كتاب : تفسير البحر المحيط
المؤلف : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي
وذكر أنّ هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك.
{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } : نهوا عن الاعتذار ، لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع.
قد كفرتم أظهرتم الكفر بعد إيمانكم أي : بعد إظهار إيمانكم ، لأنهم كانوا يسرُّون الكفر فأظهروه باستهزائهم ، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة ، والتعذيب لطائفة.
وكان المنافقون صنفين : صنف أمر بجهادهم : { جاهد الكفار والمنافقين } وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف ، فعذبوا بإخراجهم من المسجد ، وانكشاف معظم أحوالهم.
وصنف ضعفه مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر ، لم يؤذوا الرسول فعفى عنهم ، وهذا العذاب والعفو في الدنيا.
وقيل : المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان ، والمعذبون من مات منهم على نفاقه.
وقيل : المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشى بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ، كان مع الذين قالوا : { إنما كنا نخوض ونلعب } وقيل : كان منافقاً ثم تاب توبة صحيحة.
وقيل : إنه كان مسلماً مخلصاً ، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ، فعفا الله عنه ، واستشهد باليمامة وقد كان تاب ، ويسمى عبد الرحمن ، فدعا الله أن يستشهدوا ويجهل أمره ، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده.
وقرأ زيد بن ثابت ، وأبو عبد الرحمن ، وزيد بن علي ، وعاصم من السبعة : إن نعف بالنون ، نعذب بالنون طائفة.
ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباغ؟ فقلت : قراءة عاصم ، فأنشدني :
لعاصم قراءة . . .
لغيرها مخالفة
إن نعف عن طائفة . . .
منكم نعذب طائفة
وقرأ باقي السبعة : إن تعف تعذب طائفة ، مبنياً للمفعول.
وقرأ الجحدري : أن يعف بعذب مبنياً للفاعل فيهما ، أي : أن يعف الله.
وقرأ مجاهد : أن تعف بالتاء مبنياً للمفعول ، تعذب مبنياً للمفعول بالتاء أيضاً.
قال ابن عطية : على تقدير إن تعف هذه الذنوب.
وقال الزمخشري : الوجه التذكير لأنّ المسند إليه الظرف كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة فأنث لذلك ، وهو غريب.
والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير ، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى.
مجرمين : مصرين على النفاق غير تائبين.
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون } : بيّن تعالى أن ذكورهم وأناثهم ليسوا من المؤمنين كما قال تعالى : { ويحلفون بالله أنهم لمنكم وما هم منكم } بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق ، فهم على دين واحد.
وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم يأمرون بالمنكر وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي ، وينهون عن المعروف ، لأن الذين نزلت فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة ، وذلك بظهور الإسلام وعزته.
وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيل الله قاله الحسن.
وقال قتادة : عن كل خير.
وقال ابن زيد : عن الجهاد وحمل السلاح في قتال أعداء الدين.
وقال سفيان : عن الرفع في الدعاء.
وقيل ذلك كناية عن الشح في النفقات في المبار والواجبات ، والنسيان هنا الترك.
قال قتادة : تركوا طاعة الله وطاعة رسوله فنسيهم ، أي : تركهم من الخير ، أما من الشر فلم ينسهم.
وقال الزمخشري : أغفلوا ذكره فنسيهم تركهم من رحمته وفضله ، ويغبر بالنسيان عن الترك مبالغة في أنه لا يخطر ذلك ببال.
هم الفاسقون أي : هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ من كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين.
{ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم } : الكفار هنا المعلنون بالكفر ، وخالدين فيها حال مقدرة ، لأن الخلود لم يقارن الوعد.
وحسبهم كافيهم ، وذلك مبالغة في عذابهم ، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه ، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين.
مقيم : مؤبّد لا نقلة فيه.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق.
والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين ، وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
{ كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } : هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب.
قال الفراء : التشبيه من جهة الفعل أي : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب.
وقال الزجاج : المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم ، فهو متعلق بوعد.
وقال ابن عطية : وفي هذا قلق.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون ، وهذا فيه بعد.
وقيل : في موضع رفع التقدير أنتم كالذين.
والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض.
وقوله : كانوا أشد ، تفسير لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم.
والخلاق : النصيب أي : ما قدر لهم.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : أي فائدة في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم ، وقوله : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه ، كما أغنى كالذي خاضوا؟ ( قلت ) : فائدته أنْ قدم الأولين بالاستمتاع ما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم ، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به ، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة على سماجة فعله فيقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله.
وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى.
يعني : استغنى عن أن يكون التركيب ، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا.
قال ابن عطية : كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا ، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى : عجلوا حظهم في دنياهم ، وتركوا باب الآخرة ، فاتبعتموهم أنتم انتهى.
ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد ، واستمتاعهم بما قدّر لهم من الأنصباء ، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم ، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال : كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير ، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم ، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى : { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً } وكقوله : { إن المنافقين هم الفاسون } ولم يأت التركيب أنه كان ، ولا أنهم هم.
وخضتم : أي دخلتم في اللهو والباطل ، وهو مستعار من الخوض في الماء ، ولا يستعمل إلا في الباطل ، لأنّ التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام ، وأمور الباطل إنما هي خوض.
ومنه : رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة.
كالذي خاضوا : أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء.
وقيل : كالخوض الذين خاضوا.
وقيل : النون محذوفة أي : كالذين خاضوا ، أي كخوض الذين.
وقيل : الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي : كخوضهم.
والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد ، والمعنى : وأنتم كذلك يحبط أعمالكم.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول.
وقوله : في الدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم ، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء.
ويقوي الإشارة بأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة { أَلَمْ يَأْتِهِمْ } فتأمله انتهى.
وقال الزمخشري : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، نقيض قوله تعالى : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين }
{ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء ، وكان لفظ الذين من قبلكم فيه إبهام ، نصّ على طوائف بأعيانها ستة ، لأنهم كان عندهم شيء من أنبائهم ، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب ، وكانوا أكثر الأمم عدداً ، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء : نوح أول الرسل ، وابراهيم الأب الأقرب للعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدّة وكثرة المال والولد.
فقوم نوح أهلكوا بالغرق ، وعاد بالريح ، وثمود بالصيحة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم ، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة ، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل ، وأمطار الحجارة عليهم.
قال الواحدي : معنى الائتفاك الانقلاب ، فأفكته فائتفك أي قلبته فانقلب.
والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكت بأهلها ، فجعل أعلاها أسفلها.
والمؤتفكات مدائن قوم لوط.
وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح.
وائتفاكهن : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر.
قال ابن عطية : والمؤتفكات أهل القرى الأربعة.
وقيل : التسعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان :
لمنطق مستبين غير ملتبس . . .
به اللسان ورأي غير مؤتفك
أي غير منقلب متصرّف مضطرب.
ومنه يقال للريح : مؤتفكة لتصرفها ، ومنه { أنى يؤفكون } والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى.
وفي قوله : ألم يأتهم ، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أنْ يصيبهم مثل ما أصابهم ، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم ، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي ، وعلقمة بن عبدة ، وغيرهما.
ويحتمل أن يكون قوله : ألم يأتهم تذكيراً بما قص الله عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها.
والظاهر أنّ الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة ، والجملة شرح للنبأ.
وقيل : يعود على المؤتفكات خاصة ، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحداً ، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً ، فهم رسول رسول الله ، ذكره الطبري.
وقال الكرماني : قيل : يعود على المؤتفكات أي : أتاهم رسول بعد رسول.
والبينات المعجزات ، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق ، لا بالنسبة إلى المكذبين.
قال ابن عباس : ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم.
والمعنى : أنهم أهلكوا باستحقاقهم.
وقال مكي : فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقها ، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إذ عصوا الله وكذبوا رسله حتى أسخطوا ربهم واستوجبوا العقوبة ، فظلموا بذلك أنفسهم.
وقال الكرماني : ليظلمهم بإهلاكهم ، يظلمون بالكفر والتكذيب.
وقال الزمخشري : فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح ، وأن يعاقبهم بغير جرم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه انتهى.
وذلك على طريقة الاعتزال.
ويظهر أن بين قوله بالبينات.
وقوله : فما كان كلاماً محذوفاً تقديره والله أعلم فكذبوا فأهلكهم الله ، فما كان الله ليظلمهم.
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } : لما ذكر المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة ، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض ، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض.
قال ابن عطية : إذ.
لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم ، ولا يدعو بعضهم لبعض ، فكان المراد هنا الولاية في الله خاصة.
وقال أبو عبد الله الرازي : بعضهم من بعض يدل على أنّ نفاق الاتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر ، وسبب مقتضى الطبيعة والعادة.
أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة ، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية ، والولاية ضد العداوة.
ولما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري كالتفسير والشرح له ، وهي الخمسة التي يميز بها المؤمن على المنافق.
فالمنافق يأمر بالمنكر ، وينهى عن المعروف ولا يقوم إلى الصلاة إلا وهو كسلان ، ويبخل بالزكاة ، ويتخلف بنفسه عن الجهاد ، وإذا أمره الله تثبط وثبط غيره.
والمؤمن بضد ذلك كله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والجهاد.
وهو المراد في هذه الآية بقوله : ويطيعون الله ورسوله انتهى ، وفيه بعض تلخيص.
وقال أبو تلخيص.
وقال أبو العالية : كل ما ذكره الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام ، وما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأصنام والشياطين.
وقال ابن عباس : ويقيمون الصلاة هي الصلوات الخمس.
قال ابن عطية : وبحسب هذا تكون الزكاة المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ ، إذ من يقيم النوافل أجدى بإقامة الفروض ، ويطيعون الله ورسوله جامع للمندوبات انتهى ، سيرحمهم الله.
قال ابن عطية : السين مدخلة في الوعد مهلة ، لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى.
وقال الزمخشري : السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً يعني : إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك.
ونحوه : { سيجعل لهم الرحمن وداً } { ولسوف يعطيك ربك } { سوف نؤتيهم أجورهم } انتهى.
وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله : السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة ، يشير إلى أنه يجب على الله تعالى إثابة الطائع ، كما تجب عقوبة العاصي.
وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه ، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط.
ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة ، أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أنّ الله عزيز غالب على كل شيء ، قادر عليه ، حكيم واضع كلاًّ موضعه.
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } : لمّا أعقب المنافقين بذكر ما وعدهم به من نار جهنم ، أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنان.
ولما كان قوله : { سيرحمهم الله } وعداً إجمالياً فصله هنا تنبيهاً على أنّ تلك الرحمة هي هذه الأشياء ، ومساكن طيبة.
قال ابن عباس : هي دور المقربين.
وقيل : دور في جنات عدن مختلفة في الصفات باختلاف حال الحالين بها.
وقيل : قصور زبرجد ودر وياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في أماكن إقامتهم.
وفي الحديث : « قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، وفي كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً » وذكر في آخر هذا الحديث أشياء ، وإن صحّ هذا النقل عن الرسول وجب المصير إليه.
في جنات عدن أي : إقامة.
وقال كعب الأحبار : هي بالفارسية الكروم والأعناب.
قال ابن عطية : وأظن هذا ما اختلط بالفردوس.
وقال ابن مسعود : عدن بطنان الجنة وشرقها ، وعنه : وسط الجنة.
وقال عطاء : نهر في الجنة ، جنانه على حافيته.
وقال الضحاك وأبو عبيدة : مدينة الجنة ، وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها.
وقال الحسن : قصر في الجن لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ، ومدتها صوته.
وعنه : قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد.
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، ولا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصديقون ، والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك » وإن صحّ هذا عن الرسول وجب المصير إليه.
وقال مقاتل : هي أعلى درجة في الجنة.
وقال عبد الله بن عمرو : قصر حوله البروج والمروج ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خيرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقي : قصته الجنة فيها نهر على حافتيه بساتين.
وقيل : التسنيم ، وفيه قصور الدر والياقوت والذهب ، والأرائك عليها الخيرات الحسان ، سقفها عرش الرحمن لا ينزلها إلا الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ، يفوح ريحها من مسيرة خمسمائة عام.
وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب ، وبعضها يدل على التخصيص وهو مخالف لظاهر الآية ، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات.
وقال الزمخشري : وعدن علمٌ لقوله تعالى : { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده } ويدل عليه ما روى أبو الدرداء ، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء ، وإنما استدل بالآية على أنّ عدناً علم ، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة ، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك ، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوباً بإضمار أعني : أو أمدح ، أو بدلاً من جنات.
ويبعد أن تكون صفة لقوله : الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات ، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت ، وجيء بعده بالبدل.
وقرأ الأعمش ورضوان : بضمتين.
قال صاحب اللوامح : وهي لغة ، ورضوان مبتدأ.
وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله : من الله ، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي : وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر.
والعبد إذا علم برضا مولاه عنه كان أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم ، وإنما يتهيأ له النعيم بعامه برضاه عنه.
كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت حاله ، ولم يجد لها لذة.
ومعنى هذه الجملة موافق لما روي في الحديث : « أن الله تعالى يقول لعباده إذا استقروا في الجنة : هل رضيتم؟ فيقولون : وكيف لا نرضى يا ربنا؟ فيقول : إني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني ، أرضى عنكم فلا أسخط عليكم أبداً » وقال الحسن : وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة.
قال ابن عطية : ويظهر أن يكون قوله تعالى : ورضوان من الله أكبر ، إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم ، والذين يرون كما يرى النجم الغائر في الأفق ، وجميع من في الجنة راض ، والمنازل مختلفة ، وفضل الله تعالى متسع انتهى.
وقال الزمخشري : رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة انتهى.
والإشارة بذلك إلى جميع ما سبق ، أو إلى الرضوان قولان ، والأظهر الأول.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } : لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأبهم في ذلك بقوله : { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم } ولما ذكر أمر الجهاد ، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسباباً في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال ، قال : جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم.
قال ابن عباس وغيره : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان.
وقال الحسن وقتادة : والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
وقال ابن مسعود : جاهدهم باليد ، فإن لم تستطع فباللسان ، فإن لم تستطع فبالقلب ، وإلاكفرار في وجوههم ، وأغلظ عليهم في الجهادين.
والغلظ ضد الرقة ، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين.
واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد ، فهذا حكمه يجاهد بالحجة ، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن.
{ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير } : الضمير عائد على المنافقين.
فقيل : هو حلف الجلاس ، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس.
وقيل : حلف عبد الله بن أبي أنه ما قال { لئن رجعنا إلى المدينة } الآية.
وقال الضحاك : حلفهم حين نقل حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وإياه في خلوتهم ، وأما وهموا بما لم ينالوا فنزلت قيل : في ابن أبي في قوله : ليخرجن ، قاله قنادة ، وروي عن ابن عباس.
وقيل : بقتل الرسول ، والذي همّ به رجل يقال له : الأسود من قريش ، رواه مجاهد عن ابن عباس.
وقال مجاهد : نزلت في خمسة عشر هموا بقتله وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة يوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال : إليكم يا أعداء الله فهربوا ، وكان منهم عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعيمة بن أبيرق ، والجلاس بن سويد ، وأبو عامر بن نعمان ، وأبو الأحوص.
وقيل : همهم بما لم ينالوا ، هو أن يتوجوا عبد الله بن أبي إذا رجعوا من غزوة تبوك يباهون به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم ينالوا ما هموا به ، فنزلت.
وعن ابن عباس : كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أنْ طلع رجل أزرق فدعاه فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فأنزل الله هذه الآية.
وكلمة الكفر قول ابن أبي لما شاور الجهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الجهني ، وقد كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع ، فصاح الجهجاه : يا للأنصار ، وصاح سنان : يا للمهاجرين ، فثار الناس ، وهدأهم الرسول فقال ابن أبي : ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، أو الاستهزاء ، أو قول الجلاس المتقدم ، أو قولهم : نعقد التاج ، أو قولهم : ليس بنبي ، أو القول : لئن رجعنا إلى المدينة أقوال.
وكفروا : أي أظهروا الكفر بعد إسلامهم ، أي إظهار إسلامهم.
ولم يأت التركيب بعد إيمانهم لأنّ ذلك لم يتجاوز ألسنتهم.
والهم دون العزم ، وتقدم الخلاف في الهام والمهموم به.
وقيل : هو همّ المنافقين أو الجلاس بقتل ناقل حديث الجلاس إلى الرسول ، وفي تعيين اسم الناقل خلاف ، فقيل : عاصم بن عدي.
وقيل : حذيفة.
وقيل : ابن امرأة الجلاس عمير بن سعد.
وقيل : اسمه مصعب.
وقيل : هموا بالرسول والمؤمنين أشياء لم ينالوها «وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله» هذا مثل قوله : { هل تنقمون منا إلا أن آمنا } { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا } وكان حق الغني من الله ورسوله أن يشكر لا أين ينقم ، جعلوا الغنى سبباً ينتقم به ، فهو كقوله :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم . . .
بهن فلول من قراع الكتائب
وكان الرسول قد أعطى لعبد الله بن أبي دية كانت قد تغلظت له ، قال عكرمة : اثنا عشر ألفاً.
وقيل : بل كانت للجلاس.
وكانت الأنصار حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش ، لا يركبون الخيل.
ولا يجوزون الغنيمة ، فأثروا وقال الرسول للأنصار : { وكنتم عالة فأغناكم الله بي } وقيل : كان على الجلاس دين كثير فقضاه الرسول ، وحصل له من الغنائم مال كثير.
وقوله : وما نقموا الجملة كلام أجري مجرى التهكم به ، كما تقول : ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك ، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاماً.
وقال الشاعر :
ما نقموا من بني أمية إلا . . .
أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم سادة الملوك ولا . . .
يصلح إلا عليهم العرب
وقال الآخر وهو نظير البيت السابق :
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر . . .
كرام وإنا لا نحط على النمل
{ فإن يتوبوا } هذا إحسان منه تعالى ورفق ولطف بهم ، حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة.
وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أن قال ما نقل عنه قد اعترف ، وصدق الناقل عنه وتاب وحسنت توبته ، ولم يرد أنّ أحداً قبلت توبته منهم غير الجلاس.
قيل : وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المس الكفر المظهر للإيمان ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وقال مالك : لا تقبل فإن جاء تائباً من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف ، وإن يتولوا أي : عن التوبة ، أو الإيمان ، أو الإخلاص ، أو الرسول.
والمعنى : وإنْ يديموا التولي إذ هم متولون في الدنيا بإلحاقهم بالحربيين إذ أظهروا الكفر ، فيحل قتالهم وقتلهم ، وسبي أولادهم وأزواجهم ، وغنم أموالهم.
وقيل : ما يصيبهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب.
وقيل : عذاب القبر.
وقيل : التعب والخوف والهجنة عند المؤمنين ، وفي الآخرة بالنار.
{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصَّدقنّ ولنكوننّ من الصالحين.
فما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون.
فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون.
ألم يعلموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب } : قال الضحاك : هم نبتل بن الحرث ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وثعلبة بن حاطب ، وفيهم نزلت الآية.
وقال الحسن ومجاهد : في معتب وثعلبة خرجا على ملأ فقالا ذلك.
وقال ابن السائب : في رجل من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه ، فجهد لذلك جهداً شديداً ، فحلف بالله لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن ، فآتاه فلم يفعل.
والأكثر على أنها نزلت في ثعلبة ، وذكروا له حديثاً طويلاً وقد لخصت منه : أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يرزقه مالاً فقيل له : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فألح عليه ، فدعا الله ، فاتخذ غنماً كثرت حتى ضاقت عنها المدينة ، فنزل وادياً وما زالت تنمو ، واشتغل بها حتى ترك الصلوات ، وبعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم المصدق فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، فنزلت هذه الآية.
فأخبره قريب له بها ، فجاء بصدقته إلى الرسول فلم يقبلها ، فلما قبض الرسول أتى أبا بكر فلم يقبلها ، ثم عمر فلم يقبلها ، ثم عثمان فلم يقبلها ، وهلك في أيام عثمان.
وقرأ الأعمش : لنصدقنّ ولنكوننّ بالنون الخفيفة فيهما ، والظاهر والمستفيض من أسباب النزول أنهم نطقوا بذلك ولفظوا به.
وقال معبد بن ثابت وفرقة : لم يتلفظوا به ، وإنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألم تسمع إلى قوله : { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم } «من الصالحين» : أي من أهل الصلاح في أموالهم بصلة الرحم والإنفاق في الخير والحج وأعمال البر.
وقيل : من المؤمنين في طلب الآخرة.
بخلوا به أي : بإخراج حقه منه ، وكلُّ بخل أعقب بوعيد فهو عبارة عن منع الحق الواجب.
والظاهر أنّ الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله ، عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه.
قال الزمخشري : خذلهم حين نافقوا ، وتمكن من قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أنْ يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه خلف الموعد ثلث النفاق انتهى.
وقوله : خذلهم هو لفظ المعتزلة.
وقال الحسن وقتادة : الضمير في فاعقبهم للبخل ، أي فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم.
وقال أبو مسلم : فأعقبهم أي البخل والتولي والإعراض.
قال ابن عطية : يحتمل أن يكون نفاق كفر ، ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام ، وتعلقه بما فيه احتمال.
ويحتمل أن يكون نفاق معصية وقلة استقامة ، فيكون تقريره صحيحاً ، ويكون ترك قبول الزكاة منه عقاباً له ونكالاً.
وهذا نحو ما روي أنّ عاملاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز أنّ فلاناً يمنع الزكاة ، فكتب إليه : أن دَعه ، واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين ، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك.
والظاهر عود الضمير في : يلقونه ، على الله تعالى.
وقيل : يلقون الجزاء.
فقيل : جزاء بخلهم.
وقيل : جزاء أفعالهم.
وقرأ أبو رجاء : يكذبون بالتشديد.
ولفظه : فأعقبهم نفاقاً ، لا تدل ولا تشعر بأنه كان مسلماً ، ثم لما بخل ولم يف بالعهد صار منافقاً كما قال أبو عبد الله الرازي ، لأن المعقب نفاق متصل إلى وقت الموافاة ، فهو نفاق مقيد بغاية ، ولا يدل المقيد على انتفاء المطلق قبله.
وإذا كان الضمير عائداً على الله فلا يكون اللقاء متضمناً رؤية الله لإجماع العلماء على أنّ الكفار لا يرون الله ، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } ليس بظاهر ، ولقوله : «من حلف على يمين كاذبة ليقطع حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» وأجمعوا على أنّ المراد هنا لقي ما عند الله من العقاب.
ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع.
وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن : تعلموا بالتاء ، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير.
وأنه تعالى فاضح المنافقين ، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئاً فشيئاً سرهم ونجواهم.
هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم الله بهم.
والظاهر أنّ الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيرهم ، وخصتها فرقة بمن عاهد وأخلف.
فقال الزمخشري : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه ، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين ، وتسمية الصدقة جزية ، وتدبير منعها.
