كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
وتقدم الكلام في { كفى بالله } في أول ما وقع في القرآن.
روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم يقال له : أبو معمر جميل بن أسد ، وقيل : حميد بن معمر بن حبيب بن وهب بن حارثة بن جمح ، وفيه يقول الشاعر :
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما . . .
قضى وطراً منها جميل بن معمر
يدعي أن له قلبين ، ويقال له : ذو القلبين ، وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم؛ فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت.
وقال الحسن : هم جماعة ، يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني.
وقيل : إن بعض المنافقين قال إن محمداً له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء ، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه ، فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد.
قيل : وجه نظم هذه الآية بما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بالتقوى ، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله ، فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره ، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره ، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته.
انتهى ، ملخصاً.
ولم يجعل الله للإنسان قلبين ، لأنه إما أن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب ، فلا حاجة إلى أحدهما ، أو غيره ، فيؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً شاكاً موقناً في حال واحدة.
وذكر الجوف ، وإن كان المعلوم أن القلب لا يكون إلا بالجوف ، زيادة للتصوير والتجلى للمدلول عليه ، كما قال تعالى : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } فإذا سمع بذلك ، صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين يسرع إلى إنكار ذلك.
{ وما جعل أزواجكم } : لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها أماً ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك ، وهما حالتان متنافيتان.
وقرأ قالون وقنبل : { اللائي } هنا ، وفي المجادلة والطلاق : بالهمز من غير ياء؛ وورش : بياء مختلسة الكسرة؛ والبزي وأبو عمرو : بياء ساكنة بدلاً من الهمزة ، وهو بدل مسموع لا مقيس ، وهي لغة قريش؛ وباقي السبعة : بالهمز وياء بعدها.
وقرأ عاصم : { تظاهرون } بالتاء للخطاب ، وفي المجادلة : بالياء للغيبة ، مضارع ظاهر؛ وبشد الظاء والهاء : الحرميان وأبو عمرو؛ وبشد الظاء وألف بعدها : ابن عامر؛ وبتخفيفها والألف : حمزة والكسائي؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة؛ وباقي السبعة فيها بشدها.
وقرأ ابن وثاب ، فيما نقل ابن عطية : بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء ، مضارع أظهر؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه : بتخفيف الظاء ، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء.
وقرأ الحسن : تظهرون ، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء ، مضارع ظهر ، مشدد الهاء.
وقرأ هارون ، عن ابي عمرو : تظهرون ، بفتح التاء والهاء وسكون الظاء ، مضارع ظهر ، مخفف الهاء ، وفي مصحف أبي : تتظهرون ، بتاءين.
فتلك تسع قراءات ، والمعنى : قال لها : أنت علي كظهر أمي.
فتلك الأفعال مأخوذة من هذا اللفظ كقوله : لبى المحرم إذا قال لبيك ، وأفف إذا قال أف.
وعدى الفعل بمن ، لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية ، فيتجنبون المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة ، والمعنى : أنه تباعد منها بجهة الظهار وغيره ، أي من امرأته.
لما ضمن معنى التباعد ، عدى بمن ، وكنوا عن البطن بالظهر إبعاداً لما يقارب الفرج ، ولكونهم كانوا يقولون : يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء ، وأهل المدينة يقولون : يجيء الولد إذ ذاك أحول ، فبالغوا في التغليظ في تحريم الزوجة ، فشبهها بالظهر ، ثم بالغ فجعلها كظهر أمه.
وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيراً ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء أبوه وعمه بفدائه ، وذلك قبل بعثة رسول الله ، فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فنزلت.
{ وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الآية : وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى الرجل ولد غيره صار يرثه.
وأدعياء : جمع دعي ، فعيل بمعنى مفعول ، جاء شاذاً ، وقياسه فعلى ، كجريح وجرحى ، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل ، نحو : تقي وأتقياء.
شبهوا أدعياء بتقي ، فجمعوه جمعه شذوذاً ، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا : أسراء وقتلاء ، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا : أسرى وقتلى.
والبنوة تقتضي التأصل في النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل.
{ ذلكم } : أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله ، إذ لا يواطىء اللفظ الاعتقاد ، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه.
{ والله يقول الحق } : أي ما يوافق ظاهراً وباطناً.
{ وهو يهدي السبيل } : أي سبيل الحق ، وهو قوله : { ادعوهم لآبائهم } ، أو سبيل الشرع والإيمان.
وقرأ الجمهور : يهدي مضارع هدى؛ وقتادة : بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال.
و { أقسط } : أفعل التفضيل ، وتقدم الكلام فيه في أواخر البقرة ، ومعناه : أعدل.
ولما أمر بأن يدعى المتبني لأبيه إن علم قالوا : زيد بن حارثة { ومواليكم } ؛ ولذلك قالوا : سالم مولى أبي حذيفة.
وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال : أنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم.
قال الرازي : ولو علم والله أباه حماراً لانتمى إليه ، ورجال الحديث يقولون فيه : نفيع بن الحارث.
وفي الحديث : « من ادعى إلى غير أبيه متعمداً حرم الله عليه الجنة » { فيما أخطأتم به } ، قيل : رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي ، وهذا ضعيف لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي.
وقيل : فيما سبق إليه اللسان.
أما على سبيل الغلط ، إن كان سبق ذلك إليهم قبل النهي ، فجرى ذلك على ألسنتهم غلطاً ، أو على سبيل التحنن والشفقة ، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير : يا بني ، كما يقول للكبير : يا أبي ، على سبيل التوقير والتعظيم.
وما عطف على ما أخطأتم ، أي ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم.
وأجيز أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء ، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح.
{ وكان الله غفوراً } للعامد إذا تاب ، { رحيماً } حيث رفع الجناح عن المخطىء.
وكونه ، عليه السلام ، { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } : أي أرأف بهم وأعطف عليهم ، إذ هو يدعوهم إلى النجاة ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك.
ومنه قوله ، عليه السلام : « أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش » ومن حيث ينزل لهم منزلة الأب.
وكذلك في محصف أبي ، وقراءة عبد الله : { وأزواجه أمهاتهم } : وهو أب لهم ، يعني في الدين.
وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته.
وقد قيل في قول لوط عليه السلام : هؤلاء بناتي ، إنه أراد المؤمنات ، أي بناته في الدين؛ ولذلك جاء : { إنما المؤمنون إخوة } أي في الدين.
وعنه عليه السلام : « ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة.
واقرأوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } ، فأيما مؤمن هلك وترك مالاً ، فليرثه عصبته من كانوا؛ وإن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي » قيل : وأطلق في قوله تعالى : { أولى بالمؤمنين } : أي في كل شيء ، ولم يقيد.
فيجب أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقوقه آثر ، إلى غير ذلك مما يجب عليهم في حقه. انتهى.
ولو أريد هذا المعنى ، لكان التركيب : المؤمنون أولى بالنبي منهم بأنفسهم.
{ وأزواجه أمهاتهم } : أي مثل أمهاتهم في التوقير والاحترام.
وفي بعض الأحكام : من تحريم نكاحهن ، وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب.
وظاهر قوله : { وأزواجه } : كل من أطلق عليها أنها زوجة له ، عليه السلام ، من طلقها ومن لم يطلقها.
وقيل : لا يثبت هذا الحكم لمطلقة.
وقيل : من دخل بها ثبتت حرمتها قطعاً.
وهمَّ عمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونكحت بعده ، فقالت له : ولم هذا ، وما ضرب علي حجاباً ، ولا سميت للمسلمين أماً؟ فكف عنها.
كان أولاً بالمدينة ، توارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، ثم حكى تعالى بأن أولي الأرحام أحق بالتوارث من الأخ في الإسلام ، أو بالهجرة في كتاب الله ، أي في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن من المؤمنين والمهاجرين ، أي أولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان ، ومن المهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة.
وهذا هو الظاهر ، فيكون من هنا كهي في : زيد أفضل من عمرو.
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بياناً لأولي الأرحام ، أي الأقرباء من هؤلاء ، بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب. انتهى.
والظاهر عموم قوله : { إلى أوليائكم } ، فيشمل جميع أقسامه ، من قريب وأجنبي ، مؤمن وكافر ، يحسن إليه ويصله في حياته ، ويوصي له عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية.
وقال مجاهد ، وابن زيد ، والرماني وغيره : { إلى أوليائكم } ، مخصوص بالمؤمنين.
وسياق ما تقدم في المؤمنين يعضد هذا ، لكن ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، إنما تدفع في أن تلقي إليه بالمودة ، كولي الإسلام.
وهذا الاستثناء في قوله : { إلا أن تفعلوا } هو مما يفهم من الكلام ، أي : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } في النفع بميراث وغيره.
وعدى بإلى ، لأن المعنى : إلا أن توصلوا إلى أوليائكم ، كان ذلك إشارة إلى ما في الآيتين.
{ في الكتاب } : إما اللوح ، وإما القرآن ، على ما تقدم.
{ مسطوراً } : أي مثبتاً بالأسطار ، وهذه الجملة مستأنفة كالخاتمة ، لما ذكر من الأحكام ، ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى ، وكان فيها أشياء مما كانت في الجاهلية ، وأشياء في الإسلام نسخت.
أتبعه بقوله : { وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم } : أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله ، فلست بدعاً في تبليغك عن الله.
والعامل في إذ ، قاله الحوفي وابن عطية ، يجوز أن يكون مسطوراً ، أي مسطوراً في أم الكتاب ، وحين أخذنا.
وقيل : العامل : واذكر حين أخذنا ، وهذا الميثاق هو في تبليغ رسالات الله والدعاء إلى الإيمان ، ولا يمنعهم من ذلك مانع ، لا من خوف ولا طمع.
قال الكلبي : أخذ ميثاقهم بالتبليغ.
وقال قتادة : بتصديق بعضهم بعضاً ، والإعلان بأن محمداً رسول الله ، وإعلان رسول الله أن لا نبي بعده.
وقال الزجاج وغيره : الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر ، قالوا : فأخذ الله حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وتصديق بعضهم بعضاً ، وبجميع ما تضمنته النبوة.
وروي نحوه عن أبيّ بن كعب ، وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين.
وقيل : هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم على غيرهم.
وقدم محمد صلى الله عليه وسلم ، لكونه أفضل منهم ، وأكثرهم أتباعاً.
وقدم نوح في آية الشورى في قوله : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } الآية ، لأن إيراده على خلاف.
الإيراد ، فهناك أورده على طريق وصف دين الإسلام بالأصالة ، فكأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير.
والميثاق الثاني هو الأول ، وكرر لأجل صفته.
والغلظ : من صفة الأجسام ، واستعير للمعنى مبالغاً في حرمته وعظمته وثقل فرط تحمله.
وقيل : الميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حمله.
واللام في { ليسأل } ، قيل : يحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا.
والظاهر أنها لام كي ، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين : فرقة يسألها عن صدقها على معنى إقامة الحجة ، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها ، فيثيبها على ذلك؛ وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب.
فالصادقون على هذا المسؤولون هم : المؤمنون.
والهاء في { صدقهم } عائدة عليهم ، ومفعول { صدقهم } محذوف تقديره : عن صدقهم عهده.
أو يكون { صدقهم } في معنى : تصديقهم ، ومفعوله محذوف ، أي عن تصديقهم الأنبياء ، لأن من قال للصادق صدقت ، كان صادقاً في قوله.
أو ليسأل الأنبياء الذي أجابتهم به أممهم ، حكاه علي بن عيسى؛ أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ، حكاه ابن شجرة؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، قاله مجاهد ، وفي هذا تنبيه ، أي إذا كان الأنبياء يسألون ، فكيف بمن سواهم؟ وقال مجاهد أيضاً : { ليسأل الصادقين } ، أراد المؤدين عن الرسل. انتهى.
وسؤال الرسل تبكيت للكافرين بهم ، كما قال تعالى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وقال تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } { وأعد } : معطوف على { أخذنا } ، لأن المعنى : أن الله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين.
{ وأعد للكافرين عذاباً أليماً } ، أو على ما دل عليه : { ليسأل الصادقين } ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين ، قالهما الزمخشري.
ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون ، وهم المؤمنون ، وذكرت العلة؛ وحذف من الثاني العلة ، وذكر ما عوقبوا به.
وكان التقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم ، فأثابهم؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم ، كقوله : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ، فعميت عليهم الانباء } و { أعد لهم عذاباً أليماً } فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول ، وهذه طريقة بليغة ، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } وأمعنا الكلام هناك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
ذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم في غزوة الخندق ، وما اتصل بها من أمر بني قريظة ، وقد استوفى ذلك أهل السير ، ونذكر من ذلك ما له تعلق بالآيات التي نفسرها.
وإذ معمولة لنعمة ، أي إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود ، والجنود كانوا عشرة الآف ، قريش ومن تابعهم من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وسليم يقودهم أبو الأعور ، واليهود النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينه وبين الرسول عهد ، فنبذه بسعي حيي بن أخطب.
وقيل : فاجتمعوا خمسة عشر ألفاً ، وهم الأحزاب ، ونزلوا المدينة ، فحفروا الخندق بإشارة سليمان ، وظهرت للرسول به تلك المعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق ، ظهرت مع كل فرقة برقة ، أراه الله منها مدائن كسرى وما حولها ، ومدائن قيصر وما حولها ، ومدائن الحبشة وما حولها؛ وبشر بفتح ذلك ، وأقام الذراري والنساء بالآطام ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف ، فنزلوا بظهر سلع ، والخندق بينهم وبين المشركين ، وكان ذلك في شوال ، سنة خمس ، قاله ابن إسحاق.
وقال مالك : سنة أربع.
وقرأ الحسن : وجنوداً ، بفتح الجيم؛ والجمهور : بالضم.
بعث الله الصبا لنصرة نبيه ، فأضرت بهم؛ هدمت بيوتهم ، وأطفأت نيرانهم ، وقطعت حبالهم ، وأكفأت قدورهم ، ولم يمكنهم معها قرار.
وبعث الله مع الصبا ملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلها.
وقرأ أبو عمرو في رواية ، وأبو بكرة في رواية : لم يروها ، بياء الغيبة؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بتاء الخطاب.
{ من فوقكم } : من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان ، { ومن أسفل منكم } : من أسفل الوادي منه قبل المغرب ، وقريش تحزبوا وقالوا : نكون جملة حتى نستأصل محمداً.
وقال مجاهد : { من فوقكم } ، يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، و { من أسفل منكم } ، يريد مكة وسائر تهامة ، وهو قول قريب من الأول.
وقيل : إنما يراد ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة ، وطائفة في أسفلها ، وهذا قريب من القول الأول ، وقد يكون ذلك على معنى المبالغة ، أي جاءوكم من جميع الجهات ، كأنه قيل : إذ جاءوكم محيطين بكم ، كقوله : { يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } المعنى : يغشاهم محيطاً بجميع أبدانهم.
وزيغ الأبصار : ميلها عن مستوى نظرها ، فعل الواله الجزع.
وقال الفراء : زاغت من كل شيء ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها.
وبلوغ القلب الحناجر : مبالغة في اضطرابها ووجيبها ، دون أن تنتقل من مقرها إلى الحنجرة.
وقيل : بحت القلوب من شدة الفزع ، فيتصل وجيبها بالحنجرة ، فكأنها بلغتها.
وقيل : يجد خشونة وقلبه يصعد علواً لينفصل ، فالبلوغ ليس حقيقة.
وقيل : القلب عند الغضب يندفع ، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة.
وقيل : يفضي إلى أن يسد مخرج النفس ، فلا يقدر المرء أن يتنفس ، ويموت خوفاً ، ومثله : { إذ القلوب لدى الحناجر } وقيل : إذا انتفخت الرئة من شدّة الفزع والغضب ، أو الغم الشديد ، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان ، انتفخ سحره.
والظنون : جمع لما اختلفت متعلقاته ، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته ، وينقاس عند غيره ، وقد جاء الظنون جمعاً في أشعارهم ، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان :
إذا الجوزاء أردفت الثريا . . .
ظننت بآل فاطمة الظنونا
فظن المؤمنون الخلص أن ما وعدهم الله من النصر حق ، وأنهم يستظهرون؛ وظن الضعيف الإيمان مضطربه ، والمنافقون أن الرسول والمؤمنين سيغلبون ، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في { وتظنون }.
وقال الحسن : ظنوا ظنوناً مختلفة ، ظن المنافقون أن المسليمن يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم يبتلون.
وقال ابن عطية : أي يكادون يضطربون ، ويقولون : ما هذا الخلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين ، لا يمكن البشر دفعها.
وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا.
وقال الزمخشري : ظن المؤمنون الثبت القلوب بالله أن يبتليهم ويفتنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال؛ والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ظنوا بالله ما حكى عنهم ، وكتب : الظنونا والرسولا والسبيلا في المصحف بالألف ، فحذفها حمزة وأبو عمرو وقفاً ووصلاً؛ وابن كثير ، والكسائي ، وحفص : بحذفها وصلاً خاصة؛ وباقي السبعة : بإثباتها في الحالين.
واختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على هذه الكلمة بالألف ، ولا يوصل ، فيحذف أو يثبت ، لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ، ولأن إثباتها الوصل معدوم في لسان العرب ، نظمهم ونثرهم ، لا في اضطرار ولا غيره.
أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته لبعض مذاهب العرب ، لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها ، والفواصل في الكلام كالمصارع.
وقال أبو علي : هي رؤوس الآي ، تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، كما كانت القوافي مقاطع.
و { هنالك } : ظرف مكان للبعيد هذا أصله ، فيحمل عليه ، أي في ذلك المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال { ابتلي المؤمنون } ، والعامل فيه ابتلي.
وقال ابن عطية : { هنالك } ظرف زمان؛ قال : ومن قال إن العامل فيه { وتظنون } ، فليس قوله بالقوي ، لأن البداءة ليست متمكنة.
وابتلاؤهم ، قال الضحاك : بالجوع.
وقال مجاهد : بالحصار.
وقيل : بالصبر على الإيمان.
{ وزلزلوا } ، قال ابن سلام : حركوا بالخوف.
وقيل؛ { زلزلوا } ، فثبتوا وصبروا حتى نصروا.
وقيل : حركوا إلى الفتنة فعصموا.
وقرأ الجمهور : وزلزلوا ، بضم الزاي.
وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي ، عن أبي عمرو : بكسر الزاي ، قال ابن خالويه.
وقال الزمخشري ، وعن أبي عمرو : إشمام زاي زلزلوا.
انتهى ، كأنه يعني : إشمامها الكسر ، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية ، ولم يعتد بالساكن ، كما يعتدّ به من قال : منتن ، بكسر الميم إتباعاً لحركة التاء ، وهو اسم فاعل من أنتن.
وقرأ الجمهور : { زلزالاً } ، بكسر الزاي؛ والجحدري.
وعيسى : بفتحها ، وكذا : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } ، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو : قلقل قلقالاً.
وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل ، فصلصال بمعنى مصلصل ، فإن كان غير مضاعف ، فما سمع منه على فعلان ، مكسور الفاء نحو : سرهفه سرهافاً.
{ وإذ يقول المنافقون } : وهم المظهرون للإيمان المبطنون الكفر.
{ والذين في قلوبهم مرض } : هم ضعفاء الإيمان الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ، فهم على حرف ، والعطف دال على التغاير ، نبه عليهم على جهة الذم.
لما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصخرة ، وبرقت تلك البوارق ، وبشر بفتح فارس والروم واليمن والحبشة ، قال معتب بن قشير : يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ، ونحن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ، ما يعدنا إلا غروراً : أي أمراً يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به.
وقال غيره من المنافقين نحو ذلك.
وقولهم : { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } ، هو على سبيل الهزء ، إذ لو اعتقدوا أنه رسول حقيقة ما قالوا هذه المقالة ، فالمعنى : ورسوله على زعمكم وزعمه ، وفي معتب ونظرائه نزلت هذه الآية.
{ وإذ قالت طائفة منهم } : أي من المنافقين ، { لا مقام لكم } في حومة القتال والممانعة ، { فارجعوا } إلى بيوتكم ومنازلكم ، أمروهم بالهرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : فارجعوا كفاراً إلى دينكم الأول وأسلموه إلى أعدائه.
قال السدي : والقائل لذلك عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه.
وقال مقاتل : بنو مسلمة.
وقال أوس بن رومان : أوس بن قبطي وأصحابه.
وقال الكلبي : بنو حارثة.
ويمكن صحة هذه الأقوال ، فإن فيهم من كان منافقاً.
{ لا مقام لكم } ، وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص : بضم الميم ، فاحتمل أن يكون مكاناً ، أي لا مكان إقامة؛ واحتمل أن يكون مصدراً ، أي لا إقامة.
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، وعبد الله بن مسلم ، وطلحة ، وباقي السبعة : بفتحها ، واحتمل أيضاً المكان ، أي لا مكان قيام ، واحتمل المصدر ، أي لا قيام لكم.
{ ويستأذن فريق منهم النبي } : هو أوس بن قبطي ، استأذن في الدخول إلى المدينة عن اتفاق من عشيرته.
{ يقولون } : حال ، أي قائلين : { إن بيوتنا عورة } : أي منكشفة للعدو ، وقيل : خالية للسراق ، يقال : أعور المنزل : انكشف.
وقال الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعوراً . . .
وقال ابن عباس : الفريق بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا الله لا يولون الأدبار ، اعتذروا بأن بيوتهم معرضة للعدو ، ممكنة للسراق ، لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار.
وقرأ ابن عباس ، وابن يعمر ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو طالوت ، وابن مقسم ، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير : عورة وبعوزة ، بكسر الواو فيهما؛ والجمهور : بإسكانها.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تخفيف عورة وبالكسر هو اسم فاعل.
وقال ابن جني : صحة الواو في هذا إشارة لأنها متحركة قبلها فتحة. انتهى.
فيعني أنها تنقلب ألفاً ، فيقال : عارة ، كما يقول : رجل مال ، أي ممول.
وإذا كان عورة اسم فاعل ، فهو من عور الذي صحت عينه ، فاسم الفاعل كذلك تصح عينه ، فلا تكون صحة العين على هذا شذوذاً.
وقيل : السكون على أنه مصدر وصف به ، والبيت العور : هو المنفرد المعرض لمن أراد سوءاً.
وقال الزجاج : عور المكان يعور عوراً وعورة فهو عور ، وبيوت عورة.
وقال الفراء : أعور المنزل : بدا منه عورة ، وأعور الفارس : كان فيه موضع خلل للضرب والطعن.
قال الشاعر :
متى تلقهم لم تلق في البيت معوراً . . .
ولا الضيف مسحوراً ولا الجار مرسلاً
قال الكلبي : { عورة } : خالية من الرجال ضائعة.
وقال قتادة : قاصية ، يخشى عليها العدو.
وقال السدي : قصيرة الحيطان ، يخاف عليها السراق.
وقال الليث : العورة : سوءة الإنسان ، وكل أمر يستحيا منه فهو عورة ، يقال : عورة في التذكير والتأنيث ، والجمع كالمصدر.
وقال ابن عباس : قالت اليهود لعبد الله ابن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه؟ فارجعوا إلى المدينة فأنتم آمنون.
{ إن يريدون إلا فراراً } : من الدين ، وقيل : من القتل.
وقال الضحاك : ورجع ثمانون رجلاً من غير إذن للنبي صلى الله عليه وسلم.
والضمير في : { دُخِلتْ } ، الظاهر عوده على البيوت ، إذ هو أقرب مذكور.
قيل : أو على المدينة ، أي ولو دخلها الأحزاب الذين يفرون خوفاً منها؛ والثالث على أهاليهم وأولادهم.
{ ثم سئلوا الفتنة } : أي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ومقاتلة المسلمين.
{ لآتوها } : أي لجاءوا إليها وفعلوا على قراءة القصر ، وهي قراءة نافع وابن كثير.
وقرأ باقي السبعة : لآتوها بالمد ، أي لأعطوها.
{ وما تلبثوا بها } : وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم { إلا يسيراً } ، فإن الله يهلكهم ويخرجهم بالمؤمنين.
قال ابن عطية : ولو دخلت المدينة من أقطارها ، واشتد الحرب الحقيقي ، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، لطاروا إليها وأتوها مجيبين فيها ، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيراً ، قيل : قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى.
وقرأ الجمهور : سئلوا ، وقرأ الحسن : سولوا ، بواو ساكنة بعد السين المضمومة ، قالوا : وهي من سال يسال ، كخاف يخاف ، لغة من سأل المهموز العين.
وحكى أبو زيد : هما يتساولان. انتهى.
ويجوز أن يكون أصلها الهمز ، لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب ، ثم سهل الهمزة بإبدالها واواً على قول من قال في بؤس بوس ، بإبدال الهمزة واواً لضمة ما قبلها.
وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو والأعمش : سيلوا ، بكسر السين من غير همز ، نحو : قيل.
وقرأ مجاهد : سوئلوا ، بواو بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلاً من الهمزة.
وقال الضحاك : { ثم سئلوا الفتنة } : أي القتال في العصبية ، لأسرعوا إليه.
وقال الحسن : الفتنة ، الشرك ، والظاهر عود الضمير بها على الفتنة.
وقيل : يعود على المدينة.
و { عاهدوا } : أجرى مجرى اليمين ، ولذلك يتلقى بقوله : { لا يولون الأدبار }.
وجواب هذا القسم جاء على الغيبة عنهم على المعنى : ولو جاء كما لفظوا به ، لكان التركيب : لا نولي الأدبار.
والذين عاهدوا : بنو حارثة وبنو مسلمة ، وهما الطائفتان اللتان هما بالفشل في يوم أُحُد ، ثم تابوا وعاهدوا أن لا يفروا ، فوقع يوم الخندق من بني حارثة ذلك الاستئذان.
قال ابن عباس : عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منهم أنفسهم.
وقيل : ناس غابوا عن وقعة بدر قالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن من قبل : أي من قبل هذه الغزوة ، غزوة الخندق.
{ لا يولون الأدبار } : كناية عن الفرار والانهزام ، سئلوا مطلوباً مقتضى حتى يوفى به ، وفي ذلك تهديد ووعيد.
{ قل لن ينفعكم الفرار } : خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر ، وأنه تنقطع أعمارهم في يسير من المدة ، واليسير : مدة الآجال.
قال الربيع بن خيثم : وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : { إن فررتم من الموت } ، أو القتل ، لا ينفعكم الفرار ، لأن مجيء الأجل لا بد منه.
وإذاً هنا تقدّمها حرف عطف ، فلا يتحتم إعمالها ، بل يجوز ، ولذلك قرأ بعضهم : { وإذاً لا يلبثوا خلفك } في سورة الإسراء ، بحذف النون.
ومعنى خلفك : أي بعد فراقهم إياك.
و { قليلاً } : نعت لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً ، أو لزمان محذوف ، أي زماناً قليلاً.
ومرّ بعض المروانية على حائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية ، فقال : ذلك القليل نطلب.
وقرأ الجمهور : { لا تمتعون } ، بتاء الخطاب؛ وقرىء : بياء الغيبة.
و { من ذا } : استفهام ، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي ، أي لا أحد يعصمكم من الله.
قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ، ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله :
متقلداً سيفاً ورمحاً . . .
أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. انتهى.
أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه ، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف ، أي يمنعكم من مراد الله.
والقائلين لإخوانهم كانوا ، أي المنافقون ، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقولون : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان ، فخلوهم.
وقيل : هم اليهود ، كانوا يقولون لأهل المدينة : تعالوا إلينا وكونوا معنا.
وقال ابن زيد : انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الأحزاب ، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ ، فقال : أنت ها هنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؟ فقال : هلم إليه ، فقد أحيط بك وبصاحبك.
والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبداً ، فقال : كذبت والذي يحلف به ، ولأخبرنه بأمرك.
فذهب ليخبره ، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية.
وقال ابن السائب : هي في عبد الله بن أبيّ ، ومعتب بن قشير ، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة.
فإذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم.
وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بداً من إتيانه ، فيأتون ليرى الناس وجوههم ، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة ، فنزلت.
وتقدم الكلام في { هلم } في أواخر الأنعام.
وقال الزمخشري : وهلموا إلينا ، أي قربوا أنفسكم إلينا ، قال : وهو صوت سمي به فعل متعد مثل : احضر واقرب. انتهى.
والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتاً ، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه؛ فقيل : هو مركب من ها التي للتنبيه ولم ، وهو مذهب البصريين.
وقيل : من هل وأم ، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو.
وأما قوله : سمي به فعل متعد ، ولذلك قدر { هلم إلينا } : أي قربوا أنفسكم إلينا؛ والنحويون : أنه متعد ولازم؛ فالمتعدي كقوله : { قل هلم شهداءكم } أي احضروا شهداءكم ، واللازم كقوله : { هلم إلينا } ، وأقبلوا إلينا.
{ ولا يأتون البأس } : أي القتال ، { إلا قليلاً }.
يخرجون مع المؤمنين ، يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه ، كقوله : { ما قاتلوا إلا قليلاً }.
وقلته إما لقصر زمانه ، وإما لقلة عقابه ، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق.
{ أشحة } : جمع شحيح ، وهو البخيل ، وهو جمع لا ينقاس ، وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو : خليل وأخلاء؛ فالقياس أشحاء ، وهو مسموع أيضاً ، ومتعلق الشح بأنفسهم ، أو بأحوالهم ، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله ، أو بالغنيمة عند القسم ، أقوال.
والصواب : أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة للمؤمنين.
وقال الزمخشري : { أشحة عليكم } في وقت الحرب ، أضناء بكم ، يترفرفون عليكم ، كما يفعل الرجال بالذاب عن المناضل دونه عند الخوف.
{ ينظرون إليك } في تلك الحالة ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت ، حذراً وخوراً ولواذاً ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة ، نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير ، وهو المال والغنيمة وسوء تلك الحالة الأولى ، واجترؤوا عليكم وضربوكم بألسنتهم ، وقالوا : وفروا قسمتنا ، فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم ، وبنا نصرتم عليهم. انتهى.
وهو تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته.
وقرأ الجمهور : { أشحة } ، بالنصب.
قال الفراء : على الذم ، وأجاز نصبه على الحال ، والعامل يعوقون.
وقال الطبري : حال من { هلم إلينا }.
وقال الزجاج : حال من { ولا يأتون } ؛ وقيل : حال من { المعوقين } ؛ وقيل : من { القائلين } ، ورد القولان بأن فيهما تفريقاً بين الموصول وما هو من تمام صلته.
وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة ، بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي هم أشحة.
{ فإذا جاء الخوف } من العدو ، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة ، لاذ هؤلاء المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر ، الذي يغشى عليه من الموت.
و { تدور } : في موضع الحال ، أي دائرة أعينهم.
{ كالذي } : في موضع الصفة لمصدر محذوف ، وهو مصدر مشبه ، أي دوراناً كدوران عين الذي يغشى عليه.
فبعد الكاف محذوفان وهما : دوران وعين ، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمصدر من { ينظرون إليك } ، نظراً كنظر الذي يغشى عليه.
وقيل : إذا جاء الخوف من القتال ، وظهر المسلمون على أعدائهم ، { رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } في رؤوسهم ، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم.
قال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم.
قال يزيد بن رومان : في أذى المؤمنين وسبهم وتنقيص الشرع.
وقال قتادة : في طلب العطاء من الغنيمة ، والإلحاف في المسألة.
وقيل : السلق في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمجاملة.
