كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق ، كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء.
وتتناسق الضمائر كلها في هذا ، في قوله : { قل فأتوا بكتاب من عند الله } وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني ، فقد ينطلق على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات ، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر.
وقال الزمخشري : { أو لم يكفروا } ، يعني آباء جنسهم ، ومن مذهبهم مذهبهم ، وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى { بما أوتي موسى }.
وعن الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم؟ قالوا في موسى وهارون : { ساحران تظاهرا } ، أي تعاوناً. انتهى.
ومن قبل : يحتمل أن يتعلق بيكفروا ، وبما أوتي.
وقرأ الجمهور : ساحران.
قال مجاهد : موسى وهارون.
وقال الحسن : موسى وعيسى.
وقال ابن عباس : موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن أيضاً : عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وقرأ عبد الله ، وزيد بن علي ، والكوفيون : سحران.
قال ابن عباس : التوراة والقرآن.
وقيل : التوراة والإنجيل ، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة.
{ تظاهرا } : تعاونا.
قرأ الجمهور : تظاهرا : فعلاً ماضياً على وزن تفاعل.
وقرأ طلحة ، والأعمش : اظاهرا ، بهمزة الوصل وشد الظاء ، وكذا هي في حرف عبد الله ، وأصله تظاهرا ، فأدغم التاء في الظاء ، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة.
وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري ، وأبو حيوة ، وأبو خلاد عن اليزيدي : تظاهرا بالتاء ، وتشديد الظاء.
قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض ، وإنما يشدد في المضارع.
وقال صاحب اللوامح : ولا أعرف وجهه.
وقال صاحب الكامل في القراءات : ولا معنى له. انتهى.
وله تخريج في اللسان ، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون ، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر ، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره : أنتما ساحران تتظاهران؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون ، وروعي ضمير الخطاب.
ولو قرىء : يظاهرا ، بالياء ، حملاً على مراعاة ساحران ، لكان له وجه ، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا.
{ وقالوا إنا بكل كافرون } : أي بكل من الساحرين أو السحرين ، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية ، وهي قوله : { قل فأتوا } : أي أنتم أيها المكذبون ، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق ، ونهت عن الكفر والنقائص ، ووعد الله عليها الثواب الجزيل.
إن كان تكذيبكم لمعنى { فأتوا بكتاب من عند الله } يهدي أكثر من هدي هذه ، أتبعه معكم.
والضمير في منها عائد على ما أنزل على موسى ، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم ، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن ، أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم ، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين.
ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم.
وقرأ زيد بن علي : أتبعه ، برفع العين الاستئناف ، أي أنا أتبعه.
{ فإن لم يستجيبوا لك } ، قال ابن عباس : يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج ، ولم يمكنهم أن يأتوا بكتاب هو أفضل ، والاستجابة تقتضي دعاء ، وهو صلى الله عليه وسلم يدعو دائماً إلى الإيمان ، أي فإن لم يستجيبوا لك بعدما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل ، أو يكون قوله : { فأتوا بكتاب } ، هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاء لهم بأن يأتوا به.
ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله ، فاعلم أنه ليس لهم إلا اتباع هوى مجرد ، لا اتباع دليل.
واستجاب : بمعنى أجاب ، ويعدى للداعي باللام ودونها ، كما قال : { فاستجاب له ربه } { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى } { فإن لم يستجيبوا لكم } وقال الشاعر :
فلم يستجبه عند ذاك مجيب . . .
فعداه بغير لام.
وقال الزمخشري : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب ، فيقال : استجاب الله دعاءه ، واستجاب له ، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه.
وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاء ، على حذف المضاف. انتهى.
{ ومن أضل } : أي لا أحد أضل ، و { بغير هدى } : في موضع الحال ، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى ، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه ، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله ، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى ، فلذلك قيد بهذه الحال.
وقال الزمخشري : يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه.
انتهى ، وهو على طريق الاعتزال.
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
قرأ الجمهور : { وصّلنا } ، مشدد الصاد؛ والحسن : بتخفيفها ، والضمير في لهم لقريش.
وقال رفاعة القرظي : نزلت في عشرة من اليهود ، أنا أحدهم.
قال الجمهور : وصلنا : تابعنا القرآن موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام.
وقال الحسن : وفي ذكر الأمم المهلكة.
وقال مجاهد : جعلناه أوصالاً من حيث كان أنواعاً من القول في معان مختلفة.
وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة.
وقال الأخفش : أتممنا لوصلك الشيء بالشيء ، وأصل التوصل في الحبل ، يوصل بعضه ببعض.
وقال الشاعر :
فقل لبني مروان ما بال ذمتي . . .
بحبل ضعيف لا يزال يوصل
وهذه الأقوال معناها : توصيل المعاني فيه بها إليهم.
وقالت فرقة : التوصيل بالنسبة إلى الألفاظ ، أي وصلنا لهم قولاً معجزاً دالاً على نبوتك.
وأهل الكتاب هنا جماعة من اليهود أسلمت ، وكان الكفار يؤذونهم.
أو بحيرا الراهب ، أو النجاشي ، أو سلمان الفارسي.
وابن سلام ، وأبو رفاعة ، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا.
أو أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول قبل مبعثه ، اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب ، وثمانية قدموا من الشام : بحيرا ، وأبرهة ، وأشرف ، وأربد ، وتمام ، وإدريس ، ونافع ، ورادأ ابن سلام ، وتميم الداري ، والجارود العبدي ، وسلمان ، سبعة أقوال آخرها لقتادة.
والظاهر أنها أمثلة لمن آمن منهم ، والضمير في به عائد على القول ، وهو القرآن.
وقال الفراء : عائد على الرسول ، وقال أيضاً : إن عاد على القرآن ، كان صواباً ، لأنهم قد قالوا : إنه الحق من ربنا. انتهى.
{ إنه الحق من ربنا } : تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن نؤمن به.
{ إنا كنا من قبله مسلمين } : بيان لقوله : { آمنا به } ، أي إيماننا به متقادم ، إذ كان الآباء الأقدمون إلى آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول ، وأعلموا بذلك الأبناء ، فنحن مسلمون من قبل نزوله وتلاوته علينا ، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي.
وإيتاء الأجر مرتين ، لكونه آمن بكتابه وبالقرآن؛ وعلل ذلك بصبرهم : أي على تكاليف الشريعة السابقة لهم ، وهذه الشريعة وما يلقون من الأذى.
وفي الحديث : « ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي » ، الحديث.
{ ويدرأون } : يدفعون ، { بالحسنة } : بالطاعة ، { السيئة } : المعصية المتقدمة ، أو بالحلم الأذى ، وذلك من مكارم الأخلاق.
وقال ابن مسعود : يدفعون بشهادة أن لا إله إلاّ الله الشرك.
وقال ابن جبير : بالمعروف المنكر.
وقال ابن زيد : بالخير الشر.
وقال ابن سلام : بالعلم الجهل ، وبالكظم الغيظ.
وفي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، لمعاذ : « أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن »
و { اللغو } : سقط القول.
وقال مجاهد : الأذى والسب.
وقال الضحاك : الشرك.
وقال ابن زيد : ما غيرته اليهود من وصف الرسول ، سمعه قوم منهم ، فكرهوا ذلك وأعرضوا.
{ ولكم أعمالكم } : خطاب لقائل اللغو المفهوم ذلك من قوله : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه }.
{ سلام عليكم } ، قال الزجاج : سلام متاركة لإسلام تحية.
{ لا نبتغي الجاهلين } : أي لا نطلب مخالطتهم.
{ إنك لا تهدي } من أحببت : أي لا تقدر على خلق الهداية فيه ، ولا تنافي بين هذا وبين قوله : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } لأن معنى هذا : وإنك لترشد.
وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب ، وحديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حالة أن مات ، مشهور.
وقال الزمخشري : لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت ، لأنك لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ، ولكن الله يدخل في الإسلام من يشاء ، وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف تنفع فيه ، فتقرب به ألطافه حتى يدعوه إلى القبول.
{ وهو أعلم بالمهتدين } : بالقابلين من الذين لا يقبلون.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في أمر الألطاف.
وقالوا : الضمير في وقالوا لقريش.
وقيل ، القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : إنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ، فذلك وإنما نحن أكلة رأس ، أي قليلون أن يتخطفونا من أرضنا.
وقولهم : { الهدى معك } : أي على زعمك ، فقطع الله حجتهمم ، إذ كانوا ، وهم كفار بالله ، عباد أصنام قد أمنوا في حرمهم ، والناس في غيره يتقاتلون ، وهم مقيمون في بلد غير ذي زرع ، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات ، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ فهو تعالى يمهد لهم الأرض ، ويملكهم الأرض ، كما وعدهم تعالى ، ووقع ما وعد به؛ ووصف الحرم بالأمن مجاز ، إذ الآمنون فيه هم ساكنوه.
و { ثمرات كل شيء } : عام مخصوص ، يراد به الكثرة.
وقرأ المنقري : يتخطف ، برفع الفاء ، مثل قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم } برفع الكاف ، أي فيدرككم ، أي فهو يدرككم.
وقوله : من يفعل الحسنات الله يشكرها : أي فيتخطف ، وفالله يشكرها ، وهو تخريج شذوذ.
وقرأ نافع وجماعة ، عن يعقوب؛ وأبو حاتم ، عن عاصم : تجبى ، بتاء التأنيث ، والباقون بالياء.
وقرأ الجمهور : ثمرات ، بفتحتين؛ وأبان بن تغلب : بضمتين؛ وبعضهم : بفتح الثاء وإسكان الميم.
وانتصب رزقاً على أنه مصدر من المعنى ، لأن قوله : { يجبى إليه ثمرات } : أي برزق ثمرات ، أو على أنه مفعول له ، وفاعل الفعل المعلل محذوف ، أي نسوق إليه ثمرات كل شيء ، وإن كان الرزق ليس مصدراً ، بل بمعنى المرزوق ، جاز انتصابه على الحال من ثمرات ، ويحسن لك تخصيصاً بالإضافة.
و { أكثرهم لا يعلمون } : أي جهلة ، بأن ذلك الرزق هو من عندنا.
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فعظموا النعمة ، وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمرهم الله وخرب ديارهم.
و { معيشتها } منصوب على التمييز ، على مذهب الكوفيين؛ أو مشبه بالمفعول ، على مذهب بعضهم؛ أو مفعول به على تضمين { بطرت } معنى فعل متعد ، أي خسرت معيشتها ، على مذهب أكثر البصريين؛ أو على إسقاط في ، أي في معيشتها ، على مذهب الأخفش؛ أو على الظرف ، على تقدير أيام معيشتها ، كقولك : جئت خفوق النجم ، على قول الزجاج.
{ فتلك مساكنهم } : أشار إليها ، أي ترونها خراباً ، تمرون عليها كحجر ثمود ، هلكوا وفنوا ، وتقدم ذكر المساكن.
و { تسكن } ، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله : { إلا قليلاً } من المساكن ، أي إلا قليلاً منها سكن ، واحتمل أن يكون من المصدر المفهوم من قوله : { لم تسكن } : أي إلاّ سكنى قليلاً ، أي لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق.
{ وكنا نحن الوارثين } : أي لتلك المساكن وغيرها ، كقوله : { إنا نحن نرث الأرض } خلت من ساكنيها فخربت.
تتخلف الآثار عن أصحابها . . .
حيناً ويدركها الفناء فتتبع
والظاهر أن القرى عامة في القرى التي هلكت ، فالمعنى أنه تعالى لا يهلكها في كل وقت.
حتى يبعث في أم تلك القرى ، أي كبيرتها ، التي ترجع تلك القرى إليها ، ومنها يمتارون ، وفيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى.
{ حتى يبعث في أمها رسولاً } ، لإلزام الحجة وقطع المعذرة.
ويحتمل أن يراد بالقرى : القرى التي في عصر الرسول ، فيكون أم القرى : مكة ، ويكون الرسول : محمداً صلى الله عليه وسلم ، خاتم الأنبياء ، وظلم أهلها : هو بالكفر والمعاصي.
{ وما أوتيتم من شيء } : أي حسن يسركم وتفخرون به ، { فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } : تمتعون أياماً قلائل ، { وما عند الله } : من النعيم الدائم الباقي المعد للمؤمنين ، { خير }.
من متاعكم ، { أفلا تعقلون } : توبيخ لهم.
وقرأ أبو عمرو : يعقلون ، بالياء ، إعراض عن خطابهم وخطاب لغيرهم ، كأنه قال : انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم.
وقرأ الجمهور : بالتاء من فوق ، على خطابهم وتوبيخهم ، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة.
ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده ، وفي التحرير والتحبير بين الياء والتاء ، عن أبي عمرو.
وقرىء : متاعاً الحياة الدنيا ، أي يمتعون متاعاً في الحياة الدنيا ، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف.
{ أفمن وعدناه } : يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد ، { وعداً حسناً } ، وهو الثواب ، فلاقاه ، ومن متع في الحياة الدنيا ، ثم أحضر إلى النار.
وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر.
قيل : ونزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبي جهل.
وقيل : في حمزة وأبي جهل.
وقيل : في عليّ وأبي جهل.
وقيل : في عمار والوليد بن المغيرة.
وقيل : نزلت في المؤمن والكافر ، وغلب لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله : { لكنت من المحضرين } { فكذبوه فإنهم لمحضرون } والفاء في : { أفمن } ، للعطف ، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع والزينة ، وما عند الله من الثواب ، قال : أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ والفاء في : { فهو لاقيه } ، للتسبيب ، لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخبر ، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته.
وقرأ طلحة : أمن وعدناه ، بغير فاء.
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
لما ذكر أن الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار ، ذكر شيئاً من أحوال يوم القيامة ، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله ، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة؛ { فيقول أين شركائي } ؟ أي على زعمكم ، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع؛ والشركاء هم من عبدوه من دون الله ، من ملك ، أو جنّ ، أو إنس ، أو كوكب ، أو صنم ، أو غير ذلك.
ومفعولا { تزعمون } محذوفان ، أحدهما العائد على الموصول ، والتقدير : تزعمونهم شركاء.
ولما كان هذا السؤال مسكتاً لهم ، إذ تلك الشركاء التي عمدوها مفقودون ، هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي.
{ قال الذين حق عليهم القول } : أي الشياطين ، وأئمة الكفر ورؤوسه؛ وحق : أي وجب عليهم القول ، أي مقتضاه ، وهو قوله : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } و { هؤلاء } : مبتدأ ، و { الذين أغوينا } : هم صفة ، و { أغويناهم كما غوينا } : الخبر ، و { كما غوينا } : صفة لمطاوع أغويناهم ، أي فغووا كما غوينا ، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا.
وهذا الإعراب قاله الزمخشري.
وقال أبو عليّ : ولا يجوز هذا الوجه ، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ.
قال : فإن قلت : قد وصلت بقوله : { كما غوينا } ، وفيه زيادة.
قيل : الزيادة بالظرف لا تصيره أصلاً في الجملة ، لأن الظروف صلات ، وقال هو : { الذين أغوينا } هو الخبر ، و { أغويناهم } : مستأنف.
وقال غير أبي علي : لا يمتنع الوجه الأول ، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم ، كقولك : زيد عمرو قائم في داره. انتهى.
والمعنى : هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان ، كما آثرناه نحن ، ونحن كنا السبب في كفرهم ، فقبلوا منا.
وقرأ أبان ، عن عاصم وبعض الشاميين : كما غوينا ، بكسر الواو.
قال ابن خالويه : وليس ذلك مختاراً ، لأن كلام العرب : غويت من الضلالة ، وغويت من البشم.
ثم قالوا : { تبرأنا إليك } ، منهم ما كانوا يعبدوننا ، إنما عبدوا غيرنا ، و { إيانا } : مفعول { يعبدون } ، لما تقدّم الفصل ، وانفصاله لكون يعبدون فاصلة ، ولو اتصل ، ثم لم يكن فاصلة.
وقال الزمخشري : إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم؛ وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى. انتهى.
{ وقيل ادعوا شركاءكم } : لما سئلوا أين شركاؤكم وأجابوا بغير جواب ، سئلوا ثانياً فقيل : ادعوا شركاءكم ، وأضاف الشركاء إليهم ، أي الذين جعلتموهم شركاء لله.
وقوله : { ادعوا شركاءكم } ، على سبيل التهكم بهم ، لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم ، { فدعوهم } ، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضاً ، إذ لم يعلموا أن من كان موجوداً منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم ، والضمير في { ورأوا }.
قال الضحاك ومقاتل : هو للتابع والمتبوع ، وجواب لو محذوف ، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه ، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا ، ما رأوا العذاب في الآخرة.
وقيل : التقدير : لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل ، لدفعوا به العذاب.
وقيل : لعلموا أن العذاب حق.
وقيل : لتحيروا عند رؤيته من فظاعته ، وإن لم يعذبوا به ، وقيل : ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام.
وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه : أحدها : أن الله إذا خاطبهم بقوله : { ادعوا شركاءكم } ، اشتدّ خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئاً ، لا جرم ما رأوا العذاب.
وثانيها : لما ذكر الشركاء ، وهي الأصنام ، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم ، قال في حقهم : { ورأوا العذاب } ، لو كانوا من الأحياء المهتدين ، ولكنها ليست كذلك ، ولا جرم ما رأت العذاب.
والضمير في رأوا ، وإن كان للعقلاء ، فقد قال : ودعوهم وهم للعقلاء.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وقد أثنى على هذا الذي اختاره ، وليس بشيء ، لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين ، قال : وهم الأصنام.
والظاهر أنه عائد على الداعين ، كقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب } ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد ، لأن ما قدره هو جواب ، ولا يشعر به أنه جواب ، إذ صار التقدير عنده : لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب ، لكنها ليست من الأحياء ، فلا ترى العذاب.
ألا ترى إلى قوله : فلا جرم ما رأت العذاب؟
{ ويوم يناديهم } : هذا النداء أيضاً قد يكون بواسطة من الملائكة ، أو بغير واسطة.
حكى أولاً ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله رؤوس الكفر عند توبيخهم ، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزالة العلل.
وقرأ الجمهور : { فعميت } بفتح العين وتخفيف الميم.
وقرأ الأعمش ، وجناح بن حبيش ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير : بضم العين وتشديد الميم ، والمعنى : أظلمت عليهم الأمور ، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ، وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه.
{ فهم لا يتساءلون } ، وقرأ طلحة : يساءلون ، بإدغام التاء في السين : أي لا يسأل بعضهم بعضاً فيما يتحاجون به ، إذا أيقنوا أنه لا حجة لهم ، فهم في عمى وعجز عن الجواب.
والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله.
ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة ، وما يكون منهم فيه ، أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحاً ، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة ، وهذا ترغيب للكافر في الإسلام ، وضمان له للفلاح.
ويقال : إن عسى من الله واجبة.
{ وربك يخلق ما يشاء ويختار } : نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقول بعضهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
وقائل ذلك الوليد بن المغيرة.
قال القرطبي : هذا متصل بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة ، أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء ، لا إلى المشركين.
وقيل : هو جواب لليهود ، إذ قالوا : لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل ، لأمنا به ، ونص الزجاج ، وعليّ بن سليمان ، والنحاس : على أن الوقف على قوله : { ويختار } تام ، والظاهر أن ما نافية ، أي ليس لهم الخيرة ، إنما هي لله تعالى ، كقوله : { ما كان لهم الخيرة } من أمرهم.
وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار ، أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس ، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم ، ويفعلون ما لم يؤمروا به.
وأنكر أن تكون ما نافية ، لئلا يكون المعنى : إنه لم تكن لهم الخير فيما مضى ، وهي لهم فيما يستقبل ، ولأنه لم يتقدّم كلام ينفي.
وروي عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري ، وقد رد هذا القول تقدّم العائد على الموصول ، وأجيب بأن التقدير : ما كان لهم فيه الخيرة ، وحذف لدلالة المعنى.
قال الزمخشري : كما حذف من قوله : { إن ذلك لمن عزم الأمور } يعني : أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور.
وأنشد القاسم ابن معن بيت عنترة :
أمن سمية دمع العين تذريف . . .
لو كان ذا منك قبل اليوم معروف
وقرن الآية بهذا البيت.
والرواية في البيت : لو أن ذا ، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن.
فأما في الآية ، فقال ابن عطية : تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف.
قال ابن عطية : ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة ، إذا قدرنا كان تامة ، أي أن الله تعالى يختار كل كائن ، ولا يكون شيء إلا بإذنه.
وقوله : { لهم الخيرة } : جملة مستأنفة معناها : تعديد النعمة عليهم في اختيار الله لهم ، لو قبلوا وفهموا. انتهى.
يعني : والله أعلم خيرة الله لهم ، أي لمصلحتهم.
والخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، يستعملان بمعنى المصدر؛ والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها.
والحمد في الآخرة قولهم : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } { الحمد لله الذي صدقنا وعده } { الحمد لله رب العالمين } والتحميد هنالك على سبيل اللذة ، لا التكليف.
وفي الحديث : « يلهمون التسبيح والتقديس » وقرأ ابن محيصن : ما تكن ، بفتح التاء وضم الكاف.
{ وله الحكم } : أي القضاء بين عباده والفصل.
و { أرأيتم } : بمعنى أخبروني ، وقد يسلط على الليل { أرأيتم } و { جعل } ، إذ كل منهما يقتضيه ، فأعمل الثاني.
وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام ، والعائد على الليل محذوف تقديره : من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده ، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقاً ، بل قد يختلف الطلب ، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية ، وهذا على جهة المفعولية ، وهذا على جهة المفعول ، وهذا على جهة الظرف.
وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالباً ، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاماً ، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها ، كان ذلك المنتصب حالاً.
و { سرمداً } ، قيل : من السرمد ، فميمه زائدة ، ووزنه فعمل ، ولا يزاد وسطاً ولا آخراً بقياس ، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف.
وأتى { بضياء } ، وهو نور الشمس ، ولم يجىء التركيب بنهار يتصرفون فيه ، كما جاء { بليل تسكنون فيه } ، لأن منافع الضياء متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء.
{ أفلا تسمعون } ؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل.
{ أفلا تبصرون } ؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ، قال الزمخشري.
و { من رحمته } ، من هنا للسبب ، أي وبسبب رحمته إياكم ، { جعل لكم الليل والنهار } ، ثم علل جعل كل واحد منهما ، فبدأ بعلة الأول ، وهو الليل ، وهو : { لتسكنوا فيه } ، ثم بعلة الثاني وهو : { ولتبتغوا من فضله } ، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : { لعلكم تشكرون } ، أي هذه الرحمة والنعمة.
وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير ، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها ، ومنه قول ابن جيوش :
ومقرطق يغني النديم بوجهه . . .
عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها . . .
في مقلتيه ووجنتيه وريقه
والضمير في { فيه } عائد على الليل ، وفي { فضله } يجوز أن يكون عائداً على الله ، والتقدير : من فضله ، أي من فضل الله فيه ، أي في النهار؛ وحذف لدلالة المعنى ، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه.
ويحتمل أن يعود على النهار ، أي من فضل النهار ، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز.
لما كان الفضل حاصلاً فيه ، أضيف إليه ، كقوله : { بل مكر الليل والنهار.
}
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
تقدم الكلام على قوله : { ويوم يناديهم } : وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد.
{ ونزعنا } : أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم.
{ شهيداً } : وهو نبي تلك الأمة ، لأنه هو الشهيد عليها ، كما قال : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وقيل : عدولاً وخياراً.
والشهيد على هذا اسم الجنس ، والشهيد يشهد على تلك الأمّة بما صدر منها ، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد ، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم.
{ فقلنا } : أي للملأ ، { هاتوا برهانكم } : أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد ، { فعلموا أن الحق لله } ، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله.
{ وضل عنهم } : أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ، { ما كانوا يفترون } من الكذب والباطل.
وقارون أعجمي : منع الصرف للعجمة والعلمية.
وقيل : ومعنى كان من قومه : أي ممن آمن به.
قال ابن عطية : وهو إسرائيلي بإجماع. انتهى.
واختلف في قرابته من موسى عليه السلام ، إختلافاً مضطرباً متكاذباً ، وأولاها : ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث ، جد موسى ، لأن النسابين ذكروا نسبة كذلك ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ، فنافق كما نافق السامري.
{ فبغى عليهم } : ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ، ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغياً تكذب على موسى أنه تعرض لها ، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل ، ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبراً.
{ وآتيناه من الكنوز } ، قيل : أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام.
وقيل : سميت أمواله كنوزاً ، إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة ، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته.
وما موصوله ، صلتها إن ومعمولاها.
وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يعني الأخفش الصغير ، يقول : ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات ، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه ، وفي القرآن : { ما إن مفاتحه }. انتهى.
وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام ، وقالوا هنا : مقاليد خزائنه.
وقال السدي : هي الخزائن نفسها.
وقال الضحاك : ظروفه وأوعيته.
وقرأ الأعمش : مفاتيحه ، بياء ، جمع مفتاح ، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب ، أو يقارب الكذب ، فلم أكتبه.
قال أبو زيد : نؤت بالعمل إذا نهضت به.
قال الشاعر :
إذا وجدنا خلفاً بئس الخلف . . .
عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
ويقول : ناء ينوء ، إذا نهض بثقل.
قال الشاعر :
تنوء بأحراها فلأياً قيامها . . .
وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
وقال أبو عبيدة : هو مقلوب وأصله : لتنوء بها العصبة ، أي تنهض ، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر.
والصحيح أن الباء للتعدية ، أي لتنيء العصبة ، كما تقول : ذهبت به وأذهبته ، وجئت به وأجأته.
ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء ، واختاره النحاس ، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وتقول العرب : ناء الحمل بالبعير إذا أثقله.
قال ابن عطية : ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح ، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها ، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه ، فتأمله.
وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء ، بالياء ، وتذكيره راعى المضاف المحذوف ، التقدير : ما إن حمل مفاتحه ، أو مقدارها ، أو نحو ذلك.
وقال الزمخشري : ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال ، كقوله : ذهبت أهل اليمامة. انتهى.
يعني : أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون ، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة ، فقيل فيه ، ذهبت.
وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ : ما إن مفتاحه ، على الإفراد ، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل.
وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام.
وتقدم قبل تفسير المفاتح ، أهي المقاليد ، أو الخزائن نفسها ، أو الظروف والأوعية؟ وعن ابن عباس والحسن : أن المفاتح هي الأموال.
قال ابن عباس : كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء ، وكانت أربعمائة ألف ، يحمل كل رجل عشرة آلاف.
وقال أبو مسلم : المراد من المفاتح : العلم والإحاطة ، كقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } والمراد : وآتيناه من الكنوز ، ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ، يتعب حفظها القائمين على حفظها.
{ إذ قال له قومه لا تفرح } : نهوه عن الفرح المطغى الذي هو إنهماك وإنحلال نفس وأشر وإعجاب ، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة ، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب ، فلا يفرح بها.
وقال أبو الطيب :
أشد الغم عندي في سرور . . .
تيقن عنه صاحبه انتقالا
قال الزمخشري : ومحل إذ منصوب بتنوء.
انتهى ، وهذا ضعيف جداً ، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له : { لا تفرح }.
وقال ابن عطية : متعلق بقوله : { فبغى عليهم } ، وهو ضعيف أيضاً ، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك الوقت.
وقال الحوفي : الناصب له محذوف تقديره أذكر.
وقال أبو البقاء : { إذ قال له } ظرف لآتيناه ، وهو ضعيف أيضاً ، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول.
وقال أيضاً : ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي بغى عليهم ، { إذ قال له قومه }. انتهى.
ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز ، { إذ قال له قومه }.
وقال تعالى : { ولا تفرحوا بما آتاكم } والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير.
وقال الشاعر :
ولست بمفراح إذا الدهر سرني . . .
ولا جازع من صرفه المتحول
وقال الآخر :
إن تلاق منفساً لا تلقنا . . .
فرح الخير ولا نكبوا الضر
وقرىء : الفارحين ، حكاه عيسى بن سليمان الحجازى.
و { لا يحب } : صفة فعل ، لا صفة ذات ، بمعنى الإرادة ، لأن الفرح أمر قد وقع ، فالمعنى : لا يظهر عليهم بركته ، ولا يعمهم رحمته.
ولما نهوه عن الفرح المطغى ، أمروه بأن يطلب ، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق ، ثواب الدار الآخرة ، بأن يفعل فيه أفعال البر ، وتجعله زادك إلى الآخرة.
{ ولا تنسى نصيبك من الدنيا } ، قال ابن عباس ، والجمهور : معناه : ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحاً في دنياك ، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ، وهذا التأويل فيه عظة.
وقال الحسن ، وقتادة : معناه : لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك ، وفي هذا التأويل بعض رفق.
وقال الحسن : معناه : قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به.
وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف.
وقيل : أرادوا بنصيبه الكفن ، وهذا وعظ متصل ، كأنهم قالوا : تترك جميع مالك ، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن؛ كما قال الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله . . .
رداءان تأوي فيهما وحنوط
وقال الزمخشري : أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك ، وهذا قريب من قول الحسن : { وأحسن } إلى عباد الله ، أو بشكرك وطاعتك لله.
{ كما أحسن الله إليك } بتلك النعم التي خولكها ، والكاف للتشبيه ، وهو يكون في بعض الأوصاف ، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون ، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان ، أو تكون الكاف للتعليل ، أي أحسن لأجل إحسان الله إليك.
{ ولا تبغ الفساد } : أي ما أنت عليه من البغي والظلم.
{ على علم } ، علم : مصدر ، يحتمل أن يكون مضافاً إليه ومضافاً إلى الله.
فقال الجمهور : ادّعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز.
فقيل : علم التوراة وحفظها ، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات ، وكانت هذه مغالطة.
وقال أبو سليمان الداني : أي علم التجارة ووجوه المكاسب ، أي أوتيته بإدراكي وسعيي.
وقال ابن المسيب : علم الكيمياء ، قال ابن المسيب : وكان موسى عليه السلام يعلم الكيمياء ، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهباً.
وعن ابن عباس : على علم الصنعة الذهب ، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن ابن المسيب.
وأنكر الزجاج علم الكيمياء وقال : باطل لا حقيقة له. انتهى.
وكثيراً ما تولع أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات؛ من ذلك : تغوير الماء ، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطاً ، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم لهم ، والكيمياء؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم ، الذين هم عندهم بصورة الولاية ، يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة.
وقال ابن زيد وغيره : أراد : { أوتيته على علم } من الله وتخصيص من لدنه قصدني به ، أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم ، ثم جعل قوله : { عندي } ، كما يقول : في معتقدي وعلى ما أراه.
وقال مقاتل : { على علم } ، أي على خير علمه الله عندي.
والظاهر أن قوله : { أو لم يعلم } ، تقرير لعلمه ذلك ، وتنبيه على خطئه في اغتراره؛ أي قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه في التواريخ ، كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون نعتاً لعلمه بذلك ، لأنه لما قال : { أوتيته على علم عندي } ، فتنفح بالعلم وتعظم به ، قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي نفسه مصارع الهالكين. انتهى.
{ وأكثر جمعاً } ، إما للمال ، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه.
قال ابن عطية : { أو لم يعلم } ، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه.
وقرأ الجمهور : { ولا يسأل } ، مبنياً للمفعول و { المجرمون } : رفع به ، وهو متصل بما قبله ، قاله محمد بن كعب.
والضمير في { ذنوبهم } عائد على من أهلك من القرون ، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم ، ولا ممن لم يجرم ، عمن أهلكه الله ، بل : { كل نفس بما كسبت رهينة } وقيل : أهلك من أهلك من القرون ، عن علم منه بذنوبهم ، فلم يحتج إلى مسألتهم عنها.
وقيل : هو مستأنف عن حال يوم القيامة.
قال قتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، لأنهم يدخلون النار بغير حساب.
وقال قتادة أيضاً ، ومجاهد : لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ، كقوله : { يعرف المجرمون بسيماهم } وقيل : لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع.
وقرأ أبو جعفر في روايته : ولا تسأل ، بالتاء والجزم ، المجرمين : نصب.
وقرأ ابن سيرين ، وأبو العالية : كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب ، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّز ذلك إلاّ أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب ، بوقوع الفعل عليه.
قال صاحب اللوامح : فالظاهر ما قاله ، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء ، فإن تركاه على رفعه ، فله وجهان : أحدهما : أن تكون الهاء والميم في { عن ذنوبهم } راجعة إلى ما تقدم من القرون ، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ ، وتقديره : هم المجرمون ، أو أولئك المجرمون ، ومثله { التائبون العابدون } في التوبة.
والثاني : أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في ذنوبهم ، لأنها ، وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها ، فإن أصلها الرفع ، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل ، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ :
{ أن يضرب مثلاً مّا بعوضة } بالجر ، على أنها بدل من أصل المثل ، وما زائدة فيه ، وتقديره : لا يستحي بضرب مثل بعوضة ، أي بضرب بعوضة.
في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به ، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثراً لحال.
فأما قوله : من ذنوبهم ، فذنوب جمع ، فإن كان جمع مصدر ، ففي إعماله خلاف.
وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك ، ولا تعرف فيها أثراً ، فينبغي أن لا يجعلها قراءة.
ولما ذكر تعالى قارون ونعته ، وما آتاه من الكنوز ، وفرحه بذلك فرح البطرين ، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم ، ذكر ما هو ناشىء عن التكبر والسرور بما أوتي فقال : { فخرج على قومه في زينته } ، وكان يوم السبت : أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا.
قال جابر ، ومجاهد : في ثياب حمر.
وقال ابن زيد : هو وحشمه في ثياب معصفرة.
وقيل : في ثياب الأرجوان.
وقيل : على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه.
وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام ، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلى والديباج.
وقيل : في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات ، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر.
وقيل غير ذلك من الكيفيات.
{ قال الذين يريدون الحياة الدنيا } قيل : كانوا مؤمنين.
وقال قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله.
وقيل : رغبة في اليسارة والثروة.
وقيل : كانوا كفارة ، وتمنوا { مثل ما أوتي قارون } ، ولم يذكروا زوال نعمته ، وهذا من الغبطة.
{ إنه لذو حظ عظيم } : أي درجة عظيمة ، قاله الضحاك.
وقيل : نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد ، يقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ.
{ وقال الذين أوتوا العلم } ، منهم : يوشع ، والعلم : معرفة الثواب والعقاب ، أو التوكل ، أو الإخبار ، أقوال.
{ ويلكم } : دعاء بالشر.
{ ثواب الله } : وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن { خير } مما أوتي قارون.
{ ولا يلقاها } : أي هذه الحكمة ، وهي معرفة ثواب الله ، وقيل : الجنة ونعيمها.
وقيل : هذه المقالة ، وهي قولهم : { ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً } ، وبخهم بها.
{ إلا الصابرون } على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات.
تقدم طرف من خبر قارون وحسده لموسى.
ومن حسده أنه جعل لبغي جعلاً ، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها ، وأنها تابت إلى الله ، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلاً على رمي موسى بذلك ، فأمر الله الأرض أن تطيعه ، فقال : يا أرض خذيه وأتباعه ، فخسف بهم في حكاية طويلة ، الله أعلم بها.
ولما خسف بقارون ومن معه ، فقال بنو إسرائيل : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله.
ومن زائدة ، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات.
وإذا انتفت الجملة ، ولم يقدر على نصره ، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ.
{ وما كان من المنتصرين } : أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله.
{ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } : بدل ، وأصبح ، إذا حمل على ظاهره ، أن الخسف به وبداره كان ليلاً ، وهو أفظع العذاب ، إذ الليل مقر الراحة والسكون ، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي ، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف ، وهو يوم التمني ، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله : { فخسفنا } ، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته ، وفي ذلك تعجيل العذاب.
ومكانه : منزلته في الدنيا من الثروة والحشم والأتباع.
و : وي ، عند الخليل وسيبويه : اسم فعل مثل : صه ومه ، ومعناها : أعجب.
قال الخليل : وذلك أن القوم ندموا فقالوا : متندمين على ما سلف منهم : وي ، وكل من ندم فأظهر ندامته قال : وي.
وكأن : هي كاف التشبيه الداخلة على أن ، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال ، وأنشد سيبويه :
وي كأن من يكن له نشب يح . . .
سبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل.
وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي.
وقال الأخفش : هي ويك ، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب ، ولا موضع له من الإعراب ، والوقف عليه ويك ، ومنه قول عنترة :
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها . . .
قيل الفوارس ويك عنتر اقدم
قال الأخفش : وأن عنده مفتوح بتقدير العلم ، أي أعلم أن الله ، وقال الشاعر :
ألا ويك المضرة لا تدوم . . .
ولا يبقى على البؤس النعيم
وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك ، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة.
فعلى المذهب الأول قيل : تكون الكاف خالية من معنى التشبيه ، كما قيل : { ليس كمثله شيء } وعلى المذهب الثاني ، فالمعنى : أعجب لأن الله.
وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن ، والمعنى أيضاً : لأن الله.
وقال أبو زيد وفرقة معه : ويكأن ، حرف واحد بجملته ، وهو بمعنى : ألم تر.
وبمعنى : ألم تر ، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد.
وقال الفراء : ويك ، في كلام العرب ، كقوله الرجل : أما ترى إلى صنع الله؟ وقال ابن قتيبة ، عن بعض أهل العلم أنه قال : معنى ويك : رحمة لك ، بلغة حمير.
ولما صدر منهم تمني حال قارون ، وشاهدوا الخسف ، كان ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ، وداعياً إلى الرضا بقدر الله ، فتنبهوا لخطئهم فقالوا : وي ، ثم قالوا : { كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده } ، بحسب مشيئته وحكمته ، لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء ، لا لهوانه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء.
وقرأ الأعمش : لولا منّ الله ، بحذف أن ، وهي مزادة.
وروي عنه : منّ الله ، برفع النون والإضافة.
وقرأ الجمهور : لخسف مبنياً للمفعول؛ وحفص ، وعصمة ، وأبان عن عاصم ، وابن أبي حماد عن أبي بكر : مبنياً للفاعل؛ وابن مسعود ، وطلحة ، والأعمش : لا نخسف بنا ، كقولك : انقطع بنا ، كأنه فعل مطاوع ، والمقام مقام الفاعل هو { بنا }.
ويجوز أن يكون المصدر : أي لا نخسف الانخساف ، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به ، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر.
وعن ابن مسعود أيضاً : لتخسف ، بتاء وشد السين ، مبنياً للمفعول.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
لما كان من قول أهل العلم والإيمان ثواب الله خير ، ذكر محل الثواب ، وهو الدار الآخرة.
والمعنى : تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها.
{ الدار الآخرة } : أي نعيم الدار الآخرة ، وهي الجنة ، والبقاء فيها سرمداً ، وعلق حصولها على مجرد الإرادة ، فكيف يمن بأشر العلوّ والفساد؟ ثم جاء التركيب بلا في قوله : { ولا فساداً } ، فدل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود ، لا مجموعهما.
قال الحسن : العلوّ : العز والشرف ، إن جر البغي الضحاك ، الظلم والفساد يعم أنواع الشر.
وعن عليّ ، كرم الله وجهه : أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها.
وعن الفضيل ، أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني.
وعن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يرددها حتى قبض.
{ فله خير منها } : يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل ، وأن يكون واحد الخيور ، أي فله خير بسبب فعلها ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { فلا يجزى الذين عملوا السيئات } ، تهجيناً لحالهم وتبغيضاً للسيئة إلى قلوب السامعين ، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان : فلا يجزون بالصهر ، وما كانوا على حذف مثل ، أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون ، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها ، والحسنة بعشر أمثالها.
{ إن الذي فرض عليك القرآن } ، قال عطاء : العمل به؛ ومجاهد : أعطاكه؛ ومقاتل : أنزله عليك ، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة.
وقال الزمخشري : أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف.
والمعاد ، قال الجمهور : في الآخرة ، أي باعثك بعد الموت ، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه.
وعن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري : المعاد : الموت.
وقيل : بيت المقدس.
وقيل : الجنة ، وكان قد دخلها ليلة المعراج.
وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد : المعاد : مكة ، أراد رده إليها يوم الفتح ، ونكره ، والمقصود التعظيم ، أي معاد أي معاد ، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافراً ظاهراً.
وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره ، وقد اشتاق إليها ، فقال له جبريل : أتشتاق إليها؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه.
ومن منصوب بإضمار فعل ، أي يعلم من جاء بالهدى ، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل ، وأجاز مع ذلك أن ينصب به ، جاز أن ينتصب به ، إذ يؤوله بمعنى عالم ، ويعطيه حكمه من العمل.
ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد ، وأنه تعالى فرض عليه القرآن ، أمره أن يقول للمشركين ذلك ، أي هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما يستحقه من الثواب في معاده ، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت.
ويعني بقوله : { ومن هو في ضلال مبين } : المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك ، هو عالم بهم ، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم ، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ.
{ وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب } : هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله ، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه.
وقيل : بل هو معلق بقوله : { إن الذي فرض عليك القرآن } ، وأنت بحال من لا يرجو ذلك ، وانتصب رحمة على الاستثناء المنقطع ، أي لكن رحمة من ربك سبقت ، فألقى إليك الكتاب.
وقال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى.
فيكون استثناء متصلاً ، إما من الأحوال ، وإما من المفعول له.
وقرأ الجمهور : يصدنك ، مضارع صد وشدوا النون ، ويعقوب كذلك ، إلا أنه خففها.
وقرىء : يصدنك ، مضارع أصد ، بمعنى صد ، حكاه أبو زيد ، عن رجل من كلب قال : وهي لغة قومه ، وقال الشاعر :
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم . . .
صدود السواقي عن أنوف الحوائم
{ بعد إذ أنزلت إليك } : أي بعد وقت إنزالها ، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله : { بعد إذ هديتنا } ويومئذ ، وحينئذ.
قال الضحاك : وذلك حين دعوه إلى دين إبائه ، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم ، فيصدونك عن اتباع آيات الله.
{ وادع إلى ربك } : أي دين ربك ، وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول ، وهي في الحقيقة لأتباعه ، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض ، فالمعنى : أن الله يعدم كل شيء سواه.
وبإزاء نفي الانتفاع به ، إما للإمانة ، أو بتفريق الأجزاء ، وإن كانت نافية يقال : هلك الثوب ، لا يريدون فناء أجزائه ، ولكن خروجه عن الانتفاع به.
ومعنى : { إلا وجهه } : إلا إياه ، قاله الزجاج.
وقال مجاهد ، والسدي : هالك بالموت إلا العلماء ، فإن علمهم باق. انتهى.
ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم ، فإنه باق.
وقال الضحاك : إلا الله عز وجل ، والعرش ، والجنة ، والنار.
وقيل : ملكه ، ومنه : { لمن الملك اليوم } وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه : جاهه الذي جعله في الناس.
وقال سفيان الثوري : إلا وجهه ، ما عمل لذاته ، ومن طاعته ، وتوجه به نحوه ، ومنه قول الشاعر :
رب العباد إليه الوجه والعمل . . .
وقوله : يريدون وجهه.
{ له الحكم } : أي فصل القضاء.
{ إليه ترجعون } : أي إلى جزائه.
وقرأ عيسى : ترجعون ، مبنياً للفاعل؛ والجمهور : مبنياً للمفعول.
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
هذه السورة مكية ، قاله جابر وعكرمة والحسن.
وقال ابن عباس ، وقتادة : مدنية.
وقال يحيى بن سلام : مكية إلا من أولها إلى { وليعلمن المنافقين } ، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة ، قاله السدي؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله ، قاله ابن عمر؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم ، قاله مجاهد ، وهو قريب مما قبله؛ أو في مهجع مولى عمر ، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه ، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة » ؛ أو في عياش أخي أبي جهل ، غدر فارتد.
و { الناس } : فسر بمن نزلت فيه الآية.
وقال الحسن : الناس هنا المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا.
وحسب يطلب مفعولين.
فقال الحوفي ، وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد المفعولين ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا.
وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا.
وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : وإذا قدرت الباء كان حالاً.
قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء كما تقول : تركت زيداً بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان؟ قلت : هو في قوله : { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
فتركته جزر السباع ينشنه . . .
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت : { أن يقولوا } هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله : خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً ، تعليلين.
وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً.
انتهى ، وهو كلام فيه اضطراب.
ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله : { وهم لا يفتنون } ، وهذه جملة حالية.
ثم ذكر { أن يتركوا } هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم : { وهم لا يفتنون } ، وهذا كلام لا يصح.
وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية.
وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالاً ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان.
وأما قوله : فإن قلت { أن يقولوا } إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله : { أن يقولوا } هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقاً ، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر غير المبتدأ.
ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبر.
وأما قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي وهو مستقر ، أو كائن.
{ وهم لا يفتنون } ، قال الشعبي : الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها.
وقال الكلبي : هو مثال ، { أو يلبسكم شيعاً } وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم.
و { الذين من قبلهم } : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه.
{ فليعلمن الله } ، بالامتحان ، { الذين صدقوا } في إيمانهم ، { وليعلمن الكاذبين } فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ، ويستحيل حدوث العلم لله تعالى.
فالمعنى : وليتعلقن علمه به موجوداً به كما كان متعلقاً به حين كان معدوماً.
والمعنى : وليميزن الصادق منهم من الكاذب ، أو عبر بالعلم عن الجزاء ، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب.
ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم ، والكاذبين ضد ذلك.
وقرأ علي ، وجعفر بن محمد : فليعلمن ، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد ، والثاني محذوف ، أي منازلهم في الآخرة من ثواب وعقاب؛ أو الأول محذوف ، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا ، أي يشهرهم هؤلاء في الخير ، وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد ، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم ، كقوله : «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها».
وقرأ الزهري : الأولى كقراءة الجماعة ، والثانية كقراءة علي.
{ أم حسب } ، قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : { أحسب } ، وكأنه عز وجل قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك ، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه. انتهى.
وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب ، كما ذكر ، لأنها إذ ذاك تكون متصلة ، ولها شرطان : أحدهما : أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام ، وهذا الشرط هنا موجود.
والثاني : أن يكون بعدها مفرد ، أو ما هو في تقدير المفرد.
مثال المفرد : أزيد قائم أم عمرو؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد : أقام زيد أم قعد؟ وجوابها : تعيين أحد الشيئين ، إن كان التعادل بين شيئين؛ أو الأشياء ، إن كان بين أكثر من شيئين.
وهنا بعد أم جملة ، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين ، بل أم هنا منقطعة ، بمعنى بل التي للإضراب ، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية ، لا بمعنى الإبطال.
وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار ، فلا يقتضي جواباً ، لأنه في معنى : كيف وقع حسبان لك؟
و { الذين يعملون السيئات } ، قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والأسود ، والعاصي بن هشام ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاصي بن وائل ، وأنظارهم من صناديد قريش. انتهى.
والآية ، وإن نزلت على سبب ، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم.
وقال مجاهد : { أن يسبقونا } : أي يعجزونا ، فلا نقدر على الانتقام ، وقيل : أن يعجلونا محتوم القضاء ، وقيل : أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم.
وقال الزمخشري : { أن يسبقونا } : أن يفوتونا ، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدثوا به أنفسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة ، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه؛ ونظيره : { وما أنتم بمعجزين في الأرض } { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } فإن قلت : أين مفعولاً حسب؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين ، كقولهم : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، وأم منقطعة.
ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه. انتهى.
أمّا قوله : وهو لم يطمعوا في الفوت ، إلى آخر قوله : ويطمع فيه ، فليس كما ذكر ، بل هم معتقدون أن لا بعث ولا جزاء ، ولا سيما السرية التي نص عليها ابن عباس ، وما ذكره ، كما الزمخشري ، هو على اعتقاد من يعلم أن الله يجازيه ، ولكن طمع في عفو الله.
وأما قوله : اشتمال صلة أن ، إلى آخره ، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله : { أن يتركوا } ، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين ، ولم يقدر ما لا يصح تقديره ، وأمّا قوله : ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر ، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد ، والتضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه ، وهذا لا حاجة إليه.
{ ساء ما يحكمون } ، قال الزمخشري ، وابن عطية ما معناه : أن { ما } موصولة و { يحكمون } صلتها ، أو تمييز بمعنى شيء ، ويحكمون صفة ، والمخصوص بالذم محذوف ، فالتقدير : أي حكمهم.
انتهى.
وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء ، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو.
وقال ابن كيسان : ما مصدرية ، فتقديره : بئس حكمهم.
وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفاً ، أي ساء حكماً حكمهم.
وساء هنا بمعنى : بئس ، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بها ما ، والفعل في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } مشبعاً في البقرة.
وجاء بالمضارع ، وهو { يحكمون } ، قيل : إشعاراً بأن حكمهم مذموم حالاً واستقبالاً ، وقيل : لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعاً.
والظاهر أن { يرجوا } على بابها ، ومعنى { لقاء الله } : الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء؛ مثلت حاله بحالة عبد قدم على مولاه من سفر بعيد ، وقد اطلع مولاه على ما عمل في غيبته عنه ، فإن كان عمل خيراً ، تلقاه بإحسان أو شراً ، فبضد الإحسان.
{ فإن أجل الله لآت } : وهو ما أجله وجعل له أجلاً ، لا نفسه لا محالة ، فليبادر لما يصدق رجاءه.
وقال أبو عبيدة : يرجو : يخاف ، ويظهر أن جواب الشرط محذوف ، أي { من كان يرجوا لقاء الله } ، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه ، فإن ما أجله الله تعالى من لقاء جزائه لآت.
والظاهر أن قوله : { ومن جاهد } ، معناه : ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات ، فثمرة جهاده ، وهو الثواب المعد له ، إنما هو له ، لا لله ، والله تعالى غني عنه وعن العالمين ، وإنما كلفهم ما كلفهم إحساناً إليهم.
{ لنكفرنّ عنهم سيئاتهم } : يشمل من كان كافراً فآمن وعمل صالحاً ، فأسقط عنه عقاب ما كان قبل الإيمان من كفر ومعصية ، ومن نشأ مؤمناً عاملاً للصالحات وأساء في بعض أعماله ، فكفر عنه ذلك ، وكانت سيئاته مغمورة بحسناته.
{ ولنجزينهم أحسن الذي } : أي أحسن جزاء أعمالهم.
وقال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. انتهى.
وهذا التقدير لا يسوغ ، لأنه يقتضي أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم ، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه ، وهم يجزون ثواب الأحسن والحسن ، إلاّ إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل ، فيكون بمعنى حسن ، فإنه يسوغ ذلك.
وأما التقدير الذي قبله فمعناه : أنه مجزي أحسن جزاء العمل ، فعمله يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها ، فجوزي أحسن جزائها ، وهي أن جعلت بعشر أمثالها.
وفي هذه الآيات تحريك وهزاً لمن تخلف عن الجهرة أن يبادر إلى استدراك ما فرط فيه منها ، وثناء على المؤمنين الذين بادروا إلى الهجرة ، وتنويه بقدرهم.
{ ووصينا الإنسان } ، في جامع الترمذي : إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص ، آلت أمه أن لا يطعم ولا يشرب حتى تموت ، أو يكفر.
وقيل : في عياش بن أبي ربيعة ، أسلم وهاجر مع عمر ، وكانت أمه شديدة الحب له ، وحلفت على مثل ذلك ، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث ، فشداه وثاقاً حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قصداً ليراها ، وجلده كل منهما مائة جلدة ، ورداه إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يكفر بمحمد ، في حديث طويل ذكر في السير.
{ ووصينا الإنسان بوالديه } : أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما.
وانتصب { حسناً } على أنه مصدر ، وصف به مصدر وصينا ، أي إيصاء حسناً ، أي ذا حسن ، أو على سبيل المبالغة ، أي هو في ذاته حسن.
قال ابن عطية : يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان.
كما تقول : وصيتك خيراً ، وأوصيتك شراً؛ وعبَّر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف الجر ، كون حرف الجر في قوله : { بوالديه } ، لأن المعنى : ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده ، ونظير هذا قول الشاعر :
عجبت من دهماء إذ تشكونا . . .
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
انتهى.
مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة :
وصيت من برة قلباً حراً . . .
بالكلب خيراً والحماة شراً
وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير ، وهو المفعول الثاني.
والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في ، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله : { بوالديه } ، وينتصب { حسناً } بفعل مضمر تقديره : يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر.
وفي التحرير : حسناً نصب عند البصريين على التكرير ، أي وصيناه حسناً ، وقيل : على القطع ، تقديره : ووصينا بالحسن ، كما تقول : وصيته خيراً ، أي بالخير ، ويعني بالقطع عن حرف الجر ، فانتصب.
وقال أهل الكوفة : ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فيقدر له فعل. انتهى.
وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول ، وهو لا يجوز عند البصريين.
وقال الزمخشري : وصيناه بايتاء والديه حسناً ، أو نائلاً والديه حسناً ، أي فعلاً ذا حسن ، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله : { وقولوا للناس حسناً } انتهى.
وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عند البصريين.
قال الزمخشري : ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك : زيداً ، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما ، لأن الوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، فكأنه قال : قلنا أولهما معروفاً.
وقرأ عيسى ، والجحدري : حسناً ، بفتحتين؛ والجمهور : بضم الحاء وإسكان السين ، وهما كالبَخَل والبُخْل.
وقال أبو الفضل الرازي : وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة ، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً ، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى : أمر حسن.
انتهى ، أي أمراً حسناً ، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه.
وقوله : مطلقاً ، عنى به الإنسان ، وفيه تسامح ، بل هو مفعول به؛ والمطلق إنما هو المصدر ، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر ، بخلاف سائر المفاعيل ، فإنك تقول : مفعول به ، ومفعول فيه ، ومفعول معه ، ومفعول له؛ وفي مصحف أبي : إحساناً.
{ وإن جاهداك } : أي وقلنا : إن جاهداك { ما ليس لك به علم } : أي بإلهيته ، فالمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، أي { لتشرك } به شيئاً ، لا يصح أن يكون إلهاً ولا يستقيم ، { فلا تطعهما } فيما جاهداك عليه من الإشراك؛ { إليّ مرجعكم } : شامل للموصي والموصى والمجاهد والمجاهد ، { فأنبئكم } : فأجازيكم ، { بماكنتم تعملون } : من بر ، أو عقوق ، أو طاعة ، أو عصيان.
وكرر تعالى ما رتب للمؤمنين من دخولهم { في الصالحين } ، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم.
ومعنى { في الصالحين } : في جملتهم ، ومرتبة الصلاح شريفة ، أخبر الله بها عن إبراهيم ، وسألها سليمان ، عليهما السلام ، وأخبر تعالى أن يجعل من أطاع الله ورسوله معهم.
ويجوز أن يكون التقدير : في ثواب الصالحين ، وهي الجنة.
ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلص ، ذكر حال المنافقين ناساً آمنوا بألسنتهم ، فإذا آذاهم الكفار ، جعلوا ذلك الأذى ، وهو فتنة الناس ، صارفاً لهم عن الإيمان؛ كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر؛ وكونها نزلت في منافقين ، قول ابن زيد.
وقال الزجاج : جزع كما يجزع من عذاب الله ، وهذا معنى قول مجاهد والضحاك.
وقال قتادة : فيمن هاجر ، فردهم المشركون إلى مكة.
وقيل : في مؤمنين أخرجهم إلى بدر المشركون فارتدوا ، وهم الذين قال فيهم : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } { ولئن جاء نصر من ربك } : أي للمؤمنين ، { ليقولنّ } : أي القائلون أُوذيناً في الله ، { إنا معكم } : أي متابعون لكم في دينكم ، أو مقاتلون معكم ناصرون لكم ، قاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم.
وهذه الجملة المقسم عليها مظهرة مغالطتهم ، إذ لو كان إيمانهم صحيحاً ، لصبروا على أذى الكفار ، وإن كانت فيمن هاجر ، وكانوا يحتالون في أمرهم ، وركبوا كل هول في هجرتهم.
وقرىء : ليقولن ، بفتح اللام ، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري.
وأعلم : أفعل تفضيل ، أي من أنفسهم؛ وبما في صدورهم : أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق ، وهذا إستفهام معناه التقرير ، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر.
{ وليعلمنّ المنافقين } : ظاهر في أن ما قبل هذه الجملة في المنافقين ، كما قال ابن زيد ، وعلمه بالمؤمن ، وعدله بالثواب ، وبالمنافق وعيد له بالعقاب.
ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ، ذكر مقالة الكافرين قولاً واعتقاداً ، وهم رؤساء قريش.
قال مجاهد : كانوا يقولن لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان عليكم شيء فهو علينا.
وقيل : قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف ، قال لعمران : كان في الإقامة على دين الآباء إثم ، فنحن نحمله عنك ، وقيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة.
قال ابن عطية : وقوله : { ولنحمل } ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل ، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر ، لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة ، ومن هذا النوع قول الشاعر :
فقلت ادعى وأدعو فإن أندى . . .
لصوت أن ينادى داعيان
ولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه.
وقال الزمخشري : أمروهم باتباع سبيلهم ، وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم ، فحمل الأمر على الأمر وأرادوا ، ليجتمع هذان الأمران في الحصول ، أن يتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم.
والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش ، كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى ، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. انتهى.
وقوله : فإن عسى ، كان تركيب أعجمي لا عربي ، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى ، لأنه فعل جامد ، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد؛ وأيضاً فإن عسى لا يليها كان ، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر ، ولم يستعملها تامة.
وقرأ الحسن ، وعيسى ، ونوح القارىء : ولنحمل ، بكسر لام الأمر؛ ورويت عن علي ، وهي لغة الحسن ، في لام الأمر.
والحمل هنا مجاز ، شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر ، والخطايا بالمحمول.
وقال مجاهد : نحمل هنا من الحمالة ، لا من الحمل.
وقرأ الجمهور : { من خطاياهم }.
وقرأ داود بن أبي هند ، فيما ذكر أبو الفضل الرازي : من خطيئتهم ، على التوحيد ، قال : ومعناه الجنس ، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة.
وذكر ابن خالويه ، وأبو عمر والداني أن داود هذا قرأ : من خطيآتهم ، بجمع خطيئة جمع السلامة ، بالألف والتاء.
وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ : من خطئهم ، بفتح الطاء وكسر الياء ، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين ، فأشبهت الياء ، لأن قياس تسهيلها هو ذلك.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف سماهم كاذبين؟ وإنما ضمنوا شيئاً علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، ومن ضمن شيئاً لا يقدر على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً ، لا حين ضمن ، ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت عد الكاذبين ، وهو المخبر عن الشيء ، لا على ما هو عليه؟ قلت : شبه الله حالهم ، حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده ، لا على ما عليه بالكاذبين الذين خبرهم ، لا على ما عليه المخبر عنه.
ويجوز أن يريد إنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يصدقون الشيء ، وفي قلوبهم فيه الخلف. انتهى.
وتقدم من قول ابن عطية أن قوله : ولنحمل خبر ، يعني أمراً ، ومعناه الخبر ، وهذان الأمران منزلة الشرط والجزاء ، إذ المعنى : أن تتبعوا سبيلنا ، ولحقكم في ذلك إثم على ما تزعمون ، فنحن نحمل خطاياكم.
وإذا كان المعنى على هذا ، كان إخباراً في الجزاء بما لا يطابق ، وكان كذباً.
{ وليحملنّ أثقالهم } : أثقال أنفسهم من كفرهم ومعاصيهم ، { واثقالاً } أي أخر ، وهي أثقال الذين أغروهم ، فكانوا سبباً في كفرهم.
ولم يبين من الذين يحملون أثقاله ، فأمكن اندراج أثقال المظلوم بحملها للظالم ، كما جاء في الحديث : « أنه يقتص من الظالم للمظلوم بأن يعطي من حسنات ظالمه ، فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيآت المظلوم فطرح عليه » وفي صحيح مسلم ما معناه : أيما داع دعا إلى ضلالة ، فأتبع عليها وعمل بها بعده ، فعليه أوزار من عمل بها ممن اتبعه ، لا ينقص ذلك من أوزاهم شيئاً.
{ وليسئلنّ يوم القيامة } : أي سؤال توبيخ وتقريع.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما كان يلقى من أذى الكفار.
فذكر ما لقي أول الرسل ، وهو نوح ، من أذى قومه ، المدد المتطاولة ، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه.
والواو في { ولقد } واو عطف ، عطفت جملة على جملة.
قال ابن عطية : والقسم فيها بعيد ، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه ، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار ، وحرف الجر لا يعلق عن عمله ، بل لا بد له من ذكره.
والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله.
وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه ، من لدن مولده إلى غرق قومه. انتهى.
وليس عندي محتملاً ، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب ، واختلف في مقدار عمره ، حين كان بعث وحين مات ، اختلافاً مضطرباً متكاذباً ، تركنا حكايته في كتابنا ، وهو في كتب التفسير.
والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد ، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو ، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك ، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى ، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة ، إلا إذا كان لغرض من تفخيم ، أو تهويل ، أو تنويه.
ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به ، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله : تسعمائة وخمسون عاماً ، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام ، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي.
وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا ، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة.
والضمير في { وجعلناها } يحتمل أن يعود على { السفينة } ، وأن يعود على الحادثة والقصة ، وأفرد { آية } وجاء بالفاصلة { للعالمين } ، لأن إنجاء السفن أمر معهود.
فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة ، ولأنها بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها ، فحصل العلم بها لهم ، فناسب ذلك قوله : { للعالمين } ، وانتصب { إبراهيم } عطفاً على { نوحاً }.
قال ابن عطية : أو على الضمير في { فأنجيناه }.
وقال هو والزمخشري : بتقدير اذكروا بدل منه ، إذ بدل اشتمال منه ، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف ، فلا يكون مفعولاً به ، وقد كثر تمثيل المعربين ، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر ، وإذا كانت ظرفاً لما مضى ، فهو لو كان منصرفاً ، لم يجز أن يكون معمولاً لأذكر ، لأن المستقبل لا يقع في الماضي ، لا يجوز ثم أمس ، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه ، جاز أن يكون مفعولاً به ومعمولاً لأذكر.
وقرأ النخعي ، وأبو جعفر ، وأبو حنيفة ، وإبراهيم : بالرفع ، أي : ومن المرسلين إبراهيم.
وهذه القصة تمثيل لقريش ، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام ، والدعوى إلى عبادة الله ، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام.
وقرأ الجمهور : { وتخلقون } ، مضارع خلق ، { إفكاً } ، بكسر الهمزة وسكون الفاء.
وقرأ علي ، والسلمي ، وعون العقيلي ، وعبادة ، وابن أبي ليلى ، وزيد بن علي : بفتح التاء والخاء واللام مشددة.
قال ابن مجاهد : رويت عن ابن الزبير ، أصله : تتخلقون ، بتاءين ، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة.
وقرأ زيد بن علي أيضاً ، فيما ذكر الأهوازي : تخلقون ، من خلق المشدد.
وقرأ ابن الزبير ، وفضيل بن زرقان : أفكاً ، بفتح الهمزة وكسر الفاء ، وهو مصدر مثل الكذب.
قال ابن عباس : { وتخلقون إفكاً } ، هو نحت الأصنام وخلقها ، سماها إفكاً توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة.
وقال مجاهد : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك.
وقال الزمخشري : إفكاً فيه وجهان : أحدهما : أن تكون مصدراً نحو : كذب ولعب ، والإفك مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن تكون صفة على فعل ، أي خلقا إفكاً ، ذا إفك وباطل ، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه ، أو سمي الأصنام إفكاً ، وعملهم لها ونحتهم خلقاً للإفك. انتهى.
وهذا الترديد منه في نحو : { وتخلقون إفكاً } ، قولان لابن عباس ومجاهد ، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله : { لا يملكون لكم رزقاً } على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم ، فقرر أن الأصنام لا ترزق ، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر : لا يملكون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، واحتمل أن يكون اسم المرزوق ، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله ، وخص الرزق لمكانته من الخلق.
ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه ، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه ، وعرفه بعد لدلالته على العموم ، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها.
{ واشكروا له } على نعمة السابغة من الرزق وغيره.
{ وإليه ترجعون } : أي إلى جزائه ، أخبر بالمعاد والحشر.
ثم قال : { وإن تكذبوا } : أي ليس هذا مبتكراً منكم ، وقد سبق ذلك من أمم الرسل ، قيل : قوم شيث وإدريس وغيرهم.
وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة ، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه ، وباقيهم على التكذيب.
{ وما على الرسول إلا البلاغ المبين } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، بخلاف عنه : تروا ، بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة : بالياء.
والجمهور : يبدىء ، مضارع أبدأ؛ والزبير.
وعيسى ، وأبو عمرو : بخلاف عنه : يبدأ ، مضارع بدأ.
وقرأ الزهري : { كيف بدأ الخلق } ، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفاً ، فذهبت في الوصل ، وهو تخفيف غير قياسي ، كما قال الشاعر :
فارعى فزارة لا هناك المرتع . . .
وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله : { أو لم يروا } ، وفي : { فانظروا كيف بدأ الخلق } ، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات ، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود ، وقوله : { ثم يعيده } ، وقوله : { ثم الله ينشىء } ، ليس داخلاً تحت الرؤية ولا تحت النظر ، فليس { ثم يعيده } معطوفاً على يبدىء ، ولا { ثم ينشىء } داخلاً تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان ، إخباراً من الله تعالى بالإعادة بعد الموت.
وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجباً مقطوعاً بعلمة ، ولا شك فيه.
وقال قتادة : { أو لم يروا } ، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر ، حتى إلى التراب؟ وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة؛ وباقي السبعة : النشأة ، على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي فتنشئون النشأة.
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله : { كيف يبدىء الله الخلق } ، ثم أضمر في قوله { ثم يعيده } ، وهنا عكس أضمر في بدا ، ثم أبرزه في قوله : { ثم الله ينشىء } ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه.
ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي { ينشىء النشأة الآخرة } ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه.
والآخرة صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة.
ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها.
ثم أخبر بأنه { يعذب من يشاء } ، أي تعذيبه ، { ويرحم من يشاء } رحمته ، وبدأ بالعذاب ، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل.
{ وإليه تقلبون } : أي تردون.
وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
{ وما أنتم بمعجزين } : أي فائتين ما أراد الله لكم.
{ في الأرض ولا في السماء } ، إن حمل السماء على العلو فجائز ، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصاً بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ، أي لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى :
ولو كنت في جب ثمانين قامة . . .
ورقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهزه . . .
وتعلم أني فيك لست بمجرم
وقوله تعالى : { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض } على تقدير الحكم لو كنتم فيها ،
{ والأرض فانفذوا } وقال ابن زيد ، والفراء : التقدير : ولا من في السماء ، أي يعجز إن عصى.
وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وأنشد قول حسان :
فمن يهجو رسول الله منكم . . .
ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن ينصره ، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر ، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته.
وأبعد من هذا القول قول من زعم أن التقدير : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجنّ ، ولا من في السماء من الملائكة ، فكيف تعجزون الله؟ وقرأ الجمهور : { يئسوا } ، بالهمز؛ والذماري ، وأبو جعفر : بغير همز ، بل بياء بدل الهمزة ، وهو وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة.
وقيل : { من رحمتي }.
وقيل : من ديني ، فلا أهديهم.
وقيل : هو وصف بحالهم ، لأن المؤمن يكون دائماً راجياً خائفاً ، والكافر لا يخطر بباله ذلك.
شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة.
والظاهر أن قول : { وإن تكذبوا } ، من كلام الله ، حكاية عن إبراهيم ، إلى قوله : { عذاب أليم }.
وقيل : هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه ، أي وإن تكذبوا محمداً ، فتقدير هذه الجملة اعتراضاً يردّ على أبي علي الفارسي ، حيث زعم أن الأعتراض لا يكون جملتين فأكثر ، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي ، من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله.
وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد.
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
لما أمرهم بعبادة الله ، وبين سفههم في عبادة الأوثان ، وظهرت حجته عليهم ، رجعوا إلى الغلبة ، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم : { اقتلوه أو حرّقوه }.
والآمرون بذلك ، إما بعضهم لبعض ، أو كبراؤهم قالوا لأتباعهم : اقتلوه ، فتستريحوا منه عاجلاً ، أو حرّقوه بالنار؛ فإما أن يرجع إلى دينكم ، إذا أمضته النار؛ وإما أن يموت بها ، إن أصر على قوله ودينه.
وفي الكلام حذف ، أي حرّقوه في النار ، { فأنجاه الله من النار }.
وتقدمت قصته في تحريقه في سورة { اقترب للناس حسابهم } وجمع هنا فقال : الآيات ، لأن الإنجاء من النار ، وجعلها برداً وسلاماً ، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم ، وإن صح ما نقل من أن مكانها ، حالة الرمي ، صار بستاناً يانعاً ، هو مجموع آيات ، فناسب الجمع ، بخلاف الإنجاء من السفينة ، فإنه آية واحدة ، وتقدم الكلام على ذلك ، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه؛ فيما قال كعب : لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به.
وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه ، فقد يكون ذلك من قائلين : ناس أشاروا بالقتل ، وناس أشاروا بالإحراق.
وفي اقترب قالوا : { حرقوه } اقتصروا على أحد الشيئين ، وهو الذي فعلوه ، رموه في النار ولم يقتلوه.
وقرأ الجمهور : { جواب } ، بالنصب؛ والحسن ، وسالم الأفطس : بالرفع ، اسماً لكان.
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، والأعمش عن أبي بكر : مودة بالرفع ، وبينكم بالنصب.
فالرفع على خبر إن ، وما موصولة بمعنى الذي ، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودوداً ، أو سبب مودة ، أو مصدرية ، أي إن اتخاذكم أوثاناً مودة ، أو على خبر مبتدأ محذوف ، أي هي مودة بينكم ، وما إذ ذاك مهيئة.
وروي عن عاصم : مودة ، بالرفع من غير تنوين؛ وبينكم بالفتح ، أي بفتح النون ، جعله مبنياً لإضافته إلى مبني ، وهو موضع خفض بالإضافة ، ولذلك سقط التنوين من مودة.
وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وابن كثير : كذلك ، إلا أنه خفض نون بينكم.
وقرأ ابن عامر ، وعاصم : بنصب مودة منوناً ونصب بينكم؛ وحمزة كذلك ، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض ، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة.
واتخذ ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين ، والثاني هو مودة ، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم ، على حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودّة بينكم ، كقوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } أو مما تعدت إلى واحد ، وانتصب مودة على أنه مفعول له ، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها ، كما يجتمع ناس على مذهب ، فيقع التحاب بينهم.
وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف ، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض ، فلذلك لم أذكر تلك القراءة.
{ ثم يوم القيامة } يقع بينكم التلاعن ، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام ، كقوله : و { يكونون عليهم ضداً } و { بينكم } ، و { في الحياة } : يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما ، إذ هما ظرفا مكان وزمان ، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين ، فيكونان في موضع الصفة ، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم.
وأجاز أبو البقاء أن يتعلق { في الحياة }.
باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة ، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية ورفع موده ، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر.
وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق { في الحياة } بمودة ، وأن يكون { بينكم } صفة لمودة ، وهو لا يجوز ، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل ، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف ، بخلاف المفعول به.
وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم ، قال : لأن معناه : اجتماعكم أو وصلكم.
وأجاز أيضاً أن يجعله حالاً من بينكم ، قال : لتعرفه بالإضافة.
انتهى ، وهما إعرابان لا يتعقلان.
{ فآمن له لوط } : لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام ، حين رأى النار لم تحرقه ، وكان ابن أخي سارة ، أو كانت بنت عمه.
والضمير في { وقال } عائد على إبراهيم ، وهو الظاهر ، ليتناسق مع قوله : { ووهبنا له إسحاق } ، وهو قول قتادة والنخعي.
وقالت فرقة : يعود على لوط ، وهاجر ، وإبراهيم ، عليهم السلام ، من قريتهما كوثى ، وهي في سواد العراق ، من أرض بابل ، إلى فلسطين من أرض الشأم.
وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة ، وهو أول من هاجر في الله.
وقال ابن جريج : هاجر إلى حران ، ثم إلى الشام ، وفي هجرته هذه كانت معه سارة.
والمهاجر : الفارغ عن الشيء ، وهو في عرف الشريعة : من ترك وطنه رغبة في رضا الله.
وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المهاجرون ، قبل فتح مكة.
{ إلى ربي } ، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها.
وقيل : إلى حيث لا أمنع عبادة ربي.
وقيل : مهاجراً من خالفني من قومي ، متقرباً إلى ربي.
ونزل إبراهيم قرية من أرض فلسطين ، وترك لوطاً في سدوم ، وهي المؤتفكة ، على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام.
{ أنه هو العزيز } الذي لا يذل من عبده ، { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها.
والضمير في { ذريته } عائد على إبراهيم.
{ النبوة } : إسحاق ، ويعقوب ، وأنبياء بني إسرائيل ، وإسماعيل ، ومحمد خاتمهم ، صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
{ والكتاب } : اسم جنس يدخل فيه التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، والفرقان.
{ وآتيناه أجره في الدنيا } : أي في حياته قال مجاهد : نجاته من النار ، ومن الملك الجبار ، والعمل الصالح : والثناء الحسن ، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج : والولد الذي قرت به عينه ، قاله الحسن.
وقال السدي : إنه رأى مكانه من الجنة.
وقال ابن أبي بردة : ما وفق له من عمل الآخرة.
وقال الماوردي : بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لنبي غيره.
وقيل : النبوة والحكمة.
وقيل : الصلاة عليه إلى آخر الدهر.
وانتصب لوطاً بإضمار اذكر ، أو بالعطف على إبراهيم ، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم.
والجمهور : على الاستفهام في أئنكم معاً.
وقرىء : أنكم على الخبر ، والثاني على الاستفهام.
وقال أبو عبيد : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين ، الياء والنون.
ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة الله ، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب ، لأن لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه ، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة الله وتوحيده ، واشتهر أمره بذلك عند الخلق ، فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها.
وأما أبراهيم وشعيب فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله ، فلذلك دعوا إلى عبادة الله.
قال الزمخشري : { ما سبقكم بها } جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم ، قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط. انتهى.
ويظهر أن { ما سبقكم بها } جملة حالية ، كأنه قال : أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها؟ واستفهم أولاً وثانياً استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله : { إنكم لتأتون الفاحشة } ، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله : { ما سبقكم بها } ، فقال : { أئنكم لتأتون الرجال } : يعني في الأدبار ، { وتقطعون السبيل } : الولد ، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال ، أو بإمساك الغرباء لذلك الفعل حتى انقطعت الطرق ، أو بالقتل وأخذ المال ، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في التجارات.
{ وتأتون في ناديكم } : أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس ، إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة ، ولا يسمى نادياً إلاّ ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه ، لم يطلق عليه ناد إلاّ مجازاً.
و { المنكر } : ما تنكره العقول والشرائع والمروءات ، حذف الناس بالحصباء ، والاستخفاف بالغريب الخاطر ، وروت أم هانىء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً ، قاله منصور ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد؛ أو تضارطهم؛ أو تصافعهم فيها ، قاله ابن عباس؛ أو لعب الحمام؛ أو تطريف الأصابع بالحناء ، والصفير ، والحذف ، ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، قاله مجاهد أيضاً ، أو الحذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح ، قاله ابن عباس أيضاً مع شركهم بالله.
كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة ، تظالم فيما بينهم ، وبشاعة ، ومضاريط في مجالسهم ، وحذف ، ولعب بالنرد والشطرنج ، ولبس المصبغات ، ولباس النساء للرجال ، والمكوس على كل عابر؛ وهم أول من لاط ومن ساحق.
ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح ، أصروا على اللجاج في التكذيب ، فكان جوابهم له : { أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } ، فيما تعدنا به من نزول العذاب ، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به.
وفي آية أخرى : { إلاّ أن قالوا أخرجوا آل لوط } ، الجمع بينهما أنهم أولاً قالوا : { ائتنا بعذاب الله } ، ثم أنه كثر منه الإنكار ، وتكرر ذلك منه نهياً ووعظاً ووعيداً ، { قالوا أخرجوا آل لوط }.
ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي ، ويعد على ذلك بالعذاب ، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه ، { قالوا ائتنا بعذاب الله } ، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم : { اقتلوه أو حرّقوه } ، لأنه كان لا يذم آلهتهم ، وعهد إلى أصنامهم فكسرها ، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه ، فكان جوابهم له : { أن قالوا اقتلوه أو حرقوه }.
ثم استنصر لوط عليه السلام ، فبعث ملائكة لعذابهم ، ورجمهم بالحاصب ، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعاً وكرهاً ، وخصوصاً تلك المعصية المبتدعة.
{ بالبشرى } : هي بشارته بولده إسحاق ، وبنافلته يعقوب ، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم ، و { القرية } : سدوم ، وفيها قيل : أَجْوَر من قاضي سدوم.
{ كانوا ظالمين } : أي قد سبق منهم الظلم.
واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون ، وظلمهم : كفرهم وأنواع معاصيهم.
ولما ذكروا لإبراهيم : { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } ، أشفق على لوط فقال : { إن فيها لوطاً }.
ولما عللوا الإهلاك بالظلم ، قال لهم : فيها من هو بريء من الظلم ، { قالوا نحن أعلم بمن فيها } : أي منك ، وأخبر بحاله.
ثم أخبروه بإنجائهم إياه { وأهله إلاّ امرأته }.
وقرأ حمزة ، والكسائي : { لننجينه } ، مضارع أنجى؛ وباقي السبعة : مضارع نجى؛ والجمهور : بشد النون؛ وفرقة : بتخفيفها.
{ ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلاّ أن هنا زيدت ، أن بعد لما ، وهو قياس مطرد.
وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما ، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : لما أحس بمجيئهم ، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه. انتهى.
وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه ، إذ مذهبه.
أن لما : حرف لا ظرف ، خلافاً للفارسي ، وهذا مذكور في علم النحو.
وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : { منجوك } ، مشدداً؛ وباقي السبعة : مخففاً ، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر.
{ وأهلك } : منصوب على إضمار فعل ، أي وننجي أهلك.
ومن راعى هذا الموضع ، عطفه على موضع الكاف ، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب ، وأهلك معطوف عليه ، لأن هذه النون كالتنوين ، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله.
وقرأ الجمهور : سيء ، بكسر السين؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي.
وقرأ عيسى ، وطلحة : سوء ، بضمها ، وهي لغة بني هذيل.
وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما : قول وبوع.
وقرىء : منزلون ، مخففاً ومشدداً؛ وابن محيصن : رجزاً ، بضم الراء؛ وأبو حيوة والأعمش : بكسر سين يفسقون.
والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية ، فقال ابن عباس : منازلهم الخربة.
وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم ، إلا أن أساسها أعلاها ، وسقوفها أسفلها إلى الآن.
وقال الفراء : المعنى تركناها آية ، يقول : إن في السماء لآية ، يريد أنها آية.
انتهى ، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب ، نحو قوله : أمهرت منها جبة وتيساً ، يريد : أمهرتها؛ وكذلك : ولقد تركناها آية ، وقيل : الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم ، فقيل : الآية : الحجارة التي أدركتها أوائل هذه الأمة ، قاله قتادة؛ وقيل : الماء الاسود على وجه الأرض ، قاله مجاهد؛ وقيل : أنجز ما صنع بهم.
و { لقوم } : متعلق بتركنا ، أو بينة.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{ وإلى مدين } : أي وإلى مدين أرسلنا ، أو بعثنا ، مما يتعدى بإلى.
أمرهم بعبادة الله ، والإيمان بالبعث واليوم الآخر.
والأمر بالرجاء ، أمر بفعل ما يترتب الرجاء عليه ، أقام المسبب مقام السبب.
والمعنى : وافعلوا ما ترجون به الثواب من الله ، أو يكون أمراً بالرجاء على تقدير تحصيل شرطه ، وهو الإيمان بالله.
وقال أبو عبيدة : { وارجوا } : خافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله منكم إن لم تعبدوه.
وتضمن الأمر بالعبادة والرجاء أنه إن لم يفعلوا ذلك ، وقع بهم العذاب؛ كذلك جاء : { فكذبوه } ، وجاءت ثمرة التكذيب ، وهي : { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } ، وتقدم تفسير مثل هذه الجمل.
وانتصب { وعاداً وثموداً } بإضمار أهلكنا ، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه.
وقيل : بالعطف على الضمير في فأخذتهم ، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله : { ولقد فتنا الذين من قبلهم }.
وقرأ : ثمود ، بغير تنوين؛ حمزة ، وشيبة ، والحسن ، وحفص ، وباقي السبعة : بالتنوين.
وقرأ ابن وثاب : وعاد وثمود ، بالخفض فيهما ، والتنوين عطفاً على مدين ، أي وأرسلنا إلى عاد وثمود.
{ وقد تبين لكم } : أي ذلك ، أي ما وصف لكم من إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم لها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم.
وقرأ الأعمش : مساكنهم ، بالرفع من غير من ، فيكون فاعلاً بتبين.
{ وزين لهم الشيطان } : أي بوسوسته وإغوائه ، { أعمالهم } القبيحة.
{ فصدهم عن سبيل الله } ؛ وهي طريق الإيمان بالله ورسله.
{ وكانوا مستبصرين } : أي في كفرهم لهم به بصر وإعجاب قاله ، ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك.
وقيل : عقلاء ، يعلمون أن الرسالة والآيات حق ، ولكنهم كفروا عناداً ، وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم.
{ وقارون } : معطوف على ما قبله ، أو منصوب بإضمار اذكر.
{ فاستكبروا } : أي عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض ، إشارة إلى قلة عقولهم ، لأن من في الأرض يشعر بالضعف ، ومن في السماء يشعر بالقوة ، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله ، فكيف من في الأرض؟ { وما كانوا سابقين } الأمم إلى الكفر ، أي تلك عادة الأمم مع رسلهم.
والحاصب لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصا ، وقيل : ملك كان يرميهم.
والصيحة لمدين وثمود ، والخسف لقارون ، والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه.
وقال ابن عطية : ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب ، لأن تلك الريح لا بد كانت تحصبهم بأمور مؤذية ، والحاصب : هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء ، ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشأم تضربهم . . .
بحاصب كنديف القطن منثور
ومنه قول الأخطل :
ترمي العضاة بحاصب من بلحها . . .
حتى تبيت على العضاة حفالا
{ العنكبوت } : حيوان معروف ، ووزنه فعللوت ، ويؤنث ويذكر ، فمن تذكيره قول الشاعر :
على هطالهم منهم بيوت . . .
كأن العنكبوت هو ابتناها
ويجمع عناكب ، ويصغر عنيكيب.
يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام ، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد ، وأمرها كله ضعيف ، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته ، فكذلك أمر أولئك ، وسعيهم مضمحل ، لا قوة له ولا معتمد.
وقال الزمخشري : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم ، وتولوه من دون الله ، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة ، وهو نسج العنكبوت.
ألا ترى إلى مقطع التشبيه ، وهو قوله : { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } ؟ انتهى.
يعني بقوله : ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولاً من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت ، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت؟ والذي يظهر ، هو تشبيه المتخذ من دون الله ولياً ، بالعنكبوت المتخذة بيتاً ، أي فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله ، كما أن العنكبوت لا اعتماد لها على بيتها في استظلال وسكنى ، بل لو دخلت فيه خرقته.
ثم بين حال بيتها ، وأنه في غاية الوهن ، بحيث لا ينتفع به.
كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئاً ألبتة ، وقوله : { لو كانوا يعلمون } ، ليس مرتبطاً بقوله : { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } ، لأن كل أحد يعلم ذلك ، فلا يقال فيه : لو كانوا يعلمون؛ وإنما المعنى : لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه ، وما اتخذوا الأصنام آلهة.
وقال الزمخشري : إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان ، لو كانوا يعلمون؛ أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، وكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون.
ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن ، بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل بنى بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر.
فكما أن أوهن البيوت ، إذا استقريتها بيتاً بيتاً ، بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان ، إذا استقريتها ديناً ديناً ، عبادة الأوثان ، لو كانوا يعلمون. انتهى.
وما ذكره من قوله : ولقائل أن يقول إلخ.
لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل للفظ ما لا يحتمله ، كعادته في كثير من تفسيره.
وقرأ أبو عمرو ، وسلام : يعلم ما ، بالإدغام؛ والجمهور : بالفك؛ والجمهور : تدعون ، بتاء الخطاب؛ وأبو عمرو ، وعاصم : بخلاف ، بياء الغيبة؛ وجوزوا في ما أن يكون مفعولاً بيدعون ، أي يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء ، أي يعلم حالهم ، وأنهم لا قدرة لهم.
وأن تكون نافية ، أي لستم تدعون من دونه شيئاً له بال ولا قدر ، فيصلح أن يسمى شيئاً ، وأن يكون استفهاماً ، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من يعلم ، واعتراض بين يعلم وبين قوله : { وهو العزيز الحكيم }.
وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاماً منصوباً بيدعون ، ويعلم معلقة؛ فالجملة في موضع نصب بها ، والمعنى : أن الله يعلم أوثاناً تدعون من دونه ، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك.
والجملة تأكيد للمثل ، وإذا كانت ما نافية ، كان في الجملة زيادة على المثل ، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئاً.
{ وهو العزيز الحكيم } : فيه تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا لحكمة.
{ وما يعقلها إلا العالمون } : أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها.
وكان جهلة قريش يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، وما علموا أن الأمثال والتشبيهات طرق إلى المعاني المحتجبة ، فتبرزها وتصورها للفهم ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.
والإشارة بقوله : { وتلك الأمثال } إلى هذا المثل ، وما تقدم من الأمثال في السور.
وعن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلا هذه الآية فقال : " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " { خلق السموات والأرض } : فيه تنبيه على صغر قدر الأوثان التي عبدوها.
ومعنى { بالحق } : بالواجب الثابت ، لا بالعبث واللعب ، إذ جعلها مساكن عباده ، وعبرة ودلائل على عظيم قدرته وباهر حكمته.
والظاهر أن الصلاة هي المعهود ، والمعنى : من شأنها أنها إذا أدّيت على ما يجب من فروضها وسننها والخشوع فيها ، والتدبر لما يتلو فيها ، وتقدير المثول بين يدي الله تعالى ، أن { تنهى عن الفحشاء والمنكر }.
وقال ابن عباس ، والكلبي ، وابن جريج ، وحماد بن أبي سليمان : تنهى ما دام المصلي فيها.
وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن.
وقال ابن بحر : الصلاة : الدعاء ، أي أقم الدعاء إلى أمر الله ، وأما من تراه من المصلين يتعاطى المعاصي ، فإن صلاته تلك ليست بالوصف الذي تقدم.
وفي الحديث " أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ارتكبه ، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : «إن صلاتها تنهاه».
فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألم أقل لكم؟» " ولا يدل اللفظ على أن كل صلاة تنهى ، بل المعنى ، أنه يوجد ذلك فيها ، ولا يكون على العموم.
كما تقول : فلان يأمر بالمعروف ، أي من شأنه ذلك ، ولا يلزم منه أن كل معروف يأمر به.
والظاهر أن { أكبر } أفعل تفضيل.
فقال عبد الله ، وسلمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وأبو قرة : معناه ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
وقال قتادة ، وابن زيد : أكبر من كل شيء؛ وقيل : ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة ، أي أكبر ثواباً؛ وقيل : أكبر من سائر أركان الصلاة؛ وقيل : ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة؛ وقيل : أكبر من كل العبادة.
وقال ابن عطية : وعندي أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، والجزء الذي منه في الصلاة ينهى ، كما ينهى في غير الصلاة ، لأن الانتهاء لا يكون إلاّ من ذاكر الله مراقبه ، وثواب ذلك الذاكر أن يذكره الله في ملأ خير من ملائه ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في النهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله.
وأما ما لا يجاوز اللسان ففي رتبة أخرى.
وقال الزمخشري : يريد والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، كما قال : { فاسعوا إلى ذكر الله } وإنما قال : { ولذكر الله } ، لتستقل بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر ، لأنها ذكر الله مما تصنعون من الخير والشر فيجازيكم ، وفيه وعيد وحث على المراقبة.
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
و { أهل الكتاب } : اليهود والنصارى.
{ إلا بالتي هي أحسن } : من الملاطفة في الدعاء إلى الله والتنبيه على آياته.
{ إلا الذين ظلموا } : ممن لم يؤد جزية ونصب الحرب ، وصرح بأن لله ولداً أو شريكاً ، أو يده مغلولة؛ فالآية منسوخة في مهادنة من لم يحارب ، قاله مجاهد ومؤمنو أهل الكتاب.
{ إلا بالتي هي أحسن } : أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم.
{ إلا الذين ظلموا } : من بقي منهم على كفره ، وعد لقريظة والنضير ، قاله ابن زيد ، والآية على هذا محكمة.
وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة : الآية منسوخة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون } الآية.
وقرأ الجمهور : إلا ، حرف استثناء؛ وابن عباس : ألا ، حرف تنبيه واستفتاح ، وتقديره : ألا جادلوهم بالتي هي أحسن.
{ وقولوا آمنا } : هذا من المجادلة بالأحسن.
{ بالذي أنزل إلينا } ، وهو القرآن ، { وأنزل إليكم } ، وهو التوراة والزبور والإنجيل.
وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم » { وكذلك } : أي مثل ذلك الإنزال الذي للكتب السابقة ، { أنزلنا إليك الكتاب } : أي القرآن.
{ فالذين آتيناهم الكتاب } هم : عبد الله بن سلام ومن آمن معه.
{ ومن هؤلاء } : أي من أهل مكة.
وقيل : { فالذين آتيناهم الكتاب } : أي الذين تقدموا عهد الرسول ، يؤمنون به : أي بالقرآن ، إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ ومن هؤلاء } : أي ممن في عهده منهم.
{ وما يجحد بآياتنا } ، مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، { إلا الكافرون } : أي من بني إسرائيل وغيرهم.
قال مجاهد : كان أهل الكتاب يقرأون في كتبهم أن محمداً عليه السلام ، لا يخط ولا يقرأ كتاباً ، فنزلت : { وما كنت تتلوا من قبله } : أي من قبل نزوله عليك ، { من كتاب } : أي كتاباً ، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي ، { ولا تخطه } : أي لا تقرأ ولا تكتب ، { بيمينك } : وهي الجارحة التي يكتب بها ، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة ، لما ذكر إنزال الكتاب عليه ، متضمناً من البلاغة والفصاحة والإخبار عن الأمم السابقة والأمور المغيبة ما أعجز البشر أن يأتوا بسورة مثله.
أخذ يحقق ، كونه نازلاً من عند الله ، بأنه ظهر عن رجل أمي ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يخالط أهل العلم.
وظهور هذا القرآن المنزل عليه أعظم دليل على صدقه ، وأكثر المسلمين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب قط ، ولم يقرأ بالنظر في كتاب.
وروي عن الشعبي أنه قال : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كتب وأسند النقاش.
حديث أبي كبشة السلولي : أنه صلى الله عليه وسلم ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حصن وأخبر بمعناها.
وفي صحيح مسلم ما ظاهره : أنه كتب مباشرة ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة ، منهم أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي ، والقاضي أبو الوليد الباجي وغيرهما.
واشتد نكير كثير من علماء بلادنا على أبي الوليد الباجي ، حتى كان بعضهم يسبه ويطعن فيه على المنبر.
وتأول أكثر العلماء ما ورد من أنه كتب على أن معناه : أمر بالكتابة ، كما تقول : كتب السلطان لفلان بكذا ، أي أمر بالكتب.
{ إذاً لارتاب المبطلون } : أي لو كان يقرأ كتباً قبل نزول القرآن عليه ، أو يكتب ، لحصلت الريبة للمبطلين ، إذ كانوا يقولون : حصل ذلك الذي يتلوه مما قرأه ، قيل : وخطه واستحفظه؛ فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة ، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده.
والمبطلون : أهل الكتاب ، قاله قتادة؛ أو كفار قريش ، قاله مجاهد.
وسموا مبطلين ، لأنهم كفروا به ، وهو أمي بعيد من الريب.
ولما لم يكن قارئاً ولا كاتباً ، كان ارتيابهم لا وجه له.
{ بل هو } : أي القرآن : { آيات بينات } : واضحات الإعجاز ، { في صدور الذين أوتوا العلم } : أي مستقرة ، مؤمن من بها ، محفوظة في صدورهم ، يتلوها أكثر الأمة ظاهراً ، بخلاف غيره من الكتب ، فليس بمعجز ، ولا يقرأ إلا من الصحف.
وجاء في صفة هذه الأمة صدورهم : أنا جيلهم ، وكونه القرآن ، يؤيده قراءة عبد الله ، بل هي آيات.
وقيل : بل هو ، أي النبي وأموره ، آيات بينات ، قاله قتادة.
وقرأ : بل هو آية بينة على التوحيد؛ وقيل : بل هو ، أي كونه لا يقرأ ولا يكتب.
ويقال : جحدته وجحدت به ، وكفرته وكفرت به ، قيل : والجحود الأول معلق بالواحدنية ، والثاني معلق بالنبوّة ، وختمت تلك بالكافر.
ولأنه قسيم المؤمنين في قوله : { يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن } ، وهذه بالظالمين ، لأنه جحد بعد إقامة الدليل على كون الرسول صدر منه القرآن منزل عليه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فهم الظالمون بعد ظهور المعجزة.
{ وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه } : أي قريش ، وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشاً مثل هذا الاقتراح يقولون له : ألا يأتيكم بآية مثل آيات موسى من العصا وغيرها؟ وقرأ العربيان ، ونافع ، وحفص : آيات ، على الجمع؛ وباقي السبعة : على التوحيد.
{ قل إنما الآيات عند الله } ، ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل.
{ وإنما أنا نذير } بما أعطيت من الآيات.
وذكر يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : « كفر بها جماعة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم »
، فنزلت : { أو لم يكفهم }.
والذي يظهر أنه رد على الذين قالوا : { لولا أنزل عليه آية من ربه } : أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات ، إن كانوا طالبين للحق ، غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان؟ فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل ، كما تزول كل آية بعد وجودها ، ويكون في مكان دون مكان.
إن في هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان لرحمة لنعمة عظيمة لا تنكر وتذكر.
وقيل : { أو لم يكفهم } : يعني اليهود ، { إنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك ، وروي أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد! من يشهد بأنك رسول الله؟ فنزلت : { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } : أي قد بلغت وأنذرت ، وأنكم جحدتم وكذبتم ، وهو العالم { ما في السموات والأرض } ، فيعلم أمري وأمركم ، { والذين آمنوا بالباطل }.
قال ابن عباس : بغير الله.
وقال مقاتل : بعبادة الشيطان.
وقيل : بالضم.
{ ويستعجلونك } : أي كفار قريش في قولهم : { ائتنا بما تعدنا } وقول النضر : { فأمطر علينا حجارة } وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول.
والأجل المسمى : ما سماه الله وأثبته في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره.
وقال ابن جبير : يوم القيامة.
وقال ابن سلام : أجل ما بين النفختين ، وقيل : يوم بدر.
{ وليأتينهم بغتة } : أي فجأة ، وهو ما ظهر يوم بدر ، وفي السنين السبع.
ثم كرر فعلهم وقبحه ، وأخبر أن وراءهم جهنم ، تحيط بهم.
وانتصب { يوم يغشاهم } بمحيطة.
وقرأ الكوفيون ، ونافع : { ويقول } : أي الله؛ وباقي السبعة : بالنون ، نون العظمة ، أو نون جماعة الملائكة؛ وأبو البرهثيم : بالتاء ، أي جهنم؛ كما نسب القول إليها في : { وتقول هل من مزيد } وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة : ويقال ، مبنياً للمفعول.
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله : { يا عبادي } الآية ، نزلت فيمن كان مقيماً بمكة؛ أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة ، أي جانبوا أهل الشرك ، واطلبوا أهل الإيمان.
وقال أبو العالية : سافروا لطلب أوليائه.
وقال ابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، ومالك بن أنس : الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية ، ويلزم الهجرة عنها إلى بلد حق.
وقال مطرف بن الشخير : { إن أرضي واسعة } عدة بسعة الرزق في جميع الأرض.
وقيل : أرض الجنة واسعة أعطيكم.
وقال مجاهد : سافروا لجهاد أعدائه.
{ فإياي فاعبدون } ، من باب الاشتغال : أي فإياي اعبدوا فاعبدون.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الفاء في فاعبدون ، وتقدم المفعول؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض ، فاخلصوها في غيرها.
ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. انتهى.
ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل.
ولما أخبر تعالى بسعة أرضه ، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة ، وأمر بعبادته ، فكأن قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام ، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه ، وربما أدى ذلك إلى هلاكه.
أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه ، وتموت في أي مكان حل ، وأن رجوع الجمع إلى أجزائه يوم القيامة.
وقرأ علي : { ترجعون } ، مبنياً للفاعل؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، بتاء الخطاب.
وروي عن عاصم : بياء الغيبة.
وقرأ أبو حيوة : { ذائقة } ، بالتنوين؛ { الموت } : بالنصب.
وقرأ : { لنبوئنهم } ، من المباءة.
وقرأ علي ، وعبد الله ، والربيع بن خيثم ، وابن وثاب ، وطلحة ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : من الثواء؛ وبوّأ يتعدى لاثنين.
قال تعالى : { تبوؤا المؤمنين مقاعد للقتال } ، وقد جاء متعدياً باللام.
قال تعالى : { وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت } والمعنى : ليجعلنّ لهم مكان مباءة ، أي مرجعاً يأوون إليه.
{ غرفاً } : أي علالي ، وأما ثوى فمعناه : أقام ، وهو فعل لازم ، فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد ، وقد قرىء مشدداً عدى بالتضعيف ، فانتصب غرفاً ، إما على إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ، فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل.
وروي عن ابن عامر : غرفاً ، بضم الراء.
وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء؛ والجمهور : بغير فاء.
{ الذين صبروا } : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي.
{ وعلى ربهم يتوكلون } : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى.
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا : غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم.
فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّى في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في إدخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر.
والإدخار جاء في حديث : « كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين؟ » قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى.
وقال الحسن : { لا تحمل رزقها } : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها الله.
وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال : للعقعق مخابىء ، إلا أنه ينساها.
وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها.
{ وإياكم } : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو الله ، { وهو السميع } لقولكم : نخشى الفقر ، { العليم } بما انطوت عليه ضمائركم.
ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله.
وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال : { الله يبسط الرزق لمن يشاء } أن يبسطه ، { ويقدر } لمن يشاء أن يقدره.
والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت.
ويجوز أن يكون الضمير عائداً عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير : { وما يعمر من معمر ، ولا ينقص من عمره } أي من عمر معمر آخر.
وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق.
وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، { عليم } : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
ولما أخبر بأنهم مقرون بأن موجد العالم ، ومسخر النيرين ، ومحيي الأرض بعد موتها هو الله ، كان ذلك الإقرار ملزماً لهم أن رازق العباد إنما الله هو المتكفل به.
وأمر رسوله بالحمد له تعالى ، لأن في إقرارهم توحيد الله بالإبداع ونفي الشركاء عنه في ذلك ، وكان ذلك حجة عليهم ، حيث أسندوا ذلك إلى الله وعبدوا الأصنام.
{ بل أكثرهم لا يعقلون } ، حيث يقرون بالصانع الرازق المحيي ، ويعبدون غيره.
{ وما هذه الحياة الدنيا } : الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا؟ وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة ، أي ما هي في سرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ، إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون.
والحيوان ، والحياة بمعنى واحد ، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر حيي ، والمعنى : لهي دار الحياة ، أي المستمرة التي لا تنقطع.
قال مجاهد : لا موت فيها.
وقيل : الحيوان : الحي ، وكأنه أطلق على الحي اسم المصدر.
وجعلت الدار الآخرة حياً على المبالغة بالوصف بالحياة ، وظهور الواو في الحيوان وفي حيوة ، علم لرجل استدل به من ذهب إلى أن الواو في مثل هذا التركيب تبدل ياء لكسر ما قبلها ، نحو : شقي من الشقوة.
ومن ذهب إلى أن لام الكلمة لامها ياء ، زعم أن ظهور الواو في حيوان وحيوة بدل من ياء شذوذاً ، وجواب لو محذوف ، أي لو كانوا يعلمون ، لم يؤثروا دار الفناء عليها.
وجاء بنا مصدر حي على فعلان ، لأنه يدل على الحركة والاضطراب ، كالغليان ، والنزوان ، واللهيان ، والجولان ، والطوفان.
والحي : كثير الاضطراب والحركة ، فهذا البناء فيه لكثرة الحركة.
ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله إذا سئلوا : من خلق العالم؟ { ومن نزل من السماء ماء } ؟ ذكر أيضاً حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله ، ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد ، وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه.
وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : { فإذا ركبوا في الفلك } ؟ قلت : بمحذوف دل عليه ما وصفهم به ، وشرح من أمرهم معناه على ما وصفوا به من الشرك والعناد.
{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } : كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون مع الله آخر.
وفي المخلصين ضرب من التهكم ، و { إذا هم يشركون } : جواب لما ، أي فاجأ السحية إشراكهم بالله ، أي لم يتأخر عنها ولا وقتاً.
والظاهر في { ليكفروا } أنها لام كي ، وعطف عليه { وليتمتعوا } في قراءة من كسر اللام وهم : العربيان ونافع وعاصم ، والمعنى : عادوا إلى شركهم.
{ ليكفروا } : أي الحامل لهم على الشرك هو كفرهم بما أعطاهم الله تعالى ، وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا ، بخلاف المؤمنين ، فإنهم إذا نجوا من مثل تلك الشدة ، كان ذلك جالب شكر الله تعالى ، وطاعة له مزدادة.
وقيل : اللام في : { ليكفروا } ، { وليتمتعوا } ، لام الأمر ، ويؤيده قراءة من سكن لام وليتمتعوا وهم : ابن كثير ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي؛ وهذا الأمر على سبيل التهديد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر ، وبأن يعمل العصاة ما شاؤا ، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتحلية ، وإن ذلك الأمر مسخط إلى غاية. انتهى.
والتحلية والخذلان من ألفاظ المعتزلة.
وقرأ ابن مسعود : فتمتعوا فسوف تعلمون ، بالتاء فيهما : أي قيل لهم تمتعوا فسوف تعلمون ، وكذا في مصحف أبيّ.
وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنياً للمفعول.
ومن قرأ : وليتمتعوا ، بسكون اللام ، وكان عنده اللام في : ليكفروا ، لام كي ، فالواو عاطفة كلاماً على كلام ، لا عاطفة فعلا على فعل.
وحكى ابن عطية ، عن ابن مسعود : لسوف تعلمون ، باللام ، ثم ذكرهم تعالى بنعمه ، حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها ، لا يغزوهم أحد ولا يستلب منهم ، مع كونهم قليلي العدد ، قارين في مكان لا زرع فيه ، وهذه من أعظم النعمة التي كفروها ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور : { يؤمنون } ، و { يكفرون } ، بالياء فيهما.
وقرأ السلمي ، والحسن : بتاء الخطاب فيهما.
وافتراؤهم الكذب : زعمهم أن لله شريكاً ، وتكذيبهم بالحق : كفرهم بالرسول والقرآن.
وفي قوله : { لما جاءه } : إشعار بأنهم لم يتوقفوا في تكذيبه وقت مجيء الحق لهم ، بخلاف العاقل ، فإنه إذا بلغه خبر ، نظر فيه وفكر حتى يبين له أصدق هو أم كذب.
وأليس تقرير لمقامهم في جهنم كقوله :
ألستم خير من ركب المطايا . . .
و { للكافرين } من وضع الظاهر موضع المضمر : أي مثواهم.
{ والذين جاهدوا فينا } : أطلق المجاهدة ، ولم يقيدها بمتعلق ، ليتناول المجاهدة في النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين ، وما ورد من أقوال العلماء ، فالمقصود بها المثال.
قال ابن عباس : جاهدوا أهواءهم في طاعة الله وشكر آلائه والصبر على بلائه.
{ لنهدينهم سبلنا } : لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير ، كقوله : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال السدي : جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان ، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة.
وقال أبو سليمان الداراني : جاهدوا فيما علموا ، لنهدينهم إلى ما لم يعلموا.
وقيل : جاهدوا في الغزو ، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة.
وقال ابن عباس : المحسنين الموحدين.
وقال غيره : المجاهدون.
وقال عبد الله بن المبارك : من اعتاصت عليه مسألة ، فليسأل أهل الثغور عنها ، كقوله تعالى : { لنهدينهم سبلنا }.
{ والذين } : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه : وهو لنهدينهم وبهذا ، ونظيره ردّ على أبي العباس ثعلب في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبراً للمبتدأ ، ونظيره : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوّأنهم }.
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
هذه السورة مكية ، قال ابن عطية وغيره ، بلا خلاف.
وقال الزمخشري : إلا قوله : { فسبحان الله }.
وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلى الروم ، وأمر عليهم رجلاً ، واختلف النقلة في اسمه؛ فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى ، وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم.
وقال مجاهد : التقت بالجزيرة.
وقال السدي : بأرض الأردن وفلسطين ، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب ، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب.
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الروم { سيغلبون في بضع سنين }.
ونزلت أوائل الروم ، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة : { الم ، غلبت الروم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين }.
فقال ناس من مشركي قريش : زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان.
فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص ، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال : « هلا اختطبت؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان » فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام.
فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة ، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف.
فلما أراد أبو بكر الهجرة ، طلب منه أبيّ كفيلاً بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن.
فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلاً ومات أبيّ من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم.
وظهر الروم على فارس يوم الحديبية.
وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : « تصدق به ».
وسبب ظهور الروم ، أن كسرى بعث إلى شهريزان ، وهو الذي ولاه على محاربة الروم ، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها ، وهي قوله : لقد رأيتني جالساً على سرير كسرى ، فلم يقتله.
فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان ، وكتب إليه : إذا ولي ، أن يقتل أخاه شهريزان ، فأراد قتله ، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان.
قال : وراجعته في أمرك مراراً ، ثم تقتلني بكتاب واحد؟ فرد الملك إلى أخيه.
وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم ، فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ، وجاء الخبر ، ففرح المسلمون.
وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله.
وقرأ علي ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن : { غلبت الروم } : مبنياً للفاعل ، { سيغلبون } : مبنياً للمفعول؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، سيغلبون : مبنياً للفاعل.
وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشأم ، يعنى : بالريف السواد.
وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى.
فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ، فيكون غلبهم مرتين.
قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح.
وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم.
وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى.
وقوله : وأجمعوا ، ليس كذلك.
ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها؛ والقياس عن ابن عمر : وغلابهم ، على وزن كتاب.
والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقربهما : فإن كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :
تنوّرتها من أذرعات وأهلها . . .
بيثرب أدنى دارها نظر عال
وإن كانت بالجزيرة ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى.
فإن كانت بالاردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم.
وقرأ الكلبي : { في أدنى الأرض } ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين.
ففي غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافاً للمفعول؛ وبالفتح ، يكون مضافاً للفاعل ، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع.
أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : { الم ، غلبت الروم } إلى قوله : { في بضع سنين } ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معيناً زمانه ويومه ، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح ، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم.
وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا ، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله.
{ لله الأمر } : أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد.
وقرأ الجمهور : { من قبل ومن بعد } ، بضمهما : أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها.
ولما كانا مضافين إلى معرفة ، وحذفت بنيا على الضم ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو.
وقرأ أبو السمال ، والجحدري ، وعون العقيلي : من قبل ومن بعد ، بالكسر والتنوين فيهما.
قال الزمخشري : على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه ، كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أولاً وآخراً. انتهى.
وقال ابن عطية : ومن العرب من يقول : من قبل ومن بعد ، بالخفض والتنوين.
قال الفراء : ويجوز ترك التنوين ، فيبقى كما هو في الإضافة ، وإن حذف المضاف. انتهى.
وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده ، وقال الفراء في كتابه : ( في القرآن ) أشياء كثيرة من الغلط ، منها : أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد ، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان ، والمعنى : من متقدم ومن متأخر.
وحكى الكسائي عن بعض بني أسد : لله الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن ، والثاني مضموم بلا تنوين.
والظاهر أن يومئذ ظرف { يفرح المؤمنون } ، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون.
وقيل : { ويومئذ } عطف على : { من قبل ومن بعد } ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر.
و { بنصر الله } : أي الروم على فارس ، أو المسلمين على عدوهم ، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس ، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض ، حتى تفانوا وتناكصوا ، احتمالات.
وفي الحديث : « فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها أبداً ، والروم ذات القرون ، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد ».
وقال ابن عباس : يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران ، وقال معناه أبو سعيد الخدري ، وقيل : ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى ، فسر المسلمون بحرب المشركين ، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن.
وهو { العزيز } بانتقامه من أعدائه ، { الرحيم } لأوليائه.
وانتصب { وعد الله } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت ، وهو قوله : { سيغلبون } ، وقوله : { يفرح المؤمنون }.
{ ولكن أكثر الناس } الكفار من قريش وغيرهم ، { لا يعلمون } : نفي عنهم العلم النافع للآخرة ، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا.
قيل : والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلفه ، وأن ما يورده بعينه ، صلى الله عليه وسلم ، حق.
{ يعلمون ظاهراً } : أي بيناً ، أي ما أدّته إليهم حواسهم ، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم.
وقال ابن عباس ، والحسن ، والجمهور : معناه ما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات ، ونحو هذا.
وقالت فرقة : معناه ذاهباً زائلاً ، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة.
وقال الهذلي :
وعيرها الواشون أني أحبها . . .
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
أي : زائل.
وقال ابن جبير : { ظاهراً } ، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين.
وقال الرماني : كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر ، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن.
وقال الزمخشري : { يعلمون } بدل من قول : { لا يعلمون } ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله : { ظاهراً من الحياة الدنيا } : يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ.
وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا ينفكون عنها.
و { في أنفسهم } : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع.
ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض؛ وأما على أن يكون { في أنفسهم } ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون { في أنفسهم } توكيداً لقوله : { يتفكرون } ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأدنك.
وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر.
والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك.
وقال أيضاً : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فكره.
و { ما خلق الله } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه. انتهى.
والدليل هو قوله : { أو لم يتفكروا }.
وقيل : { أو لم يتفكروا } متصل بما بعده ، ومثله : ثم { يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } ومثله : { وظنوا ما لهم من محيص } فيكون في بمعنى الباء ، ثم { يتفكروا ما بصاحبهم من } ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى.
ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : { ما خلق } إلى آخرها.
و { في أنفسهم } : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد.
و { بالحق } : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب.
ألا ترى إلى قوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى.
وقال ابن عطية : { إلا بالحق } ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك.
{ وأجل } عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة.
ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم.
ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي :
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين.
والمستفيد يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى.
وفي { أو لم يتفكروا } بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولاً ، ثم ارتقى إليه ثانياً.
وفي { سنريهم } أسند إلى المفيد ، فذكر أولاً ، الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعي في { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً } الآية.
بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق.
وقال أيضاً هنا : { وإن كثيراً } ، { وقبل } ، { ولكن أكثر الناس } ، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : { أو لم يتفكروا في أنفسهم } ، و { ما خلق الله }.
والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر.
انتهى ، وفيه تلخيص.
ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل { في أنفسهم } محلاً للتفكر ، وجعل { ما خلق } أيضاً محلاً ثانياً.
{ أو لم يسيروا في الأرض } : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك.
قال مجاهد : { وأثاروا الأرض } : حرثوها.
وقال الفراء : قلبوها للزراعة.
وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه.
وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة.
وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله :
ومن ذم الزمان بمنتزاح . . .
وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن.
وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء.
وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثاراً.
{ وعمروها } : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة.
قال الزمخشري : { أكثر مما عمروها } : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ، ولا عمارة لهم رأساً ، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى.
{ فما كان الله ليظلمهم } : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : { ثم كان عاقبة } بالرفع اسماً لكان ، وخبرها { السوأى } ، أو هو تأنيث الأسوإ ، أفعل من السوء.
{ أن كذبوا } : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر.
{ السوأى } : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم.
ويجوز أن تكون { السوأى } مصدراً على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبراً أيضاً.
ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان { أن كذبوا }.
وقرأ الأعمش والحسن : السوى ، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ : { السوء } بالإدغام في يوسف.
وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير.
وقرأ الكوفيون وابن عامر : { عاقبة } ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ، وكذبوا الاسم.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب.
ووجه آخر ، وهو أن يكون { أساؤا السوأى } بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، { وأن كذبوا } عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام. انتهى.
وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً.
وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ.
وأما قوله : { وأن كذبوا } عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف الخ.
فهذا فهم أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفاً يدل عليه دليل.
وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، إلا إن ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه.
وقرأ عبد الله وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال؛ والجمهور : بفتحها؛ والأبوان : يرجعون ، بياء الغيبة؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه؛ والجمهور : يبلس ، بكسر اللام؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته؛ والجمهور : ولم يكن ، بالياء؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة : بتاء التأنيث.
{ من شركائهم } : من الذين عبدوهم من دون الله ، وهي الأوثان ، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ، وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله.
وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء لله ، كما زعموا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } { وكانوا } معناه : ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه.
وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في { يومئذ } ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي { ويوم تقوم الساعة } ، يوم إذ { يبلس المجرمون }.
والضمير في { يتفرقون } للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه.
قال الزمخشري : ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله : { الله يبدأ الخلق ثم يعيده }.
قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها.
{ في روضة } ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب العرب ، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم.
{ يحبرون } : يسرون.
حبره : سره سروراً ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره.
يحبر بالضم ، حبراً وحبرة وحبوراً ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة.
وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته.
وقال علي بن سليمان : هو من قولهم : على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة.
وقيل : من التحبير ، وهو التحسين ، أي يحسنون.
ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلاً حسن الهيئة.
وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون.
وقال يحيى بن أبي كثير ، والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني.
وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على رؤوسهم.
وقال ابن كيسان : يحلون.
ومعنى { محضرون } : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله : { وما هم بخارجين منها } وجاء في روضة منكراً وفي العذاب معرفاً.
قال الزمخشري : والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة.
وجاء { محضرون } باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لا ذم لهم.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السموات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء.
والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات ، لما يتجدد فيها من النعم.
ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد ، وهو أن يكون ذاكراً ربه ، واصفه بما يجب له على كل حال.
وقال الزمخشري : لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد.
وقيل : المراد هنا بالتسبيح : الصلاة.
فعن ابن عباس وقتادة : المغرب والصبح والعصر والظهر ، وأما العشاء ففي قوله : { وزُلَفاً من الليل } وعن ابن عباس : الخمس ، وجعل { حين تمسون } شاملاً للمغرب والعشاء.
{ وله الحمد في السموات والأرض } : اعتراض بين الوقتين ، ومعناه : أن الحمد واجب على أهل السموات وأهل الأرض ، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية ، لأنه كان يقول : فرضت الخمس بالمدينة.
وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة؛ وفي التحرير ، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية.
وعن ابن عباس : ما ذكرت الخمس إلا فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح ، كما قدم في قول { يولج الليل في النهار } والظلمات على النور ، وقابل بالعشي الإمساء ، وبالإظهار الإصباح ، لأن كلاًّ منهما يعقب بما يقابله؛ فالعشي يعقبه الإمساء ، والإصباح يعقبه الإظهار.
ولما لم يتصرف من العشي فعل ، لا يقال أعشى ، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر ، جاء التركيب { وعشياً }.
وقرأ عكرمة : حيناً تمسون وحيناً تصبحون ، بتنوين حين ، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه.
ولما ذكر الإبداء والإعادة ، ناسب ذكره : { يخرج الحي من الميت } ، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران.
{ وكذلك } : أي مثل ذلك الإخراج ، والمعنى : تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى.
وقرأ الجمهور : { تخرجون } ، بالتاء المضمومة ، مبنياً للمفعول؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش : بفتح تاء الخطاب وضم الراء.
ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان ، آية آية ، إلى حين بعثه من القبر فقال : { ومن آياته أن خلقكم من تراب } : جعل خلقهم من تراب ، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب.
و { تنتشرون } : تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي.
ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب ، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء ، لأنه بارد يابس ، والحياة بالحرارة والرطوبة ، وكذا الروح نير وثقيل ، والروح خفيف وساكن ، والحيوان متحرك إلى الجهات الست ، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام.
{ من أنفسكم } : فيها قولاً { وخلق منها زوجها } إما كون حواء خلقت من ضلع آدم ، وأما من جنسكم ونوعكم.
وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها ، وهو الإلف.
فمتى كان من الجنس ، كان بينهما تألف ، بخلاف الجنسين ، فإنه يكون بينهما التنافر ، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم.
ويقال : سكن إليه : مال ، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول.
{ مودّة ورحمة } : أي بالأزواج ، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد.
وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح ، والرحمة : الولد ، كنى بذلك عنهما.
وقيل : مودّة للشابة ، ورحمة للعجوز.
وقيل : مودة للكبير ، ورحمة للصغير.
وقيل : هما اشتباك الرحم.
وقيل : المودة من الله ، والبغض من الشيطان.
{ واختلاف ألسنتكم } : أي لغاتكم ، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها ، مع اتحاد المدلول ، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات.
وعن وهب : أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً ، في ولد حام سبعة عشر ، وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون.
وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم.
وقال الزمخشري : الألسنة : اللذات وأجناس النطف وأشكاله.
خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله. انتهى.
{ وألوانكم } : السواد والبياض وغيرهما ، والأنواع والضروب بتخطيط الصور ، ولولا ذلك الاختلاف ، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها.
وفيه آية بينة ، حيث فرعوا من أصل واحد ، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم.
وقرأ الجمهور : { للعالمين } ، بفتح اللام ، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم.
وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر ، وعلقمة عن عاصم ، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام ، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم ، كقوله : { وما يعقلها إلا العالمون } والظاهر أن { بالليل والنهار } متعلق { بمنامكم } ، فامتن تعالى بذلك ، لأن النهار قد يقام فيه ، وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل.
{ وابتغاؤكم من فضله } : أي فيهما ، أي في الليل والنهار معاً ، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل ، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم.
وقال الزمخشري : هذا من باب اللف ، وترتيبه : { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم } ، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك ، ويجوز أن يراد { منامكم } في الزمانين ، { وابتغاؤكم من فضله } فيهما.
والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن ، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن.
وقال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا ضعيف ، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار ، ولفظ الآية لا يعطي ذلك.
{ ومن آياته يريكم البرق خوفاً } : إما أن يتعلق من آياته بيريكم ، فيكون في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، أو يكون يريكم على إضمار أن ، كما قال :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى . . .
برفع أحضر ، والتقدير أن أحضر ، فلما حذف أن ، ارتفع الفعل ، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً ، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له ، كما قال الخليل في قول :
أريد لأنسى حبها . . .
أي أرادني لأنسى حبها ، فيكون التقدير في هذين الوجهين : ومن آياته إراءته إياكم البرق ، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ.
وقال الرماني : يحتمل أن يكون التقدير : ومن آياته يريكم البرق بها ، وحذف لدلالة من عليها ، كما قال الشاعر :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما . . .
أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي : فمنهما تارة أموات ، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض.
وانتصب { خوفاً وطمعاً } على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي خائفين وطامعين.
وقيل : مفعول من أجله.
وقال الزجاج : وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع ، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف ، ولا يصح أن يكون العامل يريكم ، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر.
وقال الزمخشري : المفعولون فاعلون في المعنى ، لأنهم راؤون مكانه ، فكأنه قيل : لجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً. انتهى.
وكونه فاعلاً ، قيل : همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها ، على أن المسألة فيها خلاف.
مذهب الجمهور : اشتراط اتحاد الفاعل ، ومن النحويين من لا يشترطه.
ولو قيل : على مذهب من يشترطه.
أن التقدير : يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً ، فحذف العامل للدلالة ، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل.
وقال الضحاك : خوفاً من صواعقه ، وطمعاً في مطره.
وقال قتادة : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم.
وقيل : خوفاً أن يكون خلباً ، وطمعاً أن يكون ماطراً.
وقال الشاعر :
لا يكن برقك برقاً خلباً . . .
إن خير البرق ما العيث معه
وقال ابن سلام : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعاً في المطر أن يحييه.
{ ومن آياته أن تقوم } : أن تثبت وتمسك ، مثل : وإذا أظلم عليهم قاموا : أي ثبتوا بأمره ، أي بإرادته.
وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة جواب الشرط ، والمعنى : أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه ، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه ، كما قال الشاعر :
دعوت كليباً دعوة فكأنما . . .
دعوت قرين الطود أو هو أسرع
قرين الطود : الصدا ، أو الحجران أيد هذا.
والطود : الجبل.
و { الدعوة } : البعث من القبور ، و { من الأرض } يتعلق بدعاكم ، و { دعوة } : أي مرة ، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة.
وقيل : { من الأرض } صفة لدعوة.
وقال ابن عطية : ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية ، كما يقول : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل. انتهى.
وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا.
وعن نافع ويعقوب : أنهما وقفا على دعوة ، وابتدآ من الأرض.
{ إذا أنتم تخرجون } علقاً من الأرض بتخرجون ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه ، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وهو لا يجوز.
وقال الزمخشري : وقوله : { إذا دعاكم } بمنزلة قوله : { يريكم } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور أخرجوا ، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم ، بياناً لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر.
انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي : تخرجون ، بفتح التاء وضم الراء؛ وباقي السبعة : بضمها وفتح الراء.
وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى ، وهي خلق الإنسان من التراب ، ثم كونه بشراً منتشراً ، وهو خلق حي من جماد ، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً ، وجعل بينهما تواد ، وذلك خلق حي من عضو حي.
وقال : { لقوم يتفكرون } ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم ، وهو خلق السموات والأرض ، واختلاف اللغات والألوان ، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه.
وقال : { للعالمين } ، لأنها آية مكشوفة للعالم ، ثم أتبعه بالمنام والابتغاء ، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات ، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان.
وقال : { لقوم يسمعون } ، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد ، فنبه على السماع ، وجعل البال من كلام المرشد.
ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ، ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر ، وقدمها على ما هو من الأرض ، وهو الإتيان والإحياء ، كما قدم السموات على الأرض ، وقدم البرق على الإنزال ، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم.
والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة ، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب.
وقال : { لقوم يعقلون } ، لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة ، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى ، ووقتاً دون وقت ، وقوياً وضعيفاً ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال : هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً.
ثم ختم هذه الآيات بقيام السموات الأرض ، وذلك من العوارض اللازمة ، فإن كلاًّ من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه ، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد.
ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى ، وهي الخروج من الأرض ، وذكر تعالى من كل باب أمرين : من الأنفس خلقكم وخلق لكم ، ومن الآفاق السماء والأرض ، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ، ومن خواصه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{ من في السموات والأرض } : عام في كونهم تحت ملكه وقهره.
وقال الحسن : { قانتون } : قائمون بالشهادة على وحدانيته ، كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية . . .
تدل على أنه واحد
وقال ابن عباس : مطيعون ، أي في تصريفه ، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم ، من حياة وموت وصحة ومرض ، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة.
وقيل : قائمون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وإذا حمل القنوت على الإخلاص ، كما قال ابن جبير ، أو على الإقرار بالعبودية ، أو قانتون من ملك ومؤمن ، لأن كل عام مخصوص.
{ وهو أهون عليه } : أي والعود أهون عليه ، وليست أهون أفعل تفضيل ، لأنه تفاوت عند الله في النشأتين : الإبداء والإعادة ، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين ، وكذا هو في مصحف عبد الله.
والضمير في عليه عائد على الله.
وقيل : أهون للتفضيل ، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة ، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة؛ وهذا ، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد.
وقيل : الضمير في عليه عائد على الخلق ، أي والعود أهون على الخلق : بمعنى أسرع ، لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار ، إنما يدعوه الله فيخرج ، فكأنه قال : وهو أيسر عليه ، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً.
وقيل : المعنى وهو أهون على المخلوق ، أي يعيد شيئاً بعد إنشائه ، فهذا عرف المخلوقين ، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق؟ قال ابن عطية : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ، ويؤيده قوله تعالى : { وله المثل الأعلى } ، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق ، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم ، خلص جانب العظمة ، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به ، فكيف ولا تمثال مع شيء؟ انتهى.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وهو أهون عليه } ، وقدمت في قوله : { هو علي هين } قلت : هنالك قصد الاختصاص ، وهو تجبره ، فقيل : وهو على هين ، وإن كان مستصعباً عندك ، وإن تولد بين هرم وعاقر.
وأما هنا لا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. انتهى.
ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص ، وقد تكلمنا معه في ذلك ، ولم نسلمه في قوله : { إياك نعبد } { وله المثل الأعلى } ، قيل : هو متعلق بما قبله ، قاله الزجاج ، وهو قوله : { وهو أهون عليه } ؛ قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل أو يصعب.
وقيل : بما بعده من قوله : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم }.
وقيل : المثل : الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما.
{ وهو العزيز } : أي القاهر لكل شيء ، الحكيم الذي أفعاله على مقتضى حكمته.
وعن مجاهد : المثل الأعلى قوله : { لا إله إلاّ الله } وله الوصف بالوحدانية ، ويؤيده قول : { ضرب لكم }.
وقال ابن عباس وغيره : بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله ، بضربه هذا المثل ، ومعناه : أنكم أيها الناس ، إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم ، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم ، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم ، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير.
وقال السدي : كانوا يورثون آلهتهم ، فنزلت.
وقيل : لما نزلت ، قال أهل مكة : لا يكون ذلك أبداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فلم يجوز لربكم » ؟ومن في : { من أنفسكم } لابتداء الغاية ، كأنه قال : أخذ مثلاً ، وافترى من أقرب شيء منكم ، وهو أنفسكم ، ولا يبعد.
ومن في : { مما ملكت } للتبعيض ، ومن في : { من شركاء } زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي.
يقول : ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله ، فكيف ترضون شريكاً لله ، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟
وقال أبو عبد الله الرازي : وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفه.
فالمشابهة معلومة ، والمخالفة من وجوه : قوله : { من أنفسكم } : أي من نسلكم ، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها.
وقوله : { مما ملكت أيمانكم } : أي عبيدكم ، والملك ما قبل النقل بالبيع ، والزوال بالعتق ، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك.
فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم ، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية ، حالة الرق ، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله : { فيما رزقناكم } : يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة ، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم ، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
و { شركاء } في موضع رفع بالابتداء ، و { فيما رزقناكم } متعلق به ، و { لكم } الخبر ، و { مما ملكت } في موضع الحال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور ، والواقع خبراً ، وهو مقدر بعد المبتدأ.
وما في فيما { رزقناكم } واقعة على النوع ، والتقدير : هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء ، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر ، كما تقول : لزيد في المدينة مبغض ، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ ، وفي المدينة الخبر ، و { فأنتم فيه سواء } جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي ، وفيه متعلق بسواء ، و { تخافونهم } خبر ثان لأنتم ، والتقدير : فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم ، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضاً أيها السادة.
والمقصود نفي الشركة والإستواء والخوف ، وليس النفي منسحباً على الجواب وما بعده فقط ، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما تأتينا فتحدثنا ، إنما تأتي ولا تحدث ، بل هو على الوجه الآخر ، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث.
وكذلك هذا ليس لهم شريك ، فلا استواء ولا خوف.
وقرأ الجمهور : ، بالنصب ، أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وابن أبي عبيدة : بالرفع ، أضيف المصدر للمفعول ، وهما وجهان حسنان ، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.
{ كذلك } : أي مثل ذلك التفصيل ، { نفصل الآيات } : أي نبينها ، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها.
ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ الجمهور : نفصل ، بالنون ، حملاً على رزقناكم؛ وعباس عن ابن عمر : بياء الغيبة ، رعياً لضرب ، إذ هو مسند للغائب.
وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، كأنه يقول : الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح.
والإضراب ببل في قوله : { بل اتبع } جاء على ما تضمنته الآية ، إذ المعنى : ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله ، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم ، لأنه قد يكون هوى للإنسان ، وهو يعلم.
و { الذين ظلموا } : هم المشركون ، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم ، لا يرغمهم عن هواهم علم ، إذ هم خالون من العلم الذي قد يردع متبع الهوى.
{ فمن يهدي من أضل الله } : أي لا أحد يهدي من أضله الله ، أي هؤلاء ممن أضلهم الله ، فلا هادي لهم.
وقال الزمخشري : من أضل الله : من خذله الله ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله.
{ وما لهم من ناصرين } : دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
{ فأقم وجهك للدين } : فقوم وجهك له وعدله غير ملتفت ، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه.
فإن من اهتم بالشيء ، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلاً به عليه ، والدين دين الإسلام.
وذكر الوجه ، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه.
و { حنيفاً } : حال من الضمير في أقم ، أو من الوجه ، أو من الدين ، ومعناه : مائلاً عن الأديان المحرفة المنسوخة.
{ فطرة الله } : منصوب على المصدر ، كقوله : { صبغه الله } وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : التزم فطرة الله.
وقال الزمخشري : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله.
وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله : { منيبين إليه } ، ومنيبين حال من الضمير في الزموا.
وقوله : { وأقيموا } ، { ولا تكونوا } ، معطوف على هذا المضمر. انتهى.
وقيل : { فأقم وجهك } ، المراد به : فأقيموا وجوهكم ، وليس مخصوصاً بالرسول وحده ، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع ، أي : فأقم أيها المخاطب ، ثم جمع على المعنى ، لأنه لا يراد به مخاطب واحد.
فإذا كان هذا ، فقوله : { منيبين } ، { وأقيموا } ، { ولا تكونوا } ملحوظ فيه معنى الجمع.
وقول الزمخشري : أو عليكم فطرة الله لا يجوز ، لأن فيه حذف كلمة الإغراء ، ولا يجوز حذفها ، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه.
فلو جاء حذفه لكان إجحافاً ، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه.
والفطرة ، قيل : دين الإسلام ، والناس مخصوصون بالمؤمنين.
وقيل : العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ورجح الحذاق.
إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله ، والاستدلال بها على موجده ، فيؤمن به ويتبع شرائعه ، لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك ، كتهويد أبويه له ، وتنصيرهما ، إغواء شياطين الإنس والجن.
{ لا تبديل لخلق الله } : أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق.
وقال مجاهد ، وابن جبير ، والضحاك ، والنخعي ، وابن زيد : لا تبديل لدين الله ، والمعنى : لمعتقدات الأديان ، إذ هي متفقة في ذلك.
وقال الزمخشري : أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير.
وقال ابن عباس : لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم ، وقيل : هو نفي معناه : النهي ، أي لا تبدلوا ذلك الدين.
وقيل : { لا تبديل لخلق الله } بمعنى : الواحدانية مترشحة فيه ، لا تغير لها ، حتى لو سألته : من خلق السموات والأرض؟ تقول : الله.
ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى { لا تبديل لخلق الله } : النهي عن خصاء الفحول من الحيوان.
وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة ، اعترض به أثناء الكلام ، كأنه يقول : أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر ، و { لا تبديل لخلق الله } : أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له ، هو الدين المبالغ في الاستقامة.
والقيم : بياء مبالغة ، من القيام ، بمعنى الاستقامة ، ووزنه فعيل ، أصله قيوم كيد ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فيها ، وهو بناء مختص بالمعتل العين ، لم يجىء منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة.
{ منيبين } : حال من { الناس } ، ولا سيما إذا أريد بالناس : المؤمنون ، أو من الضمير في : الزموا فطرة الله ، وهو تقدير الزمخشري ، أو من الضمير في : { فأقم } ، إذ المقصود : الرسول وأمته ، وكأنه حذف معطوف ، أي فأقم وجهك وأمتك.
وكذا زعم الزجاج في : { يا أيها النبي إذا طلقتم } أي يا أيها النبي والناس ، ودل على ذلك مجيء الحال في { منيبين } جمعاً ، وفي { إذا طلقتم } جاء الخطاب فيه وفي ما بعده.
جمعاً ، أو على خبر كان مضمرة ، أي كونوا منيبين ، ويدل عليه قوله بعد { ولا تكونوا } ، وهذه احتمالات منقولة كلها.
{ من المشركين } : من اليهود والنصارى ، قاله قتادة.
وقال ابن زيد : هم اليهود؛ وعن أبي هريرة وعائشة : أنهم أهل القبلة ، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقاً.
والظاهر أن المشركين : كل من أشرك ، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم.
و { من الذين } : بدل من المشركين ، { فرقوا دينهم } : أي دين الإسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم.
{ وكانوا شيعاً } : كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها.
{ كل حزب } : أي منهم فرح بمذهبه مفتون به.
والظاهر أن { كل حزب } مبتدأ و { فرحون } الخبر.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { من الذين } منقطعاً مما قبله ومعناه : من المفارقين دينهم.
كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله :
وكل خليل غير هاضم نفسه . . .
انتهى.
قدر أولاً فرحين مجرورة صفة لحزب ، ثم قال : ولكنه رفع على الوصف لكل ، لأنك إذا قلت : من قومك كل رجل صالح ، جاز في صالح الخفض نعتاً لرجل ، وهو الأكثر ، كقوله :
جادت عليه كل عين ترة . . .
فتركن كل حديقة كالدرهم
وجاز الرفع نعتاً لكل ، كقوله :
وعليه هبت كل معصفة . . .
هوجاء ليس للبها دبر
يرفع هو جاء صفة لكل.
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
الضر : الشدة ، من فقر ، أو مرض ، أو قحط ، أو غير ذلك؛ والرحمة : الخلاص من ذلك الضر.
{ دعوا ربهم } : أفردوه بالتضرع والدعاء لينجوا من ذلك الضر ، وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى ، فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع ، وإذا خلصهم من ذلك الضر ، أشرك فريق ممن خلص ، وهذا الفريق هم عبدة الأصنام.
قال ابن عطية : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين ، إذ جاءهم فرج بعد شدة ، علقوا ذلك بمخلوقين ، أو بحذق آرائهم ، أو بغير ذلك ، ففيه قلة شكر الله ، ويسمى مجازاً.
وقال أبو عبد الله الرازي : يقول : تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني وسبب الصنم الفلاني ، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه يخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً ، فإنه شرك خفي. انتهى.
و { إذا فريق } : جواب { إذا أذاقهم } ، الأولى شرطية ، والثانية للمفاجأة ، وتقدم نظيره ، وجاء هنا فريق ، لأن قوله : { وإذا مس الناس } عام للمؤمن والكافر ، فلا يشرك إلا الكافر.
وضر هنا مطلق ، وفي آخر العنكبوت { إذا هم يشركون } لأنه في مخصوصين من المشركين عباد الأصنام ، والضر هناك معين ، وهو ما يتخوف من ركوب البحر.
{ إذا هم } : أي ركاب البحر عبدة الأصنام ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده.
واللام في { ليكفروا } لام كي ، أو لام الأمر للتهديد ، وتقدم نظيره في آخر العنكبوت.
وقرأ الجمهور : { فتمتعوا فسوف تعلمون } ، بالتاء فيهما.
وقرأ أبو العالية : فيتمتعوا ، بالياء ، مبنياً للمفعول ، وهو معطوف على { ليكفروا }.
فسوف يعلمون : بالياء ، على التهديد لهم.
وعن أبي العالية : فيتمتعوا ، بياء قبل التاء ، عطف أيضاً على { ليكفروا } ، أي لتطول أعمارهم على الكفر؛ وعنه وعن عبد الله : فليتمتعوا.
وقال هارون في مصحف عبد الله : يمتعوا.
{ أم أنزلنا } ، أم : بمعنى بل ، والهمزة للإضراب عن الكلام السابق ، والهمزة للاستفهام عن الحجة استفهام إنكار وتوبيخ.
والسلطان : البرهان ، من كتاب أو نحوه.
{ فهو يتكلم } : أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم ، والتكلم مجاز لقوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } وهو يتكلم : جواب للاستفهام الذي تضمنه أم ، كأنه قال : بل أنزلنا عليهم سلطاناً ، أي برهاناً شاهداً لكم بالشرك ، فهو يشهد بصحة ذلك ، وإن قدر ذا سلطان ، أي ملكاً ذا برهان ، كان التكلم حقيقة.
{ وإذا أذقنا الناس رحمة } : أي نعمة ، من مطر ، أو سعة ، أو صحة.
{ وإن تصبهم سيئة } : أي بلاء ، من حدث ، أو ضيق ، أو مرض.
{ بما قدمت أيديهم من } المعاصي.
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ففي إصابة الرحمة فرحوا وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم ، وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ، ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء.
و { إذا هم } جواب : { وإن تصبهم } ، يقوم مقام الفاء في الجملة الاسمية الواقعة جواباً للشرط.
وحين ذكر إذاقة الرحمة ، لم يذكر سببها ، وهو زيادة الإحسان والتفضل.
وحين ذكر إصابة السيئة ، ذكر سببها ، وهو العصيان ، ليتحقق بدله.
ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم ييأس من روح الله ، وهو أنه تعالى هو الباسط القابض ، فينبغي أن لا يقنط ، وأن يتلقى ما يرد من قبل الله بالصبر في البلاء ، والشكر في النعماء ، وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها ، حتى تعود إليه رحمة ربه.
ومناسبة { فآت ذا القربى } لما قبله : أنه لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض ، وجعل في ذلك آية للمؤمن ، ثم نبه بالإحسان لمن به فاقة واحتياج ، لأن من الإيمان الشفقة على خلق الله ، فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله من المال ، وصرفه إلى من يقرب منه من حج ، وإلى غيره من مسكين وابن سبيل.
وقال الحسن : هذا خطاب لكل سامع بصلة الرحم ، { والمسكين وابن السبيل }.
وقيل : للرسول ، عليه السلام.
وذو القربى : بنو هاشم وبنو المطلب ، يعطون حقوقهم من الغنيمة والفيء.
وقال الحسن : حق المسكين وابن السبيل من الصدقة المسماة لهما.
واحتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب.
أثبت تعالى لذي القربى حقاً ، وللمسكين وابن السبيل حقهما.
والسورة مكية ، فالظاهر أن الحق ليس الزكاة ، وإنما يصير حقاً بجهة الإحسان والمواساة.
وللاهتمام بذي القربى ، قدم على المسكين وابن السبيل ، لأن بره صدقة وصلة.
{ ذلك } : أي الإيتاء ، { خير } : أي يضاعف لهم الأجر في الآخرة ، وينمو ما لهم في الدنيا لوجه الله ، أي التقرب إلى رضا الله لا يضره.
ثم ذكر تعالى من يتصرف في ماله على غير الجهة المرضية فقال؛ { وما آتيتم } أكلة الربو ، ليزيد ويزكو في المال ، فلا يزكو عند الله ، ولا يبارك فيه لقوله : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } قال السدّي : نزلت في ربا ثقيف ، كانوا يعملون بالربا ، ويعمله فيهم قريش.
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وطاوس : هذه الآية نزلت في هبات ، للثواب.
وقال ابن عطية : وما جرى مجراهما مما يصنع للمجازاة ، كالسلم وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه ، فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله.
وقال ابن عباس أيضاً ، والنخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع به ، فذلك النفع لهم.
وقال الشعبي قريباً من هذا وهو : أن ما خدم به الإنسان غيره انتفع به ، فذلك النفع لهم.
وقال الشعبي أيضاً قريباً من هذا وهو : أن لا يربو عند الله ، والظاهر القول الأول ، وهو النهي عن الربا.
وقرأ الجمهور : { وما آتيتم } ، الأول بمد الهمزة ، أي وما أعطيتم؛ وابن كثير : بقصرها ، أي وما جئتم.
وقرأ الجمهور : ليربو ، بالياء وإسناد الفعل إلى الربا؛ وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والشعبي ، ونافع ، وأبو حيوة : بالتاء مضمومة ، وإسناد الفعل إليهم.
وقرأ أبو مالك : ليربوها ، بضمير المؤنث.
والمضعف : ذو أضعاف في الأجر.
قال الفراء : هم أصحاب المضاعفة ، كما تقول : هو مسمن ، أي صاحب إبل سمان ، ومعطش : أي صاحب إبل عطشى.
وقرأ أبي : { المضعفون } ، بفتح العين ، اسم مفعول.
وقال الزمخشري : { فأولئك هم المضعفون } ، التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون ، والمعنى : المضعفون به بدلالة أولئك هم المضعفون ، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأول أملأ بالفائدة : انتهى.
وإنما احتاج إلى تقدير ما قدر ، لأن اسم الشرط ليس بظرف ، لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه يتم به الربط.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم ، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك ، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم.
و { الله الذي خلقكم } : مبتدأ وخبر.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون { الذي خلقكم } صفة للمبتدأ ، والخبر : { هل من شركائكم } ؛ وقوله : { من ذلكم } هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه : من أفعاله. انتهى.
والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطاً إذا كان أشير به إلى المبتدأ.
وأما { ذلكم } هنا فليس إشارة إلى المبتدأ ، لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى ، وخالفه الناس ، وذلك في قوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } قال التقدير : يتربصن أزواجهم ، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين ، فحصل به الربط ، كذلك قدر الزمخشري { من ذلكم } : من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ.
وقال الزمخشري أيضاً : هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئاً ، قط من تلك الأفعال ، حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ فاستعمل قط في غير موضعها ، لأنها ظرف للماضي ، وهنا جعلها معمولة ليفعل.
وقال الزمخشري أيضاً : ومن الأولى والثانية ، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم؛ فمن الأولى للتبعيض ، والجار والمجرور خبر المبتدأ؛ ومن يفعل هو المبتدأ ، ومن الثانية في موضع الحال من شيء ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال؛ ومن الثالثة زائدة لانسحاب الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام ، التقدير : من يفعل شيئاً من ذلكم ، أي من تلك الأفعال.
وقرأ الجمهور : { يشركون } ، بياء الغيبة؛ والأعمش ، وابن وثاب : بتاء الخطاب ، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر.
وقال الحسن : وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات ، ونزول رزايا ، وحدوث فتن ، وتقلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر.
وقال ابن عباس : { الفساد في البر } ، القطاع فتسده.
وقال مجاهد : { في البر } ، بقتل أحد بني آدم لأخيه ، وفي البحر : بأخذ السفن غصباً ، وعنه أيضاً : البر : البلاد البعيدة من البحر ، والبحر : السواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار.
وقال قتادة : البر : الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمور ، والبحر : المدن ، جمع بحرة ، ومنه : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه ، يعني قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ويؤيد هذا قراءة عكرمة.
والبحور بالجمع ، ورويت عن ابن عباس ، وكان قد ظهر الفساد براً وبحراً وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الظلم عم الأرض ، فأظهر الله به الدين ، وأزال الفساد ، وأخمده صلى الله عليه وسلم.
وقال النحاس : فيه قولان ، أحدهما : ظهر الجدب في البر في البوادي وقراها والبحر ، أي في مدن البحر ، مثل :
{ واسئل القرية } أي ظهر قلة العشب ، وغلاً السعر.
والثاني : ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم ، فهذا هو الفساد على الحقيقة ، والأول مجاز ، وقيل : إذا قل المطر قل الغوص ، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر.
وقال ابن عباس : إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر ، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ.
{ بما كسبت أيدي الناس } : أي بسبب معاصيهم وذنوبهم.
{ ليذيقهم } : أي أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بها جميعاً في الآخرة.
{ لعلهم يرجعون } عما هم فيه.
وقال ابن عطية : { بما كسبت } : جزاء ما كسبت ، ويجوز أن يتعلق الباء بظهر ، أي بكسبهم المعاصي في البر والبحر ، وهو نفس الفساد الظاهر.
وقرأ السلمي ، والأعرج ، وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ، وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبو الفضل الواسطي عنه ، ومحبوب عن أبي عمرو : لنذيقهم ، بالنون؛ والجمهور : بالياء ، ثم أمرهم بالمسير في الأرض ، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم ، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم ، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
{ كان أكثرهم مشركين } : أهلكهم كلهم بسبب الشرك ، وقوم بسبب المعاصي ، لأنه تعالى يهلك بالمعاصي ، كما يهلك بالشرك ، كأصحاب السبت.
أو أهلكهم كلهم ، المشرك والمؤمن ، كقوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } وأهلكهم كلهم ، وهم كفار ، فأكثرهم مشركون ، وبعضهم معطل.
وحين ذكر امتنانه قال : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم } ، فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق.
وحين ذكر خذلانهم بالطغيان ، بسبب البقاء بإظهار الفساد ، ثم بسبب الوجود بالإهلاك.
{ من قبل أن يأتي يوم } : يوم القيامة ، وفيه تحذير يعم الناس ، { لا مرد له من الله } ، المرد : مصدر رد ، ومن الله : يحتمل أن يتعلق بيأتي ، أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي لقوله : { فلا يستطيعون ردها } ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه مرد ، أي لا يرده هو بعد أن يجيء به ، ولا رد له من جهته.
{ يومئذ } : أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم.
{ يصدعون } : يتفرقون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير.
يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه الصداع ، لأنه يفرق شعب الرأس ، وقال الشاعر :
وكنا كندماني جذيمة حقبة . . .
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
ثم ذكر حالتي المتفرقين : { من كفر فعليه كفره } : أي جزاء كفره ، وعبر عن حالة الكافر بعليه ، وهي تدل على الفعل والمشقة ، وعن حال المؤمن بقوله : { فلأنفسهم } ، باللام التي هي لام الملك.
و { يمهدون } : يوطئون ، وهي استعارة من الفرش ، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به ، ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة.
وقال مجاهد : هو التمهيد للقبر.
وقال الزمخشري : وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه.
انتهى.
وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص ، وأما على مذهبنا فيدل على الاهتام ، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } واللام في { ليجزي } ، قال الزمخشري : متعلق بيمهدون ، تعليل له وتكرير { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح.
وقوله : { إنه لا يحب الكافرين } ، تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس.
وقال ابن عطية : ليجزي متعلق بيصدعون ، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى : { من كفر } ، { ومن عمل صالحاً }. انتهى.
ويكون قسم { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفاً تقديره : كأنه قال : والكافرون بعدله ، ودل على حذف هذا القسيم قوله : { إنه لا يحب الكافرين }.
ومعنى نفي الحب هنا : أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته ، ولا يرضى الكفر لهم ديناً.
وقال الزمخشري : { من فضله } : بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ، وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو أراد من عطائه ، وهو ثوابه ، لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ، ذكر ظهور الصلاح.
والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر ، لأنها متقدمة.
والمبشرات : رياح الرحمة ، الجنوب والشمال والصبا ، وأما الدبور ، فريح العذاب ، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر ، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها ، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام ، وهو التبشير.
وقرأ الأعمش : الريح ، مفرداً ، وأراد معنى الجمع ، ولذلك قرأ : { مبشرات }.
ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ، ويتبعه حصول الخصب ، والريح الذي معه الهبوب ، وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك.
{ وليذيقكم } : عطف على معنى مبشرات ، فالعامل أن يرسل ، ويكون عطفاً على التوهم ، كأنه قيل : ليبشروكم ، والحال والصفة قد يجيئان ، وفيهما معنى التعليل.
تقول : أهن زيد أسيأ وأكرم زيداً العالم ، تريد لإساءته ولعلمه.
وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف ، أي ولكنا أرسلناها.
وقيل : الواو في وليذيقكم زائدة.
و { بأمره } : أي بأمر الله ، يعني أن جريانها ، لما كان مسنداً إليها ، أخبر أنه بأمره تعالى.
{ من فضله } : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر ، ومن غنائم أهل الشرك.
ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، ولما كان تعالى بين الأصلين : المبدأ والمعاد ، بين ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوّة؛ وفي الكلام حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض ، { فانتقمنا من الذين أجرموا }.
وفي قوله : { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } : تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر ، إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا ، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم ، وتكريم للمؤمنين ، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان ، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر.
والظاهر أن { حقاً } خبر كان ، و { نصر المؤمنين } الاسم ، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء ، إذ هو محط الفائدة.
وقال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم ، ثم استأنف جملة من قوله : { علينا نصر المؤمنين } ، وهذا قول ضعيف ، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية.
وقال الزمخشري : وقد يوقف على { حقاً } ، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ علينا { نصر المؤمنين }. انتهى.
وفي الوقف على { وكان حقاً } بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً ، بل عدلاً ، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر ، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث.
{ الله الذي يرسل الرياح } ، هذا متعلق بقوله : { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } ، والجملة التي بينهما اعتراض ، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر ، وفي إرسالها قدرة وحكمة.
أما القدرة ، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء ، وهو ليس بذاته يفعل ذلك ، بل بفاعل مختار.
وأما الحكمة ، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب ، وإخراج الماء منه ، وإنبات الزرع ، ودر الضرع ، واختصاصه بناس دون ناس؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة ، تحريكها وتسييرها.
والبسط : نشرها في الآفاق ، والكسف : القطع.
وتقدم الكلام على قوله : { فترى الودق يخرج من خلاله } ، وذكر الخلاف في { كسفاً } وحاله من جهة القراء.
والضمير في : { من خلاله } ، الظاهر أنه عائد على السحاب ، إذ هو المحدث عنه ، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه.
قيل : ويحتمل أن يعود على { كسفاً } في قراءة من سكن العين ، والمراد بالسماء : سمت السماء ، كقوله : { وفرعها في السماء } { فإذا أصاب به من يشاء } : أي أرض من يشاء إصابتها ، فاجأهم الاستبشار ، ولم يتأخر سرورهم.
وقال الأخفش : { من قبله } تأكيد لقوله : { من قبل أن ينزل عليهم }.
وقال ابن عطية : أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن قوله : { من قبل أن ينزل عليهم } يحتمل الفسحة في الزمان ، أي من قبل أن ينزل بكثير ، كالأيام ونحوه ، فجاء قوله : { من قبل } بمعنى : أن ذلك متصل بالمطر ، فهو تأكيد مقيد.
وقال الزمخشري : وبمعنى التوكيد ، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى.
وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : { من قبله } غير ظاهر ، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد ، ويفيد رفع المجاز فقط.
وقال قطرب : التقدير : وإن كانوا من قبل التنزيل ، من قبل المطر. انتهى.
وصار من قبل إنزال المطر : من قبل المطر ، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح ، فضلاً عن القرآن.
وقيل : التقدير : من قبل تنزيل الغيث : من قبل أن يزرعوا ، ودل المطر على الزرع ، لأنه يخرج بسبب المطر؛ ودل على ذلك قوله : { فرأوه مصفراً } ، يعني الزرع. انتهى.
وهذا لا يستقيم ، لأن { من قبل أن ينزل عليهم } متعلق بقوله : { لمبلسين }.
ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين ، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف ، أو على جهة البدل.
وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف ، ولا يصح فيه البدل ، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع ، ولا الزرع بعضه.
وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف.
أما لاشتمال الإنزال على الزرع ، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال ، فكأن الإنزال مشتمل عليه ، وهذا على مذهب من يقول : الأول يشتمل على الثاني.
وقال المبرد : الثاني السحاب ، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين.
وقال علي بن عيسى : من قبل الإرسال.
وقال الكرماني : ومن قبل الاستبشار ، لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار.
انتهى.
ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف ، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف ، أمكن ، لكن في حذف حرف العطف خلاف ، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز ، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف.
وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : إلى أثر ، بالإفراد؛ وباقي السبعة : بالجمع؛ وسلام : بكسر الهمزة وإسكان الثاء.
وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوة : تحيي ، بالتاء للتأنيث ، والضمير عائد على الرحمة.
وقال صاحب اللوامح : وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها ، فاكتسب التأنيث منها ، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه ، أو من سببه.
وأما إذا كان أجنبياً ، فلا يجوز بحال. انتهى.
وقرأ زيد بن علي : نحيي ، بنون العظمة؛ والجمهور : { يحيي } ، بياء الغيبة ، والضمير لله ، ويدل عليه قراءة { آثار } بالجمع ، وقيل : يعود على أثر في قراءة من أفرد.
وقال ابن جني : { كيف يحيي } جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى ، كأنه قال : محيياً ، وهذا فيه نظر.
{ إن ذلك } : أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها ، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم.
وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث ، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى.
{ ولئن أرسلنا ريحاً } : أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم ، أنه بعد الاستبشار بالمطر ، بعث الله ريحاً ، فاصفر بها النبات.
لظلوا يكفرون قلقاً منهم ، والريح التي تصفر النبات صر حرور ، وهما مما يصبح به النبات هشيماً ، والحرور جنب الشمال إذا عصفت.
والضمير في { فرأوه } عائد على ما يفهم من سياق الكلام ، وهو النبات.
وقيل : إلى الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث ، وأثرها هو النبات.
ومن قرأ : آثار ، بالجمع ، رجع الضمير إلى آثار الرحمة ، وهو النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمى به ما ينبت.
وقال ابن عيسى : الضمير في { فرأوه } عائد على السحاب ، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر؛ وقيل : على الريح ، وهذان قولان ضعيفان.
وقرأ صباح بن حبيش : مصفاراً ، بألف بعد الفاء.
واللام في { ولئن } مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا ، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره : ليظلن ، ونظيره قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم ، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا ، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار ، وإن تصبروا على بلائه كفروا.
والضمير في { من بعده } عائد على الاصفرار ، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته.
وتقدم الكلام على قوله : { فإنك لا تسمع الموتى } إلى قوله : { فهم مسلمون } في أواخر النمل ، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله : { فإنك }.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
لما ذكر دلائل الآفاق ، ذكر شيئاً من دلائل الأنفس ، وجعل الخلق من ضعف ، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته ، كقوله : { خلق الإنسان من عجل } والقوة التي تلت الضعف ، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال.
والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم.
وقيل : { من ضعف } : من النطفة ، كقوله : { من ماء مهين } والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه.
وقرأ الجمهور : بضم الضاد في ضعف معاً؛ وعاصم وحمزة : بفتحها فيهما ، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء.
وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك : الضم والفتح في الثاني.
وقرأ عيسى : بضمتين فيهما.
والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك ، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف.
وقال كثير من اللغويين : الضم في البدن ، والفتح في العقل.
{ ما لبثوا } : هو جواب ، وهو على المعنى ، إذ لو حكى قولهم ، كان يكون التركيب : ما لبثنا غير ساعة ، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة ، وما لبثوا في الدنيا : استقلوها لما عاينوا من الآخرة ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم ، أو على جهة النسيان ، أو الكذب.
{ يؤفكون } : أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.
{ الذين أوتوا العلم } : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون.
{ في كتاب الله } : فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره ، ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محله من العلم.
وقيل : { في كتاب الله } : اللوح المحفوظ ، وقيل : في علمه ، وقيل : في حكمه.
وقرأ الحسن : البعث ، بفتح العين فيهما ، وقرىء : بكسرها ، وهو اسم ، والمفتوح مصدر.
وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره : أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان.
{ لقد لبثتم } : وعلى هذا تكون في بمعنى الباء ، أي العلم بكتاب الله ، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكاً للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح ، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفاً بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا القول.
والفاء في : { فهذا يوم البعث } عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها ، وهي : { لقد لبثتم } ، اعتقبها في الذكر.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما هذه الفاء ، وما حقيقتها؟ قلت : هي التي في قوله :
فقد جئنا خراسانا . . .
وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول : قد جئنا خراساناً ، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة ، لم يتكلف إضمار شرط ، وجعل الفاء جواباً لذلك الشرط المحذوف ، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه.
وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعرفون به ، فصار مصيركم إلى النار ، فتطلبون التأخير.
{ فيومئذ } : أي يوم إذ ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم.
وقرأ الكوفيون : { لا ينفع } ، بالياء هنا وفي الطول ، ووافقهم نافع في الطول؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث.
{ ولا هم يستعتبون } ، قال الزمخشري : من قولك : استعتبنى فلان فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كان جانياً عليه ، وحقيقته : أعتبته : أزلت عتبه.
ألا ترى إلى قوله :
غضبت تميم أن يقتل عامر . . .
يوم النثار فأعتبوا بالصيلم
كيف جعلهم غضاباً.
ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : { فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله : { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } قلت : أما كونهم غير مستعتبين ، فهذا معناه؛ وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني ، غير راضين منه.
فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته.
وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة ، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعطون عتبى ، وهو الرضا.
ويستعتبون بمعنى : يعتبون ، كما تقول : يملك ويستملك.
والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه ، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه ، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى.
فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد ، وهو عتب ، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب.
وقد قيل : لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون.
وقيل : لا يطلب لهم العتبى.
وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة ، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار.
وقال الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقال لهم ، وما لا يقع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل؟ انتهى.
و { أنتم } : خطاب للرسول والمؤمنين ، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء.
وقال أبو عبد الله الرازي : وفي توحيد الخطاب بقول : { ولئن جئتهم } ، والجمع في قوله : { إن أنتم } لطيفة ، وهي : أن الله عز وجل قال : { ولئن جئتهم } بكل آية جاءت بها الرسل ، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.
{ كذلك يطبع الله } : أي مثل هذا الطبع يطبع الله ، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم الله عليهم الكفر في الأزل ، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى ، إذ هو فاعل ذلك ومقدره.
وقال الزمخشري : ومعنى طبع الله : صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم ، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به ، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك ، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة.
وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب : ولا يستحقنك : بحاء مهملة وقاف ، من الاستحقاق؛ والجمهور : بخاء معجمة وفاء ، من الاستخفاف؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب ، والمعنى : لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
هذه السورة مكية ، قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات ، أولهنّ : { ولو أن ما في الأرض }.
وقال قتادة : إلا آيتين ، أوّلهما : { ولو أن } إلى آخر الآيتين ، وسبب نزولها أن قريشاً سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت.
وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاثة : { ولو أن ما في الأرض } إلى آخرهنّ ، لما نزل { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } وقول اليهود : إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا ، فقال الرسول : « التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله » ، فنزل : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام }.
ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } فأشار إلى ذلك بقوله : { الم ، تلك آيات الكتاب الحكيم } ؛ وكان في آخر تلك : { ولئن جئتهم بآية } وهنا : { وإذا تتلى عليه آياتنا ولىّ مستكبراً } ، وتلك إشارة إلى البعيد ، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه.
و { آيات الكتاب } : القرآن واللوح المحفوط.
ووصف الكتاب بالحكيم ، إما لتضمنه للحكمة ، قيل : أو فعيل بمعنى المحكم ، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، ومنه عقدت العسل فهو عقيد ، أي معقد ، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم.
وقال الزمخشري : الحكيم : ذو الحكمة؛ أو وصف لصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي ، ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قابله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة.
وقرأ الجمهور : { هدى ورحمة } ، بالنصب على الحال من الآيات ، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، قاله الزمخشري وغيره ، ويحتاج إلى نظر.
وقرأ حمزة ، والأعمش ، والزعفراني ، وطلحة ، وقنبل ، من طريق أبي الفضل الواسطي : بالرفع ، خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر بعد خبر ، على مذهب من يجيز ذلك.
{ للمحسنين } : الذين يعملون الحسنات ، وهي التي ذكرها ، كإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ، ونظيره قول أوس :
الألمعي الذي يظن بك ال . . .
ظن كأن قد رأى وقد سمعا
حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد ، وخص المحسنون ، لأنهم هم الذين انتفعوا به ونظروه بعين الحقيقة.
وقيل : الذين يعملون بالحسن من الأعمال ، وخص منهم القائمون بهذه الثلاثة ، لفضل الاعتداد بها.
ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن الإحسان : « أن تعبد الله كأنك تراه » وقيل : المحسنون : المؤمنون.
وقال ابن سلام : هم السعداء.
وقال ابن شجرة : هم المنجحون.
وقيل : الناجون ، وكرر الإشارة إليهم تنبيهاً على عظم قدرهم.
ولما ذكر من صفات القرآن الحكمه ، وأنه هدى ورحمة ، وأن متبعه فائز ، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو ، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشترياً له وباذلاً فيه رأس عقله ، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله.
ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، كان يتجر إلى فارس ، ويشتري كتب الأعاجم ، فيحدث قريشاً بحديث رستم واسفندار ويقول : أنا أحسن حديثاً.
وقيل : في ابن خطل ، اشترى جارية تغني بالسب ، وبهذا فسر { لهو الحديث } : المعازف والغناء.
وفي الحديث من رواية أبي أمامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « شراء المغنيات وبيعهم حرام » ، وقرأ هذه الآية.
وقال الضحاك : { لهو الحديث } : الشرك.
وقال مجاهد ، وابن جريج : الطبل ، وهذا ضرب من آلة الغناء.
وقال عطاء : الترهات.
وقيل : السحر.
وقيل : ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب.
وقال أيضاً : ما شغلك عن عبادة الله ، وذكره من السحر والأضاحيك والخرافات والغناء.
وقال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل ، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء ، وصرف عقله بكليته إليه.
فإن أريد به ما يقع عليه الشراء ، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك ، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف ، أي من يشتري ذات لهو الحديث.
وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من ، لأن اللهو قد يكون من حديث ، فهو كباب ساج ، والمراد بالحديث : الحديث المنكر.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية ، كأنه قال : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. انتهى.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : { ليضل } بفتح الياء ، وباقي السبعة : بضمها.
قال الزمخشري : فإن قلت : القراءة بالرفع بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدق عنه ، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه.
والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف.
فإن قلت : قوله بغير علم ما معناه؟ قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها. انتهى.
و { سبيل الله } : الإسلام أو القرآن ، قولان.
قال ابن عطية : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافاً إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : { ليضل } إلى آخره.
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : { ويتخذها } ، بالنصب عطفاً على { ليضل } ، تشريكاً في الصلة؛ وباقي السبعة : بالرفع ، عطفاً على { يشتري } ، تشريكاً في الصلة.
والظاهر عود ضمير { ويتخذها } على السبيل ، كقوله : { ويبغونها عوجاً } قيل : ويحتمل أن يعود على { آيات الكتاب }.
وقال تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث.
وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول ، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده { ليضل عن سبيل الله } : أي دينه.
انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص.
{ وإذا تتلى عليه } : بدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، فأفرد في قوله : { من يشتري } ، { وليضل } ، { ويتخذها } ، ثم جمع على الضمير في قوله : { أولئك لهم } ، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله : { وإذا تتلى } إلى آخره.
ومن في : { من يشتري } موصولة ، ونظيره في من الشرطية قوله : { ومن يؤمن بالله } فما بعده أفرد ثم قال : { خالدين } ، فجمع ثم قال : { قد أحسن الله له رزقاً } فأفرد ، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، غير هاتين الآيتين.
والنحويون يذكرون { ومن يؤمن بالله } الآية فقط ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات.
وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار ، ثم عدم الالتفات إلى سماعها ، كأنه غافل عنها ، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمماً يصده عن السماع.
و { كأن لم يسمعها } : حال من الضمير في { مستكبراً } ، أي مشبهاً حال من لم يسمعها ، لكونه لا يجعل لها بالاً ولا يلتفت إليها؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف.
و { كأن في أذنيه وقراً } : حال من لم يسمعها.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا استئنافين.
انتهى ، يعني الجملتين التشبيهيتين.
ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين.
وقرأ زيد بن علي : خالدون ، بالواو؛ والجمهور : بالياء.
وانتصب { وعد الله } على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، و { حقاً } على المصدر المؤكد لغيره ، لأن قوله : { لهم جنات النعيم } ، والعامل فيها متغاير ، فوعد الله منصوب ، أي يوعد الله وعده ، وحقاً منصوب بأحق ذلك حقاً.
{ خلق السموات } إلى { فأنبتنا } ، تقدم الكلام على ذلك.
ومعنى { كريم } : مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره ، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم ، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيساً مستحسناً من جهة ، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه ، فيعم جميع الأزواج ، وهو الأنواع.
{ هذا خلق الله } : إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته.
والخلق بمعنى المخلوق ، كقولهم : درهم ضرب الأمير ، أي مضروبه.
ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده.
وأما خلقته آلهتم لما ذكر مخلوقاته ، فكيف عبدوها من دونه؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي ، وتكون مفعولاً ثانياً لأروني.
واستعمال ماذا كلها موصولاً قليل ، وقد ذكره سيبويه.
ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهو خبر عن ما ، والجملة في موضع نصب بأروني ، وأروني معلقة عن العمل لفظاً لأجل الاستفهام.
ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر ، لأن من عبد صنماً وترك خالقه جدير بأن يكون في حيرة وتيه لا يقلع عنه.
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
لقمان : اسم علم ، فإن كان أعجمياً فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية ، وإن كان عربياً فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون ، ويكون مشتقاً من اللقم مرتجلاً ، إذ لا يعلم له وضع في النكرات.
صعر : مشدد العين ، لغة بني تميم.
قال شاعرهم :
وكنا إذا الجبار صعر خده . . .
أقمنا له من ميله فيقوم
فيقوم : أمر بالاستقامة للقوافي في المخفوضة ، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وإنشاد الطبري فيقوما فعلاً ماضياً خطأ ، وتصاعر لغة الحجاز ، ويقال : يصعر.
قال الشاعر :
أقمنا له من خده المتصعر . . .
ويقال : أصعر خده.
قال الفضل : هو الميل ، وقال اليزيدي : هو التشدق في الكلام.
وقال أبو عبيدة : أصل هذا من الصعر ، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها ، فتلتوي منه أعناقها.
القلم : معروف.
الختار : شديد الغدر ، ومنه قولهم :
إنك لا تمد إلينا شبراً من غدر . . .
إلا مددنا لك باعاً من ختر
وقال عمرو بن معدي كرب :
وإنك لو رأيت أبا عمير . . .
ملأت يديك من غدر وختر
وقال الأعشى :
فالأيلق الفرد من تيماء منزله . . .
حصن حصين وجار غير ختار
{ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ، وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يبني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ، يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ، يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ، ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }
اختلف في لقمان ، أكان حراً أم عبداً؟ فإذا قلنا : كان حراً ، فقيل : هو ابن باعورا.
قال وهب : ابن أخت أيوب عليه السلام.
وقال مقاتل : ابن خالته.
وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام ، وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث داود ، قطع الفتوى ، فقيل له : لم؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وكان قاضياً في بني إسرائيل.
وقال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل ، وزمانه ما بين عيسى ومحمد ، عليهما السلام ، والأكثرون على أنه لم يكن نبياً.
وقال عكرمة ، والشعبي : كان نبياً.
وإذا قلنا : كان عبداً ، اختلف في جنسه ، فقال ابن عباس ، وابن المسيب ، ومجاهد : كان نوبياً مشقق الرجلين ذا مشافر.
وقال الفراء وغيره : كان حبشياً مجدوع الأنف ذا مشفر.
واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال ، فقال خالد بن الربيع : كان نجاراً ، وفي معاني الزجاج : كان نجاداً ، بالدال.
وقال ابن المسيب : كان خياطاً.
وقال ابن عباس : كان راعياً.
وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة.
وهذا الاضطراب في كونه حراً أو عبداً ، وفي جنسه ، وفيما كان يعانيه ، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك ، ولا ينقل.
لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشواً وتكثيراً ، والصواب تركه.
وحكمة لقمان مأثورة كثيرة ، منها : قيل له : أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً.
وقال له داود ، عليه السلام ، يوماً : كيف أصبحت؟ قال : أصبحت في يد غيري ، فتفكر داود فيه ، فصعق صعقة.
وقال وهب بن منبه : قرأت في حكم لقمان أكثر من عشرة آلاف.
و { الحكمة } : المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به ، ويتناقله الناس لذلك.
{ أن اشكر } ، قال الزمخشري : أن هي المفسرة ، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، أو عبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشك.
وقال الزجاج : المعنى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } لأن يشكر الله ، فجعلها مصدرية ، لا تفسيرية.
وحكى سيبويه : كتبت إليه بأن قم.
{ فإنما يشكر لنفسه } : أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين ، إذ هو تعالى غني عن الشكر ، فشكر الشاكر لا ينفعه ، وكفر من كفر لا يضره.
و { حميد } : مستحق الحمد لذاته وصفاته.
{ وإذ قال } : أي واذكر إذ ، وقيل : يحتمل أن يكون التقدير : وآتيناه الحكمة ، إذ قال ، واختصر لدلالة المتقدم عليه.
وابنه بارّ ، أي : أو أنعم ، أو اشكر ، أو شاكر ، أقوال.
{ وهو يعظه } : جملة حالية.
قيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال يعظهما حتى أسلما.
والظاهر أن قوله : { إن الشرك لظلم عظيم } من كلام لقمان.
وقيل : هو خبر من الله ، منقطع عن كلام لقمان ، متصل به في تأكيد المعنى؛ وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان.
وقرأ البزي : { يا بني } ، بالسكون ، و { يا بني إنها } : بكسر الياء ، و { يا بني أقم } : بفتحها.
وقيل : بالسكون في الأولى والثانية ، والكسر في الوسطى؛ وحفص والمفضل عن عاصم : بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا ، والاجتزاء بالفتحة عن الألف.
وقرأ باقي السبعة : بالكسر في الثلاثة.
{ ووصينا الإنسان بوالديه } : لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك حثاً على طاعة الله ، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين ، وبين السبب في ذلك ، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه ، أخبر الله عنه بذلك.
وقيل : هو من كلام الله ، قاله للقمان ، أي قلنا له اشكر.
وقلنا له : { ووصينا }.
وقيل : هذه الآية اعتراض بيّن أثناء وصيته للقمان ، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده ، وامتثال أمره في طاعة الله تعالى.
وقال القرطبي : والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص ، وعليه جماعة من المفسرين.
ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية ، نبه على السبب الموجب للإيصاء ، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببرّ الأم ثلاث مرات ، ثم ذكر الأب ، فجعل له مرة الربع من المبرة.
{ وهناً على وهن } ، قال ابن عباس : شدة بعد شدة ، وخلقاً بعد خلق.
وقال الضحاك : ضعفاً بعد ضعف.
وقال قتادة : جهداً على جهد ، يعني : ضعف الحمل ، وضعف الطلق ، وضعف النفاس ، وانتصب على هذه الأقوال على الحال.
وقيل : { وهناً على وهن } : نطفة ثم علقة ، إلى آخر النشأة ، فعلى هذا يكون حالاً من الضمير المنصوب في حملته ، وهو الولد.
وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية : وهناً على وهن ، بفتح الهاء فيهما ، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر ، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهناً ، بفتحها في المصدر قياساً.
وقرأ الجمهور : بسكون الهاء فيهما.
وقرأوا : { وفصاله }.
وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب : وفصله ، ومعناه الفطام ، أي في تمام عامين ، عبر عنه بنهايته ، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه.
و { أن اشكر } في موضع نصب ، على قول الزجاج.
وقال النحاس : الأجود أن تكون مفسرة.
{ لي } : أي على نعمة الإيمان.
{ ولوالديك } : على نعمة التربية { إليّ المصير } : توعد أثناء الوصية.
{ وإن جاهداك } إلى : { فلا تطعهما } : تقدم الكلام عليه في العنكبوت ، إلا أن هنا عليّ ، وهناك لتشرك بلام العلة.
وانتصب { معروفاً } على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي صحاباً ، أو مصاحباً معروفاً وعشرة جميلة ، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتهما إذا مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا.
{ واتبع سبيل من أناب إليّ } : أي رجع إلى الله ، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما.
{ ثم إليّ مرجعكم } : أي مرجعك ومرجعهما ، فأجازي كلاً منكم بعمله.
ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة الله ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال : { يا بني إنها إن تك } ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة.
وقرأ نافع : مثقال ، بالرفع على { إن تك } تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو مذكر ، إخبار المؤنث ، لأضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة؛ وباقي السبعة : بالنصب على { إن تك } ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي التي سألت عنها.
وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر؟ أيعلمها الله؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله : { إن تك مثقال حبة }.
وقرأ عبد الكريم الجزري : فتكن ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي : فتكن ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة.
وقرأ قتادة : فتكن ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضاً : أي تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية.
وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة.
قال الزمخشري : فمن نصب يعني مثقال ، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان ، أي كانت مثلاً في الصغر والقماءة ، كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي.
{ يأت بها الله } ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها.
{ إن الله لطيف } ، يتوصل علمه إلى كل خفي.
{ خبير } : عالم بكنهه.
وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها.
وبدأ له بما يتعلق به أولاً ، وهو كينونة الشيء.
{ في صخرة } : وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض.
وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض.
قال ابن عباس : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار.
قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك.
وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهم ، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض. انتهى.
قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي.
وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن.
وفي قوله : { يأت بها الله } دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته.
ولما نهاه أولاً عن الشرك ، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى الله من الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيراً ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف.
إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به.
والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به المفعول ، أي من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي عازم الأمور ، كقوله : { فإذا عزم الأمر } وقال ابن جريج : مما عزمه الله وأمر به؛ وقيل : من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة.
والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة ، لأن الإشارة بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه.
وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأموراً بها في سائر الملل.
والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه.
وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة هذيل.
والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لاطراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلاً للآخر.
{ ولا تصعر خدك للناس } : أي لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله ابن عباس والجماعة.
قال ابن خويز منداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريباً من هذا ابن عطية احتمالاً فقال : ويحتمل أن يريد : ولا سؤالاً ولا ضراعة بالفقر.
قال : والأول ، يعني تأويل ابن عباس والجماعة ، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده.
وقال مجاهد : { ولا تصعر } ، أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه.
وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وزيد بن علي : تصعر ، بفتح الصاد وشد العين؛ وباقي السبعة : بألف؛ والجحدري : يصعر مضارع أصعر.
{ ولا تمش في الأرض مرحاً } : تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً }.
ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار هو في نفسه ممتثلاً للمعروف مزدجراً عن المنكر ، أمر به غيره وناهياً عنه غيره ، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحاً ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ، وهو المتكبر ، ولا الفخور.
قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطي ، ولا يشكر الله.
ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب.
{ واقصد في مشيك واغضض من صوتك } : ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو القصد في المشي ، بحيث لا يبطىء ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامسين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق المتهور.
ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال : كلكم يمشي رويداً ، كلكم يطلب صيداً ، غير عمرو بن عبيد.
وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشياً بين ذلك.
وقيل : معناه : اجعل بصرك موضع قدمك.
وقرىء : وأقصد ، بهمزة القطع : أي سدد في مشيك؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ، ونسبها ابن خالويه للحجاز.
والغض من الصوت : التنقيص من رفعه وجهارته ، والغض : رد طموح الشيء ، كالصوت والنظر والزمام.
وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت ، وتمدح به في الجاهلية ، ومنه قول الشاعر :
جهير الكلام جهير العطاس . . .
جهير الرواء جهير النعيم
ويخطو على الأين خطو الظليم . . .
ويعلو الرجال بخلق عميم
وغض الصوت أوفر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه.
وأنكر : أفعل ، إن بنى من فعل المفعول ، كقولهم : أشغل من ذات النحيين؛ وبناؤه من ذلك شاذ.
والأصوات : أصوات الحيوان كلها.
وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات ، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة.
شبه الرافعون أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهاق ، ولم يؤت بأداة التشبيه ، بل أخرج مخرج الاستعارة ، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت.
ولما كان صوت الحمير متماثلاً في نفسه ، لا يكاد يختلف في الفظاعة ، أفرد لأنه في الأصل مصدر.
وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جداً ، جمعت في قوله : { إن أنكر الأصوات } ، فالمعنى : أنكر أصوات الحمير ، بالجمع بغير لام.
وقال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرد عليهم بأنه لو كان خيراً ، فضل به الحمير.
والظاهر أن قوله : { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } من كلام لقمان لابنه ، تنفير له عن رفع الصوت ، ومماثلة الحمير في ذلك.
قيل : هو من كلام الله تعالى ، وفرغت وصية لقمان في قوله : { واغضض من صوتك } رداً لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن.
وقيل : { واقصد في مشيك } : إشارة الى الأفعال ، { واغضض من صوتك } : إشارة إلى الأقوال ، فنبه على التوسط في الأفعال ، وعلى الإقلال من فضول الكلام.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{ سخر لكم } : تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير { ما في السموات } : من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب؛ { وما في الأرض } : من الحيوان ، والنبات ، والمعادن ، والبحار ، وغير ذلك؛ وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء.
وقرأ ابن عباس ، ويحيى بن عمارة : وأصبغ بالصاد ، وهي لغة لبني كلب ، يبدلونها من السين ، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صاداً؛ وباقي القراء : بالسين على الأصل.
وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : { نعمه } ، جمعاً مضافاً للضمير؛ وباقي السبعة ، وزيد بن علي : نعمة ، على الإفراد.
والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة : الإسلام ، والباطنة : الستر.
وعن الضحاك ، الظاهرة : حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : المعرفة.
وقيل : الظاهرة : البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح ، والباطنة : القلب والعقل والفهم.
والذي ينبغي أن يقال : إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلاً.
فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها ، ولا يهتدي إلى العلم بها؟ وانتصب { ظاهرة } على الحال من { نعمه } ، الجمع على الصفة ، ومن نعمة على الإفراد.
وتقدم الكلام على : { ومن الناس } إلى : { منير } ، في الحج ، وعلى ما بعده إلى : { آباءنا } ، في نظيره في البقرة.
{ أوَلو } : كان تقديره : أيتبعونهم في أحوالهم؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء؟ لأنها حال تلف وعذاب.
وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو ، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون ، نحو : اعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق ، { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } وكذلك هذا ، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع.
وقرأ الجمهور :
{ ومن يسلم } ، مضارع أسلم؛ وعلي ، والسلمي ، وعبد الله بن مسلم بن يسار : بتشديد اللام ، مضارع سلم ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة ، والمراد : التفويض إلى الله.
{ فقد استمسك بالعروة الوثقى } : تقدم الكلام عليه في البقرة.
وقال الزمخشري ، من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. انتهى.
ولما ذكر حال الكافر المجادل ، ذكر حال المسلم ، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه.
وقال ابن عطية : والعروة : موضع التعليق ، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله ، فشبه ذلك بالعروة.
وسلى رسوله بقوله : { ومن كفر } ، إلى آخره ، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه ، ولا الإنفكاك منه.
والغلظ يكون في الإجرام ، فاستعير للمعنى ، والمراد : الشدة.
{ ليقولنّ الله } : أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره ، ويدعون مع ذلك إلهاً غيره.
{ قل الحمد لله } على ظهور الحجة عليهم.
{ بل أكثرهم لا يعلمون } : إضراب عن مقدر ، تقديره : ليس دعواهم ، نحو : لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح ، ولا يذهب إليه ذو علم.
ثم أخبر أنه مالك للعالم كله ، وأنه هو الغني ، فلا افتقار له لشيء من الموجودات.
{ الحميد } : المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم.
{ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام } : تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية.
ولما ذكر تعالى أن ما في السموات والأرض ملك له ، وكان ذلك متناهياً ، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها ، فقال : { ولو أن ما في الأرض } ، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد ، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره ، وتقرر ذلك في علم النحو.
و { من شجرة } : تبيين لما ، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه ، وتقديره : ولو أن الذي استقر في الأرض كائناً من شجرة وأقلام خبر لأن ، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعد لو لا يكون اسماً جامداً ولا اسماً مشتقاً ، بل يجب أن يكون فعلاً ، وهو قول باطل ، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه.
قال الشاعر :
ولو أنها عصفورة لحسبتها . . .
مسومة تدعو عبيداً وأيماً
وقال الآخر :
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر . . .
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
وقال آخر :
ولو أن حياً فائت الموت فاته . . .
أخو الحرب فوق القارح القدوان
وهو كثير في لسانهم.
والظاهر أن الواو في قوله : { والبحر } ، في قراءة من رفع ، وهم الجمهور ، واو الحال؛ والبحر مبتدأ ، و { يمده } الخبر ، أي حال كون البحر ممدوداً.
وقال الزمخشري : عطفاً على محل إن ومعمولها على ولو ، ثبت كون الأشجار أقلاماً ، وثبت أن البحر ممدوداً بسبعة أبحر. انتهى.
وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد ، حيث زعم أن { أن } في موضع رفع على الفاعلية.
وقال بعض النحويين : هو عطف على أن ، لأنها في موضع رفع بالإبتداء ، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول : إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء ، ولولا يليها المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة شعر ، نحو قوله :
لو بغير الماء حلقي شرق . . .
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها ، وهما رفع بالابتداء ، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ ، إذ يصير التقدير : ولو البحر ، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ، إلا أنه قد يقال : إنه يجوز في المعطوف عليه نحو : رب رجل وإخيه يقولان ذلك.
وقرأ عبد الله : وبحر يمده ، بالتنكير بالرفع ، والواو للحال ، أو للعطف على ما تقدم؛ وإن كانت الواو واو الحال ، كان بحر ، وهو نكرة ، مبتدأ ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته ، نحو قوله :
سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا . . .
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
وقرأ الجمهور : { يمده } بالياء ، من مد؛ وابن مسعود ، وابن عباس : بتاء التأنيث ، من مد أيضاً؛ وعبد الله أيضاً ، والحسن ، وابن مطرف ، وابن هرمز : بالياء من تحت ، من أمد؛ وجعفر بن محمد : والبحر مداده ، أي يكتب به من السواد.
وقال ابن عطية : هو مصدر. انتهى.
{ من بعده } : أي من بعد نفاد ما فيه ، { سبعة أبحر } : لا يراد به الاقتصار على هذا العدد ، بل جيء للكثرة ، كقوله : المؤمن من يأكل في معي واحد ، والكافر في سبعة أمعاء ، لا يراد به العدد ، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة.
ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعاً في الأصل للتكثير ، وإن كان مراداً به التكثير ، جاء مميزه بلفظ القلة ، وهو أبحر ، ولم يقل بحور ، وإن كان لا يراد به أيضاً إلا التكثير ، ليناسب بين اللفظين.
فكما يجوز في سبعة ، واستعمل للتكثر ، كذلك يجوز في أبحر ، واستعمل للتكثير.
وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى ، وكتب بها الكتاب كلمات الله.
{ ما نفدت } ، والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر ، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، { ما نفدت } ، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده ، كما قال : { لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } الآية.
وقال الزمخشري : فإن قلت : زعمت أن قوله : { والبحر يمده } ، حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال ، قلت : هو كقوله :
وقد اغتدي والطير في وكناتها . . .
وجئت والجيش مصطف ، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف.
يجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض. انتهى.
وهذا الذي جعله سؤالاً وجواباً من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه ، وهو أن الجملة الإسمية إذا كانت حالاً بالواو ، لا يحتاج إلى ضمير يربط ، واكتفى بالواو فيها.
وأما قوله : وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف ، فليس بجيد ، لأن الظرف إذا وقع حالاً ، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف.
والجملة الاسمية إذا كانت حالاً بالواو ، فليس فيها ضمير منتقل.
وأما قوله : ويجوز ، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين ، حيث يجعلون أل عوضاً من الضمير.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : { من شجرة } ، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاماً.
انتهى.
وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع المعرفة ، ونظيره : { ما ننسخ من آية } { ما يفتح الله للناس من رحمة } { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } وكقول العرب : هو أول فارس ، وهذا أفضل عالم ، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب ، وأول الفرسان.
أخبروا بالمفرد والنكرة ، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل ، وهو مهيع في كلام العرب معروف.
وكذلك يتقدر هذا من الشجرات ، أو من الأشجار.
وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل ، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة ، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم ، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به ، ولا يحيط إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور : { ما نفدت كلمات الله } ، بالألف والتاء.
وقرأ زيد بن علي : كلمة الله ، على التوحيد.
وقرأ الحسن : ما نفد ، بغير تاء ، كلام الله.
قال أبو علي : المراد بالكلمات ، والله أعلم : ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود.
وقالت فرقة : المراد بكلمات الله : معلوماته.
وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل ، فهلا قيل : كلم الله؟ قلت : معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار ، فكيف بكلمة؟ انتهى.
وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة ، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية ، أو أضيفت ، عمت وصارت لا تخص القليل ، والعام مستغرق لجميع الأفراد.
{ إن الله عزيز } : كامل القدرة ، فمقدوراته لا نهاية لها.
{ حكيم } : كامل العلم ، فمعلوماته لا نهاية لها.
ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه ، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر.
{ إلا كنفس واحدة } : إلا كخلق نفس واحدة وبعثها ، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتي : كونوا فيكونون ، فالقليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت في قدرته.
وقال النقاش : هذه الآية في أبيّ بن خلف ، وأبي الأسد ، ونبيه ومنبه ابني الحجاج ، قالوا : يا محمد : إنا نرى الطفل يخلق بتدريج ، وأنت تقول : الله يعيدنا دفعة واحدة ، فنزلت.
{ إن الله سميع بصير } : سميع كل صوت ، بصير كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض ، فكذلك الخلق والبعث.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{ يولج الليل } : الجملتين شرحت في آل عمران وهنا.
{ إلى أجل } ، ويدل على الأنتهاء ، أي : يبلغه وينتهي إليه.
وفي الزمر : { لأجل } ويدل على الاختصاص بجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى ، وجري الشمس مختص بآخر السنة ، وجري القمر بآخر الشهر؛ فكلا المعنيين متناسب لجريهما ، فلذلك عدى بهما.
وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : بما يعملون ، بياء الغيبة.
{ ذلك بأن الله } الآية ، تقدم شرحها في الحج وهنا.
{ وأن ما يدعون من دونه الباطل } ، وفي الحج { من دونه هو الباطل } بزيادة هو.
ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وإمتنانه بذلك علينا ، ذكر أيضاً من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان.
وقرأ الجمهور : { بنعمة الله } على الإفراد اللفظي.
وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر : بنعمات الله ، بكسر النون وسكون العين جمعاً بالألف والتاء.
وقرأ ابن أبي عبلة : بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء ، وتحتمل السببية : أي تجري بسبب الريح وتسخير الله ، وتحتمل الحالية ، أي مصحوبة بنعمة الله ، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات.
وقال ابن عطية : الباء للالصاق. انتهى.
وقرأ موسى بن الزبير : { الفلك } ، بضم اللام.
و { صبار شكور } : بنيتا مبالغة ، وفعال أبلغ لزيادة حروفه.
ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر ، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف ، وتقدم ذكر النعمة ، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر ، وبالشكر على ما أنعم به تعالى ، وشبه الموج في ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل ، وهو السحاب.
وقيل : كالظلل : كالجبال ، أطلق على الجبل ظلة.
وقرأ محمد بن الحنفية : كالظلال ، وهما جمع ظلة ، نحو : قلة وقلل وقلال.
وقوله : { وإذا غشيهم } ، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في { ليريكم } إلى ضمير الغيبة في { غشيهم }.
و { موج } : اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث ، فهو يدل على الجمع ، ولذلك شبهه بالجمع.
{ فمنهم مقتصد } ، قال الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم.
وقال مجاهد : مقتصد على كفره : أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة ، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها.
قيل : أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر.
قال الزمخشري : يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا ينبغي لأحد قط. انتهى.
وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفاً ، والعامل فيه غير ماضٍ ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك.
فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره : ومنهم جاحد ودل عليه ، قوله : { وما يجحد بآياتنا }.
وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه : مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موف بما عاهد الله عليه في البحر ، وختم هنا ببنيتي مبالغة ، وهما : { ختار } ، و { كفور }.
فالصبار الشكور معترف بآيات الله ، والختار الكفور يجحد بها.
وتوازنت هذه الكلمات لفظاً ومعنىً.
أما لفظاً فظاهر ، وأما معنىً فالختار هو الغدار ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبارّ يفوّض أمره إلى الله ، وأما الغدار فيعهد ويغدر ، فلا يصبر على العهد : وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة.
ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أوّل السورة ، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.
{ لا يجزي } : لا يقضي ، ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي ، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة.
ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه ، بدأ به أولاً ، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد ، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال ، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل ، لأنه يدل على الثبوت ، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة.
والجملة من لا يجزي صفة ليوم ، والضمير محذوف ، أي منه ، فإما أن يحذف برمته ، وإما على التدريج حذف الخبر ، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف.
وقرأ الجمهور : لا يجزي مضارع جزى؛ وعكرمة : بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول؛ وأبو السماك ، وعامر بن عبد الله ، وأبو السوار : لا يجزىء ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزاً ، ومعناه : لا يغني؛ يقال : أجزأت عنك جزاء فلان : أي أغنيت.
ويجوز في { ولا مولود } وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفاً على والد ، والجملة من قوله : { هو جاز } ، صفة لمولود.
والثاني : أن يكون مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ، وجاز خبره ، والجملة خبر للأول ، وجاز الابتداء به ، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك ، وهو النفي.
وذهل المهدوي فقال : لا يكون { مولود } مبتدأ ، لأنه نكرة وما بعده صفة ، فيبقى بلا خبر و { شيئاً } منصوب بجاز ، وهو من باب الأعمال ، لأنه يطلبه { لا يجزي } ويطلبه { جاز } ، فجعلناه من أعمال الثاني ، لأنه المختار.
وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : نغرنكم ، بالنون الخفيفة.
وقرأ سماك بن حرب ، وأبو حيوة : الغرور بالضم ، وهو مصدر؛ والجمهور : بالفتح ، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان ، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : قوله : { ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً } هو وارد على طريق من التوكيد ، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه.
قلت : الأمر كذلك ، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : { هو } ، وقوله : { مولود } ، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين ، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا لهم ، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً ، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد.
ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده ، لأن الولد يقع على الولد ، وولد الولد بخلاف المولود ، فإنه لمن ولد منك.
{ إن الله عنده علم الساعة } : يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال : يا رسول الله ، أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض ، وقد أبطأت عني السماء ، متى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي ، فقد اشتملت على ما في بطنها ، أذكر أم أنثى؟ وعلمت ما علمت أمس ، فما أعمل غداً؟ وهذا مولدي قد عرفته ، فأين أموت؟ فنزلت.
وفي الحديث : « خمس لا يعلمهنّ إلا الله » ، وتلا هذه الآية.
وعلم : مصدر أضيف إلى الساعة ، والمعنى : علم يقين ، وفيها : { وينزل الغيث } في آياته من غير تقديم ولا تأخير.
{ ما في الأرحام } من ذكر أم أنثى ، تام أو ناقص ، { وما تدري نفس } ، برة أو فاجرة.
{ ماذا تكسب غداً } من خير أو شر ، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده.
{ بأي أرض تموت } : وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ، ثم تدفن في مكان لم يحظر لها ببال قط.
وأسند العلم إلى الله ، والدراية للنفس ، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة؛ ولذا وصف الله بالعالم ، ولا يوصف بالداري.
وأما قوله :
لاهم لا أدري وأنت الداري . . .
فقول عربي جلف جاهلي ، جاهل بما يطلق على الله من الصفات ، وما يجوز منها وما يمتنع.
وقرأ الجمهور : { بأي أرض }.
وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة : بأية أرض ، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت ، وهي لغة قليلة فيهما.
كما أن كلاًّ إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث ، تقول : كلهنّ فعلن ذلك ، وتدري معلقة في الموضعين.
فالجملة من قوله : { ماذا تكسب } في موضع مفعول { تدري } ، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولاً منصوباً بتدري ، كأنه قال : وما تدري نفس الشيء التي تكسب غداً.
وبأي متعلق بتموت ، والباء ظرفية ، أي : في أي أرض؟ فالجملة في موضع نصب بتدري.
ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس ، لأنها جواب لسائل سأل ، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو ، وهذه الخمس.
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
هذه السورة مكية ، قيل : إلا خمس آيات : { تتجافى } إلى { تكذبون }.
وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة : { أفمن كان مؤمناً }.
قال كفار قريش : لم يبعث الله محمداً إلينا ، وإنما الذي جاء به اختلاق منه ، فنزلت.
ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء الخلق ، وهو الأصل الأول؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة.
و { الكتاب } : القرآن.
قال الحوفي : { تنزيل } مبتدأ ، { ولا ريب } خبره.
ويجوز أن يكون { تنزيل } خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و { الم } بدل على الحروف.
وقال أبو البقاء : { الم } مبتدأ ، و { تنزيل } خبره بمعنى المنزل ، و { لا ريب فيه } حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و { من رب العالمين } متعلق بتنزيل أيضاً.
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه ، والعامل فيه الظرف.
ويجوز أن يكون { تنزيل } مبتدأ ، و { لا ريب فيه } الخبر ، و { من رب العالمين } حال كما تقدم.
ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن المصدر قد أخبر عنه.
ويجوز أن يكون الخبر { من رب العالمين } ، و { لا ريب } حال من الكتاب ، وأن يكون خبراً بعد خبر. انتهى.
والذي أختاره أن يكون { تنزيل } مبتدأ ، و { لا ريب } اعتراض ، و { من رب العالمين } الخبر.
وقال ابن عطية : { من رب العالمين } متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلق بقوله : { لا ريب } ، أي لا شك ، من جهة الله تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ، فذلك لا يراعى.
والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله : { ريب المنون } انتهى.
وإذا كان { تنزيل } خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه ، لم نقل فيه : إن فيه تقديماً وتأخيراً ، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً.
وأما كونه متعلقاً بلا ريب ، فليس بالجيد ، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود ، لأن المعنى : لا مدخل للريب فيه ، إن تنزيل الله ، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه ، وهو الإعجاز ، فهو أبعد شيء من الريب.
وقولهم : { افتراه } ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله ، فقال ذلك حسداً ، أو حكماً من الله عليه بالضلال.
وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين.
ويشهد لوجاهته قوله : { أم يقولون افتراه } ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين.
وكذلك قوله : { بل هو الحق من ربك } ، وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم ، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه.
ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : { أم يقولون افتراه } ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك.
انتهى ، وهو كلام فيه تكثير.
وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث؛ ومن ربك في موضع الحال ، أي كائناً من عند ربك ، وبه متعلق بلتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر.
والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم.
أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } أي شريعته ودينه؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر ، بل يكون نذيراً لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد ، عليهما السلام.
وقال الزمخشري : { ما أتاهم من نذير من قبلك } ، كقوله : { ما أنذر آباؤهم } وذلك أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة.
قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان. انتهى.
والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله : { ما أتاهم } ، و { ما أنذر آباؤهم } أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم.
{ من نذير } : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك.
وكذلك { لتنذر قوماً ما أنذر أباؤهم } أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى اثنين.
قال تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة } وهذا القول جار على ظواهر القرآن.
قال تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } و { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً } ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار ، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته.
و { لعلهم يهتدون } : ترجية من رسول الله ، كما كان في قوله : { لعله يتذكر أو يخشى } من موسى وهارون.
قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. انتهى.
يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ، وهذه نزغة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما يريد العبد ، تعالى الله عن ذلك.
ولما بين تعالى أمر الرسالة ، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم.
وتقدم الكلام على { في ستة أيام } في الأعراف.
{ ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } : أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً.
{ أفلا تذكرون } موجد هذا العالم ، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟
{ يدبر الأمر } ، الأمر : واحد الأمور.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك : ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه.
{ ثم يعرج إليه } : أي يصعد ، خبر ذلك { في يوم } من أيام الدنيا ، { مقداره } : أن لو سير فيه السير المعروف من البشر { ألف سنة } ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام.
وقال مجاهد أيضاً : الضمير في مقداره عائد على التدبير ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر.
وقال مجاهد أيضاً : يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا ، وهو اليوم عنده ، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها.
فالمعنى : أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخراً ، لأن عاقبة الأمور إليه.
وقيل : المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فينزل القضاء والقدر ، ثم تعرج إليه يوم القيامة ، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم ، حيث ينقطع أمر الأمراء ، أو أحكام الحكام ، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة ، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل ، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى.
وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد.
قال الزمخشري : وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض ، ثم لا يعمل به ، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه ، إلا في مدة متطاولة ، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده ، وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ، ودل عليه قوله على أثره : { قليلاً ما تشكرون }.
قال الزمخشري : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن.
والمشبه بالعروة الإيمان ، قاله : مجاهد.
أو : الإسلام قاله السدّي أو : لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك ، أو : القرآن ، قاله السدّي أيضاً ، أو : السنة ، أو : التوفيق.
أو : العهد الوثيق.
أو : السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه.
{ لا انفصام لها } لا انكسار لها ولا انقطاع ، قال الفراء : الانفصام والانقصام هما لغتان ، وبالفاء أفصح ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الفصم انكسار بغير بينونة ، والقصم انكسار ببينونة.
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة ، وقيل : من الضمير المستكن في الوثقى ، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة ، و : لها ، في موضع الخبر ، فتتعلق بمحذوف أي : كائن لها.
{ والله سميع عليم } أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان ، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، وقيل : سميع لدعائك يا محمد ، عليم بحرصك واجتهادك.
{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } الولي ، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم ، ومعنى : آمنوا ، أرادوا أن يؤمنوا ، والظلمات : هنا الكفر ، والنور الإيمان ، قاله قتادة ، والضحاك ، والربيع.
قيل : وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات ، ووحد النور لأن الإيمان واحد.
والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن ، وإن كان مجازاً فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات.
قال الحسن : معنى يخرجهم يمنعهم ، وإن لم يدخلوا ، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات ، فصار توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة ، قالوا : ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم ، كما قال طفيل الغنوي :
فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة . . .
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
قال الواقدي : كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام ، وهو : { وجعل الظلمات والنور } فإنه أراد به الليل والنهار.
وقال الواسطي : يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها : كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة.
وقال أبو عثمان : يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة.
وقال الزمخشري : آمنوا أرادوا أن يؤمنوا ، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان ، أو : الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم ، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين.
ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول ، وبأنه أبلغ في الامتنان ، لأنه إذا قال : { أحسن كل شيء } ، كأن أبلغ من : أحسن خلق كل شيء ، لأنه قد يحسن الخلق ، وهو المجاز له ، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً.
فإذا قال : { أحسن كل شيء } ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ، بمعنى : أنه وضع كل شيء في موضعه. انتهى.
وقيل : في هذا الوجه ، وهو عود الضمير في خلقه على الله ، يكون بدلاً من كل شيء ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة.
ومعنى { أحسن } : حسن ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة.
فالمخلوقات كلها حسنة ، وإن تفاوتت في الحسن ، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها.
ولهذا قال ابن عباس : ليست القردة بحسنة ، ولكنها متقنة محكمة.
وعلى قراءة من سكن لام خلقه ، قال مجاهد : أعطى كل جنس شكله ، والمعنى : خلق كل شيء على شكله الذي خصه به.
وقال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه ، كأنه أعلمهم ذلك ، فيكون كقوله : { أعطى كل شيء خلقه } وقرأ الجمهور : بدأ بالهمز؛ والزهري : بالألف بدلاً من الهمزة ، وليس بقياس أن يقول في هدأ : هدا ، بإبدال الهمزة ألفاً ، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين؛ على أن الأخفش حكى في قرأت : قريت ونظائره.
وقيل : وهي لغية؛ والأنصار تقول في بدأ : بدى ، بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وهي لغة لطي.
يقولون في فعل هذا نحو بقى : بقأ ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى ، ثم صار بدأ ، أو على لغة الأنصار.
وقال ابن رواحة :
باسم الإله وبه بدينا . . .
ولو عبدنا غيره شقينا
{ وبدأ خلق الإنسان } : هو آدم ، عليه الصلاة والسلام.
{ ثم جعل نسله } : أي ذريته.
نسل من الشيء : انفصل منه.
{ ثم سواه } : قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب ، لا يعلم حقيقته إلا هو ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى.
{ وجعل لكم } : التفات ، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب ، وتعديد للنعم ، وهي شاملة لآدم؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته.
والظاهر أن { وقالوا } ، الضمير لجمع ، وقيل : القائل أبيّ بن خلف ، وأسند إلى الجمع لرضاهم به ، والناصب للظرف محذوف يدل عليه { أئنا } وما بعدها تقديره انبعث.
{ أئذا ضللنا } ، ومن قرأ إذا بغير استفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي : إذا ضللنا في الأرض نبعث ، ويكون إخباراً منهم على طريق الاستهزاء.
وكذلك من قرأ : إنا على الخبر ، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر.
وقرأ الجمهور : بفتح اللام ، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة ، وهي اللغة الشهيرة الفصحية ، وهي لغة نجد.
قال مجاهد : هلكنا ، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك ، وأصله من : ضل الماء في اللبن ، إذا ذهب.
وقال قطرب : ضللنا : غبنا في الأرض ، وأنشد قول النابغة الذبياني :
فآب مضلوه بعين جلية . . .
وغودر بالجولان حزم ونائل
وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب : بكسر اللام ، والمضارع بفتحها ، وهي لغة أبي العالية.
وقرأ أبو حيوة : ضللنا ، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة ، ورويت عن علي.
وقرأ علي ، وابن عباس ، والحسن ، والأعمش ، وأبان ين سعيد بن العاص : صللنا ، بالصاد المهملة وفتح اللام ، ومعناه : أنتنا.
وعن الحسن : صللنا ، بكسر اللام ، يقال : صل يصل ، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع؛ وصل يصل : بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع؛ وأصل يصل ، بالهمزة على وزن أفعل.
قال الشاعر :
تلجلج مضغة فيها أبيض . . .
أصلت فهي تحت الكشح داء
وقال الفراء : معناه صرنا بين الصلة ، وهي الأرض اليابسة الصلبة.
وقال النحاس : لا نعرف في اللغة صللنا ، ولكن يقال : أصل اللحم وصل ، وأخم وخم إذ أنتن ، وحكاه غيره.
{ بل هم بلقاء ربهم كافرون } : جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه.
ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة ، من قبض أرواحهم ، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث.
و { ملك الموت } : اسمه عزرائيل ، ومعناه عبد الله.
وقرأ الجمهور : { ترجعون } ، مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل.
{ ولو ترى } : الظاهر أنه خطاب للرسول ، وقيل : له ولأمته ، أي : يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب.
وقال أبو العباس : المعنى يا محمد قل للمجرم.
{ ولو ترى } : رأى أن الجملة معطوفة على { يتوفاكم } ، داخلة تحت { قل } ، فلذلك لم يجعله خطاباً للرسول.
والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني ، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، والجواب محذوف ، أي لرأيت أسوأ حال يرى.
ولو تعليق في الماضي ، وإذ ظرف للماضي ، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاً منزلة الماضي.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به التمني ، كأن قيل : وليتك ترى ، والتمني له ، كما كان الترجي له في : { لعلهم يهتدون } ، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له ، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو امتناعية ، وقد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمراً فظيعاً.
ويجوز أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا يريد به مخاطباً بعينه ، وكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه. انتهى.
والتمني بلو في هذا الموضع بعيد ، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد ، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهي عبارة سيبويه ، وقوله قد حذف جوابها وتقديره : وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها ، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني ، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه.
قال الشاعر :
فلو نبش المقابر عن كليب . . .
فيخبر بالذنائب أي زير
بيوم الشعشمين لقر عينا . . .
وكيف لقاء من تحت القبور
وقال الزمخشري : وقد تجيء لو في معنى التمني ، كقولك : لو تأتيني فتحدثني ، كما تقول : ليتك تأتيني فتحدثني.
فقال ابن مالك : إن أراد به الحذف ، أي وددت لو تأتيني فصحيح ، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح ، لأنها لو كانت موضوعة له ، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني.
لا يقال : تمنيت ليتك تفعل ، ويجوز : تمنيت لو تقوم.
وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي ، وبين إلا واستثنى. انتهى.
{ ناكسوا رؤوسهم } : مطرقوها ، من الذل والحزن والهم والغم والذم.
وقرأ زيد بن علي : نكسوا رؤوسهم ، فعلاً ماضياً ومفعولاً؛ والجمهور : اسم فاعل مضاف.
{ عند ربهم } : أي عند مجازاته ، وهو مكان شدة الخجل ، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل.
{ ربنا } : على إضمار يقولون ، وقدره الزمخشري : يستغيثون بقولهم : { ربنا أبصرنا } ما كنا نكذب؛ { وسمعنا } : ما كنا ننكر؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك ، وسمعنا تصديق رسلك ، وكنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا ، فارجعنا إلى الدنيا.
{ إنا موقنون } : أي بالبعث.
قاله النقاش؛ وقيل : مصدقون بالذي قال الرسول ، قاله يحيى بن سلام.
وموقنون : مشعر بالالتباس في الحال ، أي حين أبصروا وسمعوا.
وقيل : موقنون : زالت الآن عنا الشكوك ، ولم نكن في الدنيا نتدبر ، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع.
وقيل : لك الحجة ، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا ، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا ، وهذا اعتراف منهم.
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{ لآتينا كل نفس هداها } : أي اخترعنا الإيمان فيها ، كقوله : { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } و { لجمعهم على الهدى } و { لجعل الناس أمة واحدة } وقال الزمخشري : على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر.
ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله : { فذوقوا بما نسيتم } ؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها.
والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة ، وسلط عليكم نسيانها.
ثم قال : { إنا نسيناكم } على المقابلة : أي جازيناكم جزاء نسيانكم.
وقيل : هو بمعنى الترك ، قاله ابن عباس وغيره ، أي تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة. انتهى.
وقوله : على طريق الإلجاء والقسر ، هو قول المعتزلة.
وقالت الإمامية : يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ، ولم يعاقب أحداً ، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم ، فلا يجب على الله هداية الكل إليها.
قالوا : بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب ، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله ، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى.
و { هذا } : صفة ليومكم ، ومفعول { فذوقوا } محذوف ، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم { لقاء يومكم هذا } ، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم.
وفي استئناف قوله : { إنا نسيناكم } ، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
{ وإنما يؤمن بآياتنا } : أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى ، من سجودهم عند التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير ، وقول الهجر ، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن.
وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع.
وروي عن ابن جريج : المسجد مكان الركوع ، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع ، واستدل بقوله : { وخرّ راكعاً وأناب } { تتجافى جنوبهم } : أي ترتفع وتتنحى ، يقال : جفا الرجل الموضع : تركه.
قال عبد الله بن رواحة :
نبي تجافى جنبه عن فراشه . . .
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الزجاج والرماني : التجافي : التنحي إلى جهة فوق.
والمضاجع : أماكن الاتكاء للنوم ، الواحد مضجع ، أي هم منتبهون لا يعرفون نوماً.
وقال الجمهور : المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل ، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم.
وفي الحديث ، ذكر قيام الليل ، ثم استشهد بالآية ، يعني الرسول.
وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك : تجافي الجنب : هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة.
وقال الحسن : هو التهجد؛ وقال أيضاً : هو وعطاء : هو العتمة.
وفي الترمذي ، عن أنس : نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.
وقال قتادة ، وعكرمة : التنفل ما بين المغرب والعشاء ، { يدعون } : حال ، أو مستأنف خوفاً وطمعاً ، مفعول من أجله ، أو مصدران في موضع الحال.
والظاهر أن الدعاء هو : الابتهال إلى الله ، وقيل : الصلاة.
وقرأ الجمهور : { ما أخفي لهم } ، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول؛ وحمزة ، والأعمش ، ويعقوب : بسكون الياء ، فعلاً مضارعاً للمتكلم؛ وابن مسعود : وما نخفي ، بنون العظمة؛ والأعمش أيضاً : أخفيت.
وقرأ محمد بن كعب : ما أخفي ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل.
وقرأ الجمهور : { من قرة } ، على الإفراد.
وقرأ عبد الله ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعوف العقيلي : من قرات ، على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و { ما أخفي } يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية ، فيكون { تعلم } متعلقة.
والجملة في موضع المفعول ، إن كان { تعلم } مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين ، وتقدم تفسيره في { قرة عين } في الفرقان.
وفي الحديث ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرأوا إن شئتم : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } » وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره.
{ ولا تعلم نفس } : نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك ، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم ، لا يعلمه إلا هو ، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها ، بل ولا تفاصيلها.
وقال الحسن : أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
{ جزاء بما كانوا يعملون } ، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح.
وقال الزمخشري : فحسم أطماع المتمنين.
انتهى ، وهذه نزغة اعتزالية.
{ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } ، قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة.
تلاحياً ، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لساناً ، وأحدّ سناناً ، وأرد للكتيبة.
فقال له علي : اسكت ، فإنك فاسق.
قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما.
وقال الزجاج ، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط.
فعلى هذا تكون الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدنية ، وإنما قتل بطريق مكة ، منصرف بدر.
والجمع في { لا يستوون } ، والتقسيم بعده ، حمل على معنى من.
وقيل : { لا يستوون } لاثنين ، وهو المؤمن والفاسق ، والتثنية جمع.
وقال الزجاج : ونزول الآية في علي والوليد ، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد.
والجمهور : { جنات } بالجمع.
وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس ، قال : يأوي إليها أرواح الشهداء.
وقيل : هي عن يمين العرش.
وقرأ الجمهور : { نُزُلاً } بضم الزاي؛ وأبو حيوة : بإسكانها.
والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف.
{ وأما الذين فسقوا } : أي بالكفر ، { فمأواهم النار }.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ، كقوله : { فبشرهم بعذاب أليم } انتهى وهذا فيه بعد.
وإنما يذهب إلى مثل { فبشرهم } إذا كان مصرحاً به فيقول : قام مقام التبشير العذاب ، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع.
أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار ، فليس بجيد.
و { العذاب الأدنى } ، قال أبيّ ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال.
وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ، نحو يوم بدر.
وقال مجاهد : القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر.
وقال النخعي ، ومقاتل : هو السنون التي أجاعهم الله فيها.
وقال ابن عباس أيضاً : هو الحدود.
وقال أبيّ أيضاً : هو البطشة واللزام والدخان.
و { العذاب الأكبر } ، قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة.
وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار.
وقيل : هو القتل والسبي والأسر.
وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف.
{ لعلهم يرجعون } ، قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب.
وقال أبو العالية : لعلهم يتوبون.
وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان.
وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله : { فارجعنا نعمل صالحاً }.
وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } انتهى.
ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر.
لكن الأدنى يتضمن الأصغر ، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ، وهو العذاب العاجل.
والأكبر يتضمن الأبعد ، لأنه واقع في الآخرة ، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده ، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو لا يختارها ، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالاً على عجزك.
انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة ، وقد ردّ عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام.
{ ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } ، بخلاف المؤمنين ، إذا ذكروا بها خروا سجداً.
{ ثم أعرض عنها } ، قال الزمخشري : ثم للاستبعاد ، والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل؛ والعادة ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز ، ومنه ثم في بيت الشاعر :
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة . . .
يرى غمرات الموت ثم يزورها
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى.
{ من المجرمين } : عام في كل من أجرم ، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا : هو : الكفر.
وقال يزيد بن رفيع : هي في أهل القدر ، وقرأ : { إن المجرمين } إلى قوله : { بقدر } وفي الحديث : « ثلاث من كن فيه فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالماً ».
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
لما قرر الأصول الثلاثة : الرسالة ، وبدء الخلق ، والمعاد ، عاد إلى الأصل الذي بدأ به ، وهو الرسالة التي ليست بدعاً في الرسالة ، إذ قد سبق قبلك رسل.
وذكر موسى عليه السلام ، لقرب زمانه ، وإلزاماً لمن كان على دينه؛ ولم يذكر عيسى ، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة ، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته ، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى.
و { الكتاب } : التوراة.
وقرأ الحسن : في مرية ، بضم الميم ، والظاهر أن الضمير عائد على موسى ، مضافاً إليه على طريق المفعول ، والفاعل محذوف ضمير الرسول ، أي من لقائك موسى ، أي في ليلة الإسراء ، أي شاهدته حقيقة ، وهو النبي الذي أوتي التوراة ، وقد وصفه الرسول فقال : « آدم طوال جعد ، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء » ، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف.
وقال المبرد : حين امتحن الزجاج بهذه المسألة.
وقيل : عائد على الكتاب ، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف ، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه ، وإما بالعكس ، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه.
وقيل : يعود على الكتاب على تقدير مضمر ، أي من لقاء مثله ، أي : إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى ، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره ، ونحوه من لقائه قوله : { وإنك لتُلَقّى القرآن }.
وقال الحسن : يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى ، وذلك إن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال : ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله ، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس.
انتهى ، وهذا قول بعيد.
وأبعد من هذا ، من جعله عائداً على ملك الموت الذي تقدم ذكره ، والجملة اعتراضية.
وقيل : عائد على الرجوع إلى الآخرة ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : { ثم إلى ربكم ترجعون }.
{ فلا تكن في مرية لقائه } : أي من لقاء البعث ، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها ، ولكن نقلها المفسرون ، فاتبعناهم.
والضمير في { وجعلناه } لموسى ، وهو قول قتادة.
وقيل : للكتاب ، جعله هادياً من الضلالة؛ وخص بني إسرائيل بالذكر ، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل.
{ وجعلنا منهم } : أي من بني إسرائيل ، { أئمة } : قادة يقتدى بهم.
وقرأ الجمهور : { لما صبروا } ، بفتح اللام وشد الميم.
وعبدالله وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، ورويس : بكسر اللام وتخفيف الميم.
{ وكانوا } : يحتمل أن يكون معطوفاً على { صبروا } ، فيكون داخلاً في التعليق.
ويحتمل أن يكون عطفاً على { وجعلنا منهم }.
وقرأ عبدالله أيضاً : بما صبروا ، بباء الجر ، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل.
والفصل : يوم القيامة يعم الخلق كلهم.
{ أو لم يهد لهم } : تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعراباً وقراءة وتفسيراً في طه ، إلا أن هنا : { من قبلِهم } و { يسمعون } ، وهناك : { قبلَهم } ، و { لأولي النهى } ويسمعون ، والنهي من الفواصل.
{ أو لم يروا أنا نسوق الماء } : أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا ، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث ، وتقدّم تفسير { الجزر } في الكهف ، وكل أرض جزر داخلة في هذا ، فلا تخصيص لها بمكان معين.
وقال ابن عباس : هي أرض أبين من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر.
وقرىء : الجرز ، بسكون الراء.
{ فنخرج به } : أي بالماء ، وخص الزرع بالذكر ، وإن كان يخرج الله به أنواعاً كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره ، تشريفاً للزرع ، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات ، وأوقع الزرع موقع النبات.
وقدمت الأنعام ، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول ، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب.
ألا ترى أن القصيل ، وهو شعير يزرع ، تأكله الأنعام قبل أن يسبل؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع ، أو لأنه غذاء الدواب ، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره ، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف ، وهم بنو آدم.
وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية : يأكل ، بالياء من أسفل.
وقرأ الجمهور : { يبصرون } ، بياء الغيبة؛ وابن مسعود : بتاء الخطاب.
وجاءت الفاصلة : { أفلا يبصرون } ، لأن ما سبق مرئي ، وفي الآية قبله مسموع ، فناسب : { أفلا يسمعون }.
ثم أخبر تعالى عن الكفرة ، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب.
و { الفتح } : الحكم ، قاله الجمهور ، وهو الذي يترتب عليه قوله : { قل يوم الفتح } الخ ، ويضعف قول الحسن ومجاهد : فتح مكة ، لعدم مطابقته لما بعده ، لأن من آمن يوم فتح مكة ، إيمانه ينفعه ، وكذا قول من قال : يوم بدر.
{ ولا هم ينظرون } : أي لا يؤخرون عن العذاب.
ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء ، وقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في حلول العذاب ، فلم تنظروا ، فيوم منصوب بلا ينفع.
ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم.
{ إنهم منتظرون } للغلبة عليكم لقوله : { فتربصوا إنا معكم متربصون } وقيل : إنهم منتظرون العذاب ، أي هذا حكمهم ، وإن كانوا لا يشعرون.
وقرأ اليماني : منتظرون ، بفتح الظاء ، اسم مفعول؛ والجمهور : بكسرها ، اسم فاعل ، أي منتظر هلاكهم ، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم ، يعني : إنهم هالكون لا محالة ، أو : وانتظر ذلك ، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
هذه السورة مدنية.
وتقدم أن نداءه ، صلى الله عليه وسلم : { يأ أيها النبي } ، { يا أيها الرسول } هو على سبيل التشريف والتكرمة والتنويه بمحله وفضيلته ، وجاء نداء غيره باسمه ، كقوله : { يا آدم } { يا نوح } { يا إبراهيم } { يا موسى } { يا داود } { يا عيسى } وحيث ذكره على سبيل الأخبار عنه بأنه رسوله ، صرح باسمه فقال : { محمد رسول الله } { وما محمد إلا رسول } أعلم أنه رسوله ، ولقنهم أن يسموه بذلك.
وحيث لم يقصد الإعلام بذلك ، جاء اسمه كما جاء في النداء : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } { وقال الرسول يا رب } وغير ذلك من الآي.
وأمره بالتقوى للمتلبس بها ، أمر بالديموية عليها والازدياد منها.
والظاهر أنه أمر للنبي ، وإذا كان هو مأموراً بذلك ، فغيره أولى بالأمر.
وقيل : هو خطاب له لفظاً ، وهو لأمّته.
وروي أنه لما قدم المدينة ، وكان يحب إسلام اليهود ، فبايعه ناس منهم على النفاق ، وكان يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح في طرق المخادعة ، ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم ، فنزلت تحذيراً له منهم وتنبيهاً على عداوتهم.
وروي أيضاً أن أبا سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت بينهم وبينه ، وقام عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع ، وندعك وربك؛ فشق ذلك عليه وعلى المؤمنين ، وهموا بقتلهم ، فنزلت.
وناسب أن نهاه عن طاعة الكفار ، وهم المتظاهرون به ، وعن طاعة المنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
فالسببان حاويان الطائفتين ، أي : ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، والمنافقين من أهل المدينة ، فيما طلبوا إليك.
وروي أن أهل مكة دعوه إلى أن يرجع إلى دينهم ، ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته؛ وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ، فنزلت.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح ، وهو الفصل بينهم ، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم ، فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله ، ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به.
{ إن الله كان عليماً حكيماً } : عليماً بالصواب من الخطأ ، والمصلحة من المفسدة؛ حكيماً لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة؛ أو عليماً حيث أمر بتقواه ، وأنها تكون عن صميم القلب ، حكيماً حيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين.
وقيل : هي تسلية للرسول ، أي عليماً بمن يتقي ، حكيماً في هدي من شاء وإضلال من شاء.
ثم أمره باتباع ما أوحي إليه ، وهو القرآن ، والاقتصار عليه ، وترك مراسيم الجاهلية.
وقرأ أبو عمرو : بما يعملون ، الأولى والثانية بياء الغيبة؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ، فجاز في الأولى أن يكون من باب الالتفات ، وجاز أن يكون مناسبة لقوله : { واتبع } ، ثم أمره بتفويض أمره إلى الله.