كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

فلما رجع أبو القاسم وجه موسى زهاء خمسمائة فارس، فوافقوا على باب الحيربين الجوسق والكرخ، فمال إليهم أبو القاسم ورسل القوم ورسل أنفسهم، فدفع رسول موسى إلى موسى كتاب القوم إليه وإلى أصحابه - وفي الجماعة سليمان بن وهب وولده وأحمد بن محمد بن ثوابة وغيرهم من الكتاب - فلما قرأ الكتاب عليهم أعلمهم أبو القاسم أن معه كتاباً من القوم إلى أمير المؤمنين، ولم يدفعه إليهم. فركبوا جميعاً وانصرفوا إلى المهتدي، فوجدوه في الشمس قاعداً على لبد، قد صلى المكتوبة؛ وكسر جميع ما كان في القصر من الملاهي وآلاتها وآلات اللعب والهزل، فدخلوا فأوصلوا إليه الكتب، وخلوا ملياً، ثم أمر المهتدي سليمان بن وهب بإنشاء الكتب على ما سألوا في خمس رقاع، فأنفذها المهتدي في درج كتاب منه بخطه، ودفه إلى أخيه، وكتب القواد إليهم جواب كتابهم، ودفعوه إلى صاحب موسى،فصار إليهم أبو القاسم في وقت المغرب، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقرأ عليهم كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه، فهمت كتابكم. حاطكم الله، وقد أنفذت إليكم التوقيعات الخمس على ما سألتم، فوكلوا من يتنجزها من الدواوين إن شاء الله، وأما ما سألتم من تصير أمركم إلى أحد إخوتي ليوصل إلى أخباركم، ويؤدي إلى حوائجكم؛ فوالله إني لأحب أن أتفقد ذلك بنفسي، وأن أطلع على كل أمركم وما فيه مصلحتكم، وأنا مختار لكم الرجل الذي سألتم، من إخوتي أو غيرهم إن شاء الله؛ فاكتبوا إلي بحوائجكم وما تعلمون أن فيه صلاحكم؛ فإني صائر من ذلك إلى ما تحبون إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه.
وأوصل إليهم رسول موسى كتاب موسى وأصحابه؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم، فهمنا كتابكم؛ وإنما أنتم إخواننا وبنو عمنا، ونحن صائرون إلى ما تحبون، وقد أمر أمير المؤمنين أعزه الله في كل ما سألتم بما تحبون وأنفذ التوقيعات به إليكم.
وأما ذكرتم من أمر صالح مولى أمير المؤمنين وتغيرنا له فهو الأخ وابن العم، وما أردنا من ذلك ما تكرهون؛ فإن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فقد رفعنا إلى أمير المؤمنين رقاعاً، نسأله مثل الذي سألتم. وأما ما قلتم من ترك الاعتراض على أمير المؤمنين وتفريض الأمر إليه، فنحن سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، والأمور مفوضة إلى الله وهو مولانا ونحن عبيده وما نعترض عليه في شىء من الأمور أصلاً وأما ما ذكرتم أنا نريد بأمير المؤمنين سوءاً، فمن أراد ذلك فجعل الله دائرة السوء عليه، وأخزاه في دنياه وآخرته. أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم! فلما قرأ الكتابات عليهم، قالوا لأبي القاسم: هذا المساء قد أقبل، ننظر في أمرنا الليلة، ونعود بالغداة لنعرفك رأينا، فافترقوا، وانصرف أبو القاسم إلى أمير المؤمنين.
ثم أصبح القوم من غداة يوم الجمعة، فلما كان في آخر الساعة الأولى، ركب موسى بن بغا من دار أمير المؤمنين، وركب الناس معه وهم قدر ألف وخمسمائة رجل؛ حتى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق والكرخ، فعسكر هناك، وخرج أبو القاسم أخوالمهتدي، ومعه الكرخي، حتى صار إلى القوم، وهم زهاء خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل؛ وقد كان أبو القاسم انصرف في الليل ومعه التوقيعات؛ فلما صار بينهم أخرج كتاباً من المهتدي نسخته شبيه بالكتاب الذي في درجة التوقيعات. فلما قرأ الكتاب ضجوا، واختلفت أقاويلهم، وكثر من يلحق بهم من رجالة الموالي من ناحية سامرا في الحير فلم يزل أبو القاسم ينتظر أن ينصرف من عندهم بجواب يحصله يؤديه إلى أميرالمؤمنين، فلم يتهيأ ذلك إلى الساعة الرابعة وانصرفوا، فطائفة يقولون: نريد أن يعز الله أمير المؤمنين، وزيوفر علينا أرزاقنا؛ فإنا قد هلكنا بتأخيرها عنا. وطائفة يقولون: لا نرضى حتى يولى علينا أمير المؤمنين إخوانه، فيكون واحدٌ بالكرخ، وآخر بالدور، وآخر بسامرا، ولا نريد أحداً من الموالي يكون علينا رأساً. وطائفة تقول: نريد أن يظهر صالح بن وصيف - وهي الأقل.

فلما طال الكلام بهذا منهم، انصرف أبو القاسم إلى المهتدى بجملة من الخبر، وبدأ بموسى في الموضع الذي هو معسكر فيه؛ فانصرف بانصرافه، فلما صلى المهتدي الجمعة صيّر الجيش إلى محمد بن بغا، وأمره بالمصير إلى القوم مع أخيه أبي القاسم، فركب معه محمد بن بغا في زهاء خمسمائة فارس، ورجع موسى إلى الموضع الذي كان فيه بالغداة، ومضى أبو القاسم ومحمد بن بغا حتى خالطا الجميع به، فقال أبو القاسم لهم: إن أمير المؤمنين يقول: قد أخرجت التوقعات لكم بجميع ما سألتم، ولم يبق لكم مما تحبون شيء إلا وأمير المؤمنين يبلغ في الغاية؛ وهذا أمان لصالح بن وصيف بالظهور. وقرأ عليهم أماناً لصالح، بأن موسى وبابكباك سألا أمير المؤمنين أعزه ذلك، فأجابهما إليه، وأكده بغاية التأكيد، ثم قال: فعلام: اجتماعكم! فأكثروا الكلام؛ فكان الذي حصله عند انصرافه أن قالوا: نريد أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة وصيف أيام بغا، وبايكباك في مرتبته الأولى، ويكون الجيش في يد من هو في يده؛ إلى أن يظهر صالح بن وصيف، فيوضع لهم العطاء، وتنتجز لهم الأرزاق بما في التوقعات، فقال: نعم.
فانصرف القوم، فلما صاروا على قدر خمسمائة ذراع اختلفوا، فقال قوم: قد رضينا، وقال قوم: لم نرض، وانصرف رسل المهتدي إليه: إن القوم قد تفرقوا؛ وهم على أن ينصرفوا، فانصرف موسى عند ذلك، وتفرق الناس إلى مواضعهم من الكرخ والدور وسامرا. فلما كان غداة يوم السبت، ركب ولد وصيف وجماعة من مواليهم وغلمانهم، وتنادى الناس: السلاح! وانتهب دواب العامة الرجالة؛ رجالة أصحاب صالح بن وصيف. ومضوا فعسكروا بسامرا في طرف وادي إسحاق بن إبراهيم، عند مسجد لجين أن ولد المتوكل وركب أبو القاسم عند ذلك يريد دار المهتدي، فمر بهم في طريقه، فتعلقوا به وبمن كان معه من حشمه وغلمانه، فقالوا له: تؤدي إلى أمير المؤمنين عنا رسالة؟ فقال لهم: قولوا، فخلطوا ولم يتحصل من قولهم شيئاً إلا: إنا نريد صالحاً، فمضى حتى أدى إلى أمير المؤمنين ذلك وإلى موسى، وجماعة القواد حضور.
فذكر عمن حضر المجلس أن موسى بن بغا، قال: يطلبون صالحاً مني؛ كأني أنا أخفيته وهو عندي! فإن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه. وتأكد عندهم الخبر باجتماع القوم، وتجلب الناس إليهم، وتهايجوا من دار أمير المؤمنين؛ فركبوا في السلاح، وأخذوا في الحير حتى اجتمعوا ما بين الدكة وظهر المسجد الجامع؛ فاتصل الخبر بالأتراك ومن كان ضوى إليهم، فانصرفوا ركضاً وعدواً لا يلوى فارس على راجل، ولا كبير على صغير حتى دخلوا الدروب والأزقة، ولحقوا بمنازلهم، وزحف موسى وأصحابه جميعاً، فلم يبق بسامرا قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلا ركب معه، ولزموا الحير حتى خرجوا مما يلي الحائطين. ثم خرجوا؛ فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد، حتى لحقوا بجيش موسى. وأما موسى وجماعة القواد الذين كانوا معه مثل ياجور وساتكين ويارجوخ وعيسى الكرخي، فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد، حتى صاروا إلى الوادي، وانصرفوا إلى الجوسق؛ فكان تقدير الجيش الذين كانوا مع موسى في هذا اليوم - وهو يوم السبت - أربعة آلاف فارس في السلاح والقسي الموترة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات. وكان أكثر القواد الذين كانوا بالكرخ يطلبون صالحاً مع موسى في هذا الجيش يريدون محاربة من يطلب صالحاً.
وقد ذكر عن بعض من تخير أمرهم؛ أن أكثر من كان راكباً مع موسى كان هواه مع صالح، ولم يكن للكرخيين والدوريين في هذا اليوم حركة؛ فلما وصل القوم إلى الجوسق كان أول ما ظهر منهم النداء بأن من لم يحضر دار أمير المؤمنين في غداة يوم الأحد من قواد صالح وأهله وغلمانه وأصحابه أسقط اسمه، وخرب منزله، وضرب وقيد وحذر إلى المطبق؛ ومن وجد بعد ثالثة من هذه الطبقة ظاهراً بعد استتار، فقد حل به مثل ذلك، ومن أخذ دابة لعامي أو تعرض له في طريق؛ فقد حلت به العقوبة الموجعة.

وبات الناس ليلة الأحد لثمان خلون من صفر على ذلك؛ فلما كان غداة يوم الاثنين انتهى إلى المهتدي أن مساورا الشاري صار إلى بلد، فقتل بها وحرق، فنادى في مجلسه بالنفير، وأمر موسى ومفلحاً وبايكباك بالخروج، وأخرج موسى مضاربه؛ فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر بطل أمر موسى ومحمد بن بغا ومفلح في الخروج، وقالوا: لا يبرح أحدٌ منا حتى ينقطع أمرنا وأمر صالح؛ وهم مجمعون على ذلك، يخافون من صالح أن يخلفهم بمكروه.
وذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت بعض بني وصيف - وهو الذي كان جمع تلك الجموع - يلعب مع موسى وبايكباك بالصوالجة في ميدان بغا الصغير يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر. ثم جد هؤلاء في طلب صالح بن وصيف، فهجم بسببه على جماعة ممن كان متصلاً به قبل ذلك. وممن اتهموه أنه آواه، منهم إبراهيم بن سعدان النحوي وإبراهيم الطالبي وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر الشيعي وأبو الأحوص بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة وأبو يكر ختن أبي حرملة الحجام وشارية المغنية والسرخسي صاحب شرطة الخاصة وجماعة غيرهم.
فذكر عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، قال: حدثني صاحب ربع القبة - وهو ربع تلقاء دار صالح بن وصيف - قال: بينا نحن قعود يوم الأحد، إذا غلام قد خرج من زقاق، وأراه مذعوراً، فأنكرناه، فأردنا مسألته عن شأنه؛ ففاتنا؛ فلم يلبث أن أقبل عيار من موالي صالح بن وصيف يعرف بروزبه، ومعه ثلاثة نفر أو أربعة، فدخلوا الزقاق، فأنكرناهم، فلم يلبثوا أن خرجوا صالح بن وصيف، فسألنا عن الخبر، فإذا الغلام قد دخل داراً في الزقاق يطلب ماءً ليشربه. فسمع الخبر قائلاً يقول بالفارسية: أيها الأمير تنح، فإن غلاماً قد جاء يطلب ماء؛ فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العبار معرفة، فجاء فأخبره، فجمع العيار ثلاثة أناسي، وهم عليه فأخرجه.
وذكر عن العيار الذي هجم عليه، أنه قال: قال لي الغلام ما قال، فأقبلت ومعي ثلاثة نفر، فإذا بصالح بن وصيف بيده مرآة ومشط، وهو يسرح لحيته، فلما رآني بادر فدخل بيتاً، فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح، فتلومت ثم نظرت إليه؛ فإذا هو لجأ إلى زاوية، فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على المتضرع شيئاً. قال: فلما تضرع إلي قلت: ليس إلى تركك سبيل؛ ولكني أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوادك وصنائعك؛ فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتك في أيديهم. قال: فأخرجته فما لقيت إلا من هو عوني على مكروهه.
فذكر أنه لما أخذ مضى به نحو ميلين، ليس معه إلا أقل من خمسة نفر من أصحاب السلطان. وذكر أنه أخذ حين أخذ، وعليه قميص ومبطنة ملحم وسراويل، وليس على رأسه شيء وهو حاف.
وقيل إنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه؛ حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا؛ فلما صاروا به إلى دار موسى بن بغا أتاه بايكباك ومفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القواد، ثم أخرجوه من باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع؛ ليذهبوا به إلى الجوسق، وهو على بغل بإكاف، فلما صاروا به إلى حد المنارة، ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كان يقذه منها، ثم احتزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى المهتدي؛ فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دماً، فوصلوا به إليه، وقد قام لصلاة المغرب، فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدي صلاته، وخبروه أنهم قتلوا صالحاً، وجاءوا برأسه لم يزدهم على أن قال: واروه؛ وأخذ في تسبيحه. ووصل الخبر إلى منزله، فارتفعت الواعية وباتوا ليلتهم.
فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة، وطيف به، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ونصب بباب العامة ساعة ثم نحي، وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعاً، وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح يوم الاثنين، فدفع إلى أهله ليدفنوه.
فذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت مفلحاً وقد نظر إلى رأس بغا، فبكى وقال: قتلني الله إن لم أقتل قاتلك؛ فلما كان يوم الخميس لأربع بقين من صفر، وجه موسى بالرأس إلى أم الفضل ابنة وصيف، وهي امرأة النوشري، وكانت قبله عند سلمة بن خاقان.

فذكر عن بعض بني هاشم أنه قال: هنأت موسى بن بغا بقتل صالح فقال: كان عدو أمير المؤمنين استحق القتل. قال: وهنأت بايكباك بذلك؛ فقال: مالي أنا وهذا! إنما كان صالح أخي، فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف.
ونلت وترك من فرعون حين طغى ... وجئت إذ جئت يا موسى على قدر
ثلاثةٌ باغٍ أخو حسد ... يرميك بالظلم والعدوان عن وتر
وصيف بالكرخ ممثول به وبغا ... بالجسر محترقٌ بالجمر والشرر
وصالح بن وصيف بعد منعفرٌ ... في الحير جيفته، والروح في سقر
وفي مستهل جمادى الأولى من هذه السنة رحل موسى بن بغا وبايكباك إلى مساور، وشيعهم محمد بن الواثق.
وفي جمادى الأولى أيضاً منها التقى مساور بن عبد الحميد وعبيدة العمروسي الشاري بالكحيل، وكانا مختلفي الآراء، فظفر مساور بعبيدة فقتله.
وفي هذا الشهر من هذه السنة التقى مساور الشاري ومفلح، فحدثت عن مساور، أنه انصرف من الكحيل بعد قتله العمروسي، وقد كلم كثير من أصحابه فلم تندمل كلومهم، ولغبوا من الحرب التي كانت جرت بين الفريقين إلى عسكر موسى ومن ضمه ذلك العسكر وهم حامون، فأوقع بهم؛ فلما يصل إلى ما أراد منهم من الظفر بهم، وكان التقاهم بجبل زيني تعلق هو وأصحابه بالجبل فصاروا إلى ذروته، ثم أوقدوا النيران، وركزوا رماحهم، وعسكر موسى بسفح الجبل ثم هبط مساور وأصحابه من الجبل، من غير الوجه الذي عسكر به موسى، فمضى وموسى وأصحابه يحسبون أنهم فوق الجبل ففاتوهم.
ذكر الخبر عن خلع المهتدي ثم موتهوفي رجب من هذه السنة لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.
ذكر الخبر عن سبب خله ووفاته ذكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة، يطلبون أرزاقهم فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس ليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا: نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة. وخرج أبو نصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه، وهو بالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم؛ وذلك يوم الأربعاء، فكلمهم المهتدي بكلام كثير وقطع العطاء عن الناس يوم الأربعاء والخميس والناس متوقفون حتى يعرفوا ما يصنع موسى بن بغا، وكان موسى وضع العطاء في عسكره لشهر، وكان على مناجزة الشاري إذا استوى أصحابه، فوقع الاختلاف، ومضى موسى يريد طريق خراسان.
واختلف في سبب الاختلاف الذي جرى، فصار من أجله موسى إلى طريق خراسان، والسبب الذي من أجله خرج المهتدي لحرب من حاربه من الأتراك، فقال بعضهم: كان السبب الذي من أجله تنحى عن وجه الشاري وترك حربه وصار إلى طريق خراسان، أن المهتدي استمال بايكباك، وهو مع موسى مقيم في وجه الشاري مساور، وكتب إليه يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه، وأن يكون هو الأمير عليهم، وأن يقتل موسى بن بغا ومفلحاً، أو يحملهما إليه مقيدين. فلما وصل الكتاب إلى بايكباك، أخذه ومضى به إلى موسى بن بغا، فقال: إني لست أفرح بهذا؛ وإنما هذا تدبير علينا جميعاً، وإذا فعل بك اليوم شئ فعل بي غداً مثله، فما ترى؟ قال: أرى أن تصير إلى سامرا، فتخبره أنك في طاعته، وناصره لى موسى ومفلح؛ فإنه يطمئن إليك، ثم ندبر في قتله.

فقدم بايكباك فدخل على المهتدي، وقد مضوا إلى منازلهم كما قدموا من عند الشاري؛ فأظهر له المهتدي الغضب، وقال: تركت العسكر، وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحاً، وداهنت في أمرهما! قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لي بهما؟ وكيف يتهيأ لي قتلهما؟ وهما أعظم جيشاً مني، وأعز مني! ولقد جرى بيني وبين مفلح شئ في بعض الأمر؛ فما انتصفت منه؛ ولكني قد قدمت بجيشي وأصحابي ومن أطاعني لأنصرك عليهما، وأقوى أمرك؛ وقد بقى موسى في أقل العدد. قال: ضع سلاحك، وأمر بإدخاله داراً، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا سبيل مثلي إذا قدم من مثل هذا الوجه؛ حتى أصير إلى منزلي، وآمر أصحابي وأهلي بأمري. قال: ليس إلى ذلك سبيل، أحتاج، أحتاج إلى مناظرتك. فأخذ سلاحه، فلما أبطأ خبره على أصحابه سعى فيهم أحمد بن خاقان حاجب بايكباك، فقال: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث؛ فجاشت الترك، وأحاطوا بالجوسق. فلما رأى ذلك المهتدي وعنده صالح بن عليّ بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور شاوره، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة والإقدام، وقد كان أبو مسلم أعظم شأناً عند أهل خراسان من هذا التركيّ عند أصحابه؛ فما كان إلاّ أن طرح رأسه إليهم حتى سكنوا، وقد كان فيهم من يعبده ويتخّذه ربّاً، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا؛ فأنت أشدّ من المنصور إقداماً، وأشجع قلباً. فأمر المهتدي الكرخيّ - واسمه محمد ابن المباشر، وكان حدّاداً بالكرخ يطرق المسامير، فانقطع إلى المهدي ببغداد فوثق به ولزمه - فأمره بضرب عنق بايكباك، فضرب عنقه، والأتراك مصطفون في الجوسق في السلاح، يطلبون بايكباك؛ فأمر المهتدي عتّاب القائد أن يرميهم برأسه فأخذ عتّاب الرأس؛ فرمى به إليهم، فتأخروا وجاشوا، ثم شدّ رجل منهم على عتّاب، فقتله، فوجّه المهتدي إلى الفراعنة والمغاربة والأوكشيّة والأشروسنيّة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق، فجاءوا، فكانت بينهم قتلى كثيرة، كثر فيها الناس، فقيل: قتل من الأتراك الذين قتلوا نحو من أربعة آلاف، وقيل ألفان وقيل ألف؛ وذلك يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب من هذه السنة.
ثمّ تتامّ القوم يوم الأحد، فاجتمع جميع الأتراك، فصار أمرهم واحداً، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغيتا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمسمائة؛ مع من جاء مع طوغيتا من الأتراك والعجم، وخرج المهتدي ومعه صالح بن عليّ والمصحف في عنقه، يدعوا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلما التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع الهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفرانة والمغاربة ومن خفّ معه من العامة، فحمل عليهم طوغيتا أخو بايكباك حملة ثائر حرّان موتور، فنقض تعبيتهم، وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزماً، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: يا معشر الناس، انصروا خليفتكم؛ حتى صار إلى دار أبي صالح عبد اللّه بن محمد بن يزداد وهي بعد خشبة بابك؛ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه، ولبس البياض ليعلو داراً وينزل أخرى ويهرب. فطلب فلم يوجد، وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارساً يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد، فرمى بسهم وبعج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائساً حتى صار عليه ، فجعلوا يصفونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثيّ، فأقرّ لهم بستمائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خسف الواضحة مغنية، فأخذوا رقعته بستمائة ألف دينار؛ ودفعوه إلى رجل، فوظئ لى خصييه حتى قتله.

وقال بعضهم: كان السبب وأوال الخلاف، أن اللاحقين من أولاد الأتراك اجتمعوا، وقالوا: لا نرضى أن يكون علينا رئيس غير أمير المؤمنين، وكتبوا إلى موسى بن بغا وبايكباك؛ وهما في وجه الشاري، فوافى موسى في رجاله حتى صاروا إلى قنطرة في ناحية الوزريرية يوم الجمعة، وعسكر المهتدي في الحير، وقرب منهم، ثم خرج إلى الجوسق، وعليه السلاح؛ فلما كان يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب، دخل بايكباك طائعاً، ومضى موسى إلى ناحية طريق خراسان في نحو من ألفي رجل، وجاء المهتدي في رجل من الموالي، فقال له: إن بايكباك قد وعد موسى أن يفتك بك في الجوسق، فأخذ المهتدي بايكباك، وأمر بنزع سلاحه وحبسه، فحبس يوم السبت إلى وقت العصر، ثم خرج أهل الكرخ وأهل الدور يطلبونه، وانصرفوا وبكروا يوم الأحد، فلم يتخلف منهم أحد إلا حضر راكباً وراجلاً في السلاح، فلما صاروا إلى الجوسق، صلى المهتدي الظهر، وخرج إليهم في الفراعنة والمغاربة، فتطارد لهم الأتراك، فحملوا عليهم، فلما تبعوهم خرج كمين لهم، فقتل الفراعنة والمغاربة جماعة كبيرة، وهرب المهتدي، ومر على باب أبي الوزير وغلام له يصيح: يا معشر الناس، هذا خليفتكم، وتراكض الأتراك خلفه، فدخل دار أحمد بن جميل، وتسلق المهتدي من دار إلى دار، وأحدق الأتراك بتلك الناحية كلها، فأخرجوه من دار غلام لعبد الله بن عمر البازيار، وحملوه وبه طعنة في خاصرته على برذون أعجف، في قميص وسراويل، وانتهبوا دار الكرخي ودور بني ثوابة وجماعة من الناس؛ فلما كان يوم الاثنين حمل أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان إلى دار يارجوج، والأتراك يدورون في الشوارع، ويحمدون العامة إذ لم يتعرضوا لهم.
وقال آخرون: بل كان السبب في ذلك: أن أهل دور سامرا والكرخ تحركوا في يوم الاثنين خلت من رجب من هذه السنة، واجتمعوا بالكرخ وفوقها، فوجه المهتدي إليهم كيغلغ وطبايغو بن صول أرتكين وعبد الله أخا نفسه، فلم يزالوا بهم حتى سكنوا ورجعوا إلى الدار، وبلغ أنا نصر محمد بن بغا الكبير أن المهتدي قد تكلم فيه وفي أخيه موسى، وقال للمواي: إن الأموال عندهم، فتخوفه وإياهم، فهرب في ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب، فكتب إليه المهتدي أربعة كتب يعطيه فهيا الأمان على نفسه ومن معه، ووصل كتابان إليه وهو بالمحمدية مع أبرتكين بن برنماتكين، ووصل الآخرونإليه مع فرج الصغير، فرثق بذلك، فرجع حتى دخل الدار هو وأخوه حبشون وبكالبا، فحبسوا وحبس معهم كيغلغ، فأفرد أبو نصر عنهم؛ فطلب منه المال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب، ورمى به في بئر من آبار القناة، وأخرج من البئر يوم الاثنين للنصف من رجب ومضى به إلى منزله وقد أراح، فأشترى له ثلثمائة مثقال مسك وستمائة مثقال كافور، وصيرّ عليه فلم تنقطع الرائحة، وصلى عليه الحسن بن المأمون، وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا عند حبسه أبا نصر يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والإقبال إلى سامرا في مواليه، وكتب إلى بايكباك في تسلم العسكر والقيام بقتال الشاري، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه، فاجتمعوا على الانصراف إلى سامرا، وبلغ المهتدي ذلك، وأنهم على خلافه، فجمع الموالي، فحضهم على الطاعة، وأمرهم بلزومه في الدار وترك الإخلال به، وأجرى على كل رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم في كل يوم درهمين، وعلى كل رجل من المغاربة درهماً. فاجتمع له من الفريقين وأخذانهم زهاء خمسة عشر ألف إنسان، منهم من الأتراك بالكاملي في الجوسق وغيره من المقاصير. وكان القيم بأمر الدار بعد حبس كيغلغ مسرور البلخي والرئيس من القواد طبايغو، والقيم بحبس من هؤلاء عبد الله بن تكين. وبلغ موسى ومفلحاً وبايكباك حبس أبي نصر وحبشون ومن حبس، فأخذوا حذرهم.

وجرت الرسل والكتب بينهم وبين المهتدي يوم الخميس، وخرج المهتدي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب بجمعه متوقعاً ورود القوم عليه؛ فلم يأت أحد، فلما كان يوم الجمعة لاثني عشرة خلت من رجب صح الخبر بأن موسى قد عرج عن طريق سامرا إلى ناحية الجبل مع مفلح، ودخل يوم السبت بايكباك ويارجوج وأسكاتين وعلى بن بارس وسيما الطويل وخطارمش إلى الدار، فحبس بايكباك وأحمد بن خاقان خليفته، وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيره من الأتراك، وقالوا: لم يحبس قائدنا؟ ولم قتل أبو نصر؟ فخرج إليهم المهتدي يوم السبت - ولم يكن بينهم حرب - فرجع وخرج يوم الأحد وقد اجتمعوا له، وجمع هو المغاربة والأتراك البرانيين والفراعنة فصير على الميمنة مسروراً البلخي، وعلى الميسرة يارجوج، والمهتدي في القلب مع أسكاتين وطبايغوا وغيرهما من القواد.
فلما اجتمعت الشمس، قرب القوم بضهم من بعض، وهاجت الحرب، وطلبوا بايكباك، فرمى إليهم المهتدي برأسه - وكان عتاب بن عتاب أخرجه من بركة قبائه - فلما رأوه شد أخوه طغوتيا في جماعة من خاصته على جمع المهتدي، وعطف الميمنة والميسرة من عسكر المهتدي، فصاروا معهم، وانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين.
فذكر عن حبشون بن بغا، أنه قال: قتل سبعمائة وثمانون إنساناً، وتفرق الناس، ودخل المهتدي الدار، فأغلق الباب الذي دخل منه، وخرج من باب المصاف حتى خرج من الباب المعروف بإيتاخ، ثم إلى سويقة مسرور، ثم درب الواث؛ حتى خرج إلى باب العامة، وهو ينادي: يا مشر الناس، أنا أمير المؤمنين؛ قاتلوا عن خليفتكم. فلم تجبه العامة إلى ذلك، وهو يمر في الشار وينادي، فلم يرهم وينصرونه، فصار إلى باب السجن، فأطلق من فيه، وهو يظن أنهم يعينونه، فلم يكن منهم إلا الهرب، ولم يجبه أحد، فلما لم يجيبوه، صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وفيه أحمد بن جميل صاحب الشرطة نازل فدخل عليه، فأخرج من ناحية ديوان الضياع، ثم صير به إلى الجوسق، فحبس فيه عند أحمد بن خاقان، وانتهب دار أحمد ابن جميل.
وكان ممن قتل في المعركة من قواد المغاربة نصر بن أحمد الزبيري، ومن قواد الشاكرية عتاب بن عتاب حين جاء برأس بايكباك إليهم، وقتل المهتدي - فيما قيل - في الوقة عدة كثيرة بيده، ثم جرى بينهم وبينه بعد أن حبس كلام شديد، وأراده على الخل فأبى، واستسلم للقتل، فقالوا: إنه كان كتب رقعة بيده لموسى بن بغا وبايكباك وجماعة من القواد؛ أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم بذلك، وأنه متى فعل ذلك بهم أو بأحد منهم ووقفوا عليه فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا. فاستحلوا بذلك نقض أمره.
وقد كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة، فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وسمي المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدي محمد بن الواثق، وأنه سليم ليس به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة؛ إحداهما من سهم والأخرى من ضربة، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد وعدة من إخوة أمير المؤمنين، ودفن في مقبرة المنتصر، ودخل موسى بن بغا ومفلح سامرا يوم السبت لشر بقين من رجب، فسلم لى المعتمد فخلع عليه، وصار إلى منزله وسكن الناس.

وقال بضهم - وذكر أنه كان شاهداً أمرهم: لما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من رجب ثار أهل الكرخ والدور جميعاً، فاجتمعوا، وكان المهتدي يوجه إليهم إذا تحركوا أخاه عبد الله، فوجه إليهم في هذا اليوم عبد الله أخاه كما كان يوجهه، فصار إليهم؛ فوجدهم قد أقبلوا يريدون الجوسق، فكلمهم، وضمن لهم القيام بحوائجهم، فأبوا وقالوا: لا نرج حتى نصير إلى أمير المؤمنين ونشكو إليه قصتنا. فانصرف منهم عبد الله ، وفي الدار في هذا الوقت أبو نصر محمد بن بغا وحبشون وكيغلغ ومسرور البلخي وجماعة، فلما أدى عبد الله إلى المهتدي ما دار بينه وبينهم، أمره بالرجوع إليهم، وأن يأتي بجماعة منهم فيوصلهم إليه، فخرج فتلقاهم قريباً من الجوسق، فأدارهم على أن يقفوا بموضعهم، ويوجهوا معه جماعة منهم فأبوا، فلما تناهى الخبر إلى أبي نصر ومن كان معه في الدار بأن جمعهم قد أقبل، خرجوا جميعاً من الدار مما يلي النزالة، فلم يبق في الدار إلا مسرور البلخي وألطون خليفة كيغلغ، ومن الكتاب عيسى بن فرخانشاه، ودخل الموالي مما يلي القصر الأحمر، فمثلوا الدار زهاء أربة آلاف، فصاروا إلى المهتدي، فشكوا إليه حالهم.
وكان اعتمادهم في مسألتهم أن يعزل عنهم أمراءهم، ويصم أمورهم إلى إخوة أمير المؤمنين، وأن يؤخذ الأمراء والكتاب بالخروج مما اختانوه من أموال السلطان؛ وذكروا أن قدره خمسون ومائة ألف ألف. فوعدهم النظر في أمرهم وإجابتهم إلى ما سألوا، فأقاموا يومهم ذلك في الدار، فوجه المهتدي محمد ابن مباشر الكرخي، فاشترى لهم الأسوقة، ومضى أبو نصر بن بغا من فوره ذلك؛ حتى عسكر في الحير بالقرب من موضع الحلبة، فلحق به زهاء خمسمائة رجل، ثم تفرقوا عنه في ليلتهم، فلم يبق إلا في أقل من مائة، ومضى فصار إلى المحمدية، وأصبح الموالي في غداة يوم الأربعاء يطالبون بما كانوا يطالبون به أولاً، فقيل لهم: إن هذا الأمر الذي تريدونه أمر صعب، وإخراج الأمر عن أيدي هؤلاء الأمراء ليس بسهل عليكم؛ فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذهم بالأموال! فانظروا في أموركم؛ فإن كنتم تصبرون على هذا الأمر حتى يبلغ منه غايته أجابكم إليه أمير المؤمنين، وإن تكن الأخرى فإن أمير المؤمنين يحسن لكم النظر، فأبوا إلا ما سألوه أولاً فدعوا إلى أيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، ولا يرجعوا عنه، وأن يقاتلوا من قاتلهم فيه، وينصحوا لأمير المؤمنين ويوالوه، فأجابوه إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة، فبايع في ذلك اليوم زهاء ألف رجل وعيسى بن فرخانشاه الذي تجري على يده الأمور، ومقامه مام الوزير، ثم كتبوا إلى أبي نصر كتاباً عن أنفسهم؛ كتبه لهم عيسى بن فرخانشاه، يذكرون فيه إنكارهم خروجه من الدار عن غير سبب، وأنهم إنما قصدوا أمير المؤمنين ليشكوا إليه حاجتهم، وأنهم لما وجدوا الدار فارغة أقاموا فيها، وأنهم إذا عاد ردوه إلى حاله، ولم يهيجوه. وكتب عيسى عن الخليفة بمثل ذلك إليه، فأقبل من المحمدية بين العصر والعشاء، فدخل الدار، ومعه أخوه حبشون وكيغلغ وبكالبا وجماعة منهم؛ فقام الموالي في وجوههم معهم السلاح، وقد المهتدي، فوصل إليه أبو نصر ومن معه، فسلم عليه، ودنا فقبل يد المهتدي ورجله والبساط، وتأخر فخاطبه المهتدي بأن قال له: يا محمد: ما عندك فيما يقول الموالي؟ وما يولون؟ قال: يذكرون أنكم احتجنتم الأموال، واستبددتم بالأعمال، فما تنظرون في شيء من أمورهم، ولا فيما عاد لمصلحتهم، فقال محمد: يا أمير المؤمننين؛ وما أنا والأموال! ما كنت كاتب ديوان، ولا جرت على يدي أعمال. فقال له: فأين هي الأموال؟ وهل هي إلا عندك وعند أخيك، وكتابكم وأصحابكم! ودنا الموالي، فتقدم عبد الله بن تكين وجماة من هم، فأخذوا بيد أبي نصر وقالوا: هذا عدو أمير المؤمنين، يقوم بين يديه بسيفٍ، فأخذوا سيفه، ودخل غلام لأبي نصر كان حاضراً يقال له ثيتل، فسل سيفه، وخطا ليمنعهم من أبي نصر، وكانت حظوته تلي الخليفة، فسبقه عبد الله بن تكين، فضرب رأسه بالسيف، فما بقي في الدار أحدٌ إلا سل سيفه، وقام المهتدي، فدخل بيتاً كان بقربه، وأخذ محمد بن بغا، فأدخل حجرة في الدار، وحبس أصحابه الباقون، وأراد القوم قتل الغلام، فمنعهم المهتدي، وقال: إن لي في ذها نظراً. ثم أمر فأعطي قميصاً من الخزانة، وأمر بغسل رأسه من الدم، وحبس.

فأصبح الناس يوم الأربعاء وقد كثروا، والبيعة تؤخذ، ثم أمر عبد الله بن الواثق بالخروج إلى الرفيف في ألف رجل من الشاكرية والفراغنة وغيرهم؛ وكان ممن أمر بالخروج من قواد خراسان محمد بن يحيى الواثقي وعتاب بن عتاب وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر وإبراهيم أخو أبي عون ويحيى بن محمد داود ولد نصر بن شيث وعبد الرحمن بن دينار وأحمد بن فريدون وغيرهم.
ثم إن عبد الله بن الواثق بلغه عن هؤلاء القواد أنهم يقولون: إنه ليس بصواب شخوصهم إلى تلك الناحية، فترك الخروج إليها.
ثم إنهم أراوا أن يكتبوا إلى موسى ومفلح بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القواد، فأجمعوا على أن يكتبوا إليهما بذلك كتاباً، وكتبا إلى بعض القواد في تسليم العسكر منهما، وكتبا إلى الصغار بما سأل أصحابهم بسامرا، وما أجيبوا إليه، وأمر بنسخ الكتب التي كتبت إلى القواد، وأن ينظروا؛ فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمرا بتسليمه إليه. وإلا شدوهما وثاقاً، وحملوهما إلى الباب، ووجهوا هذه الكتب مع ثلاثين رجلاً منهم، فشخصوا عن سامرا ليلة الجمعة لخمس خلون من رجب من هذه السنة، وأجري على من أخذت عليه البيعة في الدار على كل رجل منهم في اليوم درهمان، فكان المتولى لفرقة ذلك عليهم عبد الله بن تكين، وهو خال ولد كنجور.
ولما تناهى الخبر إلى موسى وأصحابه اتهم كنجور، وأمر بحبسه بعد أن ناله بالضرب، وموسى حينئذ بالسن، ولما انتهى الخبر إلى بايكباك وهو بالحديثة أقبل إلى السن، فاستخرج كنجور من الحبس، واجتمع العسكر بالسن، ووصل إليهم الرسل، وأوصلوا الكتب، وقرءوا بعضها على أهل العسكر، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، فارتحلوا حتى نزلوا قنطرة الرفيف يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب؛ وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير، وعرض الناس، وسار قليلاً، ثم عاد وأمر أن تخرج الخيام والمضارب فتضرب في الحير، وأصبح الناس يوم الجمعة، وقد انصرف من عسكر موسى زهاء ألف رجل؛ منهم كوتكين وحشنج.
ثم خرج المهتدي إلى الحير، ثم صير ميمنته عليها كوتكين، وميسرته عليها حشنج، وصار هو في القلب، ثم رجع الرسل تختلف بين العسكرين. والذي يريد موسى بن بغا أن يولى ناحية ينصرف إليها، والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم؛ فلم يتهيأ بينهم في ذلك اليوم شيء. فلما كان ليلة السبت، انصرف من أراد الانصراف عن موسى، ورجع موسى ومفلح يريدان طريق خراسان في زهاء ألف رجل، ومضى بايكباك وجماعة من قواده في ليلتهم مع عيسى الكرخي، فباتوا معه، ثم أصبحوا يوم السبت، وأقبل بايكباك ومن معه حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم بايكباك ويارجوخ وأساتكين وأحمد بن خاقان وخطارمش وغيرهم. فوصلوا جميعاً إلى المهتدي، فسلموا، فأمروا بالانصراف إلا بايكباك؛ فإن المهتدي أمر أن يوقف بين يديه، ثم أقبل يعدد عليه ذنوبه، وما ركب من أمر المسلمين والإسلام.