وقرأ الجمهور : { سلقوكم } ، بالسين؛ وابن أبي عبلة : بالصاد.
وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة بالرفع ، أي هم أشحة؛ والجمهور : بالنصب على الحال من { سلقوكم } ، وعلى الخبر يدل على عموم الشح في قوله أولاً : { أشحة عليكم }.
وقيل : في هذا : أشحة على مال الغنائم.
وقيل : على مالهم الذي ينفقونه.
وقيل : على الرسول بظفره.
{ أولئك لم يؤمنوا } ، إشارة إلى المنافقين : أي لم يكن لهم قط إيمان.
والإحباط : عدم قبول أعمالهم ، فكانت كالمحبطة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت : لا ، ولكن تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان ، وإن لم يواطئه القلب؛ وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه.
فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل.
انتهى ، وفي كلامه استعمال عسى صلة لمن ، وهو لا يجوز.
وقال ابن زيد ، عن أبيه : نزلت في رجل بدري ، نافق بعد ذلك ووقع في هذه المعاني ، فأحبط الله عمله في بدر وغيرها.
وكان ذلك ، أي الإحباط ، أو حالهم من شحهم ونظرهم ، يسيراً لا يبالى به ، ولا له أثر في دفع خير ، ولا عليه شر.
وقال الزمخشري : { على الله يسيراً } ، معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارف.
انتهى ، وهي ألفاظ المعتزلة.
{ يحسبون } أنهم لم يرحلوا ، { وإن يأت الأحزاب } كرة ثانية ، تمنوا لخوفهم بما منوا به عند الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب ، وهم أهل العمود ، يرحلون من قطر إلى قطر ، يسألون من قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب ، يتعرفون أحوالكم بالاستخبار ، لا بالمشاهدة ، فرقاً وجبناً ، وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكان قتال لم يقاتلوا إلا قليلاً ، لعلة ورياء وسمعة.
قال ابن السائب : رمياً بالحجارة خاصة دون سائر أنواع القتال.
وقرأ الجمهور : { بادون } ، جمع سلامة لباد.
وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن يعمر ، وطلحة : بدى على وزن فعل ، كفاز وغزى ، وليس بقياس في معتل اللام ، بل شبه بضارب ، وقياسه فعلة ، كقاض وقضاة.
وعن ابن عباس : بدا فعلاً ماضياً؛ وفي رواية صاحب الإقليد : بدى بوزن عدى.
وقرأ الجمهور : { يسألون } ، مضارع سأل.
وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصماً والأعمش قرأوا : يسالون ، بغير همز ، نحو قوله : { سل بني إسرائيل } ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم ، ولعل ذلك في شاذهما؛ ونقلهما صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش.
وقرأ زيد بن علي ، وقتادة ، والجحدري ، والحسن ، ويعقوب بخلاف عنهما : يسأل بعضهم بعضاً ، أي يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب ، كما تقول : تراءينا الهلال.
ثم سلى الله نبيه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا ما أغنوا وما قاتلوا إلا قتالاً قليلاً.
قال : هو قليل من حيث هو رياء ، ولو كان كثيراً.
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
الظاهر أن الخطاب في قوله : { لقد كان لكم } ، للمؤمنين ، لقوله قبل : { ولو كانوا فيكم } ، وقوله بعد : { لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر }.
والمعنى : أنه ، صلى الله عليه وسلم ، لكم فيه الاقتداء.
فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم ، فكسرت رباعيته الكريمة ، وشج وجهه الكريم ، وقتل عمر ، وأوذي ضروباً من الإيذاء؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ، ولا عن مكان هو فيه ، وتبذلوا أنفسكم دونه؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه ، صلى الله عليه وسلم ، من النصرة والجهاد في سبيل الله ، ويبعد قول من قال : إن خطاب للمنافقين.
{ واليوم الآخر } : يوم القيامة.
وقيل : يوم السياق.
و { أسوة } : اسم كان ، و { لكم } : الخبر ، ويتعلق { في رسول الله } بما يتعلق به { لكم } ، أو يكون في موضع الحال ، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتاً بعد لأسوة ، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور ، ويجوز أن يكون { في رسول الله } الخبر ، ولكم تبيين ، أي لكم ، أعني : { لمن كان يرجوا الله }.
قال الزمخشري : بدل من لكم ، كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } انتهى.
ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ، ولا من ضمير المخاطب ، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ، ويدل عليه قول الشاعر :
بكم قريش كفينا كل معضلة . . .
وأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً
وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة؛ وعاصم بضمها.
والرجاء : بمعنى الأمل أو الخوف.
وقرن الرجاء بذكر الله ، والمؤتسي برسول الله ، هو الذي يكون راجياً ذاكراً.
ولما بين تعالى المنافقين وقولهم : { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } ، بين حال المؤمنين ، وقولهم صدَّ ما قال المنافقون.
وكان الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } الآية.
فلما جاء الأحزاب ، ونهض بهم للقتال ، واضطربوا ، { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } ، وأيقنوا بالجنة والنصر.
وعن ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لأصحابه : « إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً » ، أي في آخر تسع ليال أو عشر.
فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك.
وقيل : الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق ، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون ، وأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك.
فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك ، فسلموا الأول الأمر ، وانتظروا آخره.
وهذا إشارة إلى الخطب ، إيماناً بالله وبما أخبر به الرسول مما لم يقع ، كقولك : فتح مكة وفارس والروم ، فالزيادة فيما يؤمن ، لا في نفس الإيمان.
وقرأ ابن أبي عبلة : وما زادوهم ، بالواو ، وضمير الجمع يعود على الأحزاب ، وتقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث.
وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن بكره ، أي في سن بكره.
فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي فيما عاهدوا ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا الله ، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب.
وكان المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوباً.
وهؤلاء الرجال ، قال مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة.
وقال أنس : نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوفوا.
وقال زيد بن رومان : بنو حارثة.
{ فمنهم من قضى نحبه } ، وهذا تجوز ، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ، فسمي نحباً لذلك.
وقال مجاهد : قضى نحبه : أي عهده.
قال أبو عبيدة : نذره.
وقال الزمخشري : { فمنهم من قضى نحبه } ، يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام.
فالشهداء منهم ، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة ، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه ، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر؟ فدخل طلحة بن عبيد الله فقال : هذا ممن قضى نحبه.
{ ومنهم من ينتظر } : إذا فسر قضاء النحب بالشهادة ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الشهادة؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح.
وقال مجاهد : ينتظر يوماً فيه جهاد ، فيقضي نحبه.
{ وما بدلوا } : لا المستشهدون ، ولا من ينتظر.
وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوجب طلحة » ، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا الأدبار ، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار.
{ ليجزي الله الصادقين } : أي الذين { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ، { بصدقهم } : أي بسبب صدقهم.
{ ويعذب المنافقين إن شاء } ، وعذابهم متحتم.
فكيف يصح تعليقه على المشيئة ، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق؟ فقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والتوبة موازية لتلك الإقامة ، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب.
فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه.
وعنهما ثمرتان : تعذيب ، أو رحمة.
فذكر تعالى ، على جهة الإيجاز ، واحدة من هاتين ، وواحدة من هاتين.
ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله : { ليعذب } ، أي : ليديم على النفاق ، قوله : { إن شاء } ، ومعادلته بالتوبة ، وحذف أو.
أنتهى.
وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق ، فيموتوا عليه ، إن شاء فيعذبهم ، أو يتوب عليهم فيرحمهم.
فحذف سبب التعذيب ، وأثبت المسبب ، وهو التعذيب.
وأثبت سبب الرحمة والغفران ، وحذف المسبب ، وهو الرحمة والغفران ، وهذا من الإيجاز الحسن.
وقال الزمخشري : ويعذيهم إن شاء إذا لم يتوبوا ، ويتوب عليهم إذا تابوا. انتهى.
ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى ، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتماً لا محالة.
واللام في { ليجزي } ، قيل : لام الصيرورة؛ وقيل : لام التعليل ، ويتعلق بقوله : { وما بدلوا تبديلاً }.
قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما.
وقال السدي : المعنى : إن شاء يميتهم على نفاقهم ، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان.
وقيل : يعذبهم في الدنيا إن شاء ، ويتوب عليهم إن شاء.
{ إن الله كان غفوراً رحيماً } : غفوراً للحوية ، رحيماً بقبول التوبة.
{ ورد الله الذين كفروا } الأحزاب عن المدينة ، والمؤمنين إلى بلادهم.
{ بغيظهم } : فهو حال ، والباء للمصاحبة؛ و { لم ينالوا } : حال ثانية ، أو من الضمير في بغيظهم ، فيكون حالاً متداخلة.
وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى ، أو استئنافاً. انتهى.
ولا يظهر كونها بياناً للأولى ، ولا للاستئناف ، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها.
{ وكفى الله المؤمنين القتال } ، بإرسال الريح والجنود ، وهم الملائكة ، فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار.
وقيل : المراد علي بن أبي طالب ومن معه ، برزوا للقتال ودعوا إليه.
وقتل علي من الكفار عمرو بن عبيد مبارزة ، حين طلب عمرو المبارزة ، فخرج إليه علي ، فقال : إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك ، فقال له علي : فأنا أوثر قتلك ، فقتله علي مبارزة.
واقتحم نوفل بن الحارث ، من قريش ، الخندق بفرسه ، فقتل فيه.
وقتل من الكفار أيضاً : منبه بن عثمان ، وعبيد بن السباق.
واستشهد من المسلمين ، في غزوة الخندق : معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وأبو عمرو ، وهم من بني عبد الأشهل؛ والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمه ، وهما من بني سلمة؛ وكعب بن زيد ، من بني ذبيان بن النجار ، أصابه سهم غرب فقتله.
ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق ، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك ، وذلك بقوته وعزته.
وعن أبي سعيد الخدري : حبسنا يوم الخندق ، فلم نصل الظهر ، ولا العصر ، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد هوي من الليل ، كفينا وأنزل الله تعالى : { وكفى الله المؤمنين القتال } ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلالاً ، فأقام وصلى الظهر فأحسنها ، ثم كذلك كل صلاة بإقامة.
{ وأنزل الذين ظاهروهم } : أي أعانوا قريشاً ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب ، هم يهود بني قريظة ، كما هو قول الجمهور.
وعن الحسن : بنو النضير.
وقذف الرعب سبب لإنزالهم ، ولكنه قدم المسبب ، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم.
وقال رجل : يا رسول الله ، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج ، فقال : « ذلك جبريل ، عليه السلام ، بعث إلى بني قريظة ، يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم » ولما رجعت الأحزاب ، جاء جبريل وقت الظهر فقال : إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة.
فنادى في الناس : « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » ، فخرجوا إليها ، فمصل في الطريق ، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال؛ ومصل بعد العشاء ، وكل مصيب.
فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وعشرين ، وقيل : خمسة عشر.
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، لحلف كان بينهم ، رجوا حنوه عليهم ، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار.
فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن يكون لهم أموال كما لكم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة » ، ثم استنزلهم ، وخندق لهم في سوق المدينة ، وقدمهم فضرب أعناقهم ، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير.
وجيء يحيي بن أخطب النضيري ، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عندهم وفاء لهم ، فترك فيمن ترك على حكم سعد.
فلما قرب ، وعليه حلتان تفاحيتان ، مجموعة يداه إلى عنقه ، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد! والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكن من يخذل الله يخذل.
ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس أمر الله وقدره ، ومحنة كتبت على بني إسرائيل ، ثم تقدم فضربت عنقه.
وقال فيه بعض بني ثعلبة :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه . . .
ولكنه من يخذل الله يخذل
لا جهد حتى أبلغ النفس عذرها . . .
وقلقل يبغي الغد كل مقلقل
وقتل من نسائهم امرأة ، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي ، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره.
ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن ، أخو عكاشة بن محصن ، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
وقرأ الجمهور : وتأسرون ، بتاء الخطاب وكسر السين؛ وأبو حيوة : بضمها؛ واليماني : بياء الغيبة؛ وابن أنس ، عن ابن ذكوان : بياء الغيبة في : { تقتلون وتأسرون }.
{ وأورثكم } : فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم ، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزرع ، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانياً وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد ، ولأنها كانت في بيوتهم ، فوقع الاستيلاء عليها ثالثاً.
{ وأرضاً لم تطؤها } : وعد صادق في فتح البلاد ، كالعراق والشام واليمن ومكة ، وسائر فتوح المسلمين.
وقال عكرمة : أخبر تعالى أن قد قضى بذلك.
وقال الحسن : أراد الروم وفارس.
وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة.
وقال مقاتل ، ويزيد بن رومان ، وابن زيد : هي خيبر؛ وقيل : اليمن؛ ولا وجه لهذه التخصيصات ، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم.
وقرأ الجمهور : تطؤوها ، بهمزة مضمومة بعدها واو.
وقرأ زيد بن علي : لم تطوها ، بحذف الهمزة ، أبدل همزة تطأ ألفاً على حد قوله :
إن السباع لتهدا في مرابضها . . .
والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت ، كقولك : لم تروها.
وختم تعالى : هذه الآية بقدرته على كل شيء ، فلا يعجزه شيء ، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة ، وأنه لا يستبعد ذلك ، فكما ملكهم هذه ، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
سبب نزولها أن أزواجه ، صلى الله عليه وسلم ، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة ، فنزلت.
ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير ، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم ، فقعدن حوله وقلن : يا رسول الله ، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول ، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق.
وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال ، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم ، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن؛ وأزواجه إذ ذاك تسع : عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سملة بنت أبي أمية ، وهؤلاء من قريش.
ومن غير قريش : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
وقال أبو القاسم الصيرفي : لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة ، وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن ، وكان تحته عشر نساء ، زاد الحميرية ، فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية.
وروي أنه قال لعائشة ، وبدأ بها ، وكانت أحبهن إليه : « إن ذاكر لك أمراً ، ولا عليك أن لا تعجلي فيه تستأمري أبويك » ثم قرأ عليها القرآن ، فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، لا تخبر أزواجك أني اخترتك ، فقال : « إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً » والظاهر أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها ، متعهن رسول الله وطلقهن ، وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو.
وقال الأكثرون : هي آية تخيير ، فإذا قال لها : اختاري ، فاختارت زوجها ، لم يكن ذلك طلاقاً.
وعن علي : تكون واحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها ، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية عند الشافعي ، وهو قول عمر وابن مسعود؛ وثلاث عند مالك.
وأكثر الناس ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق ، وهو قول علي والحسن وقتادة ، قال هذا القائل.
وأما أمر الطلاق فمرجأ ، فإن اخترن أنفسهن ، نظر هو كيف يسرحهن ، وليس فيها تخيير في الطلاق ، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات ، وهو قد قال : { وأسرحكن سراحاً جميلاً } ، وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى.
والذي يدل عليه ظاهر الآية هو ما ذكرناه أولاً من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع التمتيع والتسريح منه ، والمعنى في الآية : أنه كان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في الدنيا ونيل نعيمها وزينتها.
وتقدم الكلام في : { فتعالين } في قوله تعالى : { قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } في آل عمران.
{ أمتعكن } ، قيل : المتعة واجبة في الطلاق؛ وقيل : مندوب إليها.
والأمر في قوله : { ومتعوهن } يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء ، وتقدم الكلام في ذلك ، وفي تفصيل المذاهب في البقرة.
والتسريح الجميل إما في دون البيت ، أو جميل الثناء ، والمعتقد وحسن العشرة إن كان تاماً.
وقرأ الجمهور : { أمتعكن } ، بالتشديد من متع؛ وزيد بن علي : بالتخفيف من أمتع ، ومعنى { أعد } : هيأ ويسر ، وأوقع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم ، وهو الإحسان ، كأنه قال : أعدلكن ، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسناً.
وقراءة حميد الخراز : { أمتعكن وأسرحكن } ، بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور : بالجزم على جواب الأمر ، أو على جواب الشرط ، ويكون { فتعالين } جملة اعتراض بين الشرط وجزائه ، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ، ومثل ذلك قول الشاعر :
واعلم فعلم المرء ينفعه . . .
إن سوف يأتي كل ما قدرا
ثم نادى نساء النبي ، ليجعلن بالهن مما يخاطبن به ، إذا كان أمراً يجعل له البال.
وقرأ زيد بن علي ، والجحدري ، وعمرو بن فائد الأسواري ، ويعقوب : تأت ، بتاء التأنيث ، حملاً على معنى من؛ والجمهور : بالياء ، حملاً على لفظ من.
{ بفاحشة مبينة } : كبيرة من المعاصي ، ولا يتوهم أنها الزنا ، لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من ذلك ، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به ، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته.
ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي ، لزمهن بسبب ذلك.
وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن ، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي : { يضاعف } ، بألف وفتح العين؛ والحسن ، وعيسى ، وأبو عمرو : بالتشديد وفتح العين؛ والجحدري ، وابن كثير ، وأبو عامر : بالنون وشد العين مكسورة؛ وزيد بن علي ، وابن محيصن ، وخارجة ، عن أبي عمرو : بالألف والنون والكسر؛ وفرقة : بياء الغيبة والألف والكسر.
ومن فتح العين رفع { العذاب } ، ومن كسرها نصبه.
{ ضعفين } : أي عذابين ، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر.
وقال أبو عبيدة ، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما : إنه يضاف إلى العذاب عذابان ، فتكون ثلاثة.
وكون الأجر مرتين بعد هذا القول ، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة.
{ وكان ذلك } : أي تضعيف العذاب عليهن ، { على الله يسيراً } : أي سهلاً ، وفيه إعلام بأن كونهن نساء ، مع مقارفة الذنب ، لا يغني عنهن شيئاً ، وهو يغني عنهن ، وهو سبب مضاعفة العذاب.
{ ومن يقنت } : أي يطع ويخضع بالعبودية لله ، وبالموافقة لرسوله.
وقرأ الجمهور : ومن يقنت بالمذكر ، حملاً على لفظ من ، وتعمل بالتاء حملاً على المعنى.
{ نؤتها } : بنون العظمة.
وقرأ الجحدري ، والأسواري ، ويعقوب ، في رواية : ومن تقنت بتاء التأنيث ، حملاً على المعنى ، وبها قرأ ابن عامر في رواية ، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع.
وقال ابن خالويه : ما سمعت أن أحداً قرأ : ومن يقنت ، إلا بالتاء.
وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : بياء من تحت في ثلاثتها.
وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ : ومن يقنت بالياء ، حملاً على المعنى ، ويعمل بالياء حملاً على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين : هذا ضعيف ، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعاً للتأنيث ، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن ، وهو قوله تعالى : { خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } انتهى.
وتقدم الكلام على { خالصة } في الأنعام.
والرزق الكريم : الجنة.
قال ابن عطية : ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي ، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله ، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد ، وبرضا من الله في نيله.
وقال بعض المفسرين : العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ، ثم عذاب الآخرة؛ وكذلك الأجر ، وهو ضعيف. انتهى.
وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله ، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على عبادة الله
.
{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } : أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء ، أي من نساء عصرك.
وليس النفي منصباً على التشبيه في كونهن نسوة.
تقول : ليس زيد كآحاد الناس ، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنساناً ، بل في وصف أخص موجود فيه ، وهو كونه عالماً ، أو عاملاً ، أو مصلياً.
فالمعنى : أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن ، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين.
ونزل القرآن فيكن ، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال ، كما قال عليه السلام : « لست كأحدكم » ، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به.
وقال الزمخشري : أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه ، والمعنى : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء ، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة ، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، ومنه قوله عز وجل : { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } يريد بين جماعة واحدة منهم ، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. انتهى.
أما قوله : أحد في الأصل بمعنى : وحد ، وهو الواحد فصحيح.
وأما قوله : ثم وضع ، إلى قوله : وما وراءه ، فليس بصحيح ، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحداً ، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة ، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل.
وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال ، فقد اختلفا مادة ومدلولاً.
وأما قوله : { لستن } كجماعة واحدة ، فقد قلنا : إن قوله { لستن } معناه : ليست كل واحدة منكن ، فهو حكم على كل واحدة واحدة ، ليس حكماً على المجموع من حيث هو مجموع.
وقلنا : إن معنى كأحد : كشخص واحد ، فأبقينا أحداً على موضوعه من التذكير ، ولم نتأوله بجماعة واحدة.
وأما { ولم يفرقوا بين أحد منهم } فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام ، ولذلك جاء في سياق النفي ، فعم وصلحت البينية للعموم.
واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد ، ويكون قد حذف معطوف ، أي بين واحد وواحد من رسله ، كما قال الشاعر :
فما كان بين الخير لوجا سالماً . . .
أبو حجر إلا ليال قلائل
أي : لستن مثلهن إن اتقيتن الله ، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن.
وقال الزمخشري : { إن اتقيتن } : إن أردتن التقوى ، وإن كن متقيات.
{ فلا تخضعن بالقول } : فلا تجبن بقولكنّ خاضعاً ، أي ليناً خنثاً ، مثل كلام المريبات والمومسات.
{ فيطمع الذي في قلبه مرض } : أي ريبة وفجوراً. انتهى.
فعلى القول الأول يكون { إن اتقيتن } قيداً في كونهن لسن كأحد من النساء ، ويكون جواب الشرط محذوفاً.
وعلى ما قاله الزمخشري ، يكون { إن اتقيتن } ابتداء شرط ، وجوابه { فلا تخضعن } ، وكلا القولين فيهما حمل.
{ إن اتقيتن } على تقوى الله تعالى ، وهو ظاهر الاستعمال ، وعندي أنه محمول على أن معناه : إن استقبلتن أحداً ، { فلا تخضعن }.
واتقى بمعنى : استقبل معروف في اللغة ، قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه . . .
فتناولته واتقتنا باليد
أي : استقبلتنا باليد ، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن ، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها ، إذ هن متقيات لله في أنفسهن ، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى.
قال ابن عباس : لا ترخصن بالقول.
وقال الحسن : لا تكلمن بالرفث.
وقال الكلبي : لا تكلمن بما يهوى المريب.
وقال ابن زيد : الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل.
وقيل : لا تلن للرجال القول.
أمر تعالى أن يكون الكلام خيراً ، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين ، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه ، مثل كلام المومسات ، فنهاهن عن ذلك ، وقال الشاعر :
يتكلم لو تستطيع كلامه . . .
لانت له أروى الهضاب الصخر
وقال آخر :
لو أنها عرضت لأشمط راهب . . .
عبد الإله ضرورة المتعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها . . .
ولحالها رشداً وإن لم يرشد
وقرأ الجمهور : { فيطمع } ، بفتح الميم ونصب العين ، جواباً للنهي؛ وأبان بن عثمان ، وابن هرمز : بالجزم ، فكسرت العين لالتقاء الساكنين ، نهين عن الخضوع بالقول ، ونهى مريض القلب عن الطمع ، كأنه قيل : لا تخضع فلا تطمع.
وقراءة النصب أبلغ ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع.
وقال أبو عمرو الداني : قرأ الأعرج وعيسى : فيَطمِع ، بفتح الياء وكسر الميم.
ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء ، قال : وقد روي عن ابن محيصن ، وذكر أن الأعرج ، وهو ابن هرمز ، قرأ : فيُطمِعَ ، بضم الياء وفتح العين وكسر الميم ، أي فيطمع هو ، أي الخضوع بالقول؛ والذي مفعول ، أو الذي فاعل والمفعول محذوف ، أي فيطمع نفسه.
والمرض ، قال قتادة : النفاق؛ وقال عكرمة : الفسق والغزل.
{ وقلن قولاً معروفاً } : والمحرم ، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول.
قال ابن عباس : المرأة تندب إذا خالطت الأجانب ، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع الصوت ، فإنها مأمورة بخفض الكلام.
وقال الكلبي : معروفاً صحيحاً ، بلا هجر ولا تمريض.
وقال الضحاك : عنيفاً؛ وقيل : خشناً حسناً؛ وقيل : معروفاً ، أي قولاً أُذن لكم فيه؛ وقيل : ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام.
وقرأ الجمهور : وقِرن ، بكسر القاف ، من وقر يقر إذا سكن وأصله ، أوقرن ، مثل عدن من وعد.
وذكر أبو الفتح الهمداني ، في كتاب التبيان ، وجهاً آخر قال : قار يقار ، إذا اجتمع ، ومنه القارة لاجتماعها.
ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة؟ فالمعنى : اجمعن أنفسكن في بيوتكن.
{ وقرن } : أمر من قار ، كما تقول : خفن من خاف؛ أو من القرار ، تقول : قررت بالمكان ، وأصله : واقررت ، حذفت الراء الثانية تخفيفاً ، كما حذفوا لام ظللت ، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل.
وقال أبو علي : أبدلت الراء ونقلت حركتها إلى القاف ، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها.
انتهى ، وهذا غاية في التحميل كعادته.
وقرأ عاصم ونافع : بفتح القاف ، وهي لغة العرب؛ يقولون : قررت بالمكان ، بكسر الراء وبفتح القاف ، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما ، وأنكرها قوم ، منهم المازني ، وقالوا : بكسر الراء ، من قرت العين ، وبفتحها من القرار.
وقرأ ابن أبي عبلة : واقررن ، بألف الوصل وكسر الراء الأولى.
وتقدم لنا الكلام على قررت ، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة.
أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن ، ونهاهن عن التبرج ، وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى ، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها ، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان.
وقيل لسودة : لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك؟ فقالت : قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها.
{ ولا تبرجن } ، قال مجاهد وقتادة : التبرج : التبختر والتغنج والتكسر.
وقال مقاتل : تلقي الخمار على وجهها ولا تشده.
وقال المبرد : تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره.
و { الجاهلية الأولى } : يدل على أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة.
فقيل : هما ابنان لآدم ، سكن أحدهما الجبل ، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح؛ والآخر السهل ، وأولاده على عكس ذلك.
فسوى لهم إبليس عيداً يجتمع جميعهم فيه ، فمال ذكور الجبل إلى إناث السهل وبالعكس ، فكثرت الفاحشة ، فهو تبرج الجاهلية الأولى.
وقال عكرمة والحكم بن عيينة : ما بين آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، كان الرجال صباحاً والنساء قباحاً ، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها.
وقال ابن عباس أيضاً : الجاهلية الأولى ما بين إدريس ونوح ، كانت ألف سنة ، تجمع المرآة بين زوج وعشيق.
وقال الكلبي وغيره : ما بين نوح وإبراهيم.
قال مقاتل : زمن نمروذ ، بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق.
وقال الزمخشري : والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء ، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم.
كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال.
وقال أبو العالية : من داود وسليمان ، كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين ، يظهر منه الأكعاب والسوأتان.
وقال المبرد : كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها ، للزوج نصفها الأسفل ، وللحلم نصفها ، يتمتع به في التقبيل والترشف.
وقيل : ما بين موسى وعيس.
وقال الشعبي : ما بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام.
وقال مقاتل : الأولى زمن إبراهيم ، والثانية زمن محمد ، عليه الصلاة والسلام ، قبل أن يبعث.
وقال الزجاج : الأشبه قول الشعبي ، لأنهم هم الجاهلية المعروفون ، كانوا يتخذون البغايا.
وإنما قيل الأولى ، لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى ، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم أولى ، وهم أول من أمة محمد ، عليه الصلاة والسلام.
وقال عمر لابن عباس : وهل كانت الجاهلية إلا واحدة؟ فقال ابن عباس : وهل كانت الأولى إلا ولها آخرة؟ فقال عمر : لله درك يا ابن عباس.
وقال الزمخشري : والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام.
ويجوز أن يكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، فكان المعنى : ولا يجدكن بالتبرج جاهلية في الإسلام يتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر.
ويعضده ما روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لأبي الدرداء : «إن فيك جاهلية» ، قال : جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال : «بل جاهلية كفر» " انتهى.
والمعروف في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال : " إنك امرؤ فيك جاهلية " ، لأبي ذر ، رضي الله عنه.
وقال ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي خصها ، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر ، ولأنهم كانوا لا غيرة عندهم ، وكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى.
وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام ، فقالوا : جاهلي في الشعراء.
وقال ابن عباس في البخاري : سمعت ، أي في الجاهلية إلى غير هذا. انتهى.
{ وأقمن الصلاة } : أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ، إذ هما عمودا الطاعة البدنية والمالية ، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة ، ثم بين أن نهيهن وأمرهن ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى.
واستعار الرجس للذنوب ، والطهر للتقوى ، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث ، كما يتلوث بدنه بالأرجاس.
وأما الطاعات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر ، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه ، وترغيب فيما أمر به.
والرجس يقع على الإثم ، وعلى العذاب ، وعلى النجاسة ، وعلى النقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت.
وقال الحسن : الرجس هنا : الشرك.
وقال السدي : الإثم.
وقال ابن زيد : الشيطان.
وقال الزجاج : الفسق؛ وقيل : المعاصي كلها ، ذكره الماوردي.
وقيل : الشك؛ وقيل : البخل والطبع؛ وقيل : الأهواء والبدع.
وانتصب أهل على النداء ، أو على المدح ، أو على الاختصاص ، وهو قليل في المخاطب ، ومنه :
بل الله نرجو الفضل . . .
وأكثر ما يكون في المتكلم ، وقوله :
نحن بنات طارق . . .
نمشي على النمارق
ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن ، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في : { عنكم } ، { ويطهركم }.
وقول عكرمة ، ومقاتل ، وابن السائب : أن أهل البيت في هذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد ، إذ لو كان كما قالوا ، لكان التركيب : عنكن ويطهركن ، وإن كان هذا القول مروياً عن ابن عباس ، فلعله لا يصح عنه.
وقال أبو سعيد الخدري : هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة.
وقال الضحاك : هم أهله وأزواجه.
وقال زيد بن أرقم ، والثعلبي : بنو هاشم الذين يحرمون الصدقة آل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، ويظهر أنهم زوجاته وأهله ، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت ، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته ، عليه الصلاة والسلام.
وقال ابن عطية : والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك ألبتة ، فأهل البيت : زوجاته وبنته وبنوها وزوجها.
وقال الزمخشري : وفي هذا دليل على أن نساء النبي من أهل بيته.
ثم ذكر لهن أن بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : وهو آيات بينات تدل على صدق النبوة ، لأنه معجز بنظمه ، وهو حكمة وعلوم وشرائع.
{ إن الله كان لطيفاً خبيراً } ، حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم ، أو علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن تكونوا أهل بيته ، أو حيث جعل الكلام جامعاً بين الغرضين. انتهى.
واتصال { واذكرن } بما قبله يدل على أنهن من البيت ، ومن لم يدخلهن قال : هي ابتداء مخاطبة.
{ واذكرن } ، إما بمعنى احفظن وتذكرنه ، وإما اذكرنه لغيركن واروينه حتى ينقل.
و { من آيات الله } : هو القرآن ، { والحكمة } : هي ما كان من حديثه وسنته ، عليه الصلاة والسلام ، غير القرآن ، ويحتمل أن يكون وصفاً للآيات.
وفي قوله : { لطيفاً } ، تليين ، وفي { خبيراً } ، تحذير مّا.
وقرأ زيد بن علي : ما تتلى بتاء التأنيث ، والجمهور : بالياء.
وروي أن نساءه عليه الصلاة والسلام ، قلن : يا رسول الله ، ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا؛ وقيل : السائلة أم سلمة.
وقيل : لما نزل في نسائه ما نزل ، قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء ، فنزلت : { إن المسلمين } الآية ، وهذه الأوصاف العشرة تقدّم شرحها ، فبدأ أولاً بالانقياد الظاهر ، ثم بالتصديق ، ثم بالأوصاف التي بعدهما تندرج في الإسلام وهو الانقياد ، وفي الإيمان وهو التصديق ، ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر الله كثيراً.
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً إلا في قوله : { والحافظين فروجهم والذاكرين الله كثيراً } ، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة ، وعلى متعلق الذكر بالاسم الأعظم ، وهو لفظ الله ، إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه ، ليتذكر المسلم من تذكره ، وهو الله تعالى ، وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدّم ، والتقدير : والحافظاتها والذاكراته.
{ أعدّ الله لهم } : غلب الذكور ، فجمع الإناث معهم وأدرجهم في الضمير ، ولم يأت التركيب لهم ولهن.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
قال الجمهور ، وابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم : خطب الرسول لزيد زينب بنت جحش ، فأبت وقالت : لست بناكحة ، فقال : « بلى فأنكحيه فقد رضيته لك » ، فأبت ، فنزلت.
وذكر أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك ، فلما نزلت الآية رضيا.
وقال ابن زيد : وهبت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أول امرأة وهبت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسها ، فقال : « قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة » ، فسخطت هي وأخوها ، قالا : إنما أردناه فزوجنا عبده ، فنزلت ، والسبب الأول أصح.
ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده ، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين ، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له ، فأنكر عليهم ، إذ طاعته ، عليه السلام ، من طاعة الله ، وأمره من أمره.
و { الخيرة } : مصدر من تخير على غير قياس ، كالطيرة من تطير.
وقرىء : بسكون الياء ، ذكره عيسى بن سليمان.
وقرأ الحرميان ، والعربيان ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، وعيسى : أن تكون ، بتاء التأنيث؛ والكوفيون ، والحسن ، والأعمش ، والسلمي : بالياء.
ولما كان قوله : { لمؤمن ولا مؤمنة } ، يعم في سياق النفي ، جاء الضمير مجموعاً على المعنى في قوله : { لهم } ، مغلباً فيه المذكر على المؤنث.
وقال الزمخشري : كان من حق الضمير أن يوحد ، كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. انتهى.
ليس كما ذكر ، لأن هذا عطف بالواو ، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف ، أي : ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا ، وتقول : ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضربا خالداً ، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف ، كما قلنا.
{ وإذ تقول } : الخطاب للرسول ، عليه السلام.
{ للذي أنعم الله عليه } ، بالإسلام ، وهو أجل النعم ، وهو زيد بن حارثة الذي كان الرسول تبناه.
{ وأنعمت عليه } : وهو عتقه ، وتقدّم طرف من قصته في أوائل السورة.
{ أمسك عليك زوجك } : وهي زينب بنت جحش ، وتقدّم أن الرسول كان خطبها له.
وقيل : أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك ، وأنعمت عليه بتبنيه.
فجاء زيد فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : « أرابك منها شيء » قال : لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال : « { أمسك عليك زوجك } » ، أي لا تطلقها ، وهو أمر ندب ، « { واتق الله } في معاشرتها » فطلقها ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء عدّتها.
وعلل تزويجه إياها بقوله : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن ، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله :
{ وحلائل أبنائكم } وقال علي بن الحسين : كان قد أوحى الله إليه أن زيداً سيطلقها ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها.
فلما شكا زيد خلقها ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه بأنه يريد طلاقها ، قال : له « { أمسك عليك زوجك واتق الله } » ، على طريق الأدب والوصية ، وهو يعلم أنه سيطلقها.
وهذا هو الذي أخفي في نفسه ، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق.
ولما علم من أنه سيطلقها ، وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال؛ { أمسك } ، مع علمه أنه يطلق ، فأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي في كل حال. انتهى.
وهذا المروي عن علي بن الحسين ، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين ، كالزهري ، وبكر بن العلاء ، والقشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم.
والمراد بقوله : { وتخشى الناس } ، إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في حركاته وسكناته.
ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة ، ضربنا عنه صفحاً.
وقيل؛ قوله { واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه } : خطاب من الله عز وجل ، أو من النبي صلى الله عليه وسلم لزيد ، فإنه أخفى الميل إليها ، وأظهر الرغبة عنها ، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون من نسائه. انتهى.
وللزمخشري : في هذه الآية كلام طويل ، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره ، واخترت منه ما أنصه.
قال : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من إطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله.
وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات ، لعظم أثرها في الدين ، ويجل ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه ، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم ، إلا من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها.
ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ، ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصدّه أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت : { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منك والله لا يستحيي من الحق }.
ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره ، وأمرهم أن ينتشروا ، لشق عليهم ، ولكان بعض المقالة.
فهذا من ذلك القبيل ، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته ، من امرأة أو غيرها ، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع.
وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه.
ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر.
فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة ، استهم الأنصار بكل شيء ، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر.
وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته ، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجراً مصالح؛ ناهيك بواحدة منها : أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أماً من أمّهات المؤمنين ، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامّة في قوله : { لكي لا يكون } الآية.
انتهى ما اخترناه من كلام الزمخشري.
وقوله : { أمسك عليك } فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد ، فهو كقوله :
هوّن عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته . . .
وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ، ولا يجوز أن يكونا حرفين ، لامتناع فكر فيك ، وأعني بك ، بل هذا مما يكون فيه النفس ، أي فكر في نفسك ، وأعني بنفسك ، وقد تكلمنا على هذا في قوله : { وهزي إليك } { واضمم إليك جناحك } وقال الحوفي : { وتخفي في نفسك } : مستأنف ، { وتخشى } : معطوف على وتخفي.
وقال الزمخشري : واو الحال ، أي تقول لزيد : { أمسك عليك زوجك } ، مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفي خاشياً قاله الناس ، أو واو العطف ، كأنه قيل : وأن تجمع بين قولك : { أمسك } ، وإخفاء قالة ، وخشية الناس. انتهى.
ولا يكون { وتخفي } حالاً على إضمار مبتدأ ، أي وأنت تخفي ، لأنه مضارع مثبت ، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار ، وهو مع ذلك قليل نادر ، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم : قمت وأصك عينه ، أي وأنا أصك عينه.
{ والله أحق أن تخشاه } تقدّم إعراب نظيره في التوبة.
{ فلما قضى زيد منها وطراً } : أي حاجة ، قيل : وهو الجماع ، قاله ابن عباس.
وروي أبو عصمة : نوح ابن أبي مريم ، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت : ما كنت أمتنع منه ، غير أن الله منعني منه.
وقيل : إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها.
وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها.
وقال قتادة : الوطر هنا : الطلاق.
وقرأ الجمهور : { زوجناكها } ، بنون العظمة؛ وجعفر بن محمد ، وابن الحنفية ، وأخواه الحسن والحسين ، وأبوهم علي : زوجتكها ، بتاء الضمير للمتكلم.
ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن.
{ وكان أمر الله } : أي مقتضى أمر الله ، أو مضمن أمره.
قال ابن عطية : وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل.
وقال الزمخشري : { وكان أمر الله } الذي يريد أن يكونه ، { مفعولاً } : مكوناً لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.
ويجوز أن يراد بأمر الله المكون ، لأنه مفعول يكن.
ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر ، واندرج الرسول فيهم ، إذ هو سيد المؤمنين ، نفى عنه الحرج بخصوصه ، وذلك على سبيل التكريم والتشريف ، ونفى الحرج عنه مرتين ، إحداهما بالاندراج في العموم ، والأخرى بالخصوص.
{ فيما فرض الله له } ، قال الحسن : فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق.
وقال قتادة : فيما أحل له.
وقال الضحاك : في الزيادة على الأربع ، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج ، فرد الله عليهم بقوله : { سنة الله } : أي في الأنبياء بكثرة النساء ، حتى كان لسليمان ، عليه السلام ، ثلاثمائة حرة وسبعماية سرية ، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية.
وقيل : الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب ، كما جمع بين داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها.
وانتصب { سنة الله } على أنه اسم موضوع موضع المصدر ، قاله الزمخشري؛ أو على المصدر؛ أو على إضمار فعل تقديره : ألزم أو نحوه ، أو على الإغراء ، كأنه قال : فعليه سنة الله.
قال ابن عطية : وقوله : أو على الإغراء ، ليس بجيد ، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ، وأيضاً فتقديره : فعليه سنة الله بضمير الغيبة ، ولا يجوز ذلك في الإغراء ، إذ لا يغرى غائب.
وما جاء من قولهم : عليه رجلاً ، ليسنى له تأويل ، وهو مع ذلك نادر.
و { الذين خلوا } : الأنبياء ، بدليل وصفهم بعد قوله : { الذين يبلغون رسالات الله }.
{ وكان أمر الله } : أي مأموراته ، والكائنات من أمره ، فهي مقدورة.
وقوله : { قدراً } : أي ذا قدر ، أو عن قدر ، أو قضاء مقضياً وحكماً مثبوتاً.
و { الذين } : صفة الذين خلوا ، أو مرفوع ، أو منصوب على إضمارهم ، أو على أمدح.
وقرأ عبد الله : الذين بلغوا ، جعله فعلاً ماضياً.
وقرأ أبي : رسالة الله على التوحيد؛ والجمهور : يبلغون رسالات جمعاً.
{ وكفى بالله حسيباً } : أي محاسباً على جميع الأعمال والعقائد ، أو محسباً : أي كافياً.
ثم نفى تعالى كون رسوله { أبا أحد من رجالكم } ، بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده.
هذا مقصود هذه الجملة ، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد ، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا ، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين.
وإضافة رجالكم إلى ضمير المخاطبين يخرج من كان من بنيه ، لأنهم رجاله ، لا رجال المخاطبين.
وقرأ الجمهور؛ { ولكن رسول } ، بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان ، لدلالة كان المتقدّمة عليه؛ قيل : أو على العطف على { أبا أحد }.
وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو : بالتشديد والنصب على أنه خبر لكن ، والخبر محذوف تقديره : { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } هو ، أي محمد صلى الله عليه وسلم.
وحذف خبر لكن واخواتها جائز إذا دل عليه الدليل.
ومما جاء في ذلك قول الشاعر :
فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي . . .
ولكنّ زنجياً عظيم المشافر
أي : أنت لا تعرف قرابتي.
وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي عبلة : بالتخفيف ، ورفع ورسوله وخاتم ، أي ولكن هو رسول الله ، كما قال الشاعر :
ولست الشاعر السقاف فيهم . . .
ولكن مدرة الحرب العوال
أي : لكن أنا مدرة.
وقرأ الجمهور : { خاتم } ، بكسر التاء ، بمعنى أنه ختمهم ، أي جاء آخرهم.
وروي عنه أنه قال : أنا خاتم نبي ، وعنه : أنا خاتم النبيين في حديث واللبنة.
وروي عنه ، عليه السلام ، ألفاظ تقتضي نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أن لا يتنبأ أحد بعده ، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان ، لأنه ممن نبىء قبله ، وينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته.
قال ابن عطية : وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية ، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ، وما ذكره الغزالي في هذه الآية ، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد ، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة ، فالحذر الحذر منه ، والله الهادي برحمته.
وقرأ الحسن ، والشعبي ، وزيد بن علي ، والأعرج : بخلاف؛ وعاصم : بفتح التاء بمعنى : أنهم به ختموا ، فهو كالخاتم والطابع لهم.
ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع ، أو إلى أن الولي أفضل من النبي ، فهو زنديق يجب قتله.
وقد ادعى النبوة ناس ، فقتلهم المسلمون على ذلك.
وكان في عصرنا شخص من الفقراء ادعى النبوة بمدينة مالقة ، فقتله السلطان بن الأحمر ، ملك الأندلس بغرناطة ، وصلب إلى أن تناثر لحمه.
{ وكان الله بكل شيء عليماً } : هذا عام ، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله ، وبما قدّره في الأمر كله ، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه ، وتنزيهه عما لا يليق به.
والذكر الكثير ، قال ابن عباس : أن لا ينساه أبداً ، أو التسبيح مندرج في الذكر ، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به ، فهو أفضل ، أو من أفضل الأذكار.
وعن قتادة : قولوا سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن مجاهد : هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب.
و { بكرة وأصيلاً } : يقتضيهما اذكروا وسبحوا ، والنصب بالثاني على طريق الإعمال ، والوقتان كناية عن جميع الزمان ، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق.
وقال ابن عباس : أي صلوا صلاة الفجر والعشاء.
وقال الأخفش : ما بين العصر إلى العشاء.
وقال قتادة : الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر؛ ويجوز أن يكون الأمر بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والإقبال على الطاعات ، فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر.
ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً ، وهي الصلاة في جميع أوقاتها ، تفضل الصلاة غيرها ، أو صلاة الفجر والعشاء ، لأن أداءهما أشق.
ولما أمرهم بالذكر والتسبيح ، ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته.
قال الحسن : { يصلي عليكم } : يرحمكم.
وقال ابن جبير : يغفر لكم.
وقال أبو العالية يثني عليكم.
وقيل : يترأف بكم.
وصلاة الملائكة الاستغفار ، كقوله تعالى : { ويستغفرون للذين آمنوا } وقال مقاتل : الدعاء ، والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ، حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة ، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة.
وقال ابن زيد : من الضلالة إلى الهدى.
وقال مقاتل : من الكفر إلى الإيمان.
وقيل : من النار إلى الجنة ، حكاه الماوردي.
وقيل : من القبور إلى البعث.
{ وملائكته } : معطوف على الضمير المرفوع المستكن في { يصلي } ، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد ، وصلاة الله غير صلاة الملائكة ، فكيف اشتركا في قدر مشترك؟ وهو إرادة وصول الخير إليهم.
فالله تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم ، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك.
وقال الزمخشري : جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة ، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة ، ونظيره قولهم : حياك الله : أي أحياك وأبقاك ، وحييتك : أي دعوت لك بأن يحييك الله ، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة؛ وكذلك عمرك الله وعمرتك ، وسقاك الله وسقيتك ، وعليه قوله؛ { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } : أي ادعوا له بأن يصلى عليه.
{ وكان بالمؤمنين رحيماً } : دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة. انتهى.
وما ذكره من قوله ، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشترك أولى.
{ تحيتهم يوم يلقونه } : أي يوم القيامة.
{ سلام } : أي تحية الله لهم.
يقول للمؤمنين : السلام عليكم ، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري ، قاله الرقاشي.
وقيل : يحييهم الملائكة بالسلامة من كل مكروه.
وقال البراء بن عازب : معناه أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى يسلم عليه.
وقال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال : ربك يقرؤك السلام ، قيل : فعلى هذا الهاء في قوله : { يلقونه } كناية عن غير مذكور ، وقيل : سلام الملائكة عند خروجهم من القبور.
وقال قتادة : يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضاً بالسلام ، أي سلمنا وسلمت من كل مخوف.
وقيل : تحييهم الملائكة يومئذ.
وقيل : هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم ، وبشارتهم بالجنة.
والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول ، إلا في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا ، لا على جهة العمل ، لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلاً مفعولاً ، ولكنه كقوله :
{ وكنا لحكمهم شاهدين } أي للحكم الذي جرى بينهم ، وليبعث إليهم ، فكذلك هذه التحية الجارية بينهم هي سلام.
وفرق المبرد بين التحية والسلام فقال : التحية يكون ذلك دعاء ، والسلام مخصوص ، ومنه : { ويلقون فيها تحية وسلاماً } والأجر الكريم : الجنة ، { شاهداً } على من بعثت إليهم ، وعلى تكذيبهم وتصديقهم ، أي مفعولاً قولك عند الله ، وشاهداً بالتبليغ إليهم ، وبتبليغ الأنبياء قولك.
وانتصب { شاهداً } على أنه حال مقدّرة ، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهداً عليهم ، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة وعند أدائها ، أو لأنه أقرب زمان البعثة ، وإيمان من آمن وتكذيب من كذب كان ذلك وقع في زمان واحد.
{ وداعياً إلى الله } ، قال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال ابن عيسى : إلى الطاعة.
{ بإذنه } : أي بتسهيله وتيسيره ، ولا يراد به حقيقة الإذن ، لأنه قد فهم في قوله : إنا أرسلناك داعياً أنه مأذون له في الدعاء.
ولما كان دعاء المشرك إلى التوحيد صعباً جداً ، قيل : بإذنه ، أي بتسهيله تعالى.
و { سراجاً منيراً } : جلي من ظلمات الشرك ، واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير.
ويهتدى به إذا مد الله بنور نبوته نور البصائر ، كما يمد بنور السراج نور الأبصار.
ووصفه بالإنارة ، لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته.
وقال الزجاج : هو معطوف على { شاهداً } ، أي وذا سراج منير ، أي كتاب نير.
وقال الفراء : إن شئت كان نصباً على معنى : وتالياً سراجاً منيراً.
وقال الزمخشري؛ ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف { أرسلناك }. انتهى.
ولا يتضح هذا الذي قاله ، إذ يصير المعنى : أرسلنا ذا سراج منير ، وهو القرآن.
ولا يوصف بالإرسال القرآن ، إنما يوصف بالإنزال.
وكذلك أيضاً إذا كان التقدير : وتالياً ، يصير المعنى : أرسلنا تالياً سراجاً منيراً ، ففيه عطف الصفة التي للذات على الذات ، كقولك : رأيت زيداً والعالم.
إذا كان العالم صفة لزيد ، والعطف مشعر بالتغاير ، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله ، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة.
ولما ذكر تعالى أنه أرسل نبيه { شاهداً } إلى آخره ، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال ، فكأنه قال؛ فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه ، ثم قال؛ { وبشر المؤمنين } ؛ فهذا متصل بما قبله من جهة المعنى ، وإن كان يظهر أنه منقطع من الذي قبله.
والفضل الكبير الثواب من قولهم : للعطايا فضول وفواضل ، أو المزيد على الثواب.
وإذا ذكر المتفضل به وكبره ، فما ظنك بالثواب؟ أو ما فضلوا به على سائر الأمم ، وذلك من جهته تعالى ، أو الجنة وما أوتوا فيها ، ويفسره : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير } { ولا تطع الكافرين والمنافقين } : نهي له عليه السلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب ، وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش.
{ ودع أذاهم } : الظاهر إضافته إلى المفعول.
لما نهى عن طاعتهم ، أمر بتركه إذايتهم وعقوبتهم ، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف.
{ وتوكل على الله } ، فإنه ينصرك ويخذلهم.
ويجوز أن يكون مصدراً مضافاً للفاعل ، أي ودع إذايتهم إياك ، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر ، وهذا تأويل مجاهد.
.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
لما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها ، وكانت مدخولاً بها ، واعتدت ، وخطبها الرسول ، عليه السلام ، بعد انقضاء عدتها ، بين حال من طلقت قبل المسيس ، وأنها لا عدة عليها.
ومعنى { نكحتم } : عقدتم عليهن.
وسمى العقد نكاحاً لأنه سبب إليه ، كما سميت الخمر إثماً لأنها سبب له.
قالوا : ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد ، وهو من آداب القرآن؛ كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان ، قيل : إلا في قوله : { حتى تنكح زوجاً غيره } فإنه بمعنى الوطء ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
والكتابيات ، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم ، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلا المؤمنة.
وفائدة المجيء بثم ، وإن كان الحكم ثابتاً ، إن تزوجت وطلقت على الفور ، ولمن تأخر طلاقها.
قال الزمخشري : نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها ، وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ، وتتراخى بها المدة في حيالة الزوج ثم يطلقها. انتهى.
واستعمل صلة لمن عسى ، وهو لا يجوز ، أو لوحظ في ذلك الغالب.
فإن من أقدم على العقد على امرأة ، إنما يكون ذلك لرغبة ، فيبعد أن يطلقها على الفور ، لأن الطلاق مشعر بعدم الرغبة ، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه عن المرأة ، وأن المصلحة في ذلك له.
والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد ، ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين.
وقالت طائفة كبيرة ، منهم مالك : يصح ذلك.
والظاهر أن المسيس هنا كناية عن الجماع ، وأنه إذا خلا بها ثم طلقها ، لا يعقد.
وعند أبي حنيفة وأصحابه : حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس.
والظاهر أن المطلقة رجعية ، إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ، ثم فارقها قبل أن يمسها ، لا تتم عدتها من الطلقة الأولى ، ولا تستقبل عدة ، لأنها مطلقة قبل الدخول ، وبه قال داود.
وقال عطاء وجماعة : تمضي في عدتها عن طلاقها الأول ، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال مالك : لا تبنى على العدة من الطلاق الأول ، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني ، وهو قول فقهاء جمهور الأمصار.
والظاهر أيضاً أنها لو كانت بائناً غير مبتوتة ، فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول ، كالرجعية في قول داود ، ليس عليها عدة ، لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني ، ولها نصف المهر.
وقال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن شهاب ، ومالك ، والشافعي ، وعثمان البتي ، وزفر : لها نصف الصداق ، وتتم بقية العدة الأولى.
وقال الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يونس : لها مهر كامل للنكاح الثاني ، وعدة مستقبلة ، جعلوها في حكم المدخول بها ، لاعتدادها من مائة.
وقرأ الجمهور : { تعتدونها } ، بتشديد الدال : افتعل من العد ، أي تستوفون عددها ، من قولك : عد الدراهم فاعتدها ، أي استوفى عددها؛ نحو قولك : كلته واكتاله ، وزنته فاتزنته.
وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة : بتخفيف الدال ، ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي.
وقال ابن عطية : وروي عن أبي برزة ، عن ابن كثير : بتخفيف الدال من العدوان ، كأنه قال : فما لكم عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهنّ ، والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير ، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة. انتهى.
وليس بوهم ، إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح في شواذ القراءات ) ، ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة وقال : هو من الإعتداد لا محالة ، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه.
فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف ، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. انتهى.
وإذا كان يتعدى بعلى ، فيجوز أن لا يحذف على ، ويصل الفعل إلى الضمير ، نحو قوله :
تحن فتبدى ما بها من صبابة . . .
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي : لقضى علي.
وقال الزمخشري : وقرىء : تعتدونها مخففاً ، أي تعتدون فيها ، كقوله : ويوماً شهدناه.
والمراد بالاعتداء ما في قوله : ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا. انتهى.
ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة ، كقوله :
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً . . .
أي : شهدنا فيه.
وأما على تقدير على ، فالمعنى : تعتدون عليهنّ فيها.
وقرأ الحسن : بإسكان العين كغيره ، وتشديد الدال جمعاً بين الساكنين.
وقوله : { فما لكم } يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب ، وإن كانت لا تسقط بإسقاطه ، لما فيه من حق الله تعالى.
والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة مطلقاً ، سواء كانت ممدودة أم مفروضاً لها.
وقيل : يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها.
والظاهر أن الأمر في { فمتعوهنّ } للوجوب ، وقيل : للندب ، وتقدم الكلام مشبعاً في المتعة في البقرة.
والسراج الجميل : هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب.
وقيل : أن لا يطالبها بما آتاها.
ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين ، أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
والأجور : المهور ، لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع.
وفي وصفهنّ ب { اللاتي آتيت أجورهنّ } ، تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى ، لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره ، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به ، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجاناً دون عوض تسلمته ، والتعجيل كان سنة السلف ، لا يعرف منهم غيره.
ألا ترى إلى قوله ، عليه السلام ، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج :
« فأين درعك الحطمية » ؟ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله : { مما أفاء الله عليك } ، لأنها إذا كانت مسبية ، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب.
فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة ، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة ، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث.
والظاهر أن قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } ، مخصوص لفظة أزواجك بمن كانت في عصمته ، كعائشة وحفصة ، ومن تزوجها بمهر.
وقال ابن زيد : أي من تزوجها بمهر ، ومن تزوجها بلا مهر ، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به.
ثم قال بعد { ترجي من تشاء منهنّ } : أي من هذه الأصناف كلها ، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله : { ولا أن تبدل بهنّ من أزواج } ، فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط ، وفي التأيل الأول تضييق.
وعن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج أي النساء شاء ، وكان ذلك يشق على نسائه.
فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمي سر نساؤه بذلك ، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر ، وبنات العم ، ومن ذكر معهنّ يسير.
ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة ، والواجب أيضاً من النساء قليل ، فلذلك سر بانحصار الأمر.
ثم مجيء { ترجي من تشاء منهن } ، إشارة إلى ما تقدم ، ثم مجيء { ولا أن تبدل بهن من أزواج } ، إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل ، فيأتي الكلام مثبتاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الآخر.
{ وبنات عمك } ، قالت أم هانىء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه ، لأني لم أهاجر معه ، وإنما كنت من الطلقاء.
والتخصيص ب { اللاتي هاجرن معك } ، لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات.
وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ.
وحكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق.
والثاني : أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات ، والمعية هنا : الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها ، فيقال : دخل فلان معي وخرج معي ، أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان.
ولو قلت : فرجعنا معاً ، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل ، والاقتران في الزمان.
وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس ، والعمة والخالة كذلك ، وهذا حرف لغوي قاله أبو بكر بن العربي القاضي.
{ وامرأة مؤمنة } ، قال ابن عباس ، وقتادة : هي ميمونة بنت الحارث.
وقال علي بن الحسين ، والضحاك ، ومقاتل : هي أم شريك.
وقال عروة ، والشعبي : هي زينب بنت خزيمة ، أم المساكين ، امرأة من الأنصار.
وقال عروة أيضاً : هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية.
واختلف في ذلك.
فعن ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة.
وقيل : الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، ومن ذكر معها قبل.
وقرأ الجمهور : { وامرأة } ، بالنصب؛ { إن وهبت } ، بكسر الهمزة : أي أحللناها لك.
{ إن وهبت } ، { إن أراد } ، فهنا شرطان ، والثاني في معنى الحال ، شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم ، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان الله يريد أن يغويكم } وإذا اجتمع شرطان ، فالثاني شرط في الأول ، متأخر في اللفظ ، متقدم في الوقوع ، ما لم تدل قرينة على الترتيب ، نحو : إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر.
واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل ، وقد استوفينا ذلك في ( شرح التسهيل ) ، في باب الجوازم.
وقرأ أبو حيوة : وامرأة مؤمنة ، بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف : أي أحللناها لك.
وقرأ أبي ، والحسن ، والشعبي ، وعيسى ، وسلام : أن بفتح الهمزة ، وتقديره : لأن وهبت ، وذلك حكم في امرأة بعينها ، فهو فعل ماض ، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها.
وقرأ زيد بن علي : اذ وهبت ، إذ ظرف لما مضى ، فهو في امرأة بعينها.
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي ، { إن أراد النبي } ، ثم رجع إلى الخطاب في قوله : { خالصة لك } ، للإيذان بأنه مما خص به وأوثر.
ومجيئه على لفظ النبي ، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته.
واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه.
والجمهور : على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة.
وقال أبو الحسن الكرخي : يجوز بلفظ الإجارة لقوله : { اللاتي آتيت أجورهن } ، وحجة من منع : أن عقد الإجارة مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فتنافيا.
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت ، فأشهد على نفسه بمهر ، لأن رسول الله وأمته سواء في الأحكام ، إلا فيما خصه الدليل.
وحجة الجمهور : أنه ، عليه السلام ، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعاً ، لأن اللفظ تابع للمعنى ، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل.
وقرأ الجمهور : { خالصة } ، بالنصب ، وهو مصدر مؤكد ، { كوعد الله } و { صبغة الله } أي أخلص لك إخلاصاً.
{ أحللنا } ، { خالصة } بمعنى خلوصاً ، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة.
وقال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين ، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة.
انتهى ، وليس كما ذكر ، بل هما عزيزان ، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق :
ولا خارج من في زور كلام . . .
والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله :
أقاعداً وقد سار الركب . . .
والكاذبة إلى قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر.
وقرىء : خالصة ، بالرفع ، فمن جعله مصدراً ، قدره ذلك خلوص لك ، وخلوص من دون المؤمنين.
والظاهر أن قوله : { خالصة لك } من صفة الواهبة نفسها لك ، فقراءة النصب على الحال ، قاله الزجاج : أي أحللناها خالصة لك ، والرفع خبر مبتدأ : أي هي خالصة لك ، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك ، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك.
وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره ، عليه السلام.
ويظهر من كلام أبيّ بن كعب أن معنى قوله : { خالصة لك } يراد به جميع هذه الإباحة ، لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع.
وقال الزمخشري : والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، على سبيل التوكيد لها قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم } ، بعد قوله : { من دون المؤمنين } ، وهي جملة اعتراضية.
وقوله : { لكيلا يكون عليك حرج } متصل ب { خالصة لك من دون المؤمنين } في الأزواج الإماء ، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم ، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به ، ففعل.
ومعنى { لكيلا يكون عليك حرج } : أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك ، حيث اختصصناك بالتنزيه ، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك ، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات ، وزدناك الواهبة نفسها؛ ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة ، فعلى مذهبه هذه المرأة خالصة لك من دونهم. انتهى.
والظاهر أن { لكيلا } متعلق بقوله : { أحللنا لك أزواجك }.
وقال ابن عطية : { لكيلا يكون } ، أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج ، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك ، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته.
وقال الزمخشري : { غفوراً } للواقع في الحرج إذا تاب ، { رحيماً } بالتوسعة على عباده.
انتهى ، وفيه دسيسه اعتزالية.
{ قد علمنا ما فرضنا عليهم } الآية ، معناه : أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك ، وأما حكم أمتك فعندنا علمه ، وسنبينه لهم.
وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره.
وقال مجاهد : { ما فرضنا عليهم } ، هو أن لا يجاوزوا أربعاً.
وقال قتادة : هو الولي والشهود والمهر.
وقيل : ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة.
{ وما ملكت أيمانهم } ، قيل : لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها.
وقيل : ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور ، والمعنى : قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك ، وما هو الأصلح لك ولهم ، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا.
روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة ، فهجرهن شهراً ، ونزل التخيير ، فأشفقن أن يطلقن فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت.
وتقدم الكلام في معنى ترجي في قوله : { وآخرون مرجون لأمر الله } في سورة براءة.
والظاهر أن الضمير في { منهن } عائد على أزواجه عليه السلام ، والإرجاء : الإيواء.
قال ابن عباس ، والحسن : في طلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك ، وإمساك من تشاء.
وقالت فرقة : في تزوج من تشاء من الواهبات ، وتأخير من تشاء.
وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : وتقرر من شئت في القسمة لها ، وتؤخر عنك من شئت ، وتقلل لمن شئت ، وتكثر لمن شئت ، لا حرج عليك في ذلك ، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه ، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت أعينهن ، وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره.
{ ومن ابتغيت ممن عزلت } : أي ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات ، { فلا جناح عليك } في ردها وإيوائها إليك.
ويجوز أن يكون ذلك توكيداً لما قبله ، أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء ، لا جناح عليك.
كما تقول : من لقيك ممن لم يلقك ، جميعهم لك شاكر ، تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وفي هذا الوجه حذف المعطوف ، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب ، والراجح القول الأول.
وقال الحسن : المعنى : من مات من نسائك اللواتي عندك ، أو خليت سبيلها ، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك ، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك.
وقال الزمخشري : بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت ، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج من شئت.
وعن الحسن : كان النبي ، صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض ، لأنه إما أن يطلق ، وأما أن يمسك.
فإذا أمسك ضاجع ، أو ترك وقسم ، أو لم يقسم.
وإذا طلق وعزل ، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها ، أو يتبعها.
وروي أنه أرجأ منهن : سودة ، وجويرية ، وصفية ، وميمونة ، وأم حبيبة.
فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء ، وكانت ممن أوى إليه : عائشة ، وحفصة ، وأم سملة ، وزينب ، أرجأ خمساً وأوى أربعاً.
وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة ، فإنها وهبت نفسها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. انتهى.
ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن ، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند الله ، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك.
وقرأ الجمهور : { أن تقر أعينهن } : مبنياً للفاعل من قرت العين؛ وابن محيصن : يقر من أقر أعينهن بالنصب ، وفاعل تقر ضميرالخطاب ، أي أنت.
وقرىء : تقر مبنياً للمفعول ، وأعينهن بالرفع.
وقرأ الجمهور : { كلهن } بالرفع ، تأكيداً النون { يرضين } ؛ وأبو إياس حوبة بن عائد : بالنصب تأكيداً لضمير النصب في { آتيتهن }.
{ والله يعلم ما في قلوبكم } : عام.
قال ابن عطية : والإشارة به ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ، ويدخل في المعنى المؤمنون.
وقال الزمخشري ، وعبيدة : من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك ، وفوض إلى مشيئة رسوله ، وبعث على تواطؤ قلوبهن ، والتصافي بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما فيه طيب نفسه. انتهى.
{ وكان الله عليماً } بما انطوت عليه القلوب ، { حليماً } : يصفح عما يغلب على القلب من المسؤول ، إذ هي مما لا يملك غالباً.
واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات ، ولم يستعمل شيئاً مما أبيح له ، ضبطاً لنفسه وأخذاً بالفضل ، غير ما جرى لسودة مما ذكرناه.
{ لا يحل لك النساء من بعد } : الظاهر أنها محكمة ، وهو قول أبيّ بن كعب وجماعة ، منهم الحسن وابن سيرين ، واختاره الطبري.
ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه ، فقال أبيّ ، وعكرمة ، والضحاك : ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك }.
فعلى هذا المعنى ، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة : لا أعرابية ، ولا عربية ، ولا كتابية ، ولا أمة بنكاح.
وقال ابن عباس ، وقتادة : من بعد ، لأن التسع نصاب رسول الله من الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمته منهن.
قال : لما خيرن فاخترن الله ورسوله ، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء.
وقال مجاهد ، وابن جبير : وروي عن عكرمة : من بعد ، أي من بعد إباحة النساء على العموم ، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية.
وكذلك : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } : أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات.
وقيل : في قوله { ولا أن تبدل } ، هو من البدل الذي كان في الجاهلية.
كان يقول الرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر.
قال معناه ابن زيد ، وأنه كان في الجاهلية ، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا.
" وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين دخل عليه بغير استئذان ، وعنده عائشة.
من هذه الحميراء؟ فقال : «عائشة» ، فقال عيينة : يا رسول الله ، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالاً : ونسباً ، فليس بتبديل ، ولا أراد ذلك ، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية "
ومن في { من أزواج } زائدة لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم.
وقيل : الآية منسوخة ، واختلف في الناسخ فقيل : بالسنة.
قال عائشة : ما مات حتى حل له النساء.
وروي ذلك عن أم سلمة ، وهو قول علي وابن عباس والضحاك ، وقيل بالقرآن ، وهو قوله : { ترجي من تشاء منهن } الآية.
قال هبة الله الضرير : في الناسخ والمنسوخ له ، وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا.
قال ابن عطية : وكلامه يضعف من جهات. انتهى.
وقيل : قوله { إنا أحللنا لك أزواجك } الآية ، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف.
وقد روي عن ابن عباس القولان : إنها محكمة ، وإنها منسوخة.
{ ولو أعجبك حسنهن } ، قيل : منهن أسماء بنت عميس الخثعمية ، امرأة جعفر بن أبي طالب.
والجملة ، قال الزمخشري ، في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في { تبدل } ، لا من المفعول الذي هو { من أزواج } ، لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضاً إعجابك لهن؛ وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة ، أي { ولا أن تبدل بهن من أزواج } على كل حال ، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل ، وهي حالة الإعجاب بالحسن.
قال ابن عطية : وفي هذا اللفظ { أعجبك حسنهن } ، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. انتهى.
وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرة بن شعبة ، وحديث محمد بن مسلمة.
{ إلا ما ملكت يمينك } : أي فإنه يحل لك.
وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس ، فهو استثناء من الجنس ، يختار فيه الرفع على البدل من النساء.
ويجوز النصب على الاستثناء ، وإن كانت مصدرية ، ففي موضع نصب ، لأنه استثناء من غير جنس الأول ، قاله ابن عطية ، وليس بجيد ، لأنه قال : والتقدير : إلا ملك اليمين ، وملك بمعنى : مملوك ، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر ، فيكون الرفع هو أرجح ، ولأنه قال : وهو في موضع نصب ، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب.
ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة ، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل ، لأنه مستثنى ، يمكن توجه العامل عليه ، وإنما يكون النصب متحتماً حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو : ما زاد المال إلا النقص ، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص ، ولأنه قال : استثناء من غير الجنس.
وقال مالك : بمعنى مملوك فناقض.
{ وكان الله على كل شيء رقيباً } : أي راقباً ، أو مراقباً ، ومعناه : حافظ وشاهد ومطلع ، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه.
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
في الصحيحين ، أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، وقام من القوم من قام ، وقعد ثلاثة ، فجاء فدخل ، فإذا القوم جلوس ، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا ، وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزل عليه هذه الآية.
قال ابن عباس : كان ناس يتحينون طعامه ، عليه الصلاة والسلام ، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ، ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان يتأذى بهم ، فنزلت.
وأما سبب الحجاب ، فعمر قال : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البار والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت.
وقال مجاهد : طعم معه بعض أصحابه ، ومعهم عائشة ، فمست يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك عليه السلام ، فنزلت آية الحجاب.
ولما كان نزول الآية في شيء خاص وقع للصحابة ، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوت النبي إلا إن كان عن إذن { إلى طعام غير ناظرين إناه } ، لا يجوز دخول بيوته ، عليه السلام ، إلا بإذن ، سواء كان لطعام أم لغيره.
وأيضاً فإذا كان النهي إلا بإذن إلى طعام ، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى.
و { بيوت } : جمع ، وإن كانت الواقعة في بيت واحد خاص يعم جميع بيوته.
و { إلا أن يؤذن } ، قال الزمخشري : { إلا أن يؤذن } في معنى الظرف تقديره : وقت أن يؤذن لكم ، و { غير ناظرين } : حال من { لا تدخلوا } ، أوقع الاستثناء على الوقت والحال معاً ، كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه. انتهى.
فقوله : { إلا أن يؤذن } في معنى الظرف وتقديره : وقت أن يؤذن لكم ، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح ، وقد نصوا على أن أنْ المصدرية لا تكون في معنى الظرف.
تقول : أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج ، ولا يجوز : أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج.
وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معاً ، فلا يجوز على مذهب الجمهور ، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى ، أو المستثنى منه ، أو صفة المستثنى منه : وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال ، أجازا : ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا ، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال.
وأما قوله : { إلا أن يؤذن لكم } ، فلا يتعين أن يكون ظرفاً ، لأنه يكون التقدير : إلا بأن يؤذن لكم ، فتكون الباء للسببية ، كقوله : { فأخرجنا به من كل الثمرات } أو للحال ، أي مصحوبين بالإذن.
وأما { غير ناظرين } ، كما قرر في قوله : { بالبينات والزبر } أرسلناهم بالبينات والزبر ، دل عليه { لا تدخلوا } ، كما دل عليه أرسلناهم قوله : { وما أرسلنا }.
ومعنى { غير ناظرين } فحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : ادخلوا بالإذن غير ناظرين.
كما قرر في قوله : { بالبينات والزبر } أي غير منتظرين وقته ، أي وقت استوائه وتهيئته.
وقرأ الجمهور : { غير } بالنصب على الحال؛ وابن أبي عبلة : بالكسر ، صفة لطعام.
قال الزمخشري : وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير من هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز من إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقوله : هند زيد ضاربته هي. انتهى.
وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيين إذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه ، يقال : أنى الطعام أنى ، كقوله : قلاه قلى ، وقيل : وقته ، أي غير ناظرين ساعة أكله.
وقرأ الجمهور : إناه مفرداً؛ والأعمش : إناءه ، بمدة بعد النون.
ورتب تعالى الدخول على أن يدعوا ، فلا يقدمون عليه الدخول حين يدعوا ، ثم أمر بالاستثناء إذا طعموا.
{ ولا مستأنسين لحديث } : معطوف على { ناظرين } ، فهو مجرور أو معطوف على { غير } ، فهو منصوب ، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين.
وقيل : ثم حال محذوفة ، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين ، فيعطف عليه.
واللام في { لحديث } إما لام العلة ، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه ، به أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول ، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت.
واستئناسه : تسمعه وتوحشه.
{ إن ذلكم } : أي انتظاركم واستئناسكم ، { يؤذي النبي فيستحيي منكم } : أي من إنهاضكم من البيوت ، أو من إخراجكم منها بدليل قوله : { والله لا يستحيي من الحق } : يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه.
ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال ، قيل : { لا يستحيي من الحق } بمعنى : لا يمتنع ، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله : { فيستحيي منكم }.
وعن عائشة ، وابن عباس : حسبك في الثقلاء ، أن الله لم يحتملهم.
وقرئت هذه الآية بين يدي إسماعيل بن أبي حكيم فقال : هنا أدب أدب الله به الثقلاء.
وقرأت فرقة : فيستحيي بكسر الحاء ، مضارع استحا ، وهي لغة بني تميم.
واختلفوا ما المحذوف ، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين فوزنها يستفل ، وإن كان اللام فوزنها يستفع ، والترجيح مذكور في النحو.
وقرأ الجمهور : بياءين وسكون الحاء ، والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
{ ذلكم } ، أي السؤال من وراء الحجاب ، { أطهر } : يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء ، والنساء في أمر الرجال ، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة.
ألا ترى إلى قول الشاعر :
والمرء ما دام ذا عين يقلبها . . .
في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ساء مهجته . . .
لا مرحباً بانتفاع جاء بالضرر
وذكر أن بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن فلانة.
وقال ابن عباس وبعض الصحابة : وفلانة عائشة.
وحكى مكي عن معمر أنه قال : هو طلحة بن عبيد الله.
قال ابن عطية : وهذا عندى لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه.
وفي التحرير أنه طلحة ، فنزلت : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } ، فتاب وأعتق رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، وحج ماشياً.
وروي أن بعض المنافقين قال : حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم سلمة بعده ، أي بعد سلمة ، وحفصة بعد خنيس بن حذافة : ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب ثم رجعت ، تزوج عكرمة ابن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد تزوجها ولم يبن بها.
فصعب ذلك على أبي بكر وقلق ، فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنه لم يبن بها ، ولا أرخى عليها حجاباً ، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها.
فسكن أبو بكر ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها ، مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة ، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة ، ومنعه عمر.
وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } : عام في كل ما يتأذى به ، { ولا أن تنكحوا } : خاص بعد عام ، لأن ذلك يكون أعظم الأذى ، فحرم الله نكاح أزواجه بعد وفاته.
{ إن ذلكم } : أي إذايته ونكاح أزواجه ، { كان عند الله عظيماً } : وهذا من أعلام تعظيم الله لرسوله ، وإيجابه حرمته حياً وميتاً ، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه ، فإن نحو هذا مما يحدث به المرء نفسه.
ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت ، لئلا تنكح من بعده ، وخصوصاً العرب ، فإنهم أشد الناس غيرة.
وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قبَّل جارية كان يحبها في حكاية قال : تصوراً لما عسى أن يتفق من بقائها بعده ، وحصولها تحت يد غيره. انتهى.
فقال لما عسى ، فجعل عسى صلة للموصول ، وقد كثر منه هذا وهو لا يجوز.
وعن بعض الفقهاء ، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة ، فعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عملاً يلاحظ ذلك.
{ إن تبدوا شيئاً أو تخفوه } : وعيد لما تقدم التعرض به في الآية ممن أشير إليه بقوله : { ذلكم أطهر } ، ومن أشير إليه : { وما كان لكم أن تؤذوا } ، فقيل : { إن تبدوا شيئاً } على ألسنتكم ، { أو تخفوه } في صدوركم ، مما يقع عليه العقاب ، فالله يعلمه ، فيجازي عليه.
وقال : { شيئاً } ، ليدخل فيه ما يؤذيه ، عليه السلام ، من نكاحهن وغيره ، وهو صالح لكل باد وخاف.
وروي أنه لما نزلت آية الحجاب قال : الآباء والأبناء والأقارب ، أو نحن يا رسول الله أيضاً ، نكلمهن من وراء حجاب ، فنزلت : { لا جناح عليهن } : أي لا إثم عليهن.
قال قتادة : في ترك الحجاب.
وقال مجاهد : في وضع الجلباب وإبداء الزينة.
وقال الشعبي : لم يذكر العم والخال ، وإن كانا من المحارم ، لئلا يصفا للأبناء ، وليسوا من المحارم.
وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها ، وقيل : لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، وقد جاءت تسمية العم أباً.
وذكر هنا بعض المحارم ، والجميع في سورة النور.
ودخل في : { ولا نسائهن } ، الأمهات والأخوات وسائر القربات ، ومن يتصل بهن من المتطرفات لهن.
وقال ابن زيد وغيره : أراد جميع النساء المؤمنات ، وتخصيص الإضافة إنما هي في الإيمان.
وقال مجاهد : من أهل دينهن ، وهو كقول ابن زيد.
والظاهر من قوله : { أو ما ملكت أيمانهن } ، دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن.
وقيل : مخصوص بالإماء ، وقيل : جميع العبيد ممن في ملكهن أو ملك غيرهن.
وقال النخعي : يباح لعبدها النظر إلى ما يواريه الدرع من ظاهر بدنها ، وإذا كان للعبد المكاتب ما يؤدي ، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الحجاب دونه ، وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان.
{ واتقين الله } : أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب ، أي واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب ، وأنزل الله فيه الوحي من الاستتار ، وكأن في الكلام جملة حذفت تقديره : اقتصرن على هذا ، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره.
ثم توعد بقوله : { إن الله كان على كل شيء شهيداً } ، من السر والعلن ، وظاهر الحجاب وباطنه ، وغير ذلك.
{ شهيداً } : لا تتفاوت الأحوال في علمه.
وقرأ الجمهور : { وملائكته } نصباً؛ وابن عباس ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : رفعاً.
فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على موضع اسم إن ، والفراء يشترط خفاء إعراب اسم إن.
وعند البصريين هو على حذف الخبر ، أي يصلي على النبي ، وملائكته يصلون ، وتقدم الكلام على كيفية اجتماع الصلاتين في قوله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته }.
فالضمير في { يصلون } عائد على { الله وملائكته } ، وقيل : في الكلام حذف ، أي يصلي وملائكته يصلون ، فراراً من اشتراك الضمير ، والظاهر وجوب الصلاة والسلام عليه ، وقيل : سنة.
إذا كانت الصلاة واجبة فقيل : كلما جرى ذكره قيل في كل مجلس مرة.
وقد ورد في الحديث في الصلاة عليه ، فضائل كثيرة.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة : السلام عليك يا رسول الله عرفناه ، فكيف نصلي عليك قال : « قولوا اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وارحم محمداً وآل محمد ، كما رحمت وباركت على إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد »
وفي بعض الروايات زيادة ونقص.
{ إن الذين يؤذون الله ورسوله } ، قال ابن عباس : نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت حيي زوجاً. انتهى.
والطعن في تأمير أسامة بن زيد : أن إيذاءه عليه السلام ، وإيذاء الله والرسول فعل ما نهى الله ورسوله عنه من الكفر والمعاصي ، وإنكار النبوة ومخالفة الشرع ، وما يصيبون به الرسول من أنواع الأذى.
ولا يتصور الأذى حقيقة في حق الله ، فقيل : هو على حذف مضاف ، أي يؤذون أولياء الله ، وقيل : المراد يؤذون رسول الله ، وقيل : في أذى الله ، هو قول اليهود والنصارى والمشركين : { يد الله مغلولة } و { ثالث ثلاثة } و { المسيح ابن الله } و { الملائكة بنات الله } ، و { الأصنام شركاؤه }.
وعن عكرمة : فعل أصحاب التصاوير الذين يزورون خلقاً مثل خلق الله ، وقيل : في أذى رسول الله قولهم : ساحر شاعر كاهن مجنون ، وقيل : كسر رباعيته وشج وجهه يوم أُحد.
وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله : { بغير ما اكتسبوا } ، لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق ، بخلاف إيذاء المؤمن ، فقد يكون بحق.
ومعنى { بغير ما اكتسبوا } : بغير جناية واستحقاق أذى.
وقال مقاتل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً ، كرم الله وجهه ، ويسمعونه؛ وقيل : في الذين أفكوا على عائشة.
وقال الضحاك ، والسدي ، والكلبي : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات؛ وقيل : في عمر ، رأى من الريبة على جارية من جواري الأنصار ما كره ، فضربها ، فأذوي أهل عمر باللسان ، فنزلت.
قال ابن عباس : وروي أن عمر قال يوماً لأبيّ : قرأت البارحة { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات } ففزعت منها ، وإني لأضربهم وأنهرهم ، فقال له : لست منهم ، إنما أنت معلم ومقوم.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار ، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف ، وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن.
وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت.
قيل : والجلابيب : الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقانع؛ وقيل : الملاحف ، وقيل : الجلباب : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تستتر به من كساء أو غيره.
قال أبو زيد :
تجلببت من سواد الليل جلباباً . . .
وقيل : الجلباب أكبر من الخمار.
وقال عكرمة : تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى.
وقال أبو عبيدة السلماني ، حين سئل عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى تضعه على أنفها.
وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين. انتهى.
وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة.
وقال الكسائي : يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ، أراد بالإنضمام معنى : الإدناء.
وقال ابن عباس ، وقتادة : وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
والظاهر أن قوله : { ونساء المؤمنين } يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر ، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح.
ومن في : { من جلابيبهن } للتبعيض ، و { عليهن } : شامل لجميع أجسادهن ، أو { عليهن } : على وجوههن ، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه.
{ ذلك أدنى أن يعرفن } : لتسترهن بالعفة ، فلا يتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام ، لم يقدم عليها ، بخلاف المتبرجة ، فإنها مطموع فيها.
{ وكان الله غفوراً رحيماً } : تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك.
ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله ، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله ، ويظهر الحق ويضمر النفاق.
ولما كان المؤذون ثلاثة ، باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، كان المشركون ثلاثة : منافق ، ومن في قلبه مرض ، ومرجف.
فالمنافق يؤذي سراً ، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، والثالث يرجف بالرسول ، يقول : غلب ، سيخرج من المدينة ، سيؤخذ ، هزمت سراياه.
وظاهر العطف التغاير بالشخص ، فيكون المعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه.
ويجوز أن يكون التغاير بالوصف ، فيكون واحداً بالشخص ثلاثة بالوصف.
كما جاء : أن المسلمين والمسلمات ، فذكر أوصافاً عشرة ، والموصوف بها واحد ، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين.
قال عكرمة : { الذين في قلوبهم مرض } ، هو العزل وحب الزنا ، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض.
وقال السدي : المرض : النفاق ، ومن في قلوبهم مرض.
وقال ابن عباس : هم الذين آذوا عمر.
وقال الكلبي : من آذى المسلمين.
وقال ابن عباس : { المرجفون } : ملتمسو الفتن.
وقال قتادة : الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة.
{ لنغرينك بهم } : أي لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس.
وقال قتادة : لنحرسنك بهم.
{ ثم لا يجاورونك فيها } : أي في المدينة ، و { ثم لا يجاورونك } معطوف على { لنغرينك } ، ولم يكن العطف بالفاء ، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء ، بل كونه جواباً للقسم أبلغ.
وكان العطف بثم ، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا ، به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء.
{ إلا قليلاً } : أي جواراً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، أو عدداً قليلاً ، وهذا الأخير استثناء من المنطوق ، وهو ضمير الرفع في { يجاورونك } ، أو ينتصب قليلاً على الحال ، أي إلا قليلين ، والأول استثناء من المصدر الدال عليه { يجاورونك } ، والثاني من الزمان الدال عليه { يجاورونك } ، والمعنى : أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل.
وانتصب { ملعونين } على الذم ، قاله الطبري؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من { قليلاً } ، قال : هو من إقلاء الذي قدرناه؛ وأجاز هو أيضاً أن يكون حالاً من الضمير في { يجاورونك } ، قال : كأنه قال : ينتفون من المدينة معلونين ، فلا يقدر { لا يجاورونك } ، فقدر ينتفون حسن هذا. انتهى.
وقال الزمخشري ، والحوفي ، وتبعهما أبو البقاء : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { لا يجاورونك } ، كما قال ابن عطية.
قال الزمخشري : وهذا نصه ملعونين ، نصب على الشتم أو الحال ، أي لا يجاورونك ، إلا ملعونين.
دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً ، كما مر في قول : { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } ، ولا يصح أن ينتصب من أخذوا ، لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. انتهى.
وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا ، فيكون الاستثناء منصباً عليهما ، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك.
وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلاً ، فالبدل بالمشتق قليل.
وأما قول الزمخشري : لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها ، فليس هذا مجمعاً عليه ، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان : فعل الشرط والجواب.
فأما فعل الشرط ، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة ، أجاز زيد أن يضرب اضربه ، وأما الجواب فقد أجاز أيضاً تقديم معموله عليه نحو : إن يقم زيد عمراً يضرب.
وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال : المعنى : { أينما ثقفوا } : أخذوا ملعونين ، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل ، أي إلا قليلين ملعونين ، ويكون قليلاً مستثنى من الواو في لا يجاورونك ، والجملة الشرطية صفة أيضاً ، أي مقهورين مغلوباً عليهم.
ومعنى { ثقفوا } : حصروا وظفر بهم ، ومعنى { أخذوا } : أسروا ، والأخيذ : الأسير.
وقرأ الجمهور : { قتلوا } ، بتشديد التاء؛ وفرقة : بتخفيفها ، فيكون { تقتيلاً } مصدراً على غير قياس المصدر.
والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين ، وتستر جميعهم ، وكفوا خوفاً من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه ، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل.
وقيل : لم يمتثلوا للانتهاء جملة ، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً.
ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ، ونهيه عن الصلاة عليهم ، وما نزل فيهم في سورة براءة؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف ، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم ، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، ويكون هذا الوعيد مفروضاً ومشروطاً بالمشيئة.
{ سنة الله } : مصدر مؤكد ، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم.
وعن مقاتل : كما قتل أهل بدر وأسروا ، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا ، ومن قتل يوم بدر.
{ يسألك الناس } : أي المشركون ، عن وقت قيام الساعة ، استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود على سبيل الامتحان ، إذ كانت معمى وقتها في التوراة ، فنزلت الآية بأن يرد العلم إلى الله ، إذ لم يطلع عليها ملكاً ولا نبياً.
ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون ، بيّن حالهم في الآخرة.
{ وما يدريك } : ما استفهام في موضع رفع بالابتداء ، أي : وأي شيء يدريك بها؟ ومعناه النفي ، أي ما يدريك بها أحد.
{ لعل الساعة تكون قريباً } : بين قرب الساعة ، وفي ذلك تسلية للممتحن ، وتهديد للمستعجل.
وانتصب قريباً على الظرف ، أي في زمان قريب ، إذ استعماله ظرفاً كثير ، ويستعمل أيضاً غير ظرف ، تقول : إن قريباً منك زيد ، فجاز أن يكون التقدير شيئاً قريباً ، أو تكون الساعة بمعنى الوقت ، فذكر قريباً على المعنى.
أو يكون التقدير : لعل قيام الساعة ، فلوحظ الساعة في تكون فأنث ، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريباً فذكر.
{ يوم تقلب وجوههم في النار } : يجوز أن ينتصب يوم بقوله : { لا يجدون } ، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم ، أو تم الكلام عند قولهم : { ولا نصيراً }.
وينتصب يوم بقوله : { يقولون } ، أو بمحذوف ، أي اذكر ويقولون حال.
وقرأ الجمهور : تقلب مبنياً للمفعول؛ والحسن ، وعيسى ، وأبو جعفر الرواسي : بفتح التاء ، أي تتقلب؛ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة.
وقال ابن خالويه عن أبي حيوة : نقلب بالنون ، وجوههم بالنصب.
وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضاً وخارجة.
زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري.
وقرأ عيسى الكوفي كذلك ، إلا أن بدل النون تاء ، وفاعل تقلب ضمير يعود على { سعيراً } ، وعلى جهنم أسند إليهما اتساعاً.
وقراءة ابن أبي عبلة : تتقلب بتاءين ، وتقليب الوجوه في النار : تحركها في الجهات ، أو تغيرها عن هيئاتها ، أو إلقاؤها في النار منكوسة.
والظاهر هو الأول ، والوجه أشرف ما في الإنسان ، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى.
وعبر بالوجه عن الجملة ، وتمنيهم حيث لا ينفع ، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي.
وقرأ الجمهور : { سادتنا } ، جمعاً على وزن فعلات ، أصله سودة ، وهو شاذ في جمع فيعل ، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس.
وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والسلمي ، وابن عامر ، والعامة في الجامع بالبصرة : ساداتنا على الجمع بالألف والتاء ، وهو لا ينقاس ، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم ، رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم.
قال قتادة : سادتنا : رؤساؤنا.
وقال طاوس : أشرافنا؛ وقال أبو أسامة : أمراؤنا ، وقال الشاعر :
تسلسل قوم سادة ثم زادة . . .
يبدون أهل الجمع يوم المحصب
ويقال : ضل السبيل ، وضل عن السبيل.
فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين؛ وتقدم الكلام على إثبات الألف في الرسولاً والسبيلا في قوله : { وتظنون بالله الظنونا }.
ولما لم يجد تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله ، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم ، دعوا على ساداتهم.
{ ربنا آتهم ضعفين من العذاب } : ضعفاً على ضلالهم في أنفسهم ، وضعفاً على إضلال من أضلوا.
وقرأ الجمهور : كثيراً بالثاء المثلثة.
وقرأ حذيفة بن اليمان ، وابن عامر ، وعاصم ، والأعرج : بخلاف عنه بالباء.
{ كالذين آذوا موسى } ، قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قاله بعض الناس.
وقيل : المراد حديث الإفك على أنه ما أوذي نبي مثل ما أوذيت.
وفي حديث الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فغضب وقال : رحم الله أخي موسى ، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر.
وإذاية موسى قولهم : إنه أبرص وآدر ، وأنه حسد أخاه هارون وقتله.
أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول : إن موسى زنى بها ، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون ، أقوال.
{ مما قالوا } : أي من وصم ما قالوا ، وما موصولة أو مصدرية.
وقرأ الجمهور : { وكان عند الله } : الظرف معمول لوجيهاً ، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى ، تميط عنه الأذى وتدفع التهم.
وقرأ عبد الله ، والأعمش ، وأبو حيوة : عبد من العبودية ، لله جر بلام الجر ، وعبداً خبر كان ، ووجيهاً صفة له.
قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ : وكان عبد الله ، على قراءة ابن مسعود.
قال ابن زيد : { وجيهاً } : مقبولاً.
وقال الحسن : مستجاب الدعوة ، ما سأل شيئاً إلا أعطي ، إلا الرؤية في الدنيا.
وقال قطرب : رفيع القدر؛ وقيل : وجاهته أنه كلمه ولقبه كليم الله.
والسديد : تقدم شرحه في أوائل النساء.
وقال ابن عباس : هنا صواباً.
وقال مقاتل ، وقتادة : سديداً في شأن زيد وزينب والرسول.
وقال ابن عباس ، وعكرمة أيضاً : لا إله إلا الله ، وقيل : ما يوافق ظاهره باطنه؛ وقيل : ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض؛ وقيل : السديد يعم الخيرات.
ورتب على القول السديد : صلاح الأعمال وغفران الذنوب.
قال الزمخشري : وهذه الآية مقررة للتي قبلها.
بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله ، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى ، واتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
انتهى ، وهو كلام حسن.
{ إنّا عرضنا الأمانة } : لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول ، ورتب على الطاعة ما رتب ، بيّن أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم ، فقال : { إنّا عرضنا الأمانة } ، تعظيماً الأمر التكليف.
والأمانة : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا.
والشرع كله أمانة ، وهذا قول الجمهور ، ولذلك قال أبيّ بن كعب : من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها.
وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام ، وهي الأوامر والنواهي ، فتثاب إن أحسنت ، وتعاقب إن أساءت ، فأبت وأشفقت ، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها ، وهذا غير مستحيل ، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام ، وحن الجذع إليه ، وكلمته الذراع ، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة.
قال ابن عباس : أعطيت الجمادات فهماً وتمييزاً ، فخيرت في الحمل ، وذكر الجبال ، مع أنها مع الأرض ، لزيادة قوتها وصلابتها ، تعظيماً للأمر.
وقال ابن الأنباري : عرضت بمسمع من آدم ، عليه الصلاة والسلام ، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه ، فيتجاسر على الحمل غيره ، ويظهر فضله على الخلائق ، حرصاً على العبودية ، وتشريفاً على البرية بعلو الهمة.
وقيل : هو مجاز ، فقيل : من مجاز الحذف ، أي على من فيها من الملائكة ، وقيل : من باب التمثيل.
قال الزمخشري : إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به ، فأبى محمله والاستقلال به ، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته.
{ إنه كان ظلوماً جهولاً } ، حيث حمل الأمانة ، ثم لم يف بها.
ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم.
من ذلك قول العرب : لو قيل للشحم أين تذهب لقيل : أسوي العوج.
وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات! وتصور مقالة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه؛ فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين ، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه ، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، فليس كذلك ما في الآية.
فإن عرض الأمانة على الجماد ، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم ، فكيف صح بها التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئاً ، والمشبه به غير معقول.
قلت : الممثل به في الآية ، وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض ، والمفروض أن يتخيل في الذهن.
كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض ، لو عرضت على السموات والأرض والجبال { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها }. انتهى.
وقال أيضاً : إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها ، وهو ما تأتى من الجمادات ، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة.
كما قال : { قالتا أتينا طائعين } وأما الإنسان ، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان صالح للتكليف ، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد.
والمراد بالأمانة : الطاعة ، لأنها لازمة للوجود.
كما أن الأمانة لازمة للأداء ، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز.
وحمل الأمانة من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها ، وهو حامل لها.
ألا تراهم يقولون : ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها ، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملاً لها لا يؤديها.
ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها.
انتهى ، وفيه بعض حذف.
وقال قوم : الآية من المجاز ، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال ، رأيتهما أنهما لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت ، لأبتها وأشفقت عنها؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله : { إنا عرضنا } الآية ، وهذا كما تقول : « عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل ، فرأيتها تقصر عنه؛ ونحوه قول ابن بحر » معنى عرضنا : عارضناها وقابلناها بها.
{ فأبين أن يحملنها } : أي قصرن ونقصن عنها ، كما تقول : أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها.
{ وحملها الإنسان } ، قال ابن عباس ، وابن جبير : التزم القيام بحقها ، والإنسان آدم ، وهو في ذلك ظلوم نفسه ، جهول بقدر ما دخل فيه.
وقال ابن عباس : ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة.
وقال الضحاك ، والحسن : وحملها معناه : خان فيها ، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره.
وقال ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم مسافراً عنهم إلى مكة ، في حديث طويل ذكره الطبري.
وقال ابن إسحاق : عرض الأمانة : وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات.
والحمل : الخيانة ، كما تقول : حمل خفي واحتمله ، أي ذهب به.
قال الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة . . .
وتحمل أخرى أخرجتك الودائع
انتهى.
وليس وتحمل أخرى نصاً في الذهاب بها ، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى ، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى ، فلا تزال دائماً ذا أمانات ، فتخرج إذ ذاك.
واللام في { ليعذب } لام الصيرورة ، لأنه لم يحملها لأن يعذب ، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ، ويتوب على من آمن.
وقال الزمخشري : لام التعليل على طريق المجاز ، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب ، كما أن التأديب في : ضربته للتأديب ، نتيجة الضرب.
وقرأ الأعمش : فيتوب ، يعني بالرفع ، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدىء ويتوب.
ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال. انتهى.
وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
هذه السورة ، قال في التحرير ، مكية بإجماعهم.
قال ابن عطية : مكية إلا قوله : { ويرى الذين أوتوا العلم } ، فقالت فرقة : مدنية فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأشباهه. انتهى.
وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة ، لما سمعوا { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } إن محمداً يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ، ويخوّفنا بالبعث ، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً ، ولا نبعث.
فقال الله : { قل } يا محمد { بلى وربي لتبعثن } قاله مقاتل؛ وباقي السورة تهديد لهم وتخويف.
ومن ذكر هذا السبب ، ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها.
{ الحمد لله } : مستغرق لجميع المحامد.
{ وله الحمد في الآخرة } : ظاهره الإستغراق.
ولما كانت نعمة الآخرة مخبراً بها ، غير مرئية لنا في الدنيا ، ذكرها ليقاس نعمها بنعم الدنيا ، قياس الغائب على الشاهد ، وإن اختلفا في الفضيلة والديمومة.
وقيل : أل للعهد والإشارة إلى قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله } أو إلى قوله : { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } وقال الزمخشري : الفرق بين الحمدين وجوب الحمد في الدنيا ، لأنه على نعمه متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة ، وهي الثواب.
وحمد الآخرة ليس بواجب ، لأنه على نعمة واجبة الاتصال إلى مستحقها ، إنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم يلتذون به.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
{ يعلم ما يلج في الأرض } ، من المياه.
وقال الكلبي : من الأموات والدفائن.
{ وما يخرج منها } ، من النبات.
وقال الكلبي : من جواهر المعادن.
{ وما ينزل من السماء } ، من المطر والثلج والبرد والصاعقة والرزق والملك.
{ وما يعرج فيها } ، من أعمال الخلق.
وقال الكلبي : وما ينزل من الملائكة.
وقيل : من الأقضية والأحوال والأدعية والأعمال.
وقيل : من الأنعام والعطاء.
وقرأ عليّ ، والسلمي : وما ينزل بضم الياء وفتح النون وشد الزاي ، أي الله تعالى.
وبلى جواب للنفي السابق من قولهم { لا تأتينا الساعة } ، أي بلى لتأتينكم.
وقرأ الجمهور : { لتأتينكم } بتاء التأنيث ، أي الساعة التي أنكرتم مجيئها.
وقرأ طلق عن أشياخه بياء الغيبة ، أي ليأتينكم البعث ، لأنه مقصودهم من نفي الساعة أنهم لا يبعثون.
وقال الزمخشري : أو على معنى الساعة ، أي اليوم ، أو على إسناده إلى الله على معنى ليأتينكم أمر عالم الغيب كقوله : { أو يأتي ربك } أي أمره.
ويبعد أن يكون ضمير الساعة ، لأنه مذهوب به مذهب التذكير ، لا يكون إلا في الشعر ، نحو قوله :
ولا أرض أبقل أبقالها . . .
ثم أكد الجواب بالقسم على البعث ، واتبع القسم بقوله : { عالم الغيب } وما بعده ، ليعلم أن إنباتها من الغيب الذي تفرد به تعالى.
وجاء القسم بقوله : { وربي } مضافاً إلى الرسول ، ليدل على شدّة القسم ، إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة ، وهو لفظ الله.
وقرأ نافع ، وابن عامر ، ورويس ، وسلام ، والجحدري ، وقعنب : { عالم } بالرفع على إضمار هو؛ وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ ، والخبر { لا يعزب }.
وقال الحوفي : أو خبره محذوف ، أي عالم الغيب هو ، وباقي السبعة : عالم بالجر.
قال ابن عطية ، وأبو البقاء : وذلك على البدل.
وأجاز أبو البقاء أن تكون صفة ، ويعني أن عالم الغيب يجوز أن يتعرف ، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك يجوز أن يتعرف بالاضافة ، إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة.
ذكر ذلك سيبويه في كتابة ، وقل من يعرفه.
وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : علام على المبالغة والخفض ، وتقدّمت قراءة يعزب في يونس.
وقرأ الجمهور : { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } ، برفع الراءين ، واحتمل أن يكون معطوفاً على { مثقال } ، وأن يكون مبتدأ ، والخبر في قوله : { إلا في كتاب }.
وعلى الاحتمال الأول ، يكون { إلا في كتاب مبين } توكيداً لما تضمن النفي في قوله : { لا يعزب } ، وتقديره : لكنه في كتاب مبين ، وهو كناية عن ضبط الشىء والتحفظ به ، فكأنه في كتاب ، وليس ثم كتاب حقيقة.
وعلى التخريج الأول ، يكون الكتاب هو اللوح المحفوظ.
وقرأ الأعمش ، وقتادة : بفتح الراءين.
قال ابن عطية : عطفاً على { ذرة }.
ورويت عن أبي عمرو ، وعزاها أيضاً إلى نافع ، ولا يتعين ما قال ، بل تكون لا لنفي الجنس ، وهو مبتدأ ، أعني مجموع لا وما بني معها على مذهب سيبويه ، والخبر { إلا في كتاب مبين } ، وهو من عطف الجمل ، لا من عطف المفردات ، كما قال ابن عطية.
وقال الزمخشري : جواباً لسؤال من قال : هل جاز عطف { ولا أصغر } على { مثقال } ، وعطف { ولا أصغر } على { ذرة } ؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلا إذا جعلت الضمير في عنه للغيب ، وجعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح ، لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلا مسطوراً في اللوح. انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب المبين ليس اللوح المحفوظ.
وقرأ زيد بن على : ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، بخفض الراءين بالكسرة ، كأنه نوى مضافاً إليه محذوفاً ، التقدير : ولا أصغره ولا أكبره ، ومن ذلك ليس متعلقاً بأفعل ، بل هو بتبيين ، لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظاً فبينه بقوله : { من ذلك } ، أي عنى من ذلك ، وقد جاءت من كون أفعل التفضيل مضافاً في قول الشاعر :
تحن نفوس الورى وأعلمنا . . .
بنا يركض الجياد في السدف
وخرج على أنه أراد علم بنا ، فأضاف ناوياً طرح المضاف إليه ، فاحتملت قراءة زيد هذا التوجيه الآخر : أنه لما أضاف أصغر وأكبر على إعرابهما حالة الإضافة ، وهذا كله توجيه شذوذ ، وناسب وصفه تعالى بعالم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، فاندرج في ذلك وقت قيام الساعة ، وصار ذلك دليلاً على صحة ما أقسم عليه ، لأن من كان عالماً بجميع الأشياء كلها وجزئها ، وكانت قدرته ثابتة ، كان قادراً على إعادة ما فنى من جميع الأرواح والأشباح.
قيل : وقوله { مثقال ذرة في السموات } ، إشارة إلى علمه بالأرواح ، { ولا في الأرض } ، إشارة إلى علمه بالأشياء.
وكما أبرزهما من العدم إلى الوجود أولاً ، فكذلك يعيدهما ثانياً.
وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون بمعنى اليمين مصححة لما أنكروه؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها بالحجة القاطعة ، وهو قوله : { ليجزي } ، فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء ، وأن المحسن لا بد له من ثواب ، والمسيء لا بد له من عقاب.
انتهى ، وفي السؤال بعض اختصار ، وفيه دسيسة الاعتزال.
والظاهر أن قوله : { ليجزي } متعلق بقوله : { لا يعزب } ، وقيل : بقوله { لتأتينكم } ، وقيل : بالعامل { في كتاب مبين } : أي إلا مستقراً في كتاب مبين ليجزي.
وقرأ الجمهور : معجزين مخففاً ، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السماك : مثقلاً وتقدّم في الحج ، أي معجزين قدرة الله في زعمهم.
وقال ابن الزبير : معناه مثبطين عن الإيمان من أراده ، مدخلين عليه العجز في نشاطه ، وهذا هو سعيهم في الآيات ، أي في شأن الآيات.
وقال قتادة : مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا.
وقال عكرمة : مراغمين.
وقال ابن زيد : مجاهدين في إبطالها.
وقرأ ابن كثير وحفص وابن أبي عبلة : { أليم } هنا ، وفي الجاثية بالرفع صفة للعذاب ، وباقي السبعة بالجر صفة للرجز ، والرجز : العذاب السيء.
والظاهر أن قوله : { والذين سعوا } مبتدأ ، والخبر في الجملة الثانية ، وهي { أولئك }.
وقيل : هو منصوب عطفاً على { الذين كفروا } ، أي وليجزي الذين سعوا.
واحتمل أن تكون الجملتان المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب ، واحتمل أن تكونا مستأنفتين ، والثواب والعقاب ما تضمنتا مما هو أعظم ، كرضا الله عن المؤمن دائماً ، وسخطه على الفاسق دائماً.
قال العتبي : والظاهر أن قوله : { ويرى } استئناف إخبار عمن أوتي العلم ، يعلمون القرآن المنزل عليك هو الحق.
وقيل : ويرى منصوب عطفاً على ليجزي ، وقاله الطبري والثعلبي؛ وتقدّم الخلاف في { الذين أوتوا العلم } في ذلك المكان الذي نزلت فيه هذه السورة.
وقال الزمخشري : أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الاتفاق ، ويحتجوا به على الذين كفروا وتولوا.
ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأخيار أنه هو الحق ، فيزداد حسرة وغماً. انتهى.
وإنما قال : عند مجيء الساعة ، لأنه علق ليجزي بقوله : { لتأتينكم } ، فبنى التخريج على ذلك.
وقرأ الجمهور : الحق بالنصب ، مفعولاً ثانياً ليرى ، وهو فصل؛ وابن أبي عبلة : بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى ، وهو لغة تميم ، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ، قاله أبو عمر الجرمي.
والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل ، وهو القرآن ، وهو استئناف إخبار.
وقيل : هو في موضع الحال على إضمار ، وهو يهدي ، ويجوز أن يكون معطوفاً على الحق ، عطف الفعل على الاسم ، كقوله : { صافات ويقبضن } أي قابضات ، كما عطف الاسم على الفعل في قوله :
فألفيته يوماً يبير عدوه . . .
وبحر عطاء يستحق المعابرا
عطف وبحر على يبير ، وقيل : الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله ، وفيه بعد.
{ وقال الذين كفروا } : هم قريش ، قال بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء ، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه : هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ لما كان البعث عندهم من المحال ، جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه ، وأتوا باسمه ، عليه السلام ، نكرة في قوله : { هل ندلكم على رجل } ؟ وكان اسمه أشهر علم في قريش ، بل في الدنيا ، وإخباره بالبعث أشهر خبر ، لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية ، فلذلك نكروا اسمه.
وقرأ الجمهور : { ينبئكم } بالهمز؛ وزيد بن علي : بإبدال الهمزة ياء محضة.
وحكى عنه الزمخشري : ينبئكم ، بالهمز من أنبأ ، وإذا جوابها محذوف تقديره : تبعثون ، وحذف لدلالة ما بعده عليه ، وهو العامل إذا ، على قول الجمهور.
وقال الزجاج ذلك ، وقال أيضاً هو والنحاس : العامل { مزقتم }.
قال ابن عطية : هو خطأ وإفساد للمعنى.
وليس بخطأ ولا إفساد للمعنى ، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها ، وقد بينا ما كتبناه في ( شرح التسهيل ) أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط ، كسائر أدوات الشرط.
والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم ، لأنه في معنى يقول لكم : { إذا مزقتم كل ممزق } ، ثم أكد ذلك بقوله : { إنكم لفي خلق جديد }.
ويحتمل أن يكون : { إنكم لفي خلق جديد } معمولاً لينبئكم ، ينبئكم متعلق ، ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة ، فالجملة سدت مسد المفعولين.
والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض ، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم ، والصحيح جوازه.
قال الشاعر :
حذار فقد نبئت أنك للذي . . .
ستنجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى
وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول ، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة ، كقوله :
ألم تعلم بمسرحي القوافي . . .
فلا عيابهن ولا اجتلابا
أي : تسريحي القوافي.
وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان ، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون الطير والسباع ، وما ذهبت به السيول كل مذهب ، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح. انتهى.
و { جديد } ، عند البصريين ، بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جاد وجديد ، وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه.
والظاهر أن قوله : { أفترى } من قول بعضهم لبعض ، أي هو مفتر ، { على الله كذباً } فيما ينسب إليه من أمر البعث ، { أم به } جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه.
عادلوا بين الافتراء والجنون ، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين ، لأنه إذا كان يعتقد خلاف ما أتى به فهو مفتر ، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون.
ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال : { هل ندلكم } ، ردد بين الشيئين ولم يجزم بأحدهما ، حيث جوز هذا وجوز هذا ، ولم يجزم بأنه افتراء محض ، احترازاً من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية ، إذ العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب ، لا من نفسه ولا من غيره ، وأضرب تعالى عن مقالتهم ، والمعنى : ليس للرسول كما نسبتم ألبتة ، بل أنتم في عذاب النار ، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق ، وإطفاء نور الله وهو متم.
ولما كان الكلام في البعث قال : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة } ، فرتب العذاب على إنكار البعث ، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد ، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى ، ومعنى بعده : أنه لا ينقضي خبره المتلبس به.
{ أفلم يروا } : أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة ، { إلى ما بين أيديهم } : أي حيث ما تصرفوا ، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم ، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ، ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما.
وقال الزمخشري : أعموا فلم ينظروا ، جعل بين الفاء والهمزة فعلاً يصح العطف عليه ، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما ، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام ، وأن التقدير فالم ، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت ، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك ، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في ( شرح التسهيل ).
وقفهم تعالى على قدرته الباهرة ، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم ، وكان ثم حال محذوفة ، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد؟
{ إن نشأ نخسف بهم الأرض } ، كما فعلنا بقارون ، { أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } ، كما فعلنا بأصحاب الظلة ، أو { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } محيطاً بهم ، وهم مقهورون تحت قدرتنا؟ { إن في ذلك } النظر إلى السماء والأرض ، والفكر فيهما ، وما يدلان عليه من قدرة الله ، { لآية } : لعلامة ودلالة ، { لكل عبد منيب } : راجع إلى ربه ، مطيع له.
قال مجاهد : مخبت.
وقال الضحاك : مستقيم.
وقال أبو روق : مخلص في التوحيد.
وقال قتادة : مقبل إلى ربه بقلبه ، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه من يكفر به.
وقرأ الجمهور : إن نشأ نخسف ونسقط بالنون في الثلاثة؛ وحمزة والكسائي ، وابن وثاب ، وعيسى ، والأعمش ، وابن مطرف : بالياء فيهن؛ وأدغم الكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم.
قال أبو علي : وذلك لا يجوز ، لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء ، فلا تدغم فيها ، وإن كانت الباء تدغم في الفاء ، نحو : اضرب فلاناً ، وهذا ما تدغم الباء في الميم ، كقولك : اضرب مالكاً ، ولا تدغم الميم في الباء ، كقولك : اصمم بك ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم.
وقال الزمخشري : وقرأ الكسائي نخسف بهم ، بالإدغام ، وليست بقوية. انتهى.
والقراءة سنة متبعة ، ويوجد فيها الفصيح والأفصح ، وكل ذلك من تيسيرة تعالى القرآن للذكر ، فلا التفات لقول أبي علي ولا الزمخشري.
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
مناسبة قصة داود وسليمان ، عليهما السلام ، لما قبلها ، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم ، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره ، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره ، إن شاء الله ، من تأويب الجبال والطير مع داود ، والإنة الحديد ، وهو الجرم المستعصي ، وتسخير الريح لسليمان ، وإسالة النحاس له ، كما ألان الحديد لأبيه ، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل : لما ذكر من ينيب من عباده ، ذكر من جملتهم داود ، كما قال : { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } وبين ما آتاه الله على إنابته فقال : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } ، وقيل : ذكر نعمته على داود وسليمان ، عليهما السلام ، احتجاجاً على ما منح محمداً صلى الله عليه وسلم : أي لا تستبعدوا هذا ، فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً بكذا وكذا.
فلما فرغ التمثيل لمحمد ، عليه السلام ، رجع التمثيل لهم بسبأ ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. انتهى.
والفضل الذي أوتي داود : الزبور ، والعدل في القضاء ، والثقة بالله ، وتسخير الجبال ، والطير ، وتليين الحديد ، أقوال.
{ يا جبال } : هو إضمار القول ، إما مصدر ، أي قولنا { يا جبال } ، فيكون بدلاً من { فضلاً } ، وأما فعلاً ، أي قلنا ، فيكون بدلاً من { آتينا } ، وإما على الاستئناف ، أي قلنا { يا جبال } ، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث نادى الجبال وأمرها.
وقرأ الجمهور : { أوّبي } ، مضاعف آب يؤب ، ومعناه : سبحي معه ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد.
وقال مؤرج ، وأبو ميسرة : أوبي : سبحي ، بلغة الحبشة ، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي تردد بالذكر ، وضعف الفعل للمبالغة ، قاله ابن عطية.
ويظهر أن التضعيف للتعدية ، فليس للمبالغة ، إذ أصله آب ، وهو لازم بمعنى : رجع اللازم فعدى بالتضعيف ، إذ شرحوه بقولهم : رجعي معه التسبيح.
قال الزمخشري : ومعنى تسبيح الجبال : أن الله يخلق فيها تسبيحاً ، كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح ، معجزة لداود.
قيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. انتهى.
وقوله : كما خلق الكلام في الشجرة ، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام ، لا أنه كلام الله حقيقة ، وهو مذهب المعتزلة.
وأما قوله : تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء ، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة ، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تؤوب معه ، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله ، إذ ليس فعلاً لها ، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان.
وقال الحسن : معنى { أوبي معه } : سيري معه أين سار ، والتأويب : سير النهار.
كان الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار ، أي يردده ، وقال تميم بن مقبل :
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما . . .
رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح
وقال آخر :
يومان يوم مقامات وأندية . . .
ويوم سير إلى الاعداء تأويب
وقيل : أوّبي : تصرفي معه على ما يتصرف فيه.
فكان إذا قرأ الزبور ، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل.
وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق : أوبي ، أمر من أوب : أي رجعي معه في التسبيح ، أو في السير ، على القولين.
فأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة ، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، ومنه : يا رب أخرى ، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث ، قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدى . . .
وقلنا للنساء بها أقيمي
لكن هذا قليل.
وقرأ الجمهور : { والطير } ، بالنصب عطفاً على موضع { يا جبال }.
قال سيبويه : وقال أبو عمرو : بإضمار فعل تقديره : وسخرنا له الطير.
وقال الكسائي : عطفاً على { فضلاً } ، أي وتسبيح الطير.
وقال الزجاج : نصبه على أنه مفعول معه.
انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن قبله معه ، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف ، فكما لا يجوز : جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف ، كذلك هذا.
وقرأ السلمي ، وابن هرمز ، وأبو يحيى ، وأبو نوفل ، ويعقوب ، وابن أبي عبلة ، وجماعة من أهل المدينة ، وعاصم في رواية : والطير ، بالرفع ، عطفاً على لفظ { يا جبال } ؛ وقيل : عطفاً على الضمير في { أوبي } ، وسوغ ذلك الفصل بالظرف؛ وقيل : رفعاً بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي والطير تؤوّب.
وإلانة الحديد ، قال ابن عباس وقتادة : صار كالشمع.
وقال الحسن : كالعجين ، وكان يعمله من غير نار.
وقال السدي : كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة.
وقيل : أعطي قوة يلين بها الحديد.
وقال مقاتل : وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم ، وكان داود يتنكر فيسأل الناس عن حاله ، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله ، فقال : نعم العبد لولا خلة فيه ، فقال : وما هي؟ فقال : يرتزق من بيت المال ، ولو أكل من عمل يده تمت فضائله ، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين.
وأن في { أن اعمل } مصدرية ، وهي على إسقاط حرف الجر ، أي ألناه لعمل { سابغات }.
وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ، ولا يصح ، لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول ، وأن ليس فيه معنى القول.
وقدر بعضهم قبلها فعلاً محذوفاً حتى يصح أن تكون مفسرة ، وتقديره : وأمرناه أن اعمل ، أي اعمل ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف.
وقرىء : صابغات ، بالصاد بدلاً من السين ، وتقدم أنها لغة في قوله : وأسبغ عليكم نعمه.
{ وقدر في السرد } ، قال ابن زيد : هو في قدر الحلقة ، أي لا تعملها صغيرة فتضعف ، فلا يقوى الدرع على الدفاع ، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها.
وقال ابن عباس : هو في المسمار ، لا يرق فينكسر ، ولا يغلظ فيفصم ، بالفاء وبالقاف.
وقال قتادة : إن الدروع كانت قبل صفائح كانت ثقالاً ، وهو أول من صنع الدرع حلقاً.
والظاهر أن الأمر في قوله : { اعملوا آل داود } لآل داود ، وإن لم يجر لهم ذكر.
ويجوز أن يكون أمراً لداود شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع.
{ ولسليمان الريح } ، قال الحسن : عقر سليمان الخيل على ما فوتته من صلاة العصر ، فأبدله الله خيراً منها ، وأسرع الريح تجري بأمره.
وقرأ الجمهور : الريح بالنصب ، أي ولسليمان سخرنا الريح؛ وأبو بكر : بالرفع على الابتداء ، والخبر في المجرور ، ويكون الريح على حذف مضاف ، أي تسخير الريح ، أو على إضمار الخبر ، أي الريح مسخرة.
وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وخالد بن الياس : الرياح ، بالرفع جمعاً.
وقال قتادة : كانت تقطع في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر ، وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر.
وقال الحسن : فخرج من مستقره بالشام يريد تدمر التي بنتها الجن بالصفاح والعمد ، فيقيل في أصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان.
والغدو ليس الشهر هو على حذف مضاف ، أي جري غدوها ، أي جريها في الغدو مسيرة شهر ، وجري رواحها ، أي جريها في الرواح مسيرة شهر.
وأخبر هنا في الغدو عن الرواح بالزمان وهو شهر ، ويعني شهراً واحداً كاملاً ، ونصب شهر جائز ، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم.
وقرأ ابن أبي عبلة : غدوتها وروحتها على وزن فعلة ، وهي المرة الواحدة من غدا وراح.
وقال وهب : كان مستقر سليمان ، عليه السلام ، بتدمر ، وكانت الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر ، وفيه يقول النابغة :
ألا سليمان قد قال الإله له . . .
قم في البرية فاصددها عن العبد
وجيش الجن إني قد أذنت لهم . . .
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ووجدت أبياتاً منقورة في صخرة بأرض يشكر شاهدة لبعض أصحاب سليمان ، عليه السلام ، وهي :
ونحن ولا حول سوى حول ربنا . . .
نروح من الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا . . .
مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس أعز الله طوعاً نفوسهم . . .
بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معاني الدين فضل ورفعة . . .
وإن نسبوا يوماً فمن خير معشر
وإن ركبوا الريح المطيعة أسرعت . . .
مبادرة عن يسرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم . . .
متى رفرفت من فوقهم لم تنشر
انتهى ما حكى وهب.
{ وأسلنا له عين القطر } : الظاهر أنه جعله له في معدنه عيناً تسيل كعيون الماء ، دلالة على نبوته.
قال قتادة : يستعملها فيما يريد.
وعن ابن عباس ومجاهد والسدي : أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن ، وكانت بأرض اليمن.
قال مجاهد : سالت من صنعاء ، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله ، وكان لا يذوب.
وقالت فرقة : المعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود ، عليه السلام.
قالوا : وكانت الأعمال تتأتى منه ، وهو بارد دون نار ، وعين بمعنى الذات.
وقالوا : لم يكن أولاً ذاب لأحد قبله.
وقال الزمخشري : أراد بها معدن النحاس نبعاً له ، كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين ، فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : { إني أراني أعصر خمراً } انتهى ويحتمل { من يعمل } أن يكون في موضع نصب ، أي وسخرنا من الجن من يعمل ، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء ، وخبره في الجار والمجرور قبله { بإذن ربه } لقوله : { ومن يزغ منهم عن أمرنا }.
وقرأ الجمهور : يزغ مضارع زاغ ، أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان.
وقرىء : يزغ بضم الياء من أزاغ : أي ومن بمل ويصرف نفسه عن أمرنا.
{ وعذاب السعير } : عذاب الآخرة ، قاله ابن عباس.
وقال السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني.
ولبعض الباطنية ، أو من يشبههم ، تحريف في هذه الجمل.
إن تسبيح الجبال هو نوع قوله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وإن تسخير الريح هو أنه راض الخيل وهي كالريح ، وإن { غدوها شهر } يكون فرسخاً ، لأن من يخرج للتفرج لا يسير في غالب الأمر أشد من فرسخ.
وإلانة الحديد وإسالة القطر هو استخراج ذوبهما بالنار واستعمال الآلات منهما.
{ ومن الجن } : هم ناس من بني آدم أقوياء شبهوا بهم في قواهم ، وهذا تأويل فاسد وخروج بالجملة عما يقوله أهل التفسير في الآية ، وتعجيز للقدرة الإلهية ، نعوذ بالله من ذلك.
والمحاريب ، قال مجاهد : المشاهد ، سميت باسم بعضها تجوزاً.
وقال ابن عطية : القصور.
وقال قتادة : كليهما.
وقال ابن زيد : مساكن.
وقيل : ما يصعد اليه بالدرج ، كالغرف.
والتماثيل : الصور ، وكانت لغير الحيوان.
وقال الضحاك : كانت تماثيل حيوان ، وكان عملها جائزاً في ذلك الشرع.
وقال الزمخشري : هي صور الملائكة والنبيين ، والصالحين ، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ، ليراها الناس ، فيعبدوا نحو عبادتهم ، وهذا مما يجوز أن يختلف فيه الشرائع ، لأنه ليس من مقبحات الفعل ، كالظلم والكذب.
وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرماً ، أو صوراً محذوفة الرؤوس.
انتهى ، وفيه بعض حذف.
وقيل : التماثيل طلسمات ، فيعمل تمثالاً للتمساح ، أو للذباب ، أو للبعوض ، ويأمر أن لا يتجاوز ذلك الممثل به ما دام ذلك التمثال والتصوير حرام في شريعتنا.
وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين ، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها.
وفي حديث سهل بن حنيف : لعن الله المصورين ، ولم يستثن عليه الصلاة والسلام.
وحكى مكي في الهداية أن قوماً أجازوا التصوير ، وحكاه النحاس عن قوم واحتجوا بقوله : { وتماثيل } ، قاله ابن عطية ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه.
وقرىء : { كالجواب } بلا ياء ، وهو الأصل ، اجتزاء بالكسرة ، واجراء الألف واللام مجرى ما عاقبها ، وهو التنوين ، وكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه ، وهو أل.
و { الراسيات } : الثابتات على الأثافي ، فلا تنقل ولا تحمل لعظمها.
وقدمت المحاريب على التماثيل ، لأن النقوش تكون في الأبنية.
وقدم الجفان على القدور ، لأن القدور آلة الطبخ ، والجفان آلة الأكل ، والطبخ قبل الأكل ، لما بين الأبنية الملكية.
وأراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها ، والقدور لا تكون فيها ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : { راسيات }.
ولما بين حال الجفان ، سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيه ، فذكر القدور للمناسبة ، وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال الأعداء ، وفي حق سليمان المحاريب والتماثيل ، لأنه كان ملكاً ابن ملك ، قد وطد له أبوه الملك ، فكانت حاله حالة سلم ، إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته.
وقال عقب : { أن اعمل سابغات } ، و { اعملوا صالحاً } ، وعقب ما يعمله الجن : { إعملوا آل داود شكراً } ، إشارة إلى أن الإنسان لا يستغرق في الدنيا ولا يلتفت إلى زخارفها ، وأنه يجب أن يعمل صالحاً ، { إعملوا آل داود }.
وقيل : مفعول إعملوا محذوف ، أي اعملوا الطاعات وواظبوا عليها شكراً لربكم على ما أنعم به عليكم ، فقيل : انتصب شكراً على الحال ، وقيل : مفعول من أجله ، وقيل : مفعول له باعملوا ، أي اعملوا عملاً هو الشكر ، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسده ، وقيل : على المصدر لتضمينه اعملوا اشكروا بالعمل لله شكراً.
روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً ، وكانوا يتناوبونه.
وكان سليمان ، عليه السلام ، يأكل الشعير ، ويطعم أهله الخشكار ، والمساكين الدرمك ، وما شبع قط ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف إن شبعت أن أنس الجياع.
و { الشكور } : صيغة مبالغة ، وأريد به الجنس.
قال ابن عباس : الشكور : من يشكر على أحواله كلها.
وقال السدي : من يشكر على الشكر.
وقيل : من يرى عجزه عن الشكر ، وهذه الجملة تحتمل أن تكون خطاباً لآل داود ، وهو الظاهر ، وأن تكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
{ فلما قضينا عليه الموت } : أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت ، وأخرجناه إلى حيز الوجود.
وجواب لما النفي الموجب ، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف ، خلافاً لمن زعم ذلك ، لأنه لو كان ظرفاً لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه ، وهي نافية ، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله : { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء } فالضمير في { دلهم } عائد على الجن الذين كانوا يعملون له ، وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح له ، فبنوه له.
ودخله مختلياً ليصفو له يوم من الدهر من الكدر ، فدخل عليه شاب فقال له : كيف دخلت عليّ بغير إذن؟ فقال : إنما دخلت بإذن ، قال : ومن أذن لك؟ قال : رب هذا الصرح.
فعلم أنه ملك الموت أتى بقبض روحه ، فقال : سبحان الله ، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا ، فقال له : طلبت ما لم يخلق ، فاستوثق من الاتكاء على العصا ، فقبض روحه ، وبقيت الجن تعمل على عادتها.
وكان سليمان قصد تعمية موته ، لأنه كان بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة ، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن ، وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة ، فكانوا يقولون : إنه يتحنث.
وقيل : إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة ، فدعا الشياطين فبنوا له الصرح ، وقام يصلي متكئاً على عصاه ، فقبض روحه وهو متكىء عليها.
وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ، فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق ، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا هو قد خر ميتاً ، وكأن عمره ثلاثاً وخمسين سنة.
ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع بساط موسى ، فمات قبل أن يتمه ، ووصى به ابنه ، فأمر الشياطين بإتمامه ، ومات قبل تمامه.
و { دابة الأرض تأكل } : هي سوسة الخشب ، وهي الأرضة.