وقيل : أشار بسرهم إلى ما يخفونه من النفاق ، وبنجواهم إلى ما يفيضون به بينهم من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعييب المؤمنين.
وقيل : سرهم ما يسار به بعضهم بعضاً ، ونجواهم ما تحدثوا به جهراً بينهم ، وهذه أقوال متقاربة متفقة في المعنى.
{ والذين يلمزون المطوِّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } : نزلت فيمن عاب المتصدقين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ، فتصدّق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فبارك له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمسك وفيما أعطى.
وتصدق عمر بنصف ماله ، وعاصم بن عدي بمائة وسق ، وعثمان بصدقة عظيمة ، وأبو عقيل الأرلشي بصاع تمر ، وترك لعياله صاعاً ، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما ، ورجل بناقة عظيمة قال : هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله ، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون : ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة ، وما تصدّق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر ، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات ، والله غني عن صاعه.
وقال بعضهم : تصدق بالناقة وهي خير منه.
وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سواداً ، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : قل هو خير منك ، ومنها يقولها ثلاثاً.
وأصل المطوعين المتطوعين ، فأدغمت التاء في الطاء ، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره.
والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجون في المطوعين ، ذكروا تشريفاً لهم ، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء ، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه ، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل ، وأبي خيثمة ، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما.
وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال : لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله.
وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، وفي قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني ، وأكثر الناس على خلافهما.
وتسمية بعضهم التجريد ، جردوا بالذكر على سبيل التشريف ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقرأ ابن هرمز وجماعة : جهدهم بالفتح.
فقيل : هما لغتان بمعنى واحد.
وقال القتبي بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة.
وقال الشعبي : بالضم القوت ، وبالفتح في العمل.
وقيل : بالضم شيء قليل يعاش به.
والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين ، كأنه قيل : يلمزون الأغنياء وغيرهم.
وفيسخرون معطوف على يلمزون ، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون.
وذكر أبو البقاء أن قوله : والذين لا يجدون ، معطوف على الذين يلمزون ، وهذا غير ممكن ، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر ، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين.
قال : وقيل : والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين ، وهذا بعيد جداً.
قال : وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان : أحدهما فيسخرون.
ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه.
وهذا بعيد ، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هو ساخر منه ، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها ، وهو لا يجوز.
قال : والثاني : أن الخبر سخر الله منهم ، قال : وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر ، تقديره عاب الذين يلمزون.
وقيل : الخبر محذوف تقديره : منهم الذين يلمزون.
وقال أبو البقاء أيضاً : من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون ، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى.
وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر ، وإذا كان حالاً جاز الفصل بها بين العامل فيها ، وبين المعمول أخر ، لذلك العامل نحو : جاءني الذي يمر راكباً بزيد.
والسخرية : الاستهزاء.
والظاهر أن قوله : سخر الله منهم خبر لفظاً ومعنى ، ويرجحه عطف الخبر عليه.
وقيل : صيغته خبر ، ومعناه الدعاء.
ولما قال : فيسخرون منهم قال : سخر الله منهم على سبيل المقابلة ، ومعناه : أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم.
قال ابن عباس : وكان هذا في الخروج إلى غزوة تبوك.
وقيل : معنى سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم ، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } قال ابن عطية : تسمية للعقوبة باسم الذنب ، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى.
وهو قريب من القول الذي قبله.
وقال الأصم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر ، ووبال فعلهم عليهم كما هو ، فكأنه سخر منهم ولهذا قال : ولهم عذاب أليم ، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى.
وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر ، لما يعقبهما من الوعيد.
{ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين } : سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل ، فنزلت ، فقال صلى الله عليه وسلم : « قد رخص لي فأزيد على السبعين » فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
وقيل : لما نزل سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ، سألوا الرسول أن يستغفر لهم فنزلت.
وعلى هذا فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم ، أو على جميع المنافقين قولان.
والخطاب بالأمر للرسول ، والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير ، وهو الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال له عمر : كيف تستغفروا لعدو الله وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « ما نهاني ولكنه خيرني » فكأنه قال له عليه السلام : إن شئت فاستغفر ، وإن شئت فلا تستغفر ، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة.
وقيل : لفظه أمر ومعناه الشرط ، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله ، فيكون مثل قوله : { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم } وبمنزلة قول الشاعر :
أسيء بنا أو أحسني لا ملومة . . .
لدينا ولا مقلية إن تقلت
ومر الكلام في هذا في قوله : { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً } وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره ، وهو اختيار الزمخشري قال : وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر ، وإن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى.
يعني في تفسير قوله تعالى : { قل أنفقوا } وكان قال هناك.
( فإن قلت ) : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل؟ ( قلت ) : هو أمر في معنى الخبر كقوله : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًّا } ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله : أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وقوله :
أسيء بنا أو أحسبني لا ملومة . . .
أي : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت.
فإن قيل : متى يجوز نحو هذا؟ قلت : إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك : غفر الله لزيد ورحمه.
( فإن قلت ) : لم فعل ذلك؟ ( قلت ) : لنكتة وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحْسان ، وانظري هل تتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة.
وفي معناه قول القائل :
أحول الذي إن قمت بالسيف عامداً . . .
لتضربه لم يستغشك في الودّ
وكذلك المعنى أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم ، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم.
وانظر هل ترى خلافاً بين حالي الاستغفار وتركه؟ انتهى.
وقيل : هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه : إنك لو طلبت الاستغفار لهم طلب المأمور ، أو تركته ترك المنهى عنه ، لم يغفر لهم.
وقيل : معناه الإستواء أي : استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء.
( فإن قلت ) : كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا؟ فالجواب قالوا من وجوه : أحدها : أن ذلك كان على سبيل التأليف ليخلص إيمان كثير منهم.
وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه ، وصلى عليه ، أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول ، وكان رأس المنافقين وسيدهم.
وقيل : فعل ذلك تطييباً لقلب ولده ومن أسلم منهم ، وهذا قريب مما قبله.
وقيل : كان المؤمنون يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوا في إيمانهم ، وبعد مماتهم رجاء الغفران ، فنهاه الله عن ذلك وأيأسهم منه ، وقد سأل عبد الله بن عبد الله الرسول أن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه.
وقيل : إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهم عن الإسلام ، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال إنه غير عالم بكفرهم.
وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس : أنّ الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار ، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه : الأول : أن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ، فلهذا السبب أمره الله تعالى بالاقتداء بإبراهيم عليهما السلام إلا في قوله : { لأستغفرن لك } وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع ، فكيف يجوز الإقدام عليه؟ الثاني : أنّ استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبيح والمعصية.
الثالث : أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب.
الرابع : أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردوداً عند الله ، وذلك يوجب نقصان منصبه صلى الله عليه وسلم.
الخامس : أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة ، فثبت أنّ المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه ، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع ، بل هو كما يقول القائل : إنْ سأله حاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك لا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها ، فكذا ههنا.
والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية : ذلك بأنهم كفروا.
فبيّن أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم ، وإن بلغ سبعين مرة ، هي كفرهم وفسقهم.
وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين ، فصار هذا القليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم ، ويؤكد : والله لا يهدي القوم الفاسقين.
والمعنى : أنّ فسقهم مانع من الهداية ، فثبت أنّ الحق ما ذكرناه.
وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة : السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة ، لا السبعة التي فوق الستة انتهى.
والعرب تستكثر في الآحاد بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئين بسبعمائة.
قال الزمخشري : والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير.
قال عليّ رضي الله تعالى عنه :
لأصبحن العاص وابن العاصي . . .
سبعين ألفاً عاقدي النواصي
قال ابن عطية : وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية ومقنعاً في الكثرة.
ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى ، وإلى أصحاب العقبة؟ وقد قال بعض اللغويين : إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة ، فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض ، وفي خلق الإنسان ، وفي بدنه ، وفي أعضائه التي بها يطيع الله ، وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي : عيناه ، وأذناه ، وأسنانه ، وبطنه ، وفرجه ، ويداه ، ورجلاه.
وفي سهام الميسر ، وفي الأقاليم ، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس ، والعنبس ، ونحو هذا من القول انتهى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيص بالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال : «والله لأزيدن على السبعين» ولم ينصرف حتى نزل : { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } فكف عنه.
قيل : ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى ، لأنه تعالى لمّا بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أنّ الحال فيما وراء العدد مساوٍ للحال في العدد ، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار كيف؟ وقد تلاه بقوله تعالى ذلك بأنهم كفروا الآية ، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : " رخص لي ربي فأزيد على السبعين " ؟ ( قلت ) : لم يخف عليه صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته ، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض انتهى.
وفي هذا السؤال والجواب.
غض من منصب النبوة ، وسوء أدب على الأنبياء ، ونسبته إليهم ما لا يليق بهم.
وإذا كان صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يكن لنبي خائنة الأعين " أو كما قال : وهي الإشارة ، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك ، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم ، ولقد تكلم عند تفسير قوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أنْ أنقله فيه ، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل ، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك ، وانتفاء هداية الله الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك ، فهو عام مخصوص.
{ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشدّ حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون } : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ، ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد ، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة ، حتى أذن لهم ، فكشف الله للرسول صلى الله عليه وسلم عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم ، فأنزل الله عليه : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله الآية : أي : عن غزوة تبوك.
وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا ، فأذن لهم.
وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد.
ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير ، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وهي أمكن من لفظة المتخلفين ، إذ هم مفعول بهم ذلك ، ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر.
ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان ، والمصدر وهو هنا للمصدر أي : بقعودهم ، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة.
وانتصب خلاف على الظرف ، أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال : فلان أقام خلاف الحي ، أي بعدهم.
إذا ظعنوا ولم يظعن معهم.
قاله أبو عبيدة ، والأخفش ، وعيسى بن عمرو.
قال الشاعر :
عقب الربيع خلافهم فكأنما . . .
بسط السواطب بينهنّ حصيرا
ومنه قول الشاعر :
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى . . .
تأهب لأخرى مثلها وكأن قد
ويؤيد هذا التأويل : قراءة ابن عباس ، وأبي حيوة ، وعمرو بن ميمون خلف رسول الله.
وقال قطرب ، ومؤرج ، والزجاج ، والطبري : انتصب خلاف على أنه مفعول لأجله أي : لمخالفة رسول الله ، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا.
ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خُلف بضم الخاء ، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين ، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثواباً ، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقاباً.
وفي قوله : فرح وكرهوا مقابلة معنوية ، لأن الفرح من ثمرات المحبة.
وفي قوله : أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ويتحملهم المشاق العظيمة أي : كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله ، وآثروا ذلك على الدعة والخفض ، وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان.
والفرح بالقعود يتضمن الكراهة للخروج ، وكأن الفرح بالقعود هو لمثل الإقامة ببلده لأجل الألفة والإيناس بالأهل والولد ، وكراهة الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والتلف.
واستعذروا بشدّة الحر ، فأجاب الله تعالى عما ذكروا أنه سبب لترك النفر ، وقالوا : إنه قال بعضهم لبعض وكانوا أربعة وثمانين رجلاً.
وقيل : قالوا للمؤمنين لم يكفهم ما هم عليه من النفاق والكسل حتى أرادوا أن يكسلوا غيرهم وينبهوهم على العلة الموجبة لترك النفر.
قال ابن عباس ، وأبو رزين والربيع : قال رجل : يا رسول الله ، الحر شديد ، فلا ننفر في الحر.
وقال محمد بن كعب هو رجل من بني سلمة انتهى.
أي : قال ذلك عن لسانهم ، فلذلك جاء وقالوا بلفظ الجمع.
وكانت غزوة تبوك في وقت شدّة الحر وطيب الثمار والظلال ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : قل نار جهنم أشد حراً ، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم : إذا كنتم تجزعون من حر القيظ ، فنار جهنم التي هي أشدّ أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم.
قال الزمخشري : قل نار جهنم أشدّ حراً استجهال لهم ، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بذلك التصوّن في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل.
ولبعضهم :
مسرّة أحقاد تلقيت بعدها . . .
مساءة يوم إربها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة . . .
وراء تقضيها مساءة أحقاب
انتهى.
وقرأ عبيد الله : يعلمون مكان يفقهون ، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير ، لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه ، ولما روي عنه الأئمة.
والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر ، والمعنى : فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً ، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره.
روي أنّ أهل النفاق يكونون في النار عمرالدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ، ولا يكتحلون بنوم.
والظاهر أنّ قوله : فليضحكوا قليلاً إشارة إلى مدّة العمر في الدنيا ، وليبكوا كثيراً إشارة إلى تأييد الخلود ، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم.
قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون صفة حالهم أي : هم لما هم عليه من الحظر مع الله وسوء الحال ، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلاً وبكاؤهم كثيراً من أجل ذلك ، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو قوله عليه السلام لأمته : « لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً » وانتصب قليلاً وكثيراً على المصدر ، لأنهما نعت للمصدر أي : ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً.
وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت ، ويقوم نعته مقامه ، وذلك لدلالة الفعل عليه.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا نعتاً لظرف محذوف أي : زماناً قليلاً ، وزماناً كثيراً انتهى.
والأول أجود ، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته ، فدلالته على المصدر أقوى.
وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله ، وهو متعلق بقوله : وليبكوا كثيراً.
{ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًّا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين } : الخطاب للرسول والمعنى : فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك.
قيل : ودخول إنْ هنا وهي للممكن وقوعه غالباً إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره ، إلا أن يعلمه الله ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى : { قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } قال نحوه ابن عطية وغيره ، إلى طائفة منهم لأنّ منهم من مات ، ومنهم من تاب وندم ، ومنهم من تخلف لعذر صحيح.
فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل.
وإذا كان الضمير في منهم عائداً على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا ، فالذي يظهر أنّ ذكر الطائفة هو لأجل أنّ منهم من مات.
قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إنْ لم يعينهم.
وقوله : وماتوا وهم فاسقون ، نص في موافاتهم.
ومما يؤيد هذا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان ، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها.
وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا.
وقال له عمرو بن الخطاب : أنشدك الله أنا منهم؟ فقال : لا والله ، لا أمنت منها أحداً بعدك.
وأمر الله نبيه أن يقول لهم : لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب.
قال الزمخشري : فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق ، بخلاف غيرهم من المخلفين انتهى.
وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة ، إلى الأشق وهو قتال العدو ، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة ، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر الله في قوله : { وانفروا خفافاً وثقالاً } وقالوا هم : لا تنفروا في الحر ، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق.
وأول مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك ، ومرة مصدر كأنه قيل : أو خرجة دعيتم إليها ، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة ، فلا بد من تقييدها ، إذ الأولية تقتضي السبق.
وقيل : التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه.
وقيل : أول مرة قبل الاستئذان.
وقال أبو البقاء : أول مرة ظرف ، ونعني ظرف زمان ، وهو بعيد.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ ( قلت ) : أكثر اللغتين هند.
أكبر النساء ، وهي أكبرهن.
ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة ، وآخر مرة انتهى.
فاقعدوا مع الخالفين أي : أقيموا ، وليس أمراً بالقعود الذي هو نظير الجلوس ، وإنما المراد منعهم من الخروج معه.
قال أبو عبيدة : الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم.
وقيل : الخالفين المخالفين من قولهم : عبد خالف أي : مخالف لمولاه.
وقيل : الإخساء الأدنياء من قولهم : فلان خالفة قومه لاخسهم وأرذلهم.
ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد ، وقطع العلقة بينهما ، والاحتراز منه.
وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً.
قال ابن عطية : والخالفون جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر.
غلب المذكر ، فجمع بالواو والنون ، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف.
وقال قتادة : الخالفون النساء ، وهذا مردود.
وقال ابن عباس : هم الرجال.
وقال الطبري : يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم.
وقرأ مالك بن دينار وعكرمة : مع الخلفين ، وهو مقصور من الخالفين كما قال : عدداً وبدداً يريد عاددا وباددا ، وكما قال الآخر :
مثل النقي لبده ضرب الظلل . . .
يريد الظلال.
{ ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } : النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبة ثانية وخزي متأبد عليهم.
وكان فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا ، ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإسلام ، فإنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة ، ويصلون ، ويصومون ، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، ولم يزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد الله بن أبي.
وطول الزمخشري وغيره في قصته ، فتظافرت الروايات أنه صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية بعد ذلك.
وروى أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجذبه بثوبه وتلا عليه : ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ، فانصرف ولم يصل.
وذكروا محاورة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء ليصلي عليه.
ومات صفة لا حد ، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة ، وهو ماض بمعنى المستقبل ، لأن الموت غير موجود لا محالة.
نهاه الله عن الصلاة عليه ، والقيام على قبره وهو الوقوف عند قبره حتى يفرغ من دفنه.
وقيل : المعنى ولا تتولوا دفنه وقبره ، فالقبر مصدر.
كان صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ، فنهي عن ذلك في حق المنافقين ، فلم يصل بعد على منافق ، ولا قام على قبره.
إنهم كفروا تعليل للمنع من الصلاة والقيام بما يقتضي الامتناع من ذلك ، وهو الكفر والموافاة عليه.
{ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } : تقدّم نظير هذه الآية وأعيد ذلك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين.
فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه.
وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه قاله : الزمخشري.
وقال ابن عطية : ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى.
وقال أبو علي : ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير ، لأن الآيتين في فريقين من المنافقين ، ولو كان تكريراً لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير.
وقيل : أراد بالأولى لا تعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد ، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق.
وقد تغايرت الآيتان في ألفاظ هنا ، ولا ، وهناك ، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله : ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي : للإنفاق ، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب.
ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله.
ولا تصلّ ، ولا تقم ، ولا تعجبك ، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك ، ولا أولادهم ، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد.
ويتضمن ذلك النهي عن المجموع ، وهنا سقطت ، فكان نهياً عن إعجاب المجموع.
ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحدٍ.
فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين.
وهنا أن يعذبهم ، وهناك ليعذبهم ، فأتى باللام مشعرة بالتعليل.
ومفعول يريد محذوف أي : إنما يريد الله ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم.
وأتى بأن لأنّ مصب الإرادة هو التعذيب أي : إنما يريد الله تعذيبهم.
فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر ، وإن كان يحتمل زيادة اللام.
والتعليل بأنّ وهناك الدنيا ، وهنا في الحياة الدنيا ، فأثبت في الحياة على الأصل ، وحذفت هنا تنبيهاً على خسة الدنيا ، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة ، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين ، فناسب أنْ لا تسمى حياة.
{ وإذآ أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } الجمهور على أنّ السورة هنا كل سورة كان فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
وقيل : براءة لأنّ فيها الأمر بهما.
وقيل : بعض سورة ، فأطلق عليه سورة ، كما يطلق على بعض القرآن قرآن وكتاب.
وهذه الآية وإن تقدم أنهم كانوا استأذنوا الرسول في القعود ، فيها تنبيه على أنهم كانوا متى تنزل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد استأذنوا ، وليست هنا إذاً تفيد التعليق فقط ، بل انجرَّ معها معنى التكرار سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال ، لا الوضع.
وهي مسألة خلاف في النحو ، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر :
إذا وجدت أوار النار في كبدي . . .
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
ألا ترى أنّ المعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أنْ أنْ تكون تفسيرية ، لأن قبلها شرط ذلك؟ ويحتمل أن تكون مصدرية أي : بأن آمنوا أي : بالإيمان.
والظاهر أنّ الخطاب للمنافقين أي : آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم.
قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ومعناه : الاستدامة والطول.
قال ابن عباس والحسن : الغنى.
وقيل : القوة والقدرة.
وقال الأصم : أولوا الطول الكبراء والرؤساء.
وأولو الأمر منهم أي : من المنافقين كعبد الله بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وأضرابهم.
وأخص أولوا الطول لأنهم القادرون على التنفير والجهاد ، ومن لا مال له ، ولا قدرة لا يحتاج إلى الاستئذان ، والاستئذان مع القدرة على الحركة أقبح وأفحش.
والمعنى : استأذنك أولوا الطول منهم في القعود ، وفي استأذنك التفات ، إذ هو خروج من لفظ الغيبة وهو قوله : ورسوله ، إلى ضمير الخطاب.
وقالوا : ذرنا نكن مع القاعدين الزمني وأهل العذر ، ومن ترك لحراسة المدينة ، لأن ذلك عذر.
وفي قوله : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، تهجين لهم ، ومبالغة في الذم.
والخوالف : النساء قاله : الجمهور كابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، وشمر بن عطية ، وابن زيد ، والفراء ، وذلك أبلغ في الذم كما قال :
وما أدري وسوف إخال أدري . . .
أقوم آل حصن أم نساء
فإن تكن النساء مخبآت . . .
فحق لكل محصنة هداء
وقال آخر :
كتب القتل والقتال علينا . . .
وعلى الغانيات جر الذيول
فكونهم رضوا بأنْ يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجين ، لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة اللواتي لا مدافعة عندهنّ ولا غنى.
وقال النضر بن شميل : الخوالف من لا خير فيه.
وقال النحاس : يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة ، وهذا جمعه بحسب اللفظ ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم.
وقالت فرقة : الخوالف جمع خالف ، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك ، والظاهر أن قوله : وطبع خبر من الله بما فعل بهم.
وقيل : هو استفهام أي : أو طبع على قلوبهم ، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والضلال.
{ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعدّ الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } : لما ذكر أنّ أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد ، وفروا من القتال ، وذكر ما أثر ذلك فيهم من الطبع على قلوبهم ، ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد ، وذلك ما لهم من الثواب.
ولكن وضعها أنْ تقع بين متنافيين.
ولما تضمن قول المنافقين ذرنا ، واستئذانهم في القعود ، كان ذلك تصريحاً بانتفاء الجهاد.
فكأنه قيل : رضوا بكذا ولم يجاهدوا ، ولكنّ الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا.
والمعنى : إنْ تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية.
كقوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار } والخيرات : جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء ، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان.
وقال الشاعر :
ولقد طعنت مجامع الربلات . . .
ربلات هند خيرة الملكات
وقيل : المراد بالخيرات هنا الحور العين.
وقيل : المراد بها الغنائم من الأموال والذراري.
وقيل : أعدّ الله لهم جنات ، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم.
{ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } : ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الأعراب.
قرأ الجمهور : المعذرون بفتح العين وتشديد الذال ، فاحتمل وزنين : أحدهما : أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه : تكلف العذر ولا عذر له ، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له.
والثاني : أن يكون وزنه افتعل ، وأصله اعتذر كاختصم ، فأدغمت التاء في الذال.
ونقلت حركتها إلى العين ، فذهبت ألف الوصل.
ويؤيده قراءة سعيد بن جبير : المعتذرون بالتاء من اعتذر.
وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل.
الأخفش ، والفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزجاج ، وابن الأنباري.
وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، والأعرج ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، ويعقوب ، والكسائي ، في رواية المعذرون من أعذر.
وقرأ مسلمة : المعذرون بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر.
قال أبو حاتم : أراد المتعذرين ، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج ، وهي غلط منه أو عليه.
واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون؟ فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هو مؤمنون ، وأعذارهم صادقة.
وقال قتادة وفرقة : هم كافرون وأعذارهم كذب.
وكان ابن عباس يقول : رحم الله المعذرين ولعن المعذرين.
قيل : هم أسد وغطفان قالوا.
إن لنا عيالاً وأن بنا جهداً ، فأذن لهم في التخلف.
وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إنْ غزونا معك غارت إعراب طي على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : «سيغني الله عنكم» وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى.
قال ابن إسحاق : نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء ، وهذا يقتضي أنهم مؤمنون ، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس ، لأن التقسيم يقتضي ذلك.
ألا ترى إلى قوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص ، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم.
ويحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة ، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد ، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين.
ويكون الضمير في منهم عائداً على الأعراب ، أو يكون المعنى : سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي ، وفي الآخرة بالنار.
وقرأ الجمهور : كذبوا بالتخفيف أي : في إيمانهم فأظهروا ضد ما أخفوه.
وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه : ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله ، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم.
{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } : لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، ذكر حال من له عذر في تركه.
والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم ، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤولة ، بحيث لا يمكنه الجهاد.
والمريض من عرض له المرض ، أو كان زمِناً ويدخل فيه العمى والعرج.
والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء.
قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو ، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو ، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلاًّ عليهم ، كان له في ذلك ثواب جزيل.
فقد كان عمرو بنِ الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار ، وهو في أول الجيش ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله قد عذرك» فقال : والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة.
وكان ابن أم مكتوم أعمى ، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه ، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى ، فضربت فأمسكه بصدره.
وقرأ : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله ، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله من الغش ، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين ، داعية لهم بالنصر والتمكين.
ففي سنن أبي داود " لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا هم معكم فيه» قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال : «حبسهم العذر " وقرأ أبو حيوة : إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة ، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي : من لائمة تناط بهم أو عقوبة.
ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم ، وقيل : المحسنين هنا المعذورون الناصحون ، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس.
وإن المحسن هو المسلم ، لانتفاء جميع السبيل ، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل ، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة.
وقال الكرماني : المحسنين هم الذين أطاعوا الله ورسوله في أقوالهم وأفعالهم ، ثم أكد الرجاء فقال : والله غفور رحيم ، وقراءة ابن عباس : والله لأهل الإساءة غفور رحيم على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
قيل : وقوله : ما على المحسنين من سبيل ، فيه نوع من أنواع البديع يسمى : التمليح ، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثلٍ سائر ، أو شعرٍ نادر ، أو قصةٍ مشهورة ، أو ما يجري مجرى المثل.
ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه ، وهو يشرب الخمر :
اليوم خمر ويبدو في غد خبر . . .
والدهر من بين إنعام وإيئاس
{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } ، معطوف على ما قبله ، وهم مندرجون في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أفضى بهم الحال إلى المسألة ، والحاجة لبذل ماء وجوههم في طلب ما يحملهم إلى الجهاد ، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يفوتهم أجر الجهاد.
ويحتمل أنْ لا يندرجوا في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا المركوب ، وتكون النفقة عبارة عن الزاد لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاح وغير ذلك مما يحتاج إليه.
وهذه نزلت في العرباض بن سارية.
وقيل : في عبد الله بن مغفل.
وقيل : في عائذ بن عمرو.
وقيل : في أبي موسى الأشعري ورهطه.
وقيل : في تسعة نفر من بطون شتى فهم البكاؤون وهم : سالم بن عمير من بني عمرو من بني عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار ، وسلمان بن صخر من بني المعلى وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائذ بن عمرو المزني.
وقيل : عبد الله بن عمرو المزني.
وقال مجاهد : البكاؤون هم بنو بكر من مزينة.
وقال الجمهور : نزلت في بني مقرن ، وكانوا ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم.
ومعنى لتحملهم أي : على ظهر مركب ، ويحمل عليه أثاب المجاهد.
قال معناه : ابن عباس.
وقال أنس بن مالك : لتحملهم بالزاد.
وقال الحسن بن صالح : بالبغال.
وروي أنّ سبعة من قبائل شتى قالوا : يا رسول الله قد ندبتنا إلى الخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزُ معك فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه } فتولوا وهم يبكون.
وقرأ معقل بن هارون : لنحملهم بنون الجماعة ، وإذا تقتضي جواباً.
والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب ، ويكون قوله : تولوا جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول؟ قيل : تولوا وأعينهم تفيض.
وقيل : جواب إذا تولوا ، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف ، أي : إذا ما أتوك قائلاً لا أجد ، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله : حصرت صدورهم قاله الزمخشري.
أو على حذف حرف العطف أي : وقلت ، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره : فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فهل يجوز أن يكون قوله : قلت لا أجد استئنافاً مثله يعني : مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف؟ كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ قلت : لا أجد ما أحملهم عليه ، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض ( قلت ) : نعم ، ويحسن انتهى.
ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب ، فكيف في كلام الله وهو فهم أعجمي؟ وتقدم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب { لتجدن } من سورة المائدة.
وقال الزمخشري : هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض.
ومن للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى.
ولا يجوز ذلك لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن ، وأيضاً فإنه معرفة ، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة.
وانتصب حزناً على المفعول له ، والعامل فيه تفيض.
وقال أبو البقاء : أو مصدر في موضع الحال.
وأن لا يجدوا مفعول له أيضاً ، والناصب له حزناً ، قال أبو البقاء : ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى.
ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له والعامل فيه تفيض ، لأن العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل.
وقوله : أن لا يجدوا ما ينفقون فيه دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
الأعراب صيغة جمع ، وفرق بينه وبين العرب.
فالعربي من له نسب في العرب ، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ ، ما كان من العرب أو من مواليهم.
فالعربي من له نسب في العرب ، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ ، كان من العرب أو من مواليهم.
وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل : الأعرابي ، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع.
أجدر أحق وأحرى ، قال الليث : جدر جدارة فهو جدير وأجدر ، به يؤنث ويثنى ويجمع.
قال الشاعر :
نخيل عليها جنة عبقرية . . .
جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
أسس على وزن فعل مضعف العين ، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف ، ويقال فيه : أس.
والجرف : البئر التي لم تطو ، وقال أبو عبيدة : الهوة وما يجرفه السيل من الأودية.
هار : منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض ، وفعله هار يهور ويهار ويهير ، فعين هار يحتمل أن تكون واواً أو ياءً ، فاصله هاير أو هاور فقلبت ، وصنع به ما صنع بقاضٍ وغازٍ ، وصار منقوصاً مثل شاكي السلاح ولاث قال : لاث به الآشاء والعبريّ.
وقيل : هار محذوف العين لفرعله ، فتجري الراء بوجوه الإعراب.
وحكى الكسائي : تهور وتهير.
أواه كثير قول أوّه ، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع ووزنه فعال للمبالغة.
فقياس الفعل أن يكون ثلاثياً ، وقد حكاه قطرب : حكى آه يؤوه أوهاً كقال يقول قولاً ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا : ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي ، إنما يقال : أوّه تأويها وتأوّه تأوهاً.
قال الراجز : فأوه الداعي وضوضأ أكلبه.
وقال المثقب العبدي :
إذا ما قمت أرحلها بليل . . .
تأوه آهة الرجل الحزين
وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم النحو.
الظمأ : العطش الشديد ، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن ، ويمد فيقال ظماء.
الوادي : ما انخفض من الأصل مستطيلاً كمحاري السيول ونحوها ، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه ، قال تعالى : { فسالت أودية بقدرها } وقياسه فواعل ، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين.
قال النحاس : ولا أعرف فاعلاً أفعلة سواه ، وذكر غيره نادٍ وأندية قال الشاعر :
وفيهم مقامات حسان وجوههم . . .
وأندية ينتابها القول والفعل
والنادي : المجلس ، وحكى الفراء في جمعه أو داء ، كصاحب وأصحاب قال جرير :
عرفت ببرقة الأوداء رسما . . .
مجيلاً طال عهدك من رسوم
وقال الزمخشري : الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ، ومنه الودى.
وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول : لا تصل في وادي غيرك.
{ إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } : أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين ، فدل لأجل المقابلة أنّ هؤلاء مسيئون ، وأي إساءة أعظم من النفاق والتخلف عن الجهاد والرغبة بأنفسهم عن رسول الله ، وليست إنما للحصر ، إنما هي للمبالغة في التوكيد ، والمعنى : إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم ، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت :
هل من سبيل إلى خمر فاشربها . . .
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه ، ففرق بين لا سبيل لي على زيد ، ولا سبيل لي إلى زيد.
وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم : عبد الله بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وغيرهم.
ورضوا : استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد ، فقيل : رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف.
وعطف وطبع تنبيهاً على أنّ السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة ، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا.
{ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } : لن نؤمن لكم علة للنهي عن الاعتذار ، لأنّ عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كفَّ عنه.
قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء التصديق ، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد ، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم.
قال ابن عطية : والإشارة بقوله : قد نبأ الله من أخباركم إلى قوله : ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم ، ونحو هذا.
ونبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف ، نحو قوله : من أنبأك هذا؟ والثاني هو من أخباركم أي : جملة من أخباركم ، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم.
وقيل : نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة ، والثالث محذوف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي : من أخباركم كذباً أو نحوه.
وسيرى الله توعد أي : سيراه في حال وجوده ، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقال الزمخشري : وسيرى الله عملكم أتنيبون أم تثبتون على الكفر ، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها.
قال ابن عيسى : وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى ، ثم يجازى عليه.
وقيل : كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حباً وشفقة فقيل : وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما.
وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم ، لا تفاوت عنده في ذلك.
{ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فاعرضوا عنهم أي : فأجيبوهم إلى طلبتهم.
وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال : { رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } فمن كان رجساً لا تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس.
ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبيَّن العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار.
قال ابن عباس : فاعرضوا عنهم لا تكلموهم.
وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك قال : " لا تجالسوهم ولا تكلموهم "
قيل : إنّ هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن فخرجوا وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، " فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك؟ قال : لا أحفظ ، إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أنْ أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : «ما جاء بك»؟ فقال له : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح ، وأنا في الكن " فروي أنه ممن تاب.
قال ابن عطية : فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطاً.
وقوله : رجس أي نتن وقذر.
وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة.
ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله.
{ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، وحلف بن أبي سرح لنكونن معه على عدوه ، وطلب من الرسول أن يرضى عنه ، فنزلت ، وهنا حذف المحلوف به ، وفي قوله : { سيحلفون بالله } أثبت كقوله : { إذ أقسموا ليصرمنها } وقوله : { وأقسموا بالله } فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يميناً.
وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين عنهم لنفعهم في دنياهم ، لا أنّ مقصدهم وجه الله تعالى.
والمراد : هي أيمان كاذبة ، وأعذار مختلفة لا حقيقة لها.
وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض ، جاء الأمر بالإعراض نصاً ، لأنّ الإعراض من الأمور التي تظهر للناس ، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية ، لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى ، وخرج مخرج المتردّد فيه ، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم ، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع ، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم.
ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق ، وجاء اللفظ عامًّا ، فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل : فإنّ الله لا يرضى عنهم ، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول ، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.
{ الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألاَّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم } : نزلت في أعراب من أسد ، وتميم ، وغطفان.
ومن أعراب حاضري المدينة أي : أشد كفراً من أهل الحضر.
وإذا كان الكفر متعلقاً بالقلب فقط ، فالتقدير أشد أسباب كفر ، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة.
وكانوا أشد كفراً ونفاقاً لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم ، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط ، فنشأوا كما شاؤا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله ، ولبعدهم عن مهبط الوحي.
كانوا أطلق لساناً بالكفر والنفاق من منافقي المدينة ، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين ، فكان كفرهم سراً ولا يتظاهرون به إلا تعريضاً.
وأجدر أي : أحق أنْ لا يعلموا أي بأن لا يعلموا.
والحدود : هنا الفرائض.
وقيل : الوعيد عل مخالفة الرسول ، والتأخر عن الجهاد.
وقيل : مقادير التكاليف والأحكام.
وقال قتادة : أقل علماً بالسنن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الجفاء والقسوة في الفدادين » والله عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر ، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب.
{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم } : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات.
وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية.
وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعاً ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده.
فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم.
وقيل : المغرم الغرم والخسر ، وهو قول : ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله.
وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه.
والتربص : الانتظار.
والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة.
وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور الشرك.
وقال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها . . .
تطلق يوماً أو يموت حليلها
وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : عليهم دائرة السوء ، دعا معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء ، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته.
وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار.
وقيل : دعاء أي : قولوا عليهم دائرة السوء أي المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام.
وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها.
وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر : والسوء هنا.
وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر.
قال الفراء : سوأته سوأ ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان ، وفي ذلك الفساد.
ومنه { ما كان أبوك أمرأ سوء } أي أمرأً فاسداً.
وقال المبرد : لسوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم.
وقد حكي بالضم وقال الشاعر :
وكنت كذيب السوء لما رأى دما . . .
بصاحبه يوماً أحال على الدم
والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم.
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم } : نزلت في بني مقرن من مزينة قاله مجاهد.
وقال عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن : كنا عشرة ولد مقرن فنزلت : ومن الأعراب من يؤمن الآية يريد : الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم.
وقال الضحاك : في عبد الله ذي النجادين ورهطه.
وقال الكلبي : في أسلم وغفار وجهينة.
ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرماً ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنماً ، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة.
وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان ، وهو اتخاذه ما ينفق مغرماً وتربصه بالمؤمنين الدوائر.
والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة ، والمعنى : يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول ، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم :
« اللهم صل على آل أبي أوفى » وقال تعالى : { وصل عليهم } والظاهر عطف وصلوات على قربات.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفاً على ما ينفق ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة.
قال ابن عباس : صلوات الرسول هي استغفاره لهم.
وقال قتادة : أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جرياً على الحقيقة اللغوية ، أو لأنّ الدعاء فيها ، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال : « آجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهوراً » والضمير في أنها قيل : عائد على الصلوات.
وقيل : عائد على النفقات.
وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها ، والمعنى : قربة لهم عند الله.
وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه ، وهو ألا وحرف التوكيد وهو أنّ.
قال الزمخشري : وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى.
وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد.
وقرأ ورش : قربة بضم الراء ، وباقي السبعة بالسكون ، وهما لغتان.
ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم ، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع ، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعاً لما قبله ، كما قالوا : ظلمات في جمع ظلمة.
{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } : قال أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة : السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين.
وقال عطاء : من شهد بدراً قال : وحوّلت القبلة قبل بدر بشهرين.
وقال الشعبي : من أدرك بيعة الرضوان ، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين.
ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو عليّ ، أو زيد بن حارثة ، أو خديجة بنت خويلد ، فقوله بعيد من لفظ الجمع ، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم.
والظاهر أنّ السبق هو إلى الإسلام والإيمان.
وقال ابن بحر : هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار ، سبقوا إلى ثواب الله وحسن جزائه ، ومن المهاجرين والأنصار أي : ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولاً وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن.
قال ابن عطية : ولو قال قائل : إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة ، لكان قولاً يقتضيه اللفظ ، وتكون من لبيان الجنس.
والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون ، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان.
وقد لزم هذا الاسم الذي هو التابعون من رأى من رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عبد الله الرازي : الصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة والنصرة ، لأن في لفظ السابقين إجمالاً ، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهي الهجرة والنصرة ، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع ، فمن أقدم أولاً صار قدوة لغيره فيها ، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصاً.
ولما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين ، وما أعد لهم من النعيم ، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم ، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين ، هناك قال : { ألا إنها قربة لهم } وهنا { رضي الله عنهم } ، وهناك { سيدخلهم الله في رحمته } وهنا { وأعد لهم جنات تجري } ، وهناك ختم : { إن الله غفور رحيم } وهنا { ذلك الفوز العظيم }.
وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وقتادة ، وعيسى الكوفي ، وسلام ، وسعيد بن أبي سعيد ، وطلحة ، ويعقوب ، والأنصار : برفع الراء عطفاً على والسابقون ، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ.
وعلى قراءة الجمهور وهي الجر ، يكونون قسمين : سابق أول ، وغير أول.
ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم ، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار.
والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر ، وجوّزوا في الخبر أنْ يكون الأولون أي : هم الأولون من المهاجرين.
وجوّزوا في قوله : والسابقون ، أن يكون معطوفاً على قوله : من يؤمن أي : ومنهم السابقون.
وجوزوا في والأنصار أنْ يكون مبتدأ ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم ، وذلك على وجهين.
والسابقون وجه العطف ، ووجه أنْ لا يكون الخبر رضي الله ، وهذه أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن.
وقرأ ابن كثير : من تحتها بإثبات من الجارة ، وهي ثابتة في مصاحف مكة.
وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم.
وعن عمر أنه كان يرى : والذين اتبعوهم بإحسان ، بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد بن ثابت : إنها بالواو فقال : ائتوني بأبيّ فقال : تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } وأوسط الحشر : { والذين جاءُوا من بعدهم } وآخر الأنفال : { والذين آمنوا من بعد } وروي أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو فقال : من أقرأك؟ فقال : أُبيّ فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا وقعنا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا.
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } : لما شرح أحوال منافقي المدينة ، ثم أحوال منافقي الأعراب ، ثم بين أنّ في الأعراب ، من هو مخلص صالح ، ثم بين رؤساء المؤمنين من هم ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الإعراب ، وفي المدينة لا تعلمونهم أي : لا تعلمون أعيانهم ، أو لا تعلمونهم منافقين.
ومعنى حولكم : حول بلدتكم وهي المدينة.
والذين كانوا حول المدينة جهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، ومزينة ، وعصية ، ولحيان ، وغيرهم ممن جاوز المدينة.
ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات ، فيكون معطوفاً على من في قوله : وممن ، فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون ، ويكون مردوا استئنافاً ، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق.
ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون ، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم ، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل ، وقد أجازه الزمخشري تابعاً للزجاج.
ويجوز أن يكون من عطف الجمل ، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا ، أو منافقون مردوا.
قال الزمخشري : كقوله : أنا ابن جلا. انتهى.
فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف ، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن ، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه ، وهي في تقدير الاسم ، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم : منا ظعن ومنا أقام.
وأما أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله :
يرمي بكفي كان من أرمى البشر . . .
أي بكفي رجل.
وكذلك أنا ابن جلا تقديره : أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور.
وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملاً للنوعين ، وعلى الوجه الثاني يكون مختصاً بأهل المدينة.
وتقدم شرح مردوا في قوله : { شيطاناً مريداً لعنه الله } وقال هنا ابن عباس : مردوا ، مرنوا وثبتوا ، وقال أبو عبيدة : عتوا من قولهم تمرد.
وقال ابن زيد : أقاموا عليه لم يتوبوا لا تعلمهم أي : حتى نعلمك بهم ، أو لا تعلم عواقب أمرهم ، حكاه ابن الجوزي.
أو لا تعلمهم منافقين ، لأن النفاق مختص بالقلب.
وتقدم لفظ منافقين فدل على المحذوف ، فتعدت إلى اثنين قاله : الكرماني.
وقال الزمخشري : يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم.
وأسند الطبري عن قتادة في قوله : لا تعلمهم نحن نعلمهم قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؟ فلان في الجنة ، فلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الرسل.
قال نبي الله نوح : { وما علمي بما كانوا يعملون } وقال نبي الله شعيب : { بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ } وقال الله تعالى لنبيه : { لا تعلمهم نحن نعلمهم } انتهى.
فلو عاش قتادة إلى هذا العصر الذي هو قرن ثمانمائة وسمع ما أحدث هؤلاء المنسوبون إلى الصوف من الدعاوى والكلام المبهرج الذي لا يرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتجري على الإخبار الكاذب عن المغيبات ، لقضى من ذلك العجب.
وما كنت أظن أنّ مثل ما حكى قتادة يقع في ذلك الزمان لقربه من الصحابة وكثرة الخير ، لكن شياطين الإنس يبعد أن يخلو منهم زمان.
نحن نعلمهم.
قال الزمخشري : نطلع على سرهم ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروبه ، ولهم فيه اليد الطولى انتهى.
وفي قوله : نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله : سنعذبهم مرتين.
والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد ، بل يكون المعنى على التكثير كقوله : { ثم ارجع البصر كرتين } أي كرة بعد كرة.
كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة.
وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذاب القبر ، وأما المرة الأولى فقال ابن عباس في الأشهر عنه : هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق.
وروي في هذا التأويل أنه عليه السلام خطب يوم جمعة بدر فندر بالمنافقين وصرح وقال : « اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق ، واخرج أنت يا فلان ، واخرج أنت يا فلان » حتى أخرج جماعة منهم ، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا ، وأن الجمعة فاتته ، فاختفى منهم حياء ، ثم وصل المسجد فرأى أنّ الصلاة لم تقض وفهم الأمر.
قال ابن عطية : وفعله صلى الله عليه وسلم على جهة التأديب اجتهاد منه فيهم ، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام ، وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون ، ولا عذاب أعظم من هذا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين ، فهذا أيضاً من العذاب انتهى.
ويبعد ما قال ابن عطية لأنه نص على نفاق من أخرج بعينه ، فليس من باب إخراج العصاة.
بل هؤلاء كفار عنده وإنْ أظهروا الإسلام.
وقال قتادة وغيره : العذاب الأول علل وأدواء أخبر الله نبيه أنه سيصيبهم بها ، وروي أنه أسرّ إلى حذيفة باثني عشر منهم وقال : « سنة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتاً » وقال مجاهد : هو عذابهم بالقتل والجوع.
قيل : وهذا بعيد ، لأن منهم من لم يصبه هذا.
وقال ابن عباس أيضاً : هو هو أنهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه.
وقال ابن إسحاق : هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته.
وقيل : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم.
وقال الحسن : الأول ما يؤخذ من أموالهم قهراً ، والثاني الجهاد الذي يؤمرون به قسراً لأنهم يرون ذلك عذاباً.
وقال ابن زيد : مرتين هما عذاب الدنيا بالأموال والأولاد كل صنف عذاب فهو مرتان ، وقرأ { فلا تعجبك } الآية.
وقيل : إحراق مسجد الضرار ، والآخر إحراقهم بنار جهنم.
ولا خلاف أن قوله : إن عذاب عظيم هو عذاب الآخرة وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء ، وسكن عياش عن أبي عمر والياء.
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } : نزلت في عشرة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك فلما دنا الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة أوثق سبعة منهم.
وقيل : كانوا ثمانية منهم : كردم ، ومرداس ، وأبو قيس ، وأبو لبابة.