ثم إن الموالى اعترضوه، فأدخلوا حجرة في الدار، وأغلقوا ليه الباب، ثم لم يلبث إلا قدر خمس ساعات حتى قتل يوم السبت من الزوال. واستوى الأمر، فلم تكن حركة، ولا تكلم أحد إلا نفر يسير أنكروا أمر بايكباك، ولم يظهروا كل الجزع. فلما كان يوم الأحد، أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم، ووضح عندهم أن التدبير إنما جرى في قتل رؤسائهم حتى يقدم عليهم الفراغنة والمغاربة، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة، وأنكر الأتراك بناحية الكرخ ذلك، وأضافوا إليه طلب بايكباك لاجتماع أصحاب بايكباك معهم، فأدخل المهتدي إليه جماعة من الفراعنة وأخبرهم بما أنكره الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تعلمون أنكم تقومون بهم؛ فما يكره أمير المؤمنين قربكم؛ وإن كنتم بأنفسكم تظنون عجزاً عنهم أرضيناهم بالمصير إلى محبتهم من قبل تفاقم الأمر. فذكر الفراعنة أنهم يقومون بهم ويقهرونهم، إذا اجتمعت كلمتهم وكلمة المغاربة، وعددوا أشياء كثيرة من تقديمهم عليهم، وأرادوا المهتدي لى الخروج إليهم، فلم يزل كذلك إلى الظهر، ثم ركب وأكثر الفرسان الفراعنة وأكثر الرجالة المغاربة، ووجه إليهم وهم بين الكرخ والقطائع والأتراك زهاء عشرة آلاف، وهم في ستة آلاف لم يكن معهم من الأتراك إلا أقل من ألف، وهم أصحاب صالح ابن وصيف وجماعة مع يارجوخ. فلما التقى الزحفان، انحاز يارجوخ بمن معه من الأتراك، وانهزم أصحاب صالح بن وصيف، فرجوا إلى منازلهم وخرج طاشتمر من خلف الدكة، وكانوا جعلوا كميناً، وتصادم القوم، فكانت الحرب بينهم ساعة من النهار، ضرباً وطعناً ورمياً.
ثم وقت الهزيمة على أصحاب المهتدي، فثبت وأقبل يدعوهم إلى نفسه، ويقاتل حتى يئس من رجوعهم، ثم انهزم وبيده سيف مشطب، وعليه درع وقباء، ظاهر به حرير أبيض معين، فمضى حتى صار إلى موضع خشبة بابك، وهو يحث الناس على مجاهدة القوم ونصرته؛ فلم يتبعه أحد إلا جماعة من العيارين؛ فلما صاروا إلى باب السجن تعلقوا بلجامه، وسألوه إطلاق من في السجن، فانصرف بوجهه عنهم؛ فلم يتركوه حتى أمر بإطلاقهم، فانصرفوا عنه، واشتغلوا بباب السجن، وبقي وحده، فمر حتى صار إلى موضع دار أبي صالح بن يزداد، وفيهما أحمد بن جميل، فدخل الدار وأغلقت الأبواب، فنزع ثيابه وسلاحه ، وكانت به طنة في وركه، فطلب قميصاً وسراويل، فأعطاه محمد بن جميل، وغسل الدم عن نفسه، وشرب ماء وصلى، فأقبل جماعة من الأتراك مع يارجوخ نحو من ثلاثين رجلاً؛ حتى صاروا إلى دار أبي صالح، فضربوا الباب حتى دخلوها، فلما أحس بهم أخذ السيف وسعى؛ فصد على درجة في الدار، ودخل القوم؛ وقد علا السطح، فأراد بعضهم الصعود لأخذه، فضربه بالسيف فأخطأه، وسقط الرجل عن الدراجة، فرموه بالنشاب، فوقعت نشابة في صدره، فجرحته جراحة خفيفة، وعلم أنه الموت؛ فأعطى بيده، ونزل فرمى بسيفه فأخذوه، فجعلوه على دابة بين يدي أحدهم، وسلكوا الطريق الذي جاء منه، حتى صيروه إلى دار يارجوخ في القطائع، وأنهبوا الجوسق، فلم يبق شئ، وأخرجوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان - وكان محبوساً في الجوسق - وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم، فأقام المهتدي عندهم لم يحدثوا في أمره شيئاً، فلما كان يوم الثلاثاء بايعوا أحمد بن المتوكل في القطائع، وصاروا به يوم الأربعاء إلى الجوسق فبايعه الهاشميون والخاصة، وأرادوا المهتدي على الخلع في هذه الأيام، فأبى ولم يحبهم، ومات يوم الأربعاء، وأظهروه يوم الخميس لجماعة الهاشميين والخاصة، فكشفوا عن وجهه وغسلوه، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
وقدم موسى بن بغا يوم السبت لعشر بقين من رجب وركب أحمد بن فتيان إلى دار العامة يوم الاثنين لثمان بقين من رجب، فبايعوه بيعة العامة.
فذكر عن محمد بن عيسى القرشي أنه قال: لما صار المهتدي في أيديهم أبى أن يخل نفسه، فخلعوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، حتى ورمت كفاه وقدماه، وفعلوا به غير شيء حتى مات.

وقد ذكر في سبب قتل أبي نصر محمد بن بغا أنه كان خرج من سامرا يريد أخاه موسى، فوجه إليه المهتدي أخاه عبد الله في جماعة من المغاربة والفراغنة، فلحقوه بالرفيف، فجىء به فحبس، وكان قد دخل على المهتدي مسلماً قبل خلافهم، فقال له: يا محمد؛ إنما قدم أخوك موسى في جيشه وعبيده حتى يقتل صالح بن وصيف ويتصرف، قال: يا أمير المؤمنين؛ أيذك بالله! موسى عبدك وفي طاتك؛ وهو مع هذا في وجه عدو كلب، قال: قد كان صالح أنفع لنا منه؛ وأحسن سياسة للملك، وهذا العلوي قد رجع إلى الري، قال: وما حيلته يا أمير المؤمنين؟ قد هزمه وقتل أصحابه وشرد به كل مشرد، فلما انصرف عاد، وهذا فعله أبداً؛ اللهم إلا أن تأمره بالمقام بالري دهره. قال: دع هذا علتك، فإن أخاك ما صنع شيئاً أكثر من أخذ الأموال واحتجانها لنفسه. فأغلظ له أبو نصر، وقال: ينظر فيما صار إليه وإلى أهل بيته وليت الخلافة فيرد، وينظر ما صار إليك وإلى إخوتك فيرد، فأمر به فأخذ وضرب وحبس، وانتهبت داره ودار ابن ثوابة، ثم أباح دم الحسن بن مخلد وابن ثوابة وسليمان بن وهب القطان كاتب مفلح، فهربوا فانتهبت دورهم. ثم جاء المهتدي بالفراعنة والأشروسنية والطبرية والديالمة والإشتاخنية ومن بقي من أتراك الكرخ وولد وصيف، فسألهم النصرة على موسى ومفلح، وضرب بينهم، وقال: قد أخذوا الأموال واستأثروا بالفئ، وأنا أخاف أن يقتلوني، وإن نصرتموني أعطيتكم جميع ما فاتكم، وزدتكم في أرزاقكم. فأجابوه إلى نصره والخلاف على موسى وأصحابه، ولزموا الجوسق، وبايعوه بيعة جديدة وأمر بالسويق والسكر فاشترى لهم، وأجرى على كل رجل منهم كل يوم درهمين، وأطعموا في بض أيامهم الخبز واللحم. وتولى أمر جيشه أحمد بن وصيف وعبد الله بن بغا الشرابي والتفت، معهم بنو هاشم، وجعل يركب في بني هاشم، ويدور في الأسواق، ويسأل الناس النصرة، ويقول: هؤلاء الفساق يقتلون الخلفاء، ويثبون على مواليهم، وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه. وتكلم صالح بن يعقوب بن المنصور وغيره من بني هاشم، ثم كتب بعد إلى بايكباك يأمره أن يضم الجيش كله إليه، وأنه الأمير على الجيش أجمع، ويأمره بأخذ موسى ومفلح.
ولما هلك المهتدي طلبوا أبا نصر بن بغا، وهم يظنون أنه حي، فدلوا على موضعه، فنبش فوجدوه مذبوحاً، فحمل إلى أهله، وحملت جثة بايكباك فدفنت. وكسرت الأتراك على قبر محمد بن بغا ألف سيف، وكذلك يفعلون بالسيد منهم إذا مات. وقيل إن المهتدي لما أبى أن يخلعها، أمروا من عصر خصيته حتى مات؛ وقيل: إن المهتدي لما احتضر قال:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
وقيل إن محمد بن بغا لم يحدثوا في أمره يوم حبس شيئاً، وطالبوه بالأموال، فدفع إليهم نيفاً وعشرين ألف دينار، ثم قتلوه بعد؛ يعجبوا بطنه، وعصروا حلقه، وألقي في بئر من القناة، فلم يزل هنالك حتى أخرجه الموالي بعد أسرهم المهتدي بيوم، فدفن.
وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحد عشر شهراً وخمسة وعشرين يوماً، وعمره ثمان وثلاثون سنة. وكان رحب الجبهة، أجلح، جهم الوجه، أشهل، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيراً، طويل اللحية. وكان ولد بالقاطول.
ذكر أخبار صاحب الزنج مع جعلانوفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج ذكر الخبر عما كان في أمرهما هنالك ذكر أن جعلان لما صار إلى البصرة زحف بعسكره منها، حتى صار بينه وبين عسكر صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه ومن معه، فأقام ستة أشهر في خندقه، فوجه الزيني وبريه وبنو هاشم ومن خف لحرب الخبيث من أهل البصرة في اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلما التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلاً لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن مجال الخيل، وأصحابه أكثرهم فرسان.

فذكر عن محمد بن الحسن أن صاحب الزنج قال: لما طال مقام جعلان في خندقه، رأيت أن أخفي له من أصحابي جماعة يأخذون عليه مسالك الخندق، ويبيتونه فيه، ففعل ذلك، وبيته في خندقه، فقتل جماة من رجاله، وريع الباقون روعاً شديداً. فترك جعلان عشكره ذلك، وانصرف إلى البصرة؛ وقد كان الزيني قبل بيات الخبيث جعلان جمع مقاتلة البلالية والسعدية، ثم وجه لهم من ناحية نهر نافذ وناحية هزاردر، فواقعوه من وجهين، ولقيهم الزنج، فلم يثبتوا لهم، وقهرهم الزنج، فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، وانصرفوا مفلولين، وانحاز جعلان إلى البصرة، فأقام بها وظهر عجزه للسلطان.
وفيها صرف جعلان عن حرب الخبيث، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إليها لحربه.
وفيها تحول صاحب الزنج من السبخة التي كان ينزلها إلى الجانب الغربي من النهر المعروف بأبي الخصيب.
وفيها أخذ صاحب الزنج - فيما ذكر - أربعة وعشرين مركباً من مراكب البحر، كانت اجتمعت تريد البصرة، فلما انتهى إلى أصحابها خبره وخبر من معه من الزنج وقطعهم السبيل، اجتمعت آراؤهم على أن يشدوا مراكبهم بعضها إلى بعض؛ حتى تصير كالجزيرة، يتصل أولها بآخرها، ثم يسيروا بها في دجلة. فاتصل به خبرها، فندب إليها أصحابه، وحرضهم عليها، وقال لهم: هذه الغنيمة الباردة.
قال أبو الحسن: فسمعت صاحب الزنج يقول: لما بلغني قرب المراكب مني نهضت للصلاة، وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بأن قيل لي: قد أطلك فتح عظيم، والتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب، فنهض أصحابي إليها في الجريبيات؛ فلم يلبثوا أن حووها وقتلوا مقاتلتها، وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالاً ظاماً لا تحصى ولا يعرف قدرها، فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيام، ثم أمر بما بقي فحيز له.
ذكر الخبر عن دخول الزنج الأبلةولخمس بقين من رجب من هذه السنة، دخل الزنج الأبلة، فقتلوا بها خلقاً كثيراً وأحرقوها.
ذكر الخبر عنها وعن سبب الوصول إليها ذكر أن صاحب الزنج لما تنحى جعلان عن خندقه بشاطئ عثمان الذي كان فيه، وانحاز إلى البصرة ألح بالسرايا على أهل الأبله، فجعل يحاربهم من ناحية شاطئ عثمان بالرجالة، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل.
فذكر عن صاحب الزنج، أنه قال: ميلت بين عبادان والأبلة، فملت إلى التوجه إلى عبادان، وندبت الرجالة لذلك، فقيل لي: إن أقرب العدو داراً، وأولاه بألا تتشاغل بغيره عنه أهل الأبلة، فرددت الجيش الذي كنت سيرت نحو عبادان إلى الأبلة. فلم يزالوا يحاربون أهل الأبلة إلى ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب سنة وست وخمسين ومائتين. فلما كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلي دجلة ونهر الأبلة، فقتل بها أبو الأحوص وابنه، وأضرمت ناراً، وكانت مبنية بالساج محفوفة بناء متكاثفاً. فأسرعت فيها النار، ونشأت ريحٌ عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق حتى وصلت بشاطئ عثمان، فاحترق. وقتل بالأبلة خلقٌ كثير، وغرق خلق كثير، وحويت الأسلاب، فكان ما احترق من الأمتعة أكثر مما انتهب.
وقتل في هذه الليلة عبد الله بن حميد الطوسي وابنٌ له؛ كانا في شذاة بنهر معقل مع نصير المعروف بأبي حمزة.
ذكر خبر استيلاء صاحب الزنج على عبادانوفيها استسلم أهل عبادان لصاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم.
ذكر الخبر عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك ذكر أن السبب في ذلك أن الخبيث لما فل أصحابه من الزنج بأهل الأبلة ما فعلوا، ضعفت قلوبهم وخافوهم على أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح إليه؛ ففرقه عليهم.
ذكر خبر دخول أصحاب صاحب الزنج الأهوازوفيها دخل أصحابه الأهواز وأسروا إبراهيم بن المدير.
ذكر الخبر عن سبب ذلك

وكان الخبيث لما أوقع أصحابه بالأبلة، وفعلوا بها ما فعلوا، واستسلم له أهل عبادان، فأخذ مماليكهم، فضمهم إلى أصحابه من الزنج، وفرق بينهم ما أخذ من السلاح الذي كان بها، طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحو جبى، فلم يلبث لهم أهلها، وهربوا منهم، فدخلوا فقتلوا وأحرقوا، ونهبوا وأخربوا ما وراءها؛ حتى وافوا الأهواز، وبها يومئذ سعيد بن يكسين والٍ وإليه حربها، وإبراهيم بن محمد بن المدبر وإليه الخراج والضياع؛ فهرب الناس منهم أيضاً فلم يقاتلهم كثير أحد، وانحاز سعيد ابن تكسين فيمن كان معه من الجند، وثبت إبراهيم بن المدبر فيمن كان معه من غلمانه وخدمه فدخلوا المدينة، فاحتووها، وأسروا إبراهيم بن محمد بعد أن ضرب ضربة على وجهه، وحووا كل ما كان يملك من مال وأثاث ورقيق؛ وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشلاة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين.
ولما كان من أمره ما كان بالأهواز بعد الذي كان منه بالأبلة، رعب أهل البصرة رعباً شديداً، فانتقل كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى، وكثرت الأراجيف من عوامها.
وفي ذي الحجة من هذه السنة وجه صاحب الزنج إلى شاهين بن بسطام جيشاً عليهم يحيى بن محمد البحراني لحربه؛ فلم ينل يحيى من شاهين ما أمل وانصرف عنه.
وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح المعروف بالحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج.
وفيها كانت بين موسى بن بغا الذين كان توجهوا معه إلى ناحية الجبل مخالفين لمحمد بن الواثق وبين مساور بن عبد الحميد الشاري وقعة بناحية خانقين ومساور في جمع كثير وموسى وأصحابه في مائتين، فهزموا مساوراً وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة.
خلافة المعتمد على اللهوفيها بويع أحمد بن أبي جعفر المعروف بابن فتيان، وسمى المعتمد على الله، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب.
وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب.
وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب.
ولليلتين خلتا من شعبان، ولي الوزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وفيها ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف، فلقيه علي بن زيد في أصحابه، فهزمه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه.
وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي؛ وهو من أهل فارس، ورجلٌ من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بالحرث بن سيما الشرابي عامل فارس، فحارباه، فقتل الحارث، وغلب محمد بن واصل على فارس.
وفيها وجه مفلح لحرب مساور الشاري وكنجور لحرب علي بن زيد الطالبي بالكوفة.
وفيها غلب جيش الحسن بن زيد الطالبي على الري، في شهر رمضان منها.
وفيها شخص موسى بن بغا - لإحدى عشرة ليلةً خلت من شوال منها - من سامرا إلى الري، وشيعه المعتمد.
وفيها كانت بين أماجور وابن لعيسى بن الشيخ على باب دمشق وقعة، فسمعت من ذكر أنه حضر أماجور، وقد خرج في اليوم الذي كانت فيه هذه الوقعة من مدينة دمشق مرتاداً لنفسه عسكراً وابن عسكر عيسى بن الشيخ وقائد لعيسى يقال له أبو الصهباء في عسكر لعما بالقرب من مدينة دمشق، فاتصل بهما خبر خروج أماجور، وأنه خرج في نفر من أصحابه يسير، فطمعا فيه، فزحفا بمن معهما إليه، ولا يعلم أماجور بزحوفهما إليه حتى لقياه، والتحمت الحرب بين الفريقين، فقتل أبو الصهباء، وهزم الجمع الذي كان معه ومع ابن عيسى؛ ولقد سمعت من يذكر أن عيسى وأبا الصهباء كانا يومئذ في زهاء عشرين ألفاً من رجالهما، وأن أماجور في مقدار مائتين إلى أربعمائة.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة منها قدم أبو أحمد بن المتوكل من مكة إلى سامرا.
وفيها وجه إلى عيسى بن الشيخ إسماعيل بن عبد الله المرزوي المعروف بأبي النصر ومحمد بن عبيد الله الكريزي القاضي والحسين الخادم المعروف بعرق الموت، بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشأم آمناً؛ فقبل ذلك وشخص عن الشأم إليها.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة
ذكر خبر مسير يعقوب بن الليث إلى فارس وانصرافه عنها

فمن ذلك ما كان من مصير يعقوب بن الليث إلى فارس، وبعثة المعتمد إليه ظغتا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري في شعبان منها، وكتاب أبي أحمد بن المتوكل إليه بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها، وما جعل له من المال في كل سنة، وقبوله ذلك وانصرافه.
وفي ربيع الآخر منها قدم رسول يعقوب بن الليث بأصنام ذكر أنه أخذها من كابل.
ولاثنتي عشرة خلت من صفر عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له أيضاً بعد ذلك لسبع خلون من شهر رمضان على بغداد والسواد وواسط وكرر دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأمر أن يولي صاحب بغداد أعماله، وأن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح، فولي يارجوخ منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة إلى ما يلي الأهواز.
ذكر خبر انهزام الزنج أمام سعيد بن الحاجبوفيها أمر بغراج باستحثاث سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة بإزاء عسكر صاحب الزنج، ففعل ذلك بغراج - فيما قيل - ومضى سعيد الحاجب لما أمر به من ذلك في رجب من هذه السنة.
فذكر أن سعيداً لما صار إلى نهر معقل وجد هنالك جيشاً لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب - وهو أحد الأنهار المعترضة في نهر معقل - فأوقع بهم فهزمهم، واستنفذ ما في أيديهم من النساء والنهب، وأصابت سعيداً في تلك الوقعة جراحات، منها جراحة في فيه. ثم سار سعيد حتى صار إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر المنصور، فأقام به ليلة، ثم سار حتى أناخ بموضع يقال له هطمة من أرض الفرات، فأام هنالك أياماً يعبي أصحابه، ويستعد للقاء صاحب الزنج. وبلغه في أيام مقامه هنالك، أن جيشاً لصاحب الزنج بالفرات، فقصد لهم بجماعة من أصحابه، فهزمهم، وكان فيهم عمران زوج جدة ابن صاحب الزنج المعروف بأنكلاي، فاستأمن عمران هذا إلى بغراج، وتفرق ذلك الجمع. قال محمد بن الحسن: فلقد رأيت المرأة من سكان الفرات تجد الزنجي مستتراً بتلك الأدغال، فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به منهما امتناع. ثم قصد سيد حرب الخبيث فعبر إلى غربي دجلة، فأوقع به وقعات في أيام متوالية، ثم انصرف سعيد إلى معسكره بهطمة، فأقام به يحربه باقي رجب وعامة شعبان.
خلاص ابن المدبر من صاحب الزنجوفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الخبيث، وكان سبب تخلصه منه - فيما ذكر - أنه كان محبوساً في غرفة في منزل يحيى بن محمد البحراني، فضاق مكانه على البحراني، فأنزله إلى بيت من أبيات داره، فحبسه فيه، وكان موكلاً به رجلان، ملاصق مسكنهما المنزل الذي فيه إبراهيم، فبذل لهما، ورغبهما، فسربا له سرباً إلى الموضع الذي فيه إبراهيم من ناحيتهما، فخرج هو وابن أخ له يعرف بأبي غالب ورجل من بني هاشم كان محبوساً معهما.
ذكر خبر إيقاع صاحب الزنج بسعيد وأصحابهوفيها أصحاب الخبيث بسعيد وأصحابه فقتلوه ومن معه.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر أن الخبيث وجه إلى يحيى بن محمد البحراني وهو مقيم بنهر معقل في جيش كثيف يأمره بالتوجه بألف رجل من أصحابه، يرئس عليهم سليمان ابن جامع وأبا الليث، يأمرهما بالقصد لعسكر سعيد ليلاً حتى يوقعا به في وقت طلوع الفجر. ففعل ذلك، فصارا إلى عسكر سعيد، فصادفا منهم غرةً وغفلة، فأوقعا بهم وقعةً، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وأحرق الزنج يومئذ عسكر سعيد، فضعف سعيد ومن معه، ودخل أمرهم خلل للبيات الذي تهيأ عليهم، ولاحتباس الأرزاق عنهم، وكانت سببت لهم من مال الأهواز؛ فأبطأ بها عليهم منصور بن جعفر الخياط، وكان إليه يومئذ حرب الأهواز، وله من ذلك يد في الخراج.
ولما كان من أمر سعيد صالح ما كان، أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش الذي معه وما إليه من العمل هنالك إلى منصور بن جعفر؛ وذلك أن سعيداً ترك بعد ما كان من بيات الزنج أصحابه وإحراقهم عسكره؛ فلم يكن له حركة إلى أن صرف عما كان إليه من العمل هنالك.
خبر الوقعة بين منصور بن جعفر وصاحب الزنجوفيها كانت وقعة بين منصور بن جعفر الخياط وبين صاحب الزنج، قتل فيها من أصحاب منصور جماعة كثيرة.
ذكر الخبر عن صفة هذه الوقعة

ذكر أن سعيداً الحاجب لما صرف عن البصرة، أقام بغراخ يحمى أهلها، وجعل منصور يجمع السفن التي تأتي بالميرة، ثم يبذرقها في الشذا إلى البصرة، فضاق بالزنج الميرة، ثم عبأ منصور أصحابه، وجمع إلى الشذا التي كانت معه الشذا الجنابيات والسفن، وقصد صاحب الزنج في عسكره، فصعد قصراً على دجلة، فأحرقه وما حوله، ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج، وكمنوا له كميناً، فقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة؛ وألجئ الباقون إلى الماء، فغرق منهم خلق كثير؛ وحمل من الرءوس يومئذ - فيما ذكر - زهاء خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل، وأمر بنصبها هنالك.
وفيها ظهر من بغداد بموضع يقال له بركة زلزل، على خناق، وقد قتل خلقاً كثيراً من النساء ودفنهن في دار كان فيها ساكناً، فحمل إلى المعتمد؛ فبلغني أنه أمر بضربه، ألفي سوط وأربعمائة أرزن فلم يمت حتى ضرب الجلادون أنثييه بخشب العقابين، فمات، فرد إلى بغداد فصلب بها ثم أحرقت جثته.
خبر مقتل شاهين بن بسطام وهزيمة إبراهيم بن سيماوفيها قتل شاهين بن بسطام وهزم إبراهيم بن سيما ذكر الخبر عن سبب مقتل شاهين وانهزام إبراهيم ذكر أن البحراني كان كتب إلى الخبيث يشير ليه بتوجيه جيش إلى الأهواز للمقام بها، ويرغبه في ذلك، وأن يبدأ بقطع قنطرة أربك؛ لئلا يصل الخيل إلى الجيش. وإن الخبيث وجه علي بن أبان لقطع القنطرة، فليقه إبراهيم بن سيما منصرفاً من فارس؛ وكان بها مع الحارث بن سيما في الصحراء المعروفة بدست أربك، وهي صحراء بين الأهواز والقتطرة. فلما انتهى علي بن أبان إلى القنطرة، أقام مخفياً نفسه ومن معه، فلما أصحرت الخيل، خرجت عليه من جهات، فقتلت من الزنج خلقاً كثيراً وانهزم علي، وتبعته الخيل إلى الفندم، وأصابته طعنة في أخمصه، فأسمك عن التوجه إلى الأهواز، وانصرف على وجهه إلى جبي؛ وصرف سعيد بن بكسين وولي إبراهيم بن سيما، وكاتبه شاهين، فأقبلا جميعاً، إبراهيم بن سيما على طريق الفرات قاصداً لذنابة نهر جبي، وعلي بن أبان بالخيزرانية؛ فأقبل شاهين بن بسطام على طريق نهر موسى، يقدر لقاء إبراهيم في الموضع الذي قصد إليه، وقد اتعدا لمواقعة علي بن أبان، فسبق شاهين. وأتى علي بن أبان رجلٌ من نهر موسى فأخبره بإقبال شاهين إليه؛ فوجه علي نحوه، فالتقيا في وقت العصر على نهر يعرف بأبي العباس - وهو نهر بين نهر موسى ونهر جبي - ونشبت الحرب بينهما، وثبت أصحاب شاهين، وقاتلوا قتالاً شديداً، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة، فولوا منهزمين؛ فكان أول من قتل يومئذ شاهين وابن عم له يقال حيان، وذلك أنه كان في مقدمة القوم، وقتل معه من أصحابه بشر كثير. وأتى علي بن أبان مخبر فأخبره بورود إبراهيم بن سيما؛ وذلك بعد فراغه من أمر شاهين، فسار من فوره إلى نهر جبي، وإبراهيم بن سيما معسكر هنالك لا يعلم خبر شاهين، فوافاه علي في وقت العشاء الآخرة، فأوقع بهم وقعة غليظة قتل فيها جمعاً كثيراً؛ وكان قتل شاهين والإيقاع بإبراهيم فيما بين العصر والعشاء والآخرة.
قال محمد بن الحسن: فسمت علي بن أبان يحدث عن ذلك، قال: لقد رأيتني يومئذ، وقد ركبني حمى نافض كانت تعتادني، وقد كان أصحابي حين نالوا ما نالوا من شاهين تفرقوا عني، فلم يصر إلى عسكر إبراهيم بن سيما معي إلا نحو من خمسين رجلاً، فوصلت إلى العسكر، فألقيت نفسي قريباً منه، وجعلت أسمع ضجيج أهل العسكر وكلامهم؛ فلما سكنت حركتهم، نهضت فأوقعت بهم.
ثم انصرف علي ابن أبان عن جبسي لما قتل شاهين، وهزم إبراهيم بن سيما، لورود كتاب عليه بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها.
ذكر خبر دخول الزنج البصرة هذا العاموفيها دخل أصحاب الخبيث البصرة.
ذكر الخبر عن سبب وصولهم إلى ذلك وما عملوا بها حين دخلوها

ذكر أن سيد بن صالح لما شخص من البصرة ضم السلطان عمله إلى منصور بن جعفر الخياط؛ وكان من أمر منصور وأمر أصحاب الخبيث ما قد ذكرناه قبل، وضعف أمر المنصور، ولم يعد لقتال الخبيث في عسكره، واقتصر على بذرقة القيروانات، واتسع أهل البصرة لوصول المير إليهم؛ وكان انقطاع ذلك عنهم قد أضر بهم، وانتهى إلى الخبيث الخبر بذلك، واتساع أهل البصرة. فعظم ذلك على الخبيث، فوجه علي بن أبان إلى نواحي جبسي، فعسكر بالخيزرانية، وشغل منصور بن جعفر عن بذرقة القيروانات إلى البصرة، فعاد حال أهل البصرة إلى ما كانت عليه من الضيق. وألح أصحاب الخبيث على أهل البصرة بالحرب صباحاً ومساء.
فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، وإضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها من القرى؛ وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر.
فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول: اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت، فقيل لي: إنما البصرة خبزةٌ لك تأكلها من جوانبها؛ فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة؛ فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده.
قال: فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإحالته إياه بينم.
ثم ندب محمد بن يزيد الدرامي؛ وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى الأعراب، وأنفذه فأتاه منهم خلق كثير، فأناخو بالقندل، ووجه إليهم الخبيث سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة، والإيقاع بها، وتقدم إلى سليمان بن موسى في تمرين الأعراب على ذلك؛ فلما وقع الكسوف أنهض على بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة ممايلي بني سعد، وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني - وهو يومئذ محاصر أهل البصرة - في إيتانها ممايلي نهر عدي، وضم سائر الأعراب إليه. قال محمد بن الحسن: قال شبل: فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، ومال الناس نحوه.
وأقبل يحيى بمن معه مما يلي قصر أنس قاصداً نحو الجسر، فدخل على ابن أبان المهلبي وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت، وعادى يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بغراج وبرية في جمع فرداه، فرجع فأقام يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الاثنين، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب بريه، وانحاز بغراج بمن معه، فلم يكن في وجهه أحدٌ يدافعه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم، ونادى منادي إبراهيم بن يحيى: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبةً حتى ملئوا الرحاب. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة في ذلك منهم، فأمر بأخذ السكك والطرق والدروب لئلا يتفرقوا، وغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد إلا الشاذ، ثن انصرف يومه ذلك، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخريبة.
قال محمد: وحدثني الفضل بن عدي الدارمي، قال: أنا حين وجه الخائن لحرب أهل البصرة في حيز أهل البصرة مقيم في بني سعد، قال: فأتانا آت في الليل؛ فذكر أنه رأى خيلاً مجتازة تؤم قصر عيسى بالخربية، فقال لي أصحابي: اخرج فتعرف لنا خبر هذه الخيل؛ فخرجت فإذا جماعة من بني تميم وبني أسد، فسألتهم عن حالهم، فزموا أنهم أصحاب العلوي المضمومون إلى علي بن أبان، وأن علياً يوافى البصرة في غد تلك الليلة، وأن قصده لناحية بني سعد، وأن يحيى بن محمد بجمعه قاصد لناحية آل المهلب. فقالوا: قل لأصحابك من بني سعد، إن كنتم تريدون تحصين حرمكم، فبادروا إخراجهم قبل إحاطة الجيش بكم.

قال الفضل: فرجعت إلى أصحابي، فأعلمتهم خبر الأعراب فاستعدوا، فوجهوا إلى بريه يعلمونه الخبر، فوافاهم فيمن كان بقي من الخول وجماعة من الجند وقت طلوع الفجر، فساروا حتى انتهوا إلى خندق يعرف ببني حمان، ووافاهم بنو تميم ومقاتلة السعدية، فلم يلبثوا أن طل عليهم، على ابن أبان في جماعة الزنج والأعراب على متون الخيل، فذهل بريه قبل لقاءهالقوم، فرجع إلى منزله، فكانت هزيمة، وتفرق من كان اجتمع من بني تميم، ووافى علي فلم يدفعه أحدٌ، ومر قاصداً إلى المربد، ووجه بريه إلى بني تميم يستصرخهم، فنهض إليه منهم جماعة، فكان القتال بالمربد بحضرة دار بريه، ثم انهزم بريه عن داره، وتفرق الناس لانهزامه، فأحرقت الزنج داره، وانتهبوا ما كان فيها، فأقام الناس يقتلون هناك، وقد ضعف أهل البصرة، وقوى عليهم الزنج، واتصلت الحرب بينهم إلى آخر ذلك اليوم، ودخل على المسجد الجامع فأحرقه، وأدركه فتح غلام أبي شيث في جماعة من البصرتين، فانكشف علي وأصحابه عنهم، وقتل من الزنج قوم، ورجع علي فعسكر في الموضع المعروف بمقبرة بني شيبان، فطلب الناس سلطاناً يقاتلون معه فلم يجدوه، وطلبوا بريهاً، فوجدوه قد هرب، وأصبح أهل البصرة يوم السبت، فلم يأتهم علي بن أبان، وغاداهم يوم الأحد فلم يقف له أحد، وظفر بالبصرة.
قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن سمعان، قال: كنت مقيماً بالبصرة في الوقت الذي دخلها الزنج، وكنت أحضر مجلس إبراهيم بن محمد ابن اسماعيل المعروف ببريه، فحضرته وحضر يوم الجمعة لعشر ليال خلون من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين وعنده شهاب بن العلاء العنبري، فسمعت شهاباً يحدثه أن الخائن قد وجه بالأموال إلى البادية ليعرض بها رجال العرب، وأنه قد جمع جمعاً كثيراً من الخيل، وهو يريد تورد البصرة بهم وبرجالته من الزنج، وليس بالبصرة يومئذ من جند السلطان إلا نيف وخمسون فارساً مع بغراج، فقال بريه لشهاب، إن العرب لا تقدم علي بمساءة؛ وكان بريه مطاعاً في العرب، محبباً إليهم.
قال ابن سمعان: فانصرفت من مجلس بريه، فلقيت أحمد بن أيوب الكاتب، فسمعته يحكى عن هارون بن عبد الرحيم الشيعي، وهو يومئذ يلي البصرة، أنه صح عنده أن الخائن جمع لثلاث خلون من شوال في تسعة أنفس؛ فكان وجوه أهل البصرة وسلطانها المقيم بها، من الغبا عن حقيقة خبرالخائن على ما وصفت. وقد كان الحصار عض أهل البصرة، وكثر الوباء بها، واستعرت الحرب فيها بين الحزبين المعروفين بالبلالية والسعدية.
فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، أغارت خيل الخائن على البصرة صبحاً في هذا اليوم، من ثلاثة أوجه من ناحية بني سعد والمربد والحربية؛ فكان يقود الجيش الذي سار إلى المربد علي بن أبان، وقد جعل أصحابه فرقتين، فرقة ولى عليها رفيقاً غلام يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، وأمرهم بالمصير إلى بني سعد، والفرقة الأخرى سار هو فيها إلى المربد، وكان يقود الجبل التي أتت من ناحية الخربية يحيى بن محمد الأزرق البحراني، وقد جمع أصحابه من جهة واحدة، وهو فيهم؛ فخرج إلى كل فرقة من هؤلاء من خف من ضعفاء أهل البصرة، وقد جهدهم الجوع والحصار، وتفرقت الخيل التي كانت مع بغراج فرقتين: فرقة صارت إلى ناحية المربد، وفرقة صارت إلى ناحية الخربية، وقاتل من ورد ناحية بني سعد جماعة من مقاتلة السعدية فتح غلام أبي شيث وصحبه، فلم يغن قليل من أهل البصرة إلى جموع الخبيث شيئاً، وهجم القوم بخيلهم ورجلهم.
قال ابن سمعان: فإني يومئذ لفي المسجد الجامع، إذا ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبني حمدان في وقت واحد،، كأن موقد بها كانوا لى ميعاد؛ وذلك صدر يوم الجمعة، وجل الخطب، وأيقن أهل البصرة بالهلاك، وسعى من كان في المسجد الجامع إلى منازلهم، ومضيت مبادراً إلى منزلي؛ وهو يومئذ في سكة المربد، فلقيني منهزموا أهل البصرة في السكة راجعين نحو المسجد الجامع، وفي أخراهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي، وهو علي بن بغل متقلد سيفاً يصيح بالناس، ويحكم! أتسلمون بلدكم وحرمكم! هذا عدوكم قد دخل البلد، فلم يلووا عليه: ولم يسمعوا منه، فمضى وانكشف سكة المربد؛ فصار بين المهزمين والزنج فيها فضاء يسافر فيه البصر.

قال محمد: فلما رأيت ذلك دخلت منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فإذا خيل من الأعراب ورجالة الزنج، تقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، عليه عذبة صفراء؛ فسألت بعد أن صير بي إلى مدينة الخائن عن ذلك الرجل، فادعى علي بن أبان أنه ذلك الرجل، وأن الراية الصفراء رايته، ودخل القوم، فغابوا في سكة المربد إلى أن بلغوا باب عثمان، وذلك بعد الزوال ثم انصرفوا، فظن الناس من رعاع أهل البصرة وجهالهم أن القوم قد مضوا لصلاة الجمعة، وكان الذي صرفهم أنهم خشوا أن يخرج عليهم جمع السعدية والبلالية من المربعة، وخافوا الكناء هناك، فانصرفوا وانصرف من كان بناحية زهران وبني حصن؛ وذلك بعد أن أحرقوا وأنهبوا واقتدروا على البلد، وعلموا أنه لا مانع لهم منه، فأغبوا السبت والأحد، ثم عادوا البصرة يوم الاثنين، فلم يجدوا عنها مدافعاً، وجمع الناس إلى باب إبراهيم بن يحيى المهلبي وأعطوا الأمان.
قال محمد بن سمعان: فحدثني الحسن بن عثمان المهلبي الملقب بمندلقة - وكان من أصحاب يحيى بن محمد - قال: أمرني يحيى في تلك الليلة الغداة بالمصير إلى مقبرة بني يشكر، وحمل ما كان هناك من التنانير، فصرت إليها، فحملت نيفاً وعشرين تنوراً على رءوس الرجال، حتى أتيت بها دار إبراهيم ابن يحيى، والناس يطنّون أنها تعدّ لاتخاذ طعام لهم؛ وهم من الجوع وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، وكثر الجمع بباب إبراهيم بن يحيى، وجعلوا ينوبون ويزدادون؛ حتى أصبحوا وارتفعت الشمس.
قال ابن سمعان: وأنا يومئذ قد انتقلت من سكة المربد من منزلي إلى دار جدّ أمي هشام المعروف بالدافّ، وكانت فير بني تميم، وذلك للذي استفاض في الناس من دخول بني تميم في سلم الخائن؛ فإني لهناك إذ أتى المخبرون بخير الوقعة بحضرة دار إبراهيم بن يحيى، فذكروا أن يحيى بن محمد البخرانيّ أمر الزّنج، فأحاطوا بذلك الجمع، ثم قال: من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى، فدخلت جماة قليلة، وأغلقوا الباب دونهم. ثم قيل للزّنج: دونكم الناس فاقتلوهم، ولا تبقوا منهم أحداً. فخرج إليهم محمد بن عبد اللّه المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فقال للزّنج: كيلوا - وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله - فأخذ الناس السيف.
قال الحسن بن عثمان: فإني لأسمع تشهّدهم وضجيجهم، وهم يقتلون، ولقد ارتفعت أصواتهم بالتشهّد؛ حتى لقد سمعت بالطفّارة، وهم لى بعد من الموضع الذي كانوا به. قال: ولما أتى لى الجمع الذي ذكرنا أبل الزّنج على قتل من أصابوا، ودخل عليّ بن أبان يومئذ، فأحرق المسجد الجامع، وراح إلى الكلاء، فأحرقه من الجبل إلى الجسر، والنار في كلّ ذلك تأخذ في كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحّوا بالغدوّ والرّواح على من وجدوا يسوقونهم إلى يحيى بن محمد؛ وهو يومئذ نازلٌ بسيحان؛ فمن كان ذا مال قررّه حتى يستخرج ماله، ويقتله، ومن كان مملقاً قتله.
وذكر عن شبل أنه قال: باكر يحيى البصرة يوم الثلاثاء بعد قتل من قتل بباب إبراهيم بن يحيى، فجعل ينادي بالأمان في الناس ليظهروا، فلم يظهر له أحدٌ، وانتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف عليّ بن أبان عن البصرة، وأفرد يحيى بها الموافقة ما كان أتى يحيى من القتل إياه ووقوعه لمحبّته، وأنه استقصر ما كان من عليّ بن أبان المهلبيّ من الإمساك عن العيث بناحية بني سعد.
وقد كان عليّ بن أبان أوفد إلى الخبيث من بني سعد وفداً، فصاروا إليه، فلم يجدوا عنده خيراً، فخرجوا إلى عبّادان، وأقام يحيى بالبصرة، فكتب إليه الخبيث يأمره بإظهار استخلاف شبل على البصرة ليسكن الناس، ويظهر المستخفي ومن قد عرف بكثرة المال، فإذا ظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم. ففعل ذلك يحيى؛ فكان لا يخلو في يوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم، فمن عرف منهم باليسار استنظف ما عنده وقتله، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل؛ حتى لم يدع أحداً ظهر له إلا أتى عليه، وهرب الناس على وجوههم، وصرف الخبيث جيشه عن البصرة.

قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة، وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه فيها، سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعر، وسجدت، وجعلت أدعو في سجودي، فرفعت إلى البصرة، فرأيتها أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلاً واقفاً في الهواء في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامرا، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخراجها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها، وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي. قال محمد بن الحسن: وانتسب الخبيث إلى يحيى بن زيد بن علي بعد إخراجه بالبصرة، وذلك لمصير جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة إليه، وأنه كان فيمن أتاه منهم علي بن أحمد بن عيسى بن زيد، وعبد الله بن علي في جماعة من نسائهم وحرمهم، فلما جاءوه ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى وانتسب إلى يحبى بن زيد. قال محمد بن الحسن: سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين، فقال القاسم بن الحسن النوفلي: إنه قد كان انتهى إلينا أنك من ولد أحمد بن عيسى بن زيد، فقال: لست من ولد عيسى، أنا من ولد يحيى بن زيد. وهو في ذلك كاذب، لأن الإجماع في يحيى أنه لم يعقب إلا بنتاً ماتت وهي ترضع.
ذكر الخبر عن الحرب بين محمد المولد والزنجوفيها أشخص السلطان محمداً المولد إلى البصرة لحرب صاحب الزنج، فشخص من سامرا يوم الجمعة لليلة خلت من ذي القعدة.
ذكر الخبر عما كان من أمر المولد هناك ذكر أن محمداً المعروف بالمولد لما صار إلى هنالك نزل الأبلة، وجاء بريه، فنزل البصرة، واجتمع إلى بريه من أهل البصرة خلق كثير ممن كان هرب؛ وكان يحيى حين انصرف عن البصرة أقام بالنهر المعروف بالغوثي.
قال محمد: قال شبل: فلما قدم محمد المولد كتب الخبيث إلى يحيى يأمره بالمصير إلى نهر أوا، فصار إليه بالجيش، وأقام يحارب المولد عشرة أيام، ثم أوطن المولد المقام، واستقر وفتر عن الحرب، فكتب الخبيث إلى يحيى يأمره بتبييته، ووجه إليه الشذا مع المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فبيته ونهض المولد بأصحابه، فقاتلهم بقية ليلته ومن غدٍ إلى العصر، ثم ولى منصرفاً، ودخل الزنج عسكره، فغنموا ما فيه، فكتب يحيى إلى الخبيث بخبره، فكتب إليه يأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، وانصرف، فمر بالجامدة فأوقع بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك الرى، وسفك ما در على سفكه من الدماء، ثم سكر بالجالة، فأقام هناك مدة، ثم عاد إلى نهر معقل.
وفيها أخذ محمد المولد سعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، هو وأصحابه من باهلة وأفسدوا الطريق.
وفها خالف محمد بن واصل السلطان بفارس، وغلب عليها.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلي - وقيل له الصقلي وهو من أهل بيت المملكة، لأن صقلبية - على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله، وكان ميخائيل منفرداً بالمملكة أربعاً وعشرين سنة، وتملك الصقلي بعده على الروم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة
فمن ذلك ما كان من الموافاة بسعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي باب السلطان، وأمر السلطان بضربه بالسياط، فضرب سبعمائة سوط - فيما قيل - في شهر ربيع الآخر منها، فمات فصلب.
وفيها ضرب عنق قاض لصاحب الزنج، كان يقضي له بعبادان، وأعناق أربعة عشر رجلاً من الزنج بباب العامة بسامرا، كانوا أسروا من ناحية البصرة.
وفيها أوق مفلح بأعراب بتكريت، ذكر أنهم كانوا مايلوا الشاري مساوراً.
وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأصاب فيهم.
وفيها دخل محمد بن واصل في طاعة السلطان، وسلم الخراج والضياع بفارس إلى محمد بن الحسين بن الفياض.

وعقد المعتمد يوم الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول لأبي أحمد أخيه على ديار مضر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، فخلع عليه وعلى مفلح، فشخصا نحو البصرة وركب وكوباً، وشيع أبا أحمد إلى بركوار، وانصرف.
ذكر الخبر عن قتل منصور بن جعفر الخياطوفيها قتل منصور بن جعفر بن دينار الخياط.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان أمره ذكر أن الخبيث لما فرغ أصحابه من أمر البصرة، أمر علي بن أبان المهلبي بالمصير إلى جبى لحرب منصور بن جعفر، وهو يومئذ بالأهواز، فخرج إليه، فأقام بإزائه شهراً، وجعل منصور يأتي عسكر علي وهو مقيم بالخيزرانية، ومنصور إذ ذاك في خف من الرجال، فوجه الخبيث إلى علي ابن أبان باثنتي شرة شذاة مشحونة بجلد أصحابه، وولى أمرها المعروف بأبي الليث الأصبهاني، وأمره بالسمع والطاعة لعلي بن أبان، فصار المعروف بأبي الليث إلى علي، فأقام مخالفاً له، مستبداً بالرأي عليه، وجاء منصور كما كان يجئ للحرب، ومعه شذوات، فبدر إليه أبو الليث عن غير مؤامرة منه لعلي بن أبان، فظفر منصور بالشذوات التي كانت معه، وقتل فيها من البيضان والزنج خلقاً كثيراً، وأفلت أبو الليث، فانصرف إلى الخبيث، فانصرف علي بن أبان وجميع من كان معه، فأقاموا شهراً، ثم رجع على لمحاربة منصور في رجاله، فلما استقر على وجه طلائع يأتونه بأخبار منصور وعساكره، وكان لمنصور وال مقيم بكرنا، فبيت علي بن أبان ذلك القائد، فقتله وقتل عامة من كان معه، وغنم ما كان في عسكره، وأصاب أفراساً، وأحرق العسكر، وانصرف من ليلته حتى صار في دنانة نهر جبى. وبلغ الخبر منصوراً، فسار حتى انتهى إلى الخيزرانية، فخرج إليه علي في نفير من أصحابه، وكانت الحرب بينهما منذ ضحى ذلك اليوم إلى وقت الظهر، ثم انهزم منصور، وتفرق عنه أصحابه، وانقطع عنهم، وأدركته طائفة من الزنج اتبعوا أثره إلى نهر يعرف بعمر بن مهران، فلم يزل يكر عليهم حتى تقصفت رماحه، ونفدت سهامه، ولم يبق معه سلاح، ثم حمل نفسه على النهر ليعبر، فصاح بحصان كان تحته، فوثب وقصرت رجلاه، فانغمس في الماء.
قال شبل: كان سبب تقصير الفرس عن عبور النهر بمنصور، أن رجلاً من الزنج كان ألقى نفسه لما رأى منصوراًقاصداً نحو النهر يريد عبوره فسبقه سباحة، فلما وثب الفرس تلقاه الأسود، فنكص به، فغاصا ماً ثم أطلع منصور رأيه، فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون، فاحتز رأسه، وأخذ سلبه، وقتل ممن كان معه جماعة كثيرة، وقتل مع منصور أخوه خلف بن جعفر، فولى يارجوخ ما كان إلى منصور من العمل أصغجون.
ذكر الخبر عن قتل مفلحولاثنتي شرة بقيت من جمادى الأولى منها، قتل مفلح بسهم أصابه بغير نصل في صدغه يوم الثلاثاء، فأصبح ميتاً يوم الأربعاء في غد ذلك اليوم، وحملت جثته إلى سامرا، فدفن بها.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان الوصول إليه قد مضى ذكرى شخوص أبي أحمد بن المتوكل من سامرا إلى البصرة لحرب اللين لما تناهى إليه وإلى المعتمد ما كان من فظيع ما ركب من المسلمين بالبصرة، وما قرب منها من سائر أرض الإسلام، فعاينت أنا الجيش الذي شخص فيه أبو أحمد ومفلح ببغداد، وقد اجتازوا بباب الطاق، وأنا يومئذ نازل هنالك، فسمعت جماة من مشايخ أهل بغداد يقولون: قد رأينا جيوشاً كثيرة من الخلفاء، فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة، وأكمل سلاحاً وعتاداً، وأكثر عدداً وجمعاً، وأتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير.
وذكر عن محمد بن الحسن أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيماً بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد موضع الخبيث، فاستأذنه في المصير إلى نهر العباس؛ فكره ذلك، وخاف أن يوافيه جيش السلطان، وأصحابه متفرقون، فألح عليه يحيى حتى أذن له، فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر الخبيث.

وكان علي بن أبان مقيماً بجبى في جمع كثير من الزنج، والبصرة قد صارت مغنماً لأهل عسكر الخبيث، فهم يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها، فليس بعسكر الخبيث يومئذ من أصحابه إلا القليل؛ فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش الذي كان معه فيه مفلح، فوافى جيش عظيم هائل لم يرد على الخبيث مثله؛ فلما انتهى إلى نهر معقل هرب من كان هناك من جيش الخبيث، فلحقوا به مرعوبين، فراغ ذلك الخبيث، فدعا برئيس من رؤساء جيشه الذي كان هناك، فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما؛ فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد، وكثرة عدد أهله وإحكام عدتهم، وأن الذي عاينا من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها؛ فسألهما:هل علما من يقود الجيش؟ فقالا: لا قد اجتهدنا في علم ذلك، فلم نجد من يصدقنا عنه. فوجه الخبيث طلائعه في سميريات لترف الخبر، فرجعت رسله إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه؛ ولم يقف أحدٌ منهم على من يقوده ويرأسه، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فبادر بالإرسال إلى علي بن أبان، يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه، ووافى الجيش، فأناخ بإزائه؛ فلما كان اليوم الذي كانت فيه الوقعة وهو يوم الأربعاء، خرج الخبيث ليطوف في عسكره، ماشياً، ويتأمل الحال فيمن هو مقيم معه من حزبه ومن هو مقيم بإزائه من أهل حربه، وقد كانت السماء مطرت في ذلك اليوم مطراً خفيفاً والأرض ثرية عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار، ثم رجع فدعا بدواة وقرطاس لينفذ كتاباً إلى علي بن أبان، يعلمه ما قد أطله من الجيش ويأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال؛ فإنه لفي ذلك إذ أتاه المكنى أبا دلف - وهو أحد قواد السودان - فقال له: إن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج، وليس في وجوههم من يردهم حتى انتهوا إلى الجبل الرابع. فصاح به وانتهزه، وقال: اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت؛ وإنما ذلك جزع دخلك لكثرة ما رأيت من الجمع، فانخلع قلبك، ولست تدري ما تقول. فخرج أبو دلف من بين يديه، وأقبل على كاتبه، وقد كان أمر جعفر بن إبراهيم السجان بالنداء في الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب؛ فأتاه السجان، فأخبره أنه قد ندب الزنج، فخرجوا، وإن أصحابه قد ظفروا بسميريتين، فأمره بالرجوع لنحريك الرجالة، فرجع ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً، حتى أصيب مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي به، ووقعت الهزيمة، وقوى الزنج على أهل حربهم، فنالوهم بما نالوهم به من القتل. ووافى الرءوس يومئذ حتى ملأت كل شئ، وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم.
وأتى الخائن بأسير من أبناء الفراغنة، فسأله عن رأس الجيش، فأعلمه بمكان أبي أحمد ومفلح، فارتاع لذكر أبي أحمد - وكان إذا راعه أمر كذب به - فقال: ليس في الجيش غير مفلح! لأني لست أسمع الذكر إلا له؛ ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعاً له، ومضافاً إلى صحبته.
وقد كان أهل عسكر الخبيث لما خرج عليهم أصحاب أبي أحمد، جزعوا جزعاً شديداً، وهربوا من منازلهم، ولجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب ولا جسر يومئذ عليه، فغرق فيه يومئذ خلق كثير من النساء والصبيان، ولم يلبث الخبيث بعد الوقعة إلا يسيراً، حتى وافاه علي بن أبان في جمع من أصحابه، فوافاه وقد استغنى عنه، ولم يلبث مفلح أن مات، وتحيز أبو أحمد إلى الأبلة، ليجمع ما فرقت الهزيمة منه، ويجدد الاستعداد، ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به.
قال محمد بن الحسن: فكان الخبيث لا يدري كيف قتل مفلح، فلما بلغه أنه أصيب بسهم، ولم ير أحداً ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له.
قال: فسمعته يقول: سقط بين يدي سهم، فأتاني به واح خادمي، فدفعه إلي، فرميت به فأصبت مفلحاً.
قال محمد: وكذب في ذلك، لأني كنت حاضراً ذلك المشهد، وما زال عن فرسه حتى أتاه المخبر بخبر الهزيمة، وأتى بالرءوس وانقضت الحرب.
وفي هذه السنة وقع الوباء في الناس في كور دجلة، فهلك فيها خلق كثير في مدينة السلام وسامرا وواسط وغيرها.
وفيها قتل خرسخارس ببلاد الروم في جماعة من أصحابه.
ذكر خبر أسر يحيى بن محمد البحراني ثم قتلهوفيها أسر يحيى بن محمد البحراني صاحب قائد الزنج، وفيها قتل.
ذكر الخبر عن أسره وقتله وكيف كان

ذكر عن محمد بن سمعان الكاتب أنه قال: لما وافى يحيى بن محمد نهر العباس، لقيه بفوهة النهر ثلثمائة فارساً من أصحاب أصغجون العامل - كان عامل الأهواز في ذلك الوقت، كانوا مرتبين في تلك الناحية - فلما بصر بهم يحيى استقلهم، ورأى كثرة من معه من الجمع مما لا خوف عليه معهم، فلقيهم أصحابه غير مستجنين بشئ يرد عنهم عاديتهم، ورشقتهم أصحاب أصغجون بالسهام، فأكثروا الجراح فيهم. فلما رأى ذلك يحيى عبر إليهم شرين ومائة فارس كانت معه، وضم إليهم من الرجال جمعاً كثيراً، وانحاز أصحاب أصغجون عنهم، وولج البحراني ومن معه نهر العباس؛ وذلك وقت قلة الماء في النهر، وسفن القيروانات جانحة على الطين. فلما أبصر أصحاب تلك السفن بالزنج تركواسفنهم، وحازها الزنج، وغنموا ما كان فيها غنائم عظيمة جليلة، ومضوا بها متوجهين نحو البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة، وتركوا الطريق النهج، وذلك للتحاسد الذي كان بين البحراني وعلي بن أبان المهلبي. وإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق الذي يمر فيها بعسكر علي، فأصغى إلى مشورتهم، وشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة التي ذكرنا، فسلكها حتى ولج البطيحة، وسرح الخيل التي كانت معه، وجعل معها أبا الليث الأصبهاني، وأمره بالمصير بها إلى عسكر الذي ورد عليه، وكان الخبيث وجه إلى يحيى البحراني يعلمه ورود الجيش الذي ورد عليه، ويأمره بالتحرز في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم، فوجه البحراني الطلائع إلى دجلة فانصرفت طلائعه وجيش أبي أحمد منصرف من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، وكان السبب في رجوع الجيش إلى نهر أبي الأسد، أن رافع بن بسطام وغيره من مجاوري نهر العباس وبطيحة الصحناة كتبوا إلى أبي أحمد يعرفونه خبر البحراني وكثرة جمعه، وأنه يقدر أن يخرج من نهر العباس إلى دجلة، فيسبق إلى نهر أبي الأسد ويعسكر به، ويمنعه الميرة، ويحول بينه وبين من يأتيه أو يصدر عنه؛ فرجعت إليه طلائه بخبره، وعظم أمر الجيش عنده، وهيبته منه؛ فرجع في الطريق الذي كان سلكه بمثقة شديدة نالته ونالت أصحابه، وأصابهم وباء من ترددهم في تلك البطيحة، فكثر المرض فيهم، فلما قربوا من نهر العباس جعل يحيى بن محمد سليمان بن جامع على مقدمته، فمضى يقود أوائل الزنج، وهم يجرون سفنهم، يريدون الخروج من نهر العباس، وفي النهر للسلطان شذوات وسميريات تحمى فوهته من قبل أصغجون، ومعها جمع من الفرسان والرجالة، فراعه وأصحابه ذلك، فخلوا سفنهم، وألقوا أنفسهم في غربي نهر العباس، وأخذوا على طريق الزيدان ماضين نحو عسكر الخبيث، ويحيى غار بما أصابهم، لم يأته علم شئ من خبرهم، وهو متوسط عسكره، قد وقف على قنطرة قورج العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، فهو مشرف على أصحابه الزنج، وهم في جر تلك السفن التي كانت معهم، فمنها ما يغرق، ومنها ما يسلم.
قال محمد بن سمعان: وأنا في تلك الحال معه واقف، فأقبل علي متعجباً من شدة جرية الماء وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن، فقال لي: أرأيت لو هجم لينا عدونا في هذه الحال، من كان أسوأ حالاً منا! فما انقضى كلامه حتى وافى طاشتمر التركي في الجيش الذي أنفذه إليهم أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، ووقعت الضجة في عسكره.

قال محمد: فنهضت مشتوفاً للنظر، فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس ويحيى به؛ فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم في الماء جملة فعبروا إلى الجانب الشرقي وعرى الموضع الذي كان فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلاً فنهض يحيى عند ذلك، فأخذ درقته وسبفه، واحتزم بمنديل، وتلقى القوم الذين أتوه في النفر الذين معه فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام، وأسرع فيهم الجراح، وجرح البحراني بأسهم ثلاثة في عضدته وساقه اليسرى، فلما رآه أصحابه جريحاً تفروا عنه، فلم يعرف فيقصد له، فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر؛ وذلك وقت الضحى من ذلك اليوم، وأثقلت يحيى الجراحات التي أصابته، فلما رأى الزنج ما نزل به اشتد جزهم، وضعفت قلوبهم، فتركوا القتال، وكانت همتهم النجاة بأنفسهم، وحاز السلطان الغنائم التي كانت في السفن بالجانب الغربي من النهر؛ فلما حووها أقعدوا في بعض تلك السفن النفاطين، وعبروهم إلى شرقي النهر، فأحرقوها ما كان هناك من السفن التي كانت في أيدي الزنج، وانفض الزنج عن يحيى، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل فيهم ذريع، وأسر كثير؛ فلما أمسوا وأسدف الليل طاروا على وجوههم، فلما رأى يحيى تفرق أصحابه، ركب سميرية كانت لرجل من المقاتلة البيضان، وأقعد معه فيها متطبباً يقال له عباد يعرف بأبي جيش؛ وذلك لما كان به من الجراح، وطمع في التخلص إلى عسكر الخبيث، فسار حتى قرب من فوهة النهر، فبصر ملاحو السميرية بالشذا والسميريات واعتراضها في النهر، فجزعوا من المرور بهم، وأيقنوا أنهم مدركون، فعبروا إلى الجانب الغربي، فألقوه ومن معه على الأرض في زرع كان هناك، فخرج يمشي وهو مثقل؛ حتى ألقى نفسه؛ فأقام بموضعه ليلته تلك، فلما أصبح بموضعه ذلك نهض عباد المتطبب الذي كان معه، فجعل يمشي متشوقاً لأن يرى إنساناً، فرأى بعض أصحاب السلطان، فأشار إليهم فأخبرهم بمكان يحيى، وأتاه بهم حتى سلمه إليهم. وقد زعم قوم أن قوماً مروا به، فرأوه فدلوا عليه، فأخذ . فانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج، فاشتد لذلك جزعه، وعظم عليه توجعه.
ثم حمل يحيى بن محمد الأزرق البحراني إلى أبي محمد، فحمله أبو أحمد إلى المعتمد بسامرا، فأمر ببناء دكة بالحير، بحضرة مجرى الحلبة فبنيت، ثم رفع للناس حتى أبصروه، فضرب بالسياط.
وذكر أنه دخل سامرا يوم الأربعاء لتسع خلون من رجب على جمل، وجلس المعتمد من غد ذلك اليوم - وذلك يوم الخميس - فضرب بين يديه مائتي سوط بثمارها، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم خبط بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق. قال محمد بن الحسن: لما قتل يحيى البحراني وانتهى خبره إلى صاحب الزنج، قال: عظم علي قتله، واشتد اهتمامي به، فخوطبت فقيل لي: قتله خير لك، إنه كان شرهاً. ثم أقبل على جماعة كنت أنا فيهم، قال: ومن شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نصيبه؛ فكان فيه عقدان، فوقعا في يدي يحيى، فأخفى عني خطراً، وعرض علي أخسها، واستوهبنيه فوهبته له، فرفع لي العقد الذي أخفاه، فدعوته فقلت: أحضرني العقد الذي أخفيته، فأتاني بالعقد الذي وهبته له، وجحد أن يكون أخذه غيره، فرفع لي العقد، فجعلت أصفه وأنا أراه، فبهت، وذهب فأتاني به، واستهوهبنيه فوهبته له، وأمرته بالاستغفار.
وذكر عن محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن قائد الزنج قال لي في بعض أيامه: لقد عرضت لي النبوة فأبيتها، فقلت: ولم ذاك؟ قال: لأن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها!.
ذكر خبر انحياز أبي أحمد بن المتوكل إلى واسطوفي هذه السنة انحاز أبو أحمد بن المتوكل من الموضع الذي كان به من قرب موضع قائد الزنج إلى واسط.
ذكر الخبر عن سبب انحيازه ذلك إليها

ذكر أن السبب في ذلك كان أن أبا أحمد لما صار إلى نهر أبي الأسد، فأقام به، كثر العلل فيمن معه من جنده وغيرهم، وفشا فيهم الموت؛ فلم يزل مقيماً هنالك حتى أبل من نجا منهم من الموت من علته، ثم انصرف راجعاً إلى باذاورد، فعسكر به، وأمر بتجديد الآلات وإطاء من معه من الجند أرزاقهم وإصلاح الشذوات والسميريات والمعابر، وشحنها بالقواد من مواليه وغلمانه، ونهض نحو عسكر الخبيث، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب وغيره، وأمر جماعة منهم بلزومه والمحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه، فمال أكثر القوم حين وقعت الحرب، والتقى الفريقان إلى نهر أبي الخصيب، وبقي أبو أحمد في قلة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه إشفاقاً من أن يطمع فيه الزنج، وفيمن بإزائهم من أصحابه وهم بسبخة نهر منكي، وتأمل الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه، وعرفوا موضعه، فكثروا عليه، واستعرت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وأحرق أصحاب أبي أحمد قصوراً ومنازل من منازل الزنج، واستنقذوا من النساء جمعاً كثيراً، وصرف الزنج جمعهم إلى الموضع الذي كان به أبو أحمد فظهر الموفق على الشذا ، وتوسط الحرب محرضاً أصحابه حتى أتاه من جمع الزنج ما علم أنه لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه عند ذلك بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة ومهل، فصار أبو أحمد إلى الشذا التي كان فيها بعد أن استقر أكثر الناس في سفنهم، وبقيت طائفة من الناس، ولجئوا إلى تلك الأدغال والمضايق، فانقطعوا عن أصحابهم، فخرج عليهم كمناء الزنج، فاقتطعوهم ووقعوا بهم، فحاموا عن أنفسهم، وقاتلوا قتالاً شديداً، وقتلوا عدداً كثير منالزنج، وأدركتهم المنايا فقتلوا،،، وحملوا إلى قائد الزنج مائة رأس وعشرة أرؤس، فزاد ذلك في عتوه. ثم انصرف أبو أحمد إلى الباذاورد في الجيش، وأقام يعبي أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره؛ وذلك في أيام عصوف الريح، فاحترق السكر ، ورحل أبو أحمد منصرفاً، وذلك في شعبان متن هذه السنة إلى واسط، فلما صار إلى واسط تفرق عنه عامة من كان معه من أصحابه.
ولعشر خلون من شبان كانت هذه صعبة هائلة بالصيمرة. ثم سم من غد ذلك اليوم وذلك يوم الأحد، هدة هي أعظم من التي كانت في اليوم الأول، فتهدم من ذلك أكثر المدينة، وتساقطت الحيطان وهلك من أهلها - فيما قيل - زهاء عشرين ألفاً.
وضرب بباب الامة بسامرا رجل يعرف بأبي فقعس، قامت عليه البنة - فيما قيل - بشتم السلف ألف سوط وعشرين سوطاً، فمات وذلك اليوم يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان.
ومات يارجوخ يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رمضان، فصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل وحضر جعفر بن المعتمد.
وفيها كانت وقعة بي موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن.
وفيها انصرف مسرور البلخي عن مساور الشاري إلى سامرا، ومعه أسراء من الشراة، واستخلف على عسكره بالحديثة جعلان. ثم شخص أيضاً مسرور البلخي إلى ناحية البواريخ، فلقى مساوراً بها، فكانت بينهما وقعة بها أسر مسرور من أصحابه جماعة، ثم انصرف لليال بقيت من ذي الحجة.
وفي هذه السنة حدث في الناس ببغداد داء كان أهلها يسمونه القفاع.
وفيها رجع أكثر الحاج من الرعاء خوف العطش، وسلم من سار منهم إلى مكة.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك منصرف أبي أحمد بن المتوكل من واسط، وقدومه سامرا يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الأول، واستخلافه على واسط وحرب الخبيث بتلك الناحية محمداً المولد.
ذكر الخبر عن مقتل كنجورومن ذلك مقتل كنجور.
ذكر الخبر عن سبب مقتله

وكان سبب ذلك أنه كان والى الكوفة، فانصرف عنها يريد سامرا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى، فحمل إليه - فيما ذكر - مال ليفرق في أصحابه أرزاقهم منه، فلم يقنع بذلك، ومضى حتى ورد عكبراء في ربيع الأول، فتوجه إليه من سامرا عدة من القواد، فيهم: ساتكين وتكين وعبد الرحمن ابن مفلح وموسى بن أتامش وغيرهم؛ فذبحوه ذبحاً، وحمل رأسه إلى سامرا، لليلة بقيت من شهر ربيع الأول، وأصيب معه نيف وأربعون ألف دينار، وألزم كاتب له نصراني مالاً، ثم ضرب هذا الكاتب في شهر ربيع الآخر بباب العامة ألف سوط، فمات.
وفيها غلب شركب الجمال على مرو وناحيتها وأنهبا.
وفيها انصرف يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقهستان، وولى عماله هراة وبوشنج وباذ غيس، وانصرف إلى سجستان.
وفيها فارق عبد الله السجزى يعقوب بن الليث مخالفاً له، وحاضر نيسابور، فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء، فاختلفوا بينهما، ثم ولاه الطبسين وقهستان.
ذكر خبر دخول المهلبي ويحيى بن خلف سوق الأهوازولست خلون من رجب منها، دخل المهلبي ويحيى بن خلف النهر بطي سوق الأهواز، فقتلوا بها خلقاً كثيراً، وقتلوا صاحب المعونة بها.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وكيف كان هلاك صاحب الحرب من قبل السلطان فيها ذكر أن قائد الزنج خفي عليه أمر الحريق الذي كان في عسكر أبي أحمد بالباذاورد، فلم يعلم خبره إلا بعد ثلاثة أيام ورد به عليه رجلان من أهل عبادان فأخبره، فعاد للعيث، وانقطعت عنه الميرة، فأنهض على ابن أبان المهلبي، وضم إليه أكثر الجيش، وسار معه سليمان بن جامع، وقد ضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وقد ضمت إليه الخيل وسائر الناس مع علي بن أبان المهلبي والمتولي للأهواز يومئذ رجل يقال له أصغجون، ومعه نيزك في جماعة من القواد، فسار إليهم علي بن أبان في جمعه من الزنج، ونذر به أصغجون، فنهض نحوه في أصحابه، فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدرسماران، فكانت الدبرة يومئذ على أصغجون، فقتل يزك في جمع كثير من أصحابه، وغرق أصغجون، وأسر الحسن بن هرثمة المعروف بالشار يومئذ، والحسن بن جعفر المعروف براوشار.
قال محمد بن الحسن: فحدثني الحسن بن الشار، قال: خرجنا يومئذ من أصغجون للقاء الزنج؛ فلم يلبث أصحابنا، وانهزموا، وقتل نيزك، وفقد أصغجون، فلما رأيت ذلك نزلت عن فرس محذوف، كان تحتي، وقدرت أن أتناول بذنب جنيبة كانت معي، وأقمحها النهر، فأنجو بها. فسبقني إلى ذلك غلامي، فنجا وتركني، فأتيت موسى بن جعفر لأتخلص معه، فركب سفينة، ومضى فيها، ولم يقم علي، وبصرت بزورق فأتيته فركبته، فكثر الناس علي وجعلوا يطلبون الركوب معي فيتعلقون بالزورق حتى غروقوه، فانقلب، وعلوت ظهره، وذهب الناس عني، وأدركني الزنج، فجعلوا يرمونني بالنشاب، فلما خفت التلف قلت: أمسكوا عن رميي، وألقوا إلي شيئاً أتعلق به، وأصير إليكم، فمدوا إلي رمحاً، فتناولته بيدي وصرت إليهم.
وأما الحسن بن جعفر، فإن أخاه حمله لى فرس، وأعده ليسفر بينه بين أمير الجيش، فلما وقعت الهزيمة بادر في طلب النجاة، فعثر به فرسه فأخذ.
فكتب لي بن أبان إلى الخبيث بأمر الوقعة، وحمل إليه رءوساً وأعلاماً كثيرة، ووجه الحسن بن الشار والحسن بن جعفر وأحمد بن روح، فأمر بالأسرى إلى السجن، ودخل علي بن أبان الأهواز، فأقام يعيث بها إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث.
شخوص موسى بن بغا لحرب صاحب الزنجوفيها شخص موسى بن بغا عن سامرا لحره، وذلك لثلاث عشر بقيت من ذي القعدة، وشيعه المعتمد إلى خلف الحائطين، وخلع عليه هناك.
وفيها وافى عبد الرحمن بن مفلح الأهواز وإسحاق بن كنداج البصرة وإبراهيم بن سيما باذورد لحرب قائد الزنج من قبل موسى بن بغا.
ذكر الخبر عما كان من أمر هؤلاء في النواحي التي ضمت إليهم مع أصحاب قائد الزنج في هذه السنة:

ذكر أن ابن مفلح لما وافى الأهواز، أقام بقنطرة أربك عشرة أيام، ثم مضى إلى المهلبي، فواقعه، فهزمه المهلبي وانصرف، واستعد ثم عاد لمحاربته، فأوقع به وقعة غليظة، وقتل من الزنج قتلاً ذريعاً، وأسر أسرى كثيرة، وانهزم علي بن أبان، وأفلت ومن معه من الزنج، حتى وافوا بياناً، فأراد الخبيث ردهم، فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم. فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره، فدخلوا جميعاً، فأقاموا بمدينته. ووافى عبد الرحمن حصن المهدي ليعسكر به، فوجه إليه الخبيث علي بن أبان، فواقعه فلم يقدر عليه، ومضى علي يريد الموضع المعروف بالدكر، وإبراهيم بن سيما يومئذ بالباذاورد، فواقعه إبراهيم، فهزم علي بن أبان، وعاوده فهزمه أيضاً إبراهيم، فمضى في الليل، وأخذ معه أدلاء؛ فسلكوا به الآجام والأدغال؛ حتى وافى نهر يحيى، وانتهى خبره إلى عبد الرحمن، فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي، فلم يصل إلى علي ومن منه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه، وامتناعه بالقصب والحلافي، فأضرمه عليهم ناراً، فخرجوه منه هاربين، فأسر منهم أسرى، وانصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى والظفر، ومضى علي ابن أبان حتى وافى نسوخاً، فأام هناك فيمن معه من أصحابه، وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح، فصرف وجهه نحو العمود، فوافاه وأقام به.
وصار علي بن أبان إلى نهر السدرة، وكتب إلى الخبيث يستمده ويسأله التوجيه إليه بالشذاءات، فوجه إليه ثث عشرة شذاة، فيها جمع كثير من أصحابه، فسار علي ومعه الشذا حتى وافى عبد الرحمن، وخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فلم يكن بينهما قتال، وتواف الجيشان يومهما ذلك؛ فلما كان الليل، انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم، ومضى فيهم ومعه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني، وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره، فصار من وراء عبد الرحمن، ثم بيته في عسكره، فنال منه ومن أصحابه نيلاً، وانحاز عبد الرحمن عنه، وخلى عن أربع شذوات من شذواته فأخذها لي وانصرف، ومضى عبد الرحمن لوجهه حتى وافى الدولاب فأام به، وأعد رجالاً من رجاله، وولى عليهم طاشتمر، وأنفذهم إلى علي ابن أبن. فوافوه بنواحي بياب آزور، فأوقعوا به وقعة، انهزم منها إلى نهر السدرة، وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزام علي عنه، فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود، فأقام به، واستعد أصحابه للحرب، وهيأ شذواته، وولى عليها طاشتمر، فسار إلى فوهة نهر السدرة، فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة، انهزم منها علي، وأخذ منه عشرات شذوات، ورجع علي إلى الخبيث مفلولاً مهزوماً، وسار عبد الرحمن من فوره، فعسكر ببيان،فكان عبد الرحمن ابن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الخبيث، فيوقعان به، ويخيفان من فيه، وإسحاق بن كنداج يومئذ مقيم بالبصرة، قد قطع الميرة عن عسكر الخبيث؛ فكان الخبيث يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما حتى ينقضى الحرب، ثم يصرف فريقاً منهم إلى ناحية البصرة، فيواقع بهم إسحاق بن كنداج، فأقاموا في ذلك بضعة عشر شهراً إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث، ووليها البلخي، وانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث.
وفيها غلب الحسن بن زيد لى قومس، ودخلها أصحابه.
وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن سنان القزويني ووهسوذان بن جستان الديلمي، فهزم محمد بن الفضل وهسوذان.
وفيها ولي موسى بن بغا الصلابي الري حين وثب كيغلغ على تكين، فقتله فسار إليها.
وفيها غلب صاحب الروم على سميساط، ثم نزل على ملطية، وحاصر أهلها، فحاربه أهل ملطية فهزموه، وقتل أحمد بن محمد القابوس نصراً الإقريطشي بطريق البطارقة.
وفيها وجه من الأهواز جماعة من الزنج أسروا إلى سامرا، فوثبت العامة بهم سامرا، فقتلوا أكثرهم وسلبوهم.
" ذكر الخبر عن دخول يعقوب بن الليث نيسابوروفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور.
ذكر الخبر عن الكائن الذي كان منه هناك

ذكر أن يعقوب بن الليث صار إلى هراة، ثم قصد نيسابور، فلما قرب منها وأراد دخولها، وجه محمد بن طاهر يشتأذنه في تلقيه، فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته، فتلقوه، ثم دخل نيسابور لأربع خلون من شوال بالعشى، فنزل طرفاً من أطرافها يعرف بداودباذ، فركل إليه محمد بن طاهر، فدخل عليه في مضربه، فساءله، ثم أقبل على تأنيبه وتوبيخه على تفريطه في عمله، ثم انصرف وأمر عزير بن السري بالتوكيل به، وصرف محمد بن طاهر وولي عزيزاً نيسابور، ثم حبس محمد بن طاهر وأهل بيته. وورد الخبر بذلك على السلطان، فوجه إليه حاتم بن زيرك بن سلام، ووردت كتب يقوب على السلطان لعشر بقين من ذي القعدة، فقعد - فيما ذكر - جعفر بن المعتمد وأبو أحمد بن المتوكل في إيوان الجوسق، وحضر القواد، وأذن لرسل يعقوب. فذكر رسله ما تناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان، وأن الشراة والمخالفين قد غلبوا عليها، وضعف محمد بن طاهر، وذكوا مكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إياه قدومه عليهم واستانتهم، وأنه صار إليها، فلما كان على عشرة فراسخ من نيسابور، سار إليه أهلها، فدفعوها إليه فدخلها. فتكلم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى، وقالا للرسل: إن أمير المؤمنين لا يقار يعقوب على ما فعل، وأنه يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولاه إياه، وأنه لم يكن له أن يفعل ذلك بغير أمره فليرجع، فإنه إن فعل كان من الأولياء، وإلا لم يكن له إلا ما للمخالفين. وصرف إليه رسله بذلك ووصلوا، وخلع على كل واحد منهم خلعة فيها ثلاثة أثواب؛ وكانوا أحضروا رأساً على قناة فيه رقعة فيها: هذا رأس عدو الله عبد الرحمن الخارجي بهراة، ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، قتله يعقوب بن الليث.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف ببريه.
ثم دخلت سنة ستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك قتل رجل من أكراد مساور الشاري محمد بن هارون بن المعمر، وجده في زورق يريد سامرا، فقتله وحمل رأسه إلى مساور، فطلبت ربيعة بدمه في جمادى الآخرة، فندب مسرور البلخي وجماعة من القواد إلى أخذ الطريق على مساور.
وفيها قتل قائد الزنج علي بن زيد العلوي صاحب الكوفة.
خبر الوقعة بين يعقوب بن الليث والحسن بن زيد الطائيوفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد الطالبي، فهزمه ودخل طبرستان.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وعن سبب مصير يعقوب إلى طبرستان أخبرني جماعة من أهل الخبرة بيعقوب أن عبد الله السجزي كان يتنافس الرياسة بسجستان، فقهره يعقوب، فتخلص منه عبد الله، فلحق بمحمد بن طاهر بنيسابور، فلما صار يعقوب إلى نيسابور وهرب عبد الله، فلحق بالحسن بن زيد، فشخص يعقوب في أثره بعد ما كان من أمره وأمر محمد بن طاهر ما قد ذكرت قبل، فمر في طريق إلى طبرستان بأسفرائيم وواحيها، وبها رجل كنت أعرفه يطلب الحديث، يقال له بديل الكشي، يظهر التطوع والأمر المعروف، وقد استجاب له عامة أهل تلك الناحية، فلما نزلها يعقوب راسله، وأخبره أنه مثله في التطوع وأنه معه، فلم يزل يرفق به حتى صار إليه بديل، فلما تمكن منه قيده، ومضى به معه إلى طبرستان، فلما صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد.
فقيل لي: إن يعقوب بعث إلى الحسن بن زيد يسأله أن يبعث إليه بعبد الله السجزي حتى ينصرف عنه؛ فإنما قصد طبرستان من أجله لا لحربه، فأبى الحسن بن زيد تسليمه إليه، فآذنه يعقوب بالحرب، فالتقى عسكرهما، فلم تكن إلا كلا ولا، حتى هزم الحسن بن زيد، ومضى نحو الشرز وأرض الديلم، ودخل يعقوب سارية، ثم تقدم منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثم شخص من آمل نحو الشرز في طلب الحسن بن زيد حتى صار إلى بعض جبال طبرستان، فأدركته فيه الأمطار، وتتابعت عليه - فيما ذكر لي - نحواً من أربعين يوماً، فلم يتخلص من موضعه ذلك إلا بمشقة شديدة. وكان - فيما قيل لي - قد صعد جبلاً، لما رام النزول عنه لم يمكنه ذلك إلا محمولاً على ظهور الرجال، وهلك عامة ما كان معه من الظهر.

ثم رام الدخول خلف الحسن بن زيد إلى الشرز، فحدثني بعض أهل تلك الناحية أنه انتهى إلى الطريق الذي أراد سلوكه إليه، فوقف عليه، وأمر أصحابه بالوقوف، ثم تقدم أمامهم يتأمل الطريق، ثم رجع إلى أصحابه، فأمرهم بالانصراف، وقال لهم: إن لم يكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه.
فأخبرني الذي ذكر لي ذلك، أن نساء أهل تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل هذا الطريق؛ فإنه إن دخل كفينا كم أمره، وعلينا أخذه وأسره لكم. فلما انصرف راجعاً، وشخص عن حدود طبرستان، عرض رجاله، ففقد منهم - فيما قيل لي - أربعين ألفاً، وانصرف عنها، وقد ذهب عظم ما كان معه من الخيل والإبل والأثقال.
وذكر أنه كتب إلى السلطان كتاباً يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من جرجان إلى طميس. فافتتحها. ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد القناطر، ورفع المعابر، وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية متحصناً بأودية عظام، ود مالأه خرشاد بن جيلاو، صاحب الديلم، فزحف باقتدار فيم جمع إليه من الطبرية والديالمة والخراسانية والقمية والجبلية والشأمية والجزرية، فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة، وأسرت سبعين من الطالبيين؛ وذلك في رجب، وسار الحسن بن زيد إلى الشرز ومعه الديلم.
وفي هذه السنة اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى - فيما ذكر - عن مكة من شدة الغلاء من كان بها مجاوراً إلى المدينة وغيرها من البلدان، ورحل عنها العامل الذي كان بها مقيماً وهو بريه، وارتفع السعر ببغداد، فبلغ الكر الشعير عشرين ومائة دينار، والحنطة خمسين ومائة، ودام ذلك شهوراً.
وفيها قتلت الأعراب منجور والي حمص، فاستعمل عليها بكتمر.
وفيها صار يعقوب بن الليث حين انصرف عن طبرستان إلى ناحية الري، وكان السبب في مصيره إليها - فيما ذكر لي - مصير عبد الله السجزي إلى الصلابي مستجيراً به من يعقوب، لما هزم يعقوب الحسن بن زيد، فلما صار يعقوب إلى خوار الري كتب إلى الصلابي يخيره بين تسليم عبد الله السجزي إليه حتى ينصرف عنه، ويرتحل عن عمله، وبين أن يأذن بحربه. فاختار الصلابي - فيما قيل لي - تسليم عبد الله، فسلمه إليه، فقتله يعقوب، وانصرف عن عمل الصلابي.
ذكر خبر مقتل العلاء بن أحمد الأزديوفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي.
ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن العلاء بن أحمد فلج وتعطل، فكتب السلطان إلى أبي الرديني عمر بن علي بن مر بولاية أذربيجان، وكانت قبل إلى العلاء، فصار أبو الرديني إليها ليتسلمها من العلاء، فخرج العلاء في قبة في شهر رمضان لحرب أبي الرديني، ومع أبي الرديني جماعة من الشراة وغيرهم، فقتل العلاء.
فذكر أنه وجه عدة من الرجال في حمل ما خلف العلاء، فحمل من قلعته ما بلغت قيمته ألفي وسبعمائة ألف درهم.
وفيها أخذت الروم لؤلؤة من المسلمين.
وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي المعروف ببريه.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من انصراف الحسن بن زيد من أرض الديلم إلى طبرستان وإحراقه شالوس لما كان من ممالأتهم يعقوب وإقطاعه ضياعهم الديالمة.
ومن ذلك ما كان من أمر السلطان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بجمع من كان ببغداد من حاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، فجمعهم في صفر منها، ثم قرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أن السلطان لم يول يعقوب بن الليث خراسان، ويأمرهم بالبراءة منه لإنكاره دخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن الواثق في عسكر الصفار يعقوب.
وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن حفص الذي كان يلي خراسان بكرخ جدان في جمادى الآخرة، فشخص مسرور البلخي في طلبه، ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل، وتنحى مساور فلم يلحق. وفي جمادى الأولى منها هلك أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري.
ذكر خبر وقعة كانت برامهرمز في هذا العاموفيها كانت بين محمد بن واصل وعبد الله بن مفلح وطاشتمر وقعة برامهرمز، فقتل ابن واصل طاشتمر، وأسر ابن مفلح.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة والسبب فيها:

كان السبب في ذلك - فيما ذكر لي - أن ابن واصل قتل الحارث بن سيما وهو عامل السلطان بفارس وتغلب عليها، فضمت إلى موسى بن بغا فارس والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة؛ مع ما كان إليه من عمل المشرق؛ فوجه موسى بن بغا عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز، وولاه إياها وفارس، وضم إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل ذلك من فعل موسى، وأن ابن مفلح قد توجه إلى فارس يريده، وكان قبل مقيماً بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة. فزحف إليه ابن واصل، فالتقيا برامهرمز، وانضم أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل معيناً له على ابن مفلح، فظفر ابن واصل بابن مفلح، فأسره وقتل طاشتمر، واصطلم عسكر ابن مفلح، ثم لم يزل ابن مفلح في يده حتى قتله، وقد كان السلطان وجه إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل في إطلاق ابن مفلح، فلم يجبه إلى ذلك ابن واصل. ولما فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهراً أنه يريد واسطاً لحرب موسى بن بغا حتى انتهى إلى الأهواز، وبها إبراهيم بن سيما في جمع كثير. فلما رأى موسى بن بغا شدة الأمر وكثرة المتغلبين على نواحي المشرق، وأنه لا قوام له بهم، سأل أن يعفى من أعمال المشرق، فأعفي منها، وضم ذلك إلى ابن أبي أحمد، ووليه أبو أحمد بن المتوكل، فانصرف موسى بن بغا من واسط إلى باب السلطان مع عماله عن أعمال المشرق.
وفيها ولي أبو الساج الأهواز وحرب قائد الزنج، فصار إليها أبو الساج بعد شخوص عبد الرحمن بن مفلح إلى ناحية فارس.
وفيها كانت بين عبد الرحمن صهر أبي الساج وعلي بن أبان المهلبي وقعة بناحية الدولاب، قتل فيها عبد الرحمن، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلها، وسبوا وانتهبوا، وأحرقوا دورها. ثم صرف أبو الساج عما كان إليه من عمل الأهواز وحرب الزنج، وولي ذلك إبراهيم بن سيما، فلم يزل مقيماً في عمله ذلك حتى انصرف عنه بانصراف موسى بن بغا، عما كان إليه من عمل المشرق.
وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان.
ولما ضم عمل المشرق إلى أبي أحمد ولي مسروراً البلخي الأهواز والبصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين في شعبان من هذه السنة، وحرب قائد الزنج.
وفيها ولي نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ، وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إليه بولايته ذلك.
وفي شوال منها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس، وابن واصل مقيم بالأهواز، فانصرف منها إلى فارس، فالتقى هو ويعقوب بن الليث في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وفل عسكره، وبعث إلى خرمة إلى قلعة ابن واصل، فأخذ ما كان فيها، فذكر أنه بلغت قيمة ما أخذ يعقوب منها أربعيمن ألف ألف درهم، وأسر مرداساً خال ابن واصل.
وفيها أوقع أصحاب يعقوب بن الليث بأهل زم موسى بن مهران الكردي، لما كان من ممالأتهم محمد بن واصل، فقتلوهم، وانهزم موسى بن مهران.
وفيها لاثنتي عشرة مضت من شوال منها، جلس المعتمد في دار العامة، فولي ابنه جعفراً العهد، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا، وولاه إفريقية ومصر والشأم والجزيرة والموصل وإرمينية وطريق خراسان ومهرجا نقذق وحلوان، وولي أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، وولاه المشرق، وضم إليه مسروراً البلخي، وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم والكرج والدينور والري وزنجان وقزوين وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به حدث الموت وجعفر لم يكمل للأمر، أن يكون الأمر لأبي أحمد ثم لجعفر. وأخذت البيعة على الناس بذلك، وفرقت نسخ الكتاب، وبعث بنسخة مع الحسن بن محمد بن أبي الشوارب ليعلقها في الكعبة، فعقد جعفر المفوض لموسى بن بغا على المغرب في شوال وبعث إليه بالعقد مع محمد المولد.
وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث، فاعتزل عسكره في آلاف من أصحابه، فصار إلى أبي الساج فقبله، وأقام معه بالأهواز، وبعث إليه من سامرا بخلعة، ثم سأل ابن زيدويه السلطان توجيه الحسين بن طاهر بن عبد الله معه إلى خراسان.
وسار مسرور البلخي مقدمة لأبي أحمد من سامرا، لسبع خلون من ذي الحجة، وخلع عليه وعلى أربعة وثلاثين من قواده - فيما ذكر - وشيعه وليا العهد، واتبعه الموفق شاخصاً من سامرا لتسع بقين من ذي الحجة.

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ومات الحسن بن محمد بن أبي الشوارب فيها بمكة بعدما حج.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث رامهرمز
فمما كان فيها من ذلك موافاة يعقوب بن الليث رامهرمز في المحرم وتوجيه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج، وإخراج السلطان من كان محبوساً من أسباب يعقوب بن الليث من السجن؛ لأنه لما كان من أمره ما كان في أمر محمد بن طاهر، حبس السلطان غلامه وصيفاً ومن كان قبله من أسبابه،فأطلق عنهم بعدما وافى يعقوب رامهرمز؛ وذلك لخمس خلون من شهر ربيع الأول. ثم قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب، وخرج إلى سامرا برسالة من عنده، فجلس أبو أحمد ببغداد، ودعا بجمعة من التجار، وأعلمهم أن أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والري وفارس والشرطة بمدينة السلام؛ وذلك بمحضر من درهم بن نصر صاحب يعقوب وكان المعتمد قد صرف درهماً هذا من سامرا إلى يعقوب بجواب ما كان يعقوب أرسله، يسأله لنفسه، فأرسل معه إليه عمر بن سيما ومحمد بن تركشه، ووافى فيها رسل ابن زيدويه بغداد في شهر ربيع الأول منها برسالة من عنده، فخلع عليه أبو أحمد، ثم انصرف في هذه السنة الذين توجهوا إلى يعقوب بن الليث إلى السلطان، فأعلموه أنه يقول: إنه لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى باب السلطان، وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار أبو الساج إليه، فقبله وأكرمه ووصله.
ولما رجعت الرسل بما كان من جواب يعقوب عسكر المعتمد يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة بالقائم بسامرا، واستخلف على سامرا ابنه جعفراً، وضم إليه محمداً المولد، ثم سار منها يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة، ووافى بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة، فاشتقها حتى جازها، وصار إلى الزعفرانية فنزلها، وقدم أخاه أبا أحمد من الزعفرانية. فسار يعقوب بجيشه من عسكر مكرم؛ حتى صار من واسط على فرسخ، فصادف هنالك بثقاً قد بثقه مسرور البلخي من دجلة لئلا يقدر على جوازه، فأقام عليه حتى سده وعبره؛ وذلك لست بقين من جمادى الآخرة، وصار إلى باذبين، ثم وافى محمد بن كثير من قبل يعقوب عسكر مسرور البلخي، فصار بإزائه، فصار مسرور بعسكره إلى النعمانية، ووافى يعقوب واسطاً، فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة.
وارتحل المعتمد من الزعفرانية يوم الخميس لليلة بقيت من جمادى الآخرة؛ حتى صار إلى سيب بني كوما، فوافاه هنالك مسرور البلخي، وكان مسير مسرور البلخي إليه في الجانب الغربي من دجلة، فعبر إلى الجانب الذي فيه العسكر، فأقام المعتمد بسيب بني كوما أياماً، حتى اجتمعت إليه عساكره، وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول، ثم زحف من دير العاقول نحو عسكر السلطان، فأقام المعتمد بالسيب، ومعه عبيد الله بن يحيى، وأنهض أخاه أبا أحمد لحرب يعقوب، فجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته، ومسروراً البلخي على ميسرته، وصار هو في خاصته، ونخبة رجاله في القلب. والتقى العسكران يوم الأحد لليال خلون من رجب بموضع يقال له اضطربد بين سيب بني كوما ودير العاقول. فشدت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي أحمد فهزمتها، وقتلت منها جماعة كثيرة منهم من قوادهم إبراهيم بن سيما التركي وطباغوا التركي ومحمد طغتا التركي والمعرف بالمبرقع المغربي وغيرهم ثم ثاب المنهزمون وسائر عسكر أبي أحمد ثابت، فحملوا على يعقوب وأصحابه، فثبتوا وحاربوا حرباً شديداً، وقتل من أصحاب يعقوب جماعة من أهل البأس؛ منهم الحسن الدرهمي ومحمد بن كثير. وكان على مقدمة يعقوب - والمعروف بلبادة - فأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، ولم تزل الحرب بين الفريقين - فيما قيل - إلى آخر وقت صلاة العصر.
ثم وافى أبا أحمد الديراني ومحمد بن أوس، واجتمع جميع من في عسكر أبي أحمد، وزد ظهر من كثير ممن مع يعقوب كراهة القتال معه إذ رأوا السلطان قد حضر لقتاله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه؛ حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب.

فذكر أنه أخذ من عسكره من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس، ومن الدنانير والدراهم ما يكل عن حمله، ومن جرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر بن عبد الله، وكان مثقلاً بالحديد؛ خلصه الذي كان موكلاً به.
ثم أحضر محمد بن طاهر، فخلع عليه عى مرتبته، وقرئ على الناس كتاب فيه: ولم يزل الملعون المارق المسمى يعقوب بن الليث الصفار ينتحل الطاعة، حتى أحدث الأحداث المنكرة؛ ومن مصيره إلى صاحب خراسان، وغلبته إياه عليها، وتقلده الصلاة والإحداث بها، ومصيره إلى فارس مرة بعد نرة، واستيلائه على أموالها، وإقباله إلى باب أمير المؤمنين مظهر المسألة في أمور أجابه أمير المؤمنين منها ما لم يكن يستحقه، استصلاحاً له، ودفعاً بالتي هي أحسن؛ فولاه خراسان والري وفارس وقزوين وزنجان والشرطة بمدينة السلام، وأمر بتكنيته في كتبه، وأقطعه الضياع النفسية، فما زاده ذلك إلا طغياناً وبغياً، فأمره بالرجوع فأبى، فنهض أمير المؤمنين لدفع الملعون حين توسط الطريق بين مدينة السلام وواسط، وأظهر يعقوب أعلاماً على بعضها الصلبان، فقدم أمير المؤمنين أخاه أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين في القلب، ومعه أبو عمران موسى بن بغا في الميمنة وفي جناح الميمنة إبراهيم ابن سيما، وفي الميسرة أبو هاشم مسرور البلخي، وفي جناح الميسرة الديراني، فتسرع وأشياعه في المحاربة، فحاربه حتى أثخن بالجراح، وحتى انتزع أبو عبد الله بن طاهر سالماً من أيديهم، وولوا منهزمين مجروحين مسلوبين، وسلم الملعون كل ما حواه ملكه " كتاباً مؤرخاً بيوم الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من رجب.
ثم رجع المعتمد إلى معسكره وكتب إلى ابن واصل بتولية فارس، وقد كان صار إليها وجمع جماعة.
ثم رجع المعتمد إلى المدائن ومضى أبو أحمد ومعه مسرور وساتكين وجماعة من القواد، وبض على ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وأقطعها مسروراً البلخي، وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد يوم الاثنين لأربع عشرة بيت من رجب وقد رد إليه العمل، فخلع عليه في الرصافة، فنزل دار عبد الله بن طاهر، فلم يعزل حداً، ولم يول وأمر له بخمسمائة ألف درهم.
وكانت الوقعة التي كانت بين السلطان والصفار يوم الشعانين.
وقال محمد بن علي بن فيد الطائي يمدح أبا أحمد ويذكر أمر الصفار:
نعب الغراب عدمته من ناعب ... وصبا فؤادي لادكار حبائبي
نادى بينهم فجادت مقلتي ... لزيال أرحلهم بدمعٍ ساكب
بانوا بأتراب أوانس كالدمى ... مثل المهاقب البطون كواعب
فأولئكن غرائر تيمنني ... بسوالف وقوائم وحواجب
لولى عهد المسلمين مناسب ... شرفت وأشرق نورها بمناصب
ومراتب في ذروةٍ لا ترتقى ... أكرم بها من ذروة مراتب
ولقد أتى الصفار في عددٍ لها ... حسنٌ فوافتهن نكبة ناكب
جلب القضاء إليه حتفاً عاجلاً ... سقياً ورعياً للقضاء الجالب
أغواه إبليس اللعين بكيده ... واغتره منه بوعدٍ كاذب
حتى اذا اختلفوا وظنّ بأنه ... قد عز بين عساكرٍ وكتائب
دلفت إليه عساكر ميمونةٌ ... يلقون زحفاً باللواء الغالب
في جحفل لجبٍ ترى أبطاله ... من دراعٍ أو رامحٍ أو ناشب
وبدا الإمام برايةٍ منصورة ... لمحمد سيف الإله القاضب
وولى عهد المسلمين موفقٌ ... وبالله أمضى من شهابٍ ثاقب
وكأنه في الناس بدرٌ طالع ... متهلل بالنور بين كواكب
لما التقوا بالمشرفية والقنا ... ضرباً وطعن محاربٍ لمحارب
ثار العجاج وفوق ذاك غمامةٌ ... غراء تسكب وبل صوبٍ صائب
فل الجموع بحزم رأي ثاقب ... منه وأفرد صاحباً عن صاحب
لله در موفق ذي بهجةٍ ... ثبت المقام لدي الهياج مواثب
يا فارس العرب الذي ما مثله ... في الناس يعرف آخرٌ لنوائب

من فادح الزمن العضوض ومن لقا ... جيشٍ لذي غدر خئون غاصب
ذكر خبر توجه رجال الزنج إلى البطيحة ودست ميسانوفيها وجه قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسات ذكر الخبر عن سبب توجيهه إياهم إليها ذكر أن سبب ذلك كان أن المعتمد لما صرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وما كان متصلاً بها، وضمها إلى أخيه أبي أحمد، وضم أبو أحمد عمل كور دجلة إلى مسرور البلخي، وأقبل يعقوب بن الليث مريداً أبا أحمد، وصار إلى واسط، خلت كور دجلة من أسباب السلطان، خلا المدائن وما فوق ذلك. وكان مسرور قد وجه قبل ذلك إلى الباذاوارد مكان موسى بن أتامش جعلان التركي، وكان بإزاء موسى بن أتامش، من قبل قائد الزنج سليمان بن جامع، وقد كان سليمان قبل أن يصرف ابن أتامش عن الباذاورد، قد نال من عسكره؛ فلما صرف ابن تامش وجعل موضعه جعلان، وجه سليمان من قبله رجلاً من البحرانيين يقال له ثعلب بن حفص، فأوقع به، وأخذ منه خيلاً ورجلاً، ووجه قائد الزنج من قبله رجلاً من أهل جبي يقال له أحمد بن مهدي في سميريات، وفيها رماة من أصحابه، فأنفذه إلى نهر المرأة، فجعل الجبائي يوقع بالقرى التي بنواحي المذار - فيما ذكر - فيعيث فيها، ويعود إلى نهر المرأة فيقيم به.
فكتب هذا الجبائي إلى قائد الزنج يخبر بأن البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وعساكره عند ورود يعقوب بن الليث واسطاً. فأمر قائد الزنج سليمان بن جامع وجماعة من قواده بالمصير إلى الحوانيت، فأمر رجلاً من الباهليين يقال له عمير بن عمار، كان عالماً بطرق البطيحة ومسالكها، أن يسير مع الجبائي حتى يستقر بالحوانيت.
فذكر محمد بن الحسن أن محمد بن عثمان العباداني قال: لما عزم صاحب الزنج على توجيه الجيوش إلى ناحية البطيحة ودستميسان أمر سليمان بن جامع أن يعسكر بالمطوعة وسلمان بن موسى أن يعسكر على فوهة النهر المعروف باليهودي، ففعلا ذلك، وأقاما إلى أن أتاهما إذنه، فنهضا، فكان مسير سليمان بن موسى إلى القرية المعروفة بالقادسية، ومسير سليمان بن جامع إلى الحوانيت والجبائي في السميريات أمام جيش سليمان بن جامع، ووافى أبا التركي دجلة في ثلاثين شذاة، فانحدر يريد عسكر قائد الزنج، فمر بالقرية التي كانت داخلة في سلم الخبيث فنال منها، وأحرق؛ فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى في منعه الرجوع، وأخذ عليه سليمان الطريق، فأقام شهراً يقاتل حتى تخلص فصار إلى البطيحة.
وذكر محمد بن عثمان أن جباشاً الخادم زعم أن أبا التركي لم يكن صار إلى دجلة في هذا الوقت، وأن المقيم كان هناك نصير المعروف بأبي حمزة.

وذكر أن سليمان بن جامع لما فصل متوجهاً إلى الحوانيت، انتهى إلى موضع يعرف بنهر العتيق. وقد كان الجبائي سار في طريق الماديان، فتلقاه رميس، فواقعه الجبائي، فهزمه، وأخذ منه أربعاً وعشرين سميرية ونيفاً وثلاثين صلغة، وأفلت رميس، فاعتصم بأجمة لجأ إليها، فأتاه قوم من الجوخانيين، فأخرجوه منها فنجا. ووافق المنهزمين من أصحاب رميس خروج سليمان من النهر العتيق، فتلقاهم فأوقع بهم، ونال منهم نيلاً، ومضى رميس حتى لحق بالموضع المعروف ببر مساور، وانحاز إلى سليمان جماعة من مذكوري البلاليين وأنجادهم في خمسين ومائة سميرية، فاستخبرهم عما أمامه، فقالوا: ليس بينك وبين واسط أحدٌ من عمال السلطان وولاته. فاغتر سليمان بذلك، وركن إليه، فسار حتى انتهى إلى الموضع الذي يعرف بالجازرة، فتلقاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه، فانهزم سليمان عنه، وقتل أبو معاذ جماعة من أصحابه، وأسر قائداً من قواد الزنج، يقال له القندلي. فانصرف سليمان إلى الموضع الذي كان معسكراً به، فأتاه رجلان من البلالية، فقالا له: ليس بواسط أحد يدفع عنها غير أبي معاذ في الشذوات الخمس التي لقيك بها. فاستعد سليمان وجمع أصحابه وكتب إلى الخبيث كتاباً مع البلالية الذين كانوا استأمنوا إليه وأنقذهم إلا جميعة يسيرة في عشرة سميريات، انتخبهم للمقام معه، واحتبس الاثنين معه اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه به، وصار قاصداً لنهر أبان، فاعترض له أبو معاذ في طريقه، وشبت الحرب بينهما، وعصفت الريح، فاضطربت شذا أبي معاذ، وقوى عليه سليمان وأصحابه، فأدبر عنهم معرداً، ومضى سليمان حتى انتهى إلى نهر أبان، فاقتحمه، وأحرق وأنهب، وسبى النساء والصبيان، فانتهى الخبر بذلك إلى وكلاء كانوا لأبي أحمد في ضياع من ضياعه مقيمين بنهر سنداد، فساروا إلى سليمان في جماعة، فأوقعوا به وقعةً، قتلوا فيها جمعاً كثيراً من الزنج، وانهزم سليمان وأحمد بن مهدي ومن معهما إلى معسكرهما.
قال محمد بن الحسن: قال محمد بن عثمان: لما استقر سليمان بن جامع بالحوانيت، ونزل بنهر يعرف بيعقوب بن النضر، وجه رجلاً ليعرف خبر واسط ومن فيها من أصحاب السلطان؛ وذلك بعد خروج مسرور البلخي وأصحابه عنها، لورود يعقوب إياها. فرجع إليه، فأخبره بمسير يعقوب نحو السلطان، وقد كان مسرور قبل شخوصه عن واسط إلى السيب وجه إلى سلميمان رجلاً يقال له وصيف الرحال في شذوات؛ فواقعه سليمان فقتله، وأخذ منه سبع شذوات، وقتل من ظفر به، وألقى القتلى بالحوانيت ليدخل الرهبة في قلوب المجتازين بهم من أصحاب السلطان.
فلما ورد على سليمان خبر مسير مسرور عن واسط، دعا سليمان عمير بن عمار خليفته ورجلاً من رؤساء الباهليين يقال له أحمد بن شريك، فشاورهما في التنحي عن الموضع الذي تصل إليه الخيل والشذوات، وأن يلتمس موضعاً يتصل بطريق مني أراد الهرب منه إلى عسكر الخبيث سلكه، فأشارا عليه بالمصير إلى عقر ماور، والتحصن بطهيثا والأدغال التي فيها. وكره الباهليون خروج سليمان بن جامع من بين أظهرهم لغمسهم أيديهم معه، وما خافوا من تعقب السلطان إياهم، فحمل سليمان بأصحابه ماضياً في نهر البرور إلى طهيثا، وأنفذ الجبائي إلى النهر المعروف بالعتيق في السميريات، وأمره بالبدار إليه بما يعرف من خبر الشذا، ومن يأتي فيها ومن أصحاب السلطان، وخلف جماعة من السودان لإشخاص من تخلف من أصحابه، وسار حتى وافى عقر ماور، فنزل الرية المعروفة بقرية مروان بالجانب الشرقي من نهر طهيثا في جزيرة هناك.
وجمع إليه رؤساء الباهليين وأهل الطفوف، وكتب إلى الخبيث يعلمه ما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه، ويأمره بإنفاذ ما قبله من ميرة ونعم وغنم، فأنفذ ذلك إليه، وسار مسرور إلى موضع معسكر سليمان الأول، فلم يجد هناك كثير شيء، ووجد القوم قد سبقوه إلى نقل ما كان في معسكرهم، وانحدر أبا التركي إلى البطائح في طلب سليمان؛ وهو يظن أنه قد ترك الناحية، وتوجه نحو مدينة الخيث فمضى. فلم يقف لسليمان على أثر، وكر راجعاً، فوجد سليمان قد أنفذ جيشاً إلى الحوانيت ليطرق من شذ من عسكر مسرور، فخالف الطريق الذي خاف أن يؤديه إليهم، ومضى في طريق آخر؛ حتى انتهى إلى مسرور، فأخبره أنه لم يعرف لسليمان خبراً.

وانصرف جيش سليمان إليه بما امتاروا، وأقام سليمان، فوجه الجبائي في الشميريات للوقوف على مواضع الطعام والمير والاحتيال في حملها. فكان الجبائي لا ينتهي إلى ناحية فيجد فيها شيئاً من الميرة إلا أحرقه، فساء ذلك سليمان، فنهاه عنه فلم ينته، وكان يقول: إن هذه الميرة مادة لعدونا، فليس الرأي ترك شيء منها.
فكتب سليمان إلى الخبيث يشكو ما كان من الجبائي في ذلك، فورد كتاب الخبيث على الجبائي يأمره السمع والطاعة لسليمان، والائتمار له فيما يأمره به.
وورد على سلمان أن أغرتمش وخشيشا قد أقبلا قاصدين إليه في الخيل والرجال والشذا والسميريات، يريدان مواقعته. فجزع جزعاً شديداً، وأنفذ الجبائي ليعرف أخبارهما، وأخذ في الاستعداد للقائهما، فلم يلبث أن عاد إليه الجبائي مهزوماً، فأخبره أنهما قد وافيا باب طنج؛ وذلك على نصف فرسخ من عسكر سليمان حينئذ، فأمره بالرجوع والوقوف في وجه الجيش، وشغله عن المصير إلى العسكر إلى أن يلحق به؛ فلما أنفذ الجبائي لما وجه له صعد سليمان سطحاً، فأشرف منه، فرأى الجيش مقبلاً، فنزل مسرعاً، فعبر نهر طهيثا، ومضى راجلاً، وتبعه جمعٌ من قواد السودان حتى وافوا باب طنج، فاستدبر أغرتمش، وتركهم حتى جدوا في المسير إلى عسكره. وقد كان أمر الذي استخلفه على جيشع ألا يدع أحداً من السودان يظهر لأحد من أهل جيش أغرتمش، وأن يخفوا أسخاصهم ما قدروا، ويدعوا القوم حتى يتوغلوا النهر إلى أن يسمعوا أصوات طبوله؛ فإذا سمعوها خرجوا عليهم، وقصدوا أغرتمش.
فجاء أغرتمش بجيشه حتى لم يكن بينه وبين العسكر إلا نهر يأخذ من طهيثا يقال له جارورة بني مروان. فانهزم الجبائي في السميريات حتى وافى طهيثا، فخلف سميرياته بها، وعاد راجلاً إلى جيش سليمان، واشتد جزع أهل عسكر سليمان منه، فتفرقوا أيادي سبا، ونهضت منهم شرذمة فيها قائد من قواد السودان يقال له أبو النداء، فتلقوهم فواقعوهم، وشغلوهم عن دخول العسكر، وشد سليمان من وراء القوم، وضرب الزنج بطبولهم، وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم؛ فانهزم أصحاب أغرتمش وشد عليهم من كان بطهيثا من السودان، ووضعوا السيوف فيهم، وأقبل خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره، فتلقاه السودان، فصرعوه وأخذته سيوفهم، فقتل وحمل رأسه إلى سليمان، وقد كان خشيش حين انتزعوا إليه، قال لهم: أنا خشيش؛ فلا تقتلوني، وامضوا بي إلى أصحابكم. فلم يسمعوا لقوله وانهزم أغرتمش، وكان في آخر أصحابه، ومضى حتى ألقى نفسه إلى الأرض، فركب دابة ومضى، وتبعهم الزنج حتى وصلوا إلى عسكرهم؛ فنالوا حاجتهم منه، وظفروا بشذوات كانت مع خشيش، وظفر الذين اتبعوا الجيش المولى بشذوات كانت مع أغرتمش فيها مال. فلما انتهى الخبر إلى أغرتمش، كر راجعاً حتى انتزعها من أيديهم، ورجع سليمان إلى عسكره، وقد ظفر بأسلاب ودواب، وكتب بخبر الوقعة إلى قائد الزنج؛ وما كان منه فيها. وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، وأقر الشذوات التي أخذها في عسكره. فلما وافى كتاب سليمان ورأس خشيش، أمر فطيف به في عسكره، ونصب يوماً؛ ثم حمله إلى علي بن أبان، وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك؛ وخرج سليمان والجبائي معه وجماعة من قواد السودان إلى ناحية الحوانيت متطرفين، فتوافقوا هناك ثلاث عشرة شذاة مع المعروف بأبي تميم أخي المعروف بأبي عون صاحب وصيف التركي، فأوقعوا به، فقتل وغرق، وظفروا من شذواته بإحدى عشرة شذاة.
قال محمد بن الحسن: هذا خبر محمد بن عثمان العباداني؛ فأما جباش؛ فزعم أن الشذا التي كانت مع أبي تميم كانت ثمانية، فأفلت منها شذاتان كانتا متأخرتين، فمضتا بمن فيهما وأصاب سلاحاً ونهباً، وأتى على أكثر من كان في تلك الشذوات من الجيش، ورجع سليمان إلى عسكره، وكتب إلى الخبيث بما كان منه من قتل المعروف بأبي تميم؛ ومن كان معه، واحتبس الشذوات في عسكره.
وفيها كبس ابن زيدويه الطيب، فأنهبها.
وفيها ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.
وفيها خرج الحسين بن طاهر بن عبد الله من بغداد لليال بقين منه، فصار إلى الجبل.
وفيها مات الصلابي، وولي الري كيغلغ.
ومات صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها.
وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فجمع له قضاء الجانبين.

وفيها قتل محمد بن عتاب بن عتاب، وكان ولي السيبين فصار إليها، فقتله الأعراب.
وللنصف من شهر رمضان صار موسى بن بغا إلى الأنبار متوجهاً إلى الرقة.
وفيها قتل أيضاً القطان صاحب مفلح، وكان عاملاً بالموصل على الخراج، فانصرف منها، فقتل في الطريق.
وعقد فيها لكفتمر علي بن الحسين بن داود كاتب أحمد بن سهل اللطفي على طريق مكة في شهر رمضان.
وفيها وقع بين الحناطين والجزارين بمكة قتال قبل يوم التروية بيوم، حتى خاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس، وقد قتل منهم سبعة عشر رجلاً.
وفيها غلب يعقوب بن الليث على فارس وهرب ابن واصل.
ذكر خبر الوقعة بين الزنج وأحمد بن ليثويهوفيها كانت وقعة بين الزنج وأحمد بن ليثويه، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأسر أبا داود الصعلوك وقد كان صار معهم.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسبب أسر الصعلوك ذكر أن مسرواً البلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى ناحية كور الأهواز، فلما وصل إليها نزل السوس، وكان الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن أزاذ مرد الكردي كور الأهواز، فكتب محمد بن عبيد الله إلى قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وقد كانت العادة جرت بمكاتبة محمد إياه من أول مخرجه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز ويداري الصفار حتى يستوي له الأمر فيها، فأجابه الخبيث إلى ذلك على أن يكون علي بن أبان المتولي لها، ويكون محمد بن عبيد الله يخلفه عليها فقبل محمد بن عبيد الله ذلك، فوجه علي بن أبان أخاه الخليل بن أبان، في جمع كثير السودان وغيرهم، وأيدهم محمد بن عبيد الله بأبي الصعلوك، فمضوا نحو السوس، فلم يصلوا إليها؛ ودفهم ابن ليثويه ومن كان معه من أصحاب السلطان عنها، فانصرفوا مفلولين، وقد قتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم جماعة، وسار أحمد بن ليثويه حتى نزل جندى سابور.
وسار علي بن أبان من الأهواز منجداً محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فتلقاه محمد بن عبيد الله في جمع من الأكراد والصعاليك؛ فلما قرب منه محمد بن عبيد الله سارا جميعاً، وجعلا بينهما المسرقان؛ فكانا يسيران عن جانبيه ووجه محمد بن عبيد الله رجلاً من أصحابه في ثلثمائة فارس، فانضم إلى علي بن أبان، فسار علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله إلى أن وافيا عسكر مكرم، فصار محمد بن عبيد الله إلى علي بن أبان وحده، فالتقيا وتحادثا، وانصرف محمد إلى عسكره، ووجه إلى علي بن أبان القاسم بن علي ورجلاً من رؤساء الأكراد، يقال له حازم، وشيخاً من أصحاب الصفار يعرف بالطالقاني، وأتوا علياً، فسلموا عليه، ولم يزل محمد وعلي على ألفة، إلى أن وافى على قنطرة فارس، ودخل محمد بن عبيد الله تستر، وانتهى إلى أحمد بن ليثويه تضافر علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله على قتاله، فخرج عن جندي سابور، وصار إلى السوس. وكانت موافاة علي قنطرة فارس في يوم الجمعة، وقد وعده محمد بن عبيد الله أن يخطب الخاطب يومئذ، فيدعو لقائد الزنج، وله على منبر تستر، فأقام علي منتظراً ذلك، ووجه بهبوذ بن عبد الوهاب لحضور الجمعة وإتيانه بالخبر؛ فلما حضرت الصلاة قام الخطيب، فدعا للمعتمد والصفار ومحمد بن عبيد الله، فرجع بهبوذ إلى علي بالخبر، فنهض علي من ساعته، فركب دوابه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى الأهواز، وقدمهم أمامه، وقدم معهم ابن أخيه محمد بن صالح ومحمد بن يحيى الكرماني خليفته، وكاتبه وأقام حتى إذا جاوزوا كسر قنطرة كانت هناك لئلا يتبعه الخيل.
قال محمد بن الحسن: وكنت فيمن انصرف مع المتقدمين من أصحاب علي، ومر الجيش في ليلتهم تلك مسرعين، فانتهبوا إلى عسكر مكرم في وقت طلوع الفجر؛ وكانت داخلة في سلم الخبيث، فنكث أصحابه، وأوقعوا بعسكر مكرم، وناولوا نهباً. ووافى علي بن أبان في أثر أصحابه، فوقف على ما أحدثوا فلم يقدر على تغييره، فمضى حتى صار إلى الأهواز ولما انتهى إلى أحمد بن ليثويه انصراف علي، كر راجعاً حتى وافى تستر، فأوقع بمحمد بن عبيد الله ومن معه، فأفلت محمد، ووقع في يده المعروف بأبي داود الصعلوك، فحمله إلى باب السلطان المعتمد، وأقام أحمد بن ليثويه بتستر.

قال محمد بن الحسن: فحدثني الفضل بن عدي الدارمي - وهو أحد من كان من أصحاب قائد الزنج انضم إلى محمد بن أبان أخي علي بن أبان قال: لما استقر أحمد بن ليثويه بتستر، خرج إليه علي بن أبان بجيشه، فنزل قرية يقال لها برنجان، ووجه طلائع يأتونه بأخباره، فرجعوا إليه، فأخبروه أن ابن ليثويه قد أقبل نحوه، أوائل خيله قد وافت قرية تعرف بالباهليين، فزحف علي بن أبان إليه، وهو يبشر أصحابه، ويعدهم الظفر، ويحكى لهم ذلك عن الخبيث. فلما وافى الباهليين تلقاه ابن ليثويه في خيله، وهي زهاء أربعمائة فارس؛ فلم يلبثوا أن أتاهم مدد خيل، فكثرت خيل أصحاب السلطان واستأمن جماعة من الأعراب الذين كانوا مع علي بن أبان إلى ابن ليثويه، وانهزم باقي خيل علي بن أبان، وثبت جمعية من الرجالة، وتفرق عنه أكثرهم، واشتد القتال بين الفريقين، وترجل علي بن أبان، وباشر القتال بنفسه راجلاً، وبين يديه غلام من أصحابه يقال له فتح، يعرف بغلام أبي الحديد، فجعل يقاتل معه. وبصر بعلي أبو نصر سلهب وبدر الرومي المعروف بالشعراني فعرفاه، فأنذر الناس به، فانصرف هارباً حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى بنفسه فيه، وتلاه فتح، فألقى نفسه معه، فغرق فتح، ولحق علي بن أبان نصر المعروف بالرومي، فتخلصه من الماء، فألقاه في سميرية ورمى علي بسهم، وأصيب به في ساقه، وانصرف مفلولاً، وقتل من أنجاد السودان وأبطالهم جماعة كثيرة.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن العباس بن محمد.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من ظفر عزيز بن السري صاحب يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل وأخذه أسيراً.
وفيها كانت بين موسى دالجويه والأعراب بناحية الأنبار وقعة، فهزموه وفلوه، فوجه أبو أحمد ابنه أحمد في جماعة من قواده في طلب الأعراب الذين فلوا موسى دالجويه.
وفيها وثب الديراني بابن أوس فبيته ليلاٍ، وفرق جمعه، ونهب عسكره، وأفلت ابن أوس، ومضى نحو واسط.
وفيها خرج في طريق الموصل رجلٌ من الفراغنة، فقطع الطريق، فظفر به فقتل.
ذكر الوقعة بين ابن ليثويه مع أخي علي بن أبانوفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر، وصار فيها يعقوب إلى الأهواز، وقد كان لابن ليثويه قبل ارتحاله عن تستر وقعة مع أخي علي بن أبان، وظفر فيها بجماعة كثيرة من زنوجه.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر عن علي بن أبان، أن ابن ليثويه لما هزمه في الوقعة التي كانت بينها في الباهليين، فأصابه ما أصابه فيها، ووافى الأهواز، لم يقم بها، ومضى إلى عسكر صاحبه قائد الزنج، فعالج ما قد أصابه من الجراح حتى برأ، ثم كر راجعاً إلى الأهواز، ووجه أخاه الخليل بن أبان وابن أخيه محمد بن صالح المعروف بأبي سهل، في جيش كثيف إلى ابن ليثويه؛ وهو يومئذ مقيم بعسكر مكرم، فسارا فيمن معهما، فلقيهما ابن ايثويه على فرسخ من عسكر مكرم، قاصداً إليهما، فالتقى الجمعان، وقد كمن ابن ليثويه كميناً. فلما استحر القتال تطارد ابن ايثويه، فطمع الزنج فيه، فتبعوه حتى جاوزا الكمين، فخرج من ورائهم؛ فانهزموا وتفرقوا، وكر عليهم ابن ليثويه، فنال حاجته منهم، ورجعوا مفلولين. فانصرف ابن ليثويه بما أصاب من الرءوس إلى تستر، ووجه علي بن أبان انكلويه مسلحةً إلى المسرقان إلى أحمد بن ليثويه، فوجه إليه ثلاثاً فارساً من جلد أصحابه، وانتهى إلى الخليل بن أبان مسير أصحاب ابن ليثويه إلى المسلحة، فكم لهم فيمن معه، فلما وافوه خرج إليهم، فلم يفلت منهم أحد، وقتلوا عن آخرهم، وحملت رءوسهم إلى علي بن أبان، وهو بالأهواز، فوجهها إلى الخبيث، وحينئذ أتي الصفار الأهواز، وهرب عنها ابن ليثويه.
ذكر الخبر عما كان من أمر الصفار هنالك في هذه السنة:

ذكر أن يعقوب بن الليث لما صار إلى جندي سابور، نزلها وارتحل عن تلك الناحية كل من كان بها من قبل السلطان، ووجه إلى الأهواز رجلاً من قبله يقال له الحصن بن العنبر، فلما قاربها خرج عنها علي أبان صاحب قائد الزنج، فنزل نهر السدرة، ودخل حصن الأهواز، فأقام بها، وجعل أصحابه علي بن أبان يغير بعضهم على بعض، فيصيب كل فريق منهم من صاحبه، إلى أن استعد علي بن أبان، وسار إلى الأهواز، فأوقع بالحصن ومن معه غليظة، قتل فيها من أصحاب يعقوب خلقاً كثيراً، وأصاب خيلاً، وغنم غنائم كثيرة، وهرب الحصن ومن معه إلى عسكر مكرم، وأقام علي بالأهواز حتى استباح ما كان فيها، ثم رجع عنها إلى نهر السدرة، وكتب إلى بهبوذ يأمره بالإيقاع برجل من الأكراد من أصحاب الصفار كان مقيماً بدورق، فأوقع به بهبوذ، فقتل رجاله وأسره، فمن عليه؛ فكان علي بعد ذلك يتوقعمسير يعقوب إليه فلم يسير، وأمد الحصن ابن العنبر بأخيه الفضل بن العنبر، وأمرهما بالكف عن قتال أصحاب الخبيث، والاقتصار على المقام بالأهواز. وكتب إلى علي بن أبان يسأله المهادنة وأن يقر أصحابه بالأهواز، فأبى ذلك علي دون نقل طعام كان هناك، فتجافى له الصفار عن نقل الطعام ، وتجافى علي للصفار عن علف كان بالأهواز، فنقل علي الطعام، وترك العلف، وتكاف الفريقان، أصحاب علي وأصحاب الصفار.
وفيها توفي مساور بن عبد الحميد الشاري.
وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، سقط عن دابته في الميدان من صدمه خادم له، يقال له رشيق، يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة، فسال من منخره وأذنه دم، فمات بعد أن سقط بثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل، ومشى في جنازته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد. ثم قدم موسى بن بغا سامرا لثلاث بقين من ذي العقدة، فهرب الحسن بن مخلد إلى بغداد، واستوزر مكانه سليمان بن وهب، لست ليال خلون من ذي الحجة، ثم ولى عبيد بن سليمان كتبه المفوض والموفق إلى ما كان يلي من كتبه موسى بن بغا، ودفعت دار عبيد الله بن يحيى إلى كيغلغ.
وفيها خرج أخو شركب الحسين بن طاهر عن نيسابور، وغلب عليها، وأخذ أهلها بإعطائه ثلث أموالهم، وصار الحسين إلى مرو، وبها أخو خوارزم شاه يدعو لمحمد بن طاهر.
وفي هذه السنة سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الطاغية.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك توجيه يعقوب الصفار جيشاً إلى الضيمرة، فتقدمه إليها، وأخذوا صيغون ومضى به إليه أسيراً، فمات عنده.
ولإحدى عشرة خلت من المحرم، عسكر أبو أحمد ومعه موسى بن بغا بالقائم، وشيعهما المعتمد،ن ثم شخصا من سامرا لليلتين خلتا من صفر، فلما صار ببغداد، مات بها موسى بن بغا، وحمل إلى سامرا، فدفن بها.
وفيها في شهر ربيع الأول ماتت قبيحة أم المعتز.
وفيها صار ابن الديراني إلى الدينور، وتعاون ابن عياض ودلف بن عبد العزيز بن أبي دلف عليه، فهزماه وأخذا أمواله وضياعه، ورجع إلى حلوان مفلولاً.
خبر أسر الروم لعبد الله بن رشيدوفيها أشرت الروم عبد الله بن رشيد بن كاوس ذكر الخبر عن سبب أسرهم إياه ذكر أن سبب ذلك كان، أنه دخل أرض الروم في أربعة آلاف من أهل الثغور الشأمية، فصار إلى حصنين والمسكنين، فغنم المسلمون، وقفل، فلما رحل عن البدندون، خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قذيذية وبطريق قرة وكوكب وخرشنة، فأحدقوا بهم، فنزل المسلمون فعرقبوا دوابهم، وقاتلوا، فقتلوا، إلا خمسمائة أو ستمائة، وضعوا السياط في خواصر دوابهم، وخرجوا، فقتل الروم من قتلوا، وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته، وحمل إلى لؤلؤة، ثم حمل إلى الطاغية على البريد.
ذكر خبر الوقعة بين محمد المولد وقائد الزنجوفيها ولي محمد المولد واسطاً، فحاربه سليمان بن جامع، وهو عامل على ما يلي تلك الناحية من قبل قائد الزنج، فهزمه وأخرجه عن واسط فدخلها.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها

ذكر أن السبب في ذلك كان أن سليمان بن جامع الموجه كان من قبل قائد الزنج إلى ناحية الحوانيت والبطائح، لما هزم جعلان التركي عامل السلطان، وأوقع بأغرتمش، ففل عسكره، وقتل خشيشاً، ونهب ما كان معهم، كتب إلى صاحبه قائد الزنج يستأذنه في المصير إليه، ليحدث به عهداً، ويصلح أموراً من أمور منزله؛ فلما أنفذ الكتاب بذلك، أشار عليه أحمد بن مهدي الجبائي بتطرق عسكر البخاري، وهو يومئذ مقيم ببردودا، فقبل ذلك، وسار إلى بردوذا، فوافى موضعاً يقال له أكرمهر؛ وذلك على خمسة فراسخ من عسكر تكين. فلما وافى ذلك الموصع، قال الجبائي لسليمان: إن الرأي أن تقيم أنت ها هنا، وأمضي أنا في السميريات، فأجر القوم إليك، وأتعبهم فيأتوك وقد لغبوا، فتال حاجتك منهم. ففعل سليمان ذلك، فعبى خيله ورجالته في موضعه ذلك، ومضى أحمد بن مهدي في السميريات مسحراً، فوافى عسكر تكين، فقاتله ساعة، وأعد تكين خيله ورجاله، وتطارد الجبائي له، وأنفذ غلاماً إلى سليمان يعلمه أن أصحاب تكين واردون عليه بخيلهم. فلقي الرسول سليمان، وقد أقبل يقفو أثر الجبائي لما أبطأ عليه خبره. فرده إلى معسكره، ووافى رسول آخر للجبائي بمثل الخبر الأول، فلما رجع سليمان إلى عسكره، أنفذ ثعلب بن حفص البحراني وقائداً من قواد الزنج، يقال له منينا في جماعة من الزنج، فجعلهما كميناً في الصحراء مما يلي ميسرة خيل تكين، وأمرهما إذا جاوزهم خيل تكين أن يخرجوا من ورائهم. فلما علم الجبائي أن سليمان قد أحكم لهم خيله وأمر الكمين، رفع صوته ليسمع أصحاب تكين؛ يقول لأصحابه: غررتموني وأهلكتموني، وقد كنت امرتكم ألا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلا لقائي وأنفسكم هذا الملقى الذي لا أرانا ننجو منه. فطمع أصحاب تكين لما سمعوا قوله، وجدوا في طلبه، وجعلوا ينادون: بلبل في قفص. وسار الجبائي سيراً حثيثاً، وأتبعوه يرشقونه بالسهام، حتى جاوزوا موضع الكمين، وقاربوا عسكر سليمان. وهو كامن من وراء الجدر في خيله وأصحابه، فزحف سليمان، فتلقى الجيش، وخرج الكمين من وراء الخيل، وثنى الجبائي صدور سميرياته إلى من في النهر، فاستحكمت الهزيمة عليهم من الوجوه كلها، وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم؛ حتى قطعوا نحواً من ثلاثة فراسخ.
ثم وقف سليمان وقال للجبائي: نرجع فقد غنمنا وسلمنا، والسلامة أفضل من كل شيء. فال الجبائي: كلا؛ قد نخبنا قلوبهم، ونفذت حيلتنا فيهم، والرأي أن نكسبهم في ليلتنا هذه، فلعلنا أن نزيلهم عن عسكرهم، ونفض جمعهم. فأتبع سليمان رأي الجبائي، وصار إلى عسكر تكين، فوافاه في وقت المغرب، فأوقع به، ونهض تكين فيمن معه، فقاتل قتالاً شديداً، فانكشف عنه سليمان وأصحابه. ثم وقف سليمان وعبأ أصحابه، فوجه شبلا في خيل من خيله، وضم إليه جمعاً من الرجالة إلى الصحراء، وأمر الجبائي، فسار في السميريات في بطن النهر، وسار هو فيمن معه من أصحابه الخيالة والرجالة، فتقدم أصحابه حتى وافى تكين، فلم يقف له أحد، وانكشفوا جميعاً وتركوا عسكرهم، فغنم ما وجد فيه، وأحرق العسكر، وانصرف إلى معسكره بما أصاب من الغنيمة. ووافى عسكره، فألفى كتاب الخبيث قد ورد بالإذن لع في المصير إلى منزله، فاستخلف الجبائي، وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذوات التي أخذها من المعروف بأبي تميم ومن خشيش ومن تكين، وأبل حتى ورد عسكر الخبيث؛ وذلك في جمادى الأولى من سنة أربع وستين ومائتين.
ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله تهيأ للزنج دخول واسط وذكر الخبر عن

الأحداث الجليلة في سنة أربع وستين ومائتين

ذكر أن الجبائي يحيى بن خلف لما شخص سليمان بن جامع من معسكره بعد الوقعة التي أوقعها بتكين إلى صاحب الزنج، خرج في السميريات بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازروان لطلب الميرة، ومعه جماعة من السودان فاعترضه أصحاب جعلان، فأخذوا سفناً كانت معه، وهزموه، فرجع مفلولاً حتى وافى طهيثاً، ووافته كتب أهل القرية، يخبرونه أن منجور مولى أمير المؤمين ومحمد بن علي بن حبيب اليشكري لما اتصل بهما خبر غيبة سليمان بن جامع عن طهيثا، اجتمعا وجمعا أصحابهما، وقصدا القرية، فقتلا فيها وأحرقا وانصرفا، وجلا من أفلت ممن كان فيها، فصاروا إلى القرية المعروفة بالحجابية، فأقاموا فيها. فكتب الجبائي إلى سليمان بخبر ما وردت به كتب أهل القرية، مع ما ناله من أصحاب جعلان، فأنهض قائد الزنج سليمان إلى طهيثا معجلاً، فوافاها، فأظهر أنه يقصد لقتال جعلان، وعبأ جيشه، وقدم الجبائي أمامه في السميريات، وجعل معه خيلاً ورجلاً، وأمره بموافاة مازروان والوقوف بإزاء عسكر جعلان، وأن يظهر الخيل ويرعاها بحيث يراها أصحاب جعلان، ولا يوقع بهم، وركب هو في جيشه أجمع إلا نفراً يسيراً خلفهم في عسكره، ومضى في الأهواز حتى خرج على الهورين المعروفين بالربة والعمرقة، ثم مضى نحو محمد بن علي بن حبيب، وهو يومئذ بموضع يقال له تلفخار، فوافاه فأوقع به وقعة غليظة، تل فيها قتلى كثيرة، وأخذ خيلاً كثيرة وحاز غنائم جزيلة، وقتل أخا لمحمد بن علي، وأفلت محمد، ورجع سليمان، فلما صار في صحراء بين البزاق والقرية وافته خيل لبني شيبان، وقد كان فيمن أصاب سليمان بتلفخار سيد من سادات بني شيبان، فقتله وأسر ابناً له صغيراً، وأخذ حجراً كانت تحته، فانتهى خبره إلى عشيرته، فعارضوا سليمان بهذه الصحراء في أربعمائة فارس، وقد كان سليمان وجه إلى عمير بن عمار خليفته بالطف حين توجه إلى ابن حبيب، فصار إليهى، فحعله دليلاً لعلمه بتلك الطريق، فلما رأى سليمان خيل بني شيبان قدم أصحابه أجمعين إلا عمير بن عمار فإنه انفرد، فظفرت به بنو شيبان فقتلوه، وحملوا رأسه، وانصرفوا.
وانتهى الخبر إلى الخبيث، فعظم عليه قتل عمير، وحمل سليمان إلى الخبيث ما كان أصاب من بلد محمد بن علي بن حبيب؛ وذلك في آخر رجب من هذه السنة، فلما كان في شعبان نهض سليمان في جمع من أصحابه؛ حتى وافى قرية حسان، وبها يومئذ قائد من قواد السلطان يقال له جيش ابن حمرتكين، فأوقع به، فأجفل عنه، وظفر بالقرية فانتهبها وأحرق فيها أوخذ خيلاً، وعاد إلى عسكره، ثم خرج لعشر خلون من شعبان إلى الحوانيت، وأصعد الجبائي في السميريات إلى برمساور، فوجد هنالك صلاغاً فيها خيل من خيل جعلان، كان أراد أن يوافى بها نهر أبان. وقد كان خرج إلى ما هناك متصيداً، فأوقع الجبائي بتلك الصلاغ، فقتل من فيها، وأخذ الخيل - وكانت اثنتي عشر فارساً - وعاد إلى طهيثا، ثن نهض سليمان إلى تل رمانا - لثلاث بين من شعبان فأوقع بها، وجلا عنها أهلها، وحاز ما كان فيها، ثم رجع إلى عسكره، ونهض لعشر خلون من شهر رمضان إلى الموضع المعروف بالجازرة، وأبا يومئذ هناك، وجعلا بمازروان.
وقد كان سليمان كتب إلى الخبيث في التوجيه إليه بالشذا، فوجه إليه عشر شذوات، مع رجل من أهل عبادان يقال له الصقر بن الحسين، فلما وافى سليمان الصر بالشذا أظهر أنه يريد جعلان، وبادرت الأخبار إلى جعلان بأن سليمان يريد موافاته؛ فكانت همته ضبط عسكره. فلما قرب سليمان موضع أبا مال إليه، فأوقع به، وألفاه غاراً بمجيئه، فنال حاجته، وأصاب ست شذوات.
قال محمد بن الحسن: قال جباش: كانت الشذوات ثمانية، وجدها في عسكره، وأحرق شذاتين كانتا على الشط، وأصاب خيلاً وسلاحاً وأسلاباً، وانصرف إلى عسكره، ثم أظهر أنه يريد تكين البخاري، وأعد مع الجبائي وجعفر بن أحمد خال ابن الخبيث الملعون العمروف بأنكلاي سفنا، فلما وافت السفن عسكر جعلان، نهض إليها، فأوقع بها، وحازها وأوقع سليمان من جهة البر، فهزمه إلى الرصافة، واسترجع سفنه، وحاز سبعة وعشرين فرساً ومهرين من خيل جعلان وثلاثة أبغل، وأصاب نهباً كثيراً وسلاحاً، ورجع إلى طهيثا.

قال محمد: أنكر جباش أن يكون لتكين في هذا الموضع ذكر، ولم يعرف خبر العباداني في تكين، وزعم أن القصد لم يكن إلا إلى جعلان، وقد كان خبره خفي على أهل عسكره حتى أرجفوا بأنه قد قتل وقتل الجبائي معه، فجزعوا أشد الجزع، ثم ظهر خبره وما كان منه من الإيقاع بجعلان، فسكنوا وقروا إلى أن وافى سليمان، وكتب بما كان منه إلى الخبيث، وحمل أعلاماً وسلاحاً، ثم صار سليمان إلى الرصافة في ذي العقدة، فأوقع بمطر بن جامع، وهو يومئذ ميم بها، فغنم غنائم كثيرة، وأحرق الرصافة، واستباحها، وحمل أعلاماً إلى الخبيث، وانحدر لخمس ليال خلون من ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين إلى مدينة الخبيث، فأقام ليعيد هناك ويقيم في منزله، ووافى مطر بن جامع القرية المعروفة بالحجابية، فأوقع بها، وأسر جماعة من أهلها. وكان الاضي بها من قبل سليمان رجلاً من أهلها يقال له سعيد بن السيد العدوي، فأسر وحمل إلى واسط هو وثعلب بن حفص وأربعة قواد كانوا معه، فصاروا إلى الحرجلية على فرسخين ونصف من طهيثا، ومضى الجبائي في الخيل والرجل لمعارضة مطر، فوافى الناحية وقد نال مطر ما نال منها، فانصرف عنها، وكتب إلى سليمان بالخبر، فوافى سليمان يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة من هذه السنة، ثم صرف جعلان، ووافى أحمد بن ليثويه، فأقام بالشديدية، ومضى سليمان إلى موضع يقال له نهر أبان، فوجد هناك قائداً من قواد ابن ليثويه يقال له طرناج، فأوقع به وقتله.
قال محمد: قال جباش: المقتول بهذا الموضع بينك، فأما طرناج فإنه قتل بمازروان. ثم وافى الرصافة ، وبها يومئذ عسكر مطر بن جامع، فأوقع به، فاستباح عسكره، وأخذ منه سبع شذوات، وأحرق شذاتين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين.
قال محمد: قال جباش: كانت هذه الوقعة بالشديدية، والذي أخذ يومئذ ست شذوات، ثم مضى سليمان في خمس شذوات، ورتب فيها صناديد قواده وأصحابه، فواقعه تكين البخاري بالشديدية، وقد كان ابن ليثويه حينئذ صار إلى ناحية الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان، وأخذ منه الشذوات التي كانت معه بآلتها وسلاحها ومقاتلتها، وقتل في هذه الوقعة جلة قواد سليمان.
ثم زحف ابن ليثويه إلى الشيديدية، وضبط تلك النواحي إلى أن ولى أبو أحمد محمداً المولد واسطاً.
قال محمد: قال جباش: لما وافى ابن ليثويه الشديدية سار إليه سليمان، فأقام يومين يقاتله، ثم تطارد له سليمان في اليوم الثالث، وتبعه ابن ليثويه فيمن تسرع معه، فرجع إليه سليمان، فألقاه في فوهة بردوداً، فتخلص بعد أن أشفى على الغرق. وأصاب سليمان سبع عشرة دابة من دواب ابن ليثويه.
قال: وكتب سليمان إلى الخبيث يستمده، فوجه إليه الخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس، ومعه المذوب، فقصد موافاة هذا المدد إياه لمحاربة محمد المولد، فأوقع به فهرب المولد، ودخل الزنج واسطاً، فقتل بها خلق كثير، وانتهبت وأحرقت، وكان بها إذ ذاك كنجور البخاري، فحامى يومه ذلك إلى وقت العصر، ثم قتل. وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب. وكان الجبائي في قواده من السودان ورجالته منهم، وكان سليمان بن موسى الشعؤراني وأخواه في خيله ورجله مع سليمان بن جامع؛ فكان القوم جميعاً يداً واحدة. ثم انصرف سليمان بن جامع عن واسط، ومضى بجميع الجيش إلى جنبلاء ليعيث ويخرب، ووقع بينه وبين الخيل بن أبان اختلاف، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فاستعفى له قائد الزنج من المقام مع سليمان، وأذن للخليل بالرجوع إلى مدينة الخبيث مع أصحاب علي بن أبان وغلمانه، وتخلف المذوب في الأعراب مع سليمان، وأقام بمعسكره أياماً، ثم مضى إلى نهر الأمير، فعسكر به، ووجه الجبائي والمذوب إلى جنبلاء، فأقاما هنالك تسعين ليلة وسليمان معسكر بنهر الأمير.
قال محمد: قال جباش: كان سليمان معسكراً بالشديدية.
ذكر خبر خروج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا

وفي هذه السنة خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا، ومعه الحسن ابن وهب، وشيعه أحمد بن الموفق ومسرور البلخي وعامة القواد؛ فلما صار بسامرا غضب عليه المعتمد وحبسه ويده، وانتهب داره وداري ابنيه وهب وإبراهيم، واستوزر الحسن بن مخلد لثلاث بقين من ذي القعدة، فشخص الموفق من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان، فلما قرب أبو أحمد من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي، فعسكر به، ونزل أبو أحمد ومن معه جزيرة المؤيد، واختلفت الرسل بينهما، فلما كان بعد أيام خلون من ذي الحجة، صار المعتمد إلى حراقة في دجلة، صار إليه أخوه أبو أحمد في زلال، فخلع علي أبي أحمد وعلي مسرور البلخي وكيغلغ وأحمد بن موسى ابن بغا، فلما كان يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة يوم التروية عبر أهل عسكر أبي أحمد إلى عسكر المعتمد، وأطلق سليمان بن وهب؛ ورجع المعتمد إلى الجوسق، وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح ين شيرزاد، وكتب في قبض أموالهما وأموال أسبابهما،وحبس أحمد بن أبي الأصبغ، وهرب القواد المقيمون كانوا بسامرا إلى تكريت، وتغيب أبو موسى بن المتوكل، ثم ظهر، ثم شخص القواد الذين كانوا صاروا إلى تكريت إلى الموصل، ووضعوا أيديهم في الجباية.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الوقعة بين أحمد بن ليثويه وسليمان قائد الزنج
فمن ذلك ما كان من وقعة كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد صاحب الزنج بناحية جنبلاء.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها ذكر أن سليمان بن جامع كتب إلى صاحب الزنج، يخبره بحال نهر يعرف بالزهيري، ويسأله الإذن له في النفقة على إنفاذ كريه إلى سواد الكوفة والبرار، ويعلمه أن المسافة في ذلم قريبة، وأنه متى أنفذه تهيأ له بذلك حمل كل ما بنواحي جنبلاء وسواد الكوفة من الميرة. فوجه الخبليث بذلك رجلاً يقال له محمد بن يزيد البصري، وكتب إلى سليمان بإزاحة علله في المال والإقامة معه في جيشه إلى وقت فراغه، مما وجه له، فمضى سليمان بجميع جيشه حتى أقام بالشريطية نحواً من شهر، وألقى الفعلة في النهر؛ وخلال ذلك ما كان سليمان يتطرق ما حوله من أهل خسر سابور؛ وكانت الميرة تتصل به من ناحية الصين وما والاها إلى أن واقعه ابن ليثويه عامل أبي أحمد على جنبلاء، فقتل له أربعة عشر قائداً.
قال محمد بن الحسن: قتل سبعة وأربعين ائداً وخلقاً من الخلق لا يحصى كثرة، واستبيح عسكره، وأحرقت سفنه، وكانت مقيمة في هذا النهر الذي كان مقيماً على إنفاذه، فمضى مفلولاً حتى وافى طهيثاً، فأقام بها، ووافى الجبائي في عقب ذلك، ثم أصعد فأقام بالموضع المعروف ببرتمرتا، واستخلف على الشذوات الاشتيام الذي يقال له الزنجي بن مهربان، وقد كان السلطان وجه نصيراً لتقييد شامرج، وحمله إلى الباب، وتقلد ما كان يتقلده، فوافى نصير الزنجي بن مهربان بعد حمله شامرج مقيداً بنهر برتمرتا، وأخذ منه تسع شذوات، واسترد الزنجي منها ستاً.
قال محمد بن الحسن: أنكر جباش أن يكون الزنجي بن مهربان استرد من الشذوات شيئاً، وزعم أن نصيراً ذهب بالشذوات أجمع، وانصرف إلى طهيثاً، وبادر بالكتاب إلى سليمان، ووافاه. فأقام سليمان بطهيثا إلى أن اتصل به خبر إقبال الموفق.
وفيها وقع أحمد بن طولون بسيما الطويل بأنطاكية، فحصره بها، وذلك في المحرم منها، فلم يزل ابن طولون مقيماً عليها حتى افتتحها، وقتل سيما.
وفيها وثب القاسم بن مماه بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فقتله، ثم وثب جماعة من أصحاب دلف على القاسم، فقتلوه ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
وفيها لحق محمد المولد يعقوب بن الليث، فصار إليه، وذلك في المحرم منها، فأمر السلطان بقبض أمواله وعقاراته.
وفيها قتلت الأعراب جعلان المعروف بالعيار بدمما، وكان خرج لبذرقة قافلة، فقتلوه؛ وذلك في جمادى الأولى؛ فوجه السلطان في طلب الذين قتلوه جماعة من الموالي، فهرب الأعراب، وبلغ الذين شخصوا في طلبهم عين التمر، ثم رجعوا إلى بغداد، وقد مات منهم في البرد جماعة؛ وذلك أن البرد اشتد في تلك الأيام ودام أياماً، وسقط الثلج ببغداد.

وفيها أمر أبو أحمد بحبس سليمان بن وهب وابنه عبيد الله، فحبسا وعدة من أسبابهم في دار أبي أحمد، وانتهب دور عدة من أسبابه، ووكل بحفظ داري سليمان وابنه عبيد الله، وأمر بقبض ضياعهما وأموالها وأموال أسبابهما وضياعهم خلا أحمد بن سليمان. ثم صولح سليمان وابنه عبيد الله على تسعمائة ألف دينار، وصيرا في موضع يصل إليها من أحبا.
وفيها عسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجيق وبنغجور بن أرخوز والفضل بن موسى بن بغا بباب الشماسية، ثم عبروا جسر بغداد، فصاروا إلى السفينتين، وتبعهم أحمد بن الموفق، فلم يرجعوا، ونزلوا صرصر.
وفيها استكتب أبو أحمد صاعد بن مخلد؛ وذلك لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وخلع عليه، فمضى صاعد إلى القواد بصرصر، ثم بعث أبو أحمد ابنه أحمد إليهم، فناظرهم فانصرفوا معه فخلع عليهم.
وفيها خرج - فيما ذكر - خمسة من بطارقة الروم في ثلاثين ألفاً من الروم إلى أذنة، فصاروا إلى المصلى.
وأسروا أرخوز - وكان والي الثغور - ثم عزل، فرابط هناك فأسر، وأسر معه نحوٌ من أربعمائة رجل، وقتلوا ممن نفر إليهم نحواً من ألف وأربعمائة رجل، وانصرفوا اليوم الرابع، وذلك في جمادى الأولى منها.
وفي رجب منها عسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجي وبنغجور بن أرخوز بنهر ديالي.
وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستني على نيسابور، وصار الحسين بن طاهر عامل محمد بن طاهر إلى مرو، فأقام بها وأخو شركب الجمال بين الحسين والخجستاني أحمد بن عبد الله.
وفيها أخربت طوس.
وفيها استوزر إسماعيل بن بلبل.
وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث؛ وكتب عمرو إلى السلطان بأنه سامع له ومطيع؛ فوجه إليه أحمد بن أبي الأصبغ في ذي القعدة.
وفيها قتلت جماعة من أعراب بني أسد علي بن مسرور البلخي بطريق مكة قبل مصيره إلى المغيثة، وكان أحمد ولي محمد بن مسرور البلخي طريق مكة، فولاه أخاه علي بن مسرور.
وفيها بعث ملك الروم بعبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فأسر، إلى أحمد بن طولون مع عدة من أسراء المسلمين وعدة مصاحف هدية منه له.
وفيها صارت جماعة من الزنج في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا أربع سفن فيها طعام، ثم انصرفوا.
وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة، مخالفاً لأبيه أحمد، وكان أبوه أحمد استخلفه - فيما ذكر - على عمله بمصر لما توجه إلى الشأم؛ فلما انصرف أحمد عن الشأم راجعاً إلى مصر حمل العباس ما في بيت مال مصر من الأموال، وما كان لأبيه هناك من الأثاث وغير ذلك. ثم مضى إلى برقة، فوجه إليه أحمد جيشاً، فظفروا به ورده إلى أبيه أحمد، فحبسه عنده، وقتل لسبب ما كان منه جماعةٌ كانوا شايعوا ابنه على ذلك.
وفيها ذخل الزنج النعمانية، فأحرقوا سوقها، وأكثر منازل أهلها، وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد.
وفيها ولي أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، وأشهد له بذلك، ووجه بكتابه إليه بتوليته ذلك مع أحمد ابن أبي الأصبغ، ووجه إليه مع ذلك العهد والعقد والخلع.
وفي ذي الحجة منها صار مسرور البلخي إلى النيل، فتنحى عنها عبد الله بن ليثويه في أصحاب أخيه، وقد أظهر الخلاف على السلطان، فصار ومن معه إلى أحمد أباذ، فتبعهم مسرور البلخي يريد محاربتهم؛ فبدر عبد الله بن ليثويه ومن كان معه، فترجلوا المسرور، وانقادوا له بالسمع والطاعة، وعبد الله بن ليثويه نزع سيفه ومنطقته فعلقهما في عنقه، يعتذر إليه، ويحلف أنه حمل على ما فعل، فقبل منه، وأمر فخلع عليه وعلى عدة من القواد معه.
ذكر خبر شخوص تكين البخاري إلى الأهوازوفيها شخص تكين البخاري إلى الأهواز مدمة لمسرور البلخي.
ذكر الخبر عما كان من أمر تكين بالأهواز حين صار إليها:

ذكر محمد بن الحسن أن تكين البخاري ولاه مسرور البلخلي كور الأهواز حين ولاه أبو أحمد عليها، فتوجه تكين إليها، فوافاها، وقد صار إليها علي بن أبان المهلبي، فقصد تستر، فأحاط بها في جمع كثير من أصحابه الزنج وغيرهم؛ فراع ذلك أهلها، وكادوا أن يسلموها، فوافاها تكين في تلك الحال، فلم يضع عنه ثياب السفر؛ حتى واقع علي بن أبان وأصحابه؛ فكانت الدبرة على الزنج، فقتلوا وهزموا وتفرقوا، وانصرف علي فيمن بقي معه مفلولاً مدحوراً، وهذه وقعة باب كودك المشهورة.
ورجع تكين البخاري، فنزل تستر، وانضم إليه جمعٌ كثير من الصعاليك وغيرهم، ورحل إليه علي بن أبان في جمع كثير من أصحابه، فنزل شرقي المسرقان، وجعل أخاه في الجانب الغربي في جماعة من الخيل، وجعل رجالة الزنج معه، وقدم جماعة من واد الزنج؛ منهم أنكلويه وحسين المعروف بالحمامي وجماعة وغيرهما، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس.
وانتهى الخبر بما دبره علي بن أبان إلى تكين، وكان الذي نقل إليه الخبر غلاماً يقال له وصيف الرومي، وهرب إليه عسكر علي بن أبان، فأخبره بمقام هؤلاء بقنطرة فارس، وأعلمه تشاغلهم بشرب النبيذ وتفرق أصحابهم في جمع الطعام، فسار إليهم تكين في الليل في جمع من أصحابه، فأوقع بهم؛ فقتل من قواد الزنج أنكلويه والحسين المعروف بالحمامي ومفرج المكنى أبا صالح وأندرون، وانهزم الباقون، فلحقوا بالخليل بن أبان، فأعلموه ما نزل بهم؛ وسار تكين على شرقي المسرقان حتى لقي علي بن أبان في جمعه، فلم يقف له علي وانهزم عنه، وأسر غلام لعلي من الخيالة يعرف بجعفرويه، ورجع علي والخليل في جمعهما إلى الأهواز، ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي بن أبان إلى تكين يسأله الكف عن قتل جعفرويه. فحبسه، وجرت بين تكين وعلي بن أبان مراسلات وملاطفات، وانتهى الخبر بها إلى مسرور، فأنكرها. وانتهى إلى مسرور أن تكين قد ساءت طاعته، وركن إلى علي بن أبان ومايله.
قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن دينار، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي المأموني الباذغيسي - وكان من أصحاب تكين البخاري - قال: لما انتهى إلى مسرور الخبر بالتياث تكين عليه توقف حتى عرف صحة أمره، ثم سار يريد كور الأهواز وهو مظهرٌ الرضا عن تكين والإحماد لأمره، فجعل طريقه على شابرزان، ثم سار منها حتى وافى السوس، وتكين قد عرف ما نتهى إلى مسرور من خبره، فهو مستوحش من ذلك ومن جماعة كانت تبعته عند مسرور من قواده، فجرت بين مسرور وتكين رسائل حتى أمن تكين، فصار مسرور إلى وادي تستر، وبعث إلى تكين، فعبر إليه مسلماً، فأمر به فأخذ سيفه، ووكل به؛ فلما رأى ذلك جيش تكين انفضوا من ساعتهم، ففرقة منهم صارت إلى ناحية صاحب الزنج، وفرقة صارت إلى محمد بن عبيد الله الكردي. وانتهى الخبر إلى مسرور، فبسط الأمان لمن بقي من جيش تكين، فلحقوا به.
قال محمد بن عبد الله بن الحسن المأموني: فكنت أحد الصائرين إلى عسكر مسرور، ودفع مسرور تكين إلى إبراهيم بن جعلان، فأقام في يده محبوساً، حتى وافاه أجله فتوفى.
وكان بعض أمر مسرور وتكين الذي ذكرناه في سنة خمس وستين، وبعضه في سنة ست وستين.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها كانت موافاة المعروف بأبي المغيرة بن عيسى بن محمد المخزومي متغلباً بزنج معه على مكة.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من تولية عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته علىالشرطة ببغداد وسامرا في صفر، وخلع أبي أحمد عليه، ثم مصير عبيد الله بن عبد الله إلى منزله، فخلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث، وبعث إليه عمرو بعمود من ذهب.
وفي صفر منها غلب أساتكين على الري، وأخرج عنها طلمجور العامل كان عليها، ثم مضى هو وابنه أذوكوتكين إلى قزوين، وعليها أبرون أخو كيغلغ، فصالحاه ودخلا قزوين، وأخذا محمد بن الفضل بن سنان العجلي، فأخذا أمواله وضياعه، وقتله أساتكين. ثم رجع إلى الري، فقاتله أهلها فغلبهم ودخلها.
وفيها وردت سرية من سرايا الروم تل يسمى من ديار بيعة، فقتلت من المسلمين، وأسرت نحواً من مائتين وخمسين إنساناً، فنفر أهل نصيبين وأهل الموصل، فرجعت الروم.

وفيها مات أبو الساج بجند يسابور في شهر ربيع الآخر، منصرفاً عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد، ومات قبله في المحرم منها سليمان بن عبد الله بن طاهر.
وولي عمرو بن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان.
وولي فيها محمد بن أبي الساج الحرمين وطريق مكة.
وفيها ولي اغرتمش ما كان تكين البخاري يليه من عمال الأهواز، فسار أغرتمش إليها، ودخلها في شهر رمضان، فذكر محمد بن الحسن أن مسروراً وجه أغرتمش وأبا مطر بن جامع لقتال علي بن أبان، فساروا حتى انتهبوا إلى تستر، فأقاموا بها، وواستخرجوا من كان في حبس تكين، وكان فيه جعفرويه في جماعة من أصحاب قائد الزنج، فقتلوا جميعاً. وكان مطر بن جامع المتولي قتلهم، ثم ساروا حتى وافوا عسكر مكرم، ورحل إليهم علي بن أبان، وقدم أمامه إليهم الخليل أخاه، فصار إليهم الخليل، فواقفهم وتلاه علي، فلما كثر عليهم جميع الزنج، قطعوا الجسر وتحاجزوا، وجنهم الليل، فانصرف علي بن أبان في جميع أصحابه، فصار إلى الأهواز، وأقام الخليل فيمن معه بالمسرقان، وأتاه الخبر بأن أغرتمش وأبا ومطر بن جامع قد أقبلوا نحوه، ونزلوا الجانب الشرقي من قنطرة أربك ليعبروا إليه، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فرحل علي إليهم حتى وافاهم بالقنطرة، ووجه إلى الخليل يأمره بالمصير إليه، فوافاه وارتاع من كان بالأهواز من أصحاب علي، فقلعوا عسكره، ومضوا إلى نهر السدرة، ونشبت الحرب بين علي بن أبان وقواد السلطان هناك؛ وكان ذلك يومهم، ثم تحاجزوا.
وانصرف علي بن أبان إلى الأهواز، فلم يجد بها أحداً، ووجد أصحابه أجمعين قد لحقوا بنهر السدرة، فوجه إليهم من يدرهم، فعسر ذلك عليه فتبعهم، فأقام بنهر السدرة، ورجع قواد السلطان حتى نزلوا عسكر مكرم؛ وأخذ علي بن أبان في الاستعداد لقتالهم. وأرسل إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، فأتاه فيمن معه من أصحابه، وبلغ أغرتمش وأصحابه ما أجمع عليه من المسير إليهم علي، فساروا نحوه، وقد جعل علي بن أبان أخاه على مقدمته، وضم إليه بهبوذ وأحمد بن الزرنجي، فالتقى الفريقان بالدولاب. فأمر علي الخليل بن أبان أن يجعل بهبوذ كميناً، فجعله. وسار الخليل حتى لقي القوم، ونشب القتال بينهم، فكان أول نهار ذلك اليوم لصحاب السلطان، ثم جالوا جولة وخرج عليهم الكمين، وأكب الزنج إكبابةً، فهزموهم، وأسر مطر بن جامع، صرع عن فرس كان تحته، فأخذه بهبوذ، فأتى به علياً، وقتل سيما المعروف بصغراج في جماعة من القواد.
ولما وافى بهبوذ علياً بمطر، سأله مطر استبقاءه، فأبى ذلك علي، وقال: لو كنت أبقيت على جعفرويه لأبقينا عليك. وأمر به فأدنى إليه، فضرب عنه بيده.
ودخل علي بن أبان الأهواز، وانصرف أغرتمش وأبا فيمن أفلت معهما، حتى وافيا تستر، ووجه علي بن أبان بالرءوس إلى الخبيث، فأمر بنصبها على سور مدينته.
قال: وكان علي بن أبان بعد ذلك يأتي أغرتمش وأصحابه، فتكون الحرب بينهم سجالاً عليه وله، وصرف الخبيث أكثر جوده إلى ناحية علي بن أبان، فكثروا على أغرتمش، فركن إلى الموادعة، وأحب علي بن أبان مثل ذلك، فتهادنا. وجعل علي بن أبان يغير على النواحي، فمن غاراته مصيره إلى القرية المعروفة ببيروذ، فظهر عليها، ونال منها غنائم كثيرة، فكتب بما كان منه من ذلك إلى الخبيث، ووجه بالغنائم التي أصابها وأقام.
وفيها فارق إسحاق بن كنداجيق عسكر أحمد بن موسى بن بغا؛ وذلك أن أحمد بن موسى بن بغا لما شخص إلى الجزيرة ولي موسى بن أتامش ديار ربيعة، فأنكر ذلك إسحاق، وفارق عسكره لسبب ذلك، وصار إلى بلد، فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأخذ أموالهم فقوي بذلك، ثم لقي ابن مساور الشاري فقتله.
وفي شوال منها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي.

وفيها أسر لؤلؤ غلام أحمد بن طولون موسى بن أتامش؛ وذلك أن لؤلؤاً كان مقيماً برابية بني تميم، وكان موسى بن أتامش مقيماً برأس العين، فخرج ليلاً سكران ليكسبهم، فكمنوا له، فأخذوه أسيراً، وبعثوا به إلى الرقة. ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى وقواده ومن معهم من الأعراب في شوال، فهزم لؤلؤ، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، ورجع ابن صفوان العقيلي. والأعراب إلى ثقل عسكر أحمد بن موسى لينتهبوه، وأكب عليهم أصحاب لؤلؤ، فبلغت هزيمة المنفلت منهم قرقيسيا، ثم صاروا إلى بغداد وسامرا، فوافوها في ذي القعدة، وهرب ابن صفوان إلى البادية.
وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وبكتمر وقعة، وذلك في سوال منها، فهزم أحمد بن عبد العزيز بكتمر فصار إلى بغداد.
وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان على غرة من الحسن، فهرب منه الحسن، فلحق بآمل، وغلب الخجستاني على جرجان وبعض أطراف طبرستان؛ وذلك في جمادى الآخرة منها ورجب.
وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسن الأصغر العقيقي أهل طبرستان إلى البيعة له؛ وذلك أن الحسن بن زيد عند شخوصه إلى جرجان كان استخلفه بسارية، فلما كان من أمر الخجستاني وأمر الحسن قد أسر؛ ودعا من قبله إلى بيعته، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد فحاربه ثم احتال له الحسن حتى ظفر به فقتله.
وفيها نهب الخجستاني أموال تجار أهل جرجان؛ وأضرم النار في البلد.
وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمرو بن الليث، علافيها الخجستاني على عمرو وهزمه، ودخل نيسابور، فأخرج عامل عمرو بها عنها، وقتل جماعة مما كان فيه يميل إلى عمرو بها.
ذكر الخبر عن الفتنة بين الجعفرية والعلويةوفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكانت سبب ذلك - فيما ذكر - أن القيم بأمر المدينة ووادي القرى ونواحيها كان في هذه السنة إسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري، فولى وادي القرى عاملاً من بله، فوثب أهل وادي القرى على عامل إسحاق بن محمد، فقتلوه، وقتلوا أخوين لإسحاق، فخرج إسحاق إلى وادي القرى، فمرض به ومات. فقام بأمر المدينة أخوه موسى بن محمد، فخرج عليه الحسن بن موسى بن جعفر، فأرضاه بثمانمائة دينار، ثم خرج عليه أبو القاسم أحمد بن إسماعيل ابن الحسن بن زيد، ابن عم الحسن بن زيد صاحب طبرستان؛ فقتل موسى، وغلب على المدينة. وقدمها أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد، فضبط المدينة؛ وقد كان غلا بها السعر، فوجه إلى الجار، وضمن للتجار أموالهم، ورفع الجباية؛ فرخص السعر، وسكنت المدينة، فولى السلطان الحسنى المدينة إلى أن قدمها ابن أبي الساج.
وفيها ثبت الأعراب على كسوة الكعبة، فانتهبوها، وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحاج فيها شدة شديدة.
وفيها خرجت الروم إلى ديار بيعة، فاستنفر الناس، فنفروا في برد وقت لا يمكن الناس فيه دخول الدرب.
وفيها غزا سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلثمائة رجل من أهل طرسوس، فخرج عليهم العدو في بلاد هرقلة، وهم نحو من أربعة آلاف، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل المسلمون من العدو خلقاً كثيراً، وأصيب من المسلمين جماعة كثيرة.
وفيها كانت بين إسحاق بن كنداجيق وإسحاق بن أيوب وقعة، هزم فيها ابن كنداجيق إسحاق بن أيوب، فألحقه بنصيبين، وأخذ ما في عسكره، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وتبعه ابن كنداجيق، وصار إلى نصيبين، فدخلها، وهرب إسحاق بن أيوب منه، واستنجد عليه عيسى بن الشيخ وهو بآمد وأبا المغراء بن موسى بن زرارة؛ وهو بأزرن، فتظاهروا على ابن كنداجيق، وبعث السلطان إلى ابن كنداجيق بخلع ولواء على الموصل وديار ربيعة وأرمينية مع يوسف بن يعقوب، فخلع عليه، فبعثوا يطلبون الصلح، ويبذلون له مالاً على أن يقرهم على أعمالهم مائتي ألف دينار.
وفيها وافى محمد بن أبي الساج مكة، فحربه ابن المخزومي، فهزمه ابن أبي الساج، واستباح ماله؛ وذلك يوم التروية من هذه السنة.
وفيها شخص كيغلغ إلى الجبل، ورجع بكتمر إلى الدينور.
ذكر خبر دخول أصحاب قائد الزنج رامهرمزوفيها دخل أصحاب قائد الزنج رامهرمز.
ذكر الخبر عن سبب مصيرهم إليها

قد ذكرنا قبل ما كان من أمر محمد بن عبيد الله الكردي وعلي بن أبان صاحب الخبيث، حين تلاقيا على صلح منهما، فذكر أن علياً كان قد احتجن على محمد ضغناً في نفسه؛ لما كان في سفره ذلك؛ وكان يرصده بشر، وقد عرف ذلك منه محمد بن عبيد الله، وكان يروم النجاة منه؛ فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، وسأله مسألة الخبيث ضم ناحيته إليه لتزول يد علي منه، وهاداه، فزاد ذلك علي بن أبان عليه غيظاً وحنقاً؛ فكتب إلى الخبيث يعرفه به، ويصحح عنده أنه مصر على غدره، ويستأذنه في الإيقاع به، وأن يجعل الذريعة إلى ذلك مسألته حمل خراج ناحيته إليه، فأذن له الخبيث في ذلك، فكتب علي إلى محمد بن عبيد الله في حمل المال، فلواه به، ودافعه عنه، فاستعد له علي، وسار إليه، فأوقع برامهرمز، ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيمٌ بها، فلم يكن لمحمد منه امتناع، فهرب ودخل علي رامهرمز، فاستباحها، ولحق محمد بن عبيد الله بأقصى معاقله من أربق والبيلم، وانصرف علي غانماً، وراع ما كان من ذلك من علي محمداً، فكتب يطلب المسألة، فأنهى ذلك علي إلى الخبيث، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك، وإرهاق محمد بحمل المال، فحمل محمد بن عبيد الله مائتي ألف درهم، فأنفذها علي إلى الخبيث، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وعن أعماله.
ذكر الخبر عن وقعة أكراد داربان

مع صاحب الزنج
وفيها كانت وقعةٌ لأكراد الداربان مع زنج الخبيث، هزموا فيها وفلوا.
ذكر الخبر عن سبب ذلك: ذكر عن محمد بن عبيد الله بن أزارمرد أنه كتب إلى علي بن أبان بعد حمله إليه المال الذي ذكرنا مبلغه قبل، وكف علي عنه وعن أعماله، يسأله المعونة على جماعة من الأكراد كانوا بموضع يقال له الداربان، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم. فكتب علي إلى الخبيث يسأله الإذن له في النهوض لذلك، فكتب إليه أن وجه الخليل بن أبان وبهبوذ بن عبد الوهاب، وأقم أنت، ولا تنفذ جيشك حتى تتوثق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون في يدك منه، تأمن بها من غدره فقد وترته، وهو غير مأمون على الطلب بثأره.
فكاتب عليٌ محمد بن عبيد الله بما أمره به الخبيث، وسأله الرهائن، فأعطاه محمد بن عبد الله الأيمان والعهود، ودافعه على الرهائن. فدعا علياً الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد بن عبيد الله إلى أن أنفذ الجيش، فساروا ومعهم رجال محمد بن عبيد الله؛ حتى وافوا الموضع الذي قصدوا له، فخرج إليهم أهله، ونشبت الحرب، فظهر الزنج في ابتداء الأمر على الاكراد، ثم صدقهم الأكراد، وخذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله، فتصدعوا وانهزموا مفلولين مقهورين؛ وقد كان محمد بن عبيد الله أعد لهم قوماً أمرهم بمعارضتهم إذا انهزموا، فعارضوهم وأوقعوا بهم، ونالوا منهم أسلاباً، وأرجلوا طائفة طائفة منهم عن دوابهم، فأخذوها، فرجعوا بأسوإ حال، فكتب المهلبي إلى الخبيث بما نال أصحابه. فكتب إليه يعنفه، ويقول: قد كنت تقدمت إليك ألا تركن إلى محمد بن عبيد الله، وأن تجعل الوثيقة بينك وبينه الرهائن، فتركت أمري، واتبعت هوالك، فذاك الذي أرد وأردي جيشك.
وكتب الخبيث إلى محمد بن عبيد الله، أنه لم يخف علي تدبيرك على جيش علي بن أبان، ولن تعدم الجزاء على ما كان منك.
فارتاع محمد بن عبيد الله مما ورد به عليه كتاب الخبيث، وكتب إليه بالتضرع والخضوع، ووجه بما كان أصحابه أصابوا من خيل أصحاب علي حيث عورضوا وهم منهزمون، فقال: إني صرت بجميع من معي إلى هؤلاء القوم الذين أوعوا بالخليل وبهبوذ، فتودعهم وأخفتهم، حتى ارتجعت هذه الخيل منهم، ووجهت بها. فأظهر الخبيث غضباً، وكتب إليه يتهدده بجيش كثيف يرميه به، فأعاد محمد الكتاب بالتضرع والاستكانة، فأرسل إلى بهبوذ، فضمن له مالاص، وضمن لمحمد بن يحيى الكرماني مثل ذلك، ومحمد بن يحيى يومئذ الغالب على علي بن أبان، والمصرف له برأيه، فصار بهبوذ إلى علي بن أبان، وظاهره محمد بن يحيى الكرماني على أمره حتى أصلحا رأى علي في محمد بن عبيد الله وسلاماً في قلبه من الغيظ والحق عليه، ثم مضيا إلى الخبيث. ووافق ذلك ورود كتاب محمد بن عبيد الله عليه، فصوبا وصعدا حتى أظهر لهما الخبيث قبول قولهما، والرجوع لمحمد بن عبيد الله إلى ما أحب، وقال: لست قابلاً منه بعد هذا إلا أن يخطب لي على منابر أعماله.

فانصرف بهبوذ والكرماني بما فارقهما عليه الخبيث، وكتبا به إلى محمد بن عبيد الله، فأصدر جوابه إلى كل ما أراده الخبيث، وجعل يراوغ عن الدعاء له علىالمنابر. وأقام علي بعد هذا مدة، ثم استعد لمتوث، وسار إليها؛ فرامها فلم يطقها لحصاتها وكثرة من يدافع عنها من أهلها، فرجع خائباً، فاتخذ سلاليم وآلات ليرقى بها السور، وجمع أصحابه واستعد. وقد كان مسرور البلخي عرف قصد علي متوث، وهو يومئذ مقيمٌ بكور الأهواز. فلما عاود المسير إليها، وسار إليه مسرور، فوافاه قبيل غروب الشمس، وهو مقيم عليها؛ فلما عاين أصحاب علي أوائل خيل مسرور، انهزموا أقبح هزيمة. وتركوا جميع آلاتهم التي كانوا حملوها، وقتل منهم جمع كثير، وانصرف علي بن أبان مدحوراً، ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى تتابعت الأخبار بإقبال أبي أحمد، ثم لم يكن لعلي بعد رجوعه من متوث وقعة حتى فتحت سوق الخميس وطهيثا على أبي أحمد، فانصرف بكتاب ورد عليه من الخبيث يحفزه فيه حفزاً شديداً بالمصير إلى عسكره.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان غيها من ذلك حبس السلطان محمد بن طاهر بن عبد الله وعدة من أهل بيته بعقب هزيمة أحمد بن عبد الله الخجستاني عمرو بن الليث وتهمة عمرو بن الليث محمد بن طاهر بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، ودعا الحسين والخجستاني لمحمد بن طاهر على نابر خراسان.
ذكر خبر
غلبة أبي العباس بن الموفق على سليمان بن جامع
وفيها غلب أبو العباس بن الموفق على عامة ما كان سليمان بن جامع صاحب قائد الزنج غلب عليه من قرى كور دجلة كعبدسي ونحوها.
ذكر الخبر عن سبب غلبة أبي العباس على ذلك وما كان من أمره وأمر الزنج في تلك الناحية ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن الزنج لما دخلوا واسطاً وكان منهم بها ما قد ذكرناه قبل، واتصل الخبر بذلك إلى أبي أحمد بن المتوكل ندب ابنه أبا العباس للشخوص إلى ناحية واسط لحرب الزنج، فخف لذلك أبو العباس. فلما حضر خروج أبي العباس ركب أبو أحمد إلى بستان موسى الهادي في شهر ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين، فعرض أصحاب أبي العباس، ووقف على عدتهم؛ فكان جميع الفرسان والرجالة عشرة آلاف رجل في أحسن زي وأجمل هيئة وأكمل عدة، ومعهم الشذا والسميريات والمعابر للرجالة؛ كل ذلك قد أحكمت صنعته. فنهض أبو العباس من بستان الهادي، وركب أبو أحمد مشيعاً له حتى نزل الفرك، ثم انصرف. وأقام أبو العباس بالفرك أياماً، حتى تكاملت عدده، وتلاحق أصحابه، ثم رحل إلى المدائن، وأقام بها أيضاً، ثم رحل إلى دير العاقول.
قال محمد بن حماد: فحدثني أخي إسحاق بن حماد وإبراهيم بن محمد بن إسماعيل الهاشمي المعروف ببريه، ومحمد بن شعيب الاشتيام، في جماعة كثيرة ممن صحب أبا العباس في سفره - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا: لما نزل أبو العباس دير العاقول، ورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات، وقد كان أمضاه على مقدمته، يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى في خيل ورجالة وشذوات وسميريات، والجبائي يقدمه، حتى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان برجالة وفرسان وسميريات فرحل أبو العباس حتى وافى جرجرايا، ثم فم الصلح، ثم ركب الظهر، فسار حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليعرف الخبر، فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم وجمعهم وجيشهم، وأن أولهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا، أسفل واسط. فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق، واعترض في مسيره، ولقى أصحابه أوائل القوم؛ فتطاردوا لهم حتى طمعوا واغتروا، فأمنعوا في إتباعهم، وجعلوا يقولون لهم: اطلبوا أميراً للحرب؛ فإن أميركم قد شغل نفسه بالصيد. فلما قربوا من أبي العباس بالصلح، خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وأمر فصيح بنصير: إلى أين تتأخر عن هؤلاء الأكلب! ارجع إليهم؛ فرجع نصير إليهم.

وركب أبو العباس سميرية، ومعه محمد بن شعيب الاشتيام، وحف بهم أصحابه من جميع جهاتهم، فانهزموا، ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم؛ يقتلونهم ويطردونهم؛ حتى وافوا قرية عبد الله؛ وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعدة سميريات، واستأمن منهم قوم، وأسر منهم أسرى، وغرق ما أدرك من سفنهم؛ فكان ذلك أول الفتح على العباس بن أبي أحمد.
ولما انقضت الحرب في هذا اليوم، أشار على أبي العباس قواده وأولياؤه، أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه من الصلح؛ إشفاقاً عليه من مقاربة القوم، فأبى إلا نزول واسط.

ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه، وضرب الله وجوههم، انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان؛ حتى وافى سوق الخميس، ولحق سليمان بن جامع بنهر الأمير؛ وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم، فقالوا: هذا فتىً حدثٌ؛ لم تطل ممارسته الحروب وتدربه بها، فالرأي لنا أن نرميه بحدنا كله، ونجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته؛ فلعل ذلك أن يروعه، فيكون سبباً لانصرافه عنا. ففعلوا ذلك، وحشدوا واجتهدوا، فأوقع الله بهم بأسه ونقمته. وركب أبو العباس من غد يوم الوقعة، حتى دخل واسطاً في أحسن زي، وكان يوم جمعة، فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة، واستأمن إليه خلق كثير، ثم انحدر إلى العمر - وهو على فرسخ من واسط - فقدم فيه عسكره، وقال: اجعل معسكري أسفل واسط، ليأمن من فوقه الزنج. وكان نصير المعروف بأبي حمزة والشاه بن مكيال أشارا عليه أن يجعل مقامه فوق واسط، فامتنع من ذلك، وقال لهما: لست نازلاً إلا العمر؛ فانزلا أنتم في فوهة بردوداً. وأعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه واستماع شئ من آرائهم؛ فنزل العمر وأخذ في بناء الشذوات، وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم؛ وقد رتب خاصة غلمانه في سميريات فجعل في كل سميرية اثنين منهم، ثم إن سليمان استعد وحشد وجمع وفرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه: فرقة أتت من نهر أبا، وفرقة من برتماتا، وفرقة من بردودا، فليهم أبو العباس؛ فلم يلبثوا أن انهزموا، فخلفت طائفة منهم بسوق الخميس وطائفة بمازروان، وأخذ قوم منهم في برتماتا وآخرون أخذوا الماديان، وقوم منهم اعتصموا للقوم الذين سلكوا الماديان؛ فلم يرجع عنهم حتى وافى نهر برمساور، ثم انصرف، فجعل يف على القرى والمسالك، ومعه الأدلاء؛ حتى وافى عسكره، فأم به مريحاً نفسه وأصحابه. ثم أتاه مخبرٌ فأخبره أن الزج قد جمعوا واستعدوا لكبس عسكره، وأهم على إتيان عسكره من ثلاثة أوجه، وأهم قالوا: إنه حدث غر يغر بنفسه، وأجمع رأيهم على تكمين الكماء والمصير إليه من الجهات الثلاثة التي ذكرنا، فحذر ذلك، واستعد له، وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في برتمرتا ونحواً من هذه العدة في قس هثا. ودموا عشرين سميرية إلى العسكر ليغير بها أهله، ويجيزوا المواضع التي فيها كماؤهم؛ فمع أبو العباس الناس من اتباعهم؛ فلما علموا أن كيدهم لم ينفذ، خرج الجبائي وسليمان في الشذوات والسميريات، وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه، فأمر نصيراً المعروف بأبي حمزة أن يبرز للقوم في شذواته، وزل أبو العباس عن فرس كان ركبه، ودعا بشذاة من شذواته وقد كان سماها الغزال، وأمر اشتيامه محمد بن شعيب باختيار الجذافي لهذه الشذاة، وركبها، واختار من خاصة أصحابه وغلمانه جماعة دفع إليهم الرماح، وأمر أصحاب الخيل بالمسير بإزائه على شاطئ النهر، وقال لهم: لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار، وأمر بتعبير بعض الدواب التي كانت ببردودا، ونشبت الحرب بين الفريين؛ فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة؛ فكانت الهزيمة على الزج، وحاز أصحاب أبي العباس أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين، وأخذت دوابهما بحلالهما وآلتها، ومضى الجيش أجمع لا يثنى أحد منهم حتى وافوا طهيثاً، وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة، ورجع أبو العباس، وأقام بمعسكره في العمر، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذا والسميريات وترتيب الرجال فيها، وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يوماً، لا يظهر منهم أحد. وكان الجبائي يجئ في الطلائع في كل ثلاثة أيام وينصرف، وحفر آباراً فوق نهر سنداد، وصير فيها سفافيد حديد، وغشاها باليواري، وأخفى مواضعها، وجعلها على سن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها؛ وكان يوافى طف العسكر متعرضاً لأهله، فتخرج الخيل طالبة له، فجاء في بعض أيامه وطلبته الخيل كما كانت تطلبه، فطر فرس رجل من واد الفراعنة في بعض تلك الآبار، فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك على ما دبر الجبائي، فحذر ذلك، وتنكبوا سلوك ذلك الطريق، وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم للحرب، وعسكر بنهر الأمير في جمع كثير؛ فلما لم يجد ذلك عليهم أمسكوا عن الحرب قدر شهر.

وكتب سليمان إلى صاحب الزنج يسأله إمداده بسميريات؛ لكل واحد منهن أربعون مجدافاً، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوماً أربعون سميرية، في كل سميرية مقاتلان، ومع ملاحيها السيوف والرماح والتراس، وجعل الجبائي موقفه حيال عسكر أبي العباس، وعادوا التعرض للحرب في كل يوم؛ فإذا خرج إليهم أصحاب أبي العباس انهزموا عنهم، ولم يثبتوا لهم؛ وخلال ذلك ما تأتي طلائعهم، فتقطع القناطر، ترمى ما ظهر لها من الخيل بالنشاب، وتضرم ما وجدت في النوبة من المراكب التي مع نصير بالنار؛ فكانواكذلك قدر شهرين.
ثم رأى أبو العباس أن يكمن لهم كميناً في رية الرمل، ففعل ذلك، وقدم لهم السميريات أمام الجيش ليطمعوا فيها، وأمر أبو العباس فأعدت له سميرية ولزيرك سميرية وحمل جماعة من غلمانه الذين اختارهم، وعرفهم بالنجدة في السميريات، فحمل بدراً ومؤنساً في سميرية ورشيقاً الحجاجي ويمناً في سميرية وخفيفاً ويسراً في سميرية، ونذيراً ووصيفاَ في سميرية؛ وأعد خمس عشرة سميرية، وجعل في كل سميرية مقاتلين، وجعلها أمام الجيش.
قال محمد بن شعيب الاشتيام: وكنت فيمن تقدم يومئذ، فأخذ الزنج من السميريات المتقدمة عدة؛ وأسروا أسرى، فانطلقت مسرعاً، فناديت بصوت عال: قد أخذ القوم سميرياتنا. فسمع أبو العباس صوتي وهو يتغدى، فنهض إلى سميرته التي كانت أعدت له؛ وتقدم العسكر، ولم ينتظر لحاق أصحابه، فتبعه منهم من خف لذلك.
قال: فأدركنا الزنج رأونا ذف الله الرعب في قلوبهم، فألقوا أنفسهم في الماء، وانهزموا فتخلصنا أصحابنا، وحوينا يومئذ إحدى وثلاثين سميرية من سميريات الزنج، وأفلت الجبائي في ثلاث سميريات، ورمى أبو العباس يومئذ عن قوس كانت في يده حتى دميت إبهامه؛ فانصرف؛ شدة اللغوب. ورجع أبو العباس وأكثر أصحابه بمواضعهم من فوهة بردودا لم يرم أحد منهم؛ فلما وافى عسكره أمر لمن كان في صحبه بالأطواق والخلع والأسورة، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج، وأمر أبا حمزة أن يجعل مقامه بما معه من الشذا في دجلة بحذاء خسرسابور.
ثم إن العباس رأى يتوغل في مازروان حتى يصير إلى القرية المعروفة بالحجاجية، وينتهي إلى نهر الأمير، ويف على تلك المواضع، ويتعرف الطر التي تجتاز فيها سميريات الزنج، وأمر نصيراً فقدمه بما معه من الشذا والسميريات، فسار نصير لذلك؛ فترك طريق مازروان، وقصد ناحية ناحية نهر الأمير، فدعا أبو العباس سميرته، فركبها ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يرى أن نصيراً أمامه، وقال لمحمد: قدمني في النهر لأعرف خبر نصير. وأمر الشذا والسميريات بالمصير خلفه.
قال محمد بن شعيب: فمضينا حتى قاربنا الحجاجية، فعرضت لنا في النهر صلغة فيها عشرة زنوج؛ فأسرعنا إليها، فألقى الزنوج أنفسهم في الماء، وصارت الصلغة في أيدينا، فإذا هي مملوءة شعيراً، وأدركنا فيها زنجياً فأخذناه، فسألناه عن خبر نصير وشذواته فقال: ما دخل هذا النهر شئ من الشذا والسميريات، فأصابتنا حيرة، وذهب الزنج الذين أفلتوا من أيدينا فأعلموا أصحابهم بمكاننا، وعرض للملاحين الذين كانوا معنا غنم فخرجوا لانتهابها.
قال محمد بن شعيب: وبقيت مع أبي العباس وحدي، فلم نلبث أن وافاناقائد من قواد الزنج، يقال له منتاب، في جماعة من الزنج من أحد جانبي النهر، ووافانا من الجانب الآخر عشرة من الزنج، فما رأينا ذلك خرج أبو العباس، ومعه قوسه وأسهمه، وخرجت برمح كان في يدي، وجعلت أحميه بالرمح وهو يرمي الزنج، فجرح منهم زنجيين، وجعلوا يثوبون ويكثرون، وأدركنا زيرك في الشذا ومعه الغلمان؛ وقد كان أحاط بنا زهاء ألفي زنجي من جانبي مازروان، وكفى الله أمرهم وردهم بذلة وصغار، ورجع أبو العباس إلى عسكره، وقد غنم أصحابه من الغنم والبقر والجواميس شئيئاً كثيراً، وأمر أبو العباس بثلاثة من الملاحين الذين كانوا معه، فتركوه لانتهاب الغنم، فضربت أعنقاقهم، وأمر لمن بقى بالأرزاق لشهر وأمر بالنداء في الملاحين ألا يبرح أحدٌ من السميريات في وقت الحرب؛ فمن فعل ذلك فقد حل دمه

وانهزم الزنج أجمعون حتى لحقوا بطهيثاً وأقام أبو العباس بمعسكره في العمر، وقد بث طلائعه في جميع النواحي، فمكث بذلك حيناً، وجمع سليمان بن جامع عسكره وأصحابه، وتحصن بطهيثاً، وفعل الشعراني مثل ذلك بسوق الخميس؛ وكان بالصينية لهم جيش كثيف أيضاً، يقود أهله رجل منهم يقال له نصر السندي، وجعلوا يخربون كل ما وجدوا إلى خرابه سبيلاً، ويحملون ما قدروا على حمله من الغلات، ويعمرون مواضعهم التي هم مقيمون بها، فوجه أبو العباس جماعة من قواده، منهم الشاه وكمشحور والفضل بن موسى بن بغا، وأخوه محمد على الخيل إلى ناحية الصينية، وركب أبو العباس ومعه نصير وزيرك في الشذا والسميريات، وأمر بخيل فعبر بها من برمساور إلى طريق الظهر.
وسار الجيش حتى صار إلى الهرث، فأمر أبو العباس بتغيير الدواب إلى الهرث، فعبرت، فصارت إلى الجانب الغربي من دجلة، وأمر بأن يسلك بها طريق دير العمال. فلما أبصر الزج الخيل دخلتهم منها رهبة شديدة، فلجئوا إلى الماء والسفن، ولم يلبثوا أن وافتهم الشذا والسميريات، فلم يجدوا ملجأ واستسلموا، فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى بعضهم نفسه في الماء، فأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم؛ وهي مملوءة أرزاً، فصارت في أيديهم، وأخذوا سميرية رئيسهم المعروف بنصر السندي، وانهزم الباقون، فصارت طائفة منهم إلى طهيثا وطائفة إلى سوق الخميس، ورجع أبو العباس غانماً إلى عسكره، وقد فتح الصينية وأجلى الزنج عنها.
قال محمد بن شعيب: وبينا نحن في حرب الزنج بالصينية إذ عرض لأبي العباس كركي طائر، فرماه بسهم، فشكه فسقط بين أيدي الزنج، فأخذوه، فلما رأوا موضع السهم منه، وعلموا أنه سهم أبي العباس زاد ذلك في رعبهم؛ فكان سبباً لانهزامهم يومئذ.
وقد ذكر عمن لا يتهم أن خبر السهم الذي رمى به أبو العباس الكركي في غير هذا اليوم، وانتهى إلى أبي العباس أن بعبد سي جيشاً عظيماً يرأسهم ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيان، فصار أبو العباس إلى عبد سي قاصداً للإيقاع بهما ومن معهما في خيا جريدة، قد انتخبت من غلمانه وحماة أصحابه، فوافى الموضع الذي فيه جمعهم في السحر، فأوقع بهم وقعة غليظة، قتل فيها من أبطالهم، وجلد من رجالهم خلق كثير، وانهزموا. وظفر أبو العباس برئيسهم ثابت بن أبي دلف، فم عليه واسبقاه، وضمه إلى بعض قواده، وأصاب لؤلؤاً سهم فهلك منه، واستنفذ يومئذ من النساء اللواتي كن في أيدي الزنج خلق كثير، فأمر أبو العباس بإطلاقهن ورد إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه.
ثم رجع أبو العباس إلى معسكره، فأمر أصحابه أن يريحوا أنفسهم ليسير بهم إلى سوف الخميس، ودعا نصيراً فأمره بتعبئة أصحابه للمسير إليها، فقال له نصير: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت وائذن لي في المسير إليه حتى أعاينه، فأبى أن يدعه حتى يعاينه، ويقف على علم ما يحتاج إليه منه قبل موافاة أبيه أبي أحمد؛ وذلك عند ورود كتاب أبي أحمد عليه بعزمه على الانحدار.
قال محمد بن شعيب: فدعاني أبو العباس، فقال لي، إنه لابد لي من دخول سوق الخميس، فقلت: إن كنت لا بد فاعلاً ما تذكر فلا تكثر عدد من تحمل معك في الشذا، ولا تزد على ثلاثة عشر غلاماً عشرة رماة وثلاثة في أيديهم الرماح، فإني أكره الكثرة في الشذا مع ضيق النهر، فاستعد أبو العباس لذلك وسار إليه ونصير بين يديه حتى وافى فم برمساور، فقال له نصير: قدمني أمامك، ففعل ذلك، فدخل نصير في خمس عشرة شذاة.

واستأذنه رجل من قواد الموالي يقال له موسى دالجويه في التقدم بين يديه، فأذن له، فسار وسار أبو العباس حتى انتهى به مسيرة إلى بسامي، ثم إلى فوهة براطق ونهر الرق النهر الذي ينفذ إلى رواطا وعبدسى، وهذه الأنهار الثلاثة تؤدي إلى ثلاث طرق مفترقة، فأخذ نصير في طريق نهر براطق وهو النهر المؤدي إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني التي سماها المنيعة بسوق الخميس.وأقام أبو العباس على فوهة هذا النهر، وغاب عنه نصير حتى خفي عنه خبره. وخرج علينا في ذلك الموضع من الزنج خلق كثير، فمنعونا من دخول النهر، وحالوا بينا وبين الانتهاء إلى السور - وبين هذا الموضع الذي انتهينا إليه والسور المحيط بمدينة الشعراني مقدار فرسخين - وأقاموا هناك يحاربوننا، واشتدت الرب بينا وبينهم وهم على الأرض؛ وحن في السفن من أول النهار إلى وقت الظهر، وخفي علينا خبر نصير، وجعل الزنج يهتفون بنا: قد أخذنا نصيراً فماذا تصنعون؟ ونحن تابعوكم حيثما ذهبتم. فاغتنم أبو العباس لما سمع منهم هذا القول، فأستأذنه محمد بن شعيب فيالمسير ليتعرف خبر نصير، فأذن له، فمضى في سميرية بعشرين جذاقاً حتى وافى نصيراً أبا حمزة، وقد قرب من سكر كان الفسقة سكروه، وحده قد أضرم النار فيه وفي مدينتهم، وحارب حرباً شديداً ورزق الظفر بهم، وكان الزنج ظفروا ببعض شذوات أبي حمزة، فقاتل حتى انتزع ما كانوا أخذوا من بين أيديهم، فرجع محمد بن شعيب إلى أبي العباس، فبشره بسلامة نصير ومن معه، وأخبره خبره. فسر بذلك وأسر نصير يومئذ من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس بالموضع الذي كان واقفاً به. فلما رجع نصير قال أبو العباس: لست زائلاً عن موضعي هذا حتى أرواحهم القتال في عشي هذا اليوم؛ ففعل ذلك، وأمر بإظهار شذاة واحدة من الشذوات التي كانت معه لهم، وأخفى باقيها عنهم، فطمعوا في الشذاة التي رأوها، فتبعوها، وجعل من كان فيها يسيرو سيراً ضعيفاً حتى أدركوها، فعلقوا بسكانها، وجعل الملاحون يسيرو حتى وافوا المكان الذي كانت فيه الشذوات المكمنة.
وقد كان أبو العباس ركب سميرية، وجعل الشذا خلفه، فسار نحو الشذاة التي علق بها الزنج لما أبصرها، فأدركها، والزج ممسكون بسكانها يحيطون بها من جوانبها، يرمون بالنشاب والآجر، وعلى أبي العباس كيز تحته درع.
قال محمد: فنزعنا يومئذ من كيز أبي العباس خمساً وعشرين نشابة، ونزعت من لبادةٍ كانت علي أربعين نشابة، ومن لبابيد سائر الملاحي الخمس والعشرين والثلاثين. وأظفر الله أبا العباس بست سميريات من سميريات الزنج، وتخلص الشذا من أيديهم، وانهزموا، ومال أبو العباس وأصحابه نحو الشط، وخرج من الزنج المقاتلة بالسيوف والتراس؛ فانهزموا لا يلوون على شيء للرهبة التي وصلت إلى قلوبهم، ورجع أبو العباس سالماً غانماً، فخلع على الملاحين ووصلهم، ثم صار إلى معسكره بالعمر، فأقام به إلى أن وافى الموفق.

ولإحدى عشرة ليلةً خلت من صفر منها، عسكر أبو أحمد بن المتوكل بالفرك، وخرج من مدينة السلام يريد الشخوص إلى صاحب الزنج لحربه؛ وذلك أنه - فيما ذكر - كان اتصل به أن صاحب الزنج كتب إلى صاحبه علي بن أبان المهلبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى احية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد، وأقام أبو أحمد بالفرك أياماً؛ حتى تلاحق به أصحابه ومن أراد النهوض به إليه، وقد أعد قبل ذلك الشذا والسميريات والمعابر والسفن، ثم رحل من الفرك - فيما ذكر - يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول في مواليه وغلمانه وفرسانه ورجالته فصار إلى رومية المدائن، ثم صار منها، فنزل السيب ثم دير العاقول ثم جرجرايا، ثم قني، ثم نزل جبل، ثم نزل الصلح، ثم نزل على فرسخ من واسط، فأقام هنالك يومه وليلته، فتلقاه ابنه أبو العباس به في جريدة خيل فيها وجوه قواده وجنده، فسأله أبو أحمد عن خبر أصحابه، فوصف له بلاءهم ونصحهم، فأمر أبو أحمد له ولهم بخلع فخلعت عليهم، وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر، فأقام يومه. فلما كانت صبيحة الغد رحل أبو أحمد منحدراً في الماء، وتلقاه ابنه أبو العباس بجميع من معه من الجند في هيئة الحرب والزي الذي كانوا يلقون به أصحاب الخائن، فجعل يسير أمامه حتى وافى عسكره بالنهر المعروف بشيرزاد؛ فنزل أبو أحمد، ثم رحل منه يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول؛ فنزل على النهر المعروف بسنداد بإزاء القرية المعروفة بعبد الله، وأمرا ابنه أبا العباس، فنزل شرقي دجلة بإزاء فوهة بردودا، وولاه مقدمته، ووضع العطاء فأعطى الجيش، ثم أمر ابنه بالمسير أمامه بما معه من آلة الحرب إلى فوهة برمساور. فرحل أبو العباس في المختارين من قواده ورجاله، منهم زيرك التركي صاحب مقدمته، ونصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات.
ورحل أبو أحمد بعد ذلك في الفرسان والرجالة المتخبين، وخلف سواد عسكره وكثيراً من الفرسان والرجالة بمعسكره؛ فتلقاه ابنه أبو العباس بأسرى ورءوس وقتلى من أصحاب الشعراني؛ وذلك أنه وافى عسكره الشعراني في ذلك اليوم قبل مجيء أبيه أبي أحمد؛ فأوقع به أصحابه؛ فقتل منهم مقتلةً عظيمة، وأسر منهم جماعة؛ فأمر أبو أحمد بضرب أعناق الأسرى فضربت، ونزل أبو أحمد فوهة برمساور، وأقام به يومين، ثم رحل يريد المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس في يوم الثلاثاء لثماني ليال خلون من شهر ربيع الآخر من هذه السنة بمن معه من الجيش وما معه من آلة الحرب، وسلك في السفن في برمساور، وجعلت الخيل تسير بإزائه شرقي برمساور، حتى حاذى النهر المعروف ببراطق الذي يوصل إلى مدينة الشعراني.
وإنما بدأ أبو أحمد بحرب سليمان بن موسى الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع من أجل أن الشعراني كان واءه، فخاف إن بدأ بابن جامع أن يأتيه الشعراي من ورائه، ويشغله عمن هو أماه؛ فقصده من أجل ذلك؛ وأمر بتعبير الخيل وتصييرها على جانبي النهر المعروف ببراطق، وأمر انه أبا العباس بالتقدم في الشذا والسميريات، وأتبعه أبو أحمد في أحمد الشذا بعامة الجيش. فلما بصر سليمان ومن معه من الزنج وغيرهم بقصد الخيل والرجالة سائرين على جنبتي النهر ومسير الشذا والسميريات في النهر، وقد لقيهم أبو العباس قبل ذلك، فحاربوه حرباً ضعيفة، انهزموا وتفرقوا.

وعلا أصحاب أبي العباس السور، ووضعوا السيوفغ فيمتن لقيهم وتفرق الزنج وأتباعهم، ودخل أصحاب أبي العباس المدينة، فقتلوا فيها خلقاً كثيراً، وأسروا بشراً كثيراً، وحووا ما كا في المدينة، وهرب الشعراني ومن أفات منهم معه، وأتبعهم أصحاب أبي أحمد حتى وافوا بهم البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ونجا الباقون إلى الآجام، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم قبل غروب الشمس من يوم الثلاثاء، وانصرف وقد استنفذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة؛ سوى من ظفر به من الزنجيات اللواتي كن في سوق الخميس. فأمر أبو أحمد بحياطة النساء جميعاً، وحملهن إلى واسط ليدفعن إلى أوليائهن. وبات أبو أحمد بحيال النهر المعروف ببراطق، ثم باكر المدينة من غد، فأذن للناس في حياطة ما فيها من أمتعة الزنج، وأخذا ما كان أجمع، وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما كان بقى فيها من السفن، ورحل إلى معسكره ببرمساور بالظفر بما بالرساتيق والقرى التي كانت في يد الشعراني وأصحابه من غلات الحطنة والشعير والأرز، فأمر ببيع ذلك، وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده وأهل عسكره وانهزم سليمان الشعراني وأخواه ومن أفلت، وسلب الشعراني ولده وما كان بيده من مال، ولحق بالمذار فكتب إلى الخائن بخبره وما نزل به واعتصامه بالمذار.
فذكر محمد بن الحسن، أن محمد بن هشام المعروف بأبي واثلة الكرماني قال: كنت بين يدي الخائن وهو يتحدث، إذ ورد عليه كتاب سليمان الشعراني بخبر الوقعة ومانزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن أفض الكتاب، فوقعت عينه على موضع الهزيمة حتى انحل وكاء بطنه، ثم نهض لحاجته، ثم عاد، فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب وعاد يقرؤه فلما انتهى إلى الموضع الذي أنهضه، نهض حتى فهل ذلك مراراً. قال: فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما طال الأمر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى؟ قال: نعم، ورد بقاصمة الظهر، أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا وهو بالمذار، ولم يسلم بشئ غير نفسه. قال: فأكبرت ذلك، والله يعلم مكروه ما أخفى من السرور الذي وصل إلى قلبي، وأمسك مبشراً بدنو الفرج. وصبر الخائن على ما وصل إليه، وجعل بظهر الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله.
وذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد قال: أقام الموفق بعسكره ببرمساور يومين، لتعرف أخبار الشعراني وسليمان بن جامع والوقوف على مستقره، فأتاه بعض من كان وجهه لذلك، فأخبره أنه معسكر بالقرية المعروفة بالحوانيت. فأمر عند ذلك بتعبير الخيل إلى أرض كسكر في غربي دجلة، وسار على الظهر، وأمر بالشذا وسفن الرجالة فحدرت إلى الكثيثة، وخلف سواد عسكره وجمعاً كثيراً من الرجال والكراع بفوهة برمساور، وأمر بغراج بالمقام هناك؛ فوافى أبو أحمد الصينية، وأمر أبا العباس بالمصير في الشذا والسميريات إلى الحوانيت مخفاً لتعرف حقيقة خبر سليمان بن جامع في مقامه بها، وإن وجد منه غرة أوقع به. فسار أبو العباس في عشى ذلك اليوم إلى الحوانيت، فلم يلف سليمان هنالك، وألفى من قواد السودان المشهورين بالبأس والنجدة شبلاً وأبا النداء وهما من قدماء أصحاب الفاسق الذين كان استتبعهم في بدء مخرجه. وكان سليمان بن جامع خلف هذين القائدين في موضعهما لحفظ غلات كثيرة كانت هناك، فحاربهما أبو العباس، وأدخل الشذا موضعاً ضيقاً من النهر، فقتل من رجالهما، وجرح بالسهام خلقاً كثيراً - وكانوا أجلد رجال سليمان بن جامع ونخبتهم الذين يعتمد عليهم - ودامت الحرب بينهم إلى أن حجز الليل بين الفريقين.

قال: وقال محمد بن حماد: في هذا اليوم كان من أمر أبي العباس في الكركي الذي ذكره محمد بن شعيب في يوم الصينية، وقد مر به سانحاً، قال: واستأم في هذا اليوم رجلٌ إلى أبي العباس، فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع، فأخبره أنه مقيم بطهيثا، فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان بمدينته التي سماها المصورة، وهي في الموضع الذي يعرف بطهيثا، وأن معه هنالك جميع أصحابه غير شبل وأبي النداء؛ فإنهما بموضعهما من الحوانيت لما أمروا بحفظه.فلما عرف ذلك أبو أحمد، أمر بالرحيل إلى بردودا؛ إذ كان المسلك إلى طهيثا منه؛ وتقدم أبو العباس في الشذا والسميريات، وأمر من خلفه ببرمساور أن يصيروا جميعاً إلى بردودا. ورحل أبو أحمد في غد ذلك اليوم الذي أمر أبا العباس فيه بما أمره به إلى بردودا، وسار إليها يومين؛ فوافاها يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، فأقام بها يصلح ما يحتاج إلى إصلاحه من أمر عسكره، وأمر بوضع العطاء وإصلاح سفن الجسور ليحدرها معه، واستكثر من العمال والآلات التي تسد بها الأنهار، وتصلح بها الطرق للخيل، وخلف ببردودا بغراج التركي، وقد كان لما عزم على الرجوع إلى بردودا أرسل إلى غلام له يقال له جعلان وكان مخلفاً مع بغراج في عسكره، فأمر بقلع المضارب وتقديمها مع الدواب المخلفة قبله والسلاح إلى بردودا، فأظهر جعلان ما أمر به في وقت العشاء الآخرة، ونادى في العسكر والناس غارون، فألقى في قلوبهم أن ذلك لهزيمة كانت. فخرجوا على وجوههم، وترك الناس أسواقهم وأمتعتهم، ظناً منهم أن العدو قد أظلهم، ولم يلو منهم أحد على أحد، وقصدوا قصد الرجوع إلى عسكرهم ببردودا، وساروا في سواد ليلتهم تلك، ثم ظهر لهم بعد ذلك حقيقة الخبر، فسكنوا واطمأنوا.
وفي صفر من هذه السنة كان بين أصحاب كيغلغ التركي وأصحاب أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقعة بناحية قرماسين، فهزمهم كيغلغ، وصار إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن قد اجتمع من أصحابه في صفر، فحاربه فانهزم كيغلغ، وانحاز إلى الصيمرة.
وفي هذه السنة لثلاث بقين من شهر ربيع اخر دخل أبو أحمد وأصحابه طهيثما، وأخرجوا منها سليمان بن جامع، وقتل بها أحمد بن مهدي الجبائي.
ذكر الخبر عن

سبب دخول أبي أحمد وأصحابه طهيثما
ومقتل الجبائي

ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن أبا أحمد لما أعطى أصحابه ببردودا، فأصلح ما أراد إصلاحه من عدة حرب من قصد لحربه في مخرجه، سار متوجهاً إلى طهيثما؛ وذلك يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله. وحدرت السفن بما فيها من الرجالة والسلاح والالآت، وحدرت المعابر والشذوات والسميريات، إلى أن وافى بها النهر المعروف بمهروذ بحضرة القرية المعروفة بقرية الجوزية، فنزل أبو أحمد هناك، وأمر بعقد الجسر على النهر المعروف بمهروذ، وأقام يومه وليلته. ثم غدا فعبّر الفرسان والأثقال بين يديه على الجسر، ثم عبر بعد ذلك، وأمر القواد والناس بالمسير إلى طهيثما، فصاروا إلى الموضع الذي ارتضاه أبو أحمد لفسه منزلاً على ميلين من مدينة سليمان بن جامع، فأقام هنالك بإزاء أصحاب الخائن يوم الاثنين والثلاثاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، ومطر السماء مطراً جوداً، واشتد البرد أيام مقامه هنالك، فشغل بالمطر والبرد عن الحرب، فلم يحارب هذه الأيام وبقية الجمعة. فلما كان عشية يوم الجمعة ركب أبو أحمد في نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل، فانتهى إلى قريب من سور سليمان بن جامع، فتلقاه منهم جمع كثير، وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، ونشبت الحرب واشتدت؛ فترجل جماعة من الفرسان، ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا وغاوها، وأسر من غلمان أبي أحمد وقواده غلام يقال له وصيف علمدار وعدة من قواد زيرك، ورمى أبو العباس أحمد بن مهدي الجبائي بسهم في إحدى مخريه، فخرق كل شيء وصل إليه حتى خالط دماغه، فخر صريعاً، وحمل إلى عسكر الخائن وهو لمآبه، فعظمت المصيبة به عليه؛ إذ كان أعظم أصحابه غنىً عنه، وأشدهم بصيرةً في طاعته، فمكث الجبائي يعالج أياماً، ثم هلك فاشتد جزع الخائن عليه، فصار إليه، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره إلى أن دفن، ثم أقبل على أصحابه فوعظهم، وذكر موت الجبائي. وكانت وفاته في ليلة ذات رعود ةبروق، وقال فيما ذكر: علمت وقت قبض روحه قبل وصول الخبر إليه بما سمع من زجل الملائكة بالدعاء له والترحم عليه.
قال محمد بن الحسن: فانصرف إلى أبو واثلة - وكان فيم شهده - فعجل يعجبني مما سمع، وجاءني محمد بن سمعان فأخبرني بمثل خبر محمد ابن هاشم، وانصرف الخائن من دفن الجبائي منكسراً عليه الكآبة.
قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد أبا أحمد انصرف من الوقعة التي كانت عشية يوم الجمعة لأربع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، وكان خبره قد انتهى إلى عسكره، فنهض إليه عامة الجيش، فتلقوه منصرفاً، فردهم إلى عسكره؛ وذلك في وقت المغرب؛ فلما اجتمع أهل العسكر أمروا بالتحارس ليلتهم والتأهب للحرب، فأصبحوا يوم السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر؛ فعبأ أبو أحمد أصحابه، وجعلهم كتائب يتلو بعضها بعضاً؛ فرساناً ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في الهر الذي يشق مدينة طهيثا المعروف بنهر المنذر، وسار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة، فرتب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام الفرسان، ووكل بالمواضع التي يخاف خروج الكمناء منها ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله عز وجل في النصر له وللمسلمين. ثم عاد بسلاحه فلبسه، وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم إلى السور وتخصيص الغلمان على الحرب، ففعل ذلك؛ وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور مدينته التي سماها المنصورة خندقاً، فلما انتهى إليه الغلمان تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموا متجاسرين عليه، فعبروه، واتهوا إلى الزنج وهم مشرفو من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم، وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضاً.

فلما رأى الزج خبر هؤلاء القوم الذين لقوهم وكرهم عليهم ولوا منهزمين، وأتبعهم أصحاب أبي أحمد، ودخلوا المدينة من جوانبها، وكان الزنج قد حصوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق منها سوراً يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق إذا انتهوا إليه، وجعل أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم من النهر المشقق لها بعد انهزامهم، فجعلت تغرق كل ما مرت لهم به من شذاة وسميرية، وأتبعوا من بحافتي النهر، يقتلون ويؤسرون، حتى أجلوا عن المدينة وعما اتصل بها، وكان زهاء ذلك فرسخاً، فحوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه فاستحر القتال فيهم والأسر، واستنفذ أبو أحمد من نساء أهل واسط وصبياهم ومما اتصل بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف. فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق عليهم، وحملوا إلى واسط، ودفعوا إلى أهليهم، واحتوى أبو أحمد وأصحابه على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، وكان ذلك شيئاً جليل القدر، فأمر أبو أحمد ببيع ما أصاب من الغلات وغير ذلك، وحمله إلى بيت ماله، وصرفه في أعطيات من في عسكره من مواليه، وجنوده، فحملوا من ذلك ما تهيأ لهم حمله، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، واستنفذ يومئذ وصيف علمدار ومن كان أسر معه عشية يوم الجمعة، فأخرجوا من الحبس، وكان الأمر أعجل الزنج عن قتلهم، ولجأ جمع كثير ممن أفلت إلى الآجام المحيطة بالمدينة، فأمر أبو أحمد فعقد جسر على هذا النهر المعروف بالمذر، فعبر الناس إلى غريبة، وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوماً، وأمر بهدم سور المدينة وطم خنادقها، ففعل ذلك، وأمر بتتبع من لجأ إلى الآجام، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلاً، فتسارع الناس إلى طلبهم؛ فكان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه، وخلع عليه وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم وصرفهم عن طاعة صاحبهم، وندب أبو أحمد نصيراً في الشذا والسميريات لطلب سليمان بن جامع والهرب معه من الزنج وغيرهم، وأمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح، وحتى يلج دجلة المعروفة بالعوراء، وتقدم في فتح الكور التي كان الفاسق أحدثها، ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبي الخصيب، وتقدم أهلها، وأمره بتتبع من بقي في الآجام من الزنج حتى يظفر بهم.
وفي شهر ربيع الآخر منها ماتت أم حبيب بت الرشيد. ورحل أبو أحمد بعد إحكامه ما أراد إحكامه إلى معسكره ببردودا، مزمعاً على التوجه نحو الأهواز ليصلحها؛ وقد كان اظطرب أمر المهلبي وإيقاعه بمن وقع عليه من الجيوش التي كانت بها وغلبته على أكثر كورها، وقد كان أبو العباس تقدمه في مسيره ذلك، فلما زافى بردودا أقام أياماً، وأمر بإعداد ما يحتاج إليه من المسير على الظهر إلى كور الأهواز، وقدم من يصلح الطريق والمنازل ويعد فيها المير للجيوش التي معه، ووافاه قبل أن ترحل عن واسط زيرك منصرفاً عن طهيثا؛ بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها، وخلفهم آمنين. فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا والسميريات في نخبة أصحابه وأنجادهم، ليصير بهم إلى دجلة العوراء، فتجتمع يده ويدي أبي حمزة على نفض دجلة واتباع المنهزمين من الزنج والإيقاع بكل من لقوا من أصحاب الفاسق، إلى أن ينتهي بهم السير إلى مدينته بنهر أبي الخصيب، وأن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينته، وكتبوا بما كان منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعلمون بحبسه، واستخلف أبو أحمد على من خلف في عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على الشخوص فيمن خلف من رجاله وأصحابه، ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافى كتابه بذلك.

وفي يوم الجمعة لليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة - وهي سنة سبع وستين ومائتين، ارتحل أبو أحمد من واسط شاخصاً إلى الأهواز وكورها، فنزل باذبين ثم جوخى ثم الطيب ثم قرقوب ثم درستان ثم على وادي السوس، وقد كان عقد له عليه جسر، فأقام من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، حتى عبر أهل عسكره أجمع، ثم سار حتى وافى السوس، فنزلها - وقد كان أمر مسروراً - وهو عامله على الأهواز - بالقدوم عليه، فوافاه في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس، فخلع عليه وعليهم، وأقام السوس ثلاثاً.
وكان مم أسر بطهيثا من أصحاب الفاسق أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص، وكان أحد عدده وقدماء أصحابه أسر بعد أن أثخن جراحاً كانت منها ميته، فلما هلك أمر أبو أحمد باحتراز رأسه ونصبه على جسر واسط.
وكان ممن أسر يومئذ عبد الله بن محمد بن هشام الكرماني؛ وكان الخبيث اغتصبه أباه، فوجهه إلى طهيثا، وولاه القضاة ةالصلاة بها وأسر من السودان جماعة كان يعتمد عليهم، أهل نجدة وبأس وجلد، فلما اتصل به الخبر بما نال هؤلاء اتقض عليه تدبيره، وضلت حيله، فحلمه فرط الهلع على أن كتب إلى المهلبي وهو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفاً مع رجل كان صحبه، يأمره بترك كل ما قبله من المير والأثاث، والإقبال إليه؛ فوصل الكتاب إلى المهلبي وقد أتاه الخبر بإقبال أبي أحمد إلى الأهواز وكورها، فهو لذلك طائر العقل، فترك جميع ما كان قبله، واستخلف عليه محمد بن يحيى ابن سعيد الكرنبائي، فدخل قلب الكرنبائي من الوحل، فأخلى ما استخلف عليه، وتبع المهلبي؛ وبجبى والأهواز ونواحيها يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شئ عظيم، فخرجوا عن ذلك كله.
وكتب أيضاً الفاسق إلى بهبوذ بن عبد الوهاب. وإليه يومئذ عمل الفدم والباسيان وما اتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس، وهو مقيم بالفندم يأمره بالقدوم عليه؛ فترك بهبوذ ما كان قله من الطعام والتمر - وكان ذلك شيئاً عظيماً - فحوى جميع ذلك أبو أحمد، فكان ذلك قوة له على الفاسق، وضعفاً للفاسق.
ولما فصل المهلبي عن الأهواز تفرق أصحابه في القرى التي بينها وبين عسكر الخبيث فانتهبوها، وأجلوا عنها أهلها، وكانوا في سلمهم وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان والرجالة عن اللحاق به، فأقاموا بواحي الأهواز، وكتبوا يسألون أبا أحمد الأمان لما انتهى إليهم من عفوة عمن ظفر به من أصحاب الخبيث بطهيثا، ولحق المهلبي ومن اتبعه من أصحابه بنهر أبي الخصيب.
وكان الذي دعا الفاسق إلى أمر المهلبي وبهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد وأصحابه إياه على الحال التي كانوا عليها من الوجل وشدة الرعب مع انقطاع المهلبي وبهبوذ فيمن كان معهما عنه، ولم يكن الأمر كما قدر.
وأقام أبو أحمد حتى أحرز ما كان المهلبي وبهبوذ خلفاه، وفتحت السكور التي كان الخبيث أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس إلى جند يسابور، فأقام بها ثلاثاً وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر، فوجه في طلبها، وحملها ورحل عن جند يسابور إلى تستر، وأمر بجباية الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائداً ليروج بذلك حمل الأموال. ووجه أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد ابن عبيد الله الكردي، وقد كان خائفاً أن يأتيه صاحب الفاسق قبل موافاة أبي أحمد كور الأهواز، وأمره بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه من العفو عنه، والتغمد لزلته، وأ يتقدم إليه في تعجيل حمل الأموال والمسير إلى سوق الأهواز، وأمر مسروراً البلخي عامله بالأهواز بإحضار من معه من الموالي والغلمان والجند ليعرضهم، ويأمر بإعطائهم الأرزاق وينهضهم معه لحرب الخبيث.

فأحضرهم وعرضوا رجلاً رجلاً، وأعطوا. ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله مزلاً اجتازه. ورحل منه فوافى الأهواز، وهو يرى أنه تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره. فغلظ الأمر في ذلك اليوم، واضطرب له الناس اضطراباً شديداً، وأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود المير؛ فلم ترد، فساءت أحوال الناس، وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث أبو أحمد عن السبب المؤخر ورودها، فوجد الجند قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز ورام هرمز يقال لها قنطرة أربك، فامتنع التجار ومن يحمل الميرة من تطرقه لقطع تلك القنطرة. فركب أبو أحمد إليها وهي على فرسخين من سوق الأهواز، فجمع من كان بقي في العسكر من السودان، وأمرهم بنقل الحجارة والصخر لإصلاح هذه القنطرة وبذل لهم الأموال الرغيبة، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت إلى ما كانت عليه؛ فسلكها الناس. ووافت القوافل بالمير، فحيى أهل العسكر، وحسنت أحوالهم.
وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل، فجمعت من كور الأهواز وأخذ في عقد الجسر، وأقام بالأهواز أياماً حتى أصلح أصحابه أمورهم، وما احتاجوا من آلاتهم، وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها ما كان نالها من الضر بتخلف الأعلاف، ووافت كتب القوم الذين كانوا تخلفوا عن المهلبي، وأقاموا بسوق الأهواز يسألونه الأمان، فآمنهم فأتاه نحو من ألف رجل، فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه، وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل، فرحل بعد أن قدم جيوشه، فعبر الجسر وعسكر بالجانب الغربي من دجيل في الموضع المعروف بقصر المأمون، فأقام هنالك ثلاثاً وأصابت الناس في هذا الموضع من الليل زلزلة هائلة، وقى الله شرها، وصرف مكروهها.
وقد كان أبو أحمد قبل عبور الجسر المعقود عى دجيل قدم أبا العباس ابنه إلى الموضع الذي كان عزم على نزوله من دجلة العوراء، وهو الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون بالانحدار في جميع الجيش المتخلف معه إلى هر المبارك أيضاً لتجتمع العساكر هناك، فرحل أبو أحمد عن قصر المأمون، فنزل بقورج العباس، ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بما صالح عليه محمد بن عبيد الله وبهدايا أهداها إليه من دواب وضوار وغير ذلك. ثم رحل عن القورج، فنزل بالجعفرية، ولم يكن بهذه القرية ماء إلا من آبار كان أبو أحمد تقدم بحفرها في عسكره، وأنفذلذلك سعداً الأسود مولى عبيد الله بن محمد بن عمار من قورج العباس، فحفرت، فأقام بهذا الموضع يوماً وليلة، وألفى هناك ميراً مجموعة، واتسع الناس بها، وتزودوا منها.
ثم رحل إلى الموضع المعروف بالبشير، وألفى فيه غديراً من المطر، فأقام به يوماً وليلة، ورحل في آخر الليل يريد نهر المبارك، فوافاه بعد صلاة الظهر، وكان منزلاً بعيد المسافة؛ وتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، فسلما عليه، وسارا بسيره، حتى ورد نهر المبارك، وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين.

وكان لزيرك ونصير في الذي كان أبو أحمد وجه فيه زيرك من تتبع فل الخبيث من طهيثا أثر فيما بين فصول أبي أحمد من واسط إلى حال مصيره إلى نهر المبارك؛ وذلك ما ذكره محمد بن الحسن عن محمد بن حماد، قال: لما اجتمع زيرك ونصير بدجلة العوراء انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الخبيث، فأعلمهما أن الخبيث قد أنفذ عدداً كثيراً من السميريات والزواريق والصغ مشحونة بالزنج، يرأسهم رجل من أصحابه، يقال له محمد بن إبراهيم يكنى أبا عيسى، ومحمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة، كان جاء به رجل من الزنج عند خراب البصرة يقال له يسار، كان على شرطة الفاسق، فكان يكتب ليسار على ما كان يلي حتى مات، وارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الخبيث، فولاه أكثر أعماله، وضم محمد بن إبراهيم هذا إليه، فكان كاتبه إلى أن هلك الجبائي - فطمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته، وأن يحله الخبيث محل الجبائي، فنبذ الدواة والقلم، ولبس آلة الحرب، وتجرد للقتال، فأنهضه الخبيث في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش، فكان في دجلة أحياناً، وأحياناً يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد، ومعه في ذلك الجيش شبل بن سالم وعمرو المعروف بغلام بوذى وأجلاد من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل كان في ذلك الجيش إلى زيرك ونصير، وأخبرهما خبره، وأعلمهما أن محمد بن إبراهيم على القصد لسواد عسكر نصير، ونصير يومئذ معسكر بنهر المرأة، وأنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل وبثق شيرين، حتى يوافوا الموضع المعروف بالشرطة، ليخرجوا من وراء العسكر فيكبوا علىىطرفيه؛ فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبادراً إلى معسكره، وسار زيرك قاصداً لبثق شيرين، حتى صار من مؤخرة في موضع يعرف بالميشان؛ وذلك أنه قدر أن محمد بن إبراهيم ومن معه يأتون عسكر نصير من ذلك الطريق؛ فكان ذلك كما ظن، ولقيهم في طريقهم فوهب الله له العو عليهم بعد صبر منهم، ومجاهدة شديدة؛ فانهزموا ولجئوا إلى النهر الذي كانوا وضعوا الكمين فيه، وهو نهر يزيد، فدل زيرك عليهم، فتوغلت عليهم سميرية وشذواته، فقتل منهم طائفة، وأسر طائفة، وكان ممن ظفر به منهم محمد بن إبراهيم المكنى أبا عيسى وعمرو المعروف بغلام بوذى، وأخذ ما كان معه من السميريات، وذلك نحو من ثلاثين سميرية، وأفلت شبل في الذين نجوا، فلحق بعسكر الخبيث، وخرج زيرك من بثق شيرين ظافراً السفن، فانصرف زيرك من دجلة العوراء إلى واسط؛ وكتب إلى أبي أحمد بما كان من حربه والنصر والفتح.
وكان فيمن كان من زيرك في ذلك وصول الجزع إلى كل من كان بدجلة وكورها من أتباع الفاسق، فاستأمن إلى أبي حمزة وهو مقيم بنهر المرأة منهم زهاء ألفي رجل - فيما قيل - فكتب بخبرهم إلى أبي أحمد، فأمره بقبولهم وإقرارهم على الأمان وإجراء الأرزاق عليهم، وخلطهم بأصحابه ومناهضته العدو بهم.
وكان زيرك مقيماً بواسط إلى حين ورود كتاب أبي أحمد على ابنه هارون بالمصير بالجيش المتخلف معه إلى نهر المبارك، فانحدر زيرك مع هارون، وكتب أبو أحمد إلى نصير وهو بنهر المرأة يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك، فوافاه هنالك؛ وكان أبو العباس عند مصيره إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الفاسق في الشذا والسميريات، فأوقع به في مدينته بنهر أبي الخصيب.
وكانت الحرب بينه وبينهم من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، واستأمن إليه قائد من قواد الخبيث المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع، يقال له منتاب، ومعه جماعة من أصحابه؛ فكان ذلك مما كسر الخبيث وأصحابه، وانصرف أبو العباس بالظفر، وخلع على منتاب ووصله وحمله، ولما لقي أبو العباس أباه أعلمه خبر منتاب، وذكر له خروجه إليه بالأمان، فأمر أبو أحمد لمنتاب بخلعة وصلة وحملان، وكان منتاب أول من استأمن من قواد الزنج.

ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين، كان أول ما عمل به في أمر الخبيث - فيما ذكر محمد بن الحسن بن سهل، عن محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن زيد - أن كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان والأمصار، واستحلال الفروج والأموال، وانتحال ما لم يجعله الله له أهلاً من النبوة والرسالة، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة، والأمان له موجود؛ فإن هو نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله، ودخل في جماعة المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه؛ وكان له به الحظ الجزيل في دنياه. وأنفذ ذلك مع رسوله إلى الخبيث، والتمس الرسول إيصاله، فامتنع أصحاب الخبيث من إيصال الكتاب، فألقاه الرسول إليهم، فأخذوه وأتوا به إلى الخبيث، فقرأه فلم يزده ما كان فيه من الوعظ إلا فوراً وإصراراً، ولم يجب عن الكتاب بشيء، وأقام على اغتراره، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره بما فعل، وترك الخبيث الإجابة عن الكتاب. وأقام أبو أحمد يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء متشاغلاً بعرض الشذا والسميريات وترتيب قواده ومواليه وغلمانه فيها، وتخير الرماة وترتيبهم في الشذا والسميريات، فلما كان يوم الخميس سار أبو أحمد في أصحابه، ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب، فأشرف عليها وتأملها، فرأى من منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها وما عور من الطرق المؤدية إليها وأعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره. فلما عاين أصحابه أبا أحمد، ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض، فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة ورشق من عليه بالسهام، ففعل ذلك ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخائن، وانحازت الفسقة إلى الموضع الذي دنت منه الشذا، وتحاشدوا، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم وعراداتهم ومقاليعهم، ورمى عوامه بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع طرف ناظر من الشذا على موضع إلا رأى فيه سهماً أو حجراً، وثبت أبو العباس، فرأى الخائن وأشياعه من جدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد حاربهم.
فأمر أبو أحمد أبا العباس ومن معه بالرجوع إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم ويداووا جراحهم، ففعلوا ذلك.
واستأمن إلى أبي أحمد في تلك الحال مقاتلان من مقاتلة السميريات، فأتوه بسميريتهما وما فيها من الآلات والملاحين، فأمر للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلاة، ووصلهما، وأمر للملاحين بخلع الحرير الأحمر والثياب البيض بما حسن موقعه منهم وعمهم جميعاً بصلاته، وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم؛ فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها الفاسق. فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم والإحسان إليهم، رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه، فابتدروه مسرعين نحوه، راغبين فيما شرع لهم منه. فصار إلى أبي أحمد في ذلك اليوم عدد من أصحاب السميريات، فأمر فيهم بمثل ما أمر به في أصحابهم. فلما رأى الخبيث ركون أصحاب السميريات إلى الأمان واغتنامهم له أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بإظهار شذواته، وندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب وهو من أشد حماته بأساً، وأكثرهم عدداً وعدة، فانتدب بهبوذ لذلك في أصحابه، وكان ذلك في وقت إقبال المد وقوته، وقد تفرقت شذوات أبي أحمد، ولحق أبو حمزة فيما معه منها بشرقي دجلة، فأقام هنالك وهو يرى أن الحرب قد انقضت، واستغني عنه.

فلما ظهر بهبوذ فيما معه من الشذوات أمر أبو أحمد بتقديم شذواته، وأمر أبا العباس بالحمل على بهبوذ بما معه من الشذا، وتقدم إلى قواده وغلمانه بالحمل معه؛ وكان الذي صلي بالحرب من الشذوات التي مع أبي العباس وزيرك من الشذوات التي رتب فيها قواد الغلمان اثنتي عشرة شذاة. فنشبت الحرب، وطمع أصحاب الفاسق في أبي العباس وأصحابه لقلة عدد شذواتهم. فلما صدموا انهزموا. ووجه أبو العباس ومن معه في طلب بهبوذ، فألجئوه إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام جراحات، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة، وخلي ما كان عليه مع أصحابه، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل يومئذ ممن كان مع بهبوذ قائد من قواده ذو بأس ونجدة وتقدم في الحرب، يقول له عميرة، وظفر أصحاب أبي العباس بشذاة من شذوات بهبوذ، فقتل أهلها، وغرقوا، وأخذت الشذاة، وصار أبو العباس ومن معه بشذواتهم بعد أن أتاهم أمر أبي أحمد بذلك، وبإلحاق الشذا بشرقي دجلة وصرف الجيش. فلما رأى الفاسق جيش أبي أحمد مصرفاً أمر من كان انهزم في شذواته إلى نهر أبي الخصيب بالظهور ليسكن بذلك روعة أصحابه، وليكون صرفه إياهم إذا صرفهم عن غير هزيمة. فأمر أبو أحمد جماعة من غلمانه بأن يثبتوا صدور شذواتهم إليهم؛ ويقصدوهم. فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين مذعورين، وتأخرت عنهم شذاة من شذواتهم، فاستأمن أهلها إلى أبي أحمد، ونكسوا علماً أبيض كان معهم، فصاروا إليه في شذاتهم، فأومنوا وحبوا ووصلوا وكسوا. فأمر الفاسق عند ذلك برد شذواتهم إلى النهر ومنعها من الخروج، وكان ذلك في آخر النهار، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم بنهر المبارك.
واستأمن إلى أبي أحمد في هذا اليوم عند منصرفه خلق كثير من الزنج وغيرهم، فقبلهم، وحملهم في الشذا والسميريات، وأمر أن يخلع عليهم ويوصلوا ويحبوا، وتكتب أسمائهم في المضمومين إلى أبي العباس.
وسار أبو أحمد، فوافى عسكره بعد العشاء الأخيرة، فأقام به يوم الجمعة والسبت والأحد، ثم عزم على نقل عسكره إلى حيث يقرب منه عليه القصد لحرب الخبيث، فركب الشذا في يوم الاثنين لست ليال بقين من رجب سنة سبع وستين ومائتين، ومعه أبو العباس والقواد من مواليه وغلمان، فيهم زيرك ونصير حتى وافى النهر المعروف بنهر جطي في شرقي دجلة، وهو حيال النهر المعروف باليهودي، فوقف عليه، وقدر فيه ما أراد وانصرف، وخلف به أبا العباس وزيرك ونصيراً، وعاد إلى معسكره. فأمر فنودي في الناس بالرحيل إلى الموضع الذي اختار من نهر جطي، وتقدم في قود الدواب بعد أصلحت لها الطرق، وعقدت القناطر على الأنهار، وغدا في يوم الثلاثاء لخمس بقين من رجب في جميع عساكره حتى نزل نهر جطي، فأقام به إلى يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين ومائتين، ولم يحارب في شيء من هذه الأيام، وركب في هذا اليوم في الخيل والرجالة، ومعه جميع الفرسان، وجعل الرجالة والمطوعة في السفن والسميريات، على كل رجل منهم لأمته وزيه، وسار حتى وافى الفرات، ووازى عسكر الفاسق وأبو أحمد من أصحابه وأبتاعه في زهاء خمسين ألف رجل أو يزيدون، والفاسق يومئذ في زهاء ألف إنسان، كلهم يقاتل أو يدافع؛ فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورامٍ بقوس، وقاذف بمقلاع، ورام بعرادة أو منجنيق؛ وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم وهم النظارة المكثرون السواد، والمعتنون بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك.
فأقام أبو أحمد في هذا اليوم بإزاء عسكر الفاسق إلى أن أضحى، وأمر فنودي أن الأمان مبسوط للناس؛ أسودهم وأحمرهم إلا الخبيث، وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الإحسان، ورمى بها إلى عسكر الخبيث، فمالت إليه قلوب أصحاب المارق بالرهبة والطمع فيما وعدهم من إحسانه وعفوه؛ فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا إليه، فوصلهم وحباهم. ثم انصرف إلى معسكره بنهر جطي، ولم يكن في هذا اليوم حرب.
وقدم عليه قائدان من مواليه؛ أحدهما بكتمر والآخر جعفر بن بغلاغز، في جمع من أصحابهما فكان ورودهما زائداً في قوة من مع أبي أحمد.

ورحل أبو أحمد عن نهر جطي إلى معسكر قد كان تقدم في إصلاحه، وعقد القناطر على أنهاره، وقطع النهر ليوسعه بفرات البصرة بإزاء مدينة الفاسق؛ فكان نزوله هذا المعسكر في يوم الأحد للنصف من شعبان سنة سبع وستين ومائتين، وأوطن هذا المعسكر، وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم فيه، فجعل نصيراً صاحب الشذا والسميريات في جيشه في أول العسكر وآخره بالموضع الموازي النهر المعروف بجوى كور، وجعل زيرك التركي صاحب مقدمة أبي العباس في أصحابه موازياً ما بين نهر أبي الخصيب وهو النهر الموسوم بنهر الأتراك والنهر المعروف بالمغيرة، ثم تلاه علي بن جهشيار حاجبه في جيشه.
وكانت مضارب أبي أحمد وابنيه حيال الموضع المعروف بدير جابيل، وأنزل راشداً مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج على النهر المعروف بهطمة، وجعل صاعد بن مخلد وزيره في جيشه من الموالي والغلمان فويق عسكر راشد، وأنزل مسروراً البلخي في جيشه على النهر المعروف بسندادان، وأنزل الفضل ومحمداً، لبني موسى ابن بغا في جيشهما على النهر المعروف بهالة، وتلاهما موسى دالجويه في جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته نازلاً على نهر جطي، وأوطنوه، وأقاموا به. ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة جمعه ما علم أنه لابد له من الصبر عليه ومحاصرته وتفريق أصحابه عنه؛ يبذل الأمان لهم، والإحسان إلى من أناب منهم، والغلطة على من أقام على غيه منهم، واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء.
فأمر بإنفاذ الرسل في حمل المير في البر والبحر وإدرارها إلى معسكره بالمدينة التي سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة. وأنفذ رسولاً إلى سيراف وجنابا في بناء الشذا والاستكثار منها لما احتاج إليه من ترتيبها في المواضع التي يقطع بها المير عن الخائن وأشياعه. وأمر بالكتاب إلى عماله في النواحي بإنفاذ كل من يصلح للإثبات في الديوان، ويرغب في ذلك، وأقام ينتظر شهراً أو نحوه؛ فوردت المير متتابعةً يتلو بعضها بعضاً، وجهز التجار صنوف التجارات والأمتعة وحملوها إلى المدينة الموفقية، واتخذت بها الأسواق، وكثر بها التجار والمتجهزون من كل بلد، ووردتها مراكب البحر؛ وقد كانت انقطعت لقطع الفاسق وأصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، وبنى أبو أحمد مسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، واتخذ دور الضرب، فضرب فيها الدنانير والدراهم، فجمعت مدينة أبي أحمد جميع المرافق، وسيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون بها شيئاً مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة، وحملت الأموال، وأدر للناس العطاء في أوقاته، فاتسعوا وحسنت أحوالهم، ورغب الناس جميعاً في المصير إلى المدينة الموفقية والمقام فيها.
وكان الخبيث بعد ليلتين من نول أبي أحمد مدينته الموفقية أمر بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة، وأحرق كوخات كانت لهم قبل أن يبني الناس هنالك. فأمر أبو أحمد نصيراً عند ذلك بجمع أصحابه، وألا يطلق لأحد مفارقة عسكره، وأن يحرس أقطار عسكره بالشذا والسميريات والزواريق فيها الرجالة إلى آخر ميان روذان والقندل وأبرسان، للإيقاع بمن هنالك من أصحاب الفاسق.
وكان بميان روذان من قواده أيضاً إبراهيم بن جعفر الهمذاني في أربعة آلاف من الزنج، ومحمد بن أبان المعروف بأبي الحسن أخو علي بن أبان بالقندل في ثلاثة آلاف، والمعروف بالدور في أبرسان في ألف وخمسمائة من الزنج والجبائيين، فبدأ أبو العباس بالهمذاني فأوقع به، وجرت بينهما حروب، قتل فيها خلق كثير من أصحاب الهمذاني، وأسر منهم جماعة، وأفلت الهمذاني في سميرية قد كان أعدها لفسه، فلحق فيها بأخي المهلبي المكنى بأبي الحسن، واحتوى أصحاب أبي العباس على ما كان في أيدي الزنج وحملوه إلى عسكرهم.

وقد كان أبو أحمد تقدم إلى ابنه أبي العباس في بذل الأمان لمن رغب فيه، وأن يضمن لمن صار إليه الإحسان، فصار إليه طائفة منهم في الأمان فآمنهم، فصار بهم إلى أبيه، فأمر لكل واحد منهم من الخلع والصلات على أقدارهم في أنفسهم، وأن يوقفوا بإزاء نهر أبي الخصيب ليعاينهم أصحابهم. وأقام أبو أحمد يكايد الخائن ببذل الأمان لمن صار إليه من الزنج وغيرهم، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وقطع المير والمنافع عنهم؛ وكانت ميرة الأهواز وما يرد من صنوف التجارات منها ومن كورها ونواحي أعمالها يسلك به النهر المعروف ببيان، فسرى بهبوذ في جلد رجاله ليلة من الليالي، وقد نمي إليه خبر قيروان ورد بصنوف من التجارات والمير وكمن النخل؛ فلما ورد القيروان خرج إلى أهله، وهم غارون، فقتل منهم وأسر، وأخذ ما أحب أن يأخذ من الأموال.
وقد كان أبو أحمد أنفذ لبذرقة ذلك القيروان رجلاً من أصحابه في جمع، فلم يكن للموجه لذلك ببهبوذ طاقة، لكثرة عدد من معه وضيق الموقع على الفرسان، وأنه لم يكن بهم فيه عناء. فلما انتهى ذلك إلى أبي أحمد، غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وأنفسهم وتجاراتهم، وأمر بتعويضهم، وأخلف عليهم مثل الذي ذهب لهم، ورتب الشذا على فوهة بيان وغيره من الأنهار التي لا يتهيأ للفرسان سلوكها في بنائها والإقبال بها إليه، فورد عليه منها عددٌ صالح، فرتب فيها الرجال، وقلد أمرها أبا العباس ابنه، وأمره أن يوكل بكل موضع يرد إلى الفسقة منه ميرة، فانحدر أبو العباس لذلك إلى فوهة البحر في الشذوات، ورتب في جميع تلك المسالك القواد، وأحكم الأمر فيه غاية الإحكام.
وفي شهر رمضان منها كانت وقعة بين إسحق بن كنداج وإسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبي المغراء وحمدان الشاري ومن تأشب إليهم من قبائل ربيعة وتغلب وبكر واليمن، فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، وتبعهم إلى قريب من آمد، واحتوى على أموالهم، ونزلوا آمد، فكانت بينه وبينهم وقعات.
ذكر خبر مقتل صندل الزنجيوفي شهر رمضان منها قتل صندل الزنجي، وكان سبب قتله أن أصحاب الخبيث عبروا لليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكر - أعني سنة سبع وستين ومائتين - يريدون الإيقاع بعسكر نصير وعسكر زيرك، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم، فردوهم خائبين، وظفروا بصندل هذا. وكان - فيما ذكروا - يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورءوسهن ويقلبهن تقليب الإماء، فإن امتنعت منهم امرأة ضرب وجهها ودفعها إلى بعض علوج الزنج يبيعها بأوكس الثمن. فلما أتي به أبو أحمد، أمر به فشد بين يديه، ثم رمي بالسهام، ثم أمر به فقتل.
ذكر خبر استئمان الزنج إلى أبي أحمدوفي شهر رمضان من هذه السنة استأمن إلى أبي أحمد خلق كثير من عند الزنج.
ذكر سبب ذلك وكان السبب في ذلك أنه كان - فيما ذكر - استأمن إلى أبي أحمد رجلٌ من مذكوري أصحاب الخبيث ورؤسائهم وشجعانهم، يقال له مهذب، فحمل في الشذا إلى أبي أحمد، فأتي به في وقت إفطاره، فأعلمه أنه جاء متنصحاً راغباً في الأمان، وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات، وأن الذين ندب الفاسق لذلك أنجادهم وأبطالهم؛ فأمر أبو أحمد بتوجيه من يحربهم إليهم ومن يمنعهم من العبور وأن يعارضوا بالشذا. فلما علم الزنج أن قد نذر بهم انصرفوا منهزمين، فكثر المستأمنة من الزنج وغيرهم وتتابعوا؛ فبلغ عدد من وافى عسكر أبي أحمد منهم إلى آخر شهر رمضان سنة سبع وستين ومائتين خمسة آلاف رجل من بين أبيض وأسود.
وفي شوال من هذه السنة ورد الخبر بدخول الخجستاني نيسابور وانهزام عمرو بن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلها، وهدم دور آل معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم واقتطع ضياعهم، وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا له على منابر ما غلب عليه من مدن خراسان وللمعتمد، وترك الدعاء لغيرهما.
ذكر خبر الإيقاع بالزنج في هذا العاموفي شوال من هذه السنة كانت لأبي العباس وقعة بالزنج، قتل فيها منهم جمع كثير.
ذكر سبب ذلك

وكان السبب في ذلك - فيما بلغني - أن الفاسق انتخب من كل قيادة من أصحابه أهل الجلد والبأس منهم، وأمر المهلبي بالعبور بهم ليبيت عسكر أبي أحمد، ففعل ذلك، وكانت عدة من عبر من الزنج وغيرهم زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم من الزنج، وفيهم نحو من مائتي قائد، فعبروا إلى شرقي دجلة، وعزموا على أن يصير القواد منهم إلى آخر النخل مما يلي السبخة، فيكونوا في ظهر عسكر أبي أحمد، ويعبر جماعة كثيرة منهم في الشذا والسميريات والمعابر قبالة عسكر أبي أحمد، فإذا نشبت الحرب بينهم انكب من كان عبر من قواد الخبيث، فصار إلى السبخة على عسكر أبي أحمد الموفق، وهم غارون مشاغيل بحرب من بإزائهم، وقدر أن يتهيأ له في ذلك ما أحبه. فأقام الجيش في الفرات ليلتهم، ليغادوا الإيقاع بالعسكر. فاستأمن إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين، فأنهى إليه خبرهم وما اجتمعت عليه آراؤهم، فأمر أبو أحمد أبا العباس والقواد والغلمان بالنهوض إليهم؛ وقصد الناحية التي فيها أصحاب الخبيث، وأنفذ جماعة من قواد غلمانه في الخيل إلى السبخة التي في مؤخر النخل بالفرات، لتقطعهم عن الخروج إليها، وأمر أصحاب الشذا والسميريات، فاعترضوا في دجلة، وأمر الرجالة بالزحف إليهم من النخل. فلما رأى الفجار ما أتاهم من التدبير الذي لم يحتسبوه كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا منه طالبين التخلص، فكان قصدهم لجويث بارويه، وانتهى خبر رجوعهم إلى الموفق، فأمر ابا العباسوزيرك بالانحدار في الشذوات يسبقونهم إلى النهر؛ ليمنعوهم من عبوره. وأمر غلاماً من غلمانه، يقال له ثابت، له قيادة على جمع كثير من غلمانه السودان أن يحمل أصحابه في المعابر والزواريق وينحدر معهم إلى الموضع الذي فيه أعداء الله للإيقاع بهم حيث كانوا، فأدركهم ثابت في أصحابه بجويث بارويه، فخرج إليهم فحاربهم محاربة طويلة، وثبتوا له، واستقبلوا جمعه وهو من أصحابه في زهاء خمسمائة رجل، لأنهم لم يكونوا تكاملوا وطمعوا فيه، ثم صدقهم وأكب عليهم، فمنحه الله أكتافهم؛ فمن مقتول وأسير وغريق وملجج في الماء بقدر اقتداره على السباحة التقطته الشذا والسميريات في دحلة والنهر، فلم يفلت من ذلك الجيش إلا أقله. وانصرف أبو العباس بالفتح، ومعه ثابت وقد علقت الرءوس في الشذوات وصلب الأسارى فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا بهم أشياعهم؛ فلما أبلسوا وأيقنوا بالبوار، وأدخل الأسارى والرءوس إلى الموفقية، وانتهى إلى أبي أحمد أن صاحب الزنج موه على أصحابه، وأوهمهم أن الرءوس المرفوعة مثلٌ مثلت لهم ليراعوا، وأن الأسارى من المستأمنة. فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بجمع الرءوس والمسير بها إلى إزاء قصر الفاسق والقذف بها في منجنيق في سفينة إلى عسكره، ففعل أبو العباس ذلك، فلما سقطت الرءوس في مدينتهم، عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم، فظهر بكاؤهم، وتبين لهم كذب الفاجر وتمويهه.
وفي شوال من هذه السنة كانت لأصحاب ابن أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي، قتلوا فيها مقدمته، وغلبوا على عسكره فاحتووه.
ذكر خبر الوقعة مع الزنج بنهر ابن عمروفي ذي القعدة منها كانت لزيرك وقعة مع جيش لصاحب الزنج بنهر ابن عمر، قتل زيرك منهم فيها خلقاً كثيراً.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة

ذكر أن صاحب الزنج كان أمر باتخاذ شذوات، فعملت له، فضمها إلى ما كان يحارب به، وقسم شذواته ثلاثة أقسام بين بهبوذ ونصر الرومي وأحمد بن الزرنجي، وألزم كل واحد منهم غرم ما يصنع على يديه منها وكانت زهاء خمسين شذاة، ورتب فيها الرماة وأصحاب الرماح، واجتهدوا في إكمال عدتهم وسلاحهم، وأمرهم بالمسير في دجلة والعبور إلى الجانب الشرقي والتعرض لحرب أصحاب الموفق، وعدة شذوات الموفق يومئذ قليلة، لأنه لم يكن وافاه كل ما كان أمر باتخاذه، وما كان عنده منها فمتفرق في فوهة الأنهار التي يأتي الزنج منها المير. فغلظ امر أعوان الفاجر، وتهيأ له أخذ شذاة بعد شذاة الموفق، وأحجم نصير المعروف بأبي حمزة عن قتالهم والإقدام عليهم، كما كان يفعل لقلة ما معه من الشذا، وأكثر شذوات الموفق يومئذ مع نصير، وهو المتولي لأمرها. فارتاع لذلك أهل عسكر الموفق، وخافوا أن يقدم على عسكرهم الزنج بما معهم من فضل الشذا، فورد عليهم في هذه الحال شذوات كان الموفق تقدم في بنائها بجنابا، فأمر أبا العباس بتلقيها فيما معه من الشذا حتى يوردها العسكر، إشفاقاً من اتعراض الزنج عليها في دجلة، فسلمت، وأتى بها حتى إذا وافت عسكر نصير، فبصر بها الزنج طمعوا فيها، فأمر الخبيث بإخراج شذواته، وأمر أصحابه بمعارضتها والاجتهاد في اقتطاعها، فنهضوا لذلك. فتسرع غلام من غلمان أبي العباس شجاع يقال له وصيف يعرف بالحجراي، في شذوات كن معه، فشد على الزنج فانكشفوا، وتبعهم حتى وافى بهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فكروا عليه شذواتهم، وانتهى إلى مضيق، فعلقت مجاديف بعض شذواته بمجاديف بعض شذواتهم، فجنحت وتقصفت بالشط، وأحاط به الآخرون واكتنفوه من جوانبه، وانحدر عليه الزنج من السور، فحاربهم بمن كان معه حرباً شديداً حتى قتلوا.
وأخذ الزنج شذواتهم، فأدخلوها نهر أبي الخصيب. ووافى أبو العباس بالشذوات الجنابية سالمة بما فيها من السلاح والرجال، فأمر أبو أحمد أبا العباس بتقلد أمر الشذوات كلها والمحاربة بها، وقطع مواد المير عنهم من كل جهة. ففعل ذلك، فأصلحت الشذوات، ورتب فيها المختارون من الناشبة والرامحة؛ حتى إذا أحكم أمرها أجمع، ورتبها في المواضع التي كانت تقصد إليها شذوات الخبيث، وتعيث فيها، أقبلت شذواته على عادتها التي كانت قد جرت عليها. فخرج إليهم أبو العباس في شذواته، وأمر سائر أصحاب الشذا أن يحملوا بحملته، ففعلوا ذلك وخالطوهم، وطفقوا يرشقونهم بالسهام، ويطعنونهم بالرماح، ويقذفونهم بالحجارة؛ وضرب الله وجوههم، فولوا منهزمين، وتبعهم أبو العباس وأصحابه حتى أولجوهم نهر أبي الخصيب، وغرق لهم ثلاث شذوات، وظفر بشذاتين من شذواتهم بما فيها من المقاتلة والملاحين. فأمر ابو العباس بضرب أعناق من ظفر به منهم.
فلما رأى الخبيث ما نزل بأصحابه، امتنع من إخراج الشذا عن فناء قصره، ومنع أصحابه أن يجاوزوا بها الشط إلا في الأوقات التي يخلو دجلة فيها من الشذوات الموفق.

فلما أوقع بهم أبو العباس هذه الوقعة اشتد جزعهم، وطلب وجوه أصحاب الخبيث الأمان فأومنوا، فكان ممن استأمن من وجوههم - فيما ذكر - محمد ذكر بن الحارث العمي، وكان إليه حفظ عسكر منكى والسور الذي يلي عسكر الموفق، وكان خروجه ليلاً مع عدة من أصحابه، فوصله الموفق بصلات كثيرة، وخلع عليه، وحمله على عدة دواب بخليتها وآلتها، وأسى له الرزق، وكان محمد بن الحارث حاول إخراج زوجته معه، وهي إحدى بنات عمه، فعجزت المرأة عن اللحاق به، فأخذها الزنج فردوها إلى الخبيث، فحبسها مدة، ثم أمر بإخراجها والنداء عليها في السوق، فبيعت؛ ومنهم أحمد المعروف بالبرذعي. وكان - فما قيل - من أشجع رجال الخبيث الذين كانوا في حيز المهلبي ومن قواده الزنج مدبد وابن أنكلويه ومنينة، فخلع عليهم جميعاً، ووصلوا بصلات كثيرة، وحملوا على الخيل، وأحسن إلى جميع ما جاءوا به معهم من أصحابهم، وانقطعت عن الخبيث مواد الميرة، وسدت عليه وعلى من أقام معه المذاهب. وأمر شبلا وأبا النداء - وهما من رؤساء قواده وقدماء أصحابه الذين كان يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم - بالخروج في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم، والقصد لنهر الدير ونهر المرأة ونهر أبي الأسد، والخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة للغارة على المسلمين، وأخذ ما وجدا من طعام وميرة ليقطع عن عسكر الموفق ما يرده من الميرة وغيرها من مدينة السلام وواسط ونواحيها. فندب الموفق لقصدهم حين انتهى إليه خبر مسيرهم مولاه زيرك صاحب مقدمة أبي العباس، وأمره بالنهوض في أصحابه إليهم، وضم إليه من اختار من الرجال، فمضى في الشذوات والسميريات، وحمل الرجالة في الزواريق والسفن الخفاف حثيثاً، حتى صار إلى نهر الدير، فلم يعرف لهم هنالك خبراً، فصار منه إلى بثق شيرين. ثم سلك في نهر عدي حتى خرج إلى نهر ابن عمر، فالتقى به جيش الزنج في جمع راعته كثرته، فاستخار الله في مجاهدتهم، وحمل عليهم في ذوي البصائر والثبات من أصحابه، فقذف الله الرعب في قلوبهم، فانفضوا، ووضع فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقاً كثيراً، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما أمكن تغريقه؛ فكان ما أخذ من سفنهم نحواً من أربعمائة سفينة، وأقبل بمن معه من الأسارى وبالرءوس إلى عسكر الموفق.
خبر عبور الموفق إلى مدينة صاحب الزنج لحربهوفي ذي الحجة لست بقين منه عبر الموفق بنفسه إلى مدينة الفاسق وجيشه لحربه.
ذكر السبب الذي من أجله كان عبوره إليها: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن الرؤساء من أصحاب الفاسق، لما رأوا ما قد حل بهم من البلاء من قتل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة؛ فلم يظهر منهم أحد، وحال من خرج منهم بالأمان من الإحسان إليه، والصفح عن جرمه، مالوا إلى الأمان، وجعلوا يهربون في كل وجه، ويخرجون إلى أبي أحمد في الأمان كلما وجدوا إليه السبيل فملىء الخبيث من ذلك رعباً، وأيقن الهلاك، فوكل بكل ناحية كان يرى أن فيها طريقاً للهرب من عسكره أحراساً وحفظة، وأمرهم بضبط تلك النواحي، ووكل بفوهة الأنهار من يمنع السفن من الخروج منها، واجتهد في سد كل مسلك وطريق وثلمة؛ لئلا يطمع في الخروج عن مدينته.

وأرسل جماعة من قواد الفاجر صاحب الزنج إلى الموفق يسألونه الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشاً ليجدوا إلى المصير إليه سبيلاً، فأمر الموفق أبا العباس بالمصير في جماعة من أصحابه إلى الموضع المعروف بنهر الغربي، وعلي بن أبان حينئذ يحوط ذلك النهر؛ فنهض أبو العباس في المختارين من أصحابه، ومعه الشذا والسميريات والمعابر، فقصد النهر الغربي، وانتدب المهلبي وأصحابه لحربه، فاستعرت الحرب بين الفريقين، وعلا أصحاب أبي العباس، وقهر الزنج، وأمد الفاسق المهلبي بسليمان بن جامع في جمع من الزنج كثير، واتصلت الحرب يومئذ من أول النهار إلى وقت العصر؛ وكان الظفر في ذلك اليوم لأبي العباس وأصحابه، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان من قواد الخبيث، ومعهم جمع كثير من الفرسان وغيرهم من الزنج، فأمر أبو العباس عند ذلك أصحابه بالرجوع إلى الشذا والسفن، وانصرف فاجتاز في منصرفه بمدينة الخبيث، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بنهر الأتراك، فرأى أصحابه من قلة عدد الزنج في هذا الموضع من النهر ما طمعوا له فيمن كا هناك، فقصدوا نحوهم، وقد انصرف أكثر أصحابهم إلى المدينة الموفقية، فقربوا إلى الأرض، وصعدوا وأمنعوا في دخول تلك المسالك، وعلت جماعةٌ منهم السور، وعليه فريق من الزنج وأشياعهم، فقتلوا من أصابوا منهم هنالك، ونذر الفاسق بهم، فاجتمعوا لحربهم، وأنجد بعضهم بعضاً.
فلما رأى أبو العباس اجتماع الخبثاء وتحاشدهم وكثرة من ثاب إلى ذلك الموضع منهم، مع قلة عدد من هنالك من أصحابه، كر راجعاً إليهم فيمن كان معه في الشذا، وأرسل إلى الموفق يستمده، فوافاه لمعونته من خف لذلك من الغلمان في الشذا والسميريات، فظهروا على الزنج وهزموهم؛ وقد كان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أصحاب أبي العباس على الزنج، وغل في النهر مصاعداً في جمع كثير؛ فانتهى إلى النهر المعروف بعبد الله، واستدبر أصحاب أبي العباس وهم في حربهم، مقبلين على من بإزائهم ممن يحاربهم، فيمنعون في طلب من انهزم عنهم من الزنج. فخرج عليهم من ورائهم، وخفقت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم من جنده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى أبو العباس عن الباقين من أصحابه، فسلم أكثرهم فانصرف بهم؛ فأطعت هذه الوقعة الزنج وتباعهم، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور بجيشه أجمع لمحاربة الخبيث، وأمر أبا العباس وسائر القواد والغلمان بالتأهب للعبور، وأمر بجمع السفن والمعابر وتفريقها عليهم، ووقف على يوم بعينه أراد العبور فيه، فعصفت رياحٌ منعت من ذلك، واتصل عصوفها أياماً كثيرة؛ فأمهل الموفق حتى انقضى هبوب تلك الرياح، ثم أخذ في الاستعداد للعبور ومناجزة الفاجر.
فلما تهيأ له ما أراد من ذلك عبر يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين في أكثف جمع وأكمل عدة، وأمر بحمل خيل كثيرة في السفن، وتقدم إلى أبي العباس في المسير في الخيل ومعه جميع قواده الفرسان ورجالتهم، ليأتي الفجرة من ورائهم من مؤخر النهر المعروف بمنكى، وأمر مسروراً البلخي مولاه بالقصد إلى نهر ليضطر الخبيث بذلك إلى تفريق أصحابه، وتقدم إلى نصير المعروف بأبي حمزة ورشيق غلام أبي العباس وهو من أصحابه - وشذواته في مثل العدة التي فيها نصر - بالقصد لفوهة نهر أبي الخصيب والمحاربة لما يظهر من شذوات الخبيث، وقد كان استكثر منها، وأعد فيها المقاتلة وانتخبهم. وقصد أبو أحمد بجميع من معه لركن من أركان مدينة الخبيث قد كان حصنه بابنه المعروف بأنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناكية، وأعد فيه الناشبة وجمع فيه أكثر جيشه.

فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه: الناشبة والرامحة والسودان، بالدنو من الركن الذي فيه جمع الفسقة، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك؛ وهو نهر عريض غزير الماء. فلما انتهوا إليه أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور فعبروا سباحة، والفسقة يرمونهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، وبالسهام عن القسي الناوكية، وقسي الرجل وصنوف الآلات التي يرمى عنها؛ فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر، وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعد لهدمه. فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من سلاحهم ويسر الله ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت أعدت لذلك، فعلوا الركن، ونصبوا هنالك علماً من أعلام الموفق، وأسلم الفسقة سورهم، وخلوا عنه بعد أن حوربوا عليه أشد حرب، وقتل من الفريقين خلقٌ كثير، وأصيب غلامٌ من غلمان الموفق يقال له ثابت بسهم في بطنه فمات، وكان من قواد الغلمان وجلتهم.
ولما تمكن أصحاب الموفق من سور الفسقة، أحرقوا ما كان عليه من منجنيق وعرادة وقوس ناوكية، وخلوا عن تلك الناحية وأسلموها. وقد كان أبو العباس قصد بأصحابه في الخيل النهر المعروف بمكنى، فمضى علي بن أبان المهلبي في أصحابه، قاصداً لمعارضته ودفعه عما صمد له، والتقيا، فظهر أبو العباس عليه وهزمه، وقتل جميعاً كثيراً من أصحابه، وأفلت المهلبي راجعاً، وانتهى أبو العباس إلى الموضع الذي قدر أن يصل منه إلى مدينة الفاسق من مؤخر نهر منكى، وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهلٌ، فدخل إلى الخندق فوجده عريضاً ممتنعاً، فحمل أصحابه على أن يعبروه بخيولهم، وعبره الرجالة سباحةً حتى وافوا السور، فثلموا فيه ثلماً اتسع لهم منه الدخول فدخلوا، فلقي أوائلهم سليمان بن جامع، وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية لما انتهى إليه انهزام المهلبي عنها، فحاربوه، وكان إمام القوم عشرة من غلمان الموفق، فدافعوا سليمان وأصحابه؛ وهم خلق كثير، وكشفوهم مراراً كثيرة، وحاموا عن سائر أصحابهم حتى رجعوا إلى مواضعهم.
وقال محمد بن حماد: لما غلب أصحاب الموفق على الموضع الذي كان الفاسق حرسه بابنه والمذكورين من أصحابه وقواده، وشعثعوا من السور الذي أفضوا إليه ما أمكنهم تشعيثه، وافاهم الذين كانوا أعدوا للهدم بمعاولهم وآلاتهم، فثلموا في السور عدة ثلم، وقد كان الموفق أعد لخندق الفسقة جسراً يمد عليه، فمد عليه، وعبر جمهور الناس. فلما عاين الخبثة ذلك، ارتاعوا فانهزموا عن سور لهم ثان قد كانوا اعتصموا به، ودخل أصحاب الموفق مدينة الخائن، فولى الفاجر وأشياعه منهزمين، وأصحاب الموفق يتبعونهم ويقتلون من انتهوا منهم؛ حتى انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان، وصارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، وأحرقوا ما كان فيها وهدموها، ووقف الفجرة على نهر ابن سمعان وقوفاً طويلاً، ودافعوا مدافعة شديدة، وشد بعض غلمان الموفق على علي بن أبان المهلبي، فأدبر عنه هارباً فقبض على مئزره، فخلى عن المئزر، ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشفى على الهلكة، وحمل أصحاب الموفق على الزنج حملةً صادقة، فكشفوهم عن النهر المعروف بابن سمعان، حتى وافوا بهم طرف ميدان الفاسق، وانتهى إليه خبر هزيمة أصحابه ودخول أصحاب الموفق مدينته من أقطارها، فركب في جمع من أصحابه، فتلقاه أصحاب الموفق، وهم يعرفونه في طرف ميدانه، فحملوا عليه، فتفرق عنه أصحابه ومن كان معه وأفردوه، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه؛ وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق أصحابه بالرجوع إلى سفنهم، فرجعوا سالمين، قد حملوا من رءوس الخبثاء شيئاً كثيراً، ونالوا كلالذي أحبوا منهم من قتل وجراح وتحريق منازل وأسواق، وقد كان استأمن إلى أبي العباس في أول النهار عدد من قواد الفاجر وفرسانه، فاحتاج إلى التوقف على حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح شمال عاصف، وقوى الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين.

وحرض الخبيث أشياعه واستنجدهم، فبانت منهم جماعة، وشدوا على السفن المتخلفة، فنالوا منها نيلاً، وقتلوا فيها نفراً؛ وقد كان بهبوذ بإزاء مسرور البلخي وأصحابه في هذا اليوم في نهر الغربي، فأوقع بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر أسارى، وصارت في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك نشاط أصحاب الموفق. وقد كان الخبيث أخرج في هذا اليوم جميع شذواته إلى دجلة محاربين فيها رشيقاً، وضرب منها رشيق على عدة شذوات، وغرق منها وحرق، وانهزم الباقون إلى نهر أبي الخصيب.
وذكر أنه نزل في هذا اليوم بالفاسق وأصحابه ما دعاهم إلى التفرق والهرب على وجوههم نحو نهر الأمير والقندل وإبرسان وعبادان وسائر القرى، وهرب يومئذ أخوا سليمان بن موسى الشعراني: محمد وعيسى، فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الفاسق، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فآمنهم، ووجه إليهم السفن، فحملهم إلى الموفقية، وأمر أن يخلع عليهم، ويوصلوا، ويجري عليهم الأرزاق والأنزال، ففعل ذلك بهم.
وكان فيمن رغب في الأمان من جلة قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكانت له رياسة وقيادة، وكان يتولى حجبة ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس، فسلك النهر المعروف باليهودي؛ حتى وافى الموضع المعروف بالمطوعة، فألفى به ريحان ومن معه من أصحابه، وقد كان الموعد تقدم في موافاة ذلك الموضع زيرك ريحان ومن معه، فوافى بهم دار الموفق، فأمر لريحان بخلع وحمل على عدة من أفراس بآلتها، وأجيز بجائزة سنية، وخلع على أصحابه، وأحيزوا على أقدراهم، وضم إلى أبي العباس، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء الخبيث، فوقفوا هنالك في الشذا، فرفعوا خروج ريحان وأصحابه في الأمان، وما صاروا إليه من الإحسان، فأستامن في ساعتهم تلك من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا وغيرهم جماعة، فألحقوا في البر والإحسان بأصحابهم، وكان خروج ريحان بعد الوقعة التي كانت يوم الأربعاء في يوم الأحد لليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وستين ومائتين.
وفي هذه السنة أقبل محمد بن عبد الله الخجستاني يريد العراق بزعمه؛ حتى صار إلى سمنان، وتحصن منه أهل الري وحصنوا مدينتهم، ثم انصرف من سمان راجعاً إلى خراسان.
وفيها انصرف خلق كثير من طريق مكة في البدأة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات ممن مضى خلق كثير من شدة الحر، وكثير منهم من العطش، وذلك كله في البدأة، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذوا - فيما ذكر - منهم سبعمائة حمل بز.
وفيها اجتمع بالموسم عامل لأحمد بن طولون في خيله وعامل لعمرو بن الليث في خيله، فنازع كل واحد منهما صاحبه في ركز علمه على يمين المنبر في مسجد إبراهيم خليل الرحمن، وادعى كل واحد منهما أن الولاية لصاحبه، وسلا السيوف، فخرج معظم الناس من المسجد، وأعان موالي هارون ابن محمد من الزنج صاحب عمرو بن الليث، فوقف حيث أراد، وقصر هارون - وكان عامل مكة - الخطبة وسلم الناس، وكان المعروف بأبي المغيرة المخزومي حيئذ يحرس في جمعية.
وفيها نفي الطباع عن سامرا.
وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم ووزن الدينار منها عشرة دوانيق، ووزن الدرهم ثمانية دوانيق، عليه: " الملك والقدرة لله، والحول والقوة بالله، لا إله إلا الله محمد رسول الله: وعلى جانب منه: " المعتمد على الله باليمن والسعادة " وعلى الجانب الآخر " " الوافى أحمد بن عبد الله " .
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر استئمان جعفر بن إبراهيم إلى أبي أحمد الموفق

فمن ذلك ما كان من استئمان جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان إلى أبي أحمد الموفق في يوم الثلاثاء في غرة المحرم منها، وذكر أن السبب كان في ذلك الوقعة التي كانت لأبي أحمد في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين التي ذكرناها قبل؛ وهرب ريحان بن صالح المغربي من عسكر الفاجر وأصحابه ولحاقه بأبي أحمد، فنخب قلب الخبيث لذلك؛ وذلك أن السجان كان - فيما قيل - أحد ثقاته، فأمر أبو أحمد للسجان هذا بخلع وجوائز وصلات وحملان وأرزاق، وأقيمت له أنزال، وضم إلى أبي العباس، وأمره بحمله في الشذاة إلى إزاء قصر الفاسق؛ حتى رآه وأصحابه، وكلمهم السجان، وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم ما قد وقف عليه من كذبه وفجوره؛ فاستأمن في هذا اليوم الذي حمل فيه السجان من عسكر الخبيث خلق كثير من قواده الزنج وغيرهم، وأحسن إليهم، وتتابع الناس في طلب الأمان والخروج من عند الخبيث، ثم أقام أبو أحمد بعد الوقعة التي ذكرت أنها كانت لليلة بقيت من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين، لا يعبر إلى الخبيث لحرب، يجم بذلك أصحابه إلى شهر ربيع الآخر.
وفي هذه السنة صار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عامله محمد بن الليث عليها؛ فهزمه عمرو، واستباح عسكر، وأفلت محمد بن الليث في نفر، ودخل عمرو إصطخر، فانتهبها أصحابه، ووجه عمرو في طلب محمد بن الليث فظفر به، وأتى به أسيراً، ثم صار عمرو إلى شيراز فأقام بها.
وفي شهر ربيع الأول منها زلزلت بغداد لثمان خلون منه، وكان بعد ذلك ثلاثة أيام مطر شديد، ووقعت بها أربع صواعق.
وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه، فخرج إليه أبوه أحمد إلى الاسكندرية، فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها.
ذكر خبر عبور الموفق إلى مدينة الزنجولأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر، بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينة الموفقية، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه؛ حتى استأمن إليه خلق كثير من أصحابه؛ فلما أراد العبور إليها أمر - فيما ذكر - ابنه العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعاً من السور فيما بين النهر المعروف بمنكى والنهر المعروف بابن سمعان، وأمر صاعداً وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجرى كور، وتقدم إلى زيرك في مكانفته، وأمر مسروراً البلخي بالقصد لنهر الغربي، وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور، وتقدم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث. ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماد، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلم كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب أبي أحمد، وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، وفرقت بينهم السكك والفجاج، فانتهوا إلى أبعد من الموضع الذي كانوا وصلوا إليه في المرة التي قبلها، وحرقوا وقتلوا.
ثم تراجع أصحاب الخبيث، فشدوا على أصحاب أبي أحمد، وخرج كمناؤهم من نواح يهتدون لها ولا يعرفونها الآخرون، فتحير من كان داخل المدينة من أصحاب أبي أحمد، ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحو دجلة حتى وافاها أكثرهم، فمنهم من دخل السفينة، ومنهم من قذف نفسه في الماء، فأخذه أصحاب الشذا، ومنهم من قتل وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلاباً، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد بحضرة دار ابن سمعان، ومعهم راشد وموسى بن أخت مفلح، في جماعة من قواد الغلمان كانوا آخر من ثبت من الناس، ثم أحاط بهم الزنج وكثروهم، وحالوا بينهم وبين الشذا، فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا فركبوها.

وأقام نحو من ثلاثين غلاماً من الديلمة في وجوه الزنج وغيرهم، يحمون الناس، ويدفعون عنهم حتى سلموا، وقتل الثلاثون من الديلمة عن آخرهم، بعد ما نالوا من الفجار ما أحبوا، وعظم على الناس ما نالهم في هذه الوقعة، وانصرف أبو أحمد بمن معه إلى مدينته الموفقية، وأمر يجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وأمر بإحصاء المفقودين من أصحابه فأحصوا له، فأتى بأسمائهم، وأقر ما كان جارياً على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأو من حياطته خلف من أصيب في طاعته.
ذكر وقعة أبي العباس بمن كان يمد الزنج من الأعرابزفيها كانت لأبي العباس وقعة بقوم من الأعراب الذين كانوا يميرون الفاسق اجتاحهم فيها.
ذكر الخبر عن السبب الذي كانت من أجله هذه الوقعة

ذكر أن الفاسق لما خرب البصرة ولاها رجلاً من قدماء أصحابه يقال له أحمد بن موسى بن سعيد المعروف بالقلوص؛ فكان يتولى أمرها، وصارت فرصة للفاسق يردها الأعراب والتجار، ويأتونها بالمير وأنواع التجارات، ويحمل ما يردها إلى عسكر الخبيث، حتى فتح أبو أحمد طهيثا، وأسر القلوص، فولى الخبيث ابن أخت القلوص - يقال له ملك بن بشران - البصرة وما يليها. فلما نزل أبو أحمد فرات البصرة خاف الفاجر إيقاع أبي أحمد بمالك هذا، وهو يومئذ نازل بسيحان على نهر يعرف بنهر ابن عتبة. فكتب إلى مالك يأمره بنقل عسكره إلى النهر المعروف بالديناري، وأن ينفذ جماعة ممن معه لصيد السمك وإدرار حمله إلى عسكره، وأن يوجه قوماً إلى الطريق التي يأتي منها الأعراب من البادية، ليعرف ورود من يرد منهم بالمير، فإذا وردت رفقة من الأعراب خرج إليها بأصحابه، حتى يجمل ما تأتي به إلى الخبيث؛ ففعل ذلك مالك ابن أخت القلوص، ووجه إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما بالريان والآخر الخليل، كانا مقيمين بعسكر الخبيث، فنهض الخليل والريان وجمعا جماعة من أهل الطف، وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولاً أولاً إلى عسكر الخبيث في الزواريق الصغار التي تسلك بها الأنهار الضيقة والأرخنجان التي لا تسلكها الشذا والسميريات، فكانت مواد سمك البطيحة متصلة إلى عسكر الخبيث بمقام هذين الرجلين بحيث ذكرنا؛ واتصلت أيضاً مير الأعراب وما كانوا يأتون به من البادية، فاتسع أهل عسكره، ودام ذلك إلى أن استأمن إلى الموفق رجل من أصحاب الفاجر الذين كانوا مضمومين إلى القلوص، يقال له علي بن عمر، ويعرف بالنقاب، فأخبر بخبر مالك بن بشران ومقامه بالنهر المعروف بالديناري، وما يصل إلى عسكر الخبيث بمقامه هناك من سمك البطيحة وجلب الأعراب. فوجه الموفق زيرك مولاه في الشذا والسميرايات إلى الموضع الذي به ابن أخت القلوص، فأوقع به وبأهل عسكره، فقتل منهم فريقاً وأسر فريقاً، وتفرق أهل ذلك العسكر، وانصرف مالك إلى الخبيث مفلولاً، فرده الخبيث في جمع إلى مؤخر النهر المعروف باليهودي، فعسكر هنالك بموضع قريب من النهر المعروف بالفياض، فكانت المير تتصل بعسكر الخبيث مما يلي سبخة الفياض، فانتهى خبر مالك ومقامه بمؤخر نهر اليهودي ووقع المير من تلك الناحية إلى عسكر الفاجر إلى الموفق، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى نهر الأمير، والنهر المعروف بالفياض لتعرف حقيقة ما انتهى إليه من ذلك، فنفذ الجيش، فوافق جماعة من الأعراب يرأسهم رجل قد أورد من البادية إبلاً وغنماً وطعاماً، فأوقع بهم أبو العباس، فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، ولم يفلت من القوم إلا رئيسهم؛ فإنه سبق على حجر كانت تحته، فأمعن هرباً، وأخذ كل ما كان أولئك الأعراب أتوا به من الإبل والغنم والطعام؛ وقطع أبو العباس يد أحد الأسرى وأطلقه، فصار إلى معسكر الخبيث، فأخبرهم بما نزل به، فريع مالك بن أخت القلوص بما كان من إيقاع أبي العباس بهؤلاء الأعراب؛ فاستأمن إلى أبي أحمد، فأومن وحبى وكسى وضم إلى أبي العباس وأجريت له الأرزاق، وأقيمت له الأنزال. وأقام الخبيث مقام مالك رجلاً كان من أصحاب القلوص، ويقال له أحمد بن الجنيد وأمره أن يعسكر بالموضع المعروف بالدهرشير ومؤخر نهر أبي الخصيب، وأن يصير في أصحابه إلى ما يقبل من سمك البطيحة، فيحمله إلى عسكر الخبيث، وتأدى إلى أبي أحمد خبر أحمد بن الجنيد، فوجه قائداً من قواد الموالي يقال له الترمدان في جيش، فعسكر بالجزيرة المعروفة بالروحية، فانقطع ما كان يأتي إلى عسكر الخبيث من سمك البطيحة، ووجه الموفق شهاب بن العلاء ومحمد بن الحسن العنبريين في خيل لمنع الأعراب من حمل المير إلى عسكر الخبيث، وأمر بإطلاق السوق لهم بالبصرة، وحمل ما يريدون امتياره من التمر؛ إذ كان ذلك سبب مصيرهم إلى عسكر الخبيث، فتقدم شهاب ومحمد لما أمر به، فأقاما بالموضع المعروف بقصر عيسى؛ فكان الأعراب يوردون إليهما ما يجلبونه من البادية ويمتارون التمر مما قبلهما.

ثم صرف أبو أحمد الترمدان عن البصرة، ووجه مكانه قائداً من قواد الفراعنة، يقال له قيصر بن أرخوز إخشاد فرغانة، ووجه نصيراً المعروف بأبي حمزة في الشذا والسميريات، وأمره بالمقام بفيض البصرة ونهر دبيس وأن يخترق نهر الأبلة ونهر معقل ونهر غربي، ففعل ذلك.
قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد، قال: لما انقطعت المير عن الخبيث وأشياعه بمقام نصير وقيصر بالبصرة، ومنعهم الميرة من البطيحة والبحر بالشذا، صرفوا الحيلة إلى سلوك نهر الأمير إلى القندل، ثم سلوك المسيحي إلى الطريق المؤدية إلى البر والبحر؛ فكانت ميرهم من البر والبحر، وامتيارهم سمك البحر من هذه الجهة، فانتهى ذلك إلى الموفق، فأمر رشيقاً غلام أبي العباس باتخاذ عسكر بجويث بارويه في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء نهر الأمير، وأن يحفر له خندقاً حصيناً، وأمر أبا العباس أن يضم إلى رشيق من خيار أصحابه خمسة آلاف رجل وثلاثين شذاة، وتقدم إلى رشيق في ترتيب هذه الشذاة على فوهة نهر الأمير، وأن يجعل على كل خمس عشرة شذاة منها نوبة يلج فيها نهر الأمير، حتى ينتهي إلى المعترض الذي كان الزنج يسلكزنه إلى دبا والقندل والنهر المعروف بالمسيحي؛ فيكون هناك؛ فإن طلع عليهم من الخبثاء طالع أوقعوا به؛ فإذا انقضت نوبتهم انصرفوا وعاقبهم أصحابهم المقيمون على فوهة النهر ففعلوا مثل هذا الفعل فعسكر رشيق في الوضع الذي أمر بترتيبه به، فانقطعت طرق الفجرة التي كانوا يسلكونها إلى دبا والقندل والمسيحي؛ فلم يكن لهم سبيل إلى بر ولا بحر، فضاقت عليهم المذاهب، واشتد عليهم الحصار.
وفيها أوقع أخو شركب بالخجستاني وأخذ منه.
وفيها وثب ابن شبث بن الحسن، فأخذ عمر بن سيما والي حلوان.
وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبغ من عند عمرو بن الليث، وكان عمرو قد وجهه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فوجه عمرو مما صودر عليه ثلثمائة ألف دينار وهدية فيها خمسون منا مسكاً وخمسون مناً عنبراً، ومائتا من عوداً، وثلثمائة ثوب وشئ وغيره، وآنية ذهب وفضة ودواب وغلمان يقيمة مائتي ألف دينار؛ فكان ما حمل وأهدى بقيمة خمسمائة ألف دينار.
وفيها ولى كيغلغ الخليل بن ريمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيما وأخذهم بجريرة ابن شيث، فضمنوا له خلاص ابن سيما وإصلاح أمر ابن شيث.
ذكر خبر إيقاع رشيق بمن أعان الزنج من تميم

وفيها أوقع رشيق غلام أبي العباس بن الموفق بقوم من بني تميم، كانوا أعانوا الزنج على دخول البصرة وإحراقها؛ وكان السبب في ذلك أنه كان انتهى إليه أن قوماً من هؤء الأعراب قد جلبوا ميرة من البر إلى مدينة الخبيث؛ طعاماً وإبلاً وغنماً وأنهم في مؤخر نهر الأمير ينتظرون سفناً تأتيهم من مؤخر عسكر الفاجر تحملهم وما معهم. فسرى إليهم رشيق في الشذا فوافى الموضع الذي كانوا حلوا به وهو الهر المعروف بالإسحاقي فأوقع بهم وهم غادرون فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم وهو تجار كانوا خرجوا من عسكر الخبيث لجلب الميرة، وحوى ما كان معهم من أصناف المير والشاة والإبل والحمير التي كانوا عليها الميرة. فحمل الأسرى والرءوس في الشذا وفي سفن كانت معه إلى الموفقية، فأمر الموف فعلقت الرءوس في الشذ، وصلب الأسارى هنالك؛ وأظهر ما صار إلى رشيق وأصحابه، وطيف بذلك في أقطار العسكر، ثم أمر بالرءوس والأسارى فاجتيز بهم على عسكر الخبيث حتى عوفوا ما كان من رشيق من الإيقاع بجالبي المير إليهم، ففعل ذلك. وكان فيمن ظفر به رشيق رجل من الأعراب، كان يسفر بين صاحب الزنج والأعراب في جلب الميرة فأمر به الموفق فقطعت يده ورجله وألقي في عسكر الخبيث. ثم أمر بضرب أعناق الأسارى فضربت، وسوغ أصحاب رشيق ما أصابوا من أموالهم وأمر لرشيق بخلع وصلة، ورده إلى عسكره، فكثر المستأمنون إلى رشيق. فأمر أبو أحمد بضم من خرج منهم إلى رشيق إليه، فكثروا حتى كان كأكثر العساكر جمعاً، وانقطعت عن الخبيث وأصحابه المير من الوجوه كلها وانسد عليهم كل مسلك كان لهم، فأضر بهم الحصار وأضعف أبدانهم؛ فكان الأسير منهم يؤسر والمستأمن يستأمن، فسأل عن عهده بالخبز؛ فيعجب من ذلك؛ ويذكر أن عهده بالخبز مذ سنة وسنتين، فلما صار أصحاب الخائن إلى هذه الحال. رأى الموفق أن يتابع الإيقاع بهم، ليزيدهم بذلك ضراً وجهداً، فخرج إلى أبي أحمد في هذا الوقت في الأمان خلق كثير، واحتاج من كان مقيماً في حيز الفاسق إلى الحيلة لقوته، فنفرقوا في القرى والأنهار النائية عن معسكرهم في طلب القوت، فتأدى الخب بذلك إلى أبي أحمد، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان وعرفائهم بأن يقصدوا المواضع التي يعتادها الزنج، وأن يستميلوهم ويستدعوا طاعتهم، فمن أبى الدخول منهم في ذلك قتلوه وحملوا رأسه، وجعل لهم جعلاً؛ فحرصوا وواظبوا على الغدو والرواح؛ فكانوا لا يخلون في يوم من الأيام من جماعة يجلبونهم، ورءوس يأتون بها، وأسارى يأسرونهم.
قال محمد بن الحسن: قال محمد بن حماد: ولما كثر أسارى الزنج عند الموفق، أمر باعتراضهم، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه؛ وأحسن إليه، وخلطه بغلمانه السودان، وعرفهم ما لهم عنده من البر والإحسان، ومن كان منهم ضعيفاً لاحراك به، أو شيخاً فانياً لا يطيق حمل السح، أو مجروحاً جراحة قد أزمنته، أمر بأن يكسى ثوبين ويوصل بدراهم، ويزود ويحمل إلى عسكر الخبيث؛ فيلقى هناك بعد ما يؤمر بوصف ما عاين من إحسان الموفق إلى كل من يصير إليه؛ وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمناً ويأسره منهم، فتهيأ له من ذلك ما أراد من استمالة أصحاب صاحب الزنج؛ حتى استشعروا الميل إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته؛ وجعل الموفق وابنه أبو العباس يغاديان حرب الخبيث ومن معه، ويراوحانها بأنفسهما ومن معهما، فيقتلان ويأسران ويجرحان، وأصاب أبا العباس في بعض تلك الوقعات سهم جرحه فبرأ منه.
ذكر الخبر عن قتل بهبوذ بن عبد الوهابوفي رجب من هذه السنة قتل بهبوذ صاحب الخبيث.
ذكر الخبر عن سبب مقتله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35