وقيل : ليست سوسة الخشب ، لأن السوسة ليست من دواب الأرض ، بل هذه حيوان من الأرض شأنه أن يأكل الخشب ، وذلك موجود.
وقالت فرقة ، منها أبو حاتم : الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب ، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال : دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة.
وإذا كان الأرض مصدراً ، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضاً فأرض بكسر الراء نحو : جدعت أنفه فجدع.
ويقال : إنه مصدر لفعل مفتوح العين ، قراءة ابن عباس.
والعباس بن الفضل : الأرض بفتح الراء ، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو : جدع أنفه جدعاً وأكلت الأسنان أكلاً ، مطاوع أكلت.
وقيل : الأرض بفتح الراء جمع أرضه ، وهو من إضافة العام إلى الخاص ، لأن الدابة أعم من الأرض.
وقراءة الجمهور : بسكون الراء ، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة ، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب.
وتأكل : حال ، أي أكلت منسأته ، وهي حال مصاحبة.
وتقدم أن المنسأة هي العصا ، وكانت فيما روي من خرنوب ، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس ، فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع ، ويتصرف في منافعها ، وتغرس لتتناسل.
فلما قرب موته ، نبتت شجرة وسألها فقالت : أنا الخرنوب ، خرجت لخراب ملكك ، فعرف أنه حضر أجله ، فاستعد واتخذ منها عصاً واستدعى بزاد سنة ، والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل.
وروي أن سليمان كان في قبة ، وأوصى بعض أهله بكتمان موته عن الإنس والجن سنة ليتم البناء الذي بدىء في زمن داود ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن العصا ونظر إلى مقدار ما تأكله الأرضة يوماً وقيس عليه ، فعلم أنها أكلت العصا منه سنة.
وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وجماعة : منساته بألف ، وأصله منسأته ، أبدلت الهمزة ألفاً بدلاً غير قياسي.
وقال أبو عمرو : أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً ، فإن كانت مما لا تهمز ، فقد احتطت ، وإن كانت تهمز ، فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز.
وقرأ ابن ذكوان وجماعة ، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم : منسأته ، بهمزة ساكنة ، وهو من تسكين التحريك تخفيفاً ، وليس بقياس.
وضعف النحاة هذه القراءة ، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكناً غير الفاء.
وقيل : قياسها التخفيف بين بين ، والراوي لم يضبط ، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهداً على سكون هذه القراءة قول الراجز :
صريع خمر قام من وكأته . . .
كقومة الشيخ إلى منسأته
وقرأ باقي السبعة بالهمز مفتوحة ، وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً ، وعلى وزن مفعالة : منساءة.
وقرأت فرقة ، منهم عمر بن ثابت ، عن ابن جبير : مفصولة حرف جر وسأته بجر التاء ، قيل : ومعناه من عصاه ، يقال لها : ساة القوس وسيتها معاً ، وهي يدها العليا والسفلى ، سميت العصا ساة القوس على الاستعارة ، ولا سيما إن صح النقل أنه اتخذها من شجر الخروب قبل موته ، فيكون حين اتكأ عليها ، وهي كما قطعت من شجرة خضراء ، قد اعوجت حتى صارت كالقوس.
ألا ترى أنك إذا اتكأت على غصن أخضر كيف يعوج حتى يكاد يلتقي طرفاه؟ فيها لغتان : ساة وسية ، كما يقال : قحة وقحاة ، والمحذوف من ساة وسية.
{ فلما خر } : أي سقط عن العصا ميتاً ، والظاهر أن الضمير في خر عائد على سليمان.
وقيل : إن لم يمت إلى أن وجد في سفر مضطجعاً ، ولكنه كان في بيت مبني عليه ، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر الباب ، فعلم موته.
وقال ابن عباس : مات في متعبده على فراشه ، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة ، أي عتبة الباب ، فلما خر ، أي الباب.
انتهى ، وهذا فيه ضعف ، لأنه لو كانت المنسأة هي العتبة ، وعاد الضمير عليها ، لكان التركيب : فلما خرت ، بتاء التأنيث ، ولا يجيء حذف مثل هذه التاء إلا في ضرورة الشعر ، ولا يكون من ذكر المعنى على معنى العود لأنه قليل.
وقرأ الجمهور : تبينت ، مبنياً للفاعل ، فاحتمل أن يكون من تبين بمعنى بان ، أي ظهرت الجن ، والجن فاعل ، وإن وما بعدها بدل من الجن.
كما تقول : تبين زيد جهله ، أي ظهر جهل زيد ، فالمعنى : ظهر للناس جهل الجن علم الغيب ، وأن ما ادعوه من ذلك ليس بصحيح.
واحتمل أن يكون من تبين بمعنى علم وأدرك ، والجن هنا خدم الجن ، وضعفتهم { أن لو كانوا } : أي لو كان رؤساؤهم وكبراؤهم يعلمون الغيب ، قاله قتادة.
وقال الزمخشري : أو علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد بهم التهكم كما يتهكم بمدعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله ، كقولك : هل تبينت أنك مبطل وأنت لا تعلم أنه لم يزل لذلك متبيناً؟ انتهى.
ويجىء تبين بمعنى بان وظهر لازماً ، وبمعنى علم متعدياً موجود في كلام العرب.
قال الشاعر :
تبين لي أن القماءة ذلة . . .
وأن أعزاء الرجال طيالها
وقال آخر :
أفاطم إني ميت فتبيني . . .
ولا تجزعي على الأنام بموت
أي : فتبيني ذلك ، أي اعلميه.
وقال ابن عطية : ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب ، إنما هي موزونة ، نحو : إن ما ينزل القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم.
فما لبثوا : جواب القسم ، لا جواب لو.
وعلى الأقوال ، الأول جواب لو.
وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ : { تبينت الجن } ، بنصب الجن ، أي تبينت الإنس الجن ، والمعنى : أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفى عليها موته ، أي موت سليمان.
وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والضعة وهو ميت.
وقرأ ابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه : تبينت مبنياً للمفعول؛ وعن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبيّ ، وعلي بن الحسن ، والضحاك قراءة في هذا الموضع مخالفة لسواد المصحف ولما روي عنهم ، ذكرها المفسرون ، أضرب عن ذكرها صفحاً على عادتنا في ترك نقل الشاذ الذي يخالف للسواد مخالفة كثيرة.
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان ، بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ ، موعظة لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى لمن كفر أنعم الله ، وتقدم الكلام في سبأ في النمل.
ولما ملكت بلقيس ، اقتتل قومها على ماء واديهم ، فتركت ملكها وسكنت قصرها ، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ولا تطيعوني ، فقالوا : نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا ، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنان عشر مخرجاً على عدد أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ، عليه السلام ، ما سبق ذكره في سورة النمل.
وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية.
وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
قيل : وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان في الفترة ، فمات ولده فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلذا يقال في المثل : أكفر من حمار ، ويقال : بركة جوف حمار ، أي كوادي حمار ، لما حال بهم السيل.
وقرأ الجمهور : { في مساكنهم } ، جمعاً؛ والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفرداً بفتح الكاف؛ والكسائي : مفرداً بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة.
وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي لغة الناس اليوم؛ والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة.
وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ، لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفرداً يراد به الجمع ، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم.
وقوله :
قد عض أعناقهم جلد الجواميس . . .
أي جلود.
{ آية } : أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ : أعرض أهلها عن شكر الله عليهم ، فخربهم وأبدلهم عنها الخمط والإثل ثمرة لهم؛ و { جنتان } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي جنتان ، قاله الزجاج ، أو بدل ، قال معناه الفراء ، قال : رفع لأنه تفسير لآية.
وقال مكي وغيره ، وضعفه ابن عطية ، ولم يذكر جهة تضعيفه.
وقال : { جنتان } ابتداء ، وخبره في قوله : { عن يمين وشمال }. انتهى.
ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن اعتقد إن ثمة صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم { عن يمين وشمال } ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتاً مما قبله.
وقرأ ابن أبي عبلة : جنتين بالنصب ، على أن آية اسم كان ، وجنتين الخبر.
قيل : ووجه كون الجنتين آية نبات الخمط والإثل والسدر مكان الأشجار المثمرة.
قال قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة. انتهى.
قال الزمخشري : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } انتهى.
قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ، ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء ثماراً من غير أن تتناول بيدها شيئاً.
وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس.
{ كلوا من رزق الله } : قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي ذلك مع الأيمان بالله ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعماً كثيرة وأرزاقاً مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض.
{ واشكروا الله } على ما أنعم به عليكم ، { بلدة طيبة } : أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من الهوامّ والمضار ، { ورب غفور } ، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية.
وقرأ رويس : بنصب الأربعة.
قال أحمد بن يحيى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا رباً غفوراً.
وقال الزمخشري : منصوب على المدح.
ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال : { فأعرضوا } : أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ، وكانوا ثلاثة عشر نبياً ، دعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله نعمة ، فبين كيفية الانتقام منهم.
كما قال : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } { إنا من المجرمين منتقمون } فسلط الله عليهم الجرذ فأراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، وخرقه شيئاً بعد شيء ، وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار.
وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه.
وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي : كل ما بني أو سنم ليمسك الماء.
وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة.
وقال الأخفش : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، كأنها الجسور والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
وفي ذاك للمؤتسي أسوة . . .
مآرب عفى عليها العرم
رجام بنته لهم حمير . . .
إذا جاش دفاعه لم يرم
فأروى الزروع وأشجارها . . .
على سعة ماؤه إذ قسم
فصاروا أيادي لا يقدرو . . .
ن منه على شرب طفل فطم
وقال آخر :
ومن سبأ للحاضرين مآرب . . .
إذا بنوا من دونه سيل العرم
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : العرم اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به. انتهى.
ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاروته له ، فصار علماً عليه.
وقال ابن عباس أيضاً : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ، والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ.
وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة.
وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد.
ولما غرق من غرق ، ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم.
وعن ابن عباس : كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ودخلت الباء في { بجنتيهم } على الزائل ، وانتصب ما كان بدلاً ، وهو قوله : { جنتين } على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيراً لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله : { ومن يتبدل الكفر بالايمان } وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ، لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ، لأنها أشحار لا يكاد ينتفع بها.
وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال : { ذواتي أُكُل } ، كما جاء { ذواتا أفنان } ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتاً كذا على لفظ ذات ، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أُكُل وسكونها.
وقرأ الجمهور : أكل منوناً ، والأُكُل : الثمر المأكول ، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف ، أي أُكُل خمط قال أو وصف الأُكُل بالخمط كأنه قيل ذواتي أُكُل شبع. انتهى.
والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله.
وقال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه. انتهى.
وهو جائز على ما قاله الزمخشري ، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.
قال أبو علي : والصفة أيضاً كذلك ، يريد لا بجنتين ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأُكُل هذه الشجرة ومنها.
انتهى.
وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا الكوفيون ، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة.
وقرأ أبو عمرو : أُكُل خمط بالإضافة : أي ثمر خمط.
وقرىء : وأثلاً وشيئاً بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ، عطفاً على جنتين.
وقليل صفة لسدر ، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن ، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل والسدر.
ثم ذكر سبب ذلك ، وهو كفرهم بالله وإنكار نعمه.
{ وهل نجازي } بذلك العقاب { إلا الكفور } : أي المبالغ في الكفر ، يجازي بمثل فعله قدراً بقدر ، وأما المؤمن فجزاؤه بتفضل وتضعيف.
وقرأ الجمهور : بضم الياء وفتح الزاي ، الكفور رفعاً؛ وحمزة والكسائي : بالنون وكسر الزاي ، الكفور نصباً.
وقرأ مسلم بن جندب : يجزي مبنياً للمفعول ، الكفور رفعاً ، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير ، والمجازاة في الشر ، لكن في تقييدهما قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر.
{ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } : جاءت هذه الجملة بعد قوله : { وبدلناهم } ، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم ، وذكر تبديلها بالخمط والأثل والسدر ، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قراهم ، وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري.
وقوله : { وجعلنا } ، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل ، وهو أنه مع ما كان منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلها أربابها ، وقدّر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض.
قال ابن عطية : حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ، ولا يحتاج إلى حمل زاد.
والقرى : المدن ، ويقال للجمع الصغير أيضاً قرية.
والقرى التي بورك فيها بلاد الشام ، بإجماع من المفسرين.
والقرى الظاهرة هي التي بين الشأم ومأرب ، وهي الصغار التي هي البوادي. انتهى.
وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما ذكر ، قال مجاهد : هي السراوي.
وقال وهب : قرى صنعاء.
وقال ابن جبير : قرى مأرب.
وقال ابن عباس : قرى بيت المقدس.
وبركتها : كثرة أشجارها أو ثمارها.
ووصف قرى بظاهرة ، قال قتادة : متصلة على الطريق ، يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية.
قيل : كان كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق.
وقال المبرد : ظاهرة : مرتفعة ، أي في الآكام والظراب ، وهو أشرف القرى.
وقيل : ظاهرة ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى.
وقيل : ظاهرة : معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف ، وقيل : ظاهرة : عامرة.
وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أن معنى ظاهرة : خارجة عن المدة ، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن.
وظواهر المدن : ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم : نزلنا بظاهر فلاة أى خارجاً عنها ، وقوله : { ظاهرة } : تظهر ، تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية ، ومن هذا قول الشاعر :
فلو شهدتني من قريش عصابة . . .
قريش البطاح لا قريش الظواهر
يعني : الخارجين من بطحاء مكة.
وفي الحديث : « وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف » { وقدّرنا فيها السير } : قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى أن يصل إلى مقصوده آمناً من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر.
قال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها.
وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ، وهذه أقوال متقاربة.
والظاهر أن قوله : { سيروا } ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم.
وقال الزمخشري : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. انتهى.
ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم.
وقال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زاداً ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم.
وقال الزمخشري : { سيروا فيها } ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات؛ أو سيروا في آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياماً وليالي؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين. انتهى.
وقدم الليالي ، لأنها مظنة الخوف لمن قال : ومنّ عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك.
ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا : { ربنا باعد وبين أسفارنا }.
وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب؛ وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين؛ وابن عباس ، وابن الحنفية ، وعمرو بن فائد : ربنا رفعاً ، بعد فعلاً ماضياً مشدد العين؛ وابن عباس أيضاً ، وابن الحنفية أيضاً؛ وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، وزيد بن علي ، وابن يعمر أيضاً؛ وأبو صالح ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، ومحمد بن علي ، وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين ، وابن الحنفية أيضاً ، وسفيان بن حسين ، وابن السميفع : ربنا بالنصب ، بعد بضم العين فعلاً ماضياً بين بالنصب ، إلا سعيداً منهم ، فضم نون بين جعله فاعلاً ، ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشراً منهم وبطراً وإن جاء بعد فعلاً ماضياً كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً ، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضياً ، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار.
ومن قرأ باعد ، أو بعد بالألف والتشديد ، فبين مفعول ، به لأنهما فعلان متعديان ، وليس بين ظرفاً.
ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسماً؟ { فكذلك } إذا نصب وقرىء بعد مبنياً للمفعول.
وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفرداً؛ والجمهور : بالجمع.
{ وظلموا أنفسهم } : عطف على { فقالوا }.
وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل.
{ فجعلناهم أحاديث } : أي عظاة وعبراً يتحدث بهم ويتمثل.
وقيل : لم يبق منهم إلا الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث.
{ ومزقناهم كل ممزق } : أي تفريفاً ، اتخذه الناس مثلاً مضروباً ، فقال كثير :
أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم . . .
فلم يحل للعينين بعدك منظر
وقال قتادة : فرقناهم بالتباعد.
وقال ابن سلام : جعلناهم تراباً تذروه الرياح.
وقال الزمخشري : غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة.
وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ، فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبدّدت في بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول؛ وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة ، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك.
{ إن في ذلك لآيات } : أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة.
{ لكل صبار } ، عن المعاصي وعلى الطاعات.
{ شكور } ، للنعم.
والظاهر أن الضمير في { عليهم } عائد على من قبله من أهل سبأ ، وقيل : هو لبني آدم.
وقرأ ابن عباس ، وقتادة ، وطلحة ، والأعمش ، وزيد بن علي ، والكوفيون : { صدّق } بتشديد الدال ، وانتصب { ظنه } على أنه مفعول بصدق ، والمعنى : وجد ظنه صادقاً ، أي ظن شيئاً فوقع ما ظن.
وقرأ باقي السبعة : بالتخفيف ، فانتصب ظنه على المصدر ، أي يظن ظناً ، أو على إسقاط الحرف ، أي في ظنه ، أو على المفعول به نحو قولهم : أخطأت ظني ، وأصبت ظني ، وظنه هذا كان حين قال : { لأضلنهم } { ولأغوينهم } وهذا مما قاله ظناً منه ، فصدق هذا الظن.
وقرأ زيد بن علي ، والزهري ، وجعفر بن محمد ، وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب ، وبلال بن أبي برزة : بنصب إبليس ورفع ظنه.
أسند الفعل إلى ظنه ، لأنه ظناً فصار ظنه في الناس صادقاً ، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمر : وإبليس ظنه ، برفعهما ، فظنه بدل من إبليس بدل اشتمال.
{ فاتبعوه } : أي في الكفر.
{ إلاّ فريقاً } : هم المؤمنون ، ومن لبيان الجنس ، ولا يمكن أن تكون للتبعيض لاقتضاء ذلك ، إن فريقاً من المؤمنين اتبعوا إبليس.
وفي قوله : { إلا فريقاً } ، تقليل ، لأن المؤمنين بالإضافة إلى الكفار قليل ، كما قال : لاحتنكن ذريته إلا قليلاً.
{ وما كان له } : أي لإبليس ، { عليهم من سلطان } : أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستواء ، ولا حجة إلا الحكمة بينه وبين تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها.
وعلل التسلط بالعلم ، والمراد ما تعلق به العلم ، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : { إلا لنعلم } موجوداً ، لأن العلم متقدم أولاً. انتهى.
وقال معناه ابن قتيبة ، قال : لنعلم حادثاً كما علمناه قبل حدوثه.
وقال قتادة : ليعلم الله به المؤمن من الكافر عاماً ظاهراً يستحق به العقاب والثواب؛ وقيل : ليعلم أولياؤنا وحزبنا.
وقال الحسن : والله ما كان له سوط ولا سيف ، ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه. انتهى.
كما قال تعالى عنه : { ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } وقرأ الزهري : إلا ليعلم ، بضم الياء وفتح اللام ، مبنياً للمفعول.
وقال ابن خالويه : إلا ليعلم من يؤمن بالياء.
{ وربك على كل شيء حفيظ } ، إما للمبالغة عدل إليها عن حافظ ، وإما بمعنى محافظ ، كجليس وخليل.
والحفظ يتضمن العلم والقدرة ، لأن من جهل الشيء وعجز لا يمكنه حفظه.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
لما بين حال الشاكرين وحال الكافرين ، وذكر قريشاً ومن لم يؤمن بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال : { قل } ، يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم ، { ادعوا الذين زعمتم } ، وهم معبوداتهم من الملائكة والأصنام ، وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة للحجة.
وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً ، أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم ، والجئوا إليهم فيما يعنّ لكم.
وزعم : من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية ، والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين ، والثاني محذوف أيضاً لدلالة المعنى ، ونابت صفته منابه ، التقدير : الذي زعمتموهم آلهة من دونه؛ وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه ، ولولا ذلك ما حسن ، إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً خلاف ، منع ذلك ابن ملكوت ، وأجازه الجمهور ، وهو مع ذلك قليل ، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه ، لأنه لا يستقل كلاماً.
لو قلت : هم من دونه ، لم يصح ، ولا الجملة من قوله : { لا يملكون مثقال ذرة } ، لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين بالحق قائلين له.
ولو كان ذلك توحيداً منهم ، وأن آلهتهم ومعبوداتهم لا يملكون شيئاً باعترافهم.
ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة ، وهو أحقر الأشياء ، وإذا انتفى ملك الأحقر عنهم ، فملك الأعظم أولى.
ثم ذكر مقر ذلك المثقال ، وهو السموات والأرض.
ثم أخبر أنهم ما لهم في السموات ولا في الأرض من شركة ، فنفى نوعي الملك من الاستبداد والشركة.
ثم نفى الإعانة منهم له تعالى في شيء مما أنشأ بقوله : { وما له منهم من ظهير } ، فبين عجز معبوداتهم من جميع الجهات.
ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له ، نفى أن شفاعتهم تنفع ، والنفي منسحب على الشفاعة ، أي لا شفاعة لهم فتنفع ، وليس المعنى أنهم يشفعون ، ولا تنفع شفاعتهم ، أي لا يقع من معبوداتهم شفاعة أصلاً.
ولأن عابديهم كفار ، فإن كان المعبودون أصناماً أو كفاراً ، كفرعون ، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر ، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد ، كعيسى عليه السلام ، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن.
و { إلا لمن أذن له } : استثناء مفرغ ، فالمستثنى منه محذوف تقديره : ولا تنفع الشفاعة لأحد { إلا لمن أذن له }.
واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعاً له ، وهو الظاهر ، فيكون قوله : { إلا لمن أذن له } ، أي المشفوع ، أذن لأجله أن يشفع فيه؛ والشافع ليس بمذكور ، وإنما دل عليه المعنى.
واحتمل أن يكون شافعاً ، فيكون قوله : { إلا لمن أذن له } بمعنى : إلا لشافع أذن له أن يشفع ، والمشفوع ليس بمذكور ، إنما دل عليه المعنى.
وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في { أذن له } لام التبليغ ، لا لام العلة.
وقال الزمخشري : يقول : الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع ، كما يقول : الكرم لزيد ، وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له ، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له ، أي لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف ، وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله. انتهى.
فجعل { إلا لمن أذن له } استثناء مفرغاً من الأحوال ، ولذلك قدره : إلا كائنة ، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات.
وقال أبو عبد الله الرازي : المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة : قائل : إن الله خلق السموات وجعل الأرض والأرضيات في حكمها ، ونحن من جملة الأرضيات ، فنعبد الكواكب والملائكة السماوية ، وهم إلهنا ، والله إلههم ، فأبطل بقوله : { لا يملكون } ، { في السموات } ، كما اعترفتم ، { ولا في الأرض } ، خلاف ما زعمتم.
وقائل : السموات من الله استبداداً ، والأرضيات منه بواسطة الكواكب ، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات وحركات وطوالع ، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض ، والأولون جعلوا الأرض لغيره ، فأبطل بقوله : { وما لهم فيهما من شرك } ، أي الأرض ، كالسماء لله لا لغيره ، ولا لغيره فيهما نصيب.
وقائل : التركيبات والحوادث من الله ، لكن فوض إلى الكواكب ، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ، ويسلب عن المأذون له فيه ، جعلوا السموات معينة لله ، فأبطل بقوله : { وما له منهم من ظهير } وقائل : نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا ، فأبطل بقوله : { ولا تنفع الشفاعة } ، الجملة ، وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم ، أي شفاعة جميع الخلق.
وقيل : للعهد ، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء.
انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وقال أبو البقاء : اللام في { لمن أذن له } يجوز أن تتعلق بالشفاعة ، لأنك تقول : أشفعت له ، وأنت تعلق بتنفع.
انتهى ، وهذا فيه قلة ، لأن المفعول متأخر ، فدخول اللام عليه قليل.
وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : أذن بضم الهمزة؛ وباقي السبعة : بفتحها ، أي أذن الله له.
والظاهر أن الضمير في قوله : { قلوبهم } عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله : { لا يملكون } ، وفي { ما لهم } ، و { ما لهم منهم } ، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء ، ويكون التقدير : إلا لمن أذن له منهم.
و { حتى } : تدل على الغاية ، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له.
فقال ابن عطية : في الكلام حذف يدل عليه الظاهر ، كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم ، بل هم عبدة أو مسلمون أبداً ، يعني منقادون ، { حتى إذا فزع عن قلوبهم }.
قال : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي ، أي جبريل ، وبالأمر يأمر الله به سمعت ، كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة.
وقيل : خوف أن تقوم الساعة ، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم ، أي أطير الفزع عنها وكشف ، يقول بعضهم لبعض ولجبريل : { ماذا قال ربكم } ؟ فيقول المسؤلون : قال { الحق وهو العلي الكبير } ، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : { الذين زعمتم } لم تتصل له هذه الآية بما قبلها ، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار ، بعد حلول الموت : ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة ، فرأوا الحقيقة ، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ : { ماذا قال ربكم } ؟ فيقولون : قال الحق ، يقرون حين لا ينفعكم الإقرار.
وقالت فرقة : الآية في جميع العالم.
وقوله : { حتى } ، يريد في الآخرة ، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح ، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذا بعيد. انتهى.
وإذا كان الضمير في { عن قلوبهم } لا يعود على { الذين زعمتم } ، كان عائداً على من عاد عليه الضمير في قوله : { ولقد صدّق عليهم إبليس } ، ويكون الضمير في { عليهم } عائداً على جميع الكفار ، ويكون حتى غاية لقوله : { فاتبعوه } ، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة ، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً.
والجملة بعد من قوله : { قل ادعوا } اعتراضية بين المغيا والغاية.
قال ابن زيد : أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار ، فالمعنى : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به ، { قالوا ماذا قال ربكم }.
وقال الحسن : وإنما يقال للمشركين { ماذا قال ربكم } على لسان الأنبياء ، فأقروا حين لا ينفع.
وقيل : { حتى } غاية متعلقة بقوله : { زعمتم } ، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق. انتهى.
فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في { زعمتم } إلى غيبة في { فزع عن قلوبهم }.
وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم.
قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة : { ماذا قال ربكم } في قبول شفاعتنا؟ فيجيب بعضهم لبعض : قال أي الله الحق ، أي القول الحق ، وهو قبول شفاعتهم ، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك ، ولا يأذن إلا وهو مريد لقبول الشفاعة.
وقال الزمخشري : فإن قلت بم اتصل قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له.
قلت : بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص.
ومثل هذه الحال دل عليه قوله ، عز من قائل : { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً ، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملياً فزعين وهلين.
{ حتى إذا فزع عن قلوبهم } : أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن.
تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً : { ماذا قال ربكم } ؟ قال الحق ، أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. انتهى.
وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم ، ويكون الضمير في { عن قلوبهم } التفاتاً ، وهو للكفار ، أو هو فاتبعوه ، وفيه تناسق الضمائر لغائب.
والفصل بالاعتراض والضمير أيضاً للكفار ، والضمير في { قالوا } للملائكة ، وضمير الخطاب في { ربكم } ، والغائب في { قالوا } الثانية للكفار.
وأما لمحذوف ، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا ، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، وهم عبدة منقادون دائماً لا ينفكون عن ذلك ، لا إذا فزع عن قلوبهم ، ولا إذا لم يفزع ، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ، في قصة الوحي قال : « فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم » ، لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي.
والحديث رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام ، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك؟ قال فيقول الحق ، فينادون الحق » وما قدره الزمخشري يحتمل ، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة ، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم.
وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضاً ، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم.
ألا ترى إلى ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في « الشفاعة في قوله عز وجل؟ »
وقرىء : فزع مشدداً ، من الفزع ، مبنياً للمفعول ، أي أطير الفزع عن قلوبهم.
وفعل تأتي لمعان منها : الإزالة ، وهذا منه نحوه : قردت البعير ، أي أزلت القراد عنه.
وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وطلحة ، وأبو المتوكل الناجي ، وابن السميفع ، وابن عامر : مبنياً للفاعل من الفزع أيضاً ، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم للملائكة ، فهو الله ، وإن كان للكفار ، فالضمير لمغويهم.
وقرأ الحسن : { فزع } من الفزع ، بتخفيف الزاي ، مبنياً للمفعول ، و { عن قلوبهم } في موضع رفع به ، كقولك : انطلق يزيد.
وقرأ الحسن أيضاً ، وأبو المتوكل أيضاً ، وقتادة ، ومجاهد : فزع مشدداً ، مبنياً للفاعل من الفزع.
وقرأ الحسن أيضاً : كذلك ، إلا أنه خفف الزاي.
وقرأ عبد الله بن عمر ، والحسن أيضاً ، وأيوب السختياني ، وقتادة أيضاً ، وأبو مجلز : فرغ من الفراغ ، مشدد الراء ، مبنياً للمفعول.
وقرأ ابن مسعود ، وعيسى افرنقع : عن قلوبهم ، بمعنى انكشف عنها ، وقيل : تفرق.
وقال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء. انتهى.
فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة ، وكذلك الراء ، وهو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح ، لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة.
وإن عنى أن الكلمة فيها حروف ، وما ذكروا زائداً إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر ، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة ، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف.
وقالوا أيضاً في قوله تعالى : { حتى إذا فزع } أقوالاً غير ما سبق.
قال كعب : إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعاً ، قالوا فيما بينم : { ماذا قال ربكم قالوا الحق }.
وقيل : إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم ، قالوا مجيبين ماذا ، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ ، كما قاله زهير :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم . . .
طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل
وقيل : هو فزع ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض.
وقيل : لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وبعث الله محمداً ، أنزل الله جبريل بالوحي ، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة ، وصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب.
وقيل : الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا ، سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرون سجداً يصعقون ، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن ، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه ، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في { قلوبهم } عائداً على من عاد عليه اتبعوه وعليهم ، وممن هو منها في شك ، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضاً.
وقوله : { قالوا } ، أي الملائكة ، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ : { ماذا قال ربكم } ، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم ، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله ، وجاءت به أنبياؤه ، وهو الحق ، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس.
وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال ، أي أي شيء قال ربكم ، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة ، أي ما الذي قال ربكم ، وذا خبره ، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول.
وقرأ ابن أبي عبلة : قالوا الحق ، برفع الحق ، خبر مبتدأ ، أي مقوله الحق ، { وهو العلي الكبير } ، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد.
ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم ، محتجاً عليهم بأن رازقهم هو الله ، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } ، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : { قل الله } ، لأنهم قد لا يجيبون حباً في العناد وإيثاراً للشرك.
ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله.
{ وإنا } : أي الموحدين الرازق العابدين ، { أو إياكم } : المشركين العابدين الأصنام والجمادات.
{ لعلى هدى } : أي طريقة مستقيمة ، أو في حيرة واضحة بينة.
والمعنى : أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال.
ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى ، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال.
وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله ، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف ، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح ، ونحوه قول العرب : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب ، ونظيره قوله الشاعر :
فأني ماوأيك كان شراً . . .
فسيق إلى المقادة في هوان
وقال حسان :
أتهجوه ولست له بكفؤ . . .
فشركما لخيركما الفداء
وهذا النوع يسمى في علم البيان : استدراج المخاطب.
يذكر له أمراً يسلمه ، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه ، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله.
وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم ، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه ، فقال لهم بطريق الاستدلال : إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة ، ولا تنفع ولا تضر ، لأنها جماد ، وهم يعلمون ذلك ، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه.
وقيل : معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم ، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئاً ولا تنفع ولا تضر ، فأراد الله من نبيه ، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف ، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم ، كقولك : إن أحدنا لكاذب ، وقد علمت أن من خاطبته هو الكاذب ، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف.
وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين ، أو الأشياء.
وخبر { إنا أو إياكم } هو { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ، ولا يحتاج إلى تقدير حذف ، إذ المعنى : أن أحدنا لفي أحد هذين ، كقولك : زيد أو عمرو في القصر ، أو في المسجد ، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف ، إذ معناه : أحد هذين في أحد هذين.