وقيل : سبعة.
وقيل : ستة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فيهم أبو لبابة.
وقيل : كانوا خمسة.
وقيل : ثلاثة أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري.
وقيل : نزلت في أبي لبابة وحده.
ويبعد ذلك من لفظ وآخرون ، لأنه جمع ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد حين قدم فصلى فيه ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر ، فرآهم موثقين فسأل عنهم : فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم ، رغبوا عني ، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين » فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم.
وقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم الله ورسوله ، فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم ، وربط نفسه في سارية في المسجد ، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت ، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه.
والاعتراف : الإقرار بالذنب عملاً صالحاً توبة وندماً ، وآخر سيئاً.
أي تخلفاً عن هذه الغزاة قاله : الطبري ، أو خروجاً إلى الجهاد قبل.
وتخلفاً عن هذه قاله : الحسن وغيره.
أو توبة وإثماً قاله : الكلبي.
وعطف أحدهما على الآخر دليل على أنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن ، فليس فيه إلا أنّ الماء خلط باللبن ، قال معناه الزمخشري : ومتى خلطت شيئاً بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به ، من حيث مدلولية الخلط ، لأنها أمر نسبي.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاء شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم.
والاعتراف بالذنب دليل على التوبة ، فلذلك قيل : عسى الله أن يتوب عليهم.
قال ابن عباس : عسى من الله واجب انتهى.
وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل ، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق ، فأبرزت التوبة في صورته ، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة وذلك ، صفة الغفران والرحمة.
وهذه الآية وإن نزلت في ناس.
مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة.
وقال أبو عثمان : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم.
وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي : أنّ الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وتابوا رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم حول إبراهيم ، وفي ألوانهم شيء ، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة ، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه.
{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم } : الخطاب للرسول ، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً » فنزلت.
فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله : خذ من أموالهم.
والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره : أنها في هؤلاء المتخلفين ، وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة.
فقوله : على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال ، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب.
وفي المأخوذ منهم كالعبيد ، وصدقة مطلق ، فتصدق بأدنى شيء.
وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد.
وفي قوله : خذ ، دليل على أنّ الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها.
ومن أموالهم : متعلق بخذ وتطهرهم ، وتزكيهم حال من ضمير خذ ، فالفاعل ضمير خذ.
وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالاً ، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة ، وأن يكون استئنافاً ، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة ، ويبعد هذا العطف ، وتزكيهم فيختلف الضمير أن ، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ ، فقدر ردّ بأنّ الواو للعطف ، فيكون التقدير : صدقة مطهرة ومزكياً بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو كان بغير واو جاز انتهى.
ويصح على تقدير مبتدأ محذوف ، والواو للحال أي : وأنت تزكيهم ، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب.
والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال.
وقرأ الحسن : تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر.
وصلِّ عليهم أي ادع لهم ، أو استغفر لهم ، أو صل عليهم إذا ماتوا ، أقوال.
ومعنى سكن : طمأنينة لهم ، إنّ الله قبل صدقتهم مقاله : ابن عباس.
أو رحمة لهم قاله أيضاً ، أو قربة قاله أيضاً ، أو زيادة وقار لهم قاله : قتادة ، أو تثبيت لقلوبهم قاله : أبو عبيدة ، أو أمن لهم.
قال :
يا جارة الحي إن لا كنت لي سكناً . . .
إذ ليس بعض من الجيران أسكنني
وهذه أقوال متقاربة.
وقال أبو عبد الله الرازي : إنما كانت صلاته سكناً لهم لأنّ روحه صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية مشرقة صافية ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت سرائرهم ، وانقلبوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية.
قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير : كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أنَّ قوى الأنفس مؤثرة فعالة ، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى.
وقال الحسن وقتادة : في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خُلفوا.
وقرأ الأخوان وحفص : إن صلاتك هنا ، وفي هود صلاتك بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع.
والله سميع باعترافهم ، عليم بندامتهم وتوبتهم.
{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم } : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فنزلت.
وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه : ألم تعلموا بالتاء على الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا : ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى : قل لهم يا محمد ، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول ، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء.
وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب ، فكأنه قيل : أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله؟ وقيل : وجه التخصيص بهو ، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره ، فاقصدوه ووجهوها إليه.
قال الزجاج : وأخذ الصدقات معناه قبولها ، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل ، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة ، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل.
وقال ابن عطية : المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول : أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه.
وعن بمعنى مِن ، وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه ، وهذه تقول : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره ، وعن أسره ونظره انتهى.
وقيل : كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان ، إلا أنّ عن تفيد البعد.
فإذا قيل : جلس عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب ، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب ، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته.
فلفظة عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى.
والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة.
فإن قلت : أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك ، وإذا قلت : من زيد دل على ابتداء الغاية ، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد.
وعن أبلغ لظهور الانتقال معه ، ولا يظهر مع من.
وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله ، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم.
ألا ترى إلى قوله : وأن الله هو التواب الرحيم ، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة.
ألا ترى إلى ما روي : « ومَن تقرب إليّ شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة »
{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } : صيغة أمر ضمنها الوعيد ، والمعتذرون التائبون من المتخلفين ، هم المخاطبون.
وقيل : هم المعتذرون الذين لم يتوبوا.
وقيل : المؤمنون والمنافقون.
فسيرى الله إلى آخرها تقدم شرح نظيره.
وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر ، فقد أبرزوا بقوله : فسيرى الله عملكم ، إبراز المنافقين الذين قيل لهم : { لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم } وسيرى الآية تنقيصاً من حالهم وتنفيراً عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول ، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه.
{ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم } : قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق : نزلت في الثلاثة الذين خُلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع العامري ، وكعب بن مالك.
وقيل : نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار.
وقرأ الحسن ، وطلحة ، وأبو جعفر ، وابن نصاح ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : مرجون وترجي بغير همز.
وقرأ باقي السبعة : بالهمز ، وهما لغتان ، لأمر الله أي الحكمة ، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا ، وإما يتوب عليهم إن تابوا.
وقال الحسن : هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضرته.
وقال الأصم : يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بما علم منهم ، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا.
وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء ، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره ، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك.
والله عليم بما يؤول إليه أمرهم ، حكيم فيما يفعله بهم.
{ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالاً وأفعالاً ذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعاً للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر ، وسموه مسجداً.
ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء وصلى فيه ودعا لهم ، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف ، وبنو سالم بن عوف ، وحرضهم أبو عمرو الفاسق على بنائه حين نزل الشام هارباً من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال : ابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه ، فبنوه إلى مسجد قباء ، وكانوا اثنى عشر رجلاً من المنافقين : خذام بن خالد.
ومن داره أخرج المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحرث ، وعباد بن حنيف ، ونجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وأبو حنيفة الأزهر ، وبخرج بن عمرو ، ورجل من بني ضبيعة ، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجد لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم : « إني على جناح سفر وحال وشغل ، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه » وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاماً قارئاً للقرآن حسن الصوت ، وهو ممن حسن إسلامه ، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة ، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذي أوانٍ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا مالك بن الدخشم ومعناً وعاصماً ابني عدي.
وقيل : بعث عمار بن ياسر ووحشياً قاتل حمزة بهدمه وتحريقه ، فهدم وحرق بنار في سعف ، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة.
وقال ابن جريج : صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق.
وقرأ أهل المدينة : نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وغيرهم ، وابن عامر : الذين بغير واو ، كذا هي في مصاحف المدينة والشام ، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله : وآخرون مرجون ، وأن يكون خبر ابتداء تقديره : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ.
وقال الكسائي : الخبر لا تقم فيه أبداً.
قال ابن عطية : ويتجه بإضمار إما في أول الآية ، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم.
وقال النحاس والحوفي : الخبر لا يزال بنيانهم.
وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه.
وقرأ جمهور القراء : والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي : ومنهم الذين اتخذوا ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ ( قلت ) : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } وقيل : هو مبتدأ وخبره محذوف ، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى :
{ والسارق والسارقة } وانتصب ضراراً على أنه مفعول من أجله أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، ومعازّة وكفراً وتقوية للنفاق ، وتفريقاً بين المؤمنين ، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلف كلمتهم ، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه ، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان.
ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موضع الحال.
وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياً لاتخذوا ، وإرصاداً أي : إعداداً لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وكان سيداً في قومه نظيراً وقريباً من عبد الله بن أبي بن سلول ، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد محاورة : « لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم » فلم يزل يقاتله وحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام بمكة مظهراً للعداوة ، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصراً على الرسول ، فمات وحيداً طريداً غريباً بقنسرين ، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمّن الرسول ، فكان كما دعا ، وفيه يقول كعب بن مالك :
معاذ الله من فعل خبيث . . .
كسعيك في العشيرة عبد عمرو
وقلت بأن لي شرفاً وذكراً . . .
فقد تابعت إيماناً بكفر
وقرأ الأعمش : وإرصاداً للذين حاربوا الله ورسوله ، والظاهر أنّ من قبل متعلقاً بحارب ، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد.
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتصل قوله تعالى : من قبل؟ ( قلت ) : باتخذوا أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى.
وليس بظاهر ، والخالف هو بخرج أي : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء.
قال الزمخشري : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلين انتهى.
كأنه في قوله : إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولاً ، وفي قوله : أو لإرادة الحسنى جعله علة ، وكأنه ضمن أراد معنى قصد أي : ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة ، وهذا وجه متكلف ، فأكذبهم الله في قولهم ، ونهاه أن يقوم فيه فقال : لا تقم فيه أبداً نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول ، فهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت : لا تقم فيه أبداً ، وعبَّر بالقيام عن الصلاة فيه.
قال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المؤسس على التقوى مسجد قباء ، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي : يوم الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى لأنّ الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار ، وذلك لائق بالقصة.
وعن زيد بن ثابت ، وأبي سعيد ، وابن عمر : أنه مسجد الرسول.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " هو مسجدي هذا " لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى.
وإذا صحّ هذا النقل لم يمكن خلافه ، ومن هنا دخلت على الزمان ، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان ، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان ، وتحقيق ذلك في علم النحو.
قال ابن عطية : ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير ، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى.
وأحق بمعنى حقيق ، وليست أفعل تفضيل ، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق ، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقرأ عبد الله بن يزيد : فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين ، والأصل الضم ، وفيه رفع توهم التوكيد ، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع.
وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد ، والحال ، والاستئناف.
وفي الحديث قال لهم : " يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون»؟ قالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك ، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال : «فلا تدعوه إذاً " وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف.
وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء أيهما أفضل؟ ورأت فرقة الجمع بينهما ، وشذ ابن حبيب فقال : لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء ، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء.
وقيل : هو عام في النجاسات كلها.
وقال الحسن : من التطهير من الذنوب بالتوبة.
وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب ، فحموا عن آخرهم.
وفي دلائل النبوة للبيهقي.
" أن أهل قباء شكوا الحمى فقال «إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم ، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة» فقالوا : بل اجعلها لنا طهرة.
" ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء ، ومحبة الله إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه.
وقرأ ابن مصرف والأعمش : يطهروا بالإدغام ، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين.
{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } : قرأ نافع وابن عامر : أسس بنيانه مبنياً للمفعول في الموضعين.
وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنياً للفاعل ، وبنصب بنيان.
وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول ، والثانية على بنائه للفاعل.
وقرأ نصر بن علي ، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه ، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضاً ، أساس جمع أسّ.
وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة.
وقرىء إساس بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى البنيان.
وقرىء أساس بفتح الهمزة ، وأُس بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان ، فهذه تسع قراءات.
وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم : أفمن أسس بالتخفيف والرفع ، بنيانه بالجرّ على الإضافة ، فأسس مصدر أس : الحائط يؤسة أساً وأسساً.
وعن نصر أيضاً أساس بنيانه كذلك ، إلا أنه بالألف ، وأسّ وأسس وأساس كلّ مصادر انتهى.
والبنيان مصدر كالغفران ، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق.
وقيل : هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر :
كبنيانة القاريّ موضع رحلها . . .
وآثار نسعيها من الدفّ أبلق
وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين ، وحكى هذه القراءة سيبويه ، وردها الناس.
قال ابن جني : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي.
وقرأ جماعة منهم : حمزة ، وابن عامر ، وأبو بكر ، جرف بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان.
وقيل : الأصل الضم.
وفي مصحف أُبي فانهارت به قواعده في نار جهنم ، والظاهر أنّ هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء ، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين.
وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين.
وروى سعيد بن جبير : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان.
وقيل : هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أنّ بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم.
قال ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأنّ ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله : قتادة ، وابن جريج.
وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل.
وقال الزمخشري : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خيرٌ ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازاً عن ما ينافي التقوى.
( فإن قلت ) : فما معنى قوله تعالى : فانهار به في نار جهنم؟ ( قلت ) : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أنّ الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل.
وكنه أمره والفاعل فانهار أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي : بالبنيان.
ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره.
والله لا يهدي القوم الظالمين ، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته ، فبنوه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله.
{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم } : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبني ، فيكون على حذف مضاف أي : لا يزال بناء المبنى.
قال ابن عباس : لا يزالون شاكين.
وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظاً في قلوبهم ، أي سبب غيظ.
وقيل : كفراً في قلوبهم.
وقال عطاء : نفاقاً في قلوبهم.
وقال ابن جبير : أسفاً وندامة.
وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه.
وقال قتادة : في الكلام حذف تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم.
وقال ابن عطية : الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه.
والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك.
ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام.
فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء.
وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر.
وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية؟ قال : لا ، ولكنها حزازة.
قال ابن عطية : ومجمع رحمه الله ، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوء.
والآية إنما عنت من أبطن سوءاً.
وليس مجمع منهم.
ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم.
وجملة هذا أنّ الريبة في الآية نعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق.
وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سبباً لها ، وكونه سبباً لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بعضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلاً ونهباً ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية؟ انتهى ، وفيه تلخيص.
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنياً للمفعول.
وقرىء يقطع بالتخفيف.
وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : إلى أن نقطع ، وأبو حيوة إلى أن تُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة.
وفي مصحف عبد الله : ولو قطعت قلوبهم ، وكذلك قرأها أصحابه.
وحكى أبو عمرو هذه القراءة : إن قطعت بتخفيف الطاء.
وقرأ طلحة : ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل مخاطب.
وفي مصحف أبي : حتى الممات ، وفيه حتى تقطع.
فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل.
وأما على من قرأه مبنياً للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت أي : إلى أن يموتوا.
وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور.
وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه.
قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحاً يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هماً.
وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة فالريبة قائمة فيها متمكنة.
ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار.
وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم.
والله عليم بأحوالهم ، حكيم فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم.
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } :
نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو.
وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا : ما لنا على ذلك؟ قال : الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع ، لا تقيل ولا نقائل.
وفي بعض الروايات : ولا نستقيل ، فنزلت.
والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وعن جابر بن عبد الله : " نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فكبر الناس ، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ركابه على أحد عاتقيه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال : «نعم» فقال : بيع ربح لا تقيل ولا نستقيل " وفي بعض الروايات : فخرج إلى الغزو فاستشهد.
وقال الحسن : لا والله إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته.
وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش : وأموالهم بالجنة ، مثّل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ، وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد.
وفي لفظة اشترى لطيفة وهي : رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به ، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا ، والظاهر أنّ هذا الشراء هو مع المجاهدين.
وقال ابن عيينة : اشترى منهم أنفسهم أن لا يعملوها إلا في طاعة ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله ، فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله.
وعلى هذا القول يكون يقاتلون مستأنفاً ، ذكر أعظم أحوالهم ، ونبه على أشرف مقامهم.
وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون ، في موضع الحال.
وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والعربيان ، والحرميان ، وعاصم : أولاً على البناء للفاعل ، وثانياً على البناء للمفعول.
وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك ، والمعنى واحد ، إذ الغرض أنّ المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل ، وفيهم من يقتل ، وفيهم من يجتمع له الأمران ، وفيهم من لا يقع له واحد منهما ، بل تحصل منهم المقاتلة.
وقال الزمخشري : يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى : { تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } انتهى.
فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال ، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً.
وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، لأنّ معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله ، والظاهر من قوله : في التوراة والإنجيل والقرآن ، أنّ كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة ، فيكون في التوراة متعلقاً بقوله : اشترى.
ويحتمل أن يكون متعلقاً بتقدير قوله مذكوراً ، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي : وعداً عليه حقاً مذكوراً في التوراة ، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن.
وقيل : الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع ، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي : لا أحد ، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقاً أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد ، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه ، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به ، إذ هو آكد من الوعد.
قال الزمخشري : ومن أوفى بعهده من الله ، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط؟ ولا ترى ترى غيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال ، واستعمال قط في غير موضوعة ، لأنه أتى به مع قوله : لا يجوز عليه قبيح قط.
وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي.
ثم قال : فاستبشروا ، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم ، وهي حكمة الالتفات هنا.
وليست استفعل هنا للطلب ، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد.
والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد ، ومحيل على البيع السابق.
ثم قال : وذلك هو الفوز العظيم أي : الظفر للحصول على الربح التام ، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.
{ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } : قال ابن عباس : لما نزل إنّ الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل : يا رسول الله وإن زنا ، وإن سرق ، وإن شرب الخمر : فنزلت التائبون الآية.
وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده ، وليكونوا على أوفى درجات الكمال.
وآية أنّ الله اشترى مستقلة بنفسها ، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان ، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وإن لم تكن فيه هذه الصفات.
والشهادة ماحية لكل ذنب ، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه.
وقالت فرقة : هذه الصفات شرط في المجاهد.
والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله.
وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى : { إن الله اشترى } الآية وقال : لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق ، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون ، فقيل : هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر أي : التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال.
وقيل : خبره الآمرون.
وقيل : خبره محذوف بعد تمام الأوصاف ، وتقديره : من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى : { وكلاًّ وعد الله الحسنى } ولذلك جاء : { وبشر المؤمنين } وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها.
وقيل : التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون ، أي الذين بايعوا الله هم التائبون ، فيكون صفة مقطوعة للمدح ، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش : التايبين بالياء إلى والحافظين نصباً على المدح.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين ، وقاله أيضاً : ابن عطية.
وقيل : يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضمير في يقاتلون.
قال ابن عباس : التائبون من الشرك.
وقال الحسن : من الشرك والنفاق.
وقيل : عن كل معصية.
وعن ابن عباس : العابدون بالصلاة.
وعنه أيضاً المطيعون بالعبادة ، وعن الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء.
وعن ابن جبير : الموحدون السائحون.
قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض ، لامتناعهم من شهواتهم.
وعن عائشة : سياحة هذه الأمة الصيام ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الأزهري : قيل : للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه ، كان ممسكاً عن الأكل ، والصائم ممسك عن الأكل.
وقال عطاء : السائحون المجاهدون.
وعن أبي أمامة : أنّ رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : « إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » صححه أبو محمد عبد الحق.
وقيل : المراد السياحة في الأرض.
فقيل : هم المهاجرون من مكة إلى المدينة.
وقيل : المسافرون لطلب الحديث والعلم.
وقيل : المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله ، وغرائب ملكه نظر اعتبار.
وقيل : الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته.
والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها ، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف.
ولما كان الأمر مبايناً للنهي ، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل ، حسن العطف في قوله : والناهون ودعوى الزيادة ، أو واو الثمانية ضعيف.
وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن ، إذا بدأ أولاً بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى ، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله.
ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين.
وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار ، فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار ، وأمر رسوله أن يبشرهم.
{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } : قال الجمهور : ومداره على ابن المسيب ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال : « أي عمّ قل لا إله إلا لله كلمة أحاج لك بها عند الله »
وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب : يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ، ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات فنزلت : { إنك لا تهدي من أحببت } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية ، فترك الاستغفار لأبي طالب.
وروي أن المؤمنين لما رأوه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك ذكروا في قوله : «ما كان للنبي والذين آمنوا».
وقال فضيل بن عطية وغيره : لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له ، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها ، ونزلت الآية وقالت فرقة : نزلت بسبب قوله صلى الله عليه وسلم : " والله لأزيدن على السبعين " وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه.
وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا ، ولو في حال كونهم أولي قربى.
فقوله : ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة ، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها.
ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب ، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان ، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله.
ومعنى من بعد ما تبين أي : وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك ، والتبين هو بإخبار الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } والظاهر أنّ الاستغفار هنا هو طلب المغفرة ، وبه تظافرت أسباب النزول.
وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة.
قالوا : والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ، ومن هذا قول أبي هريرة : رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له : ولأبيه؟ قال : لا لأنْ أبي مات كافراً ، فإن ورد نص من الله على أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له ، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم تمويه على الشرك وبنص الله عليه وهي حي ، أنه من أهل النار.
ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء ، لأنه يرجى إسلامهم ما " حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن نبي قبله شجه قومه ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "
ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به ، ولذلك قال جماعة من المؤمنين : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه ، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه ، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه ابراهيم.
والموعدة التي وعدها ابراهيم أباه هي قوله : { سأستغفر لك ربي } وقوله : { لأستغفرن لك } والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم ، وكان أبوه بقيد الحياة ، فكان يرجو إيمانه ، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدوّ لله وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه منه ، تبرأ منه وقطع استغفاره.
ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم : قراءة الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميفع ، وأبي نهيك ، ومعاذ القارىء ، وعدها أباه.
وقيل : لفاعل ضمير والد إبراهيم ، وإياه ضمير إبراهيم ، وعده أبوه أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه ، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.
وقرأ طلحة : وما استغفر إبراهيم ، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال.
والذي يظهر أنّ استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا.
ألا ترى إلى قوله : { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } وقوله : { رب اغفر لي ولوالدي } ويضعف ما قاله ابن جبير : من أن هذا كله يوم القيامة ، وذلك أنّ ابراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله : سأستغفر لك ربي ، فقول له : إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء ، فيدعه حتى يأتي الصراط ، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً ، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جبير ، ولا يظهر ربطه بالآخرة.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : خفي على إبراهيم عليه السلام أنّ الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده.
( قلت ) : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أنّ امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر.
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " وعن الحسن " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ فلاناً يستغفر لآبائه المشركين فقال : «ونحن نستغفر لهم " وعن علي رضي الله عنه : رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له : فقال : أليس قد استغفر إبراهيم انتهى؟ وقوله : لأنّ العقل يجوز أن يغفر الله للكافر رجوع إلى قول أهل السنة.
والأوّاه : الدعاء ، أو المؤمن ، أو الفقيه ، أو الرحيم ، أو المؤمن التواب ، أو المسبّح ، أو الكثير الذكر له ، أو التلاء لكتاب الله ، أو القائل من خوف الله ، أواه المكثر ذلك ، أو الجامع المتضرع ، أو المؤمن بالحبشية ، أو المعلم للخير ، أو الموفى ، أو المستغفر عند ذكر الخطايا ، أو الشفيق ، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله ، أقوال للسلف ، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات.
وقال الزمخشري : أوّاه فقال : من أوّه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه.
وقوله : لأرجمنك انتهى.
وتشبيه أوّاه من أوّه بلال من اللؤلؤ ليس بجيد ، لأنّ مادة أوّه موجودة في صورة أوّاه ، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب ، إذ لأل ثلاثي ، ولؤلؤ رباعي ، وشرط الاشتقاق التوفق في الحروف الأصلية.
وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب الصابر على الأذى ، وبالصبور ، وبالعاقل ، وبالسيد ، وبالرقيق القلب الشديد العطف.
{ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم.
إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } : مات قوم كان عملهم على الأمر الأول : كاستقبال بيت المقدس ، وشرب الخمر ، فسأل قوم الرسول بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك فنزلت.
وقال الكرماني : أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس ، وصيام الأيام البيض ، ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان ، فقالوا : يا رسول الله دنا بعدك بالضلال ، إنك على أمرٍ وأنا على غيره فنزلت.
وقيل : خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من الله فنزلت الآية مؤنسة أي : ما كان الله بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمقارفتهم ذنباً لم يتقدم منه نهي عنه.
فأما إذ بين لهم ما يتقون من الأمر ، ويتجنبون من الأشياء ، فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة.
وقال الزمخشري : يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه ، وبين أنه محظور ، ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب ، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم.
وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي في هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها ، وهي أنّ المهدى للإسلام إذا أقبل على بعض محظورات الله داخل في حكم الضلال ، والمراد بما بتقون ما يجب اتقاؤه للنهي.
فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف انتهى.
وفي هذا الأخير من كلامه وفي قوله : قبل في تفسير ليضل ولا يسميهم ضلالاً ولا يخذلهم دسيسة الاعتزال ، وفي كلامه إسهاب ، وهو بسط ما قال مجاهد ، قال : ما كان ليضلكم بالاستغفار للمشركين بعد إذ هداكم للإيمان حتى يتقدم بالنهي عن ذلك ، ويبينه لكم فتتقوه انتهى.
وتقدم في أسباب النزول ما يشرح به الآية من سؤالهم عمن مات ، وقد صلى إلى بيت المقدس ، وشرب الخمر ، ومن قصة الأعراب.
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها : أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم ، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات ، ومنع ابراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه ، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء ، فكأنه قيل : لا تعجب لتباين هؤلاء ، هذا خليل الله ، وهذا حبيب الله ، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله ، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها ، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي ، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى ، ولذلك ختمها بقوله : إن الله بكل شيء عليم ، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء.
فالمعنى : وما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي : يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم ، فحنيئذ يدوم إضلالهم.
ولما ذكر تعالى علمه بكل شيء ، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد ، وما هيىء له في سابق الأزل ، ذكر ما دل على القدرة الباهرة من أنه له ملك السموات والأرض ، فيتصرف في عباده بما شاء ، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الأحياء والإماتة أي : الإيجاد والإعدام.
وتفسير الطبري هنا قوله : يحيي ويميت ، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإن كثر ، ولا يهابوا أحداً فإنّ الموت المخوف ، والحياة المحتومة إنما هي بيد الله ، غير مناسب هنا وإن كان في نفسه قولاً صحيحاً.
وتقدم شرح قوله : { وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير } في البقرة.
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } : لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك ، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم ، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار ، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم ، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم ، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك ، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها ، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه.
قال ابن عطية : التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه ، وقد يكون في الأكثر رجوعاً عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وقد يكون رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها.
وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها ، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها.
وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأنْ تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا.
وقال الزمخشري : تاب الله على النبي كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر } { واستغفر لذنبك } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى ، وأنّ صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح.
وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } انتهى.
وقيل : لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في قبول التوبة.
اتبعوه : أي اتبعوا أمره ، فهو من مجاز الحذف.
ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج ، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي : في وقت العسرة ، والتباعة مستعارة للزمان المطلق ، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم.
قال :
غداة طفت علماء بكر بن وائل . . .
عشية قارعنا جذام وحِميرا
وآخر :
إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى . . .
وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة ، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة ، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة ، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة ، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة.
والعسرة : الضيق والشدة والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من جهز جيش العسرة فله الجنة » فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال :
« وما على عثمان ما عمل بعد هذا » وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر.
وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر ، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين ، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ، ثم يفعل بها كلهم ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو ، فما رجعها حتى انسكبت سحابة ، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر.
وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل ، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير ، فدعا فيه بالبركة ثم قال : « خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء » وأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، وفضلت فضلة.
وكان الجيش ثلاثين ألفاً وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ، وفيها خلف علياً بالمدينة.
وقال المنافقون خلفه بغضاً له ، فأخبره بقولهم فقال : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى » ؟ ووصل صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلاد العدو ، وبث السرايا ، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف.
{ تزيغ قلوب فريق } قال الحسن : همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة.
وقيل : زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة ، لما رأته من شدّة العسرة وقلة الوفر ، وبعد الشقة ، وقوة العدو المقصود.
وقال ابن عباس : تزيغ ، تعدل عن الحق في المبايعة.
وكاد تدل على القرب ، لا على التلبس بالزيغ.
وقرأ حمزة وحفص : يزيغ بالياء ، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر ، لأنّ النية به التأخير.
ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء.
وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ، وتزيغ الخبر وسط بينهما ، كما فعل ذلك بكان.
قال أبو علي : ولا يجوز ذلك في عسى ، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار ، أي من بعد ما كاد هو أي : الجمع.
وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء ، كأنه قال : من بعد ما كاد القوم.
وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو : من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها.
فبعضهم أطلق ، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة ، ولا يكون سبباً ، وذلك بخلاف كان.
فإنّ خبرها يرفع الضمير ، والسبي لاسم كاد ، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كاد بل ولا سبباً له ، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً.
وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان : يقوم زيد ، وفيه خلاف ، والصحيح المنع.
وأما توجيه الآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر كاد واقعاً سببياً ، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة ، ومعناها مراد ، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل كان إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها.
ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : من بعد ما زاغت ، بإسقاط كاد.
وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى : { لم يكد يراها } مع تأثيرها للعامل ، وعملها هي.
فأحرى أن يدعي زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة.
وقرأ الأعمش والجحدري : تزيغ برفع التاء.
وقرأ أبي : من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم ، الضمير في عليهم عائد على الأولين ، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً.
أو يراد بالأول إنشاء التوبة ، وبالثاني استدامتها.
أو لأنه لما ذكر أنّ فريقاً منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانياً رفعاً لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة ، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم.
والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم ، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله : قتادة.
أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه ، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوماً ثم قبل توبتهم.
وقد ردّ تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال : معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر ، وليس بتخلفنا عن الغزو.
وقرأ الجمهور : خلفوا بتشديد اللام مبنياً للمفعول.
وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام.
وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي ، وذر بن حبيش ، وعمرو بن عبيد ، ومعاذ القاري ، وحميد : بتخفيف اللام مبنياً للفاعل ، ورويت عن أبي عمرو أي : خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة.
وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك مشدَّد اللام.
وقرأ أبو زيد ، وأبو مجلز ، والشعبي ، وابن يعمر ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : خالفوا بألف أي : لم يوافقوا على الغزو.
وقال الباقر : ولو خلفوا لم يكن لهم.
وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين ، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير ، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف.
حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين.
وضاقت عليهم أنفسهم استعارة ، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وخرجت عن فرط الوحشة والغم ، وظنوا أي : علموا.
قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية : أيقنوا ، كما قالوا في قول الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج . . .
سراتهم في الفارسي المسرّد
وقال قوم : الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين ، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن ، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة ، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة.
وجاءت هذه الجمل في كنف إذاً في غاية الحسن والترتيب ، فذكر أولاً ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ، ونبوة الناس عن كلامهم.
وثانياً وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم ، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع ، فذكر أولاً ضيق المحل ، ثم ثانياً ضيق الحال فيه ، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة.
سم الخياط مع المحبوب ميدان.
ثم ثالثاً لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه ، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وإذاً إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره : تاب عليهم ، ويكون قوله : ثم تاب عليهم ، نظير قوله : ثم تاب عليهم ، بعد قوله { لقد تاب الله على النبي } الآية.
ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جداً ، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم.
ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله : خلفوا أي : خلفوا إلى هذا الوقت ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا ، أو ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علماً منهم أنّ الله توّاب على من تاب ، ولو عاد في اليوم مائة مرة.
وقيل : معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها.
وقيل : ليتوبوا ، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين ، وتستكن نفوسهم عند ذلك.
قال ابن عطية : وقوله : ثم تاب عليهم ليتوبوا ، لمّا كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبّهاً على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ليكون هذا أشد تقريراً للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه.
وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير ، فلذلك اختصرت سوقه.
وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأنّ الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه ، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان كعب من أهل العقبة ، وصاحباه من أهل بدر ، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجل العالم والمقتدي به أقل عذراً في السقوط من سواه.
وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أنّ قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً ، ولا طاعته إلا وجوباً ، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكاراً والسلام.
ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله :
والعيب يعلق بالكبير كبير . . .
انتهى.
وروي أن أناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة ، ومنهم من بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة.
وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال : إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } : هو خطاب للمؤمنين ، أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وأزاحهم عن ربقة النفاق.
واعترضت هذه الحملة تنبيهاً على رتبة الصدق ، وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين } قال ابن جريج وغيره : الصدق هنا صدق الحديث.
وقال الضحاك ونافع : ما معناه اللفظ أعم من صدق الحديث ، وهو بمعنى الصحة في الدين ، والتمكن في الخير ، كما تقول العرب : رجل صدق.
وقالت هذه الفرقة : كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام.
وقيل : هم الثلاثة أي : كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم.
وقال الزمخشري : هم الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله من قوله : { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً انتهى.
وقيل : الخطاب بالذين آمنوا لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك.
وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي : كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ومع تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح.
وقرأ ابن مسعود وابن عباس : من الصادقين ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن مسعود يتأوله في صدق الحديث وقال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا إن يعد منكم أحد صببه ثم لا ينجزه ، اقرأوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين.
وقال صاحب اللوامح : ومن أعم من مع ، لأنّ كل من كان من قوم فهو معهم في المعنى المأمور به ، ولا ينعكس ذلك.
وقرأ زيد بن علي ، وابن السميفع ، وأبو المتوكل ، ومعاذ القاري : مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية ، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله تعالى :
{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، أمروا بأنْ يكونوا مع الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال : كن مع الله يكن معك.
{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } : نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك ، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار.
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله ، وأمر بكينونتهم مع الصادقين ، وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار ، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنّى توجه من الغزوات والمشاهد ، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة ، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه.
قال الزمخشري : بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه صلى الله عليه وسلم ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله تعالى وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلاً أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية.
قال الكرماني : هذا نفي معناه النهي ، وخصَّ هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه ، وأنه لا يخفى عليهم خروجه.
قال قتادة : كان هذا الإلزام خاصاً مع النبي صلى الله عليه وسلم وجواب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء.
وقال زيد بن أسلم : كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام ، واحتياج إلى اتصال الأيدي ، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } قال : وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام ، وأما إذا ألم العدوّ بجهة فيتعين على كل أحد القيام بذنبه ومكافحته ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل النفس دونه ، كأنه قيل : ذلك الوجوب للخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد الله لهم من الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم ، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام.
والظمأ العطش.
وقرأ عبيد بن عمير ظماء بالمد مثل : سفه سفاهاً ، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصاً في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولاً ، وثنى بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشىء عن العطش والسير ، وأتى ثالثاً بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة ، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر.
فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولاً فثانياً فثالثاً.
وموطئاً مفعل من وطىء ، فاحتمل أنْ يكون مكاناً ، واحتمل مصدراً.
والفاعل في يغيظ عائد على المصدر ، إما على موطىء إن كان مصدراً ، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً ، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار.
وأطلق موطئاً إذا كان مكاناً ليعم كل موطىء يغيظ وطؤه الكفار ، سواء كان من أمكنة الكفار ، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم.
والوطء يدخل فيه بالحوافر والإخفاف والأرجل.
وقرأ زيد بن علي : يغيظ بضم الياء.
والنيل مصدر ، فاحتمل أن يبقى على موضوعه ، واحتمل أن يراد به المنيل.
وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزيمة ، وليست الياء في نيل بدلاً من واو خلافاً لزاعم ذلك ، بل نال مادتان : إحداهما من ذوات الواو نلته أنوله نولاً ونوالاً من العطية ، ومنه التناول.
والأخرى : هذه من ذوات الياء ، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه.
وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء ، ثم ثنى بالنيل من العدو.
جاء العموم في الكفار بالألف واللام ، وفي من عدو لكونه في سياق النفي ، وبدىء أولاً بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه ، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام : « آخر وطأة وطئها الله بوج »
والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي : كتب في الصحائف ، أو في اللوح المحفوظ ، ليجازى عليه يوم القيامة.
ويحتمل أن يكون استعارة ، عبر عن الثبوت بالكتابة لأنّ من أراد أن يثبت شيئاً كتبه.
والجملة من كتب في موضع الحال ، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي : بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل.
وفي الحديث : « من أغرث قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار » وقال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة.
والنفقة الصغيرة قال ابن عباس : كالثمرة ونحوها ، والكبيرة ما فوقها.
وقال الزمخشري : صغيرة ولو تمرة ، ولو علاقة سوط ،.
ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة انتهى.
وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة } { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجر الكبيرة.
ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون ، كأنه قيل : كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع ، ويجوز أن يعود على قوله : عمل صالح المتقدم الذكر.
وتأخرت هاتان الجملتان وقدّمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو ، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو ، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا ، فهذا أعم وتلك أخص.
وكان تعليل تلك آكد ، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأنّ ، وذكر فيه الأجر.
ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين.
وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير : أحسن جزاء الذي كانوا يعملون ، لأنّ عملهم له جزاء حسن ، وله جزاء أحسن ، وهنا الجزاء أحسن جزاء.
وقال أبو عبد الله الرازي : أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان : الأول : أن أحسن من صفة فعلهم ، وفيها الواجب والمندوب دون المباح انتهى.
هذا الوجه فاحتمل أن يكون أحسن بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال ، كأنه قيل : ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء ، أو بما شاء من الجزاء.
ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير : ليجزيهم جزاءً أحسن أفعالهم.
والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجلّ وأفضل ، وهو الثواب انتهى ، هذا الوجه ، وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال ، ولم يصرح فيه بمن؟.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } : لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك ، فنفروا إلى المدينة إلى الرسول فنزلت.
وقيل : قال المنافقون حين نزلت : ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت.
وقيل : لما دعا الرسول على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة ، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها ، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان ، وإنما أقدمه الجوع فنزلت الآية فقال : وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي : ليس هؤلاء بمؤمنين.
وعلى هذه الأقوال لا يكون النفير إلى الغزو ، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة الناقرة ، وهذا هو الظاهر.
وقال ابن عباس : الآية في البعوث والسرايا.
والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو ، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي : يجب إذا لم يخرج أن لا ينفر الناس كافة ، فيبقى هو مفرداً.
وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين ، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم.
وقالت فرقة : هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال ، فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الطائفة المقيمة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون معنى ولينذروا قومهم أي : الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدّد من أحكام الشريعة وتكاليفها ، وكان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي : فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وقعدت أخرى ليتفقهوا.
وقيل : على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على النافرين ، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة الله لدينه ، وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين ، وذلك دليل على صحة الإسلام ، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين.
والذي يظهر أنّ هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله ، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم ، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم ، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولاً ، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي : فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير ، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم ، وقتال أعدائهم ، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه هذا بالعلم ، وهذا بالقتال.
قال الزمخشري : ليتفقهوا في الدين ، ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها ، ولينذروا قومهم ، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لعلهم يحذرون إرادة أن يحذروا الله تعالى ، فيعملوا عملاً صالحاً.
ووجه آخر : وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير ، وانقطعوا جميعاً عن الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجهاد بالحجة أعظم أمراً من الجهاد بالسيف.
وقوله تعالى : ليتفقهوا ، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة ، ولينذروا قومهم ، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم ، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
{ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين } : لما خص تعالى على التفقه في الدين ، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه ، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار ، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف.
وقال بعض الشعراء في ذلك :
من لا يعدله القرآن كان له . . .
من الصغار وبيض الهند تعديل
قيل : نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة ، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.
وضعف هذا القول بأنّ هذه الآية من آخر ما نزل.
وقالت فرقة : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوماً من الكفار غازياً لقوم آخرين أبعد منهم ، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة.
وقالت فرقة : الآية مبينة صورة القتال كافة ، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة ، ومعناها : أنّ الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة ، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام.
وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدوّ ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد.
وقال : قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام ، لأنهم كانوا يومئذ العدوّ الذي يلي ويقرب ، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام ، وكانت العراق بعيدة ، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم ، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال : عليك بالروم.
وقال علي بن الحسين والحسن : هم الروم والديلم ، يعني في زمنه.
وقال ابن زيد : المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب ، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر }
إلى آخرها.
وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر.
وقال قوم : تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم ، فأمروا بقتالهم.
ويلونكم : ظاهره القرب في المكان.
وقيل : هو عام في القرب في المكان ، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة ، وقد أمرنا بقتال كلهم ، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولأن النفقات فيه ، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل ، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة ، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل ، وحصول غير الإسلام أيسر.
وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد ، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعَددهم وعُددهم ، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد.
وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدّة عليهم كما قال تعالى : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم.
وقال تعالى : { أعزة على الكافرين } وفي الحديث : « ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة » وقال تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا } وقال : { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } والغلظة : تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة ، والغلظة حقيقة في الأجسام ، واستعيرت هنا للشدة في الحرب.
وقرأ الجمهور : غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد ، والأعمش وأبان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز ، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابان أيضاً بضمها وهي لغة تميم ، وعن أبي عمر وثلاث اللغات ثم قال : واعلموا أنّ الله مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى الله تعالى ، ومن اتقى الله كان الله معه بالنصر والتأييد ، ولا يقصد بقتاله الغنيمة ، ولا الفخر ، ولا إظهار البسالة.
{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } : قال ابن عباس : نزلت هذه والثانية في المنافقين ، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته ، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ويقولون : هل يراكم من أحد إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد.
ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين ، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم ، عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم.
وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم ، وقولهم : أيكم زادته هذه إيماناً ، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين ، ويحتمل أن يقولوا : ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق.
ومعنى قولهم ذلك : هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها ، كما تقول : أي غريب في هذا وأي دليل في هذا ، وفي الفتيان قيل : هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه.
وقرأ الجمهور : رأيكم بالرفع.
وقرأ زيد بن علي ، وعبيد بن عمير : أيكم بالنصب على الاشتغال ، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو : أزيداً ضربته.
والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين ، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى ، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة ، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته ، أو عبارة عن إزالة شك يسير ، أو شبهة عارضة غير مستحكمة ، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة.
وأما على قول من يسمي الطاعة إيماناً ، وذلك مجاز عند أهل السنة ، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاماً.
وقال الربيع : فزادتهم إيماناً أي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته.
وقال الزمخشري : فزادتهم إيماناً لأنها أزيد للمتقين على الثبات ، وأثلج للصدور.
أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل انتهى.
وهي نزعة اعتزالية ، وهم يستبشرون بما تضمنته من رحمة الله ورضوانه.
وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والصحة والمرض في الأجسام ، فنقل إلى الاعتقاد مجازاً والرجس القذر ، والرجس العذاب ، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال.
وإذا كفروا بسورة.
فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم.
قال قطرب والزجاج : أراد كفراً إلى كفرهم.
وقال مقاتل : إثماً إلى إثمهم.
وقال السدي والكلبي : شكاً إلى شكهم.
وقال ابن عباس : أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة ، وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين : زيادة الإيمان ، والاستبشار بما لهم عند الله.
وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس ، والموافاة على الكفر أذاهم كفرهم الأصلي ، والزيادة إلى أنْ ماتوا على الكفر.
{ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضاً في الدنيا لا يخلصون من عذابها.
والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء.
وقرأ حمزة : بالتاء خطاباً للمؤمنين.
والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر.
وقرأ أبي وابن مسعود ، والأعمش : أو لا ترى أي أنت يا محمد؟ وعن الأعمش أيضاً : أو لم تروا؟ وقال أبو حاتم عنه : أو لم يروا؟ قال مجاهد : يفتنون ، يختبرون بالسنة والجوع.
وقال النقاش عنه : مرضة أو مرضتين.
وقال الحسن وقتادة : يختبرون بالأمر بالجهاد.
قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة.
وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى.
وقاله مختصراً مقاتل قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد :
أفي كل عام مرضة ثم نقهة . . .
فحتى متى حتى متى وإلى متى
وقالت فرقة : معنى يفتنون بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف ، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك.
وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة ، وهو غريب من المعنى.
وقال الزمخشري : يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون.
وقرأ ابن مسعود : ولا هم يتذكرون.
{ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون }.
ذكر أولاً ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء ، ثم ذكر ثانياً ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكاراً للوحي ، وسخرية قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون : هل يراكم من أحد؟ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت.
وقيل : ثم صفة محذوفة أي : سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم ، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل يراكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟ ثم انصرفوا أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حين ما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء.
قال الضحاك : هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى : قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة أو مجازاً ، فالمعنى : انصرفوا عن الإيمان ، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ، قاله الكلبي ، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به ، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه ، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله ، وهذا القول راجع لقول الكلبي.
صرف الله قلوبهم صيغته خبر ، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان ، قاله الفراء.
والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب ، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله : ثم انصرفوا ، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } قال الزجاج : أضلهم.
وقيل : عن فهم القرآن والإيمان به.
وقال ابن عباس : عن كل رشد وخير وهدى.
وقال الحسن : طبع عليها بكفرهم.
قال الزمخشري : صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان ، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقاً بانصرفوا ، أو بصرف ، فيكون من باب الإعمال أي : بسبب انصرافهم ، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده.
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءُوف رحيم } : لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وقص فيها أحوال المنافقين شيئاً فشيئاً ، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم ، أو من نسبهم عربياً قرشياً يبلغهم عن الله متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ، ويحرص على هداهم ، ويرأف بهم ، ويرحمهم.
قال ابن عباس : ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه قال : يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل ، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل ، ويحتمل أن يكون خطاباً لبني آدم ، والمعنى : أنه لم يكن من غير جنس بني آدم ، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } ولما كان المخاطبون عاماً ، إما عامة العرب ، وإما عامة بني آدم ، جاء الخطاب عاماً بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي : على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك.
ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصاً وهو قوله : بالمؤمنين رءُوف رحيم.
ألا ترى إلى قوله : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال : { أعزة على الكافرين } وقال في زناة المؤمنين : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } قال ابن عطية : وقوله من أنفسكم ، يقتضي مدحاً لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام :
« إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفانى من بني هاشم » ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « إني من نكاح ولست من سفاح » معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى.
وصف الله نبيه عليه السلام بستة : أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية ، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه ، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدىء بذكرها.
وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في البليغ والفهم عنه والتآنس به ، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه ، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم ، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة.
وكونه يعز عليه ما يشق عليكم ، فهذا الوصف من نتائج الرسالة.
ومن كونه من أنفسهم ، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم ، وهو أيضاً من نتائج الرسالة ، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية.
وكونه رءُوفاً رحيماً بالمؤمنين ، وهما وصفان من نتائج التبعية له ، والدخول في دين الله.
{ إنما المؤمنون إخوة } « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك »
وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب ، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه : من أنفسكم بفتح الفاء.
ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن فاطمة ، وعائشة رضي الله عنهما ، والمعنى : من أشرفكم وأعزكم ، وذلك من النفاسة ، وهو راجع لمعنى النفس ، فإنها أعز الأشياء.
والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي : يعز عليه مشقتكم كما قال :
يسر المرء ما ذهب الليالي . . .
وكان ذهابهن له ذهابا
أي يسر المرء ذهاب الليالي.
ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي : عنتكم عزيز عليه ، وقدم خبره ، والأول أعرب.
وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ ، وما عنتم الخبر ، وأن تكون ما بمعنى الذي ، وأن تكون مصدرية ، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين.
وقال ابن القشيري : عزيز صفة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته ، ثم استأنف فقال : عليه ما عنتم أي : يهمه أمركم انتهى.
والعنت : تقدم شرحه في البقرة في قوله
{ لأعنتكم } وقال ابن عباس : هنا مشقتكم.
وقال الضحاك : إثمكم.
وقال سعيد بن أبي عروبة : ضلالكم.
وقال العتبي : ما ضركم.
وقال ابن الأنباري : ما أهلككم.
وقيل : ما غمكم.
والأولى أن يضمر في عليكم أي : على هداكم وإيمانكم كقوله : { إن تحرص على هداهم } وقوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقيل : حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة.
وقال الفراء : الحريص هو الشحيح ، والمعنى : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار.
وقيل : حريص على دخولكم الجنة.
وإنما احتيج إلى الإضمار ، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات.
ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برءُوف ، ويحتمل أن يتعلق برحيم ، فيكون من باب التنازع.
وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر ، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما ، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول : زيداً ضربت وشتمت على التنازع ، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين.
وقال قوم : بالتوزيع ، رؤوف بالمطيعين ، رحيم بالمذنبين.
وقيل : رؤوف بمن رآه ، رحيم بمن لم يره.
وقيل : رؤوف بأقربائه ، رحيم بغيرهم.
وقال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وقال تعالى : { إن الله بالناس لرءُوف رحيم } { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } : أي فإنْ أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي منّ الله عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل : حسبي الله أي : كافيّ من كل شيء ، عليه توكلت أي : فوضت أمري إليه لا إلى غيره ، وقد كفاه الله شرهم ونصره عليهم ، إذ لا إله غيره.
وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل ، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات.
وقال ابن عباس : العرش لا يقدر أحد قدره انتهى.
وذكر في معرض شرح قدرة الله وعظمته ، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى ، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم.
وقرأ ابن محيصن : العظيم برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير.
قال أبو بكر الأصم : وهذه القراءة أعجب إليّ ، لأنّ جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش ، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار ، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض ، وبكمال العلم والقدرة ، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام ، أو تصل إليه الأفهام.
وعن ابن عباس : آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها.
وعن أبيّ أقرب القرآن عهداً بالله لقد جاءكم الآيتان ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفها ، ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئاً أولاً ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده.
وقال عمر بن الخطاب : ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء.
وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال : من قال : « إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه ».
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
القدم : قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة.
قال ذو الرمة :
وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة . . .
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو قدم.
وقال الأخفش : سابقة إخلاص كما في قول حسان :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا . . .
لا ولنا في طاعة الله تابع
وقال أحمد بن يحيى : كل ما قدمت من خير.
وقال ابن الأنباري : العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
{ الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لسحر مبين } : هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن ، قاله ابن عباس.
وقال الكلبي : إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة.
وقال قوم : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة ، ونزل باقيها بالمدينة.
وقال الحسن وعطاء وجابر : هي مكية وسبب نزولها : أنّ أهل مكة قالوا : لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب فنزلت.
وقال ابن جريج : عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت.
وقيل : لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل { وإذا ما أنزلت سورة } وذكر تكذيب المنافقين ثم قال : { لقد جاءكم رسول } وهو محمد صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها ، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة ، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول ، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم ، وذكروا هنا أقوالاً عن المفسرين منها : أنا الله أرى ، ومنها أنا الله الرحمن ، ومنها أنه يتركب منها ومن حم ومن نون الرحمن.
فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة ، ومنها أنا الرب وغير ذلك.
والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه.
فقال مجاهد وقتادة : أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل والزبور ، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب.
وقال الزجاج : إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها.
وقيل : إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند الله ، ومنه نسخ كل كتاب كما قال : { بل هو قرآن مجيد فى لوح محفوظ } وقال : { وإنه في أم الكتاب } وقيل : إشارة إلى الراء وأخواتها من حروف المعجم ، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال.
وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري.
وقيل : استعمل تلك بمعنى هذه ، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس ، واختاره أبو عبيدة.
فقيل : آيات القرآن.
وقيل : آيات السور التي تقدمّ ذكرها في قوله : { وإذا ما أنزلت سورة } وقيل : المشار إليه هو الراء ، فإنها كنوز القرآن ، وبها العلوم التي استأثر الله بها.
وقيل : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة.
والحكيم : الحاكم ، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها.
وتعلقه بها ، أو المحكم ، أو المحكوم به ، أو المحكم أقوال.
والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة ، أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم.
واسم كان أن أوحينا ، وعجباً الخبر ، وللناس فقيل : هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدَّم كان حالاً.
وقيل : يتعلق بقوله : عجباً وليس مصدراً ، بل هو بمعنى معجب.
والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول.
وقيل : هو تبيين أي أعنى للناس.
وقيل : يتعلق بكان وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها.
وقرأ عبد الله : عجب ، فقيل : عجب اسم كان ، وأنْ أوحينا هو الخبر ، فيكون نظير : يكون مزاجها عسل وماء ، وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية.
وقيل : كان تامة ، وعجب فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن.
ومعنى للناس عجباً : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم.
وقرأ رؤبة : إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلاً نحو سبع وعضد في سبع وعضد.
ولما كان الإنذار عاماً كان متعلقه وهو الناس عامًّا ، والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصاً وهو الذين آمنوا.
وأن أنذر : أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما الزمخشري : ويجوز أنْ تكون أنْ المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنّها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر تقديره : بإنذار الناس.
وهذا الوجه أولى من التفسيرية ، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية.
ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ، ولأنّ التأصيل خير من دعوى الحذف بالتحفيف.
وبشر الذين آمنوا أن لهم أي : بأن لهم ، وحذفت الباء.
وقدم صدق قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات.
وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ.
وقال مقاتل : سابقة خير عند الله قدموها.
وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله :
مالك وضاح دائم الغزل . . .
ألست تخشى تقارب الأجل
صل لذي العرش واتخذ قدماً . . .
ينجيك يوم العثار والزلل
وقال قتادة أيضاً : سلف صدق.
وقال عطاء : مقام صدق.
وقال يمان : إيمان صدق.
وقال الحسن أيضاً : ولد صالح قدموه.
وقيل : تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج :
ذل بني العوام من آل الحكم . . .
وتركوا الملك لملك ذي قدم
وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة.
ومنه قول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها . . .
مع الحسب العادي طمت على البحر
وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً ، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة.
وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق.
وعن الأوزاعي : قدم بكسر القاف تسمية بالمصدر قال : الكافرون.
ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا.
قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا.
وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي ، وباقي السبعة ، وابن مسعود ، وأبو رزين ، ومسروق ، وابن جبير ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر.
وقرأ الأعمش أيضاً : ما هذا إلا ساحر.
قال ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب.
وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً.
ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم ، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تضمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه السلام : { إن هذا لساحر عليم } { قالوا ساحران تظاهران } وقوم عيسى عليه السلام : { إن هذا إلا سحر مبين } ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد.
ففي الأعراف : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } وقوله : { يوم يأتي تأويله } وهنا تلك آيات الكتاب.
وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد.
ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم ، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته ، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته ، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى.
{ يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } : قال مجاهد : أي يقضيه وحده.
والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها ، والأمر قيل : الخلق كله علويه وسفليه.
وقيل : يبعث بالأمر ملائكة ، فجبريل للوحي ، وميكائيل للقطر ، وعزرائيل للقبض ، وإسرافيل للصور.
وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه.
ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور ، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك ، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه ، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب.
وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } الآية.
ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ردّ ذلك تعالى عليهم ، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين : الابتداء والانتهاء.
وقال أبو مسلم الأصبهاني : الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر ، فمعنى الآية : أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه ، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له : كن.
وقال أبو البقاء : يدبر الأمر ، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً.
{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه } : أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم ، فهو المستحق للعبادة ، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى ، فلا تشركوا به بعض خلقه.
{ أفلا تذكرون } : حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه ، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم.
وانتصب وعد الله وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير : وعد الله وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله : { صبغة الله } { وصنع الله } والتقدير : في حقاً حق ذلك حقاً.
وقيل : انتصب حقاً بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق.
وقال علي بن سليمان التقدير : وقت حق وأنشد :
أحقاً عباد الله أن لست خارجاً . . .
ولا والجاً إلا عليّ رقيب
وقرأ عبد الله ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وسهل بن شعيب : أنه يبدأ بفتح الهمزة.
قال الزمخشري : هو منصوب بالفعل ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه.
وعد الله على لفظ الفعل ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي : حق حقاً بدءُ الخلق كقوله :
أحقاً عباد الله أن لست جائياً . . .
ولا ذاهباً إلا عليّ رقيب
انتهى.
وقال ابن عطية : وموضعها النصب على تقدير أحق أنه.
وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير لحق أنه.
قال ابن عطية : ويجوز عندي أن يكون أنه بدلاً من قوله : وعد الله.
قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد ، وإن شئت قدرت وعد الله حقاً أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله ، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله.
وقرأ ابن أبي عبلة : حق بالرفع ، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى.
وكون حق خبر مبتدأ ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول : صحيح إنك تخرج ، لأنّ اسم أنّ معرفة ، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة.
والظاهر أنّ بدء الخلق هو النشأة الأولى ، وإعادته هو البعث من القبور ، وليجزي متعلق بيعيده أي : ليقع الجزاء على الأعمال.
وقيل : البدء من التراب ، ثم يعيده إلى التراب ، ثم يعيده إلى البعث.
وقيل : البدء نشأته من الماء ، ثم يعيده من حال إلى حال.
وقيل : يبدؤه من العدم ، ثم يعيده إليه ، ثم يوجده.
وقيل : يبدؤه في زمرة الأشقياء ، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء ، وبعكس ذلك.
وقرأ طلحة : يبدىء من أبدأ رباعياً ، وبدأ وأبدأ بمعنى ، وبالقسط معناه بالعدل ، وهو متعلق بقوله : ليجزي أي : ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم ، فيوصل كلاًّ إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال ، فينصف بينهم ويعدل ، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب ، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى.
قال الزمخشري : أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ الشرك ظلم قال الله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } والعصاة ظلام لأنفسهم ، وهذا أوجه لمقابلة قوله : بما كانوا يكفرون انتهى ، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال ، والظاهر أنّ والذين كفروا مبتدأ ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : الذين آمنوا ، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين.
ولما كان الحديث مع الكفار مفتتح السورة معهم ، ذكر شيئاً من أنواع عذابهم فقال : { لهم شارب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
لما ذكرتعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياءً أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة.
وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً.
ويحتمل أنْ تكون بمعنى خلق فيكون حالاً ، والقمر نوراً أي : ذا نور ، أو منور ، أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران.
وقيل : يجوز أنْ يكون ضياء جمع كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد.
ولما كانت الشمسُ أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور.
قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعاً وستين مرة ، والقمر ليس كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم.
وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } وقوله تعالى : { الله نور السموات والأرض } يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور.
فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم أبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبداً موجود في الليل وأثناء الظلام.
ولو شبهه بالضياء لوجب أنْ لا يضل أحداً ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة.
فمعنى الآية : أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون.
ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية.
وقرأ قنبل : ضياء هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء.
ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً ، فكانت همزة.
وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمر أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : { والقمر قدرناه منازل } وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب.
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزىء بذكر أحدهما كما قال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وكما قال الشاعر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي . . .
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
والمنازل هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلغ ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت.
واللام متعلقة بقوله : وقدره منازل.
قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب؟ انتهى.
يريد أنّ الجر إنما يكون مقتضياً أنّ الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ.
وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه.
وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع.
ومعنى بالحق متلبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثاً كما جاء { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } وقال ابن جرير : الحق هنا هو الله تعالى ، والمعنى : ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى.
وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمراً إلا بزيد.
وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته.
وقرأ ابن مصرف : والحساب بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب.
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : يفصل بالياء جرياً على لفظة الله ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح.
والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن.
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
والاختلاف تعاقب الليل والنهار ، وكون أحدهما يخلف الآخر.
وما خلق الله في السموات من الأجرام النيرة التي فيها ، والملائكة المقيمين بها وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى.
والأرض من الجوامد والمعادن والنبات والحيوان ، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
الظاهر أن الرجاء هو التأميل والطمع أي : لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا.
وقيل : معناه لا يخافون.
قال ابن زيد : وهذه الآية في الكفار ، والمعنى أنّ المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ، ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله.
وفي الكلام محذوف أي : ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة كقوله : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } والمعنى أنّ منتهى غرضهم وقصارى آمالهم إنما هو مقصور على ما يصلون إليه في الدنيا.
واطمأنوا أي سكنوا إليها ، وقنعوا بها ، ورفضوا ما سواها.
والظاهر أنّ قوله : والذين هم ، هو قسم من الكفار غير القسم الأول ، وذلك التكرير الموصول ، فيدل على المغايرة ، ويكون معطوفاً على اسم إنّ ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات ، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله ، بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالبعث والجزاء ، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية.
ويحتمل أن يكون من عطف الصفات ، فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون ، هم الذين لا يرجون لقاء الله.
والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة ، ويحتمل أن يكون واو الحال أي : وقد اطمأنوا بها.
والآيات قيل : آيات القرآن.
وقيل : العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة.
وقال ابن زيد : ما أنزلناه من حلال وحرام وفرض من حدود وشرائع أحكام ، وبما كانوا يكسبون إشعاراً بأنّ الأعمال السابقة يكون عنها العذاب ، وفي ذلك ردّ على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالكسب.
ومجيئه بالمضارع دليل على أنهم لم يزالوا مستمرين على ذلك ماضي زمانهم ومستقبله.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
أي يزيد في هواهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم ، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال : { يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم } قال مجاهد : يكون لهم إيمانهم نوراً يمشون به.
وفي الحديث : « إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقوده إلى الجنة » وبعكس هذا في الكافر.
وقال ابن الأنباري : إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة ، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله : { والذين اهتدوا زادهم هدى } وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ، ويجوز حصولها بعد الموت.
قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم ، وتجري من تحتهم الأنهار ، إلا أنه حذف الواو.
وقيل : معناه تقدّمهم إلى الثواب من قول العرب : القدم تهدي الساق.
وقال الحسن : يرحمهم.
وقال الكلبي : يدعوهم.
والظاهر أنّ تجري مستأنفاً فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين : أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار ، وذلك في الآخرة.
كما تضمنت الآية في الكفار شيئين : أحدهما : اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه ، والثاني : مقرهم ومأواهم وذلك النار ، فصار تقسيماً للفريقين في المعنى.
وتقدّم قول القفال : أن يكون تجري معطوفاً حذف منه الحرف ، وأن يكون حالاً ومعنى من تحتهم أي : من تحت منازلهم.
وقيل : من بين أيديهم ، وليس التحت الذي هو بالمسافة ، بل يكون إلى ناحية من الإنسان.
ومنه : { قد جعل ربك تحتك سرياً } وقال : وهذه الأنهار تجري من تحتي.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور.
( قلت ) : الأمر كذلك ، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
وجوزوا في جنات النعيم أن يتعلق بتجري ، وأن يكون حالاً من الأنهار ، وأن يكون خبراً بعد خبر ، لأنّ ومعنى دعواهم : دعاؤهم ونداؤهم ، لأنّ اللهم نداء الله ، والمعنى : اللهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت : اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد.
وقيل : عبادتهم كقوله : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } ولا تكليف في الجنة ، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ ، وأطلق عليه العبادة مجازاً.
وقال أبو مسلم : فعلهم وإقرارهم.
وقال القاضي : طريقهم في تقديس الله وتحميده.
وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضاً ، فيكون مصدراً مضافاً للمجموع لا على سبيل العمل ، بل يكون كقوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } وقيل : يكون مضافاً إلى المفعول ، والفاعل الله تعالى أو الملائكة أي : تحية الله إياهم ، أو تحية الملائكة إياهم.
وآخر دعواهم أي : خاتمة دعائهم وذكرهم.
قال الزجاج : أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه ، ويختمون بشكره والثناء عليه.
وقال ابن كيسان : يفتتحون بالتوحيد ، ويختمون بالتحميد.
وعن الحسن البصري : يعزوه إلى الرسول أنّ أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح.
وأن المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف ، والجملة بعدها خبر إنْ ، وأن وصلتها خبر قوله : وآخر.
وقرأ عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، وبلال بن أبي بردة ، وأبو مجلز ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، ويعقوب : أن الحمد بالتشديد ونصب الحمد.
قال ابن جني : ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف ، ورفع الحمد هي على أنّ هي المخففة كقول الأعشى :
في فتية كسيوف الهند قد علموا . . .
أن هالك كل من يحفى وينتعل
يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف.
وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة ، وزعم صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة ، والحمد لله خبر ، وآخر دعواهم.
وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين ، وليس هذا من محال زيادتها.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
قال مجاهد : نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا.
فأخبر تعالى لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله منهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر تقديره : فلا يفعل ذلك ، ولكن نذر الذين لا يرجون فاقتضب القول ، ووصل إلى هذا المعنى بقوله : فنذر الذين لا يرجون ، فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً قاله ابن عطية.
وقيل : نزلت في قولهم : إئتنا بما تعدنا ، وما جرى مجراه.
وقال الزمخشري : والمراد أهل مكة.
وقولهم : { فأمطر علينا حجارة } يعني : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير لأميتوا وأهلكوا.
قال : ( فإن قلت ) : كيف اتصل به فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ، وما معناه؟ ( قلت ) : قوله : ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قال : ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم ، فنذرهم في طغيانهم ، أو فنمهلهم ، ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّه تعالى لما ذكر عجب الناس من إيحاء الله إلى رجل منهم ، وكان فيما أوحي إليه الإنذار والتبشير ، وكانوا يستهزؤون بذلك ولا يعتقدون حلولَ ما أنذروه بهم فقالوا : { فأمطر علينا حجارة } وقال إخباراً عنهم : { ويستعجلونك بالعذاب } وقالوا : { فأتنا بما تعدنا } ثم استطرد من ذلك إلى وحدانيته تعالى ، وذكر إيجاده العالم ، ثم إلى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وذكر منازل الفريقين ثم رجع إلى أن ذلك المنذر به الذي طلبوا وقوعه عجلاً لو وقع لهلكوا ، فلم يكن في إهلاكهم رجاء إيمان بعضهم ، وإخراج مؤمن من صلهم بل اقتضت حكمته أنْ لا يعجل لهم ما طلبوه ، لما ترتب على ذلك.
وانتصب استعجالهم على أنه مصدر مشبه به.
فقال الزمخشري : أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير ، فوضع استعجاله لهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم.
وقال الحوفي وابن عطية : التقدير مثل استعجالهم ، وكذا قدره أبو البقاء.
ومدلول عجل غير مدلول استعجل ، لأنّ عجل يدل على الوقوع ، واستعجل يدل على طلب التعجيل ، وذاك واقع من الله ، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري ، فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ، فشبه التعجيل بالاستعجال ، لأنّ طلبهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شيء.
والثاني : أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره : ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير ، لأنّهم كانوا يستعجلون بالشر ووقوعه على سبيل التهكم ، كما كانوا يستعجلون بالخير.
وقرأ ابن عامر : لقضى مبنياً للفاعل أجلهم بالنصب ، والأعمش لقضينا ، وباقي السبعة مبنياً للمفعول ، وأجلهم بالرفع.
وقضى أكمل ، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره : فنحن نذر قاله الحوفي.
وقال أبو البقاء : فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره : ولكن نمهلهم فنذر.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
المرور : مجاوزة الشيء والعبور عليه ، تقول : مررت بزيد جاوزته.
والمرة : القوة ، ومنه ذو مرة.
ومرر الحبل قواه ، ومنه : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي»
{ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم ، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعمه في طغيانه ، بيِّن شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم ، وأنّ من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له ، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر.
والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل : إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله : ابن عباس ومقاتل.
وقيل : عقبة بن ربيعة.
وقيل : الوليد بن المغيرة.
وقيل : هما قاله عطاء.
وقيل : النضر بن الحرث ، وأنه لا يراد به الكافر ، بل ، المراد الإنسان من حيث هو ، سواء كان كافراً أم عاصياً بغير الكفر.
واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد ، واحتملت أن تكون لأشخاص ، إذ الإنسان جنس.
والمعنى : أنّ الذي أصابه الضر لا يزال داعياً ملتجئاً راغباً إلى الله في جميع حالاته كلها.
وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض ، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها ، وهي حالة القعود ، وهي حالة العجز عن القيام ، ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي ، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم.
ولجنبه حال أي : مضطجعاً ، ولذلك عطف عليه الحالان ، واللام على بابها عند البصريين والتقدير : ملقياً لجنبه ، لا بمعنى على خلافاً لزاعمه.
وذو الحال الضمير في دعانا ، والعامل فيه دعانا أي : دعانا ملتبساً بأحد هذه الأحوال.
وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان ، والعامل فيه مس.
ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل في دعانا ، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان.
والضر : لفظ عام لجميع الأمراض.
والرزايا في النفس والمال والأحبة ، هذا قول اللغويين.
وقيل : هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى.
والقول الأول قول الزجاج.
وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالاً من الإنسان والعامل فيها مس ، قال : لأمرين : أحدهما : أنّ الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه.
والثاني : أنّ المعنى كثرة دعائه في كل أحواله ، لا على الضر يصيبه في كل أحواله ، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى.
وهذه الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال ، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال ، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول : إذا جاءنا زيد فقيراً أحسنا إليه ، فالمعنى : أحسنا إليه في حال فقره ، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء.
ومعنى كشف الضر : رفعه وإزالته ، كأنه كان غطاء على الإنسان ساتراً له.
وقال صاحب النظم : وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل ، وفلما كشفنا للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية : أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل ، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى.
والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر.
وقال مقاتل : أعرض عن الدعاء.
وقيل : مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به ، وهذا قريب من القول الذي قبله.
والجملة من قوله : كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال ، أي إلى كشف ضر مسه.
قال ابن عطية : وقوله مر ، يقتضي أنّ نزولها في الكفار ، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه انتهى.
والكاف من كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك.
وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك ، وزين مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إمّا على سبيل خلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة ، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة ، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته.
قيل : أو النفس.
وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية ، كما يضيع المنفق ماله متجاوزاً فيه الحدَّ ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
هذا إخبار لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر ، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار ، والوعيد لهم ، وضرب الأمثال ، فكما فعل بهؤلاء ، يفعل بكم.
ولفظة لما مشعرة بالعلية ، وهي حرف تعليق في الماضي.
ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره ، فإنما يدل إذْ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم ، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية.
لو قلت : جئت حين قام زيد ، لم يكن مجيئك مستبباً عن قيام زيد ، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسبباً عما بعدها ، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب.
وجاءتهم ظاهره أنه معطوف على ظلموا أي : لما حصل هذان الأمران : مجيء الرسل بالبينات ، وظلمهم أهلكوا.
وقال الزمخشري : والواو في وجاءتهم للحال أي : ظلموا بالتكذيب ، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى.
وقال مقاتل : البينات مخوفات العذاب ، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون ، وأنه معطوف على قوله : ظلموا.
وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا معطوفاً قال : واللام لتأكيد النفي بمعنى : وما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم ، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم ، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى : أنّ السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى.
وقال مقاتل : الضمير في قوله : وما كانوا ليؤمنوا ، عائد على أهل مكة ، فعلى قوله يكون التفاتاً ، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، ويكون متسقاً مع قوله : وإذا تتلى عليهم.
والكاف في كذلك في موضع نصب أي : مثل ذلك الجزاء ، وهو الإهلاك.
نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم ، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم.
وقرأت فرقة : يجزي بالياء ، أي يجزى الله ، وهو التفات.
والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل : خطاب لمشركي مكة ، والمعنى : استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم.
ومعنى لننظر : لنتبين في الوجود ما عملناه أولاً ، فالنظر مجاز عن هذا.
قال الزمخشري : فإنْ قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ ( قلت ) : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود ، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال ، وأنه يلزم من النظر المقابلة ، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم.
وقيل : لننظر ، هو على حذف مضاف أي : لينظر رسلنا وأولياؤنا.
وأسند النظر إلى الله مجازاً ، وهو لغيره.
وقرأ يحيى بن الحرث الزماري : لنظر ، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال : هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ويعني : أنه رآها بنون واحدة ، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان ، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ ، ولا على إدغامها في الظاء ، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز ، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف ، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة ، فتوهم السامع أنه إدغام ، فنسب ذلك إليه.
وكيف معموله لتعملون ، والجملة في موضع نصب لننظر ، لأنها معلقة.
وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قال ابن عباس والكلبي : نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا : يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك.
وقال مجاهد وقتادة : نزلت في جماعة من مشركي مكة.
وقال مقاتل : في خمسة نفر : عبد الله بن أمية المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن وائل.
وقيل : الخمسة الوليد ، والعاصي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن حنظلة ، وروي هذا عن ابن عباس.
قال الزمخشري : غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا : ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك.
وقال ابن عطية : نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى : ساهلنا يا محمد ، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا ، وأحل ما حرمته ، وحرم ما أحللته ، ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة انتهى.
ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة ، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه ، والمعنى : وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت ، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز ، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى ، ويكون في الصفة.
والتبديل هنا هو في الصفة ، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة ، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات ، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغاير هو الشيء بعينه ، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا.
ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان ، لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان ، وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم فقيل له : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي.
وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أي يستحيل ذلك.
ويحتمل أن يكون التبديل في الذات على أن يلحظ في قوله : ائت بقرآن غير هذا ، إبقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره ، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله ، فيكون المطلوب أحد أمرين : إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات ، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين.
وتلقاء مصدر البنيان ، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما ، ويستعمل ظرفاً للمقابلة تقول : زيد تلقاءك.
وقرىء بفتح التاء ، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى : من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان ، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء.
واستدل بقوله : إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد ، وعلى نفي القياس ، وإنما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز ، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله.
ألا ترى إلى قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم : { افترى على الله كذباً } ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله : إني أخاف.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح؟ ( قلت ) : المكر والكيد.
أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك ، وإنك لقادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر.
وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فننجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله تعالى انتهى.
وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي ، وتقدم اتباع الوحي ، وتركي العمل به ، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله.
واليوم العظيم : هو يوم القيامة ، ووصف بالعظم لطوله ، أو لكثرة شدائده ، أو للمجموع.
وانظر إلى حسن هذا الجواب لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب ، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره ، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف ، وعلقه بمطلق العصيان ، فبأدنى عصيان ترتب الخوف.
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي : إنّ تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يبهر كلام كل فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وإخبار ما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرّفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به.
ومفعول شاء محذوف أي؛ قل لو شاء الله أن لا أتلوه ، وجاء جواب لو على الفصيح من عدم إتيان اللام ، لكونه منفياً بما ، ويقال : دريت به ، وأدريت زيداً به ، والمعنى : ولا أعلمكم به على لساني.
وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه : ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي ، والمعنى : ولأعلمكم به من غير طريقي وعلى لسان غيري ، ولكنه يمن على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون الناس.
وقراءة الجمهور : ولا أدراكم به فلا مؤكدة ، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي ، وليست لا هي التي نفي الفعل بها ، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً ، والمعطوف على الجواب جواب.
وأنت لا تقول : لو كان كذا لا كان كذا ، إنما يكون ما كان كذا.
وقرأ ابن عباس ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء : ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة على لغة من قال : لبأت بالحج ، ورثأت زوجي بأبيات ، يريد : لبيت ورثيت.
وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد ، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم ، وفي المشتاق المشتأق.
والوجه الثاني : أن الهمزة أصل وهو من الدرء ، وهو الدفع يقال : درأته دفعته ، كما قال : { ويدرأ عنها العذاب } ودرأته جعلته دارئاً ، والمعنى : ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني.
وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم ، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها ، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك : أعطأتك.
وقال أبو حاتم : قلب الحسن الياء ألفاً كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك ، قيل : ثم همز على لغة من قال في العالم العألم.
وقرأ شهر بن خوشب والأعمش ، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار ، وكذا هي في حرف ابن مسعود ، ونبّه على أنّ ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمراً وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعاً وكهلاً ، لم تجربوني في كذب ، ولا تعاطيت شيئاً من هذا ، ولا عانيت اشتغالاً ، فكيف أتهم باختلاقه؟ أفلا تعقلون أنّ من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم ، ولا تتلمذ ، ولا مطالعة كتاب ، ولا مراس جدال ، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد ، ولا يكون إلا محقاً فيما أتى به مبلغاً عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به؟ كما جاء في حديث هرقل : « هل جربتم عليه كذباً؟ قال : لا فقال : لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله ».
وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو ، وأظهرها باقي السبعة.
وقرأ الأعمش : عمراً بإسكان الميم ، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن.
وأجاز الكرماني أنْ يعود على التلاوة ، وعلى النزول ، وعلى الوقت يعني : وقت نزوله.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
تقدم تفسير مثل هذا الكلام ، ومساقه هنا باعتبارين : أحدهما : أنه لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق ، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذباً كما قال : فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ، أو قال : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند الله ، وقد كذبتم بآياته ، فلا أحد أظلم منكم.
والاعتبار الثاني : أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي : لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أنّ له شريكاً ، وأن له ولداً ، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم.
وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام ، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر.
قيل : إنْ عبدوها لم تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم.
ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية ، وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزى ومناة وأسافاً ونائلة وهبل ، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم ، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة.
وفي قوله : من دون الله ، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله.
قال ابن عباس : يعنون في الآخرة.
وقال النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى.
وقال الحسن : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث.
وأتنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادّعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبأوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه ، وما موصولة بمعنى الذي.
قال الزمخشري : بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبراً ليس له مخبر عنه انتهى.
فتكون ما واقعة على الشفاعة ، والفاعل بيعلم هو الله ، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما.
وقوله : في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه ، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري.
وفي التحرير : أتنبئون ، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار ، والمعنى على هذا : أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السموات والأرض ، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي.
وقيل : أتخبرون الله بما لا يعلمه موجوداً في السموات والأرض ، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله ، وهو كما يقال للرجل : قد قلت كذا ، فيقول : ما علم الله هذا مني ، أي ما كان هذا قط ، إذ لو كان لعلمه الله انتهى.
والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها ، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله ، وذلك على حذف مضاف والمعنى : قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السموات والأرض أي : ليست متصفة بعلم البتة ، فيكون ذلك رداً عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله ، لأنّ من كان منتفياً عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه ، ولا ما يشفع فيه ، ولا من تشفع عنده؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله : ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة ، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة ، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة ، ويكون قوله : في السموات والأرض على هذا تنبيهاً على محال المعبودات المدعي شفاعتهم ، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى.
وقرىء : أتنبئون بالتخفيف من أنبأ.
ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ، وكان ذلك إشراكاً ، استأنف تنزيهاً بقوله سبحانه وتعالى.
وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية أي : شركائهم الذين يشركونهم به ، أو عن إشراكهم.
وقرأ العربيان والحرميان وعاصم : يشركون بالياء على الغيبة هنا ، وفي حرفي النحل ، وحرف في الروم.
وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش.
وقرأ ابن كثير ونافع ، وابن عامر ، في النمل فقط بالياء على الخطاب ، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة.
وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب ، وأتى بالمضارع ولم يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم ، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي.
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام ، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس ، والظاهر عموم الناس.
ويتصور في آدم وبينه إلى أنْ وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر ، وقاله : أبي بن كعب.
وقال الضحاك : المراد أصحاب سفينة نوح ، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام.
وعن ابن عباس : من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود ، وسواع.
وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أنْ غيّر الدين عمرو بن لحي.
وقال ابن زيد : هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم : { ألست بربكم } لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم.
وقال الأصم : هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده ، وهو مروي عن : مجاهد ، والسدّي ، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير.
وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان.
وقيل : في الشرك.
وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر ، فآمن بعضهم ، واستمر بعضهم على الكفر.
أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف ، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بعضهم ، أو العرب خاصة ، أقوال ثالثها للزجاج.
والظاهر أنّ المراد بقوله : أمة واحدة في الإسلام ، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام ، فلا يناسب أنْ يقوي عباد الأصنام.
فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر ، إنما المناسب أن يقال : إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه.
وأيضاً فقوله : ولولا كلمة ، هو وعيد ، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف ، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر ، هو المقتضى للوعيد ، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان ، إذ لا يصلح أن يكون سبباً للوعيد ، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله : { كان الناس أمة واحدة } ولكنْ أعدنا الكلام فيه لبعده.
والكلمة هنا هو القضاء ، والتقدير : لبني آدم بالآجال المؤقتة.
قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة ، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ.
وقال الزمخشري : هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، وتمييز المحق من المبطل.
وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب.
وقال الكلبي : الكلمة أنّ الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة ، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب ، أو بإقامة الساعة.
وقيل : الكلمة السابقة أنْ لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهو إرسال الرسل.
وقيل : الكلمة قوله : { سبقت رحمتى غضبى } ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة.
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
هذا من اقتراحهم.
قال الزمخشري : وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات.
وجعلوا نزولها كلا نزول ، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا : لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وإنهماكهم في الغي فقل : إنما الغيب لله أي : هو المختص بعلم الغيب المستأثر به ، لا علم لي ولا لأحدٍ به.
يعني : أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه ، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات.
وقال ابن عطية : آية من ربه ، آية تضطر الناس إلى الإيمان ، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ، ولا من المعجزات اضطرارية ، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، فقل : إنما الغيب لله إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد.
وقوله : فانتظروا ، وعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل : الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا } الآية وقيل : آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء ، وإحياء الموتى ، طلبوا ذلك على سبيل التعنت.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
لما ذكر تعالى قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون } الآية ثم ذكر قوله : { وقالوا لولا أنزل عليه آية } وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال ، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته ، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته.
وإعراضهم عن الآيات نظير قوله : { فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه }.
وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين ، فأتاه أبو سفيان فقال : إدع لنا بالخصب ، فإنّ أخصبنا صدقنا ، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا ، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه ، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير.
تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي ، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته.
والرحمة هنا الغيث بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، وما أشبه ذلك.
ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم ، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن ، والشك فيه قاله الجماعة.
وقال مجاهد ومقاتل : الاستهزاء والتكذيب.
وقال أبو عبيدة : الرد والجحود.
وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو شبيه بما قال الزمخشري : إنّ المكر أخفى الكيد.
وقال ابن عطية : والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار ، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى.
والإذاقة والمس هنا مجازان ، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر ، وذلك بلفظ أذقنا ، كأنه قيل : أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي : ينشىء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك.
وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية ، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر.
ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل : قل الله أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل.
ومعنى وصف المكر بالأسرعية : أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم ، وهو موقعه بكم ، واستدرجكم بإمهاله.
قال ابن عطية : أسرع من سرع ، ولا يكون من أسرع يسرع ، حكى ذلك أبو علي.
ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « في نار جهنم لهي أسود من القار » وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ انتهى.
وقيل : أسرع هنا ليست للتفضيل ، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب.
وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب : المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ ، والجواز مطلقاً ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع ، أو لغير النقل فيجوز ، نحو : أشكل الأمر وأظلم الليل ، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد ، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل ، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود ، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً ، وبعضهم في السواد والبياض فقط.
والرسل هنا الحفظة بلا خلاف.
والمعنى : أن ما تظنونه خافياً مطوياً عن الله لا يخفى عليه ، وهو منتقم منكم.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ، وأبو عمر : رسلنا بالتخفيف.
وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والأعرج ، ورويت عن نافع : يمكرون على الغيبة جرياً على ما سبق.
وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، وطلحة ، والأعمش ، والجحدري ، وأيوب بن المتوكل ، وابن محيصن ، وشبل ، وأهل مكة ، والسبعة : بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم ، والتفاتاً لقوله : قل الله أي : قل لهم ، فناسب الخطاب.
وفي قوله : إنّ رسلنا التفات أيضاً ، إذ لم يأت أنّ رسله.
وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي : يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكراً ، وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون ، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير ، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف ، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف.
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
العاصف الشديدة يقال : عصفت الريح.
قال الشاعر :
حتى إذا عصفت ريح مزعزعة . . .
فيها قطار ورعد صوته زجل
وأعصف الريح.
قال الشاعر :
ولهت عليه كل معصفة . . .
هو جاء ليس للبهارير
وقال أبو تمام :
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت . . .
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
الموج : ما ارتفع من الماء عند هبوب الهواء ، سمى موجاً لاضطرابه.
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك جرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كلّ مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكون من الشاكرين } : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة ، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته.
وكان قبل ذلك قد ذكر نحواً من هذا في قوله : { وإذا مس الإنسان الضرّ } الآية.
وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً ، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى ، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى ، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، ودعواه أنه شفيعه عند الله ، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض ، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشرافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم.
وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، وأبو العالية ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وعبد الله بن جبير ، وأبو عبد الرحمن ، وشيبة ، وابن عامر : ينشركم من النشر والبث.
وقرأ الحسن أيضاً : ينشركم من الإنشار وهو الإحياء ، وهي قراءة عبد الله.
وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار.
وقرأ باقي السبعة والجمهور : يسيركم من التسيير.
قال أبو علي : هو تضعيف مبالغة ، لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيرته ، ومنه قول الهذلي :
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها . . .
فأول راض سنة من يسيرها
قال ابن عطية : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهداً في هذا ، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول : سرت الطريق انتهى.
وما ذكره أبو علي لا يتعين ، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية ، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشئاً عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل.
وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول : سرت الطريق ، فهذا لا يجوز عند الجمهور ، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد ، فلا يصل إليه الفعل غيره.
دخلت عند سيبويه ، وانطلقت ، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة ، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل.
وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في.
وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص ، فيصل إليه الفعل بغير وساطة في ، وهو زعم مردود في النحو.
ومعنى يسيركم : يجعلكم تسيرون ، والسير معروف ، وفي قوله : والبحر دلالة على جواز ركوب البحر.
ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه حالة الرخاء.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ ( قلت ) : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظن للهلاك ، والدعاء للانجاء انتهى.
وهو حسن ، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء : في الفلكي بزيادة ياء النسب ، وخرج ذلك على زيادتها ، كما زادوها في الصفة في نحو : أحمرّيّ وزواريّ ، وفي العلم كقول الصلتان : أنا الصلتاني الذي قد علمتم.
وعلى إرادة النسب مراداً به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه ، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع ، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفرداً وجمعاً ، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك.
وهو التفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة.
وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى.
والذي يظهر والله أعلم أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر ، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين ، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر.
ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع ، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أنْ الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق ، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لايكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي.
وقال ابن عطية : بهم خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قوله : كنتم في الفلك ، هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى.
فكأنه قدر مفرداً غائباً يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى : { أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه } أي ، أو كذي ظلمات ، فعاد الضمير غائباً على اسم غائب ، فلا يكون ذلك من باب الالتفات.
والباء في بهم وبريح قال العكبري : تتعلق الباءان بجرين انتهى.
والذي يظهر أن الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو : مررت بزيد.
وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب ، فاختلف المدلول في الباءين ، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد ، ويجوز أن تكون الباء للحال أي : وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة ، فتتعلق بمحذوف كما تقول : جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها.
وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : وجرين بهم ، ويحتمل أن يكون حالاً أي : وقد فرحوا بها.
كما احتمل قوله : وجرين أن يكون معطوفاً على كنتم ، وأن يكون حالاً.
والظاهر أنّ قوله : جاءتها ريح عاصف ، هو جواب إذا.
والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك ، لأنه هو المحدث عنه في قوله : وجرين بهم ، وقاله مقاتل.
وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء ، وبدأ به الزمخشري.
ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.
وقرأ ابن أبي عبلة : جاءتهم ، ومعنى من كل من مكان من أمكنة الموج.
والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين.
وقيل : معناها التيقن ، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك ، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه ، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك.
وقرأ زيد بن علي : حيط بهم ثلاثياً والجملة من قوله : دعوا الله قال أبو البقاء : هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره : لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى ، وهو كلام لا يتحصل منه شيء.
وقال الطبري : جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف ، وجواب قوله : وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى.
وهو مخالف للظاهر ، لأنّ قوله : وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا ، لأنه معطوف على كنتم ، لكنه محتمل.
كما تقول : إذا زارك فلان فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه ، وكأن أداة الشرط مذكورة.
وقال الزمخشري : هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك ، فهو ملتبس به انتهى.
وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخّرج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول : هو جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل : دعوا الله مخلصين له الدين انتهى.
ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها ، قال معناه : ابن عباس وابن زيد.
وقال الحسن : مخلصين لا إخلاص إيمان ، لكنْ لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله ، فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري انتهى.
والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم ، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء ، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم ، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف ، وذلك القسم وما بعده محكيّ بقول أي : قائلين.
أو أجرى دعوا مجرى قالوا ، لأنه نوع من القول ، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها.
وقال الكلبي : إلى الريح العاصف.
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قال ابن عباس : يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى قوله بغير الحق ، والبغي لا يكون بحق؟ ( قلت ) : بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة انتهى.
وكأنه قد شرح قوله : يبغون بأنهم يفسدون ، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى.
قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد.
وقال الأصمعي : بغي الجرح ترقي إلى الفساد ، وبغت المرأة فجرت انتهى.
ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة ، إلا إن ذكر أنّ أصل البغي هو الطلب مطلقاً ولا يتضمن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق ، وطلب بغير حق.
ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال : أكد ذلك بقوله بغير الحق.
وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا ، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي ، وأنها كما قال سيبويه : حرف.
ومذهب غيره أنها ظرف ، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو.
والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم ، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي ، والخطاب بيا أيها الناس ، قال الجمهور : لأهل مكة.
والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا ، ويحتمل كما قالوا : العموم ، فيندرج أولئك فيهم ، وهذا ذمّ للبغي في أوجز لفظ.
ومعنى على أنفسكم.
وبال البغي عليكم ، ولا يجني ثمرته إلا أنتم.
فقوله : على أنفسكم ، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم ، فيتعلق بمحذوف.
وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص ، وابن أبي إسحاق ، وهارون ، عن ابن كثير : على أنه مصدر في موضع الحال أي : متمتعين ، أو باقياً على المصدرية أي : يتمتعون به متاع ، أو نصباً على الظرف نحو : مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا.
وكل هذه التوجيهات منقولة.
والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي : كائن على أنفسكم ، ولا ينتصبان ببغيكم ، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر ، وهو غير جائز.
وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وأجاز النحاس ، وتبعه الزمخشري ، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله : بغيكم ، كما تعلق في قوله ، فبغى عليهم ، ويكون الخبر متاع إذا رفعته.
ومعنى على أنفسكم : على أمثالكم.
والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا.
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً : متاعاً الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه ، ونصب الحياة.
وقال سفيان بن عيينة : في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا.
وقرأ فرقة : فينبئكم بالياء على الغيبة ، والمراد الله تعالى.
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال : { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } ضرب مثلاً عجيباً غريباً للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها ، وأنها بحال ما تعز وتسر ، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء.
وقال الزمخشري : هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى.
وإنما هنا ليست للحصر لا وضعاً ولا استعمالاً ، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالاً غير هذا ، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة ، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول.
والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به ، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع.
وقيل : شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف ، فيكون التقدير : كنبات ماء ، فحذف المضاف.
وقيل : شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف ، فيكون التقدير : كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء.
قيل : ويقوي هذا قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
والسماء إما أن يراد من السحاب ، وإما أن يراد من جهة السماء ، والظاهر أن النبات اختلط بالماء.
ومعنى الاختلاط : تشبثه به ، وتلقفه إياه ، وقبوله له ، لأنه يجري له مجرى الغذاء ، فتكون الباء للمصاحبة.
وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال : اختلط بصاحبه ، فلذلك فسره بعضهم بقوله : خالطه الماء وداخله ، فغذّى كل جزء منه.
وقال الكرماني : فاختلط به اختلاط مجاورة ، لأنّ الاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض انتهى.
ولا يمتنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل ، فلا تقول : إنه اختلاط مجاورة.
وقيل : اختلط اختلف وتنوع بالماء ، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير.
وقيل : معنى اختلط تركب.
وقيل : امتد وطال.
وقال الزمخشري : فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً.
وقال ابن عطية : وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى.
وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية ، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله : فاختلط ، هو ضمير يعود على الماء أي : فاختلط الماء بالأرض.
ويقف هذا الذاهب على قوله : فاختلط ، ويستأنلف به نبات على الابتداء ، والخبر المقدم.
قال ابن عطية : يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى.
والوقف على قوله : فاختلط ، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى ، الفصيح اللفظ ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد ، والمعنى الضعيف.
ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض ، أو بالماء نبات الأرض ، لم يكد ينعقد كلاماً من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة ، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا.
ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره ، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال : مما يأكل الناس ، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام ، كالحشيش وسائر ما يرعى.
قال الحوفي : مِن متعلقه باختلط.
وقال أبو البقاء : مما يأكل حال من النبات ، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً.
وقول أبي البقاء : هو الظاهر ، وتقديره : كائناً مما يأكل ، وحتى غاية ، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية.
فأما أن يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا ، أو يتجوز في فاختلط ، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.
وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت ، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة ، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى ، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة ، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب ، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس.
وازينت أي : بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار ، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيداً لقوله : أخذت الأرض زخرفها.
واحتمل أن لا يكون تأكيداً ، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين ، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين.
ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة.
وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام.
وقرأ أبي وعبد الله ، وزيد بن علي ، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت.
وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، وابن يعمر ، والحسن ، والشعبي ، وأبو العالية ، وقتادة ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، وعيسى الثقفي : وأزينت على وزن أفعلت ، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت.
وصحت الياء فيه على جهة الندور ، كأعبلت المرأة.
والقياس : وأزانت ، كقولك وأبانت.
وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت ، قاله عنه صاحب اللوامح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احمأرَّت ، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين ، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة.
ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت . . .
وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها.
قال ابن عطية : وهي قراءة أبي عثمان النهدي.
وقرأت فرقة : وازّاينت ، والأصل وتزاينت فأدغم ، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين.
وقيل : بمعنى أيقنوا وليس بسديد ، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها ، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات.
والضمير في أهلها عائد على الأرض ، وهو على حذف مضاف أي : أهل نباتها.
وقيل : الضمير عائد على الغلة.
وقيل : على الزينة ، وهو ضعيف.
وجواب إذا قوله : أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد.
وقيل : أتاها أمرنا بإهلاكها ، وأبهم في قوله : ليلاً أو نهاراً ، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره ، أو تكون أو للتنويع ، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً ، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما.
والحصيد : فعيل بمعنى مفعول أي : المحصود ، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج.
وقال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل انتهى.
وعبر بحصيد عن التألف استعارة ، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً علاقة ما بينهما من الطرح على الأرض.
وقيل : يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير : فجعلناها كالحصيد.
وقوله : كأن لم تغن بالأمس ، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها.
وقرأ الحسن وقتادة : كأن لم يغن بالياء على التذكير.
فقيل : عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع ، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله : عليها ، وفي قوله : أتاها فجعلناها.
وقيل : عائد على الزخرف ، والأولى عوده على الحصيد أي : كأن لم يغن الحصيد.
وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر : كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل.
وقال الأعشى : طويل الثواء طويل التغني ، وهو من غنى بكذا أقام به.
قال الزمخشري : والأمس مثل في الوقت.
كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً انتهى.
وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ، ولا هو مرادف كقوله : آنفاً ، لأنّ آنفاً معناه الساعة ، والمعنى : كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان.
ولولا أنّ قائلاً قال في غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى ، لأنه لا وجود لها الساعة ، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي ، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى حالة العدم ، فكان حالة الوجود ما سبقت له.
وفي مصحف أبي : كأن لم تغن بالأمس ، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها.
وفي التحرير نفصل الآيات ، رواه عنه ابن عباس.
وقيل في مصحفه : وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها.
وفي التحرير : وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبيّ كأن لم تغن بالأمس ، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها ، ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى.
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي ، نفصل في المستقبل.
وقرأ أبو الدرداء : لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء.
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
لما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال ، وما تضمنه من الآفات والعاهات ، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن ، وهي الجنة ، إذ أهلها سالمون من كل مكروه.
ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل : بيت الله ، وناقة الله ، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشوّ ذلك بينهم ، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال : { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً } قال الحسن : إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى : { تحيتهم فيها سلاماً } وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث.
وقال قتادة : ذكر لنا أنّ في التوراة مكتوباً يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشرّ انته.
ولما كان الدعاء عامًّاً لم تتقيد بالمشيئة ، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال : ويهدي من يشاء.
وقال الزمخشري : ويهدي يوفق من يشاء ، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأن مشيئته تابعة لحكمته.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
رهقه غشيه ، وقيل : لحقه ومنه.
ولا ترهقني من أمري عسراً ، ورجل مرهق يغشاه الأضياف.
وقال الأزهري : الرهق اسم من الإرهاق ، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق.
يقال : أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة.
وقيل : أصل الرهق المقاربة ، يقال : غلام مراهق أي قارب الحلم.
وفي الحديث : « أرهقوا القبلة » أي ادنوا منها.
ويقال : رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته ، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى.
القتر والقترة الغبار الذي معه سواد ، وقال ابن عرفة : الغبار.
وقال الفرزدق :
متوج برداء الملك يتبعه . . .
موج ترى فوقه الرايات والقترا
أي غبار العسكر.
وقال ابن بحر : أصل القتر دخان النار ، ومنه قتار القدر انتهى.
ويقال : القتر بسكون التاء الشأن والأمر ، وجمعه شؤون.
وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده.
عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي ، ومنه الروض العازب.
وقال أبو تمام :
وقلقل نأى من خراسان جأشها . . .
فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه
وقيل للغائب عن أهله عازب ، حتى قالوه لمن لا زوجة له.
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } : أحسنوا قال ابن عباس : ذكروا كلمة لا إله إلا الله.
وقال الأصم : أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي : أتوا بالمأمور به كما ينبغي ، واجتنبوا المنهى.
وقيل : أحسنوا معاملة الناس.
وروي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحسنوا العمل في الدنيا » وفي الصحيح : « ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك » وعن عيسى عليه السلام : « ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة ، ولكنّ الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ».
والحسنى قال الأكثرون : هي الجنة ، وروي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو صح وجب المصير إليه.
وقال الطبري : الحسنى عام في كل حسن ، فهو يعم جميع ما قيل ووعد الله في جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك أيضاً قوله : أولئك أصحاب الجنة.
ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى.
وقال عبد الرحمن بن سابط : هي النضرة.
وقال ابن زيد : الجزاء في الآخرة.
وقيل : الأمنية ذكره ابن الأنباري.
وقال الزمخشري : المثوبة الحسنى وزيادة ، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل ، ويدل عليه قوله تعالى : { ويزيدهم من فضله } وعن علي : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة.
وعن ابن عباس : الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها.
وعن الحسن : عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان.
وعن زياد بن شجرة : الزيادة أنّ تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم.
وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ، وجاءت بحديث موضوع : «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة ، فيكشفون الحجاب ، فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله تعالى شيئاً هو أحب إليهم منه» انتهى.
أما تفسيره أولاً ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله ، وأما قوله : وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع ، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب ، والنسائي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفاً على أبي موسى وقال : بأن الزيادة هي النظر إلى الله تعالى ، أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رواية وحذيفة ، وعبادة بن الصامت ، وكعب بن عجرة ، وأبو موسى ، وصهيب ، وابن عباس في رواية ، وهو قول جماعة من التابعين.
ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين.
قال مجاهد : أراد ولا يلحقها خزي ، والخزي يتغير به الوجه ويسود.
قال ابن ابن عباس : والذلة الكآبة.
وقال غيره : الهوان.
وقيل : الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله : { وترهقهم ذلة } وقوله : { عليها غبرة ترهقها قترة } وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها ، ولظهور أثر السرر والحزن فيه.
وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : قتر بسكون التاء ، وهي لغة كالقدر ، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا وحالهم يوم القيامة ومآلهم إلى الجنة ، ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم ، وجاءت صلة المؤمنين أحسنوا ، وصلة الكافرين كسبوا السيئات ، تنبيهاً على أنّ المؤمن لما خلق على الفطرة وأصلها بالإحسان ، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة انتقل عنها وكسب السيئات ، فجعل ذلك محسناً ، وهذا كاسباً للسيئات ، ليدل على أنّ المؤمن سلك ما ينبغي ، وهذا سلك ما لا ينبغي.
والظاهر أنّ والذين مبتدأ ، وجوزوا في الخبر وجوهاً أحدها : أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها ، وجزاء مبتدأ فقيل : خبره مثبت وهو بمثلها.
واختلفوا في الباء فقيل : زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها ، كما قال : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، كما زيدت في الخبر في قوله : فمنعكها بشيء يستطاع ، أي شيء يستطاع.
وقيل : ليست بزائدة ، والتقدير : مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها.
وقيل : محذوف ، فقدّره الحوفي : لهم جزاء سيئة قال : ودل على تقدير لهم قوله : { للذين أحسنوا الحسنى } حتى تشاكل هذه بهذه.
وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع ، والباء في قولهما متعلقة بقوله : جزاء ، والعائد من هذه الجملة الواقعة خبراً عن الذين محذوف تقديره : جزاء سيئة منهم ، كما حذف في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم.
وعلى تقدير الحوفي : لهم جزاء يكون الرابط لهم.
الثاني : أنّ الخبر قوله : ما لهم من الله من عاصم ، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض ، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي ، والصحيح جوازه.
الثالث : أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً.
الرابع : أن يكون الخبر أولئك وما بعده ، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة ، وفي القول الثالث بثلاث جمل ، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفاً على قوله : للذين أحسنوا ، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله : والذين على إسقاط حرف الجر أي : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، فيتعادل التقسيم ، كما تقول : في الدار زيد ، والقصر عمرو ، وأي : وفي القصر عمرو.
وهذا التركيب مسموع من لسان العرب ، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين.
وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر ، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور ، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو.
والظاهر أنّ السيئات هنا هي سيئات الكفر ، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد.
وقيل : السيئات المعاصي ، فيندرج فيها الكفر وغيره.
ولهذا قال ابن عطية : وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي ، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى ، ومعنى بمثلها أي : لا يزاد عليها.
قال الزمخشري : وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى.
وقيل : معنى بمثلها أي : بما يليق بها من العقوبات ، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات ، ولهذا كانت جهنم دركات ، وكان المنافقون في الدرك الأسفل لقبح معصيتهم.
وقرىء : ويرهقهم بالياء ، لأنّ تأنيث الذلة مجاز ، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم ، وهنا غشيتهم الذلة ، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً ، وهذه مبالغة في سواد الوجوه.
وقد جاء مصرحاً في قوله : { وتسود وجوه } من الله أي من سخطه وعذابه ، أو من جهته تعالى ، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت : كسبت ، ومنه الغشاء.
وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز ، فتكون ألوانهم مسودة.
قال أبو عبد الله الرازي : واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد ههنا سواد الجهل وظلمة الضلال ، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة.
فقوله : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ، المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته ، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى.
وكثيراً ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير ، وينقل كلامهم تارة منسوباً إليهم ، وتارة مستنداً به ويعني : بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية ، وهم أحق بأنْ يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء ، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية ، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى.
وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتاباً إلهياً ، فلأنْ ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق.
وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس ، ويسمونها الحكمة ، ويستجهلون من عرى عنها ، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس ، ويعكفون على دراستها ، ولا تكاد تلقى أحداً منهم يحفط قرآناً ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا : كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم ، أغرى به علماء الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الاشهاد ، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء :
خليفتنا جزاك الله خيراً . . .
عن الإسلام والسعي الكريم
فحق جهاده جاهدت فيه . . .
إلى أن فزت بالفتح العظيم
وصيرت الأنام بحسن هدى . . .
على نهج الصراط المستقيم
فجاهد في أناس قد أضلوا . . .
طريق الشرع بالعلم القديم
وحرق كتبهم شرقاً وغرباً . . .
ففيها كامناً شر العلوم
يدب إلى العقائد من أذاها . . .
سموم والعقائد كالجسوم
وفي أمثالها إذ لا دواء . . .
يكون السيف ترياق السموم
وقال :
يا وحشة الإسلام من فرقة . . .
شاغلة أنفسها بالسفه
قد نبذت دين الهدى خلفها . . .
وادعت الحكمة والفلسفه
وقال :
قد ظهرت في عصرنا فرقة . . .
ظهورها شؤم على العصر
لا تقتدي في الدين إلا بما . . .
سن ابن سينا أو أبو نصر
ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيراً من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهراً من غير أن ينكر ذلك أحد تعجبت من ذلك ، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له ، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية ، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق ، إنما يسمونه المفعل ، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتاباً من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتاباً لبعض شيوخنا في المنطق ، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير ، فسماه في كتابه لي بالمفعل.
ولما ألبست وجوههم السواد قال : كأنما أغشيت وجوههم ، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته.
وقرأ ابن كثير والكسائي قطعاً بسكون الطاء ، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع.
وقال الأخفش في قوله : بقطع من الليل ، بسواد من الليل.
وأهل اللغة يقولون : القطع ظلمة آخر الليل.
وقال بعضهم : طائفة من الليل.
وعلى هذه القراءة يكون قوله : مظلماً صفة لقوله : قطعاً ، كما جاء ذلك في قراءة أبي : كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم.
وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء.
وقيل : قطع جمع قطعة ، نحو سدر وسدرة ، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو : نخل منقعر ، وبالمؤنث نحو نخل خاوية ، ويجوز على هذا أن يكون مظلماً حالاً من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة ، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً بتحريك الطاء بالفتح من الليل : مظلماً بالنصب.
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل ، فما العامل فيه؟ ( قلت ) : لا يخلو إما أن يكون أغشيت ، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله : قطعاً ، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة.
وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى.
أما الوجه الأوّل فهو بعيد ، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال ، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن ، وأغشيت عامل في قوله : قطعاً الموصوف بقوله : من الليل ، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي : قطعاً مستقرة من الليل ، أو كائنة من الليل في حال إظلامه.
وقيل : مظلماً حال من قوله : قطعاً ، أو صفة.
وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعاً في معنى كثير ، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير.
وجوزوا أيضاً في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلماً حالاً من قطع ، وحالاً من الضمير في من.
قال ابن عطية : فإذا كان نعتاً يعني : مظلماً نعتاً لقطع ، فكان حقه أن يكون قبل الجملة ، ولكن قد يجيء بعد هذا ، وتقدير الجملة ، قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مباركاً } انتهى.
ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة ، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل ، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير : كائناً من الليل مظلماً.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من { الذين أحسنوا } { والذين كسبوا السيآت } وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة : نحشرهم بالنون ، وقرأت فرقة بالياء.
وقيل : يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات ، ومنهم عابد غير الله ، ومن لا يعبد شيئاً.
وانتصب يوم على فعل محذوف أي : ذكرهم أو خوفهم ونحوه.
وجميعاً حال ، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون الله كائناً من كان أربعة أقوال.
ومن قال : الأصنام ، قال : ينفخ فيها الروح فينطقها الله بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم : اتبعوا ما كنتم تعبدون ، فيقولون والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة : فكفى بالله شهيداً » الآية.
قال ابن عطية : فظاهر هذه الآية أنّ محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم ، بدليل القول لهم : مكانكم أنتم وشركاؤكم ، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم : إن كنا عن عبادتكم لغافلين.
وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم.
ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال ، وقدر بأثبتوا كما قال :
وقولي كلما جشأت وجاشت . . .
مكانك تحمدي أو تستريحي
أي اثبتي.
ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي ، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله : أنتم وشركاؤكم.
والحركة التي في مكانك ودونك ، أهي حركة إعراب ، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال؟ ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فمن قال : هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً ، ومن قال : لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء.
وعلى الأول عول الزمخشري فقال : مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم.
واختلفوا في أنتم ، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم ، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال : وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله : الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى.
يعني عطفاً على الضمير المستكن ، وتقديره : الزموا ، وأنّ مكانكم قام مقامه ، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد ، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا.
ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً ، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك : عليك زيداً لما ناب مناب ، الزم تعدى.
وإليك لما ناب مناب تنح ، لم يتعد.
ولكون مكانك لا يتعدى ، قدره النحويون اثبت ، واثبت لا يتعدى.
قال الحوفي : مكانكم نصب بإضمار فعل أي : الزموا مكانكم أو اثبتوا.
وقال أبو البقاء : مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر ، أي الزموا انتهى.
وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد ، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه ، كما تعدى الزم.
وقال ابن عطية : أنتم رفع بالابتداء ، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى.
فيكون مكانكم قد تم ، ثم أخبر أنهم كذا ، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه ، ولقوله : فزيلنا بينهم ، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق.
ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه ، والعامل فيه اسم الفعل.
ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره ، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول : كل رجل وضيعته بالرفع ، ولا يجوز فيه النصب.
وقال ابن عطية أيضاً : ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى.
وهذا ليس بجيد ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف ، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه ، وهو غير جائز لا تقول : أنت مكانك ، ولا يحفظ من كلامهم.
والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي ، فكذلك هذا ، لأن التأكيد ينافي الحذف.
وليس من كلامهم : أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً ، وأنت تريد اضرب أنت زيد ، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً.
يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله.
قال الفراء : تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل.
وقال الواحدي : التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى.
وزيل مضاعف للتكثير ، وهو لمفارقة الحبث من ذوات الياء ، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة.
وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول ، وتبعه أبو البقاء.
وقال أبو البقاء : فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول ، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي : زيولنا مثل بيطر وبيقر ، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى.
وليس بجيد ، لأنّ فعل أكثر من فيعل ، ولأنّ مصدره تزييل.
ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله ، فكان يكون زيلة كبيطرة ، لأنّ فيعل ملحق بفعلل ، ولقولهم في قريب من معناه : زايل ، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق ، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح ، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم ، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا ، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى : { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا ضلوا عنا } وقرأت فرقة : فزايلنا حكاه الفراء.
قال الزمخشري : كقولك صاعر خده ، وصعر ، وكالمته وكلمته انتهى.
يعني أن فاعل بمعنى فعل ، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق.
قال :
وقال العذارى إنما أنت عمنا . . .
وكان الشباب كالخليط يزايله
وقال آخر :
لعمري لموت لا عقوبة بعده . . .
لذي البث أشفى من هوى لا يزايله
والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده.
وقيل : فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية ، وفزيلنا.
وقال : هنا ماضيان لفظاً ، والمعنى : فنزيل بينهم ونقول : لأنهما معطوفان على مستقبل ، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم : إياكم كنا نعبد ، والمعنى : إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أنداداً فأطعتموهم ، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى.
وانتصب شهيداً ، قيل : على الحال ، والأصح على التمييز لقبوله مِن.
وتقدم الكلام في كفى وفي الياء ، وأنْ هي الخفيفة من الثقيلة.
وعند القراء هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، وقد تقدم الكلام في ذلك.
واكتفاؤهم بشهادة الله هو على انتفاء أنهم عبدوهم.
ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي : لا شعور لنا بذلك.
وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية ، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم ، ولا شيء أعظم سبباً للغفلة من الجمادية ، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة.
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
هنالك ظرف مكان أي : في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش.
وقيل : هو إشارة إلى الوقت ، استعير ظرف المكان للزمان أي : في ذلك الوقت.
وقرأ الإخوان وزيد بن علي : تتلوا بتاءين أي : تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها ، قاله السدي.
ومنه قول الشاعر :
إن المريب يتبع المريبا . . .
كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قيل : ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي : تقرأ كتبها التي تدفع إليها.
وقرأ باقي السبعة : تبلوا بالتاء والباء أي : تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضار ، أمقبول أم مردود؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره.
وروي عن عاصم : نبلوا بنون وباء أي : نختبر.
وكل نفس بالنصب ، وما أسلفت بدل من كل نفس ، أو منصوب على إسقاط الخافض أي : ما أسلفت.
أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي : نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء.
وعن الحسن تبلوا تتسلم.
وعن الكلبي : تعلم.
وقيل : تذوق.
وقرأ يحيى بن وثاب : وردوا بكسر الراء ، لمَّا سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها.
ومعنى إلى الله إلى عقابه.
وقيل : إلى موضع جزائه مولاهم الحق ، لا ما زعموه من أصنامهم ، إذ هو المتولي حسابهم.
فهو مولاهم في الملك والإحاطة ، لا في النصر والرحمة.
وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو : الحمد لله أهل الحمد.
وقال الزمخشري : كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل ، على تأكيد قوله : ردوا إلى الله انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي : وردوا إلى الله ، جعلوا ملجأين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله ، ولذلك قال : مولاهم الحق.
وضل عنهم أي : بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب ، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء لله شافعون لهم عنده.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
لما بين فضائح عبدة الأوثان ، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم ، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم ، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة.
فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه ، فمن السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات.
فمن لابتداء الغاية وهيىء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة ، تعالى توسعة منه وإحساناً.
ومن ذهب إلى أنّ التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان.
ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين : السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء ، والبصر الذي يرى ملكوت السموات والأرض.
ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب.
وقال الزمخشري : من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة ، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى.
ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار.
وعن عليّ كرم الله وجهه : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم.
وأم هنا تقتضي تقدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى : { أما ذا كنتم تعملون } فلا تتقدّر ببل ، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام ، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء.
ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها ، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس ، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت ، والميت من الحي ، وذلك من باهر قدرته ، وهو إخراج الضد من ضده.
وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها ، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها ، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور.
واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي : لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه.
ومعنى أفلا تتقون : أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة؟ وقيل : أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة.