمثوبة } ، أي الجملة الإسمية.
والأول اختيار الراغب ، والثاني اختيار الزمخشري.
قال : أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو ، لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في : سلام عليكم لذلك ، انتهى كلامه.
ومختاره غير مختار ، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً للو ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه.
ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل ، وليس مثل سلام عليكم ، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب.
ووجه من أجاز ذلك قوله : بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال ، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في ( كتاب التكميل ) من تأليفنا ، بأشبع من هذا.
وقرأ الجمهور : لمثوبة بضم الثاء ، كالمشورة.
وقرأ قتادة وأبو السمال وعبد الله بن بريدة : بسكون الثاء ، كمشورة.
ومعنى قوله : لمثوبة ، أي لثواب ، وهو الجزاء والأجر على الإيمان والتقوى بأنواع الإحسان.
وقيل : لمثوبة : لرجعة إلى الله خير.
{ من عند الله } : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة ، أي كائنة من عند الله.
وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة.
وفي وصف المثوبة بكونها من عندالله ، تفخيم وتعظيم لها ، ولمناسبة الإيمان والتقوى.
لذلك ، كان المعنى : أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه ، هو الذي ثوابكم منه على ذلك ، فهو المتكفل بذلك لكم.
واكتفى بالتنكير في ذلك ، إذ المعنى لشيء من الثواب.
قليلك لا يقال له قليل . . .
{ خير } خبر لقوله : لمثوبة ، وليس خير هنا أفعل تفضيل ، بل هي للتفضيل ، لا للأفضلية.
فهي كقوله : { أفمن يلقى في النار خير } ، { وخير مستقراً }.
فشركما لخيركما الفداء . . .
{ لو كانوا يعلمون } : جواب لو محذوف : التقدير : لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً ، ويعني سبب المثوبة ، وهو الإيمان والتقوى.
ولذلك قدّره بعضهم لآمنوا ، لأن من كان ذا علم وبصيرة ، لم يخف عليه الحق ، فهو يسارع إلى اتباعه ، ولا الباطل ، فهو يبالغ في اجتنابه.
ومفعول يعلمون محذوف اقتصاراً ، فالمعنى : لو كانوا من ذوي العلم ، أو اختصاراً ، فقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، وقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.
وقيل : العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم ، ولما انتقت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم منتفياً.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ما كان عليه اليهود من خبث السريرة ، وعدم التوفيق والطواعية لأنبياء الله ، ونصب المعاداة لهم ، حتى انتهى ذلك إلى عداوتهم من لا يلحقه ضرر عداوتهم ، وهو من لا ينبغي أن يعادى ، لأنه السفير بين الله وبين خلقه ، وهو جبريل.
أتى بالقرآن المصدّق لكتابهم ، والمشتمل على الهدى والبشارة لمن آمن به ، فكان ينبغي المبادرة إلى ولائه ومحبته.
ثم أعقب ذلك بأن من كان عدوًّا لله ، أي مخالفاً لأمره وملائكته ورسله ، أي مبغضاً لهم ، فالله عدوّه ، أي معامله بما يناسب فعله القبيح.
ثم التفت إلى رسوله بالخطاب ، فأخبره بأنه أنزل عليه آيات واضحات ، وأنها لوضوحها ، لا يكفر بها إلا متمرد في فسقه.
ثم أخذ يسليه بأن عادة هؤلاء نكث عهودهم ، فلا تبال بمن طريقته هذه ، وأنهم سلكوا هذه الطريقة معك ، إذ أتيتهم من عند الله تعالى بالرسالة ، فنبذوا كتابه تعالى وراء ظهورهم ، بحيث صاروا لا ينظرون فيه ، ولا يلتفتون لما انطوى عليه من التبشير بك ، وإلزامهم اتباعك ، حتى كأنهم لم يطلعوا على الكتاب ، ولا سبق لهم بك علم منه.
ثم ذكر من مخازيهم أنهم تركوا كتاب الله واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر على عهد سليمان.
ثم نزه نبيه سليمان عن الكفر ، وأن الشياطين هم الذين كفروا.
ثم استطرد في أخبار هاروت وماروت ، وأنهما لا يعلمان أحداً حتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاءً واختباراً ، وأنهما لمبالغتهما في النصيحة ينهيان عن الكفر.
ثم ذكر أن قصارى ما يتعلمون منهما هو تفريق بين المرء وزوجه.
ثم ذكر أن ضرر ذلك لا يكون إلا بإذن من الله تعالى ، لأنه تعالى هو الضار النافع.
ثم أثبت أن ما يتعلمون هو ضرر لملابسة ومتعلمه.
ثم أخبر أنهم قد علموا بحقيقة الضرر ، وإن متعاطي ذلك لا نصيب له في الآخرة.
ثم بالغ في ذم ما باعوا به أنفسهم ، إذ ما تعوضوه مآله إلى الخسران.
ثم ختم ذلك بما لو سلكوه ، وهو الإيمان والتقوى ، لحصل لهم من الله الثواب الجزيل على ذلك ، وأن جميع ما اجترموه من المآثم ، واكتسبوه من الجرائم ، يعفي على آثاره جرّ ذيل الإيمان ، ويبدّل بالإساءة جميل الإحسان.
ولما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمن الوعيد من قوله : { فإن الله عدوّ للكافرين } ، وقوله : { وما يكفر بها إلا الفاسقون } ، وذكر نبذ العهود ، ونبذ كتاب الله ، واتباع الشياطين ، وتعلم ما يضر ولا ينفع ، والإخبار عنهم بأنهم علموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى.
فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد ، والترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء ، وإخبار بمغيب بعد مغيب ، متناسقاً تناسق اللآلىء في عقودها ، متضحة اتضاح الدراري في مطالع سعودها ، معلمة صدق من أتى بها ، وهو ما قرأ الكتب ، ولا دارس ، ولا رحل ، ولا عاشر الأحبار ، ولا مارس { وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحي ، علمه شديد القوى } صلى الله عليه وأوصل أزكى تحية إليه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
الرعاية والمراعاة : النظر في مصالح الإنسان وتدبير أموره.
والرعونة والرعن : الجهل والهوج.
ذو : يكون بمعنى صاحب ، وتثنى ، وتجمع ، وتؤنث ، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر.
وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف ، المشهور : المنع ، ولا خلاف أنه مسموع ، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة.
وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع ، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع.
فمن الأول قولهم : ذو يزن ، وذو جدن ، وذو رعين ، وذو الكلاع.
فتجب الإضافة إذ ذاك.
ومن الثاني قولهم : في تبوك ، وعمرو ، وقطرى : ذو تبوك ، وذو عمرو ، وذو قطرى.
والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو ، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو.
وما جاء من إضافته لضمير العلم ، أو لضمير مخاطب لا ينقاس ، كقولهم : اللهم صل على محمد وعلى ذويه ، وقول الشاعر :
وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما . . .
رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل
ومذهب سيبويه : أن وزنه فعل ، بفتح العين ، ومذهب الخليل : أن وزنه فعل ، بسكونها.
واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال.
قالوا : أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو ، وفي النصب بالألف ، وفي الجر بالياء.
وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء ، فذلك على جهة الجواز.
وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو ، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة ، وذلك في لغة طيء ، ولها أحكام ، ولم تقع في القرآن.
النسخ : إزالة الشيء بغير بدل يعقبه ، نحو : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر.
أو نقل الشيء من غير إزالة نحو : نسخت الكتاب ، إذا نقلت ما فيه إلى مكان آخر.
النسيئة : التأخير ، نسأ ينسأ ، ويأتي نسأ : بمعنى أمضى الشيء ، قال الشاعر :
لمؤن كألواح الإران نسأتها . . .
على لاحب كأنه ظهر برجد
الولي : فعيل للمبالغة ، من ولي الشيء : جاوره ولصق به.
الحسد : تمني زوال النعمة عن الإنسان ، حسد يحسد حسداً وحسادة.
الصفح : قريب معناه من العفو ، وهو الإعراض عن المؤاخذة على الذنب ، مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضاً.
وقيل : هو التجاوز من قولك ، تصفحت الورقة ، أي تجاوزت عما فيها.
والصفوح ، قيل : من أسماء الله ، والصفوح : المرأة تستر بعض وجهها إعراضاً ، قال :
صفوح فما تلقاك إلا بخيلة . . .
فمن ملّ منها ذلك الوصل ملت
تلك : من أسماء الإشارة ، يطلق على المؤنثة في حالة البعد ، ويقال : تلك وتيلك وتالك ، بفتح التاء وسكون اللام ، وبكسرها وياء بعدها ، وكسر اللام وبفتحها ، وألف بعدها وكسر اللام ، قال :
إلى الجودي حتى صار حجراً . . .
وحان لتالك الغمر انحسارا
هاتوا : معناه أحضروا ، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتى ، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب ، وللزوم الألف ، إذ لو كانت همزة لظهرت ، إذ زال موجب إبدالها ، وهو الهمزة قبلها ، فليس وزنها أفعل ، خلافاً لمن زعم ذلك ، بل وزنها فاعل كرام.
وهي فعل ، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل ، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها.
ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر ، وهو الزمخشري ، وهو أمر وفعله متصرف.
تقول : هاتي يهاتي مهاتاة ، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه ، خلافاً لمن زعم ذلك.
وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف ، لأن الأصل أن لا حذف ، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان.
فمعنى هات أحضر ، ومعنى ائت أحضر.
وتقول : هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين ، تصرفها كرامي.
البرهان : الدليل على صحة الدعوى ، قيل : هو مأخوذ من البره ، وهو القطع ، فتكون النون زائدة.
وقيل : من البرهنة ، وهي البيان ، قالوا : برهن إذا بين ، فتكون النون زائدة لفقدان فعلن ووجود فعلل ، فينبني على هذا الاشتقاق.
التسمية ببرهان ، هل ينصرف أو لا ينصرف؟ الوجه : معروف ، ويجمع قلة على أوجه ، وكثرة على وجوه ، فينقاس أفعل في فعل الاسم الصحيح العين ، وينقاس فعول في فعل الاسم ليس عينه واواً.
اليهود : ملة معروفة ، والياء أصلية ، فليست مادة الكملة مادة هود من قوله : { هوداً أن نصارى } ، لثبوتها في التصريف يهده.
وأما هوّده فمن مادة هود.
قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه : يهود فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون جمع يهودي ، فتكون نكرة مصروفة.
والثاني : أن تكون علماً لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعة الصرف.
انتهى كلامه.
وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا : اليهود ، إذ لو كان علماً لما دخلته ، وعلى الثاني قال الشاعر :
أولئك أولى من يهود بمدحة . . .
إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب
ليس : فعل ماض ، خلافاً لأبي بكر بن شقير ، وللفارسي في أحد قوليه ، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما ، ووزنها فعل بكسر العين.
ومن قال : لست بضم اللام ، فوزنها عنده فعل بضم العين ، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين ، لم يسمع منه إلا قولهم : هيؤ الرجل ، فهو هيىء ، إذا حسنت هيئته.
وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو.
الحكم : الفصل ، ومنه سمي القاضي : الحاكم ، لأنه يفصل بين الخصمين.
الاختلاف : ضد الاتفاق.
{ يا أيها الذين آمنوا } : هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة ، بالنداء الدال على الإقبال عليهم ، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامًّا : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } وثاني نداء أتى خاصاً : { يا بني إسرائيل اذكروا } وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين : اليهودية والنصرانية ، وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين.
فكان أول نداء عامًّا ، أمروا فيه بأصل الإسلام ، وهو عبادة الله.
وثاني نداء ، ذكروا فيه بالنعم الجزيلة ، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة ، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة وثالث نداء : علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم ، إذ قد حصلت لهم عبادة الله ، والتذكير بالنعم ، والتخويف من النقم ، والاتعاظ بمن سبق من الأمم ، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل ، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه.
والتبجيل والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين ، قيل : ويحتمل أن يكون إلى كل مؤمن في عصره.
وروي عن ابن عباس : أنه حيث جاء هذا الخطاب ، فالمراد به أهل المدينة ، وحيث ورد يا أيها الناس ، فالمراد أهل مكة.
{ لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } : بدىء بالنهي ، لأنه من باب التروك ، فهو أسهل.
ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس ، قبل بالنهي.
ثم لم يكن نهياً عن شيء سبق تحريمه ، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالباً ، فصار المعنى : ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك ، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة ، وأمروا بأن يقولوا : انظرنا ، إذ هو فعل من النبي صلى الله عليه وسلم ، لا مشاركة لهم فيه معه.
وقراءة الجمهور : راعنا.
وفي مصحف عبد الله وقراءته ، وقراءة أبي : راعونا ، على إسناد الفعل لضمير الجمع.
وذكر أيضاً أن في مصحف عبد الله : ارعونا.
خاطبوه بذلك إكباراً وتعظيماً ، إذ أقاموه مقام الجمع.
وتضمن هذا النهي ، النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الحسن ، وابن أبي ليلى ، وأبو حياة ، وابن محيصن : راعنا بالتنوين ، جعله صفة لمصدر محذوف ، أي قولاً راعناً ، وهو على طريق النسب كلابن وتامر.
لما كان القول سبباً في السبب ، اتصف بالرعن ، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه ، أو يوهم شيئاً من الغض ، مما يستحقه صلى الله عليه وسلم من التعظيم وتلطيف القول وأدبه.
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك ، إذ خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعونة ، وكذا قيل في راعونا ، إنه فاعولاً من الرعونة ، كعاشورا.
وقيل : كانت لليهود كلمة عبرانية ، أو سريانية يتسابون بها وهي : راعينا ، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا ، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما هو في معناها.
ومن زعم أن راعنا لغة مختصة بالأنصار ، فليس قوله بشيء ، لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب.
وكذلك قول من قال : إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحاً ، لأن الأول لم يكن شرعاً متقرراً قبل.
وقيل في سبب نزولها غير ذلك.
وبالجملة ، فهي كما قال محمد بن جرير : كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
« لا تقولوا عبدي وأمتي وقولوا فتاي وفتاتي ولا تسموا العنب الكرم » وذكر في النهي وجوه : إن معناها اسمع لا سمعت ، أو إن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند المفر ، قاله قطرب ، أو أن اليهود كانوا يقولون : راعينا أي راعي غنمنا ، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة ، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه ، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة.
وقوله : انظرنا ، قراءة الجمهور ، موصول الهمزة ، مضموم الظاء ، من النظرة ، وهي التأخير ، أي انتظرنا وتأنّ علينا ، نحو قوله :
فإنكما إن تنظراني ساعة . . .
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
أو من النظر ، واتسع في الفعل فعدى بنفسه ، وأصله أن يتعدى بإلى ، كما قال الشاعر :
ظاهرات الجمال والحسن ينظر . . .
ن كما ينظر الأراك الظباء
يريد : إلى الأراك ، ومعناه : تفقدنا بنظرك.
وقال مجاهد : معناه فهمنا وبين لنا ، فسر باللازم في الأصل ، وهو انظر ، لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل ، والتأني به أن يفهم بذلك.
وقيل : هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه ، فاتسع في الفعل أيضاً ، إذ أصله أن يتعدى بفي ، ويكون أيضاً على حذف مضاف ، أي انظر في أمرنا.
قال ابن عطية : وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى : راعنا ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ، ليزول تعلق اليهود. انتهى.
وقرأ أبي والأعمش : أنظرنا ، بقطع الهمزة وكسر الظاء ، من الإنظار ، ومعناه : أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك.
وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور.
{ واسمعوا } : أي سماع قبول وطاعة.
وقيل : معناه اقبلوا.
وقيل : فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة.
وقيل : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه.
أكد عليهم ترك تلك الكلمة.
وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، فوالذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه.
{ وللكافرين عذاب أليم } : ظاهره العموم ، فيدخل فيه اليهود.
وقيل : المراد به اليهود ، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه.
ولما نهى أوّلاً ، وأمر ثانياً ، وأمر بالسمع وحض عليه ، إذ في ضمنه الطاعة ، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر ، { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } : ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : وددنا لو كان خيراً مما نحن عليه فنتبعه ، فأكذبهم الله بقوله : { ما يود الذين كفروا } ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب : الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والظاهر ، العموم في أهل الكتاب : وهم اليهود والنصارى ، وفي المشركين : وهم مشركو العرب وغيرهم ، ونفى بما ، ونها لنفي الحال ، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم.
ومن ، في قوله : من أهل الكتاب ، تبعيضية ، فتتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب.
ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا ، وبه قال الزمخشري ، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان.
{ ولا المشركين } ، معطوف على : { من أهل الكتاب }.
ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي ، صاحب ( التنبيه ) ، كلاماً يرد فيه على الشيعة ، ومن قال بمقالتهم : في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح ، للعطف في قوله : { وأرجلكم } ، على قوله : { برؤوسكم } ، خرج فيه أبو إسحاق قوله : وأرجلكم بالجر ، على أنه من الخفض على الجوار ، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار.
وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك ، وجعل منه قوله : ولا المشركين ، في هذه الآية ، وقوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } وأن الأصل هو الرفع ، أي ولا المشركون ، عطفاً على الذين كفروا ، وهذا حديث من قصر في العربية ، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة ، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح.
ودخلت لا في قوله : ولا المشركين ، للتأكيد ، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها.
ولم تأت في قوله : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } لمعنى يذكر هناك ، إن شاء الله تعالى
{ أن ينزل عليكم } : في موضع المفعول بيود ، وبناؤه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وللتصريح به في قوله : { من ربكم }.
ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله : { من ربكم }.
{ من خير } ، من : زائدة ، والتقدير : خير من ربكم ، وحسن زيادتها هنا ، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي ، فليس نظير : ما يكرم من رجل ، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة ، كان كأنه نفى متعلقها ، وهو الإنزال ، وله نظائر في لسان العرب ، من ذلك قوله تعالى : { أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر } فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء ، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول ، وإن لم يباشره حرف النفي ، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد ، فيما أظن.
وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل.
وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان ، فيجوز زيادتها ، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه ، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره.
ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة.
وذهب قوم إلى أن من للتبعيض ، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم ، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.
{ من ربكم } : من : لابتداء الغاية ، كما تقول : هذا الخير من زيد.
ويجوز أن تكون للتبعيض.
المعنى من خير كائن من خيور ربكم ، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله : ينزل ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف ، وكان ذلك على حذف مضاف ، كما قدّرناه.
والخير هنا : القرآن ، أو الوحي ، إذ يجمع القرآن وغيره ، أو ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعظيم؛ أو الحكمة والقرآن والظفر؛ أو النبوة الإسلام ، أو العلم والفقه والحكمة؛ أو هنا عام في جميع أنواع الخير ، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين ، سبعة أقوال ، أظهرها الآخر.
وسبب عدم ودهم ذلك : أما في اليهود ، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما النصارى ، فلتكذيبهم في إدعائهم ألوهية عيسى ، وأنه ابن الله ، ولخوفهم على رئاستهم ، وأما المشركون ، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة ، واتباع الناس له.
{ والله يختصّ برحمته من يشاء } : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك.
ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً ، أي ينفرد ، أو متعدّياً ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك.
يقال : اختصّ زيد بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، والله يفرد برحمته من يشاء ، فيكون من فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيداً بكذا.
فإذا كان لازماً ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعدياً ، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو : كسب زيد مالاً ، واكتسب زيد مالاً.
والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها؛ أو النبوّة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله عليّ والباقر ومجاهد والزجاج؛ أو الإسلام ، قاله ابن عباس؛ أو القرآن ، أو النبي صلى الله عليه وسلم ، { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } هو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول
{ والله ذو الفضل العظيم } : قد تقدّم أن ذو بمعنى صاحب.
وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو ، أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبداً لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف.
ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها.
وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاز أن يقول : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله : { ذو الجلال } { ذو الفضل } ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى : { وذا النون إذ ذهب مغاضباً } ، وقوله تعالى : { ولا تكن كصاحب الحوت } إن شاء الله تعالى.
وتقدّم تفسير { الفضل العظيم } ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق ، وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوّة.
وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله :
{ وكان فضل الله عليك عظيماً } أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح؛ أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة ، { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول.
{ ما ننسخ من آية } : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غداً ، ويقول اليوم قولاً ، ويرجع عنه غداً ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وأنه يناقض بعضه بعضاً ، فنزلت.
وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلاً ، ووقوعه شرعاً ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطوّلوا في ذلك.
وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه.
وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير.
ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير.
وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير.
فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره ، إن النحوي مثلاً يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في الله ، أهي منقلبة من ياء أو واو؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل.
ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس.
ثم استطرد إلى أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب.
ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم.
فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، قدّس الله تربته ، يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات.
وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمداً ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير.
وأسأل الله التوفيق للصواب.
وما من قوله : ما ننسخ ، شرطية ، وهي مفعول مقدّم ، وفي ننسخ التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم.
ألا ترى إلى قوله : { والله يختصّ } ؟ { والله ذو الفضل } ؟ وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معاً ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط.
وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ، لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً.
وليس الأمركذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخاً ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً ، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً.
قال أبو عليّ : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ.
انتهى كلامه.
فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب.
وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية.
وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين.
تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء ، أي يزيله.
وقال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخة ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً.
وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ.
وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ.
وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها.
انتهى كلامه.
وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه.
وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو ننساها ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية.
التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله : { ما ننسخ من آية } مفلتاً من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى.
من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس.
والمعنى : أي شيء من الآيات.
وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله : { ما يفتح الله للناس من رحمة } { وما بكم من نعمة } وقولهم : من يضرب من رجل اضربه.
ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط ، لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم.
لو قلت : من يضرب أضرب ، كان عاماً في مدلول من.
فإذا قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين.
ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز.
قال : والمميز ما قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية.
قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية.
لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه.
وجوّزوا أيضاً أن تكون من زائدة ، وآية حالاً.
والمعنى : أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً.
قالوا : وقد جاءت الآية حالاً في قوله تعالى هذه : { ناقة الله لكم آية } وهذا فاسد لأن ، الحال لا يجرّ بمن وجوّزوا أيضاً أن تكون ما مصدراً ، وآية مفعولاً به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدراً جائز ، تقول : ما تضرب زيداً أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله ، وقال الشاعر :
نعب الغراب فقلت بين عاجل . . .
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب
وهذا فاسد ، لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عرى الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط.
ألا ترى أنك لو قلت : أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين.
والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين.
{ أو ننساها } : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة.
وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز.
وذكر أبو عبيد البكري في ( كتاب اللآلىء ) ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال : وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر.
وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزو.
وقرأ أبو حياة كذلك ، إلا أنه ضم التاء.
وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز.
وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز.
وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين.
وقرأ الضحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز.
وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة.
وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة.
وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها.
وهكذا ثبت في مصحف عبد الله ، فتحصل في هذه اللفظة ، دون قراءة الأعمش ، إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها ونسك وننسكها.
وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد الله وابن عباس أيضاً ، أو الرفع ، قاله السدّي.
وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان من النسيان ضد الذكر ، فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ، فالمعنى : أو نترك إنزالها ، قاله الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظاً يتلى ولا حكماً يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال :
إن عليّ عقبة أقضيها . . .
لست بناسيها ولا منسيها
أي لا آمر بتركها.
وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ، لأنه لا يقال : أنسى بمعنى ترك.
وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ، لأنه بمعنى نجعلك تتركها.
وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نسي قرآناً.
وقال أبو عليّ وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه.
واحتج الزجاج بقوله تعالى : { ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك } أي لم نفعل.
قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه.
قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أراد الله أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآناً جائزاً.
وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : «أفي القوم أبي؟» قال : نعم يا رسول الله ، قال : «فلم لم تذكرني؟» قال : خشيت أنها رفعت».
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لم ترفع ولكني نسيتها».
انتهى كلام ابن عطية.
وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوماً أو يومين ، أو أكثر أخرها عن الورد.
وأما في الآية فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظاً وحكماً ، قاله ابن زيد ، أونمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله : { نأت بخير منها } ، لأن ما أمضى وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها.
وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها.
ثم قال : أو ننساها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها.
وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن.
{ نأت } : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلى الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين.
{ بخير منها } : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ، لأن المأتي به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب.
{ أو مثلها } : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة.
وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية.
ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله : { أو مثلها } ، فإنه لا يصح عطفه على قوله : { بخير } على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غيره بدل ، هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف.
وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار.
{ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ؟ قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : أم تريدون.
وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي.
انتهى كلامه ونقله.
وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جداً ، خصوصاً إذا دخل على النفي : { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } { أليس الله بأحكم الحاكمين } { ألم نربك فينا وليداً } { ألم يجدك يتيماً فآوى } { ألم نشرح لك صدرك } فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ، لأنه إنما يراد به التقرير.
والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل.
وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا رادَّ لأمره ، ولا معقب لحكمه.
وفي قوله : { ألم تعلم أن الله } ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : { من خير من ربكم } ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : { ألم تعلم أننا } إلى قوله : { ألم تعلم أن الله } ، وقد تقدم تفسيره قوله : { إن الله على كل شيء قدير } في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته.
{ ألم تعمل أن الله له ملك السموات والأرض } ؟ هذا أيضاً استفهام دخل على النفي فهو تقرير ، فليس له معادل ، لأن التقرير معناه : الإيجاب ، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السموات والأرض والاستيلاء عليهما ، فهو يملك أموركم ويدبرها ، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره ، وخص السموات والأرض بالملك ، لأنهما من أعظم المخلوقات ، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات.
وإذا كان استيلاؤه على الطرفين ، كان مستولياً على ما اشتملا عليه ، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسموات ، والسفلية بالأرض.
وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف ، وهما : القدرة والاستيلاء ، لأن الشخص قد يكون قادراً ، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء ، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء ، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل.
فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية ، كمل بذلك التصرف مع الإرادة.
وبدأ بالتقرير على وصف القدرة ، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان.
{ وما لكم من دون الله } : انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة ، وناسب الجمع هنا ، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصاً في العموم ، فناسب كون المنفي عنه يكون عاماً أيضاً ، كان المعنى : وما لكل فرد منكم فرد فرد.
{ من ولي ولا نصير } : وأتى بصيغة ولي ، وهو فعيل ، للمبالغة ، ولأنه أكثر في الاستعمال ، ولذلك لم يجيء في القرآن وال إلا في سورة الرعد ، لمواخاة الفواصل ، وأتى بنصير على وزن فعيل ، لمناسبة وليّ في كونهما على فعيل ، ولمناسبة أواخر الآي ، ولأنه أبلغ من فاعل.
ومن زائدة في قوله : { من ولي } ، فلا تتعلق بشيء.
ومن : في { من دون الله } متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم ، وهو يتعلق بمحذوف ، إذ هو في موضع الخبر ، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية ، ويجوز أن تكون حجازية على ذهب من يجيز تقدم خبرها ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً.
أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية ، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية.
وتكرر اسم الله ظاهراً في هذه الجمل الثلاث ، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها ، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير ، وهو إيجاب من حيث المعنى ، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفياً للولي والناصر ، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه ، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء ، ولا مغالب له تعالى فيما يريد.
{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } : اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل عن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل الصفا ذهباً ، ووسع لنا أرض مكة ، وفجر الأنهار خلالها تفجيراً ، ونؤمن لك.
وقيل : تمنى اليهود وغيرهم من المشركين ، فمن قائل : إئتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة.
ومن قائل : ائتني بكتاب من السماء فيه : من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية ، إني قد أرسلت محمداً إلى الناس.
ومن قائل : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً.
وقيل : إن رافع بن خزيمة ، ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب من السماء ، وفجر لنا أنهاراً ، نتبعك.
وقيل : إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال : « كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطىء ، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة » وقيل : اليهود وكفار قريش سألوا ردّ الصفا ذهباً ، وقيل لهم : خذوه كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا.
وقيل : سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما كانت للمشركين ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم.
كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
ويحتمل أن تكون هذه كلها أسباباً في نزول هذه الآية ، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب ، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب.
وأم : هنا منقطعة ، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة ، فالمعنى : بل أتريدون ، فبل تفيد الإضراب عما قبله ، ومعنى الإضراب هنا : هو الانتقال من جملة إلى جملة ، لا على سبيل إبطال الأولى.
وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول.
وقد بينا ضعف ذلك.
وقالت فرقة : أم استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون.
وهذان القولان ضعيفان.
والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة.
فالمتصلة : شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام ، وأن يكون بعدها مفرد ، أو في تقدير المفرد.
والمنفصلة : ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما ، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً ، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط ، أو مرادفة لبل فقط ، أو زائدة ، فأقوال : ضعيفة.
وعلى الخلاف في المخاطبين ، يجيء الكلام في قوله : { رسولكم }.
فإن كان الخطاب للمؤمنين ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، فيكون رسولكم جاء على ما في نفس الأمر ، وعلى ما أقروا به من رسالته.
وإن كان الخطاب للكفار ، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم به.
ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله : { وم يتبدّل الكفر بالإيمان } ، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن ، وبأنه معطوف على قوله : { لا تقولوا راعنا } ، أي هل تفعلون ما أمرتم ، أم تريدون؟ ورجح أنهم اليهود ، لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفراً.
كما سئل : الكاف في موضع نصب ، فعلى رأي سيبويه : على الحال ، وعلى المشهور من مذاهب المعربين : نعت لمصدر محذوف ، فيقدر على قولهم : سؤالاً كما سئل ، ويقدر على رأي سيبويه : أن تسألوه ، أي السؤال كما سئل ، وما مصدرية التقدير كسؤال.
وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، التقدير : الذي سئله موسى.
وقرأ الجمهور : وسيل.
وقرأ الحسن وأبو السمال : بكسر السين وياء.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري : بإشمام السين وياء.
وقرأ بعض القراء : بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين.
وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل ، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة ، فتقول سأل.
فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور ، وقراءة من سهل الهمز بين بين.
واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واواً ، وتكون على فعل بكسر العين فتقول : سلت أسال ، كخفت أخاف ، أصله : سولت.
وعلى هذه اللغة تكون قراءة الحسن ، وقراءة من أشم.
وتخريج هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز ، فأبدلت الهمزة ألفاً ، فصار مثل : قال وباع ، فقيل فيه : سيل بالكسر المحض ، أو الإشمام ، لأن هذا الإبدال شاذ ولا ينقاس.
وتلك لغة ثانية ، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد.
وحذف الفاعل هنا للعلم به ، التقدير : كما سأل قوم موسى موسى من قبل.
{ موسى من قبل } : يتعلق هذا الجار بقوله : سئل ، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً ، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف.
فلذلك بنيت قبل على الضم ، والتقدير : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسؤال قوم موسى عليه السلام هو قولهم : { أرنا الله جهرة } { اجعل ن إلهاً } فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يقترحوا عليه ، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم.
وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال.
وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم.
ألا ترى أنه قال : { أم تريدون أن تسألوا } ؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال ، إذ لو كان السؤال قد وقع ، لكان التوبيخ عليه ، لا على إرادته ، وكان يكون اللفظ : أتسألون رسولكم؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدّي معنى وقوع السؤال ، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية ، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع.
{ ومن يتبدّل الكفر بالإيمان } ؟ تقدّم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان؟ وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } وفسر الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها.
وقال أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء.
وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم.
وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية ، لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتاً وإنكاراً ، وذلك كفر.
.
{ فقد ظل سواء السبيل } : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله : { ولا الضالين } وعلى سواء في قوله : { سواء عليهم أأنذرتهم } وأن سواء يكون بمعنى مستو.
ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ، لأن ذلك مستو ، وقال زهير :
أرونا خطة لا عيب فيها . . .
يسوى بيننا فيها السواء
ويفسر بمعنى الوسط.
قال تعالى : { فرآه في سواء الجحيم } أي في وسطها.
وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال حسان :
يا ويح أنصار النبي ورهطه . . .
بعد المغيب في سواء الملحد
وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة ، وفسره الفراء بالقصد.
ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيراً عن ذلك ، وتبعيداً منه.
فوبخهم أولاً على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية.
وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ، لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكاراً وتوبيخاً ، وعجزها تكفيراً وضلالاً.
وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة.
وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز.
وقد قرىء : { فقد ضل } ، بالإدغام وبالإظهار في السبعة.
{ ودّ كثير من أهل الكتاب } : المعنيّ بكثير : كعب بن الأشرف ، أو حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر ، أو نفر من اليهود حاولوا المسلمين بعد وقعة أحد أن يرجعوا إلى دينهم ، أو فنحاص بن عاذوراء وزيد بن قيس ونفر من اليهود حاولوا حذيفة وعماراً في رجوعهما إلى دينهم ، أقوال.
والقرآن لم يعين أحداً ، إنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب.
والخلاف في سبب النزول مبني على الخلاف في تفسير كثير من أهل الكتاب ، وتخصصت الصفة بقوله : { من أهل الكتاب } ، فلذلك حسن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه.
والكتاب هنا : التوراة.
{ لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً } : الكلام في لو هنا ، كالكلام عليها في قوله : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } فمن قال : إنها مصدرية ، قال : لو ، والفعل في تأويل المصدر ، وهو مفعول.
ودّ : أي ودّردكم ، ومن جعلها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل الجواب محذوفاً ، وجعل مفعول ودّ محذوفاً التقدير : ودّردكم كفاراً ، لو يردونكم كفاراً لسرّوا بذلك.
وقال بعض الناس تقديره : لو يردونكم كفاراً لودوا ذلك.
فودّ دالة على الجواب ، ولا يجوز لودّ الأولى أن تكون هي الجواب ، لأن شرط لو أن تكون متقدّمة على الجواب. انتهى.
وهذا الذي قدره ليس بشيء ، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله : لودوا ذلك ، كان ذلك دالاً على أن الودادة لم تقع ، لأنه جواب للو ، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره ، فامتنع وقوع الودادة ، لامتناع وقوع الرد.
والغرض أن الودادة قد وقعت.
ألا ترى إلى أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية؟ وهي وإن اختلفت فاتفقوا على وقوع الودادة ، وإن اختلفت أقوالهم بمن وقعت ، وتقدير جواب لو لودوا ذلك ، يدل على أن الودادة لم تقع ، فلذلك كان تقديره لسروا أو لفرحوا بذلك هو المتعين ، إذا جعلت لو تقتضي جواباً.
ويرد هنا بمعنى يصير ، فيتعدّى إلى مفعولين : الأول هو ضمير الخطاب ، والثاني كفاراً ، وقد أعربه بعضهم حالاً ، وهو ضعيف ، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها ، وهذا لا بد منه في هذا المكان.
ومن متعلقة بيرد ، وهي لابتداء الغاية ، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع ، ومن فسر كثيراً بواحد أو باثنين ، فجعل الواو له أو لهما ، ليس على الأصل.
{ حسداً من عند أنفسكم } : انتصاب حسداً على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ودّ ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد ، وجوزوا فيه أن يكون مصدراً منصوباً على الحال ، أي حاسدين ، ولم يجمع لأنه مصدر ، وهذا ضعيف ، لأن جعل المصدر حالاً لا ينقاس.
وجوزوا أيضاً أن يكون نصبه على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى ، التقدير : حسدوكم حسداً.
والأظهر القول الأول ، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله.
ويتعلق المجرور الذي هو : { من عند أنفسكم } ، إما بملفوظ به وهو ود ، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم ، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق.
ألا ترى إلى قوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم الحق } ؟ وإما بمقدر ، فيكون في موضع الصفة ، التقدير : حسداً كائناً من عند أنفسهم.
وعلى كلا التقديرين يكون توكيداً ، أي ودادتهم أو حسدهم من تلقائهم.
ألا ترى أن ودادة الكفر والحسد على الإيمان لا يكون إلا من عند أنفسهم؟ فهو نظير ، ولا طائر يطير بجناحيه.
وقيل : يتعلق الجار والمجرور بقوله : يردونكم ، ومن سببية ، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم.
{ من بعد ما تبين لهم الحق } : تتعلق من هذه بقوله : ود ، أي ودادتهم كفركم للحسد المنعبث من عند أنفسهم.
وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يغرب عليهم وضوح الحق ، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد.
وهذا يدل على أن الكفر يكون عناداً.
ألا ترى إلى ظاهر قوله : { من بعد ما تبين لهم الحق } ؟ قال ابن عطية : واختلف أهل السنة في جواز ذلك.
والصحيح عندي جوازه عقلاً ، وبعده وقوعاً ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني حال من العناد.
انتهى كلامه ، والألف واللام في الحق ، إما للعهد ، ويراد به الإيمان ، ويدل عليه جريانه قبل هذا ، أو الألف واللام للاستغراق ، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه.
.
{ فاعفلوا واصفحوا } ، قال ابن عباس : هي منسوخة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } وقيل : بقوله : { اقتلوا المشركين } وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ، لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته.
{ حتى يأتي الله بأمره } : غياً العفو والصفح بهذه الغاية ، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية ، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح.
وقال الكلبي : هو إسلام بعض واصطلام بعض.
وقيل : آجال بني آدم.
وقيل : القيامة ، وقيل : المجازاة يوم القيامة.
وقيل : قوة الرسالة وكثرة الأمة ، والجمهور على أنه الأمر بالقتال.
وعن الباقر : أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل أُذن للذين يقاتلون ، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم ، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا ، لأن ذلك كفر.
{ إن الله على كل شيء قدير } : مر تفسير هذه الآية ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين.
ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح ، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء؟.
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } : لما أمر بالعفو والصفح ، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه ، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس ، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق.
قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود : راعنا ، لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنون بما يحطه.
انتهى كلامه.
وليس له ذلك الظهور.
{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } : لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير ، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما.
والقول في إعراب ما ومن خير ، كالقول في إعراب : ما ننسخ من آية ، من أنهم قالوا : يجوز أن تكون ما مفعولة ، ومن خير : حال أو مصدر ، ومن خير : مفعول ، أو مفعولة ، ومن خير : تمييز أو مفعولة ، ومن خير ، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه.
لأنفسكم : متعلق بتقدموا ، وهو على حذف مضاف ، أي لنجاة أنفسكم وحياتها ، قال تعالى : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة ، والأظهر العموم تجدوه جواب الشرط ، والهاء عائدة على ما ، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية.
ونفس ذلك المنقضي لا يوجد ، فإنما ذلك على حذف مضاف ، أي تجدوا ثوابه.
فجعل وجوب ما ترتب على وجوداً له ، وتجدوه متعد إلى واحد ، لأنه بمعنى الإصابة.
والعامل في قوله : { عند الله } ، إما نفس الفعل ، أو محذوف ، فيكون في معنى الحال من الضمير ، أي تجدوه مدّخراً ومعدًّا عند الله.
والظرفية هنا المكاتبة ممتنعة ، وإنما هي مجاز بمعنى القبل ، كما تقول لك : عندي يد ، أي في قبلي ، أو بمعنى في علم الله نحو : { وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة } أي في علمه وقضائه ، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيماً كقوله : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته } { إن الله بما تعملون بصير } : المجيء بالإسم الظاهر يدل على استقلال الجمل ، فلذلك جاء إن الله ، ولم يجىء إنه ، مع إمكان ذلك في الكلام.
وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها ، تتضمن الوعد والوعيد.
وكنى بقوله : بصير عن علم المشاهد ، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه ، ومن كان مبصراً لفعلك ، لم يخف عليه ، هل هو خير أو شر ، وأتى بلفظ بصير دون مبصراً ، إما لأنه من بصر ، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان ، أو لأنه فعل للمبالغة بمعنى مفعل ، الذي هو للتكثير.
ويحتمل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، قال بعض الصوفية : على المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات ، واثقاً بأن ما تقدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات ، وأنشدوا :
سابق إلى الخير وبادر به . . .
فإنما خلفك ما تعلم
وقدم الخير فكل امرىء . . .
على الذي قدمه يقدم
{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أن نصارى } : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة ، وتناظرهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقالت اليهود : { ليست النصارى على شيء } ، وقالت النصارى : { ليست اليهود على شيء } ، وكفروا بالتوراة وموسى ، قاله ابن عباس.
والضمير في وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولهم في القول ، لن يدخل الجنة ، لأن القول صدر من الجميع ، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك ، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكماً على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى ، ولذلك جاء في العطف بأو التي هي للتفصيل والتنويع ، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين ، وتضليل بعضهم بعضاً ، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة ، ونظيره في لف الضمير ، وفي كون أو للتفصيل قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } ، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية ، ولا النصراني يأمر باليهودية ، ولما كان دخول الجنة متأخراً ، جاء النفي بلن المخلصة للاستقبال ، ومن فاعلة بيدخل ، وهو من الاستثناء المفرّغ ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من.
ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلاً ، أو يكون منصوباً على الاستثناء ، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف ، ويجعله هو الفاعل ، ويحذفه ، وهو لو كان ملفوظاً به لجاز البدل والنصب على الاستثناء ، فكذلك إذا كان محذوفاً وحمل أولاً على لفظ من ، فأفرد الضمير في كان ، ثم حمل على المعنى ، فجمع في خبر كان فقال : { هوداً أو نصارى }.
وهود : جمع هائد ، كعائد وعود.
وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصرى.
وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون ، ومن كان قائمين الزيدان.
فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك.
وذهب قوم إلى المنع ، وإليه ذهب أبو العباس ، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية ، فإن هوداً في الأظهر جمع هائد ، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبن مؤنثها بالتاء ، وكقول الشاعر :
وأيقظ من كان منكم نياما . . .
فنيام : جمع نائم ، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤمثها بالتاء ، وقدم هوداً على نصارى لتقدمها في الزمان.
وقرأ أبي : إلا من كان يهودياً أو نصرانياً ، فحمل الاسم والخبر معاً على اللفظ ، وهو الإفراد والتذكير.
{ تلك أمانيهم } : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم.
وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة ، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث ، فحمله الزمخشري على الجمع قال : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم.
انتهى كلامه.
وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر ، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء ، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول ، فيبعد أن يشار إليها.
وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف ، وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ ، وأمانيهم خبر.
فقلب هو الوضع ، إذ قال : أن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه.
وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ ، فلا يجوز تقديمه ، مثل : زيد زهير ، نص على ذلك النحويون.
فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به ، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة ، إذ جعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً كقولك : الأسد زيد شجاعة ، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم : { لن يدخل الجنة } ، أي تلك المقالة أمانيهم ، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول ، وإنما ذلك على سبيل التمني.
وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم ، لكنها لما لم تكن عن برهان ، كانت أماني ، والتمني يقع بالجائز والممتنع.
فهذا من الممتنع ، ولذلك أتى بلفظ الأماني ، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم ، لأن الرجاء يتعلق بالجائز ، تقول : ليتني طائر ، ولا يجوز ، لعلني طائر ، وإنما أفرد المبتدأ لفظاً ، لأنه كناية عن المقالة ، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير ، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين ، ولذلك جمع الخير ، فطابق من حيث المعنى في الجمعية.
وقد تقدّم شرح الأماني في قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } فيحتمل أن يكون المعنى : تلك أكاذيبهم وأباطيلهم ، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم ، أو تلك تلاواتهم.
{ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } : لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا ، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم.
وفي هذا دليل على أن من ادعى نفياً أو إثباتاً ، فلا بد له من الدليل.
وتدل الآية على بطلان التقليد ، وهو قبول الشيء بغير دليل.
قال الزمخشري : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل.
إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم ، أي أوضحوا دعوتكم.
وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة.
وقيل : صادقين في إيمانكم.
وقيل : في أمانيكم.
وقيل معنى صادقين : صالحين كما زعمتم ، وكل ما أضيف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق.
تقول : رجل صدق ، وصديق صدق ، ودالة صدق ، ومنه : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقيل : معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده ، ومنه : { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }.
{ بلى } : رد لقولهم : { لن يدخل الجنة } ، والكلام فيها كالكلام الذي تقدّم في قوله : { بلى من كسب سيئة } وقبل ذلك : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } وكلاهما فيه نفي وإيجاب ، إلا أن ذلك استثناء مفرّغ من الأزمان ، وهذا استثناء مفرّغ من الفاعلين.
وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله : { قل هاتوا برهانكم } من النفي ، لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم ، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهاناً ، وهذا ينبو عنه اللفظ.
{ من أسلم وجهه لله } : الكلام في : من ، كالكلام في : من ، من قوله : { من كسب سيئة } ، والأظهر أنها مبتدأة ، وجوّزوا أن تكون فاعلة ، أي يدخلها من أسلم ، وإذا كانت مبتدأة ، فلا يتعين أن تكون شرطية.
فالجملة بعدها هي الخبر ، وجواب الشرط { فله أجره }.
وإذا كانت موصولة ، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب ، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية ، وإذا كانت من فاعلة فقوله : { فله أجره } جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن.
والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر ، لأنه أشرف الأعضاء ، أو لأنه فيه أكثر الحواس ، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه : { كل شيء هالك إلا وجهه }
، ويحتمل أن يراد به الجهة ، والمعنى : أخلص طريقته في الدين لله.
وقال مقاتل : أخلص دينه.
وقال ابن عباس : أخلص عمله لله.
وقيل : قصده.
وقيل : فوّض أمره إلى الله تعالى.
وقيل : خضع وتواضع.
وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال ، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضاً.
وهذا نظير ما يقوله النحوي : الفاعل زيد من قولك ، قام زيد ، وآخر يقول : جعفر من خرج جعفر ، وآخر يقول : عمرو من انطلق عمرو ، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم الله ، فيما جاء عنهم من هذا النوع.
{ وهو محسن } : جملة حالية ، وهي مؤكدة من حيث المعنى ، لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن.
وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل؛ وجعل معنى قوله : { من أسلم وجهه لله } : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن في عمله ، فصارت الحال هنا مبينة ، إذ من لا يشرك قسمان : محسن في عمله ، وغير محسن ، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه ، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة ، ولذلك فسر قوله : { فله أجره } الذي يستوجبه ، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال : « أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان ، وفسر بالقيام بالأوامر ، والانتهاء عن المناهي.
{ فله أجره عند ربه } : العامل في عند هو العامل في له ، أي فأجره مستقر له عند ربه ، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظه ربه ، أي الناظر في مصالحة ومربيه ومدبر أحواله ، ليكون ذلك أطمع له ، فلذلك أتى بصفة الرب ، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله ، ولا بالظاهر بلفظ الله.
فلم يأت فله أجره عنده ، لما ذكرناه ، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر ، ولم يأت فله أجره عند الله ، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب.
{ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } : جمع الضمير في قوله : { عليهم ولا هم يحزنون } حملاً على معنى من ، وحمل أوّلاً على اللفظ في قوله : { من أسلم وجهه له وهو محسن فله أجره عند ربه } ، وهذا هو الأفصح ، وهو أن يبدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى.
وقد تقدم تفسير هذه الجملة.
وقراءة ابن محيصن : فلا خوف ، برفع الفاء من غير تنوين ، باختلاف عنه.
وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم : فلا خوف ، بالفتح من غير تنوين ، وتوجيه ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا.
{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } ، قيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى ، فهذا من الإخبار عن الأمم السالفة ، وتكون أل للجنس ، ويكون في ذلك تقريع لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفريقين ، وتسلية له صلى الله عليه وسلم ، إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله.
وقيل : المراد يهود المدينة ونصارى نجران ، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا ، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوّة عيسى ، وأنكرت النصارى التوراة ونبوّة موسى.
فتكون حكاية حال ، وأل للعهد ، أو المراد بذلك رجلان : رجل من اليهود ، يقال له نافع بن حرملة ، قال لنصارى نجران : لستم على شيء ، وقال رجل من نصارى نجران لليهود : لستم على شيء ، فيكون قد نسب ذلك للجميع ، حيث وقع من بعضهم ، كما يقال : قتل بنو تميم فلاناً ، وإنما قتله واحد منهم ، وذلك على سبيل المجاز والتوسع ، ونسبة الحكم الصادر من الواحد إلى الجمع.
وهو طريق معروف عند العرب في كلامها ، نثرها ونظمها.
ولما جمعهم في المقالة الأولى ، وهي : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } ، فصلهم في هذه الآية ، وبين قول كل فريق في الآخر.
وعلى شيء : في موضع خبر ليس ، ويحتمل أن يكون المعنى : على شيء يعتد به في الدين ، فيكون من باب حذف الصفة ، نظير قوله :
لقد وقعت على لحم . . .
أي لحم منيع ، وأنه ليس من أهلك ، أي من أهلك الناجين ، لأنه معلوم أن كلاً منهم على شيء ، أو يكون ذلك نفياً على سبيل المبالغة العظيمة ، إذ جعل ما هما عليه ، وإن كان شيئاً كلا شيء.
هذا والشيء يطلق عند بعضهم على المعدوم والمستحيل ، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء على ما هم عليه ، كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقولهم أقل من لا شيء.
{ وهم يتلون الكتاب } : جملة حالية ، أي وهم عالمون بما في كتبهم ، تالون له.
وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك ، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه ، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وصحة نبوّتهما.
وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضاً.
وفي هذا تنبيه لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم في أن من كان عالماً بالقرآن ، يكون واقفاً عنده ، عاملاً بما فيه ، قائلاً بما تضمنه ، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه ، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى.
والكتاب هنا قيل : هو التوراة والإنجيل.
وقيل : التوراة ، لأن النصارى تمتثلها.
{ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } : الذين لا يعلمون : هم مشركو العرب في قول الجمهور.
وقيل : مشركو قريش.
وقال عطاء : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى.
وقال قوم : المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم : أي قال اليهود مثل قول النصارى ، ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فجعلوا لا يعلمون.
والظاهر القول الأول.
وقال الزمخشري : أي مثل ذلك الذي سمعت على ذلك المنهاج.
قال : الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب ، كعبدة الأصنام ، والمعطلة ونحوهم قالوا : لكل أهل دين ليسوا على شيء ، وهو توبيخ عظيم لهم ، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم.
والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب ، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره : قولاً مثل ذلك القول ، { قال الذين لا يعلمون } ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال ، التقدير : مثل ذلك القول قاله ، أي قال القول الذين لا يعلمون ، وهذا على رأي سيبويه.
وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال ، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف.
وقيل : ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون ، أي الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود والنصارى ، قالوا : مثل : مقالتهم ، أي توافق الذين لا يعلمون مقالات النصارى ، واليهود مع اليهود والنصارى في ذلك ، أن من جهل قول اليهود والنصارى وافقهم في مثل ذلك القول.
وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء ، والجملة بعده خبر ، والعائد محذوف تقديره : مثل ذلك قاله الذين.
ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول ، لأن قال قد أخذ مفعوله ، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف ، أو على أنه مفعول ليعلمون ، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى.
قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى.
انتهى ما قالوه في هذا الوجه ، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسماً ، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك ، أعني أن تكون اسماً في الكلام ، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل ، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه ، وذلك نحو : زيد ضربته.
نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر ، وأنشدوا :
وخالد يحمد ساداتنا . . .
بالحق لا يحمد بالباطل
أي : يحمده ساداتنا.
وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو : هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.
{ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا في يختلفون } : أي يفصل ، والفصل : الحكم ، أو يريهم من يدخل الجنة عياناً ، ومن يدخل النار عياناً ، قاله الزجاج ، أو يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ، أو يثيب من كان على حق ، ويعذب من كان على باطل.
وكلها أقوال متقاربة.
والظرفان والجار الأول معمولان ليحكم ، وفيه متعلق بيختلفون.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة أشياء منها : افتتاحها بحسن النداء ، وإثبات وصف الإيمان لهم ، وتنبيههم على تعلم أدب من آداب الشريعة ، بأن نهوا عن قول لفظ لإيهام مّا إلى لفظ أنص في المقصود ، وأصرح في المطلوب.
ثم ذكر ما للمخالف من العذاب الذي يذله ويهينه.
ثم نبه على أن هذا الذي أمرتم به هو خير ، وأن الكفار لا يودّون أن ينزل عليكم شيء من الخير.
ثم ذكر أن ذلك ليس راجعاً لشهواتهم ، ولا لتمنيهم ، بل ذلك أمر إلهي يختص به من يشاء ، وأنه تعالى هو صاحب الفضل الواسع.
ولما كان صدر الآية فيه انتقال من لفظ إلى لفظ ، وأن الثاني صار أنص في المقصود بين أن ما يفعله الله تعالى من النسخ ، فإنما ذلك لحكمة منه ، فيأتي بأفضل مما نسخ أو بما ماثله.
وإن من كان قادراً على كل شيء ، فله التصرّف بما يريد من نسخ وغيره.
ونبه المخاطب على علمه بقدرة الله تعالى ، وبملكه الشامل لسائر المخلوقات ، وإنما نحن ما لنا من دونه من مانع يمنعنا منه.
فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ، ثم أنكر على من تعلقت إرادته بأن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً غير جائز ، كسؤالات قوم موسى له.
ثم ذكر أن من آثر الكفر على الإيمان ، فقد خرج عن قصد المنهج.
ثم ذكر أن الكثير من أهل الكتاب يودون ارتدادكم ، وأن الحامل لهم على ذلك الحسد.
ثم أمروا بالموادعة والصفح ، وغيا ذلك بأمر الله ، فإذا أتى أمر الله ارتفع الأمر بالعفو والصفح.
ثم اختتم الآية بذكر قدره الله تعالى على كل شيء ، لأن قبله وعداً بتغيير حال ، فناسب ذلك ذكر القدرة.
ثم أمرهم بما يقطع عنهم تلفت أقوال الكفار ، وهي الصلاة والزكاة ، وأخبر أن ما قدمتموه من الخير فإنه لا يضيع عند الله ، بل تجدوه مذخوراً لكم.
ثم اختتم ذلك حيث نبه على أن ما عمل من الخير هو عند الله ، بذكر صفة البصر التي تدل على مشاهدة الأشياء ومعاينتها.
ثم نعى على اليهود والنصارى من دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة ، وأن ذلك أكذوبة من أكاذيبهم المعروفة ، وأنهم طولبوا بإقامة البرهان على دعوى الاختصاص.
ثم ذكر أن من انقاد ظاهراً وباطناً لله تعالى فله أجره وهو آمن ، فلا يخاف مما يأتي ولا يحزن على ما مضى.
ثم أخذ يذكر مقالات النصارى واليهود بعضهم في بعض ، وأنها مقالة من أظهر التبرّؤ مما جاءت به الرسل وأفصحت عنه الكتب المنزلة ، وذلك كله على جهة العناد ، لأنهم تالون للكتب عالمون بما انطوت عليه ، فصاروا في الحياة الدنيا على مثل حالهم في الآخرة.
كما أخبر تعالى عنهم بقوله : { يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } ثم ذكر أن مقالتهم تلك ، وإن كانوا عالمين ، فهي مماثلة لمقالة من لا يعلم ، ثم ختم ذلك بالوعيد الذي يتضمن الحكم وفصل الباطل من الحق ، وأنه تعالى هو المتولي ذلك ليجازيهم على كفرهم.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
المنع : الحيلولة بين المريد ومراده.
ولما كان الشيء قد يمنع صيانة ، صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه؛ قاله الراغب.
وفعله : منع يمنع ، بفتح النون ، وهو القياس ، لأن لام الفعل أحد حروف الحلق.
المساجد : معروفة ، وسيأتي الكلام على المفرد أول ما يذكر في القرآن ، إن شاء الله.
السعي : المشي بسرعة ، وهو دون العدو ، ثم يطلق على الطلب ، كما قال امرؤ القيس :
فلولا أن ما أسعى لأدنى معيشة . . .
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل . . .
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فسره الشراح بالطلب.
الخراب : ضد العمارة ، وهو مصدر خرب الشيء يخرب خراباً ، ويوصف به فيقال : منزل خراب ، واسم الفاعل : خرب ، كما قال أبو تمام :
ما ربع مية معموراً يطيف به . . .
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
والخرب : ذكر الحبارى ، يجمع على خربان.
المشرق والمغرب : مكان الشروق والغروب ، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل ، بكسر العين شذوذاً ، والقياس الفتح ، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه ، فقياس صوغ المصدر منه ، والزمان والمكان مفعل ، بفتح العين.
أين : من ظروف المكان ، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه ، وفي الشرط معنى حرفه ، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما ، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله :
أين تضرب بنا العداة تجدنا . . .
وزعم بعضهم أن أصل أين : السؤال عن الأمكنة.
ثم : ظرف مكان يشار به للبعيد ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة ، وهو لازم للظرفية ، لم يتصرف فيه بغير من يقول : من ثم كان كذا.
وقد وهم من أعربها مفعولاً به في قوله : { وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } بل : مفعول رأيت محذوف.
واسع : اسم فاعل من وسع يسع سعة ووُسعاً ، ومقابله ضاق ، إلا أن وسع يأتي متعدّياً : { وسع كرسيه السموات والأرض } { ورحمتي وسعت كل شيء } الولد : معروف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض والنقض ، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول ، وفعله : ولد يلد ولادة ووليدية ، وهذا المصدر الثاني غريب.
القنوت : القيام ، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت ، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء.
قنت شهراً : دعا.
البديع : النادر الغريب الشكل.
بدع يبدع بداعة فهو بديع ، إذا كان نادراً ، غريب الصورة في الحسن ، وهو راجع لمعنى الابتداع ، وهو الاختراع والإنشاء.
قضى : قدّر ، ويجيء بمعنى أمضى.
قضى يقضي قضاء.
قال :
سأغسل عني العار بالسيف جالباً . . .
عليّ قضاء الله ما كان جالبا
قال الأزهري : قضى على وجوه ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما . . .
داود أو صنع السوابغ تبّع
وقال الشماخ في عمر :
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها . . .
بوائق في أكمامها لم تفتق
فيكون بمعنى خلق : { فقضاهن سبع سموات } ، وأعلم : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } وأمر : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } وألزم ، منه قضى القاضي ، ووفى : { فلما قضى موسى الأجل } وأراد : { إذا قضى أمراً } لولا : حرف تحضيض ، وجاء ذلك في القرآن كثيراً ، وحكمها حكم هلا ، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود ، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو ، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وتلك لا يليها إلا الاسم ، على خلاف في إعرابه.
الجحيم : إحدى طبقات النار ، أعاذنا الله منها.
وقال الفراء : الجحيم : النار على النار.
وقال أبو عبيد : النار المستحكمة المتلظية.
وقال الزجاج : النار الشديدة الوقود ، يقال جحمت النار تحجم : اشتدّ وقودها.
وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض.
وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشديد الحر ، ويقال لعين الأسد : جحمة ، لشدة توقدها ، ويقال لشدة الحر : جاحم ، قال :
والحرب لا يبقى لجا . . .
حمها التخيل والمراح
الرضا : معروف ، ويقابله الغضب ، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر ، ورضاء بالمد ، ورضواناً ، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان ، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى ، قال :
إذا رضيت عليّ بنو قشير . . .
وخرج على أن يكون على بمعنى عن ، أو على تضمين رضي معنى عطف ، فعدي بعلى كما تعدى عطف.
الملة : الطريقة ، وكثر استعمالها بمعنى الشريعة ، فقيل : الاشتقاق من أمللت ، لأن الشريعة تبتني على متلو ومسموع.
وقيل : من قولهم طريق ممل ، أي قد أثر المشي فيه.
الخسران والخسارة : هو النقص من رأس المال في التجارة ، هذا أصله ، ثم يستعمل في النقص مطلقاً ، وفعله متعد ، كما أن مقابله متعد ، وهو الربح.
تقول : خسر درهماً ، كما تقول : ربح درهماً.
وقال : { خسروا أنفسهم وأهليهم }.
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } : نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي ، الذي خرب بيت المقدس ، ولم يزل خراباً إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب.
وقيل في مشركي العرب : منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام ، قاله عطاء ، عن ابن عباس ، أو في النصارى ، كانوا يودون خراب بيت المقدس ، ويطرحون به الأقذار.
وروي عن ابن عباس ، وقال قتادة والسدي ، في الروم الذين أعانوا بخت نصر على تخريب بيت المقدس : حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا ، على نبينا وعليه السلام ، قال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل.
وقيل في بخت نصر ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد وأبو مسلم : المراد كفار قريش حين صدوا : رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام.
وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد.
وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد ، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصاً ، فالعبرة به لا بخصوص السبب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه جرى ذكر النصارى في قوله : { وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } وجرى ذكر المشركين في قوله : { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسباً لذكرها تلي ما قبلها.
ومن : استفهام ، وهو مرفوع بالابتداء.
وأظلم : أفعل تفضيل ، وهو خبر عن من.
ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته ، وإنما هو بمعنى النفي ، كما قال : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أي ما يهلك.
ومعنى هذا : لا أحد أظلم ممن منع.
وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن ، وهذا أول موارده ، وقال تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } وقال : { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها } إلى غير ذلك من الآيات.
ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبراً ، ولما كان خبراً توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها ، لأنه قال المتأول في هذا : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقال في أخرى : لا أحد أظلم ممن افترى ، وفي أخرى : لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها.
فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، وكذلك باقيها.
فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض.
وقال غيره : التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم ، سالكاً طريقتهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية ، أو الافترائية.
وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى.
وإنما هذا نفي للأظلمية ، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق.
لو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضاً ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية.
وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية.
وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى ، وممن ذكر.
ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية.
ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر.
كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم.
لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله الكذب ، أقلّ ظلماً ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساوياً في الأظلمية ، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية.
فكلها صائرة إلى الكفر ، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فنقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر.
ومعناه : أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره.
ومن في قوله : ممن منع ، موصولة بمعنى الذي.
وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة.
أن يذكر : يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع ، أو مفعولاً من أجله ، فيتعين حذف مضاف ، أي دخول مساجد الله ، أو ما أشبه ذلك ، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال ، أي ذكر اسم الله فيها ، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر ، أي من أن يذكر.
فلما حذفت من انتصب على رأي ، أو بقي مجروراً على رأي.
وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية ، من تلاوة كتبه ، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به ، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيهاً على أنهم منعوا من أيسر الأشياء ، وهو التلفظ باسم الله.
فمنعهم لما سواه أولى.
وحذف الفاعل هنا اختصاراً ، لأنهم عالم لا يحصون.
وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله ، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله ، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله ، فناسب تقديم المجرور لذلك.
وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف ، كما قال تعالى : { وأن المساجد لله } وخصّ بلفظ المسجد ، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالاً كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف.
وكل هذا متعبد به ، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف ، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة.
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد » ؟ وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام ، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه ، وهو الوجه ، التراب الذي هو موطىء قدميه.
قال ابن عطية : وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة ، أو خرّب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل مساجد الله؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس ، أو المسجد الحرام؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عامًّا ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً ، ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال الله عز وجل : { ويل لكل همزة لمزة }
والمنزول فيه الأخنس بن شريق.
انتهى كلامه.
وقال غيره : جمعت لأنها قبلة المساجد كلها ، يعني الكعبة للمسلمين ، وبيت المقدس لغيره.
{ وسعى في خرابها } : إما حقيقة ، كتخريب بيت المقدس ، أو مجازاً بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها ، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب.
فجعل المنع خراباً ، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة ، وذلك مجار.
وقال المروزي : قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد ، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد.
{ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } : هذه جملة خبرية قالوا تدلّ على ما يقع في المستقبل ، وذلك من معجز القرآن ، إذ هو من الإخبار بالغيب.
وفيها بشارة للمؤمنين بعلوّ كلمة الإسلام وقهر من عاداه.
إلا خائفين : نصب على الحال ، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال.
وقرأ أبي : إلا خيفاً ، وهو جمع خائف ، كنائم ونوّم ، ولم يجعلها فاصلة ، فلذلك جمعت جمع التكسير.
وإبدال الواو ياء ، إذ الأصل خوّف ، وذلك جائز كقولهم ، في صوم صيم ، وخوفهم : هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية ، أو من أن يبطش بهم المؤمنون ، أو في المحاكمة ، وهي تتضمن الخوف ، أو ضرباً موجعاً ، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب ، أقوال.
والظاهر أن المعنى : أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه.
فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها ، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { يسبح له فيها بالغدوّ والآصال } ؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه ، ويسعى في عمارته ، ولا يدخله الإنسان إلا وجلاً خائفاً ، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة.
ونظير الآية أن يقول : ومن أظلم ممن قتل ولياً لله تعالى؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظماً له مكرّماً أي هذه حالة من يلقى ولياً لله ، لا أن يباشره بالقتل.
ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه ، إذ كان ينبغي أن يقع ضده ، وهو التبجيل والتعظيم.
ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين ، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم.
ولو أريد ما ذكروه ، لكان اللفظ : أولئك ما يدخلونها إلا خائفين ، ولم يأت بلفظ : ما كان لهم ، الدالة على نفي الابتغاء.
وقيل المعنى : ما كان لهم في حكم الله ، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين.
قال بعض الناس : وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف ، وليس كما قال ، إذ قد ذكرنا ما دلّ عليه ظاهر الآية.
وقيل في قوله : { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها } : أن لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم ، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله :
{ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجراً حجراً.
فلما رأى أن هذا يعارض الآية ، إذا جعلناها خبراً لفظاً ، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جداً ، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، بطلت هذه الأقوال.
وأما قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } ، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه ، إن شاء الله تعالى.
وقوله : { أولئك } ، حمل على معنى من في قوله : { ومن أظلم } ، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة ، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام ، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب.
أما إذا كانت موصوفة نحو : مررت بمن محسن لك ، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها.
وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة.
وقال بعض الناس في قوله تعالى : { ومن أظلم } : الآية ، دليل على منع دخول الكافر المسجد ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك ، وهي مسألة تذكر في علم الفقه ، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية.
{ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } : هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم.
أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال ، وهو مناسب للوصف الأول ، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك ، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان.
وأما العذاب العظيم في الآخرة ، فهو العذاب بالنار ، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم ، وتخريب لها بعد تخريب { كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } وهو مناسب للوصف الثاني ، وهو سعيهم في تخريب المساجد ، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب.
ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكماً ، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي ، أو جزية للذمي ، لم يحتج إلى وصف.
ولما كان العذاب متفاوتاً ، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن ، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن.
وقيل : الخزي هو الفتح الإسلامي ، كالقسطنطينية وعمورية ورومية ، وقيل : جزية الذمي ، قاله ابن عباس ، وقيل : طردهم عن المسجد الحرام ، وقيل : قتل المهدي إياهم إذا خرج ، قاله المروزي ، وقيل : منعهم من المساجد.
قال بعض معاصرينا : إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزياً.
أما اليهود والنصارى ، فقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم ، وإجراء الجزية عليهم ، والسيما التي التزموها ، وما شرطه عمر عليهم.
وأما مشركو العرب ، فقتل أبطالهم وأقيالهم ، وكسر أصنامهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم ، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا.
وقال الفرّاء : معناه في آخر الدنيا ، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم ، ولم يكن بعد.
قال القشيري : في قوله تعالى : { ومن أظلم } الآية ، إشارة إلى ظلم من خرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات ، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات ، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات ، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات ، وهي أسرار الموحدين.
{ لهم في الدنيا خزي } : ذل الحجاب ، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات.
انتهى ، وبعضه ملخص.
وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن ، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم.
{ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله } : قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاءُوا ، فنسخ ذلك.
وقال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة.
فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس.
وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جواباً لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته.
وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ قاله سعيد بن جبير.
وقيل : في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا.
وقيل : فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة متغيمة ، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة.
وقد روي ذلك في حديث عن جابر ، أن ذلك وقع لسرية ، وعن عامر بن ربيعة ، أن ذلك جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ، ولو صح ذلك ، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة.
وقال النخعي : الآية عامّة ، أينما تولوا في متصرّفاتكم ومساعيكم.
وقيل : نزلت حين صُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت.
وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها.
وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح.
والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر الله ، إذ المشرق والمغرب لله تعالى ، فأي جهة أدّيتم فيها العبادة ، فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد.
والمعنى : ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما.
فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : ولله المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفاً لهما ، حيث أضيفا لله ، وإن كانت الأشياء كلها لله ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى.
وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان.
وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن لله تولى إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان ، إذ ذاك ، بمعنى الشروق والغروب.
ويبعد هذا القول قوله بعد : { فأينما تولوا فثمّ وجه الله }.
وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية.
وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم.
وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.
ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه.
وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله.
وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخرّبون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم.
ويقويه قراءة الحسن : فأينما تولوا ، جعله للغائب ، فجرى على قوله : { لهم في الدنيا خزي } ، وعلى قوله : { وقالوا اتخذ الله ولداً } ، فجرت الضمائر على نسق واحد.
قال الزمخشري : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } انتهى.
فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن.
وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب } مسائل موضوعها علم الفقه منها : من صلى في ظلمة مجتهداً إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضاً لمرض أو نفلاً ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في النجاشي ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه.
{ فثمّ وجه الله } ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثمّ قبلة الله ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل.
وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثمّ الله أي علمه وحكمه.
وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } { كل شيء هالك إلا وجهه } وقيل : المعنى العمل لله ، قاله الفراء ، قال :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه . . .
رب العباد إليه الوجه والعمل
وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس : أي جاه وشرف.
والتقدير : فثمّ جلال الله وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع.
وحيث جاء الوجه مضافاً إلى الله تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى.
وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ، لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدرى ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب إطراح هذا القول والإعتماد على ما له محمل في لسان العرب.
إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله ، إمّا على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركاً ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك.
والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين.
فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرّفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها.
ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية ، ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله ، تعالى الله عما يقول المفترون علواً كبيراً.
وفي قوله : { فأينما تولوا فثم وجه الله } ردّ على من يقول : إنه في حيز وجهة ، لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن.
فحيث لم يخصص مكاناً ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره.
{ إن الله واسع عليم } : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته.
وجاء : { إن ربك واسع المغفرة } وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب.
وقيل : واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد.
وقيل : معناه عالم ، من قوله : { وسع كرسيه السموات والأرض } على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد.
وقيل : واسع القدرة.
وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم ذينه يسر.
عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها.
وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة.
وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى : { إن استطعتم } الآية ، وقوله : { ما يكون من نجوى } الآية ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر ، كما قال تعالى : { أين المفر ، كلا ولا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر } وكما قال :
فإنك كالليل الذي هو مدركي . . .
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقال :
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى . . .
ليعجز والمعتز بالله طالبه
وقال :
أين المفر ولا مفر لهارب . . .
وله البسيطان الثرى والماء
وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاماً مندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره.
وجاءت هذه الجملة مؤكدة بأن مصرحاً باسم الله فيها دالة على الاستقلال.
وقد قدّمنا ذلك في قوله : { تجدوه عند الله إن الله } وكقوله : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } وذلك أفخم وأجزل من الضمير ، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال.
ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها.
ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر؟ كما مثلناه ، وكقوله : { فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت } { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله } وقال :
ليت شعري وأين مني ليت . . .
إن ليتا وإن لوّا عناء
{ وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه } : نزلت في اليهود ، إذ قالوا : { عزير ابن الله } أو في النصارى ، إذ قالوا : { المسيح ابن الله } أو في المشركين ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، أو في النصارى والمشركين ، أقوال أربعة ، والأخير قاله الزجاج.
ولاختلافهم في سبب النزول ، اختلفوا في الضمير في وقالوا ، على من يعود؟ فقيل : هو عائد على الجميع من غير تخصيص.
فإن كلاً منهم قد جعل لله ولداً ، قاله ابن إسحاق ، والجمهور على قراءة : وقالوا بالواو ، وهو آكد في الربط ، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها.
وقيل : هو عطف على قوله : { وسعى في خرابها } ، فيكون معطوفاً على معطوف على الصلة ، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة ، وهذا بعيد جداً ، ينزه القرآن عن مثله.
وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما : قالوا بغي واو ، ويكون على استئناف الكلام ، أو ملحوظاً فيه معنى العطف ، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو.
وقال الفارسي : وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام.
تقدم أن اتخذ : افتعل من الأخذ ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله : { اتخذت بيتاً } قالوا : معناه صنعت وعملت ، وإلى اثنين فتكون بمعنى : صير.
وكلا الوجهين يحتمل هنا.
وكل من الوجهين يقتضي تصوره باستحالة الولد ، لأن الولد يكون من جنس الوالد.
فإن جعلت اتخذ بمعنى عمل وصنع ، استحال ذلك ، لأن الباري تعالى منزه عن الحدوث ، قديم ، لا أولية لقدمه ، وما عمله محدث ، فاستحال أن يكون ولد أله.
وإن جعلت اتخذ بمعنى صير ، استحال أيضاً ، لأن التصيير هو نقل من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا فيما يقبل التغيير ، وفرضية الولد به تقتضي أن يكون من جنس الوالد لا تقتضي التغيير ، فقد استحال ذلك.
وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير ، كان أحد المفعولين محذوفاً ، التقدير : وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً.
والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد ، قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } { ما اتخذ الله من ولد } { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } وقال القشيري : أتى بالولد ، وهو أحدى الذات ، لا جزاء لذاته ، ولا تجوز الشهوة في صفاته. انتهى.
ولما كانت هذه المقالة من أفسد الأشياء وأوضحها في الاستحالة ، أتى باللفظ الذي يقتضي التنزيه والبراءة من الأشياء التي لا تجوز على الله تعالى ، قبل أن يضرب عن مقالتهم ويستدل على بطلان دعواهم.
وكان ذكر التنزيه أسبق ، لأن فيه ردعاً لمدعي ذلك ، وأنهم ادعوا أمراً تنزه الله عنه وتقدس ، ثم أخذ في إبطال تلك المقالة فقال : { بل له ما في السموات والأرض } : أي جميع ذلك مملوك له ، ومن جملتهم من ادعوا أنه ولد الله.
والولادة تنافي الملكية ، لأن الوالد لا يملك ولده.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا مسألة من اشترى والده أو ولده أو أحداً من ذوي رحمه ، وموضوعها علم الفقه.
ولما ذكر أن الكل مملوك لله تعالى ، ذكر أنهم كلهم قانتون له ، أي مطيعون خاضعون له.
وهذه عادة المملوك ، أن يكون طائعاً لمالكه ، ممتثلاً لما يريده منه.
واستدل بنتيجة الطواعية على ثبوت الملكية.
ومن كان بهذه الصفة لم يجانس الوالد ، إذ الولد يكون من جنس الوالد.
وأتى بلفظ ما في قوله : { بل له ما في السموات والأرض } ، وإن كانت لما لا يعقل ، لأن ما لا يعقل إذا اختلط بمن يعقل جاز أن يعبر عن الجميع بما.
ولذلك قال سيبويه : وأما ما ، فإنها مبهمة تقع على كل شيء ، ويدل على اندراج من يعقل تحت مدلول ما جمع الخبر بالواو والنون ، التي هي حقيقة فيما يعقل ، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل.
فحين ذكر الملك ، أتى بلفظة ما ، وحين ذكر القنوت ، أتى بجمع ما يعقل ، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا ، وكأنه جاء بما دون من ، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، كقوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } انتهى كلامه ، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم ، ولذلك جعله كقوله : ما سخركنّ لنا.
يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا ، لأنها يراد بها الله تعالى.
وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل ، إلا إذا اختلط بمن يعقل ، فيقع عليهما ، كما ذكرناه ، أو كان واقعاً على صفات من يعقل ، فيعبر عنها بما.
وأما أن يقع لمن يعقل ، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده ، فلا.
وقد أجاز ذلك بعض النحويين ، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل ، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل ، وقد يؤول ، فيؤول قوله : سبحان ما سخركن ، على أن سبحان غير مضاف ، وأنه علم لمعنى التسبيح ، فهو كقوله :
سبحان من علقمة الفاخر . . .
وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا.
والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى.
وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيراً لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل.
ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة؛ أو مقرّون بالعبودية ، قاله عكرمة.
وقيل : قائمون بالله.
وأورد على من يقول القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجرى أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذلله لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري.
{ وكلّ له } : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السموات والأرض ، أي كل من في السموات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً ، وهذا بعيد جداً ، لأن المجعول لله ولداً لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداً وغيره.
و { قانتون } : خبر عن كل ، وجمع حملاً على المعنى.
وكلّ ، إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد.
وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن.
قال تعالى : { وكلّ كانوا ظالمين } { وكلّ أتوه داخرين } و { كلّ في فلك يسبحون } وقد جاء إفراد الخبر كقوله : { قل كلّ يعمل على شاكلته } وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.
{ بديع السموات والأرض } : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض ، وأنهم كلّ قانتون له ، وهم المظروف للسموات والأرض ، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة ، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات.
وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل.
فالمجرور مشبه بالمفعول ، وأصله الأول بديع سمواته ، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ، فنصب السموات ، ثم جر من نصب.
وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى ، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت سمواته ، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره.
وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري ، إلا أنه قال : وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهذا ليس عندنا.
كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها.
والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض ، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة ، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية.
فإذا قلنا : زيد قائم أبوه ، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له.
إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمراً ، لا تقول : إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب ، وإذا كان كذلك ، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية ، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن ، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه.
وحكى الزمخشري وجهاً ثانياً قال : وقيل البديع بمعنى المبدع ، كما أن السميع في قول عمرو :
أمن ريحانة الداعي السميع . . .
بمعنى : المسمع ، وفيه نظر.
انتهى كلامه.
وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، قال : وبديع مصروف من مبدع ، كبصير من مبصر ، ومنه قول عمرو بن معدى كرب :
أمن ريحانة الداعي السمي . . .
ع يؤرّقني وأصحابي هجوع
يريد : المسمع والمبدع والمنشىء ، ومنه أصحاب البدع ، ومنه قول عمر بن الخطاب في صلاة رمضان : نعمت البدعة هذه ، انتهى.
والنظر الذي ذكره الزمخشري ، والله أعلم ، أن فعيلاً بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتمل للتأويل.
وعلى هذا الوجه يكون من باب إضافة اسم الفاعل لمفعوله.
وقرأ المنصور : بديع بالنصب على المدح ، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له.
{ وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } : لما ذكر ما دل على الاختراع ، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه.
ومعنى قضى هنا : أراد ، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه.
قال ابن عطية : وقضى : معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى : أمضى.
ويتجه في هذه الآية المعنيان.
فعلى مذهب أهل السنة : قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة : أمضى عند الخلق والإيجاد.
والأمر : واحد الأمور ، وليس هنا مصدر أمر يأمر.
والمعتقد في هذه الآية أن الله لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات.
وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكلّ ما استند إلى الله من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل.
انتهى ما نقلناه هنا من كلامه.
وقال المهدوي : { وإذا قضى أمراً } ، أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه.
ومعنى : فإنما يقول له كن فيكون ، يقول من أجله.
وقيل : قال له كن ، وهو معدوم ، لأنه بمنزلة الموجود ، إذ هو عنده معلوم.
قال الطبري : أمره للشيء بكن لا يتقدّم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ، ولا موجوداً بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود.
قال : ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال :
{ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } فالهاء في له تعود على الأمر ، أو على القضاء الذي دلّ عليه قضى ، أو على المراد الذي دلّ عليه الكلام.
انتهى ما نقلناه من كتابه.
وقال مكي : معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن ، فقوله : كن ، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا.
انتهى كلامه.
وقال الزمخشري : كن فيكون ، من كان التامة ، أي أحدث فيحدث ، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ، ثم كما لا قول في قوله :
إذ قالت الأنساع للبطن الحق . . .
وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف.
كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء.
أكد بهذا استبعاد الولادة ، لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها.
انتهى كلامه.
وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال :
فقالت له العينان سمعاً وطاعة . . .
وإلا فالمعدوم كيف يخاطب
أو علامة للملائكة بحدوث الموجود ، أو على تقدير ما تصوّر كونه في علمه ، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال ، ولو كان كن مخلوقاً ، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهي ، فدلَّ على أن القرآن غير مخلوق.
انتهى كلامه.
قال المهدوي : وفي هذه الآية دليل على أن كلام الله غير مخلوق ، لأنه لو كان مخلوقاً لكان قائلاً له : كن ، ولكان قائلاً : لكن كن ، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى ، وذلك مستحيل مع ما يؤدّي إليه ذلك من أنه لا يوجد من الله فعل ألبتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل.
ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل.
ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله : { وكلم الله موسى تكليماً } إذ كان الله تعالى متولي تكليمه.
وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه.
انتهى كلام المهدوي.
وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئد يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه : الأول : وهو الأقوى ، أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيرة { قالتا أتينا طائعين } الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، قاله أبو الهذيل.
الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : { كونوا قردة خاسئين } ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم.
الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول.
انتهى كلامه.
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية.
وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، تبينه الآية الأخرى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقوله : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلاً للحوادث ، لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ.
وكونه يسبق بعض حروفه بعضاً ، لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظياً ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به.
وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزى إلى سيبويه.
وقال غيره : فيكون عطف على يقول ، واختاره الطبري وقرّره.
وقال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية.
ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ، لأن القديم لا يعتقبه الحادث.
وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه.
وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولاً وأمراً قديماً.
أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على نقول.
وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب ، وفي آل عمران : { كن فيكون } ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن.
ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف في { كن فيكون } الحق في آل عمران.
{ وكن فيكون } قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ، لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي.
ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : إن تأتني أكرمك.
وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته.
وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ، لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن.
وقراءة الكسائي في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن ، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى.
{ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } : قال ابن عباس ، والحسن ، والربيع ، والسدي : نزلت في كفار العرب حين ، طلب عبد الله بن أمية وغيره ذلك.
وقال مجاهد : في النصارى ، ورجحه الطبري ، لأنهم المذكورون في الآية أولاً.
وقال ابن عباس أيضاً : اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رافع بن خزيمة ، من اليهود : إن كنت رسولاً من عند الله ، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله الآية.
وقال قتادة : مشركو مكة.
وقيل : الإشارة بقوله : { الذين لا يعلمون } إلى جميع هذه الطوائف ، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة ، واختلافهم في الموصول مبني على اختلافهم في السبب.
فإن كان الموصول الجهلة من العرب ، فنفى عنهم العلم ، لأنهم لم يكن لهم كتاب ، ولا هم أتباع نبوّة ، وإن كان الموصول اليهود والنصارى ، فنفى عنهم العلم ، لانتفاء ثمرته ، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه.
وحذف مفعول العلم هنا اقتصاراً ، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم ، لا نفي علمهم بشيء مخصوص ، فكأنه قيل : وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته ، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك.
ومعمول القول ، الجملة التحضيضية وهي : { لولا يكلمنا الله } ؛ كما يكلم الملائكة ، وكما كلم موسى عليه السلام ، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو ، { أو تأتينا آية } ، أي هلا يكون أحد هذين ، إما التكلم ، وإما إتيان آية؟ قالوا ذلك جحوداً لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها.
ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى ، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه.
{ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } : تقدم الكلام في إعراب كذلك ، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله : { والذين من قبلكم لعلكم تتقون } والذين من قبلهم.
إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب ، أو مشركي مكة ، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم.
وإن فسر باليهود أو النصارى ، فالذين من قبلهم أسلافهم ، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف.
ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول ، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك ، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله ، وإن لم تكن نفس تلك المقالة ، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى.
{ تشابهت قلوبهم } : الضمير عائد على { الذين لا يعلمون } ، { والذين من قبلهم }.
لما ذكر تماثل المقالات ، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب ، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل ، كقوله تعالى : { أتواصوا به } قيل : تشابهت قلوبهم في الكفر.
وقيل : في القسوة.
وقيل : في التعنت والاقتراح.
وقيل : في المحال.
وقرأ ابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة : تشابهت ، بتشديد الشين.
وقال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز ، لأنه فعل ماض ، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي ، إنما يكون في المضارع نحو : تتشابه ، وحينئذ يجوز فيه الإدغام.
أما الماضي فليس أصله تتشابه.
وقد مر نظير هذه القراءة في قوله : { إن البقر تشابه علينا } وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا ، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.
{ قد بينا الآيات لقوم يوقنون } : أي أوضحنا الآيات ، فاقتراح آية مع تقدم مجيء آيات وإيضاحها ، إنما هو على سبيل التعنت.
هذا ، وهي آيات مبينات ، لا لبس فيها ، ولا شبهة ، لشدة إيضاحها.
لكن لا يظهر كونها آيات إلا لمن كان موقناً ، أما من كان في ارتياب ، أو شك ، أو تغافل ، أو جهل ، فلا ينفع فيه الآيات ، ولو كانت في غاية الوضوح.
ألا ترى إلى قولهم : { إنما سكِّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } وقول أبي جهل ، وقد سأل أهل البوادي الوافدين إلى مكة عن انشقاق القمر ، فأخبروه به ، فقال بعد ذلك : هذا سحر مستمر.
ولما ذكر أن اقتراح ما تقدم إنما هو من أهواء الذين لا يعلمون ، قال في آخرها : { لقوم يوقنون }.
والإيقان : وصف في العلم يبلغ به نهاية الوثاقة في العلم ، أي من كان موقناً ، فقد أوضحنا له الآيات ، فآمن بها ، ووضحت عنده ، وقامت به الحجة على غيره.
وفي جميع الآيات رد على من اقتراح آية ، إذ الآيات قد بينت ، فلم يكن آية واحدة ، فيمكن أن يدعي الالتباس فيها ، بل ذلك جمع آيات بينات ، لكن لا ينتفع بها إلا من كان من أهل العلم والتبصر واليقين.
{ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } : بشيراً لمن آمن ، ونذيراً لمن كفر.
وهذه الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يضيق صدره لتماديهم على ضلالهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما ذكر أنه بين الآيات ، ذكر من بينت على يديه ، فأقبل عليه وخاطبه صلى الله عليه وسلم ليعلم أنه هو صاحب الآيات فقال : { إنا أرسلناك بالحق } ، أي بالآيات الواضحة ، وفسر الحق هنا بالصدق وبالقرآن وبالإسلام.
وبالحق في موضع الحال ، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك.
وانتصاب بشيراً ونذيراً على الحال من الكاف ، ويحتمل أن يكون حالاً من الحق ، لأن ما جاء به من الحق يتصف أيضاً بالبشارة والنذارة.
والأظهر الأول.
وعدل إلى فعيل للمبالغة ، لأن فعيلاً من صفات السجايا ، والعدل في بشير للمبالغة ، مقيس عند سيبويه ، إذا جعلناه من بشر لأنهم قالوا بشر مخففاً ، وليس مقيساً في نذير لأنه من أنذر ، ولعل محسن العدل فيه كونه معطوفاً على ما يجوز ذلك فيه ، لأنه قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت ، كما قالوا : أخذه ما قدم وما حدث وشبهه.
{ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } : قراءة الجمهور : بضم التاء واللام.
وقرأ أبي : وما تسأل.
وقرأ ابن مسعود : ولن تسأل ، وهذا كله خبر.
فالقراءة الأولى ، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ، وهو الأظهر ، ويحتمل أن تكون في موضع الحال.
وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف ، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا ، لأن ذلك ليس إليك ، { إن عليك إلا البلاغ } { إنك لا تهدي من أحببت } { إنما أنت منذر } وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم ، فكأنه قيل : لست مسؤولاً عنهم ، فلا يحزنك كفرهم.
وفي ذلك دليل على أن أحداً لا يسأل عن ذنب أحد ، { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وأما الحال فعطف على ما قبلها من الحال ، أي وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون ، فيكون قيداً في الإرسال ، بخلاف الاستئناف.
وقرأ نافع ويعقوب : ولا تسأل ، بفتح التاء وجزم اللام ، وذلك على النهي ، وظاهره : أنه نهى حقيقة ، نهى صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن أحوال الكفار.
قال محمد بن كعب القرظي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت ، واستبعد في المنتخب هذا ، لأنه عالم بما آل إليه أمرهما.
وقد ذكر عياض أنهما أحييا له فأسلما.
وقد صح أن الله أذن له في زيارتهما ، واستبعد أيضاً ذلك ، لأن سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب ، الذين جحدوا نبوّته ، وكفروا عناداً ، وأصروا على كفرهم.
وكذلك جاء بعده : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } إلا إن كان ذلك على سبيل الانقطاع من الكلام الأول ، ويكون من تلوين الخطاب وهو بعيد.
وقيل : يحتمل أن لا يكون نهياً حقيقة ، بل جاء ذلك على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب ، كما تقول : كيف حال فلان ، إذا كان قد وقع في بلية ، فيقال لك : لا تسأل عنه.
ووجه التعظيم : أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما ذلك الشخص فيه لفظاعته ، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره ، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره ، فلا تسأل ، فيكون معنى التعظيم : إما بالنسبة إلى المجيب ، وإما بالنسبة إلى المجاب ، ولا يراد بذلك حقيقة النهي.
{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } : روي أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدنة ، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعاً منهم ، فأطلعه الله على سر خداعهم ، فنزلت نفي الله رضاهم عنه إلا بمتابعة دينهم ، وذلك بيان أنهم أصحاب الجحيم الذين هم أصحابها ، لا يطمع في إسلامهم.
والظاهر أن قوله تعالى : { ولن ترضى } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، علق رضاهم عنه بأمر مستحيل الوقوع منه صلى الله عليه وسلم ، وهو اتباع ملتهم.
والمعلق بالمستحيل مستحيل ، سواء فسرنا الملة بالشريعة ، أو فسرناها بالقبلة ، أو فسرناها بالقرآن.
وقيل : هو خطاب له ، وهو تأديب لأمته ، فإنهم يعلمون قدره عند ربه ، وإنما ذلك ليتأدب به المؤمنون ، فلا يوالون الكافرين ، فإنهم لا يرضيهم منهم إلا اتباع دينهم.
وقيل : هو خطاب له ، والمراد أمته ، لأن المخاطب لا يمكن ما خوطب به أن يقع منه ، فيصرف ذلك إلى من يمكن ذلك منه ، مثل قوله : { لئن أشركت ليحبطن عملك } ويكون تنبيهاً من الله على أن اليهود والنصارى يخادعونكم بما يظهرون من الميل وطلب المهادنة والوعد بالموافقة ، ولا يقع رضاهم إلا باتباع ملتهم.
ووحدت الملة ، وإن كان لهم ملتان ، لأنهما يجمعهما الكفر ، فهي واحدة بهذا الاعتبار ، أو للإيجاز فيكون من باب الجمع في الضمير ، نظير : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى } لأن المعلوم أن النصارى لن ترضى حتى تتبع ملتهم ، واليهود لن ترضى حتى تتبع ملتهم.
وقد اختلف العلماء في الكفر ، أهو ملة واحدة أو ملل؟ وثمرة الخلاف تظهر في الارتداد من ملة إلى ملة ، وفي الميراث ، وذلك مذكور في الفقه.
{ قل إن هدى الله هو الهدى } : أمره أن يخاطبهم بأن هدى الله ، أي الذي هو مضاف إلى الله ، وهو الإسلام الذي أنت عليه ، هو الهدى ، أي النافع التام الذي لا هدى وراءه ، وما أمرتم باتباعه هو هوى لا هدى ، { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وأكد الجملة بأن وبالفصل الذي قبل ، فدل على الاختصاص والحصر ، وجاء الهدى معرّفاً بالألف واللام ، وهو مما قيل : إن ذلك يدل على الحصر ، فإذا قلت : زيد العالم ، فكأنه قيل : هو المخصوص بالعلم والمحصور فيه ذلك.
ثم ذكر تعالى أن ما هم عليه إنما هي أهواء وضلالات ناشئة عن شهواتهم وميولهم ، فقال : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } : وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على الأقوال التي في قوله : { ولن ترضى }.
واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة ، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها ، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم لا على الشرط ، إذ لو بنى على الشرط لدخلت الفاء في قوله : { مالك }.
والأهواء : جمع هوى ، وكان الجمع دليلاً على كثرة اختلافهم ، إذ لو كانوا على حق لكان طريقاً واحداً ،
{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } وأضاف الأهواء إليهم لأنها بدعهم وضلالاتهم ، ولذلك سمى أصحاب البدع : أرباب الأهواء.
{ بعد الذي جاءك من العلم } : أي من الدين وجعله علماً ، لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة ، قالوا : وتدل هذه الآية على أمور منها : أن من علم الله منه أنه لا يفعل الشيء ، يجوز أن يخاطب بالوعيد لاحتمال أن يكون الصارف له ذلك الوعيد ، أو يكون ذلك الوعيد أحد الصوارف ، ونظيره : { لئن أشركت ليحبطنَّ عملك }.
ومنها ، إن قوله : { بعد الذي جاءك من العلم } يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد المعذرة أولاً ، فيبطل بذلك تكليف ما لا يطاق.
ومنها : أن اتباع الهوى باطل ، فيدل على بطلان التقليد.
وقد فسر العلم هنا بالقرآن ، وبالعلم بضلال القوم ، وبالبيان بأن دين الله هو الإسلام ، وبالتحول إلى الكعبة ، قاله ابن عباس.
وفي قوله؛ { ما لك من الله من ولي ولا نصير } ، قطع لأطماعهم أن تتبع أهواؤهم ، لأن من علم أنه لا ولي له ولا نصير ينفعه إذا ارتكب شيئاً كان أبعد في أن لا يرتكبه ، وذلك إياس لهم في أن يتبع أهواءهم أحد ، وقد تقدّم الكلام في الوليّ والنصير ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به } ، قال ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب ، وكانوا اثنين وثلاثين من أهل الحبشة ، وثمانية من رهبان الشام.
وقيل : كان بعضهم من أهل نجران ، وبعضهم من أهل الحبشة ، ومن الروم ، وثمانية ملاحون أصحاب السفينة أقبلوا مع جعفر.
وقال الضحاك : هم من آمن من اليهود ، كابن سلام ، وابن صوريا ، وابن يامين ، وغيرهم.
وقيل : في علماء اليهود وأحبار النصارى.
وقال ابن كيسان : الأنبياء والمرسلون.
وقيل : المؤمنون.
وقيل : الصحابة ، قاله عكرمة وقتادة.
وعلى هذا الاختلاف ، يتنزل الاختلاف في الكتاب ، أهو التوراة أو الإنجيل؟ أو هما والقرآن؟ أو الجنس؟ فيكون يعني به به المكتوب ، فيشمل الكتب المتقدمة.
{ يتلونه حق تلاوته } : أي يقرأونه ويرتلونه بإعرابه.
وقال عكرمة : يتبعون أحكامه.
وقال الحسن : يعملون بمحكمه ويكلون متشابهه إلى الله.
وقال عمر : يسألون من رحمته ويستعيذون من عذابه.
وقال الزمخشري : لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين : مبتدأ ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى ، صح أن يكون يتلونه خبراً عنه ، وصح أن يكون حالاً مقدرة إما من ضمير المفعول ، وإما من الكتاب ، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له ، ولا كان هو متلواً لهم ، ويكون الخبر إذ ذاك في الجملة من قوله : { أولئك يؤمنون به }.
وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبراً ، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر.
قال مثل قولهم : هذا حلو حامض ، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم : هذا حلو حامض ، أي مز ، وفي ذلك خلاف.
وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم ، كان الخبر أولئك يؤمنون به ، قالوا ، ومنهم ابن عطية : ويتلونه حال لا يستغنى عنها ، وفيها الفائدة ، ولا يجوز أن يكون خبراً ، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب ، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة.
ونقول : ما لزم في الامتناع من جعلها خبراً ، يلزم في الحال ، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها.
وانتصب حق تلاوته على المصدر ، كما تقول : ضربت زيداً حق ضربه ، وأصله تلاوة حقاً.
ثم قدّم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير : ضربت شديد الضرب ، إذ أصله : ضرباً شديداً.
وجوزوا أن يكون وصفاً لمصدر محذوف ، وأن يكون منصوباً على الحال من الفاعل ، أي يتلونه محقين.
وقال ابن عطية : وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرّف ، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرّف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل واحد أمه ، ونسيج وحده.
انتهى كلامه.
وأولئك يؤمنون به : ظاهره أن الضمير في به يعود إلى ما يعود عليه الضمير في يتلونه ، وهو الكتاب ، على اختلاف الناس في الكتاب.
وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : وإن لم يتقدّم له ذكر ، لكن دلت قوة الكلام عليه ، وليس كذلك ، بل قد تقدم ذكره في قوله : { إنا أرسلناك بالحق } ، لكن صار ذلك التفاتاً وخروجاً من خطاب إلى غيبة.
وقيل : يعود على الله تعالى ، ويكون التفاتاً أيضاً وخروجاً من ضمير المتكلم المعظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد.
قال ابن عطية : ويحتمل عندي أن يعود الضمير على الهدى الذي تقدّم ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في الآية ، وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن هدى الله هو الهدى الذي أعطاه وبعثه به.
ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذلك الهدى المقتدون بأنواره.
انتهى كلامه ، وهو محتمل لما ذكر.
لكن الظاهر أن يعود على الكتاب لتتناسب الضمائر ولا تختلف ، فيحصل التعقيد في اللفظ ، والإلباس في المعنى ، لأنه إذا كان جعل الضمائر المتناسبة عائدة على واحد ، والمعنى فيها جيد صحيح الإسناد ، كان أولى من جعلها متنافرة ، ولا نعدل إلى ذلك إلا بصارف عن الوجه الأول ، إمّا لفظي ، وإمّا معنوي ، وإلى عوده على الكتاب ذهب الزمخشري.
{ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } : الضمير في به في هذه الجملة فيه من الخلاف ما فيه من الجملة السابقة ، والظاهر كما قلناه ، إنه عائد على الكتاب ، ولم يعادل بين الجملتين في التركيب الخبري غير الشرطي أو الشرطي.
بل قصد في الأولى إلى ذكر الحكم من غير تعليق عليه ، ودل مقابلة الخسران على ربح من آمن به وفوزه ووفور حظه عند الله ، فاكتفى بثبوت السبب عن ذكر المسبب عنه.
وقصد في الجملة الثانية إلى ذكر المسبب على تقدير حصول السبب ، فكان في ذلك تنفير عن تعاطي السبب لما يترتب عليه من المسبب الذي هو الخسران ونقص الحظ ، وأخرج ذلك في جملة شرطية حمل فيها الشرط على لفظ من ، والجزاء على معناها.
وهم : محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلاً.
وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد.
وفي المنتخب الذي يليق به هذا الوصف ، هو القرآن.
وأولئك : الأولى عائدة على المؤمنين ، والثانية عائدة على الكفار.
والدليل عليه ، أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب ، فلما ذم طريقتهم وحكى سوء أفعالهم ، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم ، بأن تأمل التوراة وترك تحريفها ، وعرف منها صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
والتلاوة لها معنيان : القراءة لفظاً ، والاتباع فعلاً.
وقد تقدم ما نقل في تفسير التلاوة هنا ، والأولى أن يحمل على كل تلك الوجوه ، لأنها مشتركة في المفهوم ، وهو أن بينها كلها قدراً مشتركاً ، فينبغي أن يحمل عليه لكثرة الفوائد.
{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ، واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون } : كرر نداء بني إسرائيل هنا ، وذكرهم بنعمه على سبيل التوكيد ، إذ أعقب ذلك النداء ذكر نداء ثان يلي ذكر الطائفتين متبعي الهدى والكافرين المكذبين بالآيات.
وهذا النداء أعقب ذكر تلك الطائفتين من المؤمنين والكافرين.
وكان ما بين النداءين قصص بني إسرائيل ، وما أنعم الله به عليهم ، وما صدر منهم ، من أفعالهم التي لا تليق بمن أنعم الله عليه ، من المخالفات والكذب والتعنتات ، وما جوزوا به في الدنيا على ذلك ، وما أعدّ لهم في الآخرة محشواً بين التذكيرين ومجعولاً بين الوعظين والتخويفين ليوم القيامة.
ونظير ذلك في الكلام أن تأمر شخصاً بشيء على جهة الإجمال ، ثم تفصل له ذلك الشيء إلى أشياء كثيرة عديدة ، وأنت تسردها له سرداً ، وكل واحدة منها هي مندرجة تحت ذلك الأمر السابق.
ويطول بك الكلام حتى تكاد تتناسى ما سبق من ذلك الأمر ، فتعيده ثانية ، لتتذكر ذلك الأمر ، وتصير تلك التفصيلات محفوفة بالأمرين المذكورين بهما.
ولم تختلف هذه الآية مع تلك السابقة إلا في قوله هناك : { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } وقال هنا : { ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة }.
وقد ذكرنا هناك ما ناسب تقديم الشفاعة هناك على العدل ، وتأخيرها هنا عنه ، ونسبة القبول هناك للشفاعة ، والنفع هنا لها ، فيطالع هناك.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار عن مجاوزة الحد في الظلم ممن عطل بيوت الله من الذكر وسعي في خرابها ، مع أنها من حيث هي منسوبة إلى الله ، وهي محالّ ذكره وإيواء عباده الصالحين ، كان ينبغي أن لا يدخلوها إلا وهم وجلون خائفون ، متذكرون لمن بنيت ، ولما يذكر فيها.
ثم أخبر أن لأولئك الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
ثم ذكر أن له تعالى المشرق والمغرب ، فيندرج في ذلك المساجد ، وأي جهة قصدتموها فالله تعالى حاويها ومالكها ، فليس مختصاً بحيز ولا مكان.
وختم هذه الجملة بالوسع المنافي لوسع المقادير ، وبالعلم الذي هو دليل الإحاطة.
ثم أخبر عنهم بأفظع مقالة ، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى ، ونزه ذاته المقدسة عن ذلك ، وأخبر أن جميع من في السموات والأرض ملك له ، خاضعون طائعون.
ثم ذكر بداعة السموات والأرض ، وأنها مخلوقة على غير مثال ، فكما أنه لا مثال لهما ، فكذلك الفاعل لهما ، لا مثال له.
ففي ذلك إشارة إلى أنه يمتنع الولد ، إذ لو كان له ولد لكان من جنسه ، والبارىء لا شيء يشبهه ، فلا ولد له ، ثم ذكر أنه متى تعلقت إرادته بما يريد أن يحدثه ، فلا تأخر له ، وفيه إشارة أيضاً إلى نفي الولد ، لأنه لا يكون إلا عن توالد ، ويقتضي إلى تعاقب أزمان ، تعالى الله عن ذلك ، ثم ذكر نوعاً من مقالاتهم التي تعنتوا بها أنبياء الله ، من طلب كلامه ومشافهته إياهم ، أو نزول آية.
وقد نزلت آيات كثيرة ، فلم يصغوا إليها ، وأن هذه المقالة اقتفوا بها آثار من تقدمهم ، وأن أهواءهم متماثلة في تعنت الأنبياء ، وأنه تعالى قد بين الآيات وأوضحها ، لكن لمن له فكر فهو يوقن بصحتها ويؤمن بها.
ثم ذكر تعالى أنه أرسله بشيراً لمن آمن بالنعيم في الآخرة والظفر في الدنيا ، ونذيراً لمن كفر بعكس ذلك ، وأن لا تهتم بمن ختم له بالشقاوة ، فكان من أهل النار ، ولا تغتم بعدم إيمانه ، فقد أبلغت وأعذرت.
ثم ذكر ما عليه اليهود والنصارى من شدة تعاميهم عن الحق ، بأنهم لا يرضون عنك حتى تخالف ما جاءك من الهدى الذي هو هدى الله ، إلى ما هم عليه من ملة الكفر واتباع الأهواء.
ثم أخبر أن متبع أهوائهم بعد وضوح ما وافاه من الدين والإسلام ، لا أحد ينصره ولا يمنعه من عذاب الله.
وأن الذين آتاهم الكتاب واصطفاهم له يتبعون الكتاب ، ويتتبعون معانيه ، فهم مصدقون بما تضمنه مما غاب عنهم علمه ، ولم يحصل لهم استفادته إلا منه ، من خبر ماض أو آت ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأن من كفر به حق عليه الخسران.
ثم ختم هذه الآيات بأمر بني إسرائيل بذكر نعمه السابقة ، وتفضيلهم على عالمي زمانهم ، وكان ثالث نداء نودي به بنو إسرائيل ، بالإضافة إلى أبيهم الأعلى ، وتشريفهم بولادتهم منه.
ثم أعرض في معظم القرآن عن ندائهم بهذا الاسم ، وطمس ما كان لهم من نور هذا الوسم ، والثلاث هي مبدأ الكثرة ، وقد اهتم بك من نبهك وناداك مرة ومرة ومرة :
لقد أسمعت لو ناديت حياً . . .
ولكن لا حياة لمن تنادي
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
إبراهيم : اسم علم أعجمي.
قيل : ومعناه بالسريانية قبل النقل إلى العلمية : أب رحيم ، وفيه لغى ست : إبراهيم بألف وياء وهي الشهيرة المتداولة ، وبألف مكان الياء ، وبإسقاط الياء مع كسر الهاء ، أو فتحها ، أو ضمها ، وبحذف الألف والياء وفتح الهاء ، قال عبد المطلب :
نحن آل الله في كعبته . . .
لم نزل ذاك على عهد إبراهيم
وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به إبراهم . . .
إذ قال وجهي لك عان راغم
الإتمام : الإكمال ، والهمزة فيه للنقل.
ثم الشيء يتم : كمل ، وهو ضد النقص.
الإمام : القدوة الذي يؤتم به ، ومنه قيل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ، وهو مفرد على فعال ، كالإزار للذي يؤتزر به ، ويكون جمع آم ، اسم فاعل من أم يؤم ، كجائع وجياع ، وقائم وقيام ، ونائم ونيام.
الذرية : النسل ، مشتقة من ذروت ، أو ذريت ، أو ذرأ الله الخلق ، أو الذر.
ويضم ذالها ، أو يكسر ، أو يفتح.
فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية ، فعيلة من ذرأ الله الخلق ، وأصله ذريئة ، فخففت الهمزة بإبدالها ياء ، كما خففوا همزة النسيء فقالوا : النسيّ ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد.
ويجوز أن تكون فعولة من ذروت ، الأصل ذرووة ، أبدلت لام الفعل ياء.
اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت واو المد ياء ، وأدغمت في الياء ، وكسر ما قبلها ، لأن الياء تطلب الكسر.
ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت ، أصلها ذريوة ، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت ياء المد فيها.
ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت ، فأصلها أن تكون فعولة ذروية ، وإن كان فعيلة ذريية ، ثم أدغم.
ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة ، أو فعلية من الذر غير منسوبة ، أو فعيلة ، كمريقة ، أو فعول ، كسبوح وقدوس ، أو فعلولة ، كقردودة الظهر ، فضم أولها إن كان اسماً ، كقمرية ، وإن كانت منسوبة ، كما قالوا في النسب إلى الدهر : دهري ، وإلى السهل ، سهلي.
وأصل فعيلة من الذر : ذريرة ، وفعولة من الذر : ذرورة ، وكذلك فعلولة ، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف ، كما قالوا في تسررت؛ تسريت.
وأما من كسر ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق ، كبطيخة ، فأبدلت الهمزة ياء ، وأدغمت في ياء المد ، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس ، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة ، أو فعليل ، كحلتيت.
ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت ، أو فعيلة ذريئة من ذريت.
وأما من فتح ذال ذرية ، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ ، مثل سكينة ، أو فعولة من هذا أيضاً ، كخروبة.
فالأصل ذروءة ، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً ، وقلبت الواو ياء وأدغمت.
ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة ، كبرنيه ، أو منسوبة إلى الذر ، أو فعولة ، كخروبه من الذر أصلها ذرورة ، ففعل بها ما تقدم ، أو فعلولة ، كبكولة ، فالأصل ذرورة أيضاً ، أو فعيلة ، كسكينة ذريرة ، فقلبت الراء ياء في ذلك كله ، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة ، كسكينة ، فالأصل ذريوة ، أو من ذريت ذريية ، أو فعولة من ذروت أو ذريت.
وأما من بناها على فعلة ، كجفنة ، وقال ذرية ، فإنها من ذريت.
النيل : الإدراك.
نلت الشيء أناله نيلاً ، والنيل : العطاء.
البيت : معروف ، وصار علماً بالغلبة على الكعبة ، كالنجم للثريا.
الأمن : مصدر أمن يأمن ، إذا لم يخف واطمأنت نفسه.
المقام : مفعل من القيام ، يحتمل المصدر والزمان والمكان.
اسماعيل : اسم أعجمي علم ، ويقال إسماعيل باللام وإسماعين بالنون ، قال :
قال جواري الحي لماجينا . . .
هذا ورب البيت اسماعينا
ومن غريب ما قيل في التسمية به أن إبراهيم كان يدعو أن يرزقه الله ولداً ويقول : اسمع ايل ، وايل هو الله تعالى.
التطهير : مصدر طهر ، والتضعيف فيه للتعدية.
يقال : طهر الشيء طهارة : نطف.
الطائف : اسم فاعل من طاف به إذا دار به ، ويقال أطاف : بمعنى طاف ، قال :
أطافت به جيلان عند فطامه . . .
والعاكف : اسم فاعل من عكف بالشيء : أقام به ولازمه ، قال :
عليه الطير ترقبه عكوفا . . .
وقال يعكفون على أصنام لهم : أي يقيمون على عبادتها.
البلد : معروف ، والبلد الصدر ، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى.
يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت.
وقيل : سمي البلد بمعنى الأثر ، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه ، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت ، قال :
أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة . . .
قليل بها الأصوات إلا بغامها
والبارك : البارك بالبلد.
الاضطرار : هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه ، وهو افتعل من الضر ، أصله : اضترار ، أبدلت التاء طاء بدلاً لازماً ، وفعله متعد ، وعلى ذلك استعماله في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال :
اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ . . .
المصير : مفعل من صار يصير ، فيكون للزمان والمكان ، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين ، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه ، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب : أحدها : أنه كالصحيح ، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان.
الثاني : أنه مخير فيه.
الثالث : أنه يقتصر على السماع ، فما فتحت فيه العرب فتحنا ، وما كسرت كسرنا.
وهذا هو الأولى.
القواعد : قال الكسائي والفراء : هي الجدر ، وقال أبو عبيدة : الأساس ، قال :
في ذروة من بقاع أولهم . . .
زانت عواليها قواعدها
وبالأساس فسرها ابن عطية أولاً والزمخشري وقال : هي صفة غالبة ، ومعناها الثانية ، ومنه قعدك الله ، أي أسأل الله أن يقعدك ، أي يثبتك.
انتهى كلامه.
والقواعد من النساء جمع قاعد ، وهي التي قعدت عن الولد ، وسيأتي الكلام على كون قاعد لم تأت بالتاء في مكانه ، إن شاء الله تعالى.
الأمة : الجماعة ، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة ، والواحد المعظم المتبوع ، والمنفرد في الأمر والدين والحين.
والأم : هذه أمة زيد ، أي أمه ، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ ، وأتباع الرسل ، والطريقة المستقيمة ، والجيل.
المناسك : جمع منسك ومنسك ، والكسر في سين منسك شاذ ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين ، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك ، والناسك : المتعبد.
البعث : الإرسال ، والإحياء ، والهبوب من النوم.
العزيز ، يقال : عزيعز بضم العين ، أي غلب ، ومنه : { وعزني في الخطاب } ، وعز يعز بفتحها ، أي اشتد ، ومنه : عز علىَّ هذا الأمر ، أي شق ، وتعزز لحم الناقة : اشتد.
وعزيعز من النفاسة ، أي لا نظير له ، أو قل نظيره.
الرغبة عن الشيء : الزهادة فيه ، والرغبة فيه : الإيثار له والاختيار له ، وأصل الرغبة : الطلب.
الاصطفاء : الانتجاب والاختيار ، وهو افتعال من الصفو ، وهو الخالص من الكدر والشوائب ، أبدلت من تائه طاء ، كان ثلاثيه لازماً.
صفا الشيء يصفو ، وجاء الافتعال منه متعدياً ، ومعنى الافتعال هنا : التخير ، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي } : مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة ، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس ، كما قال : { ما ولاهم عن قبلتهم } ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله ، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه ، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم ، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه ، واقتفاء لآثاره.
فكان تعظيم البيت لازماً لهم ، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم ، وكثرة مخالفتهم ، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم ، وأنهم ، وإن كانوا من نسله ، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده ، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف ، وقدروه اذكر ، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم ، فيكون مفعولاً به ، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت.
وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة } والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به ، وهو { قال إني جاعلك }.
والابتلاء : الاختبار ، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه.
والباري تعالى عالم بما يكون منه.
وقيل : معناه أمر.
قال الزمخشري : واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين : ما يريد الله ، وما يشتهيه العبد ، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك.
انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال.
وفي ري الظمآن الابتلاء : إظهار الفعل ، والاختبار : طلب الخبر ، وهما متلازمان.
وابراهيم هنا ، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو خليل الله ، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي عليه السلام ، ومولده بأرض الأهواز.
وقيل : بكوثي ، وقيل : ببابل ، وقيل : بنجران ، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان.
وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه.
وقرأ الجمهور : إبراهيم بالألف والياء.
وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين.
زاد هشام أنه قرأ كذلك في : ابراهيم ، والنحل ، ومريم ، والشورى ، والذاريات ، والنجم ، والحديد ، وأول الممتحنة ، وثلاث آخر النساء ، وأخرى التوبة ، وآخر الأنعام ، والعنكبوت.
وقرأ المفضل : ابراهام بألفين ، إلا في المودة والأعلى.
وقرأ ابن الزبير : ابراهام ، وقرأ أبو بكرة : إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء.
وقرأ الجمهور : بنصب إبراهيم ورفع ربه.
وقرأ ابن عباس ، وأبو الشعثاء ، وأبو حنيفة : برفع إبراهيم ونصب ربه.
فقراءة الجمهور على أن الفاعل هو الرب ، وتقدم معنى ابتلائه إياه.
قال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع الابتلاء ، إذ معلوم أن الله تعالى هو المبتلي.
وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول.
انتهى كلامه ، وفيه بعض تلخيص.
وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور.
وقد جاء في كلام العرب مثل : ضرب غلامه زيداً ، وقال : وقاس عليه بعض النحويين ، وتأول بعضه الجمهور ، أو حمله على الشذوذ.
وقد طول الزمخشرى في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في الكشاف ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية.
وقرأ ابن عباس : معناها أنه دعا ربه بكلمات من الدعاء بتطلب فيها الإجابة ، فأطلق على ذلك ابتلاء على سبيل المجاز لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير على الإنسان.
والكلمات لم تبين في القرآن ما هي ، ولا في الحديث الصحيح ، وللمفسرين فيها أقوال : الأول : روى طاوس ، عن ابن عباس أنها العشرة التي من الفطرة : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاستطابة ، والختان ، وهذا قول قتادة.
الثاني عشر : وهي : حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، وغسل يوم الجمعة ، والطواف بالبيت ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإفاضة.
وروي هذا عن ابن عباس أيضاً.
الثالث : ثلاثون سهماً في الإسلام ، لم يتم ذلك أحد إلا إبراهيم ، وهي عشر في براءة { التائبون } الآية ، وعشر في الأحزاب { إن المسلمين } الآية ، وعشر في { قد أفلح } وفي المعارج.
وروي هذا عن ابن عباس أيضاً.
الرابع : هي الخصال الست التي امتحن بها الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان.
وقيل : بدل الهجرة الذبح لولده ، قاله الحسن.
الخامس : مناسك الحج ، رواه قتادة ، عن ابن عباس.
السادس : كل مسألة سألها إبراهيم في القرآن مثل : { رب اجعل هذا البلد آمناً } ، قاله مقاتل.
السابع : هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقوله : ربنا تقبل منا ، قاله ابن جبير.
الثامن : هو قوله تعالى : { وحاجَّه قومه } قاله يمان.
التاسع : هي قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } الآيات ، قاله أبو روق.
العاشر : هي ما ابتلاه به في ماله وولده ونفسه ، فسلم ماله للضيفان ، وولده للقربان ، ونفسه للنيران ، وقلبه للرحمن ، فاتخذه الله خليلاً.
الحادي عشر : هو أن الله أوحى إليه أن تطهر فتمضمض ، ثم أن تطهر فاستنشق ، ثم أن تطهر فاستاك ، ثم أن تطهر فأخذ من شاربة ، ثم أن تطهر ففرق شعره ، ثم أن تطهر فاستنجى ، ثم أن تطهر فحلق عانته ، ثم أن تطهر فنتف إبطه ، ثم أن تطهر فقلم أظفاره ، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ماذا يصنع ، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
وفي البخاري ، أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ، وأوحى الله إليه { إني جاعلك للناس إماماً } ، يأتمون بك في هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون.
فإن صحت تلك الرواية ، فالتأويل أنه اختتن بعد عشرين ومائة سنة من ميلاده ، وابن ثمانين سنة من وقت نبوته ، فيتفق التاريخان ، والله أعلم.
الثاني عشر : هي عشرة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي الملة والصلاة ، وهي الفطرة والزكاة ، وهي الطهرة والصوم ، وهو الجنة والحج ، وهو الشعيرة والغزو ، وهو النصرة والطاعة ، وهي العصمة والجماعة ، وهي الألفة والأمر بالمعروف ، وهو الوفاء والنهي عن المنكر ، وهو الحجة.
الثالث عشر : هي : تجعلني إماماً ، وتجعل البيت مثابة وأمناً ، وترينا مناسكنا ، وتتوب علينا ، وهذا البلد آمناً ، وترزق أهله من الثمرات.
فأجابه الله في ذلك بما سأله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.
وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما ابتلى الله به إبراهيم ، إذ كلها ابتلاه بها ، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ، ولا على التعيين ، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض.
وهذه الأشياء التي فسر بها الكلمات ، إن كانت أقوالاً ، فذلك ظاهر في تسميتها كلمات ، وإن كانت أفعالاً ، فيكون إطلاق الكلمات عليها مجازاً ، لأن التكاليف الفعلية صدرت عن الأوامر ، والأوامر كلمات.
سميت الذات كلمة لبروزها عن كلمة كن.
قال تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم } وقد تكلم بعض المفسرين في أحكام ما شرحت به الكلمات من : المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والفرق ، والسدل ، والسواك ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء ، والختان ، والشيب وتغييره ، والثريد ، والضيافة.
وهذا يبحث فيه في علم الفقه ، وليس كتابنا موضوعاً لذلك ، فلذلك تركنا الكلام على ذلك.
فأتمهن : الضمير المستكن في فأتمهن يظهر أنه يعود إلى الله تعالى ، لأنه هو المسند إليه الفعل قبله على طريق الفاعلية.
فأتمهن معطوف على ابتلى ، فالمناسب التطابق في الضمير.
وعلى هذا ، فالمعنى : أي أكملهن له من غير نقص ، أو بينهن ، والبيان به يتم المعنى ويظهر ، أو يسر له العمل بهن وقوّاه على إتمامهن ، أو أتم له أجورهن ، أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، أقوال خمسة.
ويحتمل أن يعود الضمير المستكن على إبراهيم.
فالمعنى على هذا أدامهن ، أو أقام بهن ، قاله الضحاك؛ أو عمل بهن ، قاله يمان؛ أو وفى بهن ، قاله الربيع ، أو أدّاهن ، قاله قتادة.
خمسة أقوال تقرب من الترادف ، إذ محصولها أنه أتى بهن على الوجه المأمور به.
واختلفوا في هذا الابتلاء ، هل كان قبل نبوته أو بعدها؟ فقال القاضي : كان قبل النبوة ، لأنه نبه على أن قيامه بهن كالسبب ، لأنه جعله إماماً ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون الابتلاء مقدماً في الوجود على صيرورته إماماً.
وقال آخرون : إنه بعد النبوة ، لأنه لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك.
أجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه أوحى إليه على لسان جبريل بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك ، جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق.
{ قال إني جاعلك } : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً ، كانت قال استئنافاً ، فكأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : { قال إني جاعلك للناس إماماً }.
وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها ، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً ، إذ ابتلاه ، ويجوز أن يكون بياناً لقوله : ابتلى ، وتفسيراً له.
للناس : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه ، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم ، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم.
وللناس : في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، التقدير : إماماً كائناً للناس ، قالوا : ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك ، أي لأجل الناس.
وجاعل هنا بمعنى مصير ، فيتعدى لاثنين ، الأول : الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل ، والثاني : إماماً.
قيل : قال أهل التحقيق : والمراد بالإمام هنا : النبي ، أي صاحب شرع متبع ، لأنه لو كان تبعاً لرسول ، لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له.
ولأن لفظ الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، ومن يكون كذلك ، لا يكون إلا نبياً.
ولأن الأنبياء من حيث يجب على الخلق اتباعهم هم أئمة ، قال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا } والخلفاء أيضاً أئمة ، وكذلك القضاة والفقهاء والمصلي بالناس ، ومن يؤتم به في الباطل.
قال تعالى : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } فلما تناول الاسم هؤلاء كلهم ، وجب أن يحمل هنا على أشرف المراتب وأعلاها ، لأنه ذكره في معرض الامتنان ، فلا بد أن يكون أعظم نعمة ، ولا شيء أعظم من النبوة.
قال ومن ذريتي ، قال الزمخشري : عطف على الكاف ، كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي ، كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً.
انتهى كلامه.
ولا يصح العطف على الكاف ، لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ، ولم يعد ، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها ، لأنها حرف ، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح ، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف ، لأنه نصب ، فيجعل من في موضع نصب ، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع ، على مذهب سيبويه ، لفوات المحرز ، وليس نظير : سأكرمك ، فتقول : وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب.
والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي متعلقاً بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماماً ، لأن إبراهيم فهم من قوله إني جاعلك للناس إماماً الاختصاص ، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً.
وقرأ زيد بن ثابت : ذريتي بالكسر في الذال.
وقرأ أبو جعفر بفتحها.
وقرأ الجمهور بالضم ، وذكرنا أنها لغات فيها ، ومن أي شيء اشتقت حين تكلمنا على المفردات.
{ قال لا ينال عهدي الظالمين } : والضمير في قال الثانية ضمير إبراهيم ، وفي قال هذه عائد على الله تعالى.
والعهد : الإمامة ، قال مجاهد : أو النبوة ، قاله السدي؛ أو الأمان ، قاله قتادة.
وروي عن السدي ، واختاره الزجاج : أو الثواب قاله قتادة أيضاً؛ أو الرحمة ، قاله عطاء؛ أو الدين ، قاله الضحاك والربيع ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه ، قاله ابن عباس؛ أو الأمر من قوله : { إن الله عهد إلينا } { ألم أعهد إليكم } أو إدخاله الجنة من قوله : كان له { عند الله عهداً } أن يدخله الجنة؛ أو طاعتي ، قاله الضحاك أيضاً؛ أو الميثاق؛ أو الأمانة.
والظاهر من هذه الأقوال : أن العهد هي الإمامة ، لأنها هي المصدر بها ، فأعلم إبراهيم أن الإمامة لا تنال الظالمين.
وذكر بعض أهل العلم أن قوله : { ومن ذريتي } هو استعلام ، كأنه قيل : أتجعل من ذريتي إماماً : وقد قدمنا أن الظاهر أنه على سبيل الطلب ، أي واجعل من ذريتي.
وهذا الجواب الذي أجاب الله به إبراهيم هو من الجواب الذي يربو على السؤال ، لأن إبراهيم طلب من الله ، وسأل أن يجعل من ذريته إماماً ، فأجابه إلى أنه لا ينال عهده الظالمين ، ودل بمفهومه الصحيح على أنه ينال عهده من ليس بظالم ، وكان ذلك دليلاً على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم ، ويدلك على أن العهد هو الإمامة أن ظاهر قوله : { لا ينال عهدي الظالمين } أنه جواب لقول إبراهيم : { ومن ذريتي } على سبيل الجعل ، إذ لو كان على سبيل المنع لقال لا ، أو لا ينال عهدي ذريتك ، ولم ينط المنع بالظالمين.
وقرأ أبو رجاء وقتادة والأعمش : الظالمون بالرفع ، لأن العهد ينال ، كما ينال أي عهدي لا يصل إلى الظالمين ، أو لا يصل الظالمون إليه ولا يدركونه.
وقد فسر الظلم هنا بالكفر ، وهو قول ابن جبير ، وبظلم المعاصي غير الكفر ، وهو قول عطاء والسدي.
واستدل بهذا على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده ، قال الحسن : لم يجعل الله لهم عهداً.
قال ابن أبي الفضل : ما ذكره المفسرون من أنه سأل الإمامة لذريته ، وأنه أجيب إلى ملتمسه لا يظهر من اللفظ ، لأنه قال : ومن ذريتي ، وهو محتمل ، وجاعل من ذريتي ، أو تجعل من ذريتي ، أو اجعل من ذريتي.
وإذا كان هذا كله محتملاً غير منطوق به ، فمن أين لهم أنه سأل؟ وأما قولهم : أجيب إلى ملتمسه ، فاللفظ لا يدل على ذلك ، بل يدل على ضده ، لأن ظاهره : أن أولادك ظالمون.
لكن دل الدليل على خلاف ذلك ، وهو : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } ، وغير ذلك من الآي التي تدل على أن في ذريته النبوة.
ولو قال : لا ينال عهدي الظالمين منهم ، لدل ذلك على ما يقولون على أن اللفظ لا ينزل عليه نزولاً بيناً.
انتهى ما ذكره ملخصاً بعضه.
وفيما ذكره ابن أبي الفضل نظر ، لأن تلك التقادير التي قدرها ظاهرها السؤال.
أما من قدر : واجعل من ذريتي إماماً ، فهو سؤال؛ وأما من قدر : وتجعل وجاعل ، فهو استفهام على حذف الاستفهام ، إذ معناه : وأجاعل أنت يا رب ، أو أتجعل يا رب من ذريتي.
والاستفهام يؤول معناه إلى السؤال ، ولا يجوز أن يكون المقدر من قولهم : وجاعل ، أو تجعل من ذريتي إماماً خبراً ، لأنه خبر من نبي.
وإذا كان خبراً من نبي ، كان صدقاً ضرورة.
ولم يتقدم من الله إعلام لإبراهيم بذلك ، إنما أعلمه أنه يجعله للناس إماماً.
فمن أين يخبر بذلك؟ ومن يخاطب بذلك؟ إن كان الله قد أعلمه ذلك.
وإنما ذلك التقدير على سبيل الاستفهام والاستعلام.
هل تحصل الإمامة لبعض ذريته أم لا تحصل؟ فأجابه الله : إلى أن من كان ظالماً لا يناله عهده.
وأما قوله : إن ظاهر اللفظ أن أولادك ظالمون ، فليس كذلك ، بل ظاهره أنه لا يناله من ظلم من أولاده وغير أولاده ، ودل بمفهوم الصفة على أن غير الظالم ينالها.
ولو كان على ما قاله ابن أبي الفضل ، لكان اللفظ لا ينالها ذريتك لظلمهم ، مع أنه يحتمل أن الظالمين تكون الألف واللام فيه معاقبة للضمير ، أي : ظالموهم ، أو الضمير محذوف ، أي منهم.
ومن أغرب الانتزاعات في قوله : { لا ينال عهدي الظالمين } ما ذكر لي بعض الإمامية أنهم انتزعوا من هذا ، كون أبي بكر لا يكون إماماً قالوا : لأن إطلاق اسم الظلم يقع عليه ، لأنه سجد للأصنام ، فقد ظلم.
وقد قال تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } ، وذلك بخلاف عليّ ، فإنه لم يسجد لصنم قط.
قلت له : فيلزم أن يسمي كل من أسلم من الصحابة ظالماً ، كسلمان ، وأبي ذر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وعمار.
وهذا ما لا يذهب إليه أحد ، فلم يحر جواباً.
وقال الزمخشري : وقالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه.
وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ، ابني عبد الله بن الحسين ، حتى قتل فقال : ليتني مكان ابنك.
وكان يقول في المتصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد آجره لما فعلت.
وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماماً قط.
وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنما هو لكف المظلمة؟ فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب فقد ظلم.
انتهى كلامه.
وزيد بن عليّ الذي ذكره ، هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، وهو أخو محمد الباقر بن عليّ ، وإليه تنتسب الزيدية اليوم.
وكان من أهل العلم والفقه والفهم في القرآن والشجاعة ، وإنما ذكره الزمخشري ، لأنه كان بمكة مجاوراً للزيدية ومصاحباً لهم ، وصنف كتابه الكشاف لأجلهم.
واللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة ، الذي ذكره الزمخشري ، هو هشام بن عبد الملك ، خرج عليه زيد بن عليّ ، وكان قد قال لأخيه الباقر : ما لك لا تقوم وتدعو الناس إلى القيام معك؟ فأعرض عنه وقال له : لهذا وقت لا يتعداه.
فدعا إلى نفسه وقال : إنما الإمام منا من أظهر سيفه وقام بطلب حق آل محمد ، لا من أرخى عليه ستوره وجلس في بيته.
فقال له الباقر : يا زيد! إن مثل القائم من أهل هذا البيت قبل قيام مهديهم ، مثل فرخ نهض من عشه من قبل أن يستوي جناحاه.
فإذا فعل ذلك سقط ، فأخذه الصبيان يتلاعبون به.
فاتق الله في نفسك أن لا تكون المصلوب غداً بالكناسة.
فلم يلتفت زيد لكلام الباقر ، وخرج على هشام ، فظفر به وصلبه على كناسة الكوفة ، وأحرقه بالنار ، وكان كما حذره الباقر.
وأما الدوانيقي ، فهو المنصور أخو السفاح ، سمي بذلك قيل لبخله.
وقد ذكر بعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً ، وذكر من عطائه وكرمه أخباراً كثيرة.
وأما إبراهيم ومحمد ، اللذان ذكرهما الزمخشري ، فهما ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، كانا قد تغيبا أيام السفاح ، وأول أيام المنصور ، ثم ظهر محمد أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة ، ودخل مسجد المدينة قبل الفجر ، فخطب حتى حضرت الصلاة ، فنزل وصلى بالناس ، وبويع بالمدينة طوعاً ، واستعمل العمال ، وغلب على المدينة والبصرة ، وجبى الأموال.
وكان إبراهيم أخوه قد صار إلى البصرة يدعو إليه.
وآخر أمرهما أن المنصور وجه إليهما العساكر وقتلا.
وقد ذكر بعض المفسرين هنا أحكام الإمامة الكبرى ، وإن كان موضوعها أصول الدين ، فهناك ذكرها ، لكني لا أخلي كتابي عن شيء ملخص فيها دون الاستدلال.
فنقول : الذي عليه أصحاب الحديث والسنة ، أن نصب الإمام فرض ، خلافاً لفرقة من الخوارج ، وهم أصحاب نجدة الحروري.
زعموا أن الإمامة ليست بفرض ، وإنما على الناس إقامة كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يحتاجون إلى إمام ، ولفرقة من الإباضية زعمت أن ذلك تطوع.
واستناد فرضية نصب الإمام للشرع لا للعقل ، خلافاً للرافضة ، إذ أوجبت ذلك عقلاً ، ويكون الإمام من صميم قريش ، خلافاً لفرقة من المعتزلة ، إذ قالوا : إذا وجد من يصلح لها قرشي ونبطي ، وجب نصب النبطي دون القرشي ، وسواء في ذلك بطون قريش كلها ، خلافاً لمن خص ذلك بنسل عليّ ، أو العباس ، إما منصوصاً عليه ، وإما باجتهاد ، ويكون أفضل القوم ، فلا ينعقد للمفضول مع وجود الفاضل ، خلافاً لأبي العباس القلانسي ، فإنه يقول : ينعقد للمفضول ، إذا كان بصفة الإمامة ، مع وجود الفاضل ، وشروطه : أن يكون عدلاً مجتهداً في أحكام الشريعة ، شجاعاً ، والشجاعة في القلب بحيث يمكنه ضبط الأمر وحفظ بيضة الإسلام ، ولا يجوز نصب ساقط العدالة ابتداء ، فإن عقد لشخص كامل الشروط ثم طرأ منه فسق ، فقال أبو الحسن : يجوز الخروج عليه إذا أمن الناس.
وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم.
وقال أبو الحسن أيضاً ، والقاضي أبو بكر بن الطيب : لا يجوز الخروج عليه ، وإن أمن الناس ذلك ، إلا أن يكفر أو يدعو إلى ضلالة وبدعة ، والمرجوع في نصبه إلى اختيار أهل الاجتهاد في الدين ، والعامة في ذلك تبع لهم ولا اعتبار بهم في ذلك ، وليس من شرطه اجتماع كل المجتهدين ، ولا اعتبار في ذلك بعدد ، بل إذا عقد واحد من أهل الحل والعقد ، وجبت المبايعة على كلهم ، خلافاً لمن خص أهل البيعة بأربعة.
وقال : لا ينعقد بأقل من ذلك ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بأربعين ، أو لمن قال : لا ينعقد إلا بسبعين ، ثم من خالف كان باغياً أو ناظراً أو غالطاً ، ولكل واحد منهم حكم يذكر في علم الفقه.
ولا ينعقد لإمامين في عصر واحد ، خلافاً للكرامية ، إذ أجازوا ذلك ، وزعموا أن علياً ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، والقول بالتقية باطل ، خلافاً للإمامية ، ومعناها : أنه يكون الشخص الجامع لشروط الإمامة إماماً مستوراً ، لكنه يخفي نفسه مخافة من غلب على الملك ممن لا يصلح للإمامة.
وليس من شرط الإمام العصمة ، خلافاً للرّافضة ، فإنهم يقولون بوجوب العصمة للإمام سرًّا وعلناً.
وليس من شرطه الإحاطة بالمعلومات كلها ، خلافاً للإمامية ، والإمام مفترض الطاعة فيما يؤدّي إليه اجتهاده.
وليس لأحد الخروج عليه بالسيف ، وكذلك لا يجوز الخروج على السلطان الغالب ، خلافاً لمن رأى ذلك من المعتزلة والخوارج والرافضة وغيرهم.
وقد تكلم بعض الناس هنا في الإمامة الصغرى وهي : الإمامة في الصلاة ، وموضوعها علم الفقه.
{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } : لما رد على اليهود في إنكارهم التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة بناء إبراهيم أبيهم ، كانوا أحق بتعظيمها ، لأنها من مآثر أبيهم.
ولوجه آخر من إظهار فضلها ، وهو كونها مثابة للناس وأمناً ، وأن فيها مقام إبراهيم ، وأنه تعالى أوحى إليه وإلى ولده ببنائها وتطهيرها ، وجعلها محلاً للطائف والعاكف والراكع والساجد ، وأمره بأن ينادي في الناس بحجها.
والبيت هنا : الكعبة ، على قول الجمهور.
وقيل : المراد البيت الحرام لا نفس الكعبة ، لأنه وصفه بالأمن ، وهذه صفة جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط.
ويجوز إطلاق البيت ، ويراد به كل الحرم.
وأما الكعبة فلا تطلق إلا على البناء الذي يطاف به ، ولا تطلق على كل الحرم.
والتاء في مثابة للمبالغة ، لكثرة من يثوب إليه ، قاله الأخفش ، أو لتأنيث المصدر ، أو لتأنيث البقعة ، كما يقال مقام ومقامه ، قال الشاعر :
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة . . .
فهل يعجزني بقعة من بقاعها
ذكر رحباً على مراعاة المكان ، وأنث فسيحة على اللفظ.
وقرأ الأعمش وطلحة : مثابات على الجمع ، وقال ورقة بن نوفل :
مثاباً لا فناء القبائل كلها . . .
تخب إليها اليعملات الطلائح
ويروى : الذوابل.
ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس ، لا يختص به واحد منهم ، { سواء العاكف فيه والباد }.
ومثابة ، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب ، أي يحجونه في كل عام ، فهم يتفرّقون ، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم ، ولا يقضي أحد منهم وطراً ، وقال الشاعر :
جعل البيت مثاباً لهم . . .
ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال ابن عباس : معاذاً وملجأ.
وقال قتادة والخليل : مجمعاً.
وقال بعض أهل اللغة ، فيما حكاه الماوردي : أي مكان.
إثابة : واحدة من الثواب ، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالاً منه.
والألف واللام في قوله للناس : أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان ، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك.
وجعلنا هنا بمعنى صيرنا ، فمثابة مفعول ثان.
وقيل : جعل هنا بمعنى : خلق ، أو وضع ، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنة ، إذ هو في موضع الصفة.
وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا ، أي لأجل الناس.
والأمن : مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن ، أو على حذف مضاف ، أي ذا أمن ، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازاً ، أي آمنا ، كما قال تعالى : { اجعل هذا البلد آمناً } ، وجعله آمناً ، اختلفوا ، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال : إنه في الدنيا ، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون ، ويغير بعضهم على بعض حول مكة ، وهي آمنة من ذلك ، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة ، وجعلها أمناً للناس والطير والوحش ، إلا الخمس الفواسق ، فخصصت من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما من أحدث حدثاً خارج الحرم ، ثم أتى الحرم ، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه.
وقيل معناه : إنه آمن من لأهله ، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة ، فلا يروعه أحد.
وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده.
ومن قال هذا الأمن في الآخرة ، قيل : من المكر عند الموت.
وقيل : من عذاب النار.
وقيل : من بخس ثواب من قصده ، قال قوم : وهذا الأمن مختص بالبيت.
وقيل : يشمل البيت والحرم.
وقال في ريّ الظمآن معناه : ذا أمن لقاطنيه من أن يجري عليهم ما يجري على سكان البوادي وسائر بلدان العرب.
والظاهر أن قوله : وأمناً ، معطوف على قوله : مثابة ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره.
وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر ، التقدير : واجعلوه آمناً ، أي جعلناه مثابة للناس ، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد.
فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل ، وكان البيت محرّماً بحكم الله ، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ : واتخذوا على الأمر ، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل ، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية ، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.
{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، والجمهور : واتخذوا ، بكسر الخاء على الأمر.
وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتحها ، جعلوه فعلاً ماضياً.
فأما قراءة : واتخذوا على الأمر ، فاختلف من المواجه به ، فقيل : إبراهيم وذريته ، أي وقال الله لإبراهيم وذريته : اتخذوا.
وقيل : النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، أي : وقلنا اتخذوا.
ويؤيده ما روي عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فذكر منها وقلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال : «هذا مقام إبراهيم» ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ فقال : «لم أومر بذلك».
فلم تغب الشمس حتى نزلت.
وعلى هذين القولين يكون اتخذوا معمولاً لقول محذوف.
وقيل : المواجه به بنو إسرائيل ، وهو معطوف على قوله : { اذكروا نعمتي } وقيل : هو معطوف على قوله : { وإذ جعلنا البيت مثابة } ، قالوا : لأن المعنى : ثوبوا إلى البيت ، فهو معطوف على المعنى.
وهذان القولان بعيدان.
وأما قراءة : واتخذوا ، بفتح الخاء ، فمعطوف على ما قبله ، فأما على مجموع ، إذ جعلنا فيحتاج إلى إضمار إذ ، وإما على نفس جعلنا ، فلا يحتاج إلى تقديرها ، بل يكون في صلة إذ.
والمعنى : واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به ، وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، قاله الزمخشري.
من مقام : جوّزوا في من أن تكون تبعيضية ، وبمعنى في ، وزائدة على مذهب الأخفش ، والأظهر الأول.
وقال القفال : هي مثل اتخذت من فلان صديقاً ، وأعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ، دخلت من لبيان المتخذ الموهوب ، وتميزه في ذلك المعنى والمقام مفعل من القيام ، يراد به المكان ، أي مكان قيامه ، وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه ، قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ، وخرجه البخاري ، وهو الآن موضع ذلك الحجر والمسمى مقام إبراهيم.
وعن عمر أنه سأل المطلب بن أبي رفاعة : هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال نعم ، فأراه موضعه اليوم.
قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، حكاه القشيري.
أو حجر جاءت به أم إسماعيل إليه وهو راكب ، فاغتسل عليه ، فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه ، قاله الربيع بن أنس؛ أو مواقف الحج كلها ، قاله ابن عباس أيضاً وعطاء ومجاهد ، أو عرفة والمزدلفة والجمار ، قاله عطاء والشعبي ، لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها؛ أو الحرم كله ، قاله النخعي ومجاهد؛ أو المسجد الحرام ، قاله قوم.
واتفق المحققون على القول الأول ورجح بحديث عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ الحديث ، وبقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف وأتى المقام : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، فدل على أن المراد منه ذلك الموضع ، ولأن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حين غاصت فيه رجلاه ، وفي ذلك معجزة له ، فكان اختصاصه به أقوى من اختصاص غيره.
فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى ، ولأن المقام هو موضع القيام ، وثبت قيامه على الحجر ولم يثبت على غيره.
مصلى : قبلة ، قاله الحسن.
موضع صلاة ، قاله قتادة.
موضع دعاء ، قاله مجاهد ، والأولى الحمل على الصلاة الشرعية لا على الصلاة لغة.
قال ابن عطية : موضع صلاة على قول من قال المقام : الحجر ، ومن قال غيره قال : مصلى ، مدعى على أصل الصلاة ، يعني في اللغة. انتهى.
{ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرنا أو وصينا ، أو أوحينا ، أو قلنا أقوال متقاربة المعنى.
{ أن طهرا } : يحتمل أن تكون أن تفسيرية ، أي طهرا ، ففسر بها العهد ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، أي بأن طهرا.
فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين.
إذا حذف من أن حرف الجر ، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر ، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره ، وفي ذلك نظر ، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل ، ولا أحفظ من كلامهم : عجبت من أن أضرب زيداً ، ولا يعجبني أن أضرب زيداً ، فتوصل بالأمر ، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر.
والتطهير : المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به.
وقد فسروا التطهير بالبناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد ، قاله السدّي ، وهو بعيد ، وبالتطهير من الأوثان.
وذكروا أنه كان عامراً على عهد نوح ، وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم ، وأنه طال العهد ، فعبدت من دون الله ، فأمر الله بتطهيره من تلك الأوثان ، قاله جبير ومجاهد وعطاء ومقاتل.
والمعنى : أنه لا ينصب فيه وثن ، ولا يعبد فيه غير الله.
وقال يمان : معناه بخّراه ونظفاه وخلقاه.
وقيل : من الآفات والريب.
وقيل : من الكفار.
وقيل : من الفرث والدم الذي كان يطرح فيه.
وقيل : معناه أخلصاه لهؤلاء ، لا يغشاه غيرهم ، والأولى حمله على التطهير مما لا يناسب بيوت الله ، فيدخل فيه الأوثان والإنجاس ، وجميع الخبائث ، وما يمنع منه شرعاً ، كالحائض.
{ بيتي } : هذه إضافة تشريف ، لا أن مكاناً محل لله تعالى ، ولكن لما أمر ببنائه وتطهيره وإيفاد الناس من كل فج إليه ، صار له بذلك اختصاص ، فحسنت إضافته إلى الله بذلك ، وصار نظير قوله : { ناقة الله } { وروح الله } من حيث أن في كل منهما خصوصية لا توجد في غيره ، فناسب الإضافة إليه تعالى.
والأمر بتطهيره يقتضي سبق وجوده ، إلا إذا حملنا التطهير على البناء والتأسيس على الطهارة والتقوى.
وقد تقدّم أنه كان مبنياً على عهد نوح.
{ للطائفين والعاكفين } : ظاهره أنه كل من يطوف من حاضر أو باد ، قاله عطاء وغيره.
وقال ابن جبير : الغرباء الطارئون على مكة حجاجاً وزوّاراً ، فيرحلون عن قريب ، ويؤيده أنه ذكر بعده.
والعاكفين ، قال : وهم أهل البلد الحرام المقيمون ، والمقيم مقابل المسافر.
وقال عطاء : العاكفون هم الجالسون من غير طواف من بلديّ وغريب.
وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء.
وقال ابن عباس : المصلون ، لأن الذي يكون يدخل إلى البيت ، إنما يدخل لطواف أو صلاة.
وقيل : هم المعتكفون.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالعاكفين : الواقفين ، يعني القائمين ، كما قال للطائفين والقائمين والركع السجود.
والمعنى للطائفين والمصلين ، لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. انتهى.
ولو قال : القائم هنا معناه : العاكف ، من قوله : ما دمت عليه قائماً ، لكان حسناً ، ويكون في ذلك جمع بين أحوال من دخل البيت للتعبد ، لأنه لا يخلو إذ ذاك من طواف أو اعتكاف أو صلاة ، فيكون حمله على ذلك أجمع لما هيىء البيت له.
{ والركع السجود } : هو المصلون عند الكعبة ، قاله عطاء وغيره.
وقال الحسن : هم جميع المؤمنين ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي ، لأنهما أقرب أحواله إلى الله ، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان ، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة ، فكان ذلك تنويعاً في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً ، وكان آخرهما على فعول ، لا على فعل ، لأجل كونها فاصلة ، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين ، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق.
ولم يعطف السجود على الركع ، لأن المقصود بهما المصلون.
والركع والسجود ، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة.
فالمراد بالركع السجود : المصلون ، فناسب أن لا يعطف ، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة ، وليس كذلك.
وفي قوله : { والركع السجود } دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضاً ونفلاً ، إذ لم يخصص.
{ وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً } : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف.
ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء الله تعالى.
وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته.
واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة.
وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله : { بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم } أو إلى المكان الذي صار بلداً ، ولذلك نكره فقال : { بلداً آمناً }.
وحين صار بلداً قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني } وقَال { لا أقسم بهذا البلد } هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين.
وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً ، ويكون بلداً النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوماً حاراً ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً.
ويحتمل وجهاً آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً ، بل دعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله : { هذا البلد } ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً.
ووصف بلد بآمن ، إما على معنى النسب ، أي ذا أمن ، كقولهم : { عيشة راضية } أي ذات رضا ، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم.
وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين ، أو من أن يعود حرمه حلالاً ، أو من أن يخلو من أهله ، أو آمناً من القتل ، أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من أصحاب الفيل؟ أقوال.
ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة ، فالواقع يرده ، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا ، كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج بن يوسف ، والقرامطة ، وغيرهم.
وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب ، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً.
وقال القفال : معناه مأموناً فيه ، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن ، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية ، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم.
{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا الله للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق.
فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح.
ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين }.
قيد هنا من سأل له الرزق فقال : { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } ، والضمير في منهم عائد على أهله.
دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ، لأن الكافر لا يدعى له بذلك.
ألا ترى أن قريشاً لما طغت ، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين ، كسني يوسف » ، وكانت مكة إذ ذاك قفراً ، لا ماء بها ولا نبات ، كما قال : { بواد غير ذي زرع } فبارك الله فيما حولها ، كالطائف وغيره ، وأنبت الله فيه أنواعاً من الثمر.
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم ، أمر جبريل فاقتلع فلسطين ، وقيل : بقعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعاً ، فأنزلها بِوَادّ ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف ، وقال بعضهم :
كل الأماكن إعظاماً لحرمتها . . .
تسعى لها ولها في سعيها شرف
وذكر متعلق الإيمان ، وهو الله تعالى واليوم الآخر ، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود ، وبما يليق به تعالى من الصفات ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به ، وهم الأنبياء.
فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاؤا به.
فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به ، اقتصر على ذلك ، لأن غيره في ضمنه.
ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم ، ولا يختص ذلك بذريته ، وإن كان ظاهر قوله : { وارزقهم من الثمرات } مختصاً بذريته لقوله : { إني أسكنت من ذريتي } لعود الضمير في وارزقهم عليه ، فيحتمل أن يكونا سؤالين.
ومن : في قوله : من الثمرات للتبعيض ، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات.
وقيل : هي لبيان الجنس ، ومن بدل من أهله ، بدل بعض من كل ، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه ، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين : إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه ، والثانية بالتنصيص عليه ، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً ، إذ أريد بالعام الخاص.
هذه فائدة هذين البدلين ، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم ، وهو البدل ، إذ ذكر مرتين.
{ قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } : قرأ الجمهور من السبعة : فأمتعه ، مشدّداً على الخبر.
وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، مخففاً على الخبر.
وقرأ هؤلاء : ثم اضطره خبراً.
وقرأ يحيى بن وثاب : فأمتعه مخففاً ، ثم أضطره بكسر الهمزة ، وهما خبران.
وقرأ ابن محيصن : ثم أضطره ، بإدغام الضاد في الطاء خبراً.
وقرأ يزيد بن أبي حبيب : ثم اضطره بضم الطاء ، خبراً.
وقرأ أبي بن كعب : فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما : { فأمتعه قليلاً ثم أضطره } على صيغة الأمر فيهما ، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على إبراهيم ، لما دعا للمؤمنين بالرزق ، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب.
ومن : على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون موصولة أو شرطية ، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً.
وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على الله تعالى ، ومن : يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره : قال الله وارزق من كفر فأمتعه ، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن.
ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء ، إما موصولاً ، وإما شرطاً ، والفاء جواب الشرط ، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط.
ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً ، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط ، لا الفعل الواقع جزاء ، ولا إذا كانت موصولة ، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً ، للموصول باسم الشرط.
فكما لا يفسر الجزاء ، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء.
وأما إذا كان أمراً ، أعني الخبر نحو : زيداً فاضربه ، فيجوز أن يفسر ، ولا يجوز أن تقول : زيداً فتضربه على الاشتغال ، ولجواز : زيداً فاضربه على الأمر ، علة مذكورة في كتب النحو.
قال أبو البقاء : لا يجوز أن تكون من مبتدأ ، وفأمتعه الخبر ، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها ، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم.
والكفر لا يستحق به التمتع.
فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو الخبر محذوفاً ، وفأمتعه دليل على جاز ، تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه.
ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها.
وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن يكفر ارزق.
ومن على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل الشرط.
انتهى كلامه.
وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح ، لأن الخبر مستحق بالصلة ، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر.
ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها.
وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً.
فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة ، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة ، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء ، وقد جوّز هو ذلك.
وأما تقدير زيادة الفاء ، وإضمار الخبر ، وإضمار جواب الشرط ، إذا جعلنا من شرطية ، فلا حاجة إلى ذلك ، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار.
وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها ، ونحن ننزه القرآن عن ذلك.
وقال الزمخشري : ومن كفر : عطف على من آمن ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك.
انتهى كلامه.
وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك.
وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح ، لأنه يتنافى في تركيب الكلام ، لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم : وارزق من كفر ، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل ، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في ومن كفر.
وإذا قدرته أمراً ، تنافى مع قوله : فأمتعه ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع وإلجائهم إليه تعالى ، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى ، وذلك لا يجوز إلا على بعد ، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي قال إبراهيم : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار.
ثم ناقض الزمخشري قوله هذا ، أنه عطف على من ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال : فإن قلت : لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى.
وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق ، فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له.
والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه.
انتهى كلامه.
فظاهر قوله والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال ، ومن كفر عائد على الله ، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى ، وهو يناقص ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن.
وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء ، لأنه لم يرد عليه ، لأنه لا يدعي ، ويرغب في أن يرزق الكافر ، بل قوله تعالى : { قال ومن كفر } ، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار ، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة ، ولا تعريف الفرق بينهما ، كما زعم.
وقد تقدم تفسير المتاع ، وأنه كل ما انتفع به ، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء ، أو بتيسير المنافع ، ومنه متاع الحياة الدنيا ، أي منفعتها التي لا تدوم ، أو بالتزويد ، ومنه : فمتعوهن؛ أي زوّدوهنّ نفقة.
والمتعة : ما يتبلغ به من الزاد ، والجمع متع ، ومنه : متاعاً لكم.
وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه : أمتعت زيداً ، جعلته صاحب متاع ، كقولهم : أقبرته وأنعلته ، وكذلك التضعيف في متع هو : يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم : عدلته.
وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير ، فينافي ظاهر ذلك القلة ، فيحتاج إلى تأويل ، كما ظنه بعضهم وتأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض ، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة.
فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافينا.
وانتصاب قليلاً على أنه صفة لظرف محذوف ، أي زماناً قليلاً ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً ، على تقدير الجمهور ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف ، الدال عليه الفعل ، وذلك على مذهب سيبويه.
والوصف بالقلة لسرعة انقضائه ، إما لحلول الأجل ، وإما بظهور محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله ، أو يخرجه عن هذا البلد ، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة ، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها ، أو بالرزق ، أو بالبقاء في الدنيا ، أقوال للمفسرين.
وقراءة يحيى بن وثاب : ثم إضطره بكسر الهمزة.
قال ابن عطية ، على لغة قريش ، في قولهم : لا إخال ، يعني بكسر الهمزة.
وظاهر هذا النقل في أن ذلك ، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر ، وهو ما أوله همزة وصل.
وفي نحو إخال ، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون.
فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل ، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها ، أو ذا ياء مزيدة في أوله ، وذلك نحو : علم يعلم ، وانطلق ينطلق ، وتعلم يتعلم ، إلا إن كان حرف المضارعة ياء ، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء ، بل يفتحها.
وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل ، مذاهب تذكر في علم النحو ، وإنما المقصود هنا : أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة ، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره ، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب ، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً.
وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله : { نستعين } أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة.
وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل ) من تأليفنا.
وقراءة ابن محيصن : ثم اطره ، بإدغام الضاد في الطاء.
قال الزمخشري : هي لغة مرذولة ، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ، ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف ضم شفر.
انتهى كلامه.
إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب ، فالأوجه البيان ، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل : مضرب ، كما قيل : مصبر في مصطبر.
قال سيبويه : وقد قال بعضهم : مطجع ، في مضطجع ومضجع أكثر ، وجاز مطجع ، وإن لم يجز في مصطبر مطبر ، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد ، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد.
فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة ، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع ، وإلى قوله : ومضجع أكثر ، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله ، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت ، ولم يفعل ذلك بالصاد ، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه ، يدل على الجواز.
وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى : { الأرض ذلولاً } رواه اليزيدي ، عن أبي عمرو ، وهو ضعيف.
وفي الشين في قوله تعالى : { لبعض شأنهم } { والأرض شيئاً } وهو ضعيف أيضاً.
وأما الشين فأدغمت في السين.
روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى : { إلى ذي العرش سبيلاً } والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو ، وهو رأس من رؤوس البصريين.
وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي : { إن نشأ نخسف بهم } وهو إمام الكوفيين.
وأما الراء ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها ، ولا في النون.
وأجاز ذلك في اللام : يعقوب ، وأبو عمرو ، والكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرؤاسي ، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين ، حكوه سماعاً عن العرب.
وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها ، وذكر الخلاف فيها ، لئلا يتوهم من قول الزمخشري : لا تدغم فيما يجاورها ، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين.
فأوردت هذا الخلاف فيها ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع ، إذ طلاقه يدل على المنع ألبتة.
وقراءة ابن أبي حبيب : بضم الطاء ، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء ، وهو شاذ.
وأما قراءة أبي بالنون فيهما ، فهي مخالفة لرسم المصحف ، فهي شاذة.
وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد ، أو ليكون ذلك جملتين ، جملة بالدعاء لمن آمن ، وجملة بالدعاء على من كفر ، فلا يندرجان تحت معمول واحد ، بل أفرد كلاً بقول.
واضطره على هذه القراءة ، هو بفتح الراء المشدّدة ، كما تقول : عضه بالفتح ، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين ، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك.
ولو قرأ على لغة قومه ، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله : ثم أضطره.
ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب ، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد ، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره.
ومفهوم الشرط هنا ملغي ، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين.
{ وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى ، أي وبئس المصير النار ، إن كان المصير اسم مكان ، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير : وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.
{ وإذ يرفع إبراهيم } : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها.
ويرفع في معنى رفع ، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي ، لأنها ظرف لما مضى من الزمان.
والرفع حالة الخطاب قد وقع.
وقال الزمخشري : هي حكاية حال ماضية ، وفي ذلك نظر.
من البيت : هو الكعبة.
ذكر المفسرون في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ، ومن أي شيء كان باباه ، وكم مرة حجة آدم ، ومن أي شيء بناه إبراهيم ، ومن ساعده على البناء ، قصصاً كثيرة.
واستطردوا من ذلك للكلام في البيت المعمور ، وفي طول آدم ، والصلع الذي عرض له ولولده ، وفي الحجر الأسود ، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح.
وبعضها يناقض بعضاً ، وذلك على جري عاداتهم في نقل ما دب وما درج.
ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عطية : والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت ونشاحه في قوله : أمر ، إذ لم يأت النص بأن الله أمر بذلك.
{ القواعد } : تقدّم تفسيرها في الكلام على المفردات ، وهل هي الأساس أو الجدر؟ فإن كانت الأساس ، فرفعها بأن يبني عليها ، فتنتقل من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، وتتطاول بعد التقاصر.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المراد بها ساقات البناء ، ويجوز أن يكون المعنى ما قعد من البيت ، أي استوطىء ، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء.
{ من البيت } : يحتمل أن يكون متعلقاً بيرفع ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد ، فيتعلق بمحذوف تقديره : كائنة من البيت.
ولم تضف القواعد إلى البيت ، فكان يكون الكلام قواعد البيت ، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين.
{ وإسماعيل } : معطوف على إبراهيم ، فهما مشتركان في الرفع.
قيل : كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.
وقال عبيد بن عمير : رفع إبراهيم وإسماعيل معاً ، وهذا ظاهر القرآن.
وروي عن ابن عباس أن إسماعيل طفل صغير إذ ذاك ، كان يناوله الحجارة.
وروي عن علي : أن إسماعيل كان إذ ذاك طفلاً صغيراً ، ولا يصح ذلك عن عليّ.
ومن جعل الواو في وإسماعيل واو الحال ، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر ، التقدير : وإسماعيل يقول : ربنا تقبل منا ، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء ، وإسماعيل مختصاً بالدعاء.
ومن ذهب إلى العطف ، جعل ربنا تقبل منا معمولاً لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معاً ، في موضع نصب على الحال تقديره : وإذ يرفعان القواعد قائلين ربنا تقبل منا.
ويؤيد هذا التأويل أن العطف في وإسماعيل أظهر من أن تكون الواو واو الحال.
وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة ، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ ، فلا يكون في موضع الحال ، والمعنى : أنهما دعوا بذلك الدعاء وقت أن شرعا في رفع القواعد ، وفي ندائهما بلفظ ربنا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي.
{ ربنا تقبل منا } : أي أعمالنا التي قصدنا بها طاعتك ، وتقبل بمعنى : اقبل ، فتفعل هنا بمعنى المجرد كقولهم : تعدّى الشيء وعداه ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.
والمراد بالتقبل : الإثابة ، عبر بإحدى المتلازمين عن الآخر ، لأن التقبل هو أن يقبل الرجل من الرجل ما يهدي إليه.
فشبه الفعل من العبد بالعطية ، والرضا من الله تعالى بالتقبل توسعاً.
وحكى بعض المفسرين عن بعض الناس فرقاً بين القبول والتقبل ، قال : التقبل تكلف القبول ، وذلك حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل ، قال : فهذا اعتراف من إبراهيم وإسماعيل بالتقصير في العمل.
ولم يكن المقصود إعطاء الثواب ، لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم ، ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه ، وسؤالهما التقبل بذلك ، على أن ترتيب الثواب على العمل ليس واجباً على الله تعالى ، انتهى ملخصاً.
ونقول : إن التقبل والقبول سواء بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ لا يمكن تعقل التكليف بالنسبة إليه تعالى.
وقد قدمنا أن تفعل هنا موافق للفعل المجرد الذي هو قبل.
{ إنك أنت السميع العليم } : يجوز في أنت الابتداء والفصل والتأكيد.
وقد تقدّم الكلام في الفصل وفائدته ، وهو من المسائل التي جمعت فيها الكلام في نحو من سبعة أوراق أحكاماً دون استدلال.
وهاتان الصفتان مناسبتان هنا غاية التناسب ، إذ صدر منهما عمل وتضرع سؤال ، فهو السميع لضراعتهما وتسآلهما التقبل ، وهو العليم بنياتهما في إخلاص عملهما.
وتقدّمت صفة السمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورة نحو قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } فأما الذين اسودت وتأخرت صفة العليم لكونها فاصلة ولعمومها ، إذ يشمل علم المسموعات وغير المسموعات.
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } : أي منقادين ، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله : من أسلم وجهه ، أي أخلص عمله ، والمعنى : أدم لنا ذلك ، لأنهما كانا مسلمين ، ولك تفيد جهة الإسلام ، أي لك لا لغيرك.
وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي : مسلمين على الجمع ، دعاء لهما وللموجود من أهلهما ، كهاجر ، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مراداً به التثنية ، وقد قيل به هنا.
{ ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك } : لما تقدّم الجواب له بقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } ، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم ، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال : { ومن ذريتنا } ، وخصّ ذريته بالدعاء للشفقة والحنوّ عليهم ، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعاً كثيراً لمتبعهم ، إذ يكونون سبباً لصلاح من وراءهم.
والذرية هنا ، قيل : أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، بدليل قوله : { وابعث فيهم }.
وقيل : هم العرب ، لأنهم من ذريتهما.
قال القفال : لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً ، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما ، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي.
ويقال : عبد المطلب بن هاشم ، جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمرو بن الظرب ، كانا على دين الإسلام.
وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله : ومن ذريتنا ، للتبيين ، قال كقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم } وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك.
وتقدّم شرح الأمة ، والمراد به هنا : الجماعة ، أو الجيل ، والمعنى : على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله : واجعل ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير ، فالمعنى : واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك ، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله : واجعل من ذريتنا بمعنى : أوجدوا خلق.
وإن كان من جهة المعنى صحيحاً ، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد.
ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة ، لأنه إن كان من باب عطف المفردات ، فهو مشترك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد.
وإن كان من باب عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق.
والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد ، فكذلك المحذوف.
ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } أن يكون التقدير : وملائكته يصلون ، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة ، ومن ذريتنا حال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ، ومسلمة المفعول الثاني ، وكان الأصل : اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ، قال : فالواو داخلة في الأصل على أمة ، وقد فصل بينهما بقوله : من ذريتنا ، وهو جائز ، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف ، وجعلوا قوله :
يوماً تراها كشبه أردية ال . . .
عصب ويوماً أديمها نغلا
من الضرورات ، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، فصار نظير : ضربت الرجل ، ومتجردة المرأة تريد : والمرأة متجردة ، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة.
{ وأرنا مناسكنا } : قال قتادة : معالم الحج.
وقال عطاء وابن جريج : مذابحنا ، أي مواضع الذبح.
وقيل : كل عبادة يتعبد بها الله تعالى.
وقال تاج القراء الكرماني : إن كان المراد أعمال الحج ، وما يفعل في المواقف ، كالطواف ، والسعي ، والوقوف ، والصلاة ، فتكون المناسك جمع منسك : المصدر ، جمع لاختلافها.
وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج ، كمنى ، وعرفة ، والمزدلفة ، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة.
وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة ، بعث الله إليه جبريل عليه السلام ، فحج به.
وفي قراءة ابن مسعود : وأرهم مناسكهم ، أعاد الضمير على الذرية ، ومعنى أرنا : أي بصِّرنا.
إن كانت من رأي البصرية.
والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر ، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد ، وإن كانت من رؤية القلب ، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين ، نحو قوله :
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة . . .
إذا ما رأته عامر وسلول
وقال الكميت :
بأي كتاب أم بأية سنة . . .
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
فإذا دخلت عليها همزة النقل ، تعدت إلى ثلاثة ، وليس هنا إلا إثنان ، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين.
وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب ، وشرحها بقوله : عرف ، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف ، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب.
وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر ، وعن طائفة أنها من رؤية القلب.
قال ابن عطية : وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود :
أريني جواداً مات هزلاً لأنني . . .
أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
انتهى كلام ابن عطية وقوله.
ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى.
إذا كانت قلبية ، تعدت إلى اثنين ، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة ، وقوله : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل ، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة.
وإذا كان كذلك ، ثبت أن لرأي ، إذا كانت قلبية ، استعمالين : أحدهما : أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف ، والثاني : أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين.
واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية ، لا دليل فيه ، بل الظاهر أنها بصرية ، والمعنى على أبصريني جواداً.
ألا ترى إلى قوله : مات هزلاً؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع.
وقد قال ابن مالك ، وهو حاشد لغة ، وحافظ نوادر : حين عدى ما يتعدى إلى اثنين ، فقال في التسهيل ، ورأى لا لإبصار ، ولا رأي ، ولا ضرب ، فلو كانت رأي بمعنى عرف ، لنفى ذلك ، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين ، كونها لا تكون لأبصار ، ولا رأى ، ولا ضرب.
وقال بعض الناس : المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معاً ، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً ، وهذا ضعيف ، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة ، وهو لا يجوز عندنا.
وقرأ ابن كثير : وأرنا ، وأرني خمسة بإسكان الراء.
وروي عن أبي عمرو : والإسكان والاختلاس.
وروي عنه : الإشباع ، كالباقين ، إلا أن أبا عامر ، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين.
فالإشباع هو الأصل ، والاختلاس حسن مشهور في العربية ، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل ، كما قالوا : فخذ سهله ، كون الحركة فيه ليست لإعراب.
وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف ، فيقبح حذفها ، يعني أن الأصل كان أرء ، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة ، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف.
وهذا ليس بشيء ، لأن هذا أصل مرفوض ، وصارت الحركة كأنها حركة للراء.
وقال الفارسي : ما قاله هذا القائل ليس بشيء.
ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي ، أي الأصل لكن ، ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، ثم أدغموا؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام.
وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصاً عن العرب ، قال الشاعر :
أرنا أداوة عبد الله نملؤها . . .
من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وأيضاً فهي قراءة متواترة ، فإنكارها ليس بشيء.
وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك ، أقوالاً سبعة مضطربة النقل.
وذكروا أيضاً من حج هذا البيت من الأنبياء ، ومن مات بمكة منهم.
وذكروا أنه مات بها نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وغيرهم ، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا.
{ وتب علينا } : قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين ، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب ، والرجوع عن الذنب ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة ، وكان الضمير في قوله : { وتب علينا } خاصاً بهما ، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير.
قالوا : ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك }.
وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية ، كان الدعاء بالتوبة منصرفاً لمن هو من أهل التوبة.
وإن كان الضمير قبله محذوفاً مقدراً ، فالتقدير على عصاتنا ، ويكون دعا بالتوبة للعصاة.
ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لما ذكرناه من الاحتمال ، خلافاً لمن زعم ذلك وقال : التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة.
والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى : { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } إلى قوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له ، وقراءة عبد الله ، وأرهم مناسكهم ، وتب عليهم ، واحتمال أن يكون : وأرنا مناسكنا على حذف مضاف ، أي وأر ذريتنا مناسكنا ، كقوله : ولقد خلقناكم ، أي خلقنا أباكم.
وقال الزمخشري : وتب علينا ما فرط منا من الصغائر ، أو استتاباً لذريتهما. انتهى.
فقوله : ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة ، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء.
قال ابن عطية : وقد ذكر قولي التثبيت ، أو كون ذلك دعاء للذرية ، قال : وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك ، وبنيا البيت ، وأطاعا ، أرادا أن يسنّا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة.
وقال الطبري : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن يكون أحسن مما هي.
انتهى كلام ابن عطية ، وفيه خروج قوله : وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد ، أي إن الدعاء بقوله : وتب علينا ، ليس معناه أنهما طلبا التوبة ، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة ، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة ، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك ، وهذا بعيد جداً.
قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر.
انتهى كلامه.
قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي ، في ( كتاب المحصول ) له ما ملخصه : قالت الشيعة ، لا يجوز أن يقع منهم ذنب ، لا صغير ولا كبير ، لا عمداً ولا سهواً ، ولا من جهة التأويل.
ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر ، ولا التبديل في التبليغ ، ولا الخطأ في الفتوى.
وذكر خلافاً في أشياء ، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد ، لا كبير ولا صغير ، وأما سهواً فقد يقع ، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهواً.
{ إنك أنت التواب الرحيم } : يجوز في أنت : الفصل والتأكيد والابتداء ، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة ، وبأن يريهما مناسكهما ، وبأن يتوب عليهما.
فناسب ذكر التوبة عليهما ، أو الرحمة لهما.
وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة ، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله : { وتب علينا }.
وتأخرت صفة الرحمة لعمومها ، لأن من الرحمة التوبة ، ولكنها فاصلة.
والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا ، لأن قبلها { إنك أنت السميع العليم } ، وبعدها : { إنك أنت العزيز الحكيم }.
{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } : لما دعا ربه بالأمن لمكة ، وبالرزق لأهلها ، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة ، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة ، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية.
وقد تقدم معنى البعث في قوله : { ثم بعثناكم } ، والمراد هنا : الإرسال إليهم.
والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية ، ويحتمل أن يعود على أمّة مسلمة ، ويحتمل أن يعود على أهل مكة ، ويؤيده قوله : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } ، ولا خلاف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصح عنه أنه قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم».
ولم يبعث الله إلى مكة وما حولها إلا هو صلى الله عليه وسلم.
وقرأ أبيّ : وابعث فيهم في آخرهم ، قال ابن عباس : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
ومنهم في موضع الصفة لرسولا ، أي كائناً منهم لا من غيرهم ، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته ، كما قال : { لقد منّ الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } ، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم ، لأنه يكون أشفق على قومه ، ويكونون هم أعز به وأشرف وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته.
قال الربيع : لما دعا إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو في آخر الزمان.
{ يتلوا عليهم آياتك } جملة في موضع الصفة لرسولاً.
وقيل : في موضع الحال منه ، لأنه قد وصف بقوله منهم ، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات الله ، أي يقرؤها ، فكان كذلك ، وأوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، وهو أعظم المعجزات.
وقبل الله دعاء إبراهيم ، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم ، والآيات هنا آيات القرآن.
وقيل : خبر من مضى ، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة ، وقال الفضل : معناه يبين لهم دينهم.
{ ويعلمهم الكتاب } : هو القرآن ، والمعنى : أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه.
وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة ، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن ، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله.
وأسند التعليم للرسول ، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم ، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه ، ويتسبب في ذلك.
والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم ، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم ، ولا يحصل به العلم ، ولذلك يقبل النقيضين ، تقول : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم ، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم.
قال الزمخشري : يتلو عليهم آياتك : يقرأ عليهم ، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ، ويعلمهم الكتاب القرآن ، { والحكمة } : الشريعة وبيان الأحكام.
وقال قتادة : الحكمة : السنة ، وبيان النبي : الشرائع.
وقال مالك وأبو رزين : الحكمة ، الفقه في الدين ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى.
وقال مجاهد : الحكمة : فهم القرآن.
وقال مقاتل : العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما.
وقيل : الحكم والقضاء.
وقيل : ما لا يعلم إلا من جهة الرسول.
وقال ابن زيد : كل كلمة وعظتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة.
وقال بعضهم : الحكمة هنا الكتاب ، وكررها توكيداً.
وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب : كل صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً فهو حكمة.
وقال يحيى بن معاذ : الحكمة جند من جنود الله ، يرسلها الله إلى قلوب العارفين حتى يروّح عنها وهج الدنيا.
وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها.
وقيل : كل قول وجب فعله.
وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة ، ويجمع هذه الأقوال قولان : أحدهما ، القرآن والآخر السنة ، لأنها المبينة لما أنبهم من الكتاب ، والمظهرة لوجوه الأحكام.
ويكون المعنى ، والله أعلم ، في قوله : { يتلو عليهم آياتك } ، أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته ، كما قال صلى الله عليه وسلم لأُبي : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن » ، وذلك لأن يتعلم أبي منه صلى الله عليه وسلم كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة.
وفي قوله : { ويعلمهم الكتاب } ، أي يبين لهم وجوه أحكامه : حلاله وحرامه ، ومفروضه ، ومسنونه ، ومواعظه ، وأمثاله ، وترغيبه ، وترهيبه ، والحشر ، والنشر ، والعقاب ، والثواب ، والجنة والنار.
وفي قوله : والحكمة ، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل ، وتوضح ما أنبهم من المشكل ، وتفصح عن مقادير ، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه ، ويثبت أحكاماً لم يتضمنها الكتاب.
{ ويزكيهم } باطناً من أرجاس الشرك وأنجاس الشك ، وظاهراً بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الإنعام.
قال ابن عباس : التزكية : الطاعة والإخلاص.
وقال ابن جريج : يطهرهم من الشرك.
وقيل : يأخذ منهم الزكاة التي تكون سبباً لطهرتهم.
وقيل : يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء.
وقيل : يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول ، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية.
{ إنك أنت العزيز الحكيم } ، العزيز : الغالب ، أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ، قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ، قاله ابن عباس ، أو المنتقم ، قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه فعزنا بثالث ، أو المعز ومنه : { وتعز من تشاء } الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله :
{ إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } وأنت : يجوز فيها ما جاز في { أنت السميع العليم } قبل من الأعاريب.
وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوّة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وتقدّمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات ، والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها.
وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن.
وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته.
ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزاً ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام.
وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، وقيل الحكمة المتشابهات.
وقيل : الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ، وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو آيات ، وهو كتاب وهو حكمة.
انتهى ما لخص من المنتخب.
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، من آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ] ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فأنزل الله هذه الآية.
ومن : اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء ، وهو استفهام معناه : الإنكار ، ولذلك دخلت إلا بعده.
والمعنى : لا أحد يرغب ، فمعناه النفي العام.
ومن سفه : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في يرغب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء ، والرفع أجود على البدل ، لأنه استثناء من غير موجب ، ومن في من سفه موصولة ، وقيل : نكرة موصوفة ، وانتصاب نفسه على أنه تمييز ، على قول بعض الكوفيين ، وهو الفراء ، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم ، أو مفعول به ، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف ، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى ، أي جهل ، وهو قول الزجاج وابن جني ، أو أهلك ، وهو قول أبي عبيدة ، أو على إسقاط حرف الجر ، وهو قول بعض البصريين ، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه ، حكاه مكي.
أما التمييز فلا يجيزه البصريون ، لأنه معرفة ، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة ، وأما كونه مشبهاً بالمفعول ، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة ، ولا يجوز في الفعل ، تقول : زيد حسن الوجه ، ولا يجوز حسن الوجه ، ولا يحسن الوجه.
وأما إسقاط حرف الجر ، وأصله من سفه في نفسه ، فلا ينقاس ، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف.
وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني : أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد ، وأما التضمين فلا ينقاس ، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به ، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه ، فهو الذي نختاره ، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى ، كسفه بفتح الفاء وشدها.
وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة.
قال الزمخشري : سفه نفسه : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه ، الخفة ، ومنه زمام سفيه.
وقيل : انتصاب النفس على التمييز نحو : غبن رأيه ، وألم رأسه ، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :
ولا بفزارة الشعر الرقابا . . .
أجب الظهر ليس له سنام
وقيل : معناه سفه في نفسه فحذف لجار ، كقولهم : زيد ظني مقيم ، أي في ظني ، والوجه هو الأول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : « الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس » انتهى كلامه.
فأجاز نصبه على المفعول به ، إلا أن قوله : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز ، نحو قوله :
ولا بفزارة الشعر الرقابا . . .
أجب الظهر ليس له سنام
ليس بصحيح ، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة.
والشعر جميع أشعر ، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة ، وأجب أفعل اسم وليس بفعل.
وقبل النصف الأول قوله :
فما قومي بثعلبة بن سعدى . . .
وقبل الآخر قوله :
ونأخذ بعده بذناب عيش . . .
فليس نحوه ، لأن نفسه انتصب بعد فعل ، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم ، وهما من باب الصفة المشبهة.
ومعنى الآية : أنه لا يزهد ويرفع نفسه عن طريقة إبراهيم ، وهو النبي المجمع على محبته من سائر الطوائف ، إلا من أذل نفسه وامتهنها.
وقال ابن عباس : معنى سفه نفسه : خسر نفسه.
وقال أبو روق : عجز رأيه عن نفسه.
وقال يمان : حمق رأيه.
وقال الكلبي : قتل نفسه.
وقال ابن بحر : جهلها ولم يعرف ما فيها من الدلائل.
وحكي عن بعضهم أن معناه : سفه حق نفسه ، فأما سفه بضم الفاء فمعناه : صار سفيهاً ، مثل فقه إذا صار فقيهاً ، قال :
فلا علم إذا جهل العليم . . .
ولا رشد إذا سفه الحليم
{ ولقد اصطفيناه في الدنيا } : أي جعلناه صافياً من الأدناس ، واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى ووصى بها ، وبناء البيت ، والإمامة ، واتخاذ مقامه مصلى ، وتطهير البيت ، والنجاة من نار نمروذ ، والنظر في النجوم ، وأذانه بالحج ، وإراءته مناسكه ، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه ، من خصائصه ووجوه اصطفائه.
{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } : ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين ، بأن كان في الدنيا من صفوته ، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير ، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد أن لا يعدل عن ملته.
وهاتان الجملتان مؤكدتان ، أما الأولى فباللام ، وأما الثانية فبأن وباللام.
ولما كان إخباراً عن حالة مغيبة في الآخرة ، احتاجت إلى مزيد تأكيد ، بخلاف حال الدنيا ، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه ونقلوه جيلاً بعد جيل.
وأما كونه في الآخرة من الصالحين ، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى ، فأخبر الله به مبالغاً في التوكيد ، وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي وأنه لصالح في الآخرة.
وقال بعضهم : هو على إضمار ، أعني : فهو للتبيين ، كلك بعد سقيا ، وإنما لم يتعلق بالصالحين ، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام ، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك.
وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك ، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً ، قال : لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما.
وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة ، بل معرفة ، كهي في الرجل ، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك.
وقيل : في الآخرة ، أي في عمل الآخرة ، فيكون على حذف مضاف ، وقيل : الآخرة هنا البرزخ ، والصلاح ما يتبعه من الثناء الحسن في الدنيا.
وقيل : الآخرة يوم القيامة ، وهو الأظهر.
قال ابن عباس : لمن الصالحين ، أي الأنبياء.
وقيل : من الذين يستوجبون صالح الجزاء ، قال معناه الحسن.
وقيل : الواردين موارد قدسه ، والحالين مواطن أنسه.
وقال الحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير ، ولقد اصطفيناه في الدنيا ، وفي الآخرة ، وأنه لمن الصالحين.
وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه.
{ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } : هذا من الالتفات ، إذ لو جرى على الكلام السابق ، لكان : إذ قلنا له أسلم ، وعكسه في الخروج من الغائب إلى الخطاب قوله :
باتت تشكي إليّ النفس مجهشة . . .
وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
والعامل في إذ : قال أسلمت.
وقيل : ولقد اصطفيناه ، أي اخترناه في ذلك الوقت ، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله : في الدنيا ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله : ولقد اصطفيناه ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه ، وقيل : محذوف تقديره أذكر.
وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة ، يبقى قوله : قال أسلمت ، لا ينتظم مع ما قبله ، إلا إن قدر ، يقال : فحذف حرف العطف ، أو جعل جواباً لكلام مقدّر ، أي ما كان جوابه؟ قال : أسلمت.
وهل القول هنا على بابه ، فيكون ذلك بوحي من الله وطلب؟ أم هذا كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام؟ فجعلت الدلالة قوماً على سبيل المجاز ، وإذا حمل على القول حقيقة ، فاختلفوا متى قيل له ذلك.
فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوّة ، وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية ، وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه ، قال تعالى له أسلم.
وقيل : كان بعد النبوّة ، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة ، إذ هو متحل به وقت الأمر ، ويكون الإسلام هنا على بابه ، والمعنى : على شريعة الإسلام.
وقيل : الإسلام هنا غير المعروف ، وأول على وجوه ، فقال عطاء : معناه سلم نفسك.
وقال الكلبي وابن كيسان : أخلص دينك.
وقيل : اخشع واخضع لله.
وقيل : اعمل بالجوارح ، لأن الإيمان هو صفة القلب ، والإسلام هو صفة الجوارح ، فلما كان مؤمناً بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح ، وفي قوله : أسلم ، تقدير محذوف ، أي أسلم لربك.
وأجاب بأنه أسلم الرب العالمين ، فتضمن أنه أسلم لربه ، لأنه فرد من أفراد العموم ، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص ، لذلك عدل عن أن يقول : أسلمت لربي ، ومن كان رباً للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ابتداء قصص إبراهيم عليه السلام.
فذكر أولاً ابتلاءه بالكلمات ، وإتمامه إياهن ، واستحقاقه الإمامة بذلك على الناس كلهم في زمانه ، وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم ، وإيثاراً أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة ، وإجابة الله له بأن عهده لا يناله ظالم ، وفي طيه أن من كان عادلاً قد ينال ذلك.
وكان في ابتداء قصص إبراهيم بنيه وذريته من بني إسرائيل وغيرهم ، على فضيلته وخصوصيته عند الله تعالى ، ليكون ذلك حاملاً لهم على اتباعه ، فإنه إذا كان للشخص والد متصف بصفات الكمال ، أوشك ولده أن يتبعه وأن يسلك منهجه ، لما في الطبع من اتباع الآباء والاقتفاء لآثارهم ، ألا ترى إلى قوله : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } ؟.
ثم ذكر تعالى شرف البيت الحرام ، وجعله مقصداً للناس يؤمون إليه ، وملجأ يأمنون فيه ، وأمره تعالى للناس بالاتخاذ من مقام إبراهيم مصلى ، فحصل لهم الاقتداء بأن جعل مقامه مكان عبادة ومحل إجابة.
ثم ذكر عهده لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت ، حيث صار محل عبادة لله تعالى ، ومكان عبادة الله تعالى يجب أن يكون مطهراً من الأرجاس والأنجاس.
وأشار بتطهير المحل إلى تطهير الحال فيه ظاهراً وباطناً ، وإلى تطهير ما يقع فيه من العبادة ، بالإخلاص لله تعالى ، فلا ينجس بشيء من الرياء ، بل يطهر بإخلاصها لله تعالى.
ثم أشار إلى من طهر البيت لأجله ، وهم الطائفون والعاكفون والمصلون ، فنبه على هذه العبادات التي تكون في البيت ، ودل على أن البيت لا يصلح بشيء من أمور الدنيا ، كالبيع والشراء وعمل الصنائع والحرف والخصومات ، وأنه إنما هيىء لوقوع العبادات فيه.
ثم ذكر دعاء إبراهيم ربه بجعل هذا البيت محل أمن ، ودعاءه لهم بالخصب والرزق ، وتخصيص ذلك الدعاء بالمؤمنين ، إذ الأمن والخصب هما سببان لعمارة هذا البيت وقصد الناس له.
ثم أخبر الله تعالى أن من كفر فتمتيعه قليل ومآله إلى النار ، ليكون التخويف حاملاً على التقيد بالإيمان والانقياد للطاعات ، وليدل على أن الرزق في الدنيا ليس مختصاً بمن آمن ، بل رزق الله يشترك فيه البر والفاجر.
ثم ذكر رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت ، وما دعوا به إذ ذاك من طلب تقبل ما يفعلانه ، والثبات على الإسلام ، والدعاء بأن يكون من ذريتهما مسلمون ، وإراءة المناسك والتوبة ، وبعثة رسول من أمته يهديهم إلى طريق الإسلام بما يوحى إليه من عند الله ، ويطهرهم من الجرائم والآثام.
فدل ذلك على مشروعية الأدعية الصالحة عند الالتباس بالعبادات ، وأفعال الطاعات ، وأن ذلك الوقت مظنة إجابة ، وفي ذلك جواز الدعاء للملتبس بالطاعة ، ولمن أحب أن يدعو له.
وختم كل دعاء بما يناسبه مما قبله.
ولم يكن في هذا الدعاء شيء متعلق بأحوال الدنيا ، إنما كان كله دعاء بما يتعلق بأمور الدين ، فدل ذلك على عدم اكتراث إبراهيم وابنه إسماعيل بأحوال الدنيا حالة بناء هذا البيت ورفع قواعده.
وقد تقدّم دعاؤه بالأمن والخصب ، لكن كان ذلك بعد أن كمل البيت وفرغ من التعبد ببنائه ورفع قواعده.
ثم ذكر شرف إبراهيم وطواعيته لربه ، واختصاصه في زمانه بالإمامة ، وصيرورته مقتدى به.
ذكر أنه لا يرغب عن طريقته إلا خاسر الصفقة ، لأنه المصطفى في الدنيا ، الصالح في الآخرة.
وختم ذلك بانقياده لأمر الله تعالى ، فأول قصته إتمامه ما كلفه الله به ، وآخرها التسليم لله ، والانقياد إليه صلى الله على نبينا وعليه وسلم.
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
الوصية : العهد ، وصى بنيه : أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترناً بوعظ.
ووصى وأوصى لغتان ، إلا أنهم قالوا : إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير.
يعقوب : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، ويعقوب عربي ، وهو ذكر القبج ، وهو مصروف ، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً.
ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان ، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه ، أو سمي بذلك لكثرة عقبه ، فقوله فاسد ، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي ، فكان يكون مصروفاً.
الحضور : الشهود ، تقول منه : حضر بفتح العين ، وفي المضارع : يحضر بضمهما ، ويقال : حضر بكسر العين ، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال : يحضر ، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت : حضر يحضر بالضم ، وهي ألفاظ شذت فيها العرب ، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها ، قالوا : نعم ينعم ، وفضل يفضل ، وحضر يحضر ، ومت تموت ، ودمت تدوم ، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين ، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل ، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها.
قالوا : ضللت بكسر العين ، تضل بالكسر ، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين.
إسحاق : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، وإسحاق : مصدر أسحق ، ولو سميت به لكان مصروفاً ، وقالوا في الجمع : أساحقة وأساحيق ، وفي جمع يعقوب : يعاقبه ويعاقيب ، وفي جمع إسرائيل : أسارلة.
وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل : براهمة وسماعلة ، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق.
وقال أبو العباس : هذا الجمع خطأ ، لأن الهمزة ليست زائدة ، والجمع : أباره وأسامع ، ويجوز : أباريه وأساميع ، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال : إبراهيمون ، وإسماعيلون ، وإسحاقون ، ويعقوبون.
وحكى الكوفيون أيضاً : براهم ، وسماعل ، وأساحق ، ويعاقب ، بغير ياء ولا هاء.
وقال الخليل وسيبويه : براهيم ، وسماعيل.
وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة ، لأن هذا ليس موضع زيادتها.
وأجاز ثعلب : براه ، كما يقال في التصغير : بريه.
وقال أبو جعفر : الصفار : أما إسرائيل ، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله ، وإنما يقال : أساريل.
وحكى الكوفيون : أسارلة وأسارل. انتهى.
وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء ، واستوفي النقل هنا.
الحنف : لغة الميل ، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى ، قال الشاعر :
والله لولا حنف في رجله . . .
ما كان في صبيانكم من مثله
وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة ، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل ، كما سمي اللديغ سليماً.
وقال القفال : الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات.
وقال عمر :
حمدت الله حين هدى فؤادي . . .
إلى الإسلام والدين الحنيفي
وقال الزجاج : الحنيف : المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه ، وأنشد :
ولكنا خلقنا إذ خلقنا . . .
حنيفاً ديننا عن كل دين
الأسباط : جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وهم ولد يعقوب اثنا عشر ، لكل واحد منهم أمة من الناس ، وسيأتي ذكر أسمائهم.
سموا بذلك من السبط : وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون.
ويقال : سبطييييي عليه العطاء إذا تابعه.
ويقال : هو مقلوب بسط ، ومنه السباطة والساباط.
ويقال للحسن والحسين : سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم ، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت ، فيقال : سبط أبي عمر بن عبد البر ، وسبط حسين بن منده ، وسبط السلفي في أولاد بناتهم.
وقيل : أصل الأسب44444444اط من السبط ، وهو الشجر الملتف ، والسبط : الجماعة الراجعون إلى أصل واحد.
الشقاق : مصدر شاقه ، كما تقول : ضارب ضراباً ، وخالف خلافاً ، ومعناه : المعاداة والمخالفة ، وأصله من الشق ، أي صار هذا في شق ، وهذا في شق.
والشق : الجانب ، كما قال الشاعر :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له . . .
بشق وشق عندنا لم يحوّل
وقيل : هو من المشقة ، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه.
الكفاية : الأحساب.
كفاني كذا : أي أحسبني ، قال الشاعر :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة . . .
كفاني ولم أطلب قليل من المال
أي أغناني قليل من المال.
الصبغة : فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ.
والصبغ : المصبوغ به ، والصبغ : المصدر ، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان ، وفعله على فعل بفتح العين ، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها ، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق.
وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن يوسف بن علي الفهري ، عرف بالليلى ، وهو شارح الفصيح ، أنه ذكر فيه صنم الباء في المضارع والفتح والكسر.
{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } : قرأ نافع وابن عامر : وأوصى ، وقرأ الباقون : ووصى.
قال ثعلب : أملى عليّ خلف بن هشام البزار ، قال : اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً.
كتب أهل المدينة : وأوصى ، وسارعوا ، يقول ، الذين آمنوا من يرتدد ، الذين اتخذوا ، مسجداً خيراً منهما ، فتوكل ، وأن يظهر ، بما كسبت أيديكم ، ما تشتهيه الأنفس ، فإن الله الغني ، ولا يخاف عقباها.
وكتب أهل العراق : ووصى ، سارعوا ، ويقول ، من يرتد ، والذين اتخذوا ، خيراً منها ، وتوكل ، أن يظهر ، فيما كسبت أيديكم ، ما تشتهي ، فإن الله هو ، فلا يخاف.
وبها متعلق بأوصى ، والضمير عائد على الملة في قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } ، وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره ، أو على الكلمة التي هي قوله : { أسلمت لرب العالمين } ونظيره ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، حيث تقدم { أنني براء مما تعبدون }.
وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال : هو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به ، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به ، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم.
وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة ، إذ الكلمة بعض الملة.
ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة.
وقيل : يعود على الكلمة المتأخرة ، وهو قوله : { فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون }.
وقيل : على كلمة الإخلاص وهي : لا إله إلا الله ، وإن لم يجر لها ذكر ، فهي مشار إليها من حيث المعنى ، إذ هي أعظم عمد الإسلام.
وقيل : يعود على الوصية الدال عليها ووصى.
وقيل : يعود على الطاعة.
بنيه : بنو إبراهيم ، إسماعيل وأمه هاجر القبطية ، وإسحاق وأمه سارة ، ومدين : ومديان ، ونقشان ، وزمزان ، ونشق ، ونقش سورج ، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره ، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية.
هؤلاء الثمانية ولده لصلبه ، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير.
قرأ الجمهور : ويعقوب بالرفع ، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي ، والضرير ، وعمرو بن فائد الأسواري : بالنصب.
فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معطوفاً على إبراهيم ، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه ، أي ووصى يعقوب بنيه.
ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : قال يا بني إن الله اصطفى ، والأول أظهر.
وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه ، أي ووصى بها نافلته يعقوب ، وهو ابن ابنه إسحاق.
وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط.
يا بني : من قرأ ويعقوب بالنصب ، كان يا بني من مقولات إبراهيم ، ومن رفع على العطف فكذلك ، أو على الابتداء ، فمن كلام يعقوب.
وإذا جعلناه من كلام إبراهيم ، فعند البصريين هو على إضمار القول ، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوصية في معنى القول ، فكأنه قال : قال إبراهيم لبنيه يا بني ، ونحوه قول الراجز :
رجلان من ضبة أخبرانا . . .
أنا رأينا رجلاً عريانا
بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين ، وفي النداء لمن بحضرة المنادي.
وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز ، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله ، ولذلك صدر كلامه بقوله : { إن الله اصطفى لكم الدين } ، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل.
وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك : أن يا بني ، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها.
ومن لم يثبت معنى التفسير ، لأن جعلها هنا زائدة ، وهم الكوفيون.
{ إن الله اصطفى لكم الدين } ، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان.
والألف واللام في الدين للعهد ، لأنهم كانوا قد عرفوه ، وهو دين الإسلام.
{ فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون } : هذا استثناء من الأحوال ، أي إلا على هذه الحالة ، والمعنى : الثبوت على الإسلام ، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام.
إلا أن ذلك نهى عن الموت ، ونظير ذلك في الأمر : مت وأنت شهيد ، لا يكون أمراً بالموت ، بل أمر بالشهادة ، فكأنه قال : لتستشهد في سبيل الله ، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة.
وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً ، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه.
فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها ، كان متذكراً للموت دائماً ، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً ،.
وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام ، ونظير ذلك قولهم : لا أرينك هنا ، لا ينهي نفسه عن الرؤية ، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان ، فيكون يراه ، فكأنه قال : اذهب عن هذا المكان.
ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان ، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة ، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف ، منها : الوصية ، ولا تكون إلا عند خوف الموت.
ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين ، حتى وصى به من كان ملتبساً به ، إذ كان بنوه على دين الإسلام.
ومنها اختصاصه ببنيه ، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم.
ومنها أنه عمم بنيه ، ولم يخص أحداً منهم ، كما جاء في حديث النعمان بن بشير ، حين نحله أبوه شيئاً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ » ورد نحله إياه وقال : لا أشهد على جور.
ومنها إطلاق الوصية ، ولم يقيدها بزمان ولا مكان.
ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين.
ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن الله تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام ، فلا تخرجوا عما اختاره الله لكم.
قال المؤرخون : نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع ، وقيل : ابن سنتين.
وقيل : ابن أربع عشرة سنة ، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة ، ومات وله مائة وثلاثون سنة.
وكان لإسماعيل ، لما مات أبوه إبراهيم ، تسع وثمانون سنة.
وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات بالأرض المقدّسة ، ودفن عند أبيه إبراهيم.
وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود تنقص من ذلك نحواً من أربعمائة سنة.
{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } : نزلت في اليهود.
قالوا : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ قال الكلبي : لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيرين ، فجمع بنيه وخاف عليهم ذلك ، فقال لهم : ما تعبدون من بعدي؟ فأنزل الله هذه الآية إعلاماً لنبيه بما وصى به يعقوب ، وتكذيباً لليهود.
وأم هنا منقطعة ، تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام الدالة على الإنكار ، والتقدير : بل أكنتم شهداء؟ فمعنى الإضراب : الانتقال من شيء إلى شيء ، لا أن ذلك إبطال لما قبله.
ومعنى الاستفهام هنا : التقريع والتوبيخ ، وهو في معنى النفي ، أي ما كنتم شهداء ، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون؟ ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم.
وقيل : أم هنا بمعنى : بل ، والمعنى بل كنتم ، أي كان أسلافكم ، أو تنزلهم منزلة أسلافهم ، إذ كان أسلافهم قد نقلوا ذلك إليهم ، وفي إثبات ذلك إنكار عليهم ما نسبوه إلى يعقوب من اليهودية.
والخطاب في كنتم لمن كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم.
وقال ابن عطية : قال لهم على جهة التقرير والتوبيخ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى ، فتدّعون عن علم ، أي لم تشهدوا ، بل أنتم تفترون.
وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية.
انتهى ما ذكره.
ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام.
وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن.
وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه.
ومنه : { أم يقولون افتراه }.
انتهى ، وهذا أيضاً قول غريب.
وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال : ( المشهور ) أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة.
( الثاني ) : أنها للإضراب فقط ، بمعنى بل.
( الثالث ) : بمعنى همزة الاستفهام فقط.
وقال الزمخشري : الخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.
وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، ولو سمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية.
فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : { أم كنتم شهداء } ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة ، على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له ، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه.
وملخصه : أنه جعل أم متصلة ، وأنه حذف قبلها ما يعادلها ، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة ، ولا يحفظ ذلك ، لا في شعر ولا غيره ، فلا يجوز : أم زيد؟ وأنت تريد : أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد : أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف.
إن الكلام في معنى : أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة.
وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء ، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك : بلى وعمراً ، جواباً لمن.
قال : ألم تضرب زيداً؟ ونحو قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } أي فضرب فانفجرت.
وندر حذف المعطوف عليه مع أو ، نحو قوله :
فهل لك أو من والد لك قبلنا . . .
أراد : فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله :
فيا عجباً حتى كليب تسبني . . .
أي : يسبني الناس حتى كليب ، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف ، قال :
دعاني إليها القلب إني لأمرها . . .
سميع فما أدرى أرشد طلابها
يريد : أم غير رشد ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه.
فالمعنى : أقام زيد أم لم يقم ، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا ، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله : أرشد طلابها ، أي أم غير رشد.
ويجوز حذف الثواني المقابلات إذ دل عليها المعنى.
ألا ترى إلى قوله : { تقيكم الحر } كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء ، وذلك على جهة الظرف ، لا على جهة المفعول ، كأنه قيل : حاضري كلامه في وقت حضور الموت ، وكنى بالموت عن مقدّماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئاً ، ومنه : { ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت } أي ويأتيه دواعيه وأسبابه ، وقال الشاعر :
وقل لهم بادروا العذر والتمسوا . . .
قولاً يبرئكم إني أنا الموت
وفي قوله : حضر ، كناية غريبة ، إنه غائب لا بد أن يقدم ، ولذلك يقال في الدعاء : واجعل الموت خير غائب ننتظره.
وقرىء : حضر بكسر الضاد ، وقد ذكرنا أن ذلك لغة ، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ ، وقدم المفعول هنا على الفاعل للاعتناء.
{ إذ قال لنبيه } ، إذ : بدل من إذ في قوله : إذ حضر ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل.
وزعم القفال أن إذا وقت للحضور ، فالعامل فيه حضر ، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين ، وإن اختلف عاملهما.
{ ما تعبدون من بعدي } ما : استفهام عما لا يعقل ، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده.
فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء ، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل ، لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم والأوثان المنحوتة ، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل ، فقيل : هو سؤال عن صفة المعبود ، لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول : ما زيد ، أفقيه أم شاعر؟ وقيل : سأل بما لأن المعبودات المتعارفة في ذلك الوقت كانت جمادات ، كالأوثان والنار والشمس والحجارة ، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل.
وفهم عنه بنوه فأجابوه : بأنا لا نعبد شيئاً من هؤلاء.
وقيل : استفهم بما عن المعبود تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرّق لهم الاهتداء ، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه.
وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون ، أي العبادة المشروعة؟ وقال القفال : دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى ، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام ، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم.
وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على أولادهم كانت في باب الدين ، وهمتهم مصروفة إليهم.
من بعدي : يريد من بعد موتي ، وحكى أن يعقوب عليه السلام حين خير ، كما يخير الأنبياء ، اختار الموت وقال : أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا القول.
{ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } : هذه قراءة الجمهور.
وقرأ أبي : وإله إبراهيم ، بإسقاط آبائك.
وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو رجاء : وإله أبيك.
فأما على قراءة الجمهور ، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك ، أو عطف بيان.
وإذا كان بدلاً ، فهو من البدل التفصيلي ، ولو قرىء فيه بالقطع ، لكان ذلك جائزاً.
وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار ، أعني : وفيه دلالة على أن العم يطلق عليه أب.
وقد جاء في العباس : هذا بقية آبائي ، وردّوا عليّ أبي ، وأنا ابن الذبيحين ، على القول الشهير : أن الذبيح هو إسحاق ، وفيه دلالة على أن الجدّ يسمى أباً لقوله : { وإله آبائك إبراهيم } ، وإبراهيم جدّ ليعقوب.
وقد استدل ابن عباس بذلك وبقوله : { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } على توريث الجدّ دون الإخوة ، وإنزاله منزلة الأب في الميراث ، عند فقد الأب ، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث ، إذا لم يكن أب ، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة ، رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو قول أبي حنيفة.
وقال زيد بن ثابت : هو بمنزلة الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث ، فيعطى الثلث ، ولم ينقص منه شيئاً ، وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي.
وقال علي : هو بمنزلة أحد الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس ، فيعطى السدس ، ولم ينقص منه شيئاً ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه.
وأما قراءة أبيّ فظاهرة ، وأما على قراءة ابن عباس ، ومن ذكر معه ، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه ، أو عطف بيان.
وقيل : هو جمع سقطت منه النون للإضافة ، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً ، وأبون رفعاً ، حكى ذلك سيبويه ، وقال الشاعر :
فلما تبين أصواتنا . . .
بكين وفدّيننا بالأبينا
وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير.
وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به ، إذ كان يجوز أن يقال : قالوا إلهك ، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال ، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال.
وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظاً.
وفي قوله : وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضاً من حيث اللفظ ، وإنما كرر لفظ وإله ، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره ، إلا في الشعر ، أو على مذهب من يرى ذلك ، وهو عنده قليل.
فلو كان المعطوف عليه ظاهراً ، لكان حذف الجار ، إذا كان اسماً ، أولى من إثباته ، لما يوهم إثباته من المغايرة.
فإن حذفه يدل على الاتحاد.
وبدأ أولاً بإضافة الإله إلى يعقوب ، لأنه هو السائل ، وقدم إبراهيم ، لأنه الأصل ، وقدم إسماعيل على إسحاق ، لأنه أسنّ أو أفضل ، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته ، وهو في عمود نسبه.
واقتصر على هؤلاء ، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم ، ولم يعم ، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله.
{ إلهاً واحداً } : يجوز أن يكون بدلاً ، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة ، ويجوز أن يكون حالاً ، ويكون حالاً موطئة نحو : رأيتك رجلاً صالحاً.
فالمقصود إنما هو الوصف ، وجيء باسم الذات توطئة للوصف.
وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص ، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً.
وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً.
وفائدة هذه الحال ، أو البدل ، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد ، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف ، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام.
{ ونحن له مسلمون } : أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد ، لأن العبادة متجددة دائماً.
ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت ، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائماً ، وعنه تكون العبادة ، فيكون قوله : { ونحن له مسلمون } أحد جملتي الجواب.
فأجابوه بشيئين : أحدهما : الذي سأل عنه ، والثاني : مؤكد لما أجابوا به ، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال.
وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد ، والأول أبلغ ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله : { نعبد } ، فيكون أحد شقي الجواب.
وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون.
والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة ، نحو قوله :
ماذا ولا عتب في المقدور رمت . . .
إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل
وقال :
ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً . . .
والحق يدفع ترهات الباطل
أو بين جزأي إسناد ، نحو قوله :
وقد أدركتني والحوادث جمة . . .
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
أو بين فعل شرط وجزائه ، أو بين قسم وجوابه ، أو بين منعوت ونعته ، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا.
وهذه الجملة التي هي قوله : { ونحن له مسلمون } ليست من هذا الباب ، لأن قبلها كلاماً مستقلاً ، وبعدها كلام مستقل ، وهو قوله : { تلك أمّة قد خلت }.
لا يقال : إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة ، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب ، حكاه الله عنهم ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر عنهم بما أخبر تعالى.
والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين ، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه.
فتبين بهذا كله أن قوله : { ونحن له مسلمون } ليس جملة اعتراضية.
وقال ابن عطية : { ونحن له مسلمون } ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ونحن نكون.
ويحتمل أن يكون في موضع الحال.
والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح.
انتهى كلامه.
ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة ، وهي قوله : كذلك كنا ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار ، لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك ، كما ذكرناه وقررناه قبل.
ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ، مع صحة المعنى ، كان أولى من حمله الإضمار.
وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة ، وقالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره هو عليهم ، فدل على أن التقليد كاف ، واستدل بها التعليمية ، قالوا : لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، قالوا : لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده ، وهذا يدل على أن طريقة المعرفة التعلم.
وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه ، لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله.
والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشىء عن تقليد ، ولا تعليم ، ولا أنه أيضاً ناشىء عن استدلال بالعقل ، فبطل تمسكهم بالآية.
وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي ، لأنها لم تجيء في معرض ذلك ، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته ، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه ، وهو الله تعالى ، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته ، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب ، فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على طريقتك.
وقد يقال : إن في قوله : { نعبد إلهك وإله آبائك } إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع ، لأنه قد تقدّم في أول السورة :
{ يا أيّها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } فمرادهم هنا بقولهم : { نعبد إلهك وإله آبائك } الإله الذي دل عليه وجود آبائك ، وهذا إشارة إلى الاستدلال.
{ تلك أمّة قد خلت } ، تلك : إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما.
ومعنى خلت : ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء ، وهو الأرض الذي لا أنيس به.
والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية.
والجملة من قوله : قد خلت ، صفة لأمّة.
{ لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } : أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت ، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ ، فلا ينفع أحداً كسب غيره.
وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد ، أي لها ما كسبته.
وجوّزوا أن تكون ما مصدرية ، أي لها كسبها ، وكذلك ما في قوله : { ولكم ما كسبتم }.
ويجوز أن تكون الجملة من قوله : { لها ما كسبت } استئنافاً ، ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير في خلت ، أي انقضت مستقراً ثابتاً ، لها ما كسبت.
والأظهر الأول ، لعطف قوله : { ولكم ما كسبتم } على قوله : { لها ما كسبت }.
ولا يصح أن يكون { ولكم ما كسبتم } عطفاً على جملة الحال قبلها ، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها.
وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال ، يوجب اتحاد الزمان.
افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا أن أحداً لا ينفع أحداً ، متقدّماً كان أو متأخراً.
وروي : يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم! يا فاطمة ، لا أغني عنك من الله شيئاً! قال ابن عطية : وفي هذا الآية ردّ على الجبرية القائلين : لا اكتساب للعبد. انتهى.
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، وهي من المسائل المعضلة ، ومذاهب أهل الإسلام فيها أربعة.
أحدها : قول الجبرية ، وهو أن العبد مجبور على فعله ، وأنه لا اختيار له في ذلك ، بل هو ملجأ إليه ، وأن نسبة الفعل إليه كنسبة حركة الغصن إليه ، إذا حركه محرك.
والثاني : قول القدرية ، وهو أنهم ليسوا مجبورين على الفعل ، بل لهم قدرة على إيجاد الفعل.
والثالث : قول المعتزلة ، أن العبد له قدرة يخلقها الله له قبل الفعل ، وهو متمكن من إيقاعه وعدم إيقاعه.
والرابع : مذهب أهل السنة والجماعة : أن الله يخلق للعبد تمكيناً وقدرة مع الفعل يفعل بها الخير والشر ، لا على سبيل الاضطرار والإلجاء ، وهذا التمكين هو مناط التكليف الذي يترتب عليه العقاب والثواب.
ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ، اختلفوا في تفسيره على ثلاثة تفاسير : أحدها : قول أبي الحسن : أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير في المقدور ، بل القدرة والمقدور حصلاً بخلق الله ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله ، وهو متعلق القدرة الحادثة ، هو الكسب.
والثاني : قول الباقلاني : أن ذات الفعل لم تحصل له صفة ، كونه طاعة ومعصية ، بل هذه الصفة حصلت له بالقدرة الحادثة.
والثالث : قول أبي إسحاق الإسفرائني : أن القدرتين ، القديمة والحديثة ، إذا تعلقتا بمقدور وقع بهما ، فكان فعل العبد يوقع بإعانة ، فهذا هو الكسب.
{ ولا تسألون عما كانوا يعملون } : جملة توكيدية لما قبلها ، لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير ، وإذا كان كذلك ، فلا يسأل أحد عن عمل أحد.
فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم ، فكذلك لا تسألون ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها.
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى } كل شاة برجلها تناط.
قالوا : وفي هذه الآية ، وما قبلها ، دليل على أن للإنسان أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله ، إفحاماً له ، وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه ، لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج على نبوّته بأمثال هذه الكلمات ، بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة.
لكنه لما أقام الحجة بها وأزاح العلة ، وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم.
فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه ، فقال : إن كان الدين بالاتباع ، فالمتفق عليه أولى.
وفي قوله : { لها ما كسبت } إلى آخره ، دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم.
وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.
{ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } : الضمير عائد في قالوا على رؤساء اليهود الذين كانوا بالمدينة ، وعلى نصارى نجران ، وفيهم نزلت.
كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب ، وأبيّ بن ياس بن أخطب ، والسيد ، والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها ، فأخبر الله عنهم وردّ عليهم.
وأو هنا للتفصيل ، كأو في قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } والمعنى : وقالت اليهود كونوا هوداً ، وقالت النصارى : كونوا نصارى ، فالمجموع قالوا للمجموع ، لا أن كل فرد فرد أمر باتباع أي الملتين.
وقد تقدّم إيضاح ذلك وإشباع الكلام فيه في قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة }.
{ قل بل ملة إبراهيم } : قرأ الجمهور : بنصب ملة بإضمار فعل.
أما على المفعول ، أي بل نتبع ملة ، لأن معنى قوله : { كونوا هوداً أو نصارى } : اتبعوا اليهودية أو النصرانية.
وأما على أنه خبر كان ، أي بل تكون ملة إبراهيم ، أي أهل ملة إبراهيم ، كما قال عدي بن حاتم ، إني من دين ، أي من أهل دين ، قاله الزجاح.
وأما على أنه منصوب على الإعراء ، أي الزموا ملة إبراهيم ، قاله أبو عبيد.
وأما على أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي نقتدي ملة ، أي بملة ، وهو يحتمل أن يكون خطاباً للكفار ، فيكون المضمر اتبعوا ، أو كونوا.
ويحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيقدر بنتبع ، أو تكون ، أو نقتدي على ما تقدم تقديره.
وقرأ ابن هرمز الأعرج ، وابن أبي عبلة : { بل ملة إبراهيم } ، برفع ملة ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي بل الهدى ملة ، أو أمرنا ملته ، أو نحن ملته ، أي أهل ملته ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا.
{ حنيفاً } : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم ، أي في حال حنيفيته ، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم.
قال الزمخشري : كقولك رأيت وجه هند قائمة ، وأنه منصوب بإضمار فعل ، حكاه ابن عطية.
وقال : لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى.
وتقدير الفعل نتبع حنيفاً ، وأنه منصوب على القطع ، حكاه السجاوندي ، وهو تخريج كوفي ، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين.
وقد تقدم لنا الكلام فيه ، واختلاف الفراء والكسائي ، فكان التقدير : بل ملة إبراهيم الحنيف ، فلما نكره ، لم يمكن اتباعه إياه ، فنصبه على القطع.
أما الحال من المضاف إليه ، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة ، فنحن لا نجيزه ، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه ، أو كالجزء ، أو غير ذلك.
وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب منهج المسالك ) من تأليفنا.
وأما النصب على القطع ، فقد ردّ هذا الأصل البصريون.
وأما إضمار الفعل فهو قريب ، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف ، وذكر حنيفاً ولم يؤنث لتأنيث ملة ، لأنه حمل على المعنى ، لأن الملة هي الدين ، فكأنه قيل : نتبع دين إبراهيم حنيفاً.
وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه.
قال : قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم ، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة ، وإن خالفها بالتذكير ، لأن الملة في معنى الدين.
ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز : { ديناً قيماً ملة إبراهيم } فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة ، فالناصب له هو الناصب للملة ، وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً ، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه ، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال.
انتهى كلامه.
وتكون حالاً لازمة ، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية ، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة ، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية.
والحنيف : هو المائل عن الأديان كلها ، قاله ابن عباس؛ أو المائل عما عليه العامّة ، قاله الزجاج ، أو المستقيم ، قاله ابن قتيبة؛ أو الحاج ، قاله ابن عباس أيضاً؛ وابن الحنفية ، أو المتبع ، قاله مجاهد؛ أو المخلص ، قاله السدّي؛ أو المخالف للكل ، قاله ابن بحر؛ أو المسلم ، قاله الضحاك ، قال : فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج ، أو المختتن.
أو الحنف : هو الاختتان ، وإقامة المناسك ، وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، عشرة أقوال متقاربة في المعنى.
وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء ، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق ، مستقيمي الطريقة حنفاء ، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة ، لما سنه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، مما يقتدى به إلى قيام الساعة.
وصارت الحنيفية علماً مميزاً بين المؤمن والكافر.
وسمي بالحنيف : من اتبعه واستقام على هديه ، وسمي المنكث على ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : يهودي ونصراني ومجوسي ، وغير ذلك من ضروب النحل.
{ وما كان من المشركين } : أخبر الله تعالى أنه لم يكن يعبد وثناً ، ولا شمساً ، ولا قمراً ، ولا كوكباً ، ولا شيئاً غير الله تعالى.
وكان في قوله : { بل ملة إبراهيم } دليل على أن ملته مخالفة لملة اليهود والنصارى ، ولذلك أضرب ببل عنهما ، فثبت أنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً.
وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم ، ثم كانت تشرك ، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين.
وقيل : في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم ، وهو على الشرك ، قاله الزمخشري.
فإشراك اليهود بقولهم : عزير ابن الله ، وإشراك النصارى بقولهم : { المسيح ابن الله } ، وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان وغيرها.
{ قولوا آمنا بالله } الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية ، فإن كان حقاً لم تكذبوه وإن كان كذباً لم تصدّقوه » والضمير في قوله : { قولوا } ، عائد على الذين قالوا : { كونوا هوداً أو نصارى }.
أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به.
ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر.
وارتبطت هذه الآية بما قبلها ، لأنه لما ذكر في قوله : { بل ملة إبراهيم } ، جواباً إلزامياً ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد.
هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع ابراهيم ، لأنهم ، أعني الطائفتين المختلفتين ، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم.
والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد.
فلما ذكر هنا جواباً إلزامياً ، ذكر بعده برهاناً في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات.
وقد ظهرت على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجب الإيمان بنبوّته.
فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلاً.
{ وما أنزل إلينا } : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم.
وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.