وقيل : الخبر محذوف ، فقيل : خبر لا وله ، والتقدير : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه ، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه ، أو إياكم ، إذ هو على تقدير إنا ، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير ، وقيل : خبر الثاني ، والتقدير : أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وحذف لدلالة خبر الأول عليه ، وهو هذا المثبت { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها ، نحو : زيد أو عمرو قائم ، كان يحتاج إلى هذا التقدير ، وإن مع ما يصلح أن يكون خبراً لأن اسمها عطف عليه بأو ، والخبر معطوف بأو ، فلا يحتاج إليه.
وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو ، فيكون من باب اللف والنشر ، والتقدير : وإنا لعلى هدى ، وإياكم في ضلال مبين ، فأخبر عن كل بما ناسبه ، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها.
وجاء في الهدى بعلى ، لأن صاحبه ذو استعلاء ، وتمكن مما هو عليه ، يتصرف حيث شاء.
وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه.
{ قل لا تسألون عما أجرمنا } هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول ، وأكثر تلطفاً واستدراجاً ، حيث سمى فعله جرماً ، كما يزعمون ، مع أنه مثاب مشكور.
وسمى فعلهم عملاً ، مع أنه مزجور عنه محظور.
وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول ، وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر ، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من المعاصي الكبائر.
قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
{ قل يجمع بيننا ربنا } : أي يوم القيامة ، { ثم يفتح } : أي يحكم ، { بالحق } : بالعدل ، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار.
{ وهو الفتاح } : الحاكم الفاصل ، { العليم } بأعمال العباد.
والفتاح والعليم صيغتا مبالغة ، وهذا فيه تهديد وتوبيخ.
تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل : سترى سوء عاقبة الأمر.
وقرأ عيسى : الفاتح اسم فاعل ، والجمهور : الفتاح.
{ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } : الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم ، فيتعدى إلى ثلاثة : الضمير للمتكلم هو الأول ، والذين الثاني ، وشركاء الثالث ، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة ، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل : هي رؤية بصر ، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم ، إذ تقديره : ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : أروني ، وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به.
و { كلا } : ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة ، كما قال إبراهيم : { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش غلطهم ، وأن يقدروا الله حق قدره بقوله : { هو الله العزيز الحكيم } ، كأنه قال : أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات؟ وهو راجع إلى الله وحده ، أو هو ضمير الشأن كما في قوله : { قل هو الله أحد } انتهى.
وقول ابن عطية ، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له ، أي لا نفع له ، ليس بجيد ، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ، ولا يريد حقيقة الأمر ، بل المعنى : أن الذين هم شركاء الله على زعمكم ، هم ممن إن أريتموهم افتضحتم ، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد ، كما تقول للرجل الخسيس الأصل : أذكر لي أباك الذي قايست به فلاناً الشريف ولا تريد حقيقة الذكر ، وإنما أردت تبكيته ، وأنه إن ذكر أباه افتضح.
و { كافة } : اسم فاعل من كف ، وقيل : مصدر كالعاقبة والعافية ، فيكون على حذف مضاف ، أي إلا ذا كافة ، أي ذا كف للناس ، أي منع لهم من الكفر ، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك.
وإذا كان اسم فاعل ، فقال الزجاج وغيره : هو حال من الكاف في { أرسلناك } ، والمعنى : إلا جامعاً للناس في الإبلاغ ، والكافة بمعنى الجامع ، والهاء فيه للمبالغة ، كهي في علامة وراوية.
وقال الزمخشري : إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم ، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم ، قال : ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني ، فلا بد من ارتكاب الخطأين. انتهى.
أما كافة بمعنى عامة ، فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ، ولم يتصرف فيها بغير ذلك ، فجعلها صفة لمصدر محذوف ، خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعماله صفة لموصوف محذوف.
وأما قول الزجاج : إن كافة بمعنى جامعاً ، والهاء فيه للمبالغة ، فإن اللغة لا تساعد على ذلك ، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع.
وأما قول الزمخشري : ومن جعله حالاً إلى آخره ، فذلك مختلف فيه.
ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز ، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز ، وهو الصحيح.
ومن أمثلة أبي علي زيد : خير ما يكون خير منك ، التقدير : زيد خير منك خير ما يكون ، فجعل ما يكون حالاً من الكاف في منك ، وقدمها عليه ، قال الشاعر :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً . . .
فمطلبها كهلاً عليه شديد
وقال آخر :
تسليت طراً عنكم بعد بينكم . . .
بذكركم حتى كأنكم عندي
أي : تسليت عنكم طراً ، أي جميعاً.
وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به ، ومن ذلك قول الشاعر :
مشغوفة بك قد شغفت وإنما . . .
حتم الفراق فما إليك سبيل
وقال الآخر :
غافلاً تعرض المنية للمر . . .
ء فيدعى ولات حين إباء
أي : شغفت بك مشغوفة ، وتعرض المنية للمرء غافلاً.
وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل ، فتقديمها عليه دون العامل أجوز ، وعلى أن كافة حال من الناس ، حمله ابن عطية وقال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله : أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم ، وتقدير إلى الناس كافة. انتهى.
وقول الزمخشري : وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ، إلى آخر كلامه ، شنيع؟ لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى ، لأن أرسل يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، كقوله : { وأرسلناك للناس رسولاً } ولو تأول اللام بمعنى إلى ، لم يكن ذلك خطأ ، لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى ، وإلى قد جاءت بمعنى اللام ، وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور.
ثم حكى تعالى مقالتهم في الاستهزاء بالبعث ، واستعالجهم على سبيل التكذيب ، ولم يجابوا بتعيين الزمان ، إذ ذاك مما انفرد تعالى بعلمه ، بل أجيبوا بأن ما وعدوا به لا بد من وقوعه ، وهو ميعاد يوم القيامة ، وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، ويجوز أن يكون سؤالهم عما وعدوا به من العذاب في الدنيا واستعجلوا به استهزاء منهم.
وقال أبو عبيد : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى.
وقال الجمهور : الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، والميعاد يقع لهذا.
والظاهر أن الميعاد اسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر ، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه.
وقال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو ههنا الزمان ، والدليل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. انتهى.
ولا يتعين ما قال ، إذ يكون بدلاً على تقدير محذوف ، أي قل لكم ميعاد يوم ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.
وقرأ الجمهور : { ميعاد يوم } بالإضافة.
ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال : أما الإضافة فإضافته تبيين ، كما تقول : سحق ثوب وبعير سانية.
وقرأ ابن أبي عبلة ، واليزيدي : ميعاد يوماً بتنوينهما.
قال الزمخشري : وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد ، أعني يوماً ، وأريد يوماً من صفته ، أعني كيت وكيت ، ويجوز أن يكون انتصابه على حذف مضاف ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم. انتهى.
لما جعل الميعاد ظرف زمان ، خرج الرفع والنصب على ذلك ، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف ، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت.
وقرأ عيسى : ميعاد منوناً ، ويوم بالنصب من غير تنوين مضافاً إلى الجملة ، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم ، واحتمل تخريجاً على الظرف على حذف مضاف ، أي إنجاز وعد يوم كذا.
وجاء هذا الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون بيوم القيامة ، يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه.
واليوم : يوم القيامة ، وهو السابق إلى الذهن ، أو يوم مجيء أجلهم عند حضور منيتهم ، أو يوم بدر ، أقوال.
و { لن نؤمن بهذا القرآن } : يديه يعني الذي تضمن التوحيد والرسالة والبعث المتقدم ذكرها فيه.
{ ولا بالذي بين يديه } : هو ما نزل من كتب الله المبشرة برسول الله.
يروي أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب ، فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في كتبهم ، وأغضبهم ذلك ، وقرنوا إلى القرآن ما تقدم من كتب الله في الكفر ، ويكون { الذين كفروا } مشركي قريش ومن جرى مجراهم.
والمشهور أن { الذين بين يديه } : التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب ، وهو مروي عن ابن جريج.
وقالت فرقة : { الذي بين يديه } : هي القيامة ، قال ابن عطية : وهذا خطأ ، قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة ، وأنه المتقدم في الزمان ، وقد بيناه فيما تقدم. انتهى.
{ ولو ترى إذ الظالمون } : أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها ، وترى في معنى رأيت لإعمالها في الظرف الماضي ، ومفعول ترى محذوف ، أي حال الظالمين ، إذ هم { موقوفون }.
وجواب لو محذوف ، أي لرأيت لهم حالاً منكرة من ذلهم وتخاذلهم وتحاورهم ، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك.
ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الأتباع ، وهم الذين استضعفوا ، قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم : { لولا أنتم لكنا مؤمنين } : أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر.
وأتى الضمير بعد لولا ضمير رفع على الأفصح.
وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو : لولاكم ، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه.
ولما كان مقاماً ، استوى فيه المرؤوس والرئيس.
بدأ الأتباع بتوبيخ مضليهم ، إذ زالت عنهم رئاستهم ، ولم يمكنهم أن ينكروا أنهم ما جاءهم رسول ، بل هم مقرون.
ألا ترى إلى قول المتبوعين : { بعد إذ جاءكم } ؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم ، فقال لهم رؤساؤهم : { أنحن صددناكم } ، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكاراً ، لأن يكونوا هم الذين صدوهم.
صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام ، كأنهم قالوا : نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان ، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى ، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم ، لا لقولنا وتسويلنا.
ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم ، وأثبتوا بقولهم : { بل كنتم مجرمين } ، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم ، قابلوا إضراباً بإضراب ، فقال الأتباع : { بل مكر الليل والنهار } : أي ما كان إجرامنا من جهتنا ، بل مكركم لنا دائماً ومخادعتكم لنا ليلاً ونهاراً ، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم ، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد.
وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين ، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة ، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي ، كما قالوا : ليل نائم ، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية ، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار ، ونظيره قول القائل : أنا ضربت زيداً بل ضربه عمرو ، فيقول : بل ضربه غلامك ، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى : ضربه غلامك.
وقيل : يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً ، أي سبب كفرنا.
وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بل مكر بالتنوين ، الليل والنهار نصب على الظرف.
وقرأ سعيد بن جبير بن محمد ، وأبو رزين ، وابن يعمر أيضاً : بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة ، ومعناه : كدور الليل والنهار واختلافهما ، ومعناها : الإحالة على طول الأمل ، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله.
وقرأ ابن جبير أيضاً ، وطلحة ، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج : كذلك ، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف ، وناصبه فعل مضمر ، أي صددتمونا مكر الليل والنهار ، أي في مكرهما ، ومعناه دائماً.
وقال صاحب اللوامح : يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى.
وهذا وهم ، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها.
وقال الزمخشري : بل يكون الإغراء مكراً دائماً لا يفترون عنه. انتهى.
وجاء { قال الذين استكبروا } بغير واو ، لأنه جواب لكلام المستضعفين ، فاستؤنف ، وعطف { وقال الذين استضعفوا } على ما سبق من كلامهم ، والضمير في { وأسروا } للجميع المستكبرين والمستضعفين ، وهم { الظالمون الموقوفون } ، وتقدم الكلام في { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } في سورة يونس ، والندامة من المعاني القلبية ، فلا تظهر ، إنما يظهر ما يدل عليها ، وما يدل عليها غيرها ، وقيل : هو من الأضداد.
وقال ابن عطية : هذا لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وندامة الذين استكبروا على ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم وندامة الذين استضعفوا على ضلالهم وأتباعهم المضلين.
{ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } ، والظاهر عموم الذين كفروا ، فيدخل فيه المستكبرون والمتسضعفون ، لأن من الكفار من لا يكون له اتباع مراجعة القول في الآخرة ، ولا يكون أيضاً تابعاً لرئيس له كافر ، كالغلام الذي قتله الخضر.
وقيل : { الذين كفروا } هم الذين سبقت منهم المحاورة ، وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا التندم.
{ هل يجزون } : معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا بعد النفي.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
{ وما أرسلنا } الآية : هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما مني به من قومه قريش ، من الكفر والافتخار بالأموال والأولاد.
وإن ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم ، فلا يهمنك أمرهم.
و { من نذير } : عام ، أي تنذرهم بعذاب الله إن لم يوحدوه.
و { قال مترفوها } : جملة حالية ، ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل ، لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على عقولهم منها ، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة بخلاف الفقراء.
فإنهم خالون من مستلذات الدنيا ، فقلوبهم أقبل للخير ، ولذلك هم أتباع الأنبياء ، كما جاء في حديث هرقل.
وبما متعلق بكافرون ، وبه متعلق بأرسلتم ، وما عامة في ما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله وإفراده بالعبادة والأخبار بأنهم رسله إليهم ، والبعث والجزاء على الأعمال.
والظاهر أن الضمير في { وقالوا } عائد على المترفين؛ وقيل : عائد على قريش ، ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله : { قل } ، لأن من تقدم من المترفين الهالكين لا يخاطبون ، فلا يقول إلا الموجودون ، وقوله : { وما أموالكم ولا أولادكم } ؛ واحتجوا على رضا الله عنهم بإحسانه تعالى إليهم ، فلو لم يتكرم عليهم ما بوسع علينا ، وأما أنتم فلهوانكم عليه حرمكم أيها التابعون للرسل.
ثم نقول : إن يعذبوا نفياً عاماً ، لأن الأنبياء قد ينذرون بعذاب عاجل في الدنيا ، أو آجل في الآخرة ، فنفوا هم جميع ذلك.
فإما أن يكونوا منكرين للآخرة ، فقد نفوا تعذيبهم فيها ، لأنها إذ لم تكن ، فلا يكون فيها عذاب.
وإما أن يكونوا مقرين بها حقيقة ، أو على سبيل الفرض ، فيقولون : كما أنعم علينا في الدنيا ، ينعم علينا في الآخرة على حالة الدنيا قياساً فاسداً ، فأبطل الله ذلك بأن الرزق فضل منه يقسم علينا في الآخرة على حالة الدنيا ، كما شاء.
{ لمن يشاء } ، فقد يوسع على العاصي ويضيق على الطائع ، وقد يوسع عليهما ، والوجود شاهد بذلك ، فلا تقاس التوسعة في الدنيا ، لأن ذلك في الآخرة إنما هو على الأعمال الصالحة.
وقرأ الأعمش : ويقدر في الموضعين مشدداً؛ والجمهور : مخففاً ، ومعناه : ويضيق مقابل يبسط.
{ ولكن أكثر الناس } : مثل هؤلاء الكفرة ، { لا يعلمون } أن الرزق مصروف بالمشيئة ، وليس دليلاً على الرضا ثم أخبر تعالى أن أموالهم وأولادهم التي افتخروا بها ليست بمقربة من الله ، وإنما يقرب الإيمان والعمل الصالح.
وقرأ الجمهور : { بالتي } ، وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون التي هي التقوى ، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها ، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب. انتهى.
فجعل التي نعتاً لموصوف محذوف وهي التقوى.
انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف.
والظاهر أن التي راجع إلى الأموال والأولاد ، وقاله الفراء.
وقال أيضاً ، هو والزجاج : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، والتقدير : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى }. انتهى.
ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف ، إذ يصح أن يكون التي لمجموع الأموال والأولاد.
وقرأ الحسن : باللاتي جمعاً ، وهو أيضاً راجع للأموال والأولاد.
وقرى بالذي ، وزلفى مصدر ، كالقربى ، وانتصابه على المصدرية من المعنى ، أي يقربكم.
وقرأ الضحاك : زلفاً بفتح اللام وتنوين الفاء ، جمع زلفة ، وهي القربة.
{ إلا من آمن } : الظاهر أنه استثناء منقطع ، وهو منصوب على الاستثناء ، أي لكن من آمن؛ { وعمل صالحاً } ، فإيمانه وعمله يقربانه.
وقال الزجاج : هو بدل من الكاف والميم في تقربكم ، وقال النحاس : وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب ، فلا يجوز البدل ، ولو جاز هذا لجاز : رأيتك زيداً؛ وقول أبي إسحاق هذا قول الفراء. انتهى.
ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم ، لكن البدل في الآية لا يصح.
ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟ لو قلت : مازيد بالذي يضرب إلا خالداً ، لم يصح.
وتخيل الزجاج أن الصلة ، وإن كانت من حيث المعنى منفية ، أنه يصح البدل ، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له.
وقد اتبعه الزمخشري فقال : إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم ، والمعنى : أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله؛ والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقهم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة.
انتهى ، وهو لا يجوز.
كما ذكرنا ، لا يجوز : ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه ، ولا مازيد بالذي يضرب إلا عمراً ، ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر.
والتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله : لا يقرب أحداً إلا المؤمن ، غير موافق للقرآن؛ ففي الذي ركبه يجوز ما قال ، وفي لفظ القرآن لا يجوز.
وأجاز الفراء أن تكون من في موضع رفع ، وتقدير الكلام عنده ما هو المقرب { إلا من آمن }. انتهى.
وقوله كلام لا يتحصل منه معنى ، كأنه كان نائماً حين قال ذلك.
وقرأ الجمهور : { جزاء الضعف } على الإضافة ، أضيف فيه المصدر إلى المفعول ، وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فقال : أن يجازو الضعف ، والمصدر في كونه يبنى للمفعول الذي لم يسم فاعله فيه خلاف ، والصحيح المنع ، ويقدر هنا أن يجاوز الله بهم الضعف ، أي يضاعف لهم حسناتهم ، الحسنة بعشر أمثالها ، وبأكثر إلى سبعمائة لمن يشاء.
وقرأ قتادة : جزاء الضعف برفعهما؛ فالضعف بدل ، ويعقوب في رواية بنصب جزاء ورفع الضعف ، وحكى هذه القراءة الداني عن قتادة ، وانتصب جزاء على الحال ، كقولك : في الدار قائماً زيد.
وقرأ الجمهور : { في الغرفات } جمعاً مضموم الراء؛ والحسن ، وعاصم : بخلاف عنه؛ والأعمش ، ومحمد بن كعب : بإسكانها؛ وبعض القراء : بفتحها؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وحمزة : وأطلق في اختياره في الغرفة على التوحيد ساكنة الراء؛ وابن وثاب أيضاً : بفتحها على التوحيد.
ولما ذكر جزاء من آمن ، ذكر عقاب من كفر ، ليظهر تباين الجزأين ، وتقدم تفسير نظير هذه الكلمة.
ولما كان افتخارهم بكثرة الأموال والأولاد ، أخبروا أن ذلك على ما شاء الله كبر ، وذلك المعنى تأكيد أن ذلك جار على ما شاء الله ، إلا أن ذلك على حسب الاستحقاق ، لا التكرمة ، ولا الهوان.
ومعنى { فهو يخلفه } : أي يأتي بالخلف والعوض منه ، وكان لفظ من عباده مشعرة بالمؤمنين ، وكذلك الخطاب في { وما أنفقتم } : يقصد هنا رزق المؤمنين ، فليس مساق.
{ قل إن ربي يبسط } : مساق ما قيل للكفار ، بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا ، والحض على النفقة في طاعة الله ، وإخلاف ما أنفق ، إما منجزاً في الدنيا ، وإما مؤجلاً في الآخرة ، وهو مشروط بقصد وجه الله.
وقال مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، وأن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل ، وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ، ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأتى.
{ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } : في الآخرة ، ومعنى الآية : ما كان من خلف فهو منه.
وجاء { الرازقين } جمعاً ، وإن كان الرازق حقيقة هو الله وحده ، لأنه يقال : الرجل يرزق عياله ، والأمير جنده ، والسيد عبده ، والرازقون جمع بهذا الاعتبار ، لكن أولئك يرزقون مما رزقهم الله ، وملكهم فيه التصرف ، ولله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ، ومن إخراج من عدم إلى وجود.
{ ويوم يحشرهم جميعاً } : أي المكذبين ، من تقدم ومن تأخر.
وقرأ الجمهور : نحشرهم ، نقول بالنون فيهما ، وحفص بالياء ، وتقدمت في الأنعام وخطاب الملائكة تقريع للكفار ، وقد علم تعالى أن الملائكة منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال ، وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار ، وقد علم سوء ما ارتبكوه من عبادة غير الله ، وأن من عبدوه متبرىء منهم.
و { هؤلاء } مبتدأ و ، خبره { كانوا يعبدون } ، و { إياكم } مفعول { يعبدون }.
ولما تقدم انفصل ، وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب ، ولكون { يعبدون } فاصلة.
فلو أتى بالضمير منفصلاً ، كان التركيب يعبدونكم ، ولم تكن فاصلة.
واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة ، وهي مسألة خلاف ، أجاز ذلك ابن السراج ، ومنع ذلك قوم من النحويين ، وكذلك منعوا توسطه إذا كان جملة.
وقال ابن السراج : القياس جواز ذلك ، ولم يسمع.
ووجه الدلالة من الآية أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل ، فكما جاز تقديم { إياكم } ، جاز تقديم { يعبدون } ، وهذه القاعدة ليست مطردة ، والأولى منع ذلك إلى أن يدل على جوازه سماع من العرب.
ولما أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته من كل سوء ، كما قال عيس عليه السلام : { سبحانك } ، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة ، أي { أنت ولينا } ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم.
وفي قولهم : { بل كانوا يعبدون الجن } ، إشعار لهم بما عبدوه ، وإن لم يصرح به.
لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذ لم يكن راضياً بعبادة عابده مريداً لها ، لم يكن ذلك العابد عابداً له حقيقة ، فلذلك قالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } ، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة ، فلذلك قالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } ، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال.
وقيل : صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها.
وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها.
وقال ابن عطية : لم تنف الملائكة عبادة البشر اياها ، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة.
وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم ، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة.
وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت ، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى.
وإذا هم قد عبدوا الجن ، فما وجه قولهم : أكثرهم مؤمنون ، ولم يقولوا جميعهم ، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة ، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع الملائكة عليهم ، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب ، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم ، لأن ذلك لله تعالى.
ومعنى { مؤمنون } : مصدقون أنهم معبودوهم ، وقيل : مصدقون أنهم بنات الله ، وأنهم ملائكة ، { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع ، فلا يرد عليه شيء ، لكنه ليس موضوع اللغة.
{ فاليوم } : هو يوم القيامة ، والخطاب في { بعضكم } ، قيل : للملائكة ، لأنهم المخاطبون في قوله : { أهؤلاء إياكم } ، ويكون ذلك تبكيتاً للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر ، ويؤيده : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ولأن بعده : { ونقول للذين ظلموا } ، ولو كان الخطاب للكفار ، لكان التركيب فذوقوا.
وقيل : الخطاب للكفار ، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم ، ويكون قوله : ويقول ، تأكيداً لبيان حالهم في الظلم.
وقيل : هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد.
وقوله : { نفعاً } ، قيل : بالشفاعة ، { ولا ضراً } بالتعذيب.
وقيل هنا : { التي كنتم بها تكذبون } ، وفي السجدة : { الذي كنتم به تكذبون } كل منهما ، أي من العذاب ومن النار ، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب ، بل ذلك أول مارأوا النار ، إذ جاء عقيب الحشر ، فوصفت لهم النار بأنها هي التي كنتم تكذبون بها.
وأما الذي في السجدة ، فهم ملابسو العذاب ، متردّدون فيه لقوله : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه ، وهو العذاب المؤبد الذي أنكروه.
والإشارة بقوله : ما { ما هذا إلا رجل } ، إلى تالي الآيات ، المفهوم من قوله : { وإذا تتلى عليه } ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكي تعالى مطاعنهم عند تلاوة القرآن عليهم ، فبدأوا أولاً : بالطعن في التالي ، فإنه يقدح في معبودات آلهتكم.
ثانياً فيما جاء به الرسول من القرآن ، بأنه كذب مختلق من عنده ، وليس من عند الله.
وثالثاً : بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته.
وطعنوا في الرسول ، وفيما جاء به ، وفي وصفه ، واحتمل أن يكون ذلك صدر من مجموعهم ، واحتمل أن تكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى.
وفي قوله : { لما جاءهم } دليل على أنه حين جاءهم لم يفكروا فيه ، بل بادروه بالإنكار ونسبته إلى السحر ، ولم يكتفوا بقولهم ، إنه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله.
وقيل : إنكار القرآن والمعجزة كان متفقاً عليه من المشركين وأهل الكتاب ، فقال تعالى : { وقال الذين كفروا للحق } ، على وجه العموم.
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{ وما آتيناهم } : أهل مكة ، { من كتب } ، قال السدي : من عندنا ، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به.
وقال ابن زيد : فنقضوا أن الشرك جائز ، وهو كقوله : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } وقال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى : من أين كذبوا ، ولم يأتهم كتاب ، ولا نذير بذلك؟ وقيل : وصفهم بأنهم قومٍ آمنون ، أهل جاهلية ، ولا ملة لهم ، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول.
كما قال : { أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون } فليس لتكذيبهم وجه مثبت ، ولا شبهة تعلق.
كما يقول أهل الكتاب ، وإن كانوا مبطلين : نحن أهل الكتاب والشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل الله.
وقيل : المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله ، يقول بعضهم سحر ، وبعضهم افتراء ، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم ، ولا إلى خبر من يقبل خبره.
فإنا آتيناهم كتباً يدرسونها ، ولا أرسلنا إليهم رسولاً ولا نذيراً فيمكنهم أن يدعوا ، إن أقوالهم تستند إلى أمره.
وقرأ الجمهور : { يدرسونها } ، مضارع درس مخففاً؛ أبو حيوة : بفتح الدال وشدها وكسر الراء ، مضارع ادّرس ، افتعل من الدرس ، ومعناه : تتدارسونها.
وعن أبي حيوة أيضاً : يدرسونها ، من التدريس ، وهو تكرير الدرس ، أو من درس الكتاب مخففاً ، ودرّس الكتاب مشدداً التضعيف باعتبار الجمع.
ومعنى { قبلك } ، قال ابن عطية : أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ، ولا يباشر أهل عصرهم ، ولا من قرب من آبائهم.
وقد كانت النذارة في العالم ، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود.
ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه ، وإنما المعنى : من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم ، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل ، والله تعالى يقول : { إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً } ولكن لم يتجرد للنذارة ، وقاتل عليها ، إلا محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
{ وكذب الذين من قبلهم } : توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم ، وما آل إليه أمرهم ، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة ، وسيحل بهم ما حل بأولئك.
وأن الضميرين في : { بلغوا } وفي : { ما آتيناهم } عائدان على { الذين من قبلهم } ، ليتناسقا مع قوله تعالى : { فكذبوا } ، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد : الضمير في { بلغوا } لقريش ، وفي { ما آتيناهم } للأمم { الذين من قبلهم }.
والمعنى : وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال ، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة ، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك؟ وقيل : الضمير في { بلغوا } عائد على { الذين من قبلهم } ، وفي { آتيناهم } على قريش ، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشاً من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به.
وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات ، والزمخشري ذكر الثاني ، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث ، قال : أي { الذين من قبلهم } ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان ، وذلك لأن كتاب محمد ، عليه السلام ، أكمل من سائر الكتب وأوضح ، ومحمد ، عليه السلام ، أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفي ، وبيانه أشفى ، ويؤيد ما ذكرنا ، { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } تغني عن القرآن.
فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب ، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب ، وكان أولى. انتهى.
وعن ابن عباس : فليس أنه أعلم من أمّته ، ولا كتاب أبين من كتابه.
والمعشار مفعال من العشر ، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع ، ومعناهما : العشر والربع.
وقال قوم : المعشار عشر العشر.
قال ابن عطية : وهذا ليس بشيء. انتهى.
وقيل : والعشر في هذا القول عشر المعشرات ، فيكون جزأ من ألف جزء.
قال الماوردي : وهو الأظهر ، لأن المراد به المبالغة في التقليل.
وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { فكذبوا رسلي } ، وهو مستغنى عنه بقوله { وكذب الذين من قبلهم } ؟ قلت : لما كان معنى قوله : { وكذب الذين من قبلهم } ، وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه ، جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه ، ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر ، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن ينعطف على قوله : { ما بلغوا } ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو ، فيفضل عليه.
{ فكيف كان نكير } : للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله. انتهى.
وفكيف : تعظيم للأمر ، وليست استفهاماً مجرداً ، وفيه تهديد لقريش ، أي أنهم معرضون لنكير مثله ، والنكير مصدر كالإنكار ، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل ، والفعل على وزن أفعل ، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر ، وحذفت إلى من نكير تخفيفاً لأنها أجزأته.
{ قل إنما أعظكم بواحدة } ، قال : هي طاعة الله وتوحيده.
وقال السدي : هي لا إله إلاّ الله.
قال قتادة : هي أن تقوموا.
قال أبو علي : { أن تقوموا } في موضع خفض على البدل من واحدة.
وقال الزمخشري : { بواحدة } : بخصلة واحدة ، وهو فسرها بقوله : { أن تقوموا } على أن عطف بيان لها. انتهى.
وهذا لا يجوز ، لأن بواحدة نكرة ، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله.
وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة ، وهو مذهب الكوفيين ، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب ، وإنما هو وهم من قائله.
وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله : { إن مقام إبراهيم }
عطف بيان من قوله : { آيات بينات } وذلك لأجل التحالف ، فكذلك هذا.
والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر ، والنهوض فيه بالهمة ، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين ، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده.
والمعنى : إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم ، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به.
وإنما قال : { مثنى وفرادى } ، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر ، وتخليط الكلام ، والتعصب للمذاهب ، وقلة الإنصاف ، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة ، فلا يوقف فيها على تحقيق.
وأما الاثنان ، إذا نظرا نظر إنصاف ، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له ، فلا يكاد الحق أن يعدوهما.
وأما الواحد ، إذا كان جيد الفكر ، صحيح النظر ، عارياً عن التعصب ، طالباً للحق ، فبعيد أن يعدوه.
وانتصب { مثنى وفرادى } على الحال ، وقدم مثنى ، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، إذا انقدح الحق بين الاثنين ، فكر كل واحد منهما بعد ذلك ، فيزيد بصيرة.
قال الشاعر :
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة . . .
فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
{ ثم تتفكروا } : عطف على { أن تقوموا } ، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما نسبوه إليه.
فإن الفكرة تهدي غالباً إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر ، والوقف عند أبي حاتم عند قوله : { ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } ، نفي مستأنف.
قال ابن عطية : وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم ، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين ، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به. انتهى.
واحتمل أن يكون تتفكروا معلقاً ، والجملة المنفية في موضع نصب ، وهو محط التفكر ، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلاً ، وأثبتهم ذهناً ، وأصدقهم قولاً ، وأنزههم نفساً ، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز ، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل ، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب.
والظاهر أن ما للنفي ، كما شرحنا.
وقيل : ما استفهام ، وهو استفهام لا يراد به حقيقته ، بل يؤول معناه إلى النفي ، التقدير : أي شيء بصاحبكم من الجنون ، أي ليس به شيء من ذلك.
ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه { نذير } ، { بين يدي عذاب شديد } : أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به ، وبين يدي يشعر بقرب العذاب.
{ قل ما سألتكم من أجر } الآية : في التبري من طلب الدنيا ، وطلب الأجر على النور الذي أتى به ، والتوكل على الله فيه.
واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ ، والعائد من الصلة محذوف تقديره : سألتكموه ، و { فهو لكم } الخبر.
ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم ، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط.
وقوله : { ما سألتكم من أجر فهو لكم } على معنيين : أحدهما : نفي مسألة للأجر ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً ، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن ، ويؤيده { إن أجري إلا على الله }.
والثاني : أن يريد بالأجر ما في قوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } وفي قوله : { لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى } لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم ، وكذلك المودة في القرابة ، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم ، قاله الزمخشري ، وفيه بعض زيادة.
قال ابن عباس : الأجر : المودة في القربى.
وقال قتادة : { فهو لكم } ، أي ثمرته وثوابه ، لأني سألتكم صلة الرحم.
وقال مقاتل : تركته لكم.
{ وهو على كل شيء شهيد } : مطلع حافظ ، يعلم أني لا أطلب أجراً على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء.
والقذف : الرمي بدفع واعتماد ، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله : { فاقذفيه في اليم } { وقذف في قلوبهم الرعب } قال قتادة : { يقذف بالحق } : يبين الحجة ويظهرها.
وقال ابن القشيري : يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها ، لأنه { علام الغيوب } ، وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق.
وأصل القذف : الرمي بالسهم ، أو الحصى والكلام.
وقال ابن عباس : يقذف الباطل بالحق ، والظاهر أن بالحق هو المفعول ، فالحق هو المقذوف محذوفاً ، أي يقذف ، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل ، فتكون الباء إمّا للمصاحبة ، وإمّا للسبب ، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّياً بنفسه ، فإذا جعلت بالحق هو المفعول ، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها.
وقرأ الجمهور : علام بالرفع ، فالظاهر أنه خبر ثان ، وهو ظاهر قول الزجاج ، قال : هو رفع ، لأن تأويل قل رب علام الغيوب.
وقال الزمخشري : رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف. انتهى.
أمّا الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه ، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو.
وأمّا قوله على المستكن في يقذف ، فلم يبين وجه حمله ، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف.
وقال الكسائي : هو نعت لذلك الضمير ، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب.
وقرأ عيسى ، وابن أبي إسحاق ، وزيد بن علي ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، وحرب عن طلحة : علام بالنصب؛ فقال الزمخشري : صفة لربي.
وقال أبو الفضل الرازي ، وابن عطية : بدل.
وقال الحوفي : بدل أو صفة؛ وقيل : نصب على المدح.
وقرىء : الغيوب بالجر ، أمّا الضم فجمع غيب ، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر ، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو؛ وأمّا الفتح فمفعول للمبالغة ، كالصبور ، وهو الشيء الذي غاب وخفي جداً.
ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع ، أخبر أن الحق قد جاء ، وهو القرآن والوحي ، وبطل ما سواه من الأديان ، فلم يبق لغير الإسلام ثبات ، لا في بدء ولا في عاقبة ، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله ، كما قال : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } وقال قتادة : الباطل : الشيطان ، لا يخلق شيئاً ولا يبعثه.
وقال الضحاك : الأصنام لا تفعل ذلك.
وقال أبو سليمان : لا يبتدىء الصنم من عنده كلاماً فيجاب ، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة.
وقيل : الباطل : الذي يضاد الحق ، فالمعنى : ذهب الباطل بمجيء الحق ، فلم يبقى منه بقية ، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فصار قولهم : لا يبدي ولا يعيد ، مثلاً في الهلاك ، ومنه قول الشاعر :
أفقر من أهيله عبيد . . .
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
والظاهر أن ما نفي ، وقيل : استفهام ومآله إلى النفي ، كأنه قال : أي شيء يبدىء الباطل ، أي إبليس ، ويعيده ، قاله الزجاج وفرقة معه.
وعن الحسن : لا يبدىء ، أي إبليس ، لأهله خيراً ، ولا يعيده : أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة.
وقيل : الشيطان : الباطل ، لأنه صاحب الباطل ، لأنه هالك ، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك.
وقيل : الحق : السيف.
عن ابن مسعود : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود نبقة ويقول : « { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } ، { جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } ».
وقرأ الجمهور : { قل إن ضللت } ، بفتح اللام ، { فإنما أضل } ، بكسر الضاد.
وقرأ الحسن ، وابن وثاب ، وعبد الرحمن المقري : بكسر اللام وفتح الضاد ، وهي لغة تميم ، وكسر عبد الرحمن همزة أضل.
وقال الزمخشري : لغتان نحو : ضللت أضل ، وظللت أظل.
{ وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } ، وأن تكون مصدرية ، أي فبوحي ربي.
والتقابل اللفظي : وإن اهتديت فإنما أهتدي لها ، كما قال : { ومن أساء فعليها } مقابل : { من عمل صالحاً فلنفسه } { ومن ضل فإنما يضل عليها } مقابل : { فمن اهتدى فلنفسه } أو يقال : فإنما أضل بنفسي.
وأما في الآية فالتقابل معنوي ، لأن النفس كل ما عليها فهو لها ، أي كل وبال عليها فهو بسببها.
{ إن النفس لأمّارة بالسوء } وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عام لكل مكلف.
وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه ، لأنه إذا دخل تحته مع جلالة محله وسر طريقته كما غيره أولى به.
انتهى ، وهو من كلام الزمخشري.
{ إنه سميع قريب } ، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله.
والظاهر أن قوله : { ولو ترى إذ فزعوا } أنه وقت البعث وقيام الساعة ، وكثيراً جاء : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } وكل ذلك في يوم القيامة؛ وعبر بفزعوا ، وأخذوا ، وقالوا؛ وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق.
وقال ابن عباس ، والضحاك : هذا في عذاب الدنيا.
وقال الحسن : في الكفار عند خروجهم من القبور.
وقال مجاهد : يوم القيامة.
وقال ابن زيد ، والسدّي : في أهل بدر حين ضربت أعناقهم ، فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ، ولا رجوعاً إلى التوبة.
وقال ابن جبير ، وابن أبي أبزي : في جيش لغزو الكعبة ، فيخسف بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، قالوا ، وله قيل :
وعند جهينة الخبر اليقين . . .
وروى في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة.
وذكر الطبري أنه ضعيف السند ، مكذوب فيه على رواية ابن الجراح.
وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم.
وذكر في حديث حذيفة أنه تكون فتنة بين أهل المشرق والمغرب ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس في فوره ، ذلك حين ينزل دمشق ، فيبعث جيشاً إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ، ثم يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل ، عليه السلام ، فيضربها ، أي الأرض ، برجله ضربة ، فيخسف الله بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، فذلك قوله : { فلا فوت } ، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة ، ولذلك جرى المثل : «وعند جهينة الخبر اليقين» ، اسم أحدهما بشير ، يبشر أهل مكة ، والآخر نذير ، ينقلب بخبر السفياني.
وقيل : لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة ، ينقلب وجهه إلى قفاه.
ومفعول ترى محذوف ، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت ، أي لا يفوتون الله ، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم.
وقال الحسن : فلا فوت من صيحة النشور ، وأخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. انتهى.
أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم ، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا.
ووصف المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم ، فحيث ما كانوا هو قريب.
وقرأ الجمهور : { فلا فوت } ، مبني على الفتح ، { وأخذوا } : فعلاً ماضياً ، والظاهر عطفه على { فزعوا } ، وقيل : على { فلا فوت } ، لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا.
وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه ، وطلحة؛ فلا فوت ، وأخذ مصدرين منونين.
وقرأ أبي : فلا فوت مبنياً ، وأخذ مصدراً منوناً ، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ ، أي وهناك أخذ.
وقال الزمخشري : وقرىء : وأخذ ، وهو معطوف على محل فلا فوت ، ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ. انتهى.
كأنه يقول : لا فوت مجموع لا ، والمبني معها في موضع مبتدأ ، وخبره هناك ، فكذلك وأخذ مبتدأ ، وخبره هناك ، فهو من عطف الجمل ، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب.
والضمير في به عائد على الله ، قاله مجاهد ، أي يقولون ذلك عندما يرون العذاب.
وقال الحسن : على البعث.
وقال مقاتل : على القرآن.
وقيل : على العذاب.
وقال الزمخشري وغيره : على الرسول ، لمرور ذكره في قوله : { ما بصاحبكم من جنة }.
{ وأنى لهم التناوش } ، قال ابن عباس : التناوش : الرجوع إلى الدنيا ، وأنشد ابن الأنباري :
تمنى أن تؤوب إليّ ميّ . . .
وليس إلى تناوشها سبيل
أي : تتمنى ، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا.
مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد ، كما يتناوله الآخر من قرب.
وقرأ الجمهور : التناوش بالواو.
وقرأ حمزة ، والكسائي.
وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالهمز ، ويجوز أن يكونا مادتين ، إحداهما النون والواو والشين ، والأخرى النون والهمزة والشين ، وتقدّم شرحهما في المفردات.
ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو ، على ما قاله الزجاج ، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ، وقال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة ، فأنت فيها بالخيار ، إن شئت تثبت همزتها ، وإن شئت تركت همزتها.
تقول : ثلاث أدور بلا همز ، وأدؤر بالهمز.
قال : والمعنى : من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها ، لأنها إنما تقبل في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة ، وذلك قوله تعالى : { من مكان بعيد }.
وقال الزمخشري : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه وأدور.
وقال ابن عطية : وأمّا التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش ، وهمزت الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة ، كما قالوا : أفتيت.
وقال الحوفي : ومن همز احتمل وجهان : أحدهما : أن يكون من الناش ، وهو الحركة في إبطاء ، ويجوز أن يكون من ناش ينوش ، همزت الواو لانضمامها ، كما همزت افتيت وأدور.
وقال أبو البقاء : ويقرأ بالهمز من أجل الواو ، وقيل : هي أصل من ناشه. انتهى.
وما ذكروه من أن الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة ، ليس على إطلاقه ، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها ، ونحو يعود ويقوم مصدرين؛ ولا إذا صحت في الفعل نحو : ترهوك ترهوكاً ، وتعاون تعاوناً ، ولم يسمع همزتين من ذلك ، فلا يجوز.
والتناوش مثل التعاون ، فلا يجوز همزه ، لأن واوه قد صحت في الفعل ، إذ يقول : تناوش.
{ وقد كفروا به } : الضمير في به عائد على ما عاد عليه { آمنا به } على الأقوال ، والجملة حالية ، و { من قبل } نزول العذاب.
وقرأ الجمهور : { ويقذفون } مبنياً للفاعل ، حكاية حال متقدّمة.
قال الحسن : قولهم لا جنة ولا نار ، وزاد قتادة : ولا بعث ولا نار.
وقال ابن زيد : طاعنين في القرآن بقولهم : { أساطير الأوّلين } وقال مجاهد في الرسول صلى الله عليه وسلم ، بقولهم : شاعر وساحر وكاهن.
{ من مكان بعيد } : أي في جهة بعيدة ، لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد الأشياء.
قال الزمخشري : وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور. انتهى.
وقيل : هو مستأنف ، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها إيمانها ، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم : آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للنظر في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً.
والغيب : الشيء الغائب.
وقرأ مجاهد ، وأبو حيوة ، ومحبوب عن أبي عمرو : ويقذفون ، مبنياً للمفعول.
قال مجاهد : ويرجمهم بما يكرهون من السماء.
وقال أبو الفضل الرازي : يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون ، ومعناه : يجازون بسوء أعمالهم ، ولا علم لهم بما أتاه ، إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت ، وإما في الآخرة.
وقال الزمخشري : أي يأتيهم به ، يعني بالغيب ، شياطينهم ويلقنونهم إياهم.
وقيل : يرمون في النار؛ وقيل : هو مثل ، لأن من ينادي من مكان بعيد لا يسمع ، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون.
{ وحيل بينهم } ، قال الحوفي : الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله. انتهى.
ولو كان على ما ذكر ، لكان مرفوعاً بينهم ، كفراءة من قرأ : { لقد تقطع بينكم } في أحد المعنين ، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى ، فهو في موضع رفع ، وإن كان مبنياً.
كما قال بعضهم في قوله : وإذ ما مثلهم ، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير ، وإن كان مفتوحاً ، لأنه قول فاسد.
يجوز أن تقول : مررت بغلامك ، وقام غلامك بالفتح ، وهذا لا يقوله أحد.
والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقاً ، بل له مواضع أحكمت في النحو ، وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر :
وقد حيل بين العير والنزوان . . .
فإنه نصب بين ، وهي مضافة إلى معرب ، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه ، وحيل هو ، أي الحول ، ولكونه أضمر لم يكن مصدراً مؤكداً ، فجاز أن يقام مقام الفاعل ، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر :
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل . . .
بسوء وإن يكشف غرامك تدرب
أي : ويعتلل هو ، أي الاعتلال.
والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا ، قاله ابن عباس؛ أو الأهل والمال والولد ، قاله السدي؛ أو بين الجيش وتخريب الكعبة ، أو بين المؤمنين ، أو بين النجاة من العذاب ، أو بين نعيم الدنيا ولذتها ، قاله مجاهد أيضاً.
{ كم فعل بأشياعهم } ، من كفرة الأمم ، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم.
و { من قبل } : يصح أن يكون متعلقاً { بأشياعهم } ، أي من اتصف بصفتهم من قبل ، أي في الزمان الأول.
ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد ، ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا.
وقال الضحاك : أشياعهم أصحاب الفيل ، يعني أشياع قريش ، وكأنه أخرجه مخرج التمثيل.
وأما التخصيص ، فلا دليل عليه.
{ إنهم كانوا في شك مريب } : يعني في الدنيا ، ومريب اسم فاعل من أراب الرجل : أتى بريبة ودخل فيها ، وأربت الرجل : أوقعته في ريبة ، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز.
قال الزمخشري : إلا أن بينهما فرقاً ، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى ، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر.
انتهى ، وفيه بعض تبيين.
قيل : ويجوز أن يكون أردفه على الشك ، وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب ، كما تقول : عجب عجيب ، وشتاشات ، وليلة ليلاء.
وقال ابن عطية : الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاماً.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
هذه السورة مكية.
ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين ، وأنزلهم منازل العذاب ، تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ووصفه بعظيم آلائه ، كما في قوله : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } وقرأ الضحاك والزهري : فطر ، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده.
قال أبو الفضل الرازي : فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل ، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال. انتهى.
وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين ، وأما الحال فيكون حالاً محكية ، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هو فطر ، وتقدم شرح { فاطر السموات والأرض } ، وأن المعنى خالقها بعد أن لم تكن ، والسموات والأرض عبارة عن العالم.
وقال أبو عبد الله الرازي : الحمد يكون في غالب الأمر على النعمة ، ونعم الله عاجلة ، و { الحمد لله الذين خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } إشارة إلى أن النعمة العاجلة ودليله : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً } و { الحمد لله الذين أنزل على عبده الكتاب } إشارة إليها أيضاً ، وهي الاتقاء ، فإن الاتقاء والصلاح بالشرع والكتاب.
والحمد في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ، ودليله : { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } منها ، وقوله : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } وهنا إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ، ودليله : { وتتلقاهم الملائكة } ففاطر السموات والأرض شاقهما لنزول الأرواح من السماء ، وخروج الأجساد من الأرض دليله : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } : أي في ذلك اليوم.
فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى ، لأن كما فعل بأشياعهم من قبل بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب.
ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمن وبشره بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة.
وقرأ الحسن : جاعل بالرفع ، أي هو جاعل؛ وعبد الوارث عن أبي عمرو : وجاعل رفعاً بغير تنوين ، الملائكة نصباً ، حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن يعمر ، وخليد بن نشيط : جعل فعلاً ماضياً ، الملائكة نصباً ، وذلك بعد قراءته فاطر بألف ، والجر كقراءة من قرأ : { فالق الإصباح وجعل الليل سكناً } وقرأ الحسن ، وحميد بن قيس : رسلاً بإسكان السين ، وهي لغة تميم.
وقال الزمخشري : وقرىء الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة.
فمن قرأ : فطر وجعل ، فينبغي أن تكون هذه الجمل إخباراً من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم ، كما تقول : الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا خولنا كذا ، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل ، كذلك يكون في قوله : فطر ، جعل ، لأن في ذلك نعماً لا تحصى.
ومن قرأ : وجاعل ، فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي ، فيكونان صفة لله ، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً.
فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل ، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني.
ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو.
وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب ، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً.
وقيل : هو مستقبل تقديره : يجعل الملائكة رسلاً ، ويكون أيضاً إعرابه بدلاً.
ومعنى رسلاً بالوحي وغيره من أوامره ، ولا يريد جميع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلاً.
فمن الرسل : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، والملائكة المتعاقبون ، والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم ، كالملك الذي أرسله الله إلى الأعمى والأبرص والاقرع.
و { أجنحة } جمع جناح ، صيغة جمع القلة ، وقياس جمع الكثرة فيه جنح على وزن فعل ، فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملاً في القليل والكثير.
وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في أول النساء مشبعاً ، ولكن المفسرون تعرضوا لكلام فيه هنا ، فقال الزمخشري : مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير.
وأما بالوصفية ، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها.
ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها؟ انتهى.
فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها ، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل.
وأما قوله : ألا تراك ، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة ، وليس بصحيح ، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة ، بل اشترطوا فيه.
فليس الشرط موجوداً في أربع ، لأن شرطه أن لا يقبل تاء التأنيث.
وليس شرطه في ثلاثة موجوداً ، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث.
فقياس الزمخشري قياس فاسد ، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة.
وقال ابن عطية : عدلت عن حال التنكير ، فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل : للعدل والصفة. انتهى.
وهذا الثاني هو المشهور ، والأول قول لبعض الكوفيين.
والظاهر أن الملك الواحد من صنف له جناحان ، وآخر ثلاثة ، وآخر أربعة ، وآخر أكثر من ذلك ، لما روي أن لجبريل ستمائة جناح ، منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب.
قال قتادة : وأخذ الزمخشري يتكلم على كيفية هذه الأجنحة ، وعلى صورة الثلاثة بما لا يجدي قائلاً : يطالع ذلك في كتابه.
وقالت فرقة : المعنى أن في كل جانب من الملك جناحان ، ولبعضهم ثلاثة ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد ، لما اعتدلت في معتاد ما رأينا نحن من الأجنحة.
وقيل : بل هي ثلاثة لواحد ، كما يوجد لبعض الحيوانات.
والظاهر أن المراد من الأجنحة ما وضعت له في اللغة.
وقال أبو عبد الله الرازي : يزيل بحثه في قوله : { الحمد لله فاطر السموات والأرض } ، وهو الذي حكينا عنه أن قوله : { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } ، أقل ما يكون لذي الجناح ، إشارة إلى الجهة ، وبيانه أن الله ليس شيء فوقه ، وكل شيء تحت قدرته ونعمته ، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذن الله ، كما قال تعالى :
{ نزل به الروح الأمين على قبلك } وقوله : { علمه شديد القوى } وقال تعالى في حقهم : { فالمدبرات أمراً } فهما جناحان ، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة ، وفيهم من يفعله لا بواسطة.
فالفاعل بواسطة فيهم من له ثلاث جهات ، ومنهم من له أربع جهات وأكثر. انتهى.
وبحثه في هذه ، وفي { فاطر السموات والأرض } بحث عجيب ، وليس على طريقة فهم العرب من مدلولات الألفاظ التي حملها ما حمل.
والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة ، وقيل : { أولي أجنحة } معترض ، و { مثنى } حال ، والعامل فعل محذوف يدل عليه { رسلاً } ، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع.
قيل : وإنما جعلهم أولي أجنحة ، لأنه لما جعلهم رسلاً ، جعل لهم أجنحة ليكون أسرع لنفاد الأمر وسرعة إنفاذ القضاء.
فإن المسافة التي بين السماء والأرض لا تقطع بالأقدام إلا في سنين ، فجعلت لهم الأجنحة حتى ينالوا المكان البعيد في الوقت القريب كالطير.
{ يزيد في الخلق ما يشاء } : تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي أجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله ، فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، والظاهر عموم الخلق.
وقال الفراء : هذا في الأجنحة التي للملائكة ، أي يزيد في خلق الملائكة الأجنحة.
وقالوا : في هذه الزيادة الخلق الحسن ، أو حسن الصوت ، أو حسن الخط ، أو لملاحة في العينين أو الأنف ، أو خفة الروح ، أو الحسن ، أو جعودة الشعر ، أو العقل ، أو العلم ، أو الصنعة ، أو العفة في الفقراء ، والحلاوة في الفم ، وهذه الأقوال على سبيل التمثيل لا الحصر.
والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، وقد شرحوا هذه الزيادة بالأشياء المستحسنة ، وما يشاء عام لا يخص مستحسناً دون غيره.
وختم الآية بالقدرة على كل شيء يدل على ذلك ، والفتح والإرسال استعارة للإطلاق ، { فلا مرسل له } مكان لا فاتح له ، والمعنى : أي شيء يطلق الله.
{ من رحمة } : أي نعمة ورزق ، أو مطر ، أو صحة ، أو أمن ، أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها.
وما روي عن المفسرين المتقدمين من تفسير رحمة بشيء معين فليس على الحصر منه ، إنما هو مثال.
قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا يقدر أحد على إمساكها وحبسها ، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه. انتهى.
والعموم مفهوم من اسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو ، وهو مما اجتزىء فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط ، وتقديره : من الرحمات ، ومن في موضع الحال ، أي كائناً من الرحمات ، ولا يكون في موضع الصفة ، لأن اسم الشرط لا يوصف.
والظاهر أن قوله : { وما يمسك } عام في الرحمة وفي غيرها ، لأنه لم يذكر له تبيين ، فهو باق على العموم في كل ما يمسك.
فإن كان تفسيره { من رحمة } ، وحذفت لدلالة الأول عليه ، فيكون تذكير الضمير في { فلا مرسل له من بعده } حملاً على لفظ ما ، وأنث في { ممسك لها } على معنى ما ، لأن معناها الرحمة.
وقرىء : فلا مرسل لها ، بتأنيث الضمير ، وهو دليل على أن التفسير هو { من رحمة } ، وحذف لدلالة ما قبله عليه.
وعن ابن عباس : { من رحمة } : من باب توبة ، { فلا ممسك لها } : أي يتوبون إن شاؤوا وإن أبوا ، { وما يمسك } : من باب ، { فلا مرسل له } من بعده ، فهم لا يتوبون.
وعنه أيضاً : { من رحمة } : من هداية.
قال الزمخشري : فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس؟ قلت : أراد بالتوبة : الهداية لها والتوفيق فيها ، وهو الذي أراده ابن عباس ، إن قاله فمقبول ، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب فمردود ، لأن الله تعالى يشاء التوبة أبداً ، ولا يجوز عليه أن لا يشاء بها.
انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.
{ من بعده } : هو على حذف مضاف ، أي من بعد إمساكه ، كقوله : { فمن يهديه من بعد الله } أي من بعد إضلال الله إياه ، لأن قبله وأضله الله على علم ، كقوله : { ومن يضلل الله فلا هادي له } وقدره الزمخشري من بعد هداية الله ، وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية ، جرى فيه على طريقة الاعتزال.
{ وهو العزيز } الغالب القادر على الإرسال والإمساك ، { الحكيم } الذي يرسل ويمسك ما اقتضته حكمته.
{ يا أيها الناس } : خطاب لقريش ، وهو متجه لكل مؤمن وكافر ، ولا سيما من عبد غير الله ، وذكرهم بنعمه في إيجادهم.
و { اذكروا } : ليس أمراً بذكر اللسان ، ولكن به وبالقلب وبحفظ النعمة من كفرانها وشكرها ، كقولك لمن أنعمت عليه : اذكر أياديّ عندك ، تريد حفظها وشكرها ، والجميع مغمورون في نعمة الله.
فالخطاب عام اللفظ ، وإن كان نزل ذلك بسبب قريش ، ثم استفهم على جهة التقرير.
{ هل من خالق غير الله } : أي فلا إله إلا الخالق ، ما تعبدون أنتم من الأصنام.
وقرأ ابن وثاب ، وشقيق ، وأبو جعفر ، وزيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي : غير بالخفض ، نعتاً على اللفظ ، { ومن خالق } مبتدأ.
و { يرزقكم } : جوزوا أن يكون خبراً للمبتدأ ، وإن يكون صفته ، وأن يكون مستأنفاً ، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم.
وقرأ شيبة ، وعيسى ، والحسن ، وباقي السبعة : { غير } بالرفع ، وجوزوا أن يكون نعتاً على الموضع ، كما كان الخبر نعتاً على اللفظ ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين؛ وأن يكون خبراً للمبتدأ ، وأن يكون فاعلاً باسم الفاعل الذي هو خالق ، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، فحسن إعماله ، كقولك : أقائم زيد في أحد وجهيه؟ وفي هذا نظر ، وهو أن اسم الفاعل ، أو ما جرى مجراه ، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل ، فرفع ما بعده ، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول : هل من قائم الزيدون؟ كما تقول : هل قائم الزيدون؟ والظاهر أنه لا يجوز.
ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل ، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من ، ولا أحفظ مثله في لسان العرب ، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب؟ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي : غير بالنصب على الاستثناء ، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف ، ويرزقكم مستأنف؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفاً ، كان أولى لانتفاء صدق خالق على غير الله ، بخلاف كونه صفة ، فإن الصفة تقيد ، فيكون ثم خالق غير الله ، لكنه ليس برازق.
ومعنى { من السماء } : بالمطر ، { والأرض } : بالنبات ، { لا إله إلا هو } : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب.
{ فأنى يؤفكون } : أي كيف يصرفون على التوحيد إلى الشرك ، وأن يكذبوك إلى الأمور ، تقدم الكلام على ذلك.
{ إن وعد الله حق } : شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك.
وقرأ الجمهور : { الغرور } بفتح الغين ، وفسره ابن عباس بالشيطان.
وقرأ أبو حيوة ، وأبو السمال : بضمها جمع غار ، أو مصدراً ، كقوله : { فدلاهما بغرور } وتقدم الكلام على ذلك في آخر لقمان.
{ إن الشيطان لكم عدو } : عداوته سبقت لأبينا آدم ، وأي عداوة أعظم من أن يقول في بنيه : { لأغوينهم أجمعين } { ولأضلنهم } { فاتخذوه عدواً } : أي بالمقاطعة والمخالفة باتباع الشرع.
ثم بين أن مقصوده في دعاء حزبه إنما هو تعذيبهم في النار ، يشترك هو وهم في العذاب ، فهو حريص على ذلك أشد الحرص حتى يبين صدق قوله في : { فلاغوينهم } ، { ولأضلنهم } ، لأن الاشتراك فيما يسوء مما قد يتسلى به بخلاف المنفرد بالعذاب.
ثم ذكر الفريقين ، وما أعدّ لهما من العقاب والثواب.
وبدأ بالكفار لمجاورة قوله : { إنما يدعو حزبه } ، فاتبع خبر الكافر بحاله في الآخرة.
قال ابن عطية : واللام في ليكون لام الصيرورة ، لأنه لم يدعهم إلى السعير ، إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك. انتهى.
ونقول : هو مما عبر فيه عن السبب بما تسبب عنه دعاؤهم إلى الكفر ، وتسبب عنه العذاب.
و { الذين كفروا } ، { والذين آمنوا }.
مبتدآن ، وجوز بعضهم في { الذين كفروا } أن يكون في موضع خفض بدلاً { من أصحاب السعير } ، أو صفة ، وفي موضع نصب بدلاً من { حزبه } ، وفي موضع رفع بدلاً من ضمير { ليكونوا } ، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب.
{ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } : أي فرأى سوء عمله حسناً ، ومن مبتدأ موصول ، وخبره محذوف.
فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير : كمن لم يزين له ، كقوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } { أَو من كان ميتاً فأحييناه } ثم قال : { كمن مثله في الظلمات } وقاله الكسائي ، أي تقديره : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة : { فلا تذهب نفسك عليهم }.
وقيل : التقدير : فرآه حسناً ، فأضله الله كمن هداه الله ، فحذف ذلك لدلالة : { فإن الله يضل من يشاء } ، وذكر هذين الوجهين الزجاج.
وشرح الزمخشري هنا { يضل من يشاء } على طريقته في غير موضع من كتابه ، من أن الإضلال هو خذلانه وتخليته وشأنه ، وأتى بألفاظ كثيرة في هذا المعنى.
وقرأ الجمهور : { أفمن زين } مبنياً للمفعول سوء رفع.
وقرأ عبيد بن عمير : زين له سوء ، مبنياً للفاعل ، ونصب سوء؛ وعنه أيضاً أسوأ على وزن أفعل منصوباً؛ وأسوأ عمله : هو الشرك.
وقراءة طلحة : أمن بغير فاء ، قال صاحب اللوامح : للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ، ويجوز أن يكون بمعنى حرف النداء ، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب. انتهى.
ويعني بالجواب : خبر المبتدأ ، وبالتمام : ما يؤدي لأجله ، أي تفكر قومه ، ووجوب إلى الله ، { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } تسلية للرسول عن كفر قومه ، ووجوب التسليم لله في إضلاله من يشاء وهداية من يشاء.
وقرأ الجمهور : { فلا تذهب نفسك } ، مبنياً للفاعل من ذهب ، ونفسك فاعل.
وقرأ أبو جعفر ، وقتادة ، وعيسى ، والأشهب ، وشيبة ، وأبو حيوة ، وحميد والأعمش ، وابن محيصن : تذهب من أذهب ، مسند الضمير المخاطب ، نفسك : نصب ، ورويت عن نافع : والحسرة هم النفس على فوات أمر.
وانتصب { حسرات } على أنه مفعول من أجله ، أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، وعليهم متعلق بتذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً ، أو هو بيان للمتحسر عليه ، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر ، فلا يتقدّم معموله.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون حالاً ، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :
مشق الهواجر لحمهن مع السرى . . .
حتى ذهبن كلاكلاً وصدرواً
يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها ، ومنه قوله :
فعلى إثرهم تساقط نفسي . . .
حسرات وذكرهم لي سقام
انتهى.
وما ذكر من أن كلاكلاً وصدوراً حالان هو مذهب سيبويه.
وقال المبرد : هو تمييز منقول من الفاعل ، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها.
ثم توعدهم بالعقاب على سوء صنعهم فقال : { إن الله عليم بما يصنعون } : أي فيجازيهم عليه.
{
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
القمطير : المشهور أنه القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة ، ويأتي ما قال المفسرون.
الجدد : جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل ، كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً.
وقال الزمخشري : والجدد : الخطط والطرائق.
وقال لبيد : أو مذهب جدد على الواحد ، ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء التي على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. انتهى.
وقال الشاعر :
كأن مبرات وجدة ظهره . . .
كنائن يجري بينهن دليص
الجدة : الخط الذي في وسط ظهره ، يصف حمار وحش.
الغربيب : الشديد السواد.
لغب يلغب لغوباً : أعيا.
{ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ، من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ، والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ، وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلسبونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسعموا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير }.
لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة ، ذكر أشياء من الأمور الأرضية : الرياح وإسالها ، وفي هذا احتجاج على منكري البعث.
دلهم على المثال الذي يعاينونه ، وهو وإحياء الموتى سيان.
وفي الحديث : « أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : هل مررت بوادي أهلك محلاً ، ثم مررت به يهتز خضراً؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه »
قيل : { أرسل } في معنى يرسل ، ولذلك عطف عليه { فتثير }.
وقيل : جيء بالمضارع حكاية حال يقع فيها إثارة الرياح السحاب ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، ومنه فتصبح الأرض مخضرة.
قال الزمخشري : وكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز خصوصية بحال يستغرب ، أو يتهم المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبط شراً :
بأني قد لقيت الغول تهوي . . .
بشهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلاد هش فخرت . . .
صريعاً لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي يشجع فيها ابن عمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدّة.