كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما اجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل - وعبد المطلب في جوف الكعبة عند هبل يدعو الله - فخرج القدح على عبد اللله، فزادوا عشراً، فكانت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب في مكانه ذلك يدعو الله، ثم ضربوا فخرج السهم على عبد الله، فزادوا عشراً من الإبل، فكانت ثلاثين، ثم لم يزالوا يضربون بالقداح ويخرج القدح على عبد الله، فكلما خرج عليه زادوا من الإبل عشراً؛ حتى ضربوا عشر مرات، وبلغت الإبل مائة، وعبد المطلب قائم يدعو، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب. فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليه ثلاث مرات. فضربوا على الإبل وعلى عبد الله، وقام عبد المطلب يدعو فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية وعبد المطلب قائم يدعو، ثم عادوا الثالثة فضربوا، فخرج القدح على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله، فمر - فيما يزعمون - على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر؛ يقال لها أم قتال بنت نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إليه إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله ؟ قال: مع أبي، قالت: لك عندي مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع على الآن، قال: إن معي أبي ولا أستطيع خلافة ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة - ووهب يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً - فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً، وهي لبرة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، ويرة لأم حبيب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصي، وأم حبيب بنت أسد لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي. فزعموا أنه دخل عليها حين ملكها مكانه فوقع عليها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم خرج من عندها، حتى أتى المرأة التي عرضت عليهما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس ؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كنت تسمع من أخيها ورقة ابن نوفل، وكان قد تنصر واتبع الكتب، حتى أدرك، فكان فيما طلب من ذلك أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن أبيه إسحاق بن يسار؛ أنه حدث أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة بنت وهب بن هبد مناف بن زهرة، وقد عمل في طين له، وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل عنه ما كان به من ذلك، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم مر بإمرأته تلك، فقال: هل لك ؟ فقالت: لا، مررنت بي وبين عينيك غرة، فدعوتني فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها. فزعموا أن امراته تلك كانت تحدث أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت: فدعوته رجاء أن يكون بي، فأبى علي، ودخل على آمنة بنت وهب فأصابها؛ فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني علي بن حرب الموصلي، قال: حدثنا محمد بن عمارة القرشي، قال : حدثنا الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال : لما خرج عبد المطلب بعبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من خثعم، يقال: لها فاطمة بنت مر، متهودة من أهل تبالة، قد قرأت الكتب، فرأت في وجهه نوراً، فقالت له: يافتى، هل لك لك أن تقع على الآن وأعطيك مائة من الإبل ؟ فقال:
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم قال: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه، فمضى به، فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عنجها ثلاثاً ثم انصرف. فمر بالخثعمية فدعته نفسه إلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت ؟ فقالت: يافتى، إنى والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكنى رأيت في وزجهك نوراً فأردت أن يكون في، وأبى وزالله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدى ؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب، فأقمت عندها ثلاثاً؛ فأنشأت فاطمة بنت مر تقول:

إني رأيت مخيلةً لمعت ... فتلألأت بحناتم اقطر
فلمأتها نوراً يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر
فرجوتها فخراً أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهريةٌ سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري!؟
وقالت أيضاً:
بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه تعتركان
كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد ميثت له بدهان
ومل كل ما يحوي الفتى من تلاده ... لعزمٍ ولا ما فاته لتوان
فأجمل إذا طالبت أمراً فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يدٌ مقفعلةٌ ... وإما يدٌ مبسوطةٌ ببنان
ولما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخراً ما لذلك ثان
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا معمر وغيره، عن الزهري، أن عبد الله بن عبد المطلب كان أجمل رجال قريش، فذكر لآمنة بنت وهب جماله وهيئته، وقيل لها: هل لك أن تزوجيه فتزوجته آمنة بنت وهب، فدخل بها، وعلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه أبوه إلى المدينة في ميرة يحمل لهم تمراً، فمات بالمدينة، فبعث عبد المطلب ابنه الحارث في طلبه حين أبطأ، فوجده قد مات.
قال الواقدي: هذا غلط، والمجتمع عليه عندنا في نكاح عبد الله بن عبد المطلب ما حدثنا به عبد الله بن جعفر الزهري، عن أمر بكر بنت المسور، أن عبد المطلب جاء بابنه عبد الله، فخطب على نفسه وعلى ابنه، فتزوجا في مجلس واحد، فتزوج عبد المطلب هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وتزوج عبد الله ابن عبد المطلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: والثبت عندنا، ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشأم في عير لقريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة - وقيل التابعة - في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك، ليس بين أصحابنا في هذا اختلاف.
؟

ابن عبد المطلب
وعبد المطلب اسمه شيبة، سمي بذلك؛ لأنه فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه: كان في رأسه شيبة.

وقيل له عبد المطلب: وذلك أن أباه هاشماً كان شخص في تجارة له إلى الشأم، فسلك طريق المدينة إليها، فلما قدم المدينة نزل - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وفيما حدثت عن هشام ابن محمد عن أبيه. وفيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، ودخل حديث بعضهم في بعض، وبعضهم يزيد على بعض - على عمرو بن زيد بن لبيد الخزرجي، فرأى ابنته سلمى بنت عمرو - وأما ابن حميد فقال في حديثه عن سلمة، عن ابن إسحاق: سلمى بنت زيد بن عمرو - ابن لبيد بن حرام بن خداش بن جندب بن عدي بن النجار فأعجبته، فخطبها إلى أبيها عمرو، فأنكحه إياها، وشرط عليه ألا تلد ولداً إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهته قبل أن يبني بها، ثم انصرف راجعاً من الشأم، فبنى بها في أهلها بيثرب، فحملت منه. ثم ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها، ومضى إلى الشأم فمات بها بغزة، فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بيثرب سبع سنين أو ثماني سنين. ثم إن رجلاً من بني الحارث بن عبد مناة مر بيثرب، فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الحارثي: من أنت ؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة، قال للمطلب وهو جالس في الحجر: يا أبا الحارث، تعلم أني وجدت غلماناً ينتضلون بيثرب، وفيهم غلام إذا خسق قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال المطلب: والله لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به، فقال له الحارثي: هذه ناقتي بالفناء فاركبها، فجلس المطلب عليها، فورد يثرب عشاء، حتى أتى بني عدي بن النجار، فإذا غلمان يضربون كرة بين ظهري المجلس، فعرف ابن أخيه فقال للقوم: أهذا ابن هاشم ؟ قالوا: نعم، هذا ابن أخيك، فإن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه فإنها إن علمت لم تدعه، وحلنا بينك وبينه. فدعاه فقال: يابن أخي، أنا عمك، وقد أردت الذهاب بك إلى قومك - وأناخ راحلته - فما كذب أن جلس على عجز الناقة، فانطلق به، ولم تعلم به أمه حتى كان الليل، فقامت تدعو بحربها على ابنها، فأخبرت أن عمه ذهب به، وقدم به المطلب ضحوة، والناس في مجالسهم، فجعلوا يقولون: من هذا وراءك ؟ فيقول: عبد لي، حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم، فقالت: من هذا ؟ قال: عبد لي، ثم خرج المطلب حتى أتى الحزورة، فاشترى حلة فألبسها شيبة، ثم خرج به حين كان العشي إلى مجلس بني عبد مناف، فجعل بعد ذلك يطوف في سكك مكة في تلك الحلة، فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله: " هذا عبدي " حين سأله قومه، فقال المطلب:
عرفت شيبة والنجار قد جعلت ... أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
وقد حدثني هذا الحديث على بن حرب الموصلي، قال: حدثنيأبو معن عيسى - من ولد كعب بن مالك - عن محمد بن أبي بكر الأنصاري، عن مشايخ ألأنصار، قالوا: تزوج هاشم بن عبد مناف امرأةً من بني عدي بن النجار، ذات شرف، تشرط على من خطبها المقام بدار قومها، فتزوجت بهاشم، فولدت له شيبة الحمد، فربي في أخواله مكرماً، فبينا هو يناضل فتيان الأنصار إذ أصاب خصله، فقال: أنا ابن هاشم. وسمعه رجل مجتاز، فلما قدم مكة، قال لعمه المطلب بن عبد مناف: قد مررت بدار بنى قيلة، فرأيت فتىً من صفته ومن صفته ... يناضل فتيانهم، فاعتزى إلى أخيك، وما ينبغي ترك مثله في الغربة. فرحل المطلب حتى ورد المدينة، فأراده على الرحلة، فقال: ذاك إلى الوالدة، فلم يزل بها حتى أذنت له، وأقبل به قد أردفه، فإذا لقيه اللاقي وقال: من هذا يا يا مطلب ؟ قال: عبد لي، فسمي عبد المطلب. فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه، وسلمه إليه، فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح له، فاغتصبه إياه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قومه، فسألهم النصرة على عمه، فقالوا: لسنا بداخلين بينك وبين عمك، فلما رأى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم حال نوفل، وكتب في كتابه:
أبلغ بنى النجار إن جئتهم ... أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوماً إذا جئتهم ... هووا لقائي وأحبوا حسيس
فإن عمي نوفلاً قد أبى ... إلا التي يغضي عليها الخسيس

قال: فخرجأبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً، حتى أتى الأبطح، وبلغ عبد المطلب، فخرج يتلقاه، فقال: المنزل يا خال ! فقال: أما حتى ألقى نوفلاً فلا. قال: تركته جالساً في الحجر في مشايخ قريش، فأقبل حتى وقف على رأسه، ثم استل سيفه، ثم قال: ورب هذه البنية؛ لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف، قال: فإنى ورب هذه البنية أرد ركحه. فأشهد عليه من حضر، ثم قال: المنزل يا بن أختى، فأقام عنده ثلاثاً واعتمر، وأنشأ عبد المطلب يقول:
تأبى مازنٌ وبنو عديٍ ... ودينار بن تيم اللات ضيمي
وسادة مالك حتى تناهى ... ونكب بعد نوفل عن حريمي
بهم رد الإله علي ركحي ... وكانوا في التنسب دون قومي
وقال في ذلك سمرة بن عمير،أبو عمرو الكناني:
لعمري لأخوالٌ لشيبة قصرةً ... من أعمامه دنيا أبر وأوصل
أجابوا على بعدٍ دعاء ابن أختهم ... ولم يثنهم إذ جاوز الحق نوفل
جزى الله خيراً عصبةً خزرجيةً ... تواصوا على برٍ، وذو البر أفضل
قال: فلما رأى ذلك نوفل، حالف بنى عبد شمس كلها على بني هاشم. قال محمد بن أبي بكر: فحدثت بهذا الحديث موسى بن عيسى، فقال: يا بن أبي بكر، هذا شيء ترويه الأنصار تقرباً إلينا؛ إذ صير الله الدولة فينا ! عبد المطلب كان أعز في قومه من أن يحتاج إلى أن تركب بنو النجار من المدينة إليه .قالت: أصلح الله الأمير ! قد احتاج إلى نصرهم من كان خيراً من عبد المطلب. قال: وكان متكئاً فجلس مغضباً، وقال: من خير من عبد المطلب ! قلت: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت، وعاد إلى مكانه، وقال لبنيه: اكتبوا هذا الحديث من ابن أبي بكر.
وقد حدثت هذا الحديث في أمر عبد المطلب وعمه نوفل بن عبد مناف، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: حدثنا زياد بن علاقة التغلبي - وكان قد أدرك الجاهليه - قال: كان سبب بدء الحلف الذي كان بين بنى هاشم وخزاعة الذي افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه مكة، وقال: لتنصب هذه السحابة بنصر بني كعب؛ أن نوفل بن عبد مناف - وكان آخر من بقي من بني عبد مناف - ظلم عبد االمطلب بن هاشم بن عبد مناف على أركاح له - وهي الساحات - وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو النجارية من الخزرج، قال: فتنصف عبد المطلب عمه، فلم ينصفه، فكتب إلى أخواله:
يا طول ليلى لأحزاني وأشغالي ... هل من رسولٍ إلى النجار أخوالي !
ينبي عدياً وديناراً ومازنها ... ومالكاً عصمة الجيران عن حالي
قد كنت فيكم ولا أخشى ظلامة ذي ... ظلمٍ عزيزاً منيعاً ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني ... عن ذاك مطلبٌ عمي بترحال
وكنت ما كان حياُ ناعماً جذلاً ... أمشي العرضنة سحاباً لأذيالي
فغاب مطلبٌ في قعر مظلمةٍ ... وقام نوفل كي يعدو على مالي
أأن أرى رجلاً غابت عمومته ... وغاب أخواله عنه بلا وال
أنحى عليه ولم يحفظ له رحماً ... ما أمنع المرء بين العم والخال !
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه وما أنتم بخذال
ما مثلكم في بني قحطان قاطبةً ... حيٌ لجارٍ وإنعام وإفضال
أنتم ليانٌ لمن لانت عريكته ... سلمٌ لكم وسمام الأبلخ الغالي
قال: فقدم عليه منهم ثمانون راكباً، فأناخوا بفناء الكعبة، فلما رآهم نوفل بن عبد مناف، قال لهم: أنعموا صباحاً ! فقالوا له: لا نعم صباحك أيها الرجل ! أنصف ابن أختنا من ظلامته. قال: أفعل بالحب لكم والكرامة؛ فرد عليه الأركاح وأنصفه.
قال: فانصرفوا عنه إلى بلادهم. قال: فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا عبد المطلب بسر بن عمروٍ وورقاء بن فلان ورجلاً من رجالات خزاعة، فدخلوا الكعبة وكتبوا كتاباً.

وكان إلى عبد المطلب بعد مهلك عمه المطلب بن عبد مناف ما كان إلى من قبله من بني عبد مناف من أمر السقاية والرفادة، وشرف في قومه، وعظم فيهم خطره، فلم يكن يعدل به منهم أحد، وهوالذي كشف عن زمزم، بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها مدفوناً؛ وذلك غزالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما - فيما ذكر - حين أخرجت من مكة، وأسيافٌ قلعية، وأدراع، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته - فيما قيل - الكعبة. وكانت كنية عبد المطلب أبا الحارث، كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور كان اسمه الحارث، وهو شيبة.
ابن هاشمواسم هاشم عمرو؛ وإنما قيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكه وأطعمه، وله يقول مطرود بن كعب الخزاعي - وقال ابن الكلني: إنما قاله ابن الزبعري:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزوراً، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز.
وذكر أن هاشماً هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن ابيه، قال: كان هاشم، وعبد شمس - وهو أكبر ولد عبد مناف، والمطلب - وكان أصغرهم - أمهم عاتكة بنت مرة السلمية؛ ونوفل - وأمه واقدة - بني عبد مناف، فسادوا بعد أبيهم جميعاً، وكان يقال لهم المجبرون، قال: ولهم يقال:
يأيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف !
فكانوا أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم، أخذ لهم هاشم حبلاً من ملوك الشأم الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من ألأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجبر الله بهم قريشاً، فسموا المجبرين.
وقيل: إن عبد شمس وهاشماً توأمان، وأن أحدهما ولد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: حدثني معروف بن الخربوذ المكي، قال: حدثني رجل من آل عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف عن أبيه، قال: وقال وهب بن عبد قصي في ذلك - يعنى في إطعام هاشم قومه الثريد:
تحمل هاشمٌ ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض
أتاهم بالغرائز متأقاتٍ ... من أرض الشأم بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيمٍ ... وشاب الخبز باللحم الغريض
فظل القوم بين مكللاتٍ ... من الشيزى وحائرها يفيض
قال :فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان ذا مال - فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب، ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، ولم تدعه قريش وأحفظوه، قال: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق، تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. فرضي بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشماً عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.

حدثني الحارث قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام ابن محمد، قال: أخبرني رجل من بني كنانة، يقال له ابن أبي صالح، ورجل من أهل الرقة مولى بني أسد، وكان عالماً، قالا: تنافر عبد المطلب ابن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي، فأبى أن ينفر بينهما، فجعل بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي ابن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مذوداً !. فنفره عليه. فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكماً ! فكان أول من مات من ولد عبد مناف ابنه هاشم، مات بغزة من أرض الشأم، ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن، وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب.
ابن عبد منافواسمه المغيرة - وكان يقال له القمر من جماله وحسنه، وكان قصي يقول - فيما زعموا - : ولد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحداً بداري، وواحداً بنفسي؛ وهم عبد مناف وعبد العزى ابنا قصي - وعبد العزى والد أسد - وعبد الدار بن قصي، وعبد قصي بن قصي - درج ولده - وبرة بنت قصي؛ أمهم جميعاً حبَّى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: وكان يقال لعبد مناف القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه حبَّى دفعته إلى مناف - وكان أعظم أصنام مكة - تديناً بذلك، فغلب عليه عبد مناف، وهو كما قيل له:
كانت قريشٌ بيضةً فتفلقت ... فالمح خالصةٌ لعبد مناف
ابن قصيوقصي اسمه زيد؛ وإنما قيل له قصي، لأن أباه كلاب بن مرة كان تزوج أم قصي فاطمة بنت سعد بن سيل - واسم سيل خير - بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن جعثمة بن يشكر، من أزدشنوءة حلفاء في بني الديل، فولدت لكلاب زهرة وزيداً، فهلك كلاب وزيد صغير، وقد شب زهرة وكبر، فقدم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير ابن عذرة بن سعد بن زيد، أحد قضاعة، فتزوج - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق. وحدثت عن هشام بن محمد عن أبيه - فاطمة أم زهرة وقصي - وزهرة رجل قد بلغ، وقصي فطيم أو قريب من ذلك - فاحتملها إلى بلاده من أرض بني عذرة، من أشراف الشأم، فاحتملت معها قصياً لصغره، وتخلف زهرة في قومه، فولدت فاطمة بنت سعد بن سيل لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فكان أخاه لأمه، وكان لربيعة بن حرام ثلاثة نفر من امرأة أخرى؛ وهم حنّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجلهمة بن ربيعة. وشب زيد في حجر ربيعة، فسمي زيد قصياً لبعد داره عن دار قومه، ولم يبرح زهرة مكة، فبينا قصي بن كلاب بأرض قضاعة لا ينتمي - فيما يزعمون - إلا إلى ربيعة بن حرام، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء - وقد بلغ قصي، وكان رجلاً شاباً - فأنبه القضاعي بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك ونسبك فإنك لست منا ! فرجع قصي إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت والله يا بني أكرم منه نفساً ووالداً، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي، وقومك بمكة عند البيت الحرام، وفيما حوله. فأجمع قصيٌّ الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وكان رجلاً جليداً نسيباً، فخطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبىَّ بنت حليل ،فعرف حليل النسب ورغب فيه، فزوجه - وحليل يومئذ فيما يزعمون - يلي الكعبة وأمر مكة.

فأما ابن إسحاق، فإنه قال في خبره: فأقام قصي معه - يعين مع حليل - وولدت له ولده عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا بني قصي. فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه هلك حليل بن حبشية، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشاً فرعة إسماعيل بن إبراهيم، وصريح ولده، فكلم رجالاً من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فلما قبلوا منه ما دعاهم إليه وبايعوه عليه، كتب إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة بن حرام - وهو ببلاد قومه - يدعوه إلى نصرته، والقيام معه، فقام رزاح بن ربيعة في قضاعة، فدعاهم إلى نصر أخيه والخروج معه إليه، فأجابوه إلى ما دعاهم من ذلك.
وقال هشام في خبره: قدم قصي على أخيه زهرة وقومه، فلم يلبث أن ساد، وكانت خزاعة بمكة أكثر من بني النضر، فاستنجد قصي أخاه رزاحاً، وله ثلاثة إخوة من أبيه، من امرأة أخرى، فأقبل بهم وبمن أجابه من أحياء قضاعة، ومع قصيٍ قومه بنو النضر، فنفوا خزاعة، فتزوج قصي حبىَّ بنت حليل بن حبشية من خزاعة، فولدت له أولاده الأربعة، وكان حليل آخر من ولي البيت، فلما ثقل جعل ولاية البيت إلى ابنته حبىَّ، فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى أبي غبشان - وهو سليم بن عمرو بن بوىّ بن ملكان بن أفصى - فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة، فبلغنا - والله اعلم - أن خزاعة أخذتها العدسة، حتى كادت تفنيهم ،فلما رأت ذلك جلت عن مكة، فمنهم من وهب مسكنه، ومنهم من باع، ومنهم من أسكن، فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم بها، وجمع قبائل قريش، فأنزلهم أبطح مكة. وكان بعضهم في الشعاب ورءوس جبال مكة، فقسم منازلهم بينهم، فسمى مجمعاً، وله يقول مطرود - وقيل: إن قائله حذافة ابن غانم:
أبوكم قصىٌ كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
وملكه قومه عليهم.
وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن رزاحاً أجاب قصياً إلى ما دعاه إليه من نصرته، وخرج إلى مكة مع إخوته الثلاثة، ومن تبعه لذلك من قضاعة في حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصي، والقيام معه، قال: وخزاعة تزعم أن حليل بن حبشية أوصى بذلك قصياً، وأمره به حين انتشر له من ابنته من الأولاد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة والقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة، فعند ذلك طلب قصي ما طلب .
فلما اجتمع الناس بمكة وخرجوا إلى الموقف، وفرغوا من الحج ونزلوا منى، وقصي مجمع لما أجمع له، ومن تبعه من قومه من قريش وبني كنانة ومن معه من قضاعة، ولم يبق إلا أن ينفروا للصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة؛ وتجيزهم إذا نفروا من منى؛ إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار - ورجل من صوفة يرمي للناس، لا يرمون حتى يرمي - فكان ذوو الحاجات المعجلون يأتونه، فيقولون له: قم فارم حتى نرمي معك، فيقول: لا والله حتى تميل الشمس، فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل، يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك؛ ويقولن: ويلك قم فارم ! فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، هذا الحديث، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد.
فإذا فرغوا من رمي الجمار، وأرادوا النفر من منىً، أخذت صوفة بناحيتي العقبة، فحبسوا الناس، وقالوا: أجيزي صوفة، فلم يجز أحد من الناس حتى ينفذوا، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس، فانطلقوا بعدهم، فلما كان ذلك العام، فعلت ذلك صوفة كما كانت تفعل، قد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم، أتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه.

قال: وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه باداهم وأجمع لحربهم، وثبت معه؛ أخوه رزاح بن ربيعة بمن معه من قومه من قضاعة، وخرجت لهم خزاعة وبنو بكر وتهيئوا لحربهم، والتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ حتى كثرت القتلى من الفريقين جميعاً، وفشت فيهم الجراحة. ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، إلى أن يحكموا بينهم رجلاً من العرب فيما اختلفوا فيه، ليقضي بينهم، فحكموا يعمر بن عوف ابن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقضي بينهم بأن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصي ابن كلاب وبين الكعبة ومكة؛ فسمي يعمر بن عوف يومئذ الشداخ؛ لما شدخ من الدماء ووضع منها. فولي قصي البيت وأمر مكة وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، فكان قصيٌّ أول ولد كعب ابن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة أرباعاً بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم منمكة التي أصبحوا عليها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ويزعم الناس أن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، فسمته العرب مجمعاً لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي بن كلاب، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره؛ يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها؛ فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمناً بأمره ومعرفةً بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن راشد، عن أبيه، قال: سمعت السائب بن خباب صاحب المقصورة يحدث أنه سمع رجلاً يحدث عمر بن الخطاب - وهو خليفة - حديث قصي بن كلاب هذا وما جمع من أمر قومه، وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة؛ فلم يردد ذلك عليه ولم ينكره.

قال: فأقام قصي بمكة على شرفه ومنزلته في قومه لا ينازع في شيء من أمر مكة؛ إلا أنه قد أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه؛ وذلك لأنه كان يراه ديناً في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت صوفة، فصار ذلك من أمرهم إلى آل صفوان بن الحارث ابن شجنة وراثةً، وكانت عدوان على ما كانت عليه، وكانت النسأة من بنى مالك بن كنانة على ما كانوا عليه، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، فلم يزالوا على ذلك حتى قام الإسلام، فهدم الله به ذلك كله. وابتنى قصى داراً بمكة، وهي دار الندوة، وفيها كانت قريش تقضي أمورها، فلما كبر قصي ورق عظمه - وكان عبد الدار بكره هو، كان أكبر ولده، وكان - فيما يزعمون - ضعيفاً، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب وعبد العزى بن قصي وعبد بن قصي، فقال قصي لعبد الدار فيما يزعمون: أما والله لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك؛ لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاماً إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمورها إلا في دارك. فأعطاه داره، دار الندوة التى لا تقضي قريش أمراً إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والندوة والسقاية والرفادة - وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب، فيصنع به طعاماً للحاج يأكله من لم تكن له سعة ولا زاد ممن يحضر الموسم؛ وذلك أن قصياً فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شراباً وطعاماً أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاماً للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا؛ فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى حتى ينقضي الحج.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال: حدثني من أمر قصي ابن كلاب وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه ابن إسحاق بن يسار، عن أبيه، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: سمعته يقول ذلك لرجل من بنى عبد الدار، يقال له نبيه بن وهب بن عامر بن عكرمة بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار. قال الحسن بن محمد: فجعل إليه قصي ما كان بيده من أمر قومه كله، وكان قصي لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه.
ثم إن قصياً هلك، فأقام أمره في قومه من بعده بنوه.
ابن كلابوأم كلاب - فيما ذكر - هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وله أخوان من أبيه من غير أمه، وهما تيم ويقظة، أمهما - فيما قال هشام بن الكلبي - أسماء بنت عدي بن حارثة ابن عمرو بن عامر بن بارق.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمهما هند بنت حارثة البارقية. قال: ويقال: بل يقظة لهند بنت سرير، أم كلاب.
ابن مرةوأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأخواه لأبيه وأمه عدي وهصيص. وقيل إن أم هؤلاء الثلاثة مخشية. وقيل: إن أم مرة وهصيص مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وأم عدي رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان.
ابن كعبوأم كعب ماوية - فيما قال ابن إسحاق وابن الكلبي - وماوية بنت كعب ابن القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وله أخوان من أبيه وأمه: أحدهما يقال له عامر، والآخر سامة، وهم بنو ناجية، ولهم من أبيهم أخ قد انتمى ولده إلى غطفان ولحقوا بهم، كن يقال له: عوف، أمه الباردة بنت عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان.
ذكر أن الباردة لما مات لؤي بنت غالب خرجت بإبنها عوف إلى قومها، فتزوجها سعد بن ذيبان بن بغيض، فتبنى عوفاً، وفيه يقول - فيما ذكر - فزارة بن ذيبان:
عرج على ابن لؤيٍ جملك ... يتركك القوم ولا منزل لك

ولكعب أخوان آخران أيضاً من أبيه من غير أمه، أحدهما خزيمة، وهو عائذة قريش، وعائذة أمه، وهي عائذة بنت الخمس بن قحافة، من خثعم، والآخر سعد. ويقال لهم بنانة، وينانة أمهم؛ فأهل البادية منهم اليوم - فيما ذكر - في بنى أسعد بن همام، في بنى شيبان بن ثعلبة؛ وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش.
ابن لؤيوأم لؤي - فيما قال هشام - عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أولى العواتك اللائي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، وله أخوان من أبيه وأمه، يقال لأحدهما: تيم، وهو الذي كان يقال له تيم الأدرم - والدرم نقصان في الذقن؛ قيل أنه كان ناقص اللحى - وقيس، قيل: لم يبق من قيس أخي لؤي أحد، وإن آخر من كان بقى منهم رجل هلك في زمان خالد بن عبد الله القسري، فبقى ميراثه، لا يدري من يستحقه. وقد قيل: إن أم لؤي وإخوته سلمى بنت عمرو بن ربيعة، وهو لحى بن حارثة ابن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، من خزاعة.
ابن غالبوأم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة. وإخوته من أبيه وأمه: الحارث، ومحارب، وأسد، وعوف، وجون؛ وذئب، وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر، فدخلت الحارث الأبطح.
ابن فهروفهر - فيما حدثت عن هشام بن محمد أنه قال: هو جماع قريش، قال: وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي.
وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أمه جندلة بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول - فيما ذكر عنه - أمه سلمى بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.
وقيل: إن أمه جميلة بنت عدوان من بارق، من الأزد.
وكان فهر في زمانه رئيس الناس بمكة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - و في حربهم حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري. وكان حسان - فيما أقبل - أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، فأقبل حتى نزل بنخلة، فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق وهاب أن يدخل مكة؛ فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وخزيمة وأسد وجزام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك ،فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة - فيمن قتل من الناس - ابن ابنه قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسيراً ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به ، فمات بين مكة واليمن.
ابن مالكوأمه عكرشة بنت عدوان، وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان، في قول هشام.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: أمه عاتكة بنت عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان.
وقيل: إن عكرشة لقب عاتكة بنت عدوان، واسمها عاتكة.
وقيل إن أمه هند بنت فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان. وكان لمالك أخوان، يقال لأحدهما: يخلد، فدخلت يخلد في بنى عمرو بن الحارث ابن مالك بن كنانة، فخرجوا من جماع قريش. والآخر منهما يقال له: الصلت، لم يبق من ذريته أحد.
وقيل: سميت قريش قريشاً بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة؛ وبه سميت قريش قريشاً، لأن عير بنى النضر كانت إذا قدمت قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل بنى النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدراً، احتفر بدراً، قالوا: فبه سميت البئر التي تدعى بدراً، بدراً.
وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا أم ولا حاضن ولا حاضنة.
وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر بن كنانة قريشاً؛ لأن النضر بن كنانة خرج يوماً على نادى قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جملٌ قريش.
وقيل: إنما سميت قريش قريشاً بدابة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها؛ لأنها أعظم دواب البحر قوة.
وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس فيسدها بماله، والتقريش - فيما زعموا - التفتيش: وكانوا بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم - واستشهدوا لقولهم: إن التقريش هو التفتيش، يقول الشاعر:
أيها الناطق المقرش عنا ... عند عمروٍ فهل لهن انتهاء !

وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشاً. وقيل: بل لم تزل بنو النضر ابن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب، فقيل لهم: قريش؛ من اجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر، أي تجمعوا.
وقيل: إنما قيل قريش، من أجل أنها تقرشت عن الغارات.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم؛ أن عبد الملك بين مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشاً ؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت أن قصياً كان يقال له القرشي، ولم تسم قريش قبله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالاً جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سمى به .
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي جهم، قال: النضر بن كنانة كان يسمى القرشي.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال محمد بن عمر: وقصي أحدث وقود النار بالمزدلفة، حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فأخبرني كثير بن عبد الله المزني، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانت تلك النار توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان. قال: محمد بن عمر: وهي توقد إلى اليوم.
ابن النضرواسم النضر قيس، وأمه برة بنت مر بن أد بن طابخة. وإخوته لأبيه وأمه نضير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف وغنم ومخرمة وجرول وغزوان وحدال. وأخوهم من أبيهم عبد مناة، وأمه فكيهة - وقيل فكهة - وهي الذفراء بنت هنى بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وأخو عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن عمرو بن مازن الغساني، وكان عبد مناة بن كنانة تزوج هنداً بنت بكر بن وائل، فولدت له ولده، ثم خلف عليها أخوه لأمه علي بن مسعود، فولدت له، فحضن علي بنى أخيه، فنسبوا إليه، فقيل لبنى عبد مناة: بنو علي، وإياهم عنى الشاعر بقوله:
لله در بنى عل ... يٍ أيمٍ منهم وناكح
وكعب بن زهير بقوله:
صدموا علياً يوم بدرٍ صدمةً ... دانت عليٌ بعدها لنزار
ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود، فقتله، فواده أسد بن خزيمة.
ابن كنانةوأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان. وقد قيل: إن أمه هند بنت عمرو بن قيس، وإخوته من أبيه أسد وأاسدة، يقال إنه أبو جذام والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة، وهي أم النضر بن كنانة؛ خلف عليها بعد أبيه.
ابن خزيمةوأمه سلمى بنت سليم بن الحاف بن قضاعة، وأخوه لأبيه وأامه هذيل، وأخوهما لأمهما تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
وقد قيل: إن أم خزيمة وهذيل سلمى بنت أسد بن ربيعة.
ابن مدركةواسمه عمرو، وأمه خندف، وهي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة، وأمها ضرية بنت ربيعة بن نزار. قيل: بها سمى حمى ضرية، وإخوة مدركة لأبيه وأمه عامر - وهو طابخة - وعمير - وهو قمعة - ويقال: إنه أبو خزاعة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق أنه قال: أم بنى إلياس خندف، وهي امراة من أهل اليمن، فغلبت على نسب نبيها، فقيل: بنو خندف.
قال: وكان اسم مدركة عامراً، واسم طابخة عمراً. قال: وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيداً، فقعدا عليه يطبخانة، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أدترك الإبل أو تطبخ هذا الصيد ؟ فقال عمرو: بل أطبخ الصيد، فلحق عامر الإبل، فجاء بها، فلما راحا على أبيهما، فحدثاه بشأنهما، قال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة.

وحدثت عن هشام بن محمد، قالوا: خرج إلياس في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، فسمى مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمى طابخة، وانقمع عمير في الخباء فلم يخرج فسمى قمعة، وخرجت أمهم تمشي فقال لا: إلياس أين تخندفين ؟ فسميت خندف - والخندفة ضرب من المشي - قال: وقال قصي بن كلاب:
أمهتى خندف وإلياس أبى
قال: وقال إلياس لعمرو ابنه:
إنك قد أدركت ما طلبتا
ولعامر:
وأنت قد أنضجت ما طبختا
ولعمير: وانت قد اسأت وانقمعتا
ابن إلياسوأمه الرباب بنت حيدة بن معد، وأخوه لأبيه وأمه الناس، وهو عيلان، وسمى عيلان - فيما ذكر - لأنه كان يعاتب على جوده، فيقال له لتغلبن عليك العيلة يا عيلان، فلزمه هذا الاسم.
وقيل: بل سمى عيلان بفرس كانت له تدعى عيلان.
وقيل: سمى بذلك؛ لأنه ولد في جبل يسمى عيلان.
وقيل: سمى بذلك لأنه حضنه عبدٌ لمضر يدعى عيلان.
ابن مضروأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأامه إياد، ولهما أخوان من أبيهما من غير أمهما، وهما ربيعة وأنمار؛ أمهما جدالة بنت وعلان بن جوشم ابن جلهمة بن عمرو، من جرهم.
وذكر بعضهم أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه، وقسم ماله بينهم، فقال: يا بنى، هذه القبة - وهي قبة من أدم حمراء - وما أشبهها من مالى لمضر، فسمى مضر الحمراء. وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من مالى لربيعة، فخلف خيلادهما، فسمى الفرس. وهو الخادم وما أشبهها من مالى لإياد - وكانت شمطاء - فأخذ البلق والنقد من غنمه. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فأخذ أنمار ما أصابه. فإن أشكل عليكم في ذلك شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي. فاختلفوا في القسمة، فتوجهوا إلى الأفعى؛ فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعى، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال ربيعة: هو أزور، قال: إياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود؛ فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور ؟ قال: نعم، قال ربيعة: هو أزور ؟ قال: نعم، قال إياد: هو أبتر ؟ قال: نعم، قال أنمار: هو شرود ؟ قال: نعم، قال: هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له: ما رأوه، فلزمهم وقال: وكيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته ! فساروا جميعاً حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجرهمي، فنادى صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري، وصفوا لي صفته ثم قالوا: لم نره. فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه ؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والآخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: عرفت أنه أبتر بإجتماع بعره ، ولو كان ذيالاً لمصع به وقال أنمار: عرفت أنه شرود؛ لأنه يرعى المكان الملتف نبته، ثم يجوزه إلى مكان آخر أرق منه نبتاً وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه، ثم سألهم: من هم ؟ فأخبروه، فرحب بهم فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى ! فدعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وشربوا وشرب، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً أجود، لولا أنها نبتت على قبر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه ربى بلبن كلب، وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي يدعى له. وقال أنمار: لم أر كاليوم قط كلاماً أنفع في حاجتنا من كلامنا.
وسمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم، وأتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل بها، فوطئها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة، ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها. فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر ؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد. وقيل لربيعة: بم عرفت ؟ فذكر كلاماً.
فأتاهم الجرهمي، فقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم، فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل - وهي حمر - لمضر، وقضى بالخباء الأسود وبالخيل الدهم لربيعة، وقضى بالخادم - وكانت شمطاء - وبالخيل البلق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار.
ابن نزار

وقيل إن نزاراً كان يكنى أبا إياد. وقيل: بل كان يكنى أبا ربيعة، أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو، وإخوته لأبيه وأمه، قنص، وقناصة، وسنام، ووحيدان، وحيدة، وحيادة، وجنيد، وجنادة، والقحم، وعبيد الرماح، والعرف، وعوف، وشك، وقضاعة؛ وبه كان معد يكنى ، وعدة درجوا.
ابن معدوأم معد - فيما زعم هشام - مهدد بنت اللهم - ويقال: اللهم - ابن جلحب بن جديس. وقيل: ابن طسم. وقيل: ابن الطوسم، من ولد يقشان بن إبراهيم خليل الرحمن.
حدثنا الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال : حدثنا هشام بن محمد، قال حدثني محمد بن عبد الرحمن العجلاني: وإخوته من أبيه وأمه الديث - وقيل: إن الديث هو عك. وقيل: إن عكا هو ابن الديث ابن عدنان - وعدن بن عدنان، فزعم بعض أهل الأنساب أنه صاحب عدن؛ وإليه تنسب،، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا، وأبين - وزعم بعضهم أنه صاحب أبين وأنها إليه تنسب، وأن أهلها كانوا ولده فدرجوا - وأد بن عدنان درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد.
وقال بعض النسابة: كان عك انطلق إلى سمران من أرض اليمن، وترك أخاه معداً، وذلك أن أهل حضور لما قتلوا شعيب بن ذي مهدم الحضورى، بعث الله عليهم بختنصر عذاباً، فخرج أرميا وبرخيا، فحملا معداً، فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة، فوجد معد إخوته وعمومته من بنى عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، وتعطفت عليهم اليمن بولادة جرهم إياهم، واستشهدوا في ذلك قول الشاعر:
تركنا الديث إخوتنا وعكا ... إلى سمران فانطلقوا سراعا
وكانوا من بنى عدنان حتى ... أضاعوا الأمر بينهم، فضاعا
ابن عدنانولعدنان أخوان لأبيه: يدعى أحدهما نبتاً والآخر منهما عمراً، فنسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان، وأنه على ما بينت من نسبه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود وغيره، عن نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد. ثم يختلفون فيما بعد ذلك.
وقال الزبير بن بكار: حدثني يحيى بن المقداد الزمعي، عن عمه موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن عمته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " معد ابن عدنان بن أدد بن زند بن يرى بن أعراق الثرى " .، قالت أم سلمة: فزند هو الهميسع، ويرى وهو نبت، وأعراقا الثرى هو إسماعيل بن إبراهيم.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن العجلاني، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن جدتها ابنة المقداد بن الأسود البهراني، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معد بن عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى.
وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد عن سلمة بن الفضل عنه عدنان - فيما يزعم بعض النساب - بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح ابن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم.
وبعض يقول: بل عدنان بن أدد بن أيتحب بن أيوب بن فيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.
قال: وقد انتمى قصى بن كلاب إلى قيذر في شعر.
قال: ويقول بعض النساب: بل عدنان بن ميدع بن منيع بن أدد بن كعب بن يشجب بن يعرب بن الهميسع بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: وذلك أنه علم قديم أخذ من أهل الكتاب الأول.
وأما الكلبي محمد بن السائب فإنه - فيما حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، عن هشام - قال: أخبرني مخبرٌ عن أبي ولم اسمعه منه؛ أنه كان ينسب معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن بوز بن قموال ابن أبي بن العوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم ابن تاحش بن ماخى بن عبقى بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر ابن يثربى بن يحزن بن يلحن بن ارعوى بن عيفي بن ديشان بن عيصر بن أقناد ابن إيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن شمي بن مزى بن عوص بن عرام ابن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم؛ صلوات الله عليهما.

حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: وكان رجل من أهل تدمر، يكنى أبا يعقوب، من مسلمة بنى إسرائيل، قد قرأ من كتبهم، وعلم علماً، فذكر أن بروخ بن ناريا كاتب أرميا، أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهم من قبل اللغة، لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية. قال الحارث: قال محمد بن سعد: وأنشدني هشام، عن أبيه شعر قصي:
فلست لحاضنٍ إن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت
قال: أراد نبت بن إسماعيل.
وقال الزبير بن بكار: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، عن زكرياء ابن عيسى، عن ابن شهاب، قال: معد بن عدنان بن أد بن الهميسع بن أسحب بن نبت بن قيذار بن إسماعيل.
وقال بعضهم: هو معد بن عدنان بن أدد بن أمين بن شاجب بن ثعلبة بن عتر بن دريح بن محلم بن العوام بن المحتمل بن رائمة بن العيقان بن علة بن الشحدود بن الظريب بن عبقر بن إبراهيم بن إسماعيل ابن يزن بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور بن عتود بن دعدع بن محمود بن الزائد بن ندوان بن أتامة بن دوس بن حصن بن النزال بن القمير ابن المجشر بن معدمر بن صيفي بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن .
وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن يقدر بن يقدم بن هميسع بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.
وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أد بن الهميسع بن نبت بن سلمان - وهو سلامان - ابن حمل بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.
وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أدد بن المقوم بن ناحور بن مشرح ابن يشجب بن مالك بن أيمن بن النبيت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.
وقال آخرون: هو معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن أسحب ابن سعد بن دريح بن نضير بن حميل بن منحم بن لافث بن الصابوح بن كنانة ابن العوام بن نبت بن قيذر بن إسماعيل.
وأخبرني بعض النساب أنه وجد طائفة من علماء العرب قد حفظت لمعد أربعين أبا بالعربية إلى إسماعيل، واحتجت لقولهم ذلك بأشعار العرب، وأنه قابل بما قالوا من ذلكك ما يقول أهل الكتاب، فوجد العدد متفقاً، واللفظ مختلفاً، وأملى ذلك علي فكتبته عنه، فقال: هو معد بن عدنان بن أدد بن هميسع - وهميسع هو سلامان وهو أمين - ابن هميتع - وهو هميدع وهو الشاجب ابن سلامان - وهو منجر، وهو نبيت؛ سمي بذلك - فيما زعم - لأنه كان منجر العرب؛ لأن الناس عاشوا في زمانه، واستشهد لقوله ذلك بقول قعنب بن عتاب الرياحي:
تناشدني طيٌ وطيٌ بعيدة ... وتذكرني بالود أزمان ينبت

قال: نبيت بن عوص - وهو ثعلبة. قال: وإليه تنسب الثعلبية - ابن بورا - وهو بوز وهو عتر العتائر، وأول من سن العتيرة للعرب - ابن شوحا وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب - ابن يعمانا - وهو قموال، وهو دريح الناصب، وكان ففي عصر سليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم - ابن كسدانا - وهو محلم ذو العين - ابن حرانا - وهو العوام - ابن بلداسا - وهو المحتمل - ابن بدلانا - وهو يدلاف، وهو رائمة - ابن طهبا - وهو طالب، وهو العيقان - ابن جهمي - وهو جاحم، وهو علة - ابن محشى - وهو تاحش، وهو الشحدود - ابن معجالي - وهو ماخي، وهو الظريب خاطم النار - ابن عقارا - وهو عافى، وهو عبقر أبو الجن، قال: وإليه تنسب جنة عبقر - ابن عاقارى - وهو عاقر، وهو إبراهيم جامع الشمل. قال: وإنما سمى جامع الشمل لأنه أمن في ملكه كل خائف، ورد كل طريد، واستطلح الناس - ابن اللداعي - وهو ابن الدعا، وهو إسماعيل ذو المطابخ ،سمي بذلك لأنه حين ملك أقام بكل بلدة من بلدان العرب دا ر ضيافة - ابن اللداعي - وهو عبيد وهو يزن الطعان، وهو أول من قاتل بالرماح ،فنسبت إليه - ابن همادى وهو حمدان، وهو إسماعيل ذو الأعوج وكان فرساً له، وإليه تنسب الأعوجية من الخيل - ابن بشماني - وهو بشين وهو المطعم في المحل - ابن بثراني - وهو بثرم، وهو الطمح - ابن بحراني - وهو يحزن، وهو القسور - ابن يلحاني، وهو يلحن، وهو العنود - ابن رعواني - وهو رعوى، وهو الدعدع - ابن عاقارى - وهو عاقر - ابن داسان، وهو الزائد - ابن عاصار - وهو عاصر، وهو النيدوان ذو الأندية، وفي ملكه تفرق بنو القاذور وهو القادور. وخرج الملك من ولد النبيت بن القادور إلى بنى جاوان - ابن القادور ثم رجع إليهم ثانية - ابن قنادى - وهو قنار، وهو إيامة بن ثامار، وهو بهامى، وهو دوس العتق، وهو دوس أجمل الخلق، زعم في زمانه، فلذلك تقول العرب: أعتق من دوس لأمرين: أما أحدهما فلحسنه وعتقه، والآخر لقدمه، وفي ملكه أهلكت جرهم بن فالج وقطورا، وذلك أنهم بغوا في الحرم، فقتلهم دوس، وأتبع الذر آثار من بقى منهم، فولج في أسماعهم فأفناهم - ابن مقصر - وهو مقاصرى، وهو حصن، ويقال له: ناحث، وهو النزال بن زارح، وهو قمير - ابن سمى - وهو سما، وهو المجشر، وكان - فيما زعم - أعدل ملك ولى وأحسنة سياسة، وفيه يقول أمية بن أبي الصلت لهرقل ملك الروم:
كن كالمجشر إذ قالت رعيته ... كان المجشر أوفانا بما حكملا
ابن مزرا - ويقال مرهر - ابن صنفا، وهو السمر، وهو الصفي، هو أجود ملك رئى على وجه الأرض، وله يقول أمية بن أبي الصلت:
إن الصفي بن النبيت مملكاً ... أعلى وأجود من هرقل وقيصرا
ابن جعثم - وهو عرام، وهو النبيت، وهو قيذر، قال: وتأويل قيذر صاحب ملك، كان أول من ملك من ولد إسماعيل - ابن إسماعيل صادق الوعد، ابن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح - وهو آزر - ابن ناحور بن ساروع بن أرغوا ابن بالغ - وتفسير بالغ القاسم بالسريانية، لأنه الذي قسم الأرضين بين ولد آدم، وبالغ، فهو فالج بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم - ابن يرد - وهو يارد الذي عملت الأصناكم في زمانه - ابن مهلائيل بن قينان بن أنوش ابن شيث - وهو هبة الله ابن آدم عليه السلام. وكان وصى أبيه بعد مقتل هابيل، فقال: هبة الله بن هابيل، فاشتق اسمه من اسمه.
وقد مضى من ذكرنا الأخبار عن إسماعيل بن إبراهيم وآبائه وأمهاته فيما بينه وبين آدم، ومما كان من الأخبار والأحداث في كل زمان من ذلك بعض ما انتهى إلينا، بوجيز من القول مختصر، في كتابنا هذا، فكرهنا إعادته.
وحدثت عن هشام بن محمد قال: كانت العرب تقول: إنما خدش الخدوش منذ ولد أبونا أنوش؛ وإنما حرم الحنث، منذ ولد أبونا شث؛ وهو بالسريانية شيث.
ونعود الآن إلى:
ذكر رسول الله

صلى الله عليه وسلم وأسبابه

فتوفى عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين؛ كذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: وكان عبد المطلب يوصي برسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وذلك أن أبا طالب، وعبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا لأم، فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان يكون معه. ثم إن أبا طالب خرج في ركب من قريش إلى الشام تاجراً، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير ضب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب، فقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً، أو كما قال. فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشأم، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة مذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب - فيما يزعمون - يتوارثونه كابراً عن كابر. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته، عليه غمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتصهرت أغصان الشجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى، نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فدعاهم جميعاً، فلما رأى بحيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته.
فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء في حاله، في يقظته وفي نومه، فجعل رسول الله صلى الله عله وسلم يخبره فيجدها بحيرى موافقةً لما عنده من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرى لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني، فقال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك، واحذر عليه يهود؛ فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنه شراً. فإنه كائن له شأن عظيم. فأسرع به إلى بلده. فخرج به عمه سريعاً حتى أقدمه مكة.
وقال هشام بن محمد: خرج أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى من أرض الشأم؛ وهو ابن تسع سنين.
حدثني العباس بن محمد؛ قال: حدثنا أبو نوح، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشأم، وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب - وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت.
قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين. هذا رسول رب العالمين؛ هذا يبعثه الله رحمةً للعالمين. فقال له أشياخ قريش: ما علمك ؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم تبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً؛ ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم الننبوة، أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به كان هو في رعية الإبل.
قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة، فقال: انظروا إليه؛ عليه غمامة تظله ! فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فىء الشجرة، فلما جلس مال لىء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فىء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم؛ وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم؛ فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه؛ فالتفت فإذا بسبعة نفرٍ قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم ؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر؛ فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس، وإنا اخترنا خيرةً، بعثنا إلى طريقك هذا؛ قال لهم: هل خلفتم خلفكم أحداً هو خيرٌ منكم ؟ قالوا: لا، إنما اخترنا خيرة لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده ! قالوا: لا؛ فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتام، فقال: أنشدكم الله، أيكم وليه ؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلالاً، وزدوه الراهب من الكعك والزيت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن علي، عن جده على بن أبي طالب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما هممت بشيءٍ مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك.
ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته؛ فإني قد قلت ليلةً لغلامٍ من قريش كان يرعة معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب ! فقال: أفعل؛ فخرجت أريد ذلك؛ حتى جئت أول دارٍ من دور مكة، سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا ؟ قتالوا: فلان ابن فلان تزوج بفلانة بنت فلان.
فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس؛ قال: فجئت صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ قلت ما صنعت شيئاً، ثم أخبرته الخبر. قال: ثم قلت له ليلةً أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت حين دخلت مكة تلك الليلة؛ فجلست أنظر، فضرب الله على أذني؛ فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس؛ فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته.
ذكر تزويج النبي خديجةقال هشام بن محمد: نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة؛ وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، قال: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة تاجرةً، ذات شرف ومال، تستتجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريشٌ قوماً تجاراً؛ فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكم أخلاقه؛ بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشأم تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار؛ مع غلامٍ لها يقال له ميسرة.
فقبله منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في مالها ذلك؛ وخرج معه غلامها ميسرة؛ حتى قدما الشأم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة ؟ فقال له ميسرة: هذا رجلٌ من قريش، من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول اله صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة؛ ومعه ميسرة.
فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظللانه من الشمس، وهو يسير على بعيرة. فلما قدم مكة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف، أو قريباً من ذلك. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعما كان يرى من إظلال الملكين إياه - وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة؛ مع ما أراد الله بها من كرامته - فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له - فيما يزعمون - : يا بن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً؛ كل قومهما كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليها.
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطلب عمه؛ حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها، فولدت له ولده كلهم إلا إبراهيم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم - وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم - والطاهر والطيب. فأما القاسم والطتاهر والطيب؛ فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا معمر وغيره، عن ابن شهاب الزهري - وقد قال ذلك غيره من أهل البلد: إن خديجة إنما كانت استأجرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاً أخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة؛ وكان الذي زوجها إياه خويلد، وكان التي مشت في ذلك مولاةٌ مولدة من مولادات مكة.
قال الحارث: قال محمد بن سعد: قال الواقدي: فكطل هذا غلط.

قال والواقدي: ويقولون أيضاً إن خديجة أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى نفسها - تعني التزويج - وكانت امرأة ذات شرف، وكان كل قريش حريصاً على نكاحها - قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك، فدعت أباها فسسقته خمراً حتى ثمل، ونحرت بقرة وخلقته بخلوق، وألبسته حلةً حبرةً، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته، فدخلوا عليه، فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير ؟ وماهذا العبير ؟ وما هذا الحبير ؟ قالت: زوجتنى محمد بن عبد الله، قال: ما فعلت أنى أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش، فلم أفعل ! قال الواقدي: وهذا غلطٌ، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمد ابن عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم. ومن حديث ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن حديث ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أباها مات قبل الفجار.
قال أبو جعفر: وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية - فيما ذكر - فجعله مسجداً يصلى فيه الناس، وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يغير. وأما الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت فإن رسول اله صلى الله عليه وسلم كان يجلس تحته يستتر به من الرمى إذا جاءه من دار أبي لهب، ودار عدي ابن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراعٌ وشبر في ذراع.
ذكر باقي الأخبار عن الكائن من أمر رسول الله

صلى الله عليه وسلم قبل أن ينبأ، وما كان بين مولده ووقت نبوته من
الأحداث في بلده
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل سبب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة واختلاف المختلفين في ذلك، ووقت نكاحه صلى الله عليه وسلم إياها.
وبعد السنة التي نكحها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمت قريش الكعبة بعشر سنين ثم بنتها - وذلك في قول إبن إسحاق - في سنة خمسٍ وثلاثن من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان سبب هدمهم إياها فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن الكعبة كانت رضمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها؛ وذلك أن نفراً من قريش وغيرهم سقوا كنز الكعبة؛ وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة.
وكان أمر غزالي الكعبة - فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبيه - أن الكعبة كانت رفعت حين غرق قوم نوح، فأمر الله إبراهيم خليله عليه السلام وابنه إسماعيل أن يعيدا بنا الكعبة على أسها الأول، فأعادا بناءها، كما أنزل في القرآن: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " ، فلم يكن له ولاةٌ منذ زمن نوح عليه السلام؛ وهو مرفوع .
ثم أمر الله عز وجل إبراهيم أن ينزل ابنه إسماعيل البيت، لما أراد الله من كرامة من أكرمه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل يليان البيت بعد عهد نوح، ومكة يومئذ بلاقع؛ ومن حول مكة يومئذ جرهم والعماليق. فنكح إسماعيل عليه السلام امرأة من جرهم؛ فقال في ذلك عمرو بن الحارث بن مضاض:
وصاهرنا من أكرم الناس والداً ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فولى البيت بعد إسماعيل، وبعد إسماعيل نبت؛ وأمه الجرهمية؛ ثم مات نبت، ولم يكثر ولد إسماعيل، فغلبت جرهم على ولاية البيت؛ فقال عمرو بن الحارث بن مضاض:
وكنا ولاة البيت من بعد نابتٍ ... نطوف بذاك البيت، والخير ظاهر
فكان أول من مولى من جرهم البيت مضاض؛ ثم وليته بعده بنوه كابراً عن كابر؛ حتى بغت جرهم بمكة، واستحلوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، وظلموا من دخل مكة، ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذ لم يجد مكاناً يزنى فيه يدخل الكعبة فزنى. فزعموا أن أسافا بغى بنائلة في حوف الكعبة، فمسخا حجرين، وكانت مكة في الجاهلية لا ظلم ولا بغى فيها، ولا يستحل حرمتها ملكٌ إلا هلك مكانه فكانت تسمى الناسة، وتسمى بكة، تبك أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة.

قال: ولما لم تتناه جرهم عن بغيها، وتفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فانخرع بنو حارثة بن عمرو، فأوطنوا تهامة - فسميت خزاعة، وهم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة - وأسلم ومالك وملكان بنو أفصى بن حارثة، فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل، فأفناهم. فاجتمعت خزاعة ليجلوا من بقى، ورئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة، وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث ابن مضاض، فاقتتلوا. فلما أحس عامر بن الحارث بالهزيمة، خرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة، وهو يقول:
لا هم إن جرهماً عبادك ... الناس طرفٌ وهم تلادك
بهم قديماً عمرت بلادك
فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم، ثم دفنها وخرج من بقى من جرهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتى فذهب بهم، فذلك قول أمية بن أبي الصلت:
وجرهم دمنوا تهامة في الد ... هر فسالت بجمعهم إضم
وولى البيت عمرو بن ربيعة. وقالوا بنو قصي: بل وليه عمرو بن الحارث الغبشاني، وهو يقول:
نحن ولينا البيت من بعد جرهمٍ ... لنعمره من كل باغٍ وملحد
وقال:
وادٍ حرامٌ طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه
وقال عامر بن الحارث:
كأن لم يكن بين الحجوزن إلى الصفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قال:
يأيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
كنا أناساً كما كنتم فغيرنا ... دهرٌ، فأنتكم كما كنا تكونونا
حثوا المطى وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقوضنا
يقول: اعملوا لآخرتكم، وافرغوا من حوائجكم في الدنيا؛ فوليت خزاعة البيت؛ غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج للناس من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر - وهو صوفة - فكانت إذا كانت الإجازة قالت العرب: أجيزي صوفة. والثانية الإفاضة من جمع غداة النحر إلى منى، فكان ذلك إلى بنى زيد بن عدوان؛ فكان آخر من ولى ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن وابش ابن زيد، والثالثة النسئ للشهور الحرام، فكان ذلك في القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن عدي من بنى مالك بن كنانة، ثم بنيه حتى صار ذلك إلى آخرهم أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن حذيفة.
وقام عليه السلام، وقد عادت الحرم إلى أصلها، فأحكمها الله وأبطل النسئ؛ فلما كثرت معد تفرقت، فذلك قول مهلهل:
غنيت دارنا في تهامة في الده ... ر وفيها بنو معدٍ حلولا
وأما قريش، فلم يفارقوا مكة، فلما حفر عبد المطلب زمزم، وجد الغزالين، غزالي الكعبة اللذين كانت جرهم دفنتهما فيه، فاستخرجهما؛ وكان من أمره وأمرهما ما قد ذكرت في موضع ذلك فيما مضى من هذا الكتاب قبل.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وكان الذي وجد عنده الكنز دويكاً مولىً لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة. فقطعت قريش يده من بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وأبو إهاب ابن عزير بن قيس بن سويد التميمي - وكان أخا الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لأمه - وأبو لهب بن عبد المطلب؛ وهم الذين تزعم قريش أنهم وضعوا كنز الكعبة حين أخذوه عند دويك مولى بنى مليح، فلما اتهمتهم قريش، دلوا على دويك، فقطع، ويقال: هم وضعوه عنده.

وذكروا أن قريشاً حين استيقنوا بأن ذلك كان عند الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف، خرجوا به إلى كاهنةٍ من كهان العرب، فسجعت عليه من كهانتها بألا يدخل مكة عشر سنين، بما استحل من حرمه الكعبة، فزعموا أنهم أخرجوه من مكة، فكان فيمات حولها عشر سنين؛ وكان البحر قد رمى بسفينةٍ إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها؛ وكان بمكة رجل قبطيٌ نجارٌ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدي لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانوا يهابونها، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحدٌ إلا احزألت وكشت وفتحت فاها؛ فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائراً، فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضى ما أردنا. عندنا عاملٌ رقيق، وعندنا خشبٌ، وقد كفانا الله أمر الحية. وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذٍ ابن خمس وثلاثين سنة.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قامأبو وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً، فوثب في يده؛ حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بناينها من كسبكم إلا طيباً، ولا تدخلوا فيها مهر بغيٍ، ولا بيع رباً، ولا مظلمة أحدٍ من الناس.
قال: والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي نجيح المكي، أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف، أنه رأى ابناً لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم يطوف بالبيت، فسأل عنه فقيل له: هذا ابنٌ لجعدة ابن هبيرة، فقال عند ذلك عبد الله بن صفوان جد هذا - يعنى أبا وهيب الذي أخذ من الكعبة حجراً حين اجتمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنانها من كسبكم إلا طيباً؛ لا تدخلوا فيها مهر بغى، ولا بيع رباً ولا مظلمة أحدٍ.
وأبو وهب خال أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثننا محمد بن إسحاق، قال: ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبنى مخزوم وتيم وقبائل من قريش، ضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر - وهو الحطيم - لبنى عبد الدار بن قصي ولبنى عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنى عدي بن كعب.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس به تلك الليلة، وقالوا: ننظر؛ فإن إصيب لم نهدم منها شيئاً؛ ورددناها كما كانت؛ وإن لم يصبه شيءٌ فقد رضى الله ما صنعنا هدمنا.
فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم والناس معه؛ حتى انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خضرٍ كأنها أسنة آخذ بعضها ببعض.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض من يروى الحديث، أن رجلاً من قرش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها، ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتقت مكة بأسرها، فانتهوا عند ذلك إلى الأساس.
قال: ثم إن القبائل جمعت الحجارة لبنائها، جعلت كل قبيلة تجمع على حدتها، ثم بنوا حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن اختصموا فيه؛ كل قبيلةٍ تريد أن ترفعهخ إلى موضعه دون الأخرى؛ حتى تحاوزوا وتحالفوا وتواعدوا للقتال؛ فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً؛ ثم تعاقدوا هم وبنو عد بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم، في ذلك الدم في الجفنة؛ فسموا لعقة الدم بذلك؛ فمكثت قريش أربع ليالٍ - أو خمس ليال - على ذلك.

ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا؛ فزعم بعض الرواة أن أبا أمية ابن مغيرة كان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش؛ اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه؛ فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به؛ هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال: هلم لي ثوباً، فأتى به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحيةٍ من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه بيده، ثم بنى عليه؛ وكانت قريش تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين.
قال أبو جعفر: وكان بناء قريش الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة.
واختلف السلف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نبئ كم كانت ؟ فقال بعضهم: نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بنت قريش الكعبة بخمس سنين؛ وبعدما تمت له من مولده أربعون سنة.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنل أبو حمزة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة.
حدثنا عمرو بن علي وابن المثنى، قالا: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين.
حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قتال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: حدثني أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى رأس أربعين.
حدثني أبو شرحبيل الحمصي، قال: حدثني أبو اليمان، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الحجاج، عن حماد، قال: أخبرنا عمرو، عن يحيى بن جعدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: إنه كان يعرض على القرآن كل عام مرة؛ وإنه قد عرض على العام مرتين، وإنه قد خيل إلى أن أجلى قد حضر؛ وأن أول أهلي لحاقاً بي أنت؛ وإنه لم يبعث نبي إلا بعث الذي بعده بنصفٍ من عمره، وبعث عيسى لأربعين، وبعثت لعشرين.
حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة ومحمد بن ميمون الزعفراني، عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة.
وقال آخرون: بل نبئ حين نبئ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيداً - يعنى ابن المسيب - يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي؛ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
ذكر اليوم الذي نبئ فيه رسول الله

صلى الله عليه وسلم من الشهر الذي نبئ فيه وما جاء في ذلك

قال أبو جعفر: صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثنا به ابن المثني، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن غيلان بن جرير، أنه سمع عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة الأنصاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين ، فقال : ذلك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا غيلان بن جرير المعولي قال : حدثنا عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة ، عن عمر رحمه الله أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، صوم يوم الإثنين ؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزلت علي فيه النبوة.
حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم اثنين، واستنبئ يوم الإثنين.
قال أبو جعفر: وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
واختلفوا في أي الأثانين كان ذلك ؟ فقال بعضهم: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثماني عشرة خلت من رمضان.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن أيوب، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، أنه كان يقول - فيما بلغه وانتهى إليه من العلم: أنزل الفرقان على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثماني عشرة ليلةً خلت من رمضان.
وقال آخرون: بل أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت منه.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني من لا يتهم، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ابن دعامة السدوسي، عن أبي الجلد، قال: نزل الفرقان لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان.
وقال آخرون: بل نزل لسبع عشرة خلت من رمضان؛ واستشهدوا لتحقيق ذلك بقول الله عز وجل: " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " ، وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر؛ وأن التقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر كان صبحة سبع عشرة من رمضان.
قال أبو جعفر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أن يظهر له جبريل عليه السلام برسالة الله عز وجل إليه - فيما ذكر عنه - يرى ويعاين آثاراُ وأسباباً من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله؛ فكان من ذلك ما قد ذكرت فيما مضى من خبره عن الملكين اللذين أتياه فشقا بطنه، واستخرجا ما فيه من الغل والدنس؛ وهو عند أمه من الرضاعة حليمة، ومن ذلك أنه كان إذا مر في طريق لا يمر - فيما ذكر - عنه بشجرٍ ولا حجر فيه إلا سلم عليه.
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن برة بنت أبي تجراة، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً، ويفضى إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجرٍ ولا شجرةٍ إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً.
قال أبو جعفر: وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة منها قومها بذلك؛ وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال : حدثني علي بن عيسى الحكمي ، عن أبيه ، عن عامر بن ربيعة ، قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بنى عبد المطلب ولا أراني أدركه؛ وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقرئه منى السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك ! قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره؛ فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك؛ ويقولون: لم يبق نبيٌ غيره.

قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد ابن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترحم عليه، وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس في الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أقبل رجلٌ من العرب داخل المسجد، يريد عمر - يعني ابن الخطاب - فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه بعد، ما فارقه - أو لقد كان كاهناً في الجاهلية - فسلم عليه الرجل، ثم جلس فقال له عمر: هل أسلمت ؟ فقال: نعم، فقال: هل كنت كاهناً في الجاهلية ؟ فقال الرجل: سبحان الله ! لقد استقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ! فقال عمر: اللهم غفراً؛ قد كنا في الجاهلية على شرٍ من ذلك، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله بالإسلام. فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ لقد كنت كاهناً في الجاهلية. قال: فأخبرنا ما أعجب ما جاءك به صاحبك. قال: جاءني قبل الإسلام بشهر - أو سنة - فقال لي: " ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ! " .
قال: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثنٍ من أوثان الجاهلية في نفرٍ من قريش؛ قد ذبح له رجل من العرب عجلاً فنحن ننظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتاً ما سمعت صوتاً قطً أنفذ منه؛ وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا آل ذريح؛ أمر نجيح، ورجلً يصيح؛ يقول: لا إله إلا الله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن ابن إٍسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، مولى عثمان بن عفان، مثله.
حدثنا الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنا جلوساً عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر؛ نحرنا جزوراً؛ فإذا صائح يصيح من جوف واحدة: اسمعوا إلي العجب ! ذهب استراق الوحي، ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد، مهاجره إلى يثرب. قال: فأمسكنا، وعجبنا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني أحمد بن سنان القطان الواسطي، قال : حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، أن رجلاً من بني عامر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرني الخاتم الذي بين كتفيك؛ فإن يك بك طبٌ داويتك، فإني أطب العرب، قال: أتحب أن أريك آية ؟ قال: نعم، ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة، فدعاه فجعل ينقز؛ حتى قام بين يديه، قال: قل له فليرجع، فرجع، فقال العامري: يا بني عامر، ما رأيت كاليوم أسحر ! قال أبو جعفر: والأخبار عن الدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله.
ونرجع الآن إلى:
ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله

صلى الله عليه وسلم عند ابتداء الله تعالى ذكره إياه بإكرامه بإرسال
جبريل عليه السلام إليه بوحيه
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل بعض الأخبار الواردة عن أول وقت مجيء جبريل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي من الله، وكم كان سن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ؛ ونذكر الآن صفة ابتداء جبريل إياه بالمصير إليه، وظهوره له بتنزيل ربه.

فحدثني أحمد بن عثمان المعروف بأبي الجوزاء، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد، يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان أول ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بغار بحراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ثم يرجع إلى أهله، فيتزود لمثلها؛ حتى فجأه الحق، فأتاه، فقال: يا محمد، أنت رسول الله ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجثوت لركبتي وأنا قائم، ثم زحفت ترجف بوادري، ثم دخلت على خديجة، فقلت: زملوني، زملوني ! حتى ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالقٍ من جبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد، أنا جبريل، وأنت رسول الله. ثم قال: اقرأ، قلت: ما أقرأ ؟ قال: فأخذني فغتنى ثلاث مرات، حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، فقرأت. فأتيت خديجة. فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ ووالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، قالت: اسمع من ابن أخيلك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران، ليتني فيها جذعٌ ! ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك ! قلت: أمخرجي هم ؟ قال: نعم؛ إنه لم يجيء رجلٌ قطُّ بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم كان أول ما نزل علي من القرآن بعد " اقرأ " : " ن ، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ، وإن لك لأجراً غير ممنونٍ، وإنك لعلى خلق عظيمٍ، فستبصر ويبصرون " ، و " يأيها المدثر، قم فأنذر " ، و " والضحى، والليل إذا سجى " .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته. ثم ذكر نحوه؛ غير أنه لم يقل: " ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن " . إلى آخره.
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليماني الشيباني، قال: حدثنا عبد الله بن شداد، قال: أتى جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اقرأ ؟ فقال: ما أقرأ ؟ قال: فضمه، ثم قال: يا محمد، اقرأ، قال: وما أقرأ ؟ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علقٍ " حتى بلغ " علم الإنسان ما لم يعلم " ، قال: فجاء إلى خديجة، فقال: يا خديجة، ما أراني إلا قد عرض لي، قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك؛ ما أتيت فاحشةً قط، قال: فأتت خديجة ورقة بن نوفل فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به.
قال: ثم أبطأ عليه جبريل، فقالت له خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك، قال: فأنزل الله عز وجل: " والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام ؟ فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية - والتحنث: التبرر - وقال أبو طالب:
وراقٍ ليرقى في حراءٍ ونازل

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين؛ فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره - الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله عز وجل فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها؛ وذلك في شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء - كما كان يخرج لجواره - معه أهله؛ حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءني وأنا نائم بنمطٍ من ديباجٍ، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلي بمثل ما صنع بي؛ قال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " إلى قوله: " علم الإنسان ما لم يعلم " ، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني وهببت من نومي؛ وكأنما كتب في قلبي كتاباً.
قال: ولم يكن من خلق الله أحدٌ أبغض إلي من شاعر أو مجنون؛ كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ،قال: قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبداً ! لأعمدن إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن.
قال: فخرجت أريد ذلك؛ حتى إذا كنت في وسط من الجبل؛ سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبرئيل في صورة رجل صافً قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت؛ فما أتقدم وما أتأخر؛ وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك؛ فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي؛ حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي؛ حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي؛ حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً فقالت: يا أبا القاسم؛ أين كنت ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. قال: قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون، فقالت: أعيدك بالله من ذلك يا أبا القاسم ! ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منك من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك ! وما ذاك يا بن عم ! لعلك رأيت شيئاً ؟ قال: فقلت لها: نعم. ثم حدثتها بالذي رأيت؛ فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد - وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل - فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، قدوس ! والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتي يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر - يعني بالناموس جبرئيل عليه السلام الذي كان يأتي موسى - وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بقول ورقة، فسهل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهم، فلما قضى رسول اله صلى الله عليه وسلم جواره، وانصرف صنع كما كان يصنع، وبدأ بالكعبة فطاف بها. فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت أو سمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء إلى موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه؛ ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله نصراً يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى منزله.
وقد زاده ذلك من قول ورقة ثباتاً، وخفف عنه بعض ما كان فيه من الهم.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يثبته فيما أكرمه الله به من نبوته: يا بن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة: يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني ، فقالت: نعم، فقم يا بن عم، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، قالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها، قالت: هل تراه ؟ قال: نعم، فتحسرت، فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في حجرها، ثم قالت: هل تراه ؟ قال: لا، فقالت: يا بن عم، اثبت وأبشر؛ فوالله إنه لملكٌ وما هو بشيطان.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثت بهذا الحديث عبد الله بن الحسن، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني قد سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا لملك، وما هو بشيطان.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر بن فارس، قال: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى - يعني ابن أبي كثير - قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل أول ؟ فقال : " يأيها المدثر " ، فقلت: يقولون: " اقرأ باسم ربك " ! فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أيٌ القرآن أنزل أول ؟ فقال: " يأيها المدثر " ، فقلت: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، فقال: لا أخبرك إلا ما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت في حراء، فلما قضيت جواري، هبطت فاستنبطت الوادي، فنوديت، فنظرت عن يميني وعن شمالي، وخلفي وقدامي، فلم أر شيئاً، فنظرت فوق رأسي، فإذا هو جالسٌ على عرشٍ بين السماء والأض، فخشيت منه - قال ابن المثنى: هكذا قال عثمان بن عمر، وإنما هو " فجئثت منه " - فلقيت خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا علي ماءً، وأنزل علي: " يأيها المدثر قم فأنذر " .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن، قال: نزلت: " يأيها المدثر " ، أول، قال: قلت: إنهم يقولون: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، فقال: سألت جابر بن عبد الله، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فسمعت صوتاً، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، وعن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي، فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبوا علي ماءً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت: " يأيها المدثر " .
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما أتاه ليلة السبت، وليلة الأحد، ثم ظهر له برسالة الله عز وجل يوم الاثنين، فعلمه الوضوء، وعلمه الصلاة، وعلمه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، يوم أوحي إليه أربعون سنة.

حدثني أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: أخبرنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، قال: أخبرني عمر بن عروة بن الزبير، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي أول ما علمت، حتى علمت ذلك واستيقنت ؟ قال: يا أبا ذر، أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما في الأرض والآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو ؟ قال: هو هو، قال: فزنه برجل، فوزنت برجل فرجحته، ثم قال: زنه بعشرة، فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة ، فوزنني بمائة فرجحتهم ، ثم قال : زنه بألف، فوزنني بألف فرجحتهم، فجعلوا ينتثرون على من كفة الميزان، قال: فقال: أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها. ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني، ثم قال أحدهما: أخرج قلبه - أو قال: شق قلبه - فشق قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، فطرحها، ثم قال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الإناء - أو اغسل قلبه غسل الملاءة - ثم دعا بالسكينة، كأنها وجه هرة بيضاء فأدخلت قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخطا بطنى، وجعلا الخاتم بين كتفي، فما هو إلا أن وليا عنى فكأنما أعاين الأمر معاينة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترةً، فحزن حزناً شديداً، جعل يغدو إلى رءوس شواهق الجبال ليتردى منها، فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبرئيل، فيقول: إنك نبي الله؛ فيسكن لذلك جأشه، وترجع إليه نفسه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن لك، قال: فبينما أنا أمشي يوماً، إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء، على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعباً، فرجعت إلى خديجة، فقلت: زملوني، فزملناه - أي دثرناه - فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر " ، قال الزهري: فكان أول شيء أنزل عليه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " حتى بلغ " ما لم يعلم " .
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي: بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجئثت منه فرقاً، وجئت فقلت: زملوني، زملوني ! فدثروني، فأنزل الله عز وجل: " يأيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر " إلى قوله: " والرجز فاهجر " ، قال: ثم تتابع الوحي.
قال أبو جعفر: فلما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقوم بإنذار قومه عقاب الله على ما كانوا عليه مقيمين من كفرهم بربهم وعبادتهم الآلهة والأصنام دون الذي خلقهم ورزقهم؛ وأن يحدث بنعمة ربه عليه بقوله: " وأما بنعمة ربك فحدث " ، وذلك - فيما زعم ابن إسحاق - النبوة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وأما بنعمة ربك فحدث " ، أي ما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فحدث؛ اذكرها وادع إليها. قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله عليه وعلى العباد به من النبوة سراً إلى من يطمئن إليه من أهله؛ فكان أول من صدقه وآمن به واتبعه من خلق الله - فيما ذكر - زوجته خديجة رحمها الله.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال الواقدي: أصحابنا مجمعون على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رحمها الله.
قال أبو جعفر: ثم كان أول شيء فرض الله عز وجل من شرائع الإسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان والأصناكم وخلع الأنداد الصلاة - فيما ذكر.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه جبرئيل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضأ جبرئيل عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبرئيل عليه السلام توضأ، ثم قام جبرئيل عليه السلام، فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته. ثم انصرف جبرئيل عليه السلام، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، فتوضا لها يريها كيف الطهور للصلاة؛ كما أراه جبرئيل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبرئيل عليه السلام، فصلت بصلاته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة وحكام بن سلم، عن عنبسة، عن أبي هاشم الواسطي، عن ميمون بن سياه، عن أنس بن مالك، قال: لما كان حين نبىء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام حول الكعبة، وكانت قريش تنام حولها، فأتاه ملكان: جبرئيل وميكائيل، فقالا: بأيهم أمرنا ؟ فقالا: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا ثم جاءا من القبلة، وهم ثلاثة، فألفوه وهو نائم، فقلبوه لظهره، وشقوا بطنه، ثم جاءوا بماء زمزم، فغسلوا ما كان في بطنه من شك أو شرك أو جاهلية أو ضلالة، ثم جاءوا بطست من ذهب، ملئ إيماناً وحكمة، فملىء بطنه وجوفه إيماناً وحكمة، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبرئيل، فقالوا: من هذا ؟ فقال: جبرئيل؛ فقالوا: من معك ؟ فقال: محمد، قالوا: وقد بعث ؟ قال: نعم، قالوا: مرحباً، فدعوا له في دعائهم، فلما دخل؛ فإذا هو برجل جسيم وسيم، فقال: من هذا يا جبرئيل؟ ، فقال: هذا أبوك آدم، ثم أتوا به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبرئيل، فقيل له مثل ذلك، وقالوا في السموت كلها كما قال وقيل له في السماء الدنيا، فلما دخل، إذ برجلين، فقال: من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال: يحيى وعيسى ابنا الخالة، ثم أتى به السماء الثالثة، فلما دخل إذا هو برجل، قال: من هذا يا جبرئيل ؟ قال: هذا أخوك يوسف، فضل بالحسن على الناس، كما فضل القمر ليلة البدر على الكواكب، ثم أتى به السماء الرابعة، فإذا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا إدريس، ثم قرأ: " ورفعناه مكاناً علياً " ، ثم أتى به السماء الخامسة، فإذا هو برجل، فقال: من هذا يا جبرئيل ؟ قال: هذا هارون، ثم أتى به السماء السادسة، فإذا هو برجل فقال: من هذا يا جبرئيل ؟فقال: هذا موسى ، ثم أتى به إلى السماء السابعة ، فإذا هو برجل ، فقال : من هذا يا جبرئيل ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم، ثم انطلق إلى الجنة، فإذا هو بنهر أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، بجنبتيه قباب الدر، فقال: ما هذا يا جبرئيل ؟ فقال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، وهذه مساكنك، قال: وأخذ جبرئيل بيده من تربته، فإذا هو مسك أذفر، ثم خرج إلى سدرة المنتهى وهي سدرة نبق أعظمها أمثال الجرار، وأصغرها أمثال البيض، فدنا ربك عز وجل: " فكان قاب قوسين أو أدنى " ، فجعل يتغشى السدرة من دنو ربها تبارك وتعالى، أمثال الدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ ألوان. فأوحى إلى عبده، وفهمه وعلمه وفرض عليه خمسين صلاة، فمر على موسى، فقال: ما فرض على أمتك ؟ فقال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإن أمتك أضعف الأمم قوة، وأقلها عمراً؛ وذكر ما لقي من بني إسرائيل، فرجع فوضع عنه عشراً، ثم مر على موسى، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف؛ كذلك حتى جعلها خمساً، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فقال: لست براجع؛ غير عاصيك؛ وقذف في قلبه ألا يرجع، فقال الله عز وجل: " لا يبدل كلامي، ولا يرد قضائي وفرضي " ، وخفف عن أمتي الصلاة لعشر. قال أنس: وما وجدت ريحاً قط ولا ريح عروس قط، أطيب ريحاً من جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ألزقت جلدي بجلده وشممته.
قال أبو جعفر: ثم اختلف السلف فيمن اتبع رسول اله صلى الله عليه وسلم وآمن به وصدقه على ما جاء به من عند الله من الحق بعد زوجته خديجة بنت خويلد، وصلى معه.
فقال بعضهم: كان أول ذكرٍ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معه وصدقه بما جاءه من عند الله علي بن أبي طالب عليه السلام.

ذكر بعض من قال ذلك ممن حضرنا ذكره: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، قال: أول من صلى عليّ.
حدثنا زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عبد الحميد بن بحر، قال: أخبرنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم، قال: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب. قال: فذكرته للنخعي، فأنكره، وقال:أبو بكر أول من أسلم.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا حمزة رجلاً من الأنصار، يقول: سمعت زيد بن أرقم، يقول: أول رجل صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي عليه السلام.
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عبادة بن عبد الله، قال: سمعت علياً يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفترٍ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الناس بسبع سنين.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف، عن عفيف، قال: جئت في الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، قال فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شابٌ، فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام، فقام عن يمينه. قال: فلم يلبث حتى جاءت امرأة، فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجداً فسجدا معه، فقلت: يا عباس، أمر عظيم ! فقال: أمر عظيم ! أتدري من هذا ؟ فقلت: لا، قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ابن أخي. أتدري من هذا معه ؟ قلت: لا، قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عبد المطلب، ابن أخي. أتدري من هذه المرأة التي خلفهما ؟ قلت: لا، قال: خديجة بنت خويلد، زوجة ابن أخي، وهذا حدثني أن ربك رب السماء، أمرهم بهذا الذي تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي، من أهل الكوفة، قال: حدثني إسماعيل بن إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده، قال: كنت امرأ تأجراً، فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ يصلي ، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه، فقلت: يا عباس، ما هذا الدين ؟ إن هذا الدين ما أدري ما هو ؟ قال: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب، آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون أربعاً ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد، قال سلمة: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن أبي الأشعث - قال أبو جعفر: وهو في موضع آخر من كتابي عن يحيى بن الأشعث - عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي - وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس الكندي لأمه، وكان ابن عمه - عن أبيه عن جده عفيف، قال: كان العباس ابن عبد المطلب لي صديقاً، وكان يختلف إلى اليمن، يشترى العطر فيبيعه أيام الموسم؛ فبينا أنا عند العباس بن عبد المطلب بمنى، فأتاه رجل مجتمع، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم قام يصلي، فخرجت امرأةً فتوضأت وقامت تصلي ثم خرج غلام قد راهق، فتوضأ، ثم قام إلى جنبه يصلي، فقلت: ويحك يا عباس ! ما هذا ؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب قد تابعه على دينه، وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد، قد تابعته على دينه. قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعاً !

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عيسى بن سوادة بن الجعد، قال: حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم المدني، والكلبي، قالوا: على أول من أسلم. قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان أول ذكرٍ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معه وصدقه بما جاءه من عند الله، علي بن أبي طالب؛ وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، وما صنع الله له وأراده به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثير؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه - وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس؛ إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله؛ آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ من بنيه رجلاً، فنكفهما عنه. قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفراً فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبياً، فاتبعه علي فآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه .
حدثنا بن حميد ،قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من عمه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها؛ فإذا أمسيا رجعاً، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به ؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال - بعثني الله به رسولاً إلى العباد، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه - أو كما قال. فقال أبو طالب: يا بن أخي؛ إنى لا أستطيع أن أفارق دينى ودين آبائي وما كانوا عليه؛ ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما حييت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وزعموا أنه قال لعلي بن أبي طالب: أي بنى، ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ قال: يا أبه، آمنت بالله وبرسوله وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله. فزعموا أنه قال له: أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير، فالزمه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أسلم عليٌ وهو ابن عشر سنين.
قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: واجتمع أصحابنا على أن علياً أسلم بعدما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة، فأقام بمكة اثنى عشرة سنة.
وقال آخرون: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه.
ذكر من قال ذلك: حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قلت لابن عباس: من أول الناس إسلاماً ؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وحدثني سعيد بن عنبسة الرازي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس نحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الهيثم ابن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس نحوه.

حدثنا بحر بن نصر الخولاني، قال : " حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، قال: حدثني أبو يحيى وضمرة بن حبيب وأبو طلحة، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله، من تبعك على هذا الأمر ؟. قال: اتبعني عليه رجلان؛ حرٌ وعبد: أبو بكر وبلال، قال: فأسلمت عند ذلك، قال: فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: حدثنا صدقة، عن نصر بن علقمة، عن أخيه، عن ابن عائذ، عن جبير بن نفير، قال: كان أبو ذر وابن عبسة كلاهما يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام، ولم يسلم قبلي إلا النبي وأبو بكر وبلال، وكلهما لا يدري متى أسلم الآخر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: أول من أسلم أبو بكر.
حدثنا أبو كريب، قال: حدنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من أسلم.
وقال آخرون: أسلم قبل أبي بكر جماعة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا كنانة بن جبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد، قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين؛ ولكن كان أفضلنا إسلاماً.
وقال آخرون: كان أول من آمن واتبع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال زيد بن حارثة مولاه.
ذكر من قال ذلك : حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: قال الواقدي : حدثني ابن أبي ذئب ، قال: سألت الزهري : من أول من أسلم ؟ قال : من النساء خديجة ، ومن الرجال زيد بن حارثة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا محمد بن سعد ، قال : أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عن سليمان ابن يسار، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد - يعنى ابن عمر - قال: حدثنا ربيعة بن عثمان، عن عمران بن أبي أنس مثله.
وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا عبد الملك ابن مسلمة، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: أول من أسلم زيد بن حارثة.
وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ذكرٍ أسلم، وصلى بعد علي بن أبي طالب، ثم أسلم أبي بكر بن أبي قحافة الصديق، فلما أسلم أظهر إسلامه، ودعا إلى الله عز وجل وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه، محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق ومعروفٍ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه - فيما بلغني - عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية، النفر الذين سبقوا إلى الإسلام، فصلوا وصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء به من عند الله؛ ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام؛ الرجال منهم والنساء؛ حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس.
وقال الواقدي في ذلك ما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عنه: اجتمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، ثم اختلف عندنا في ثلاثة نفر: في أبي بكر وعلي، وزيد بن حارثة، أيهم أسلم أول.
قال: وقال الواقدي: أسلم معهم خالد بن سعيد بن العاص خامساً، وأسلم أبو ذر، قالوا: رابعاً أو خامساً، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي، فيقال: رابعاً أو خامساً. قال: فإنما اختلف عندنا في هؤلاء النفر أيهم أسلم أول، وفي ذلك روايات كثيرة. قال: فيختلف في الثلاثة المتقدمين، وفي هؤلاء الذين كتبنا بعدهم.

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني مصعب بن ثابت، قال: حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن الأسود بن نوفل، قال: كان إسلام الزبير بعد أبي بكر، كان رابعاً أو خامسااً.
وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أن خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة، من خزاعة، أسلما بعد جماعة كثيرة غير الذين ذكرتهم بأسمائهم؛ أنهم كانوا من السابقين إلى الإسلام.
ثم إن الله عز وجل أمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، ويدعوا إليه، فقال له: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " وكان قبل ذلك - في السنين الثلاث من مبعثه؛ إلى أن أمر بإظهار الدعاء إلى الله - مستسراً مخفياً أمره صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه: " وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إني برىءٌ مما تعلمون " ، قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا من قومهم؛ فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون؛ حتى قاتلوهم، فاقتتلوا، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحى جملٍ فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام.
فحدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا، فقال: ياصباحاه ! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك ؟ قال: أرأيت إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني ! قالوا: بلى؛ قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تباً لك ! ألهذا دعوتنا - أو جمعتنا ! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهبٍ وتب " إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه ! فقالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا: محمد، فقال: يابنى فلان، يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف ! فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: تباً لك ! ما جمعتنا إلا لهذا ! ثم قام، فنزلت هذه السورة: " تبت يدا أبي لهبٍ وتب " إلى آخر السورة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنى متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رحل شاة، واملأ لنا عساً من لبن؛ ثم اجمع لي بنى عبد المطلب حتى أكملهم، وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به. ثد دعوتهم له؛ وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه؛ فيهم أعمامه:أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب؛ فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيةً من اللحم، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصفحة. ثم قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وايم الله الذي نفس علي بيده؛ وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لهدما سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الغد يا علي؛ إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي.
قال: ففعلت، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى مالهم بشيء حاجة. ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بنى عبد المطلب؛ إنى والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به؛ إنى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيتي وخلفتي فيكم ؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت: وإنى لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً؛ أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي، ثم قال: إن هذا أخي ووصى ووخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
حدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، أن رجلاً قال لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمك ؟ فقال علي: هاؤم ! ثلاث مرات؛ حتى اشرأب الناس، ونشروا آذانهم. ثم قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله - بنى عبد المطلب منهم رهطه، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مداً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقى الطعام كما هو؛ كأنه لم يمس. قال: ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقى الشراب كأنه لم يمس ولم يشربوا. قال: ثم قال: يا بنى عبد المطلب، إنى بعثت إليكم بخاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذا الأمر ما قد رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخى وصاحبي ووارثي ؟ فلم يقم إليه أحدٌ، فقمت إليه - وكنت أصغر القوم - قال: فقال: اجلس، قال: ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي، قال: فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، ثم قال: يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف، يا بنى قصي - قال: ثم فخذ قريشاً قبيلة قبيلة، حتى مر على آخرهم - إنى أدعوكم إلى الله وأنذركم عذابه.

حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا جارية بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه من عند الله، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعوهم إلى الله، فكان يدعو من أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين، مستخفياً، إلى أن أمر بالظهور للدعاء.
قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: فصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله، وبادى قومه بالإسلام، فلما فعل ذلك لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه بعض الرد - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام؛ وهم قليل مستخفون، وحدب عليه أبو طالب عمه ومنعه، وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهراً لأمره، لا يرده عنه شيء.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجالٌ من أشراف قريش إلى أبي طالب: عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج - أو من مشى إليه منهم - فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا؛ فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردهم رداً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه؛ يظهر دين الله، ويدعو إليه.
قال: ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضاً عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا؛ وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو تنازله وإياك في ذلك؛ حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له؛ ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن ناساً من قريش اجتمعوا، فيهم أبو جهل ابن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث؛ في نفرٍ من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلمه فيه فلينصفنا منه، فيأمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبد؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء فتعيرنا العرب؛ يقولون: تركوه، حتى إذا مات عمه تناولوه.
قال: فبعثوا رجلاً منهم يدعى المطلب، فاستأذن لهم على أبي طالب، فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، يستأذنون عليك، قال: أدخلهم؛ فلما دخلوا عليه، قالوا: يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه.
قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم، وقد سألوك النصف، أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال: أي عم، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ؟ قال: وإلام تدعوهم ؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمةٍ تدين لهم العرب ، ويملكون بها العرب ، ويملكون بها العجم . قال : فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك ؟ لنعطينكها وعشراً أمثالها. قال: تقول: لا إله إلا الله، قال: فنفروا وتفرقوا وقالوا: سلنا غيره هذه ، فقال : لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها ! قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابى، وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا، " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيءٌ يراد " ، إلى قوله: " إلا اختلاقٌ " .

وأقبل على عمه فقال له عمه: يا بن أخي، ما شططت عليهم، فأٌقبل على عمه فدعاه، فقال: قل كلمة أشهد لك بها يوم القيامة، تقول: لا إله إلا الله، فقال: لو لا أن تعيبكم بها العرب، يقولون: جزع من الموت لأعطيتكها؛ ولكن على ملة الأشياخ، قال: فنزلت هذه الآية: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهطٌ من قريش، فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل؛ ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته ! فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ! ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ! قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها عند العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله؛ فقال القوم كلمة واحدة: نعم وأبيك عشراً. فما هي. فقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا بن أخي ؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: " أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجابٌ " . قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: " لما يذقوا عذاب " . لفظ الحديث لأبي كريب.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أن قريشاً حين قالت لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ! فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
قال: ثم إن قريشاً لما عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك، وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغني: يا أبا طالب، هذا عمارة ابن الوليد أنهد فتى في قريش وأشعره وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته، واتخذه ولداً؛ فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك - هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم - فنقتله؛ فإنما رجلٌ كرجل؛ فقال: والله لبئس ما تسومونني ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد ماف: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك ! أو كما قال أبو طالب.
قال: فحقب الأمر عند ذلك، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضاً.

قال: ثم إن قريشاً تذامروا على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه. فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه. فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوا إلى ما دعاهم إليه من الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما كان من أبي لهب؛ فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم معه؛ وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؛ ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم.
حدثنا علي بن نصر بن علي الجهضمي، وعبد الوارث بن عبد الصمد ابن عبد الوارث - قال علي بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنه - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له؛ حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم؛ وهم قليل؛ فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث. ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام؛ فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة - وكان بالحبشة ملكٌ صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحدٌ بأرضه، وكان يثني عليه مع ذلك صلاح، وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغاً من الرزق، وأمناً ومتجراً حسناً - فأمرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات؛ يشتدون على من أسلم منهم.
ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم.
قال: أبو جعفر: فاختلف في عدد من خرج إلى أرض الحبشة، وهاجر إليها هذه الهجرة، وهي الهجرة الأولى.
فقال بعضهم: كانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا الحارث: قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن رجل من قومه.
قال: وأخبرنا عبيد الله بن العباس الهذلي، عن الحارث بن الفضيل؛ قالا: خرج الذين هاجروا الهجرة الأولى متسللين سراً، وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفنتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة، من حين نبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر؛ حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحداً.
قالوا: وقدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جارٍ؛ أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذي ولا نسمع شيئاً نكرهه.

حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني يونس بن محمد، عن أبيه، قال: وحدثني عبد الحميد، عن محمد بن يحيى بن حبان؛ قالا: تسمية القوم الرجال والنساء: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم؛ معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وعثمان بن مظعون الجمحي ، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل - ليس من عنزة - حليف بنى عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر، وعبد الله بن مسعود حليف بنى زهرة.
قال أبو جعفر: وقال آخرون: كان الذين لحقوا بأرض الحبشة، وهاجروا إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً وولدوا بها - اثنين وثمانين رجلا؛ إن كان عمار بن ياسر فيهم؛ وهو يشك فيه ! ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله وعمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة ! فإن بها ملكاً لا يظلم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ! فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة؛ وفراراً إلى الله عز وجل بدينهم؛ فكانت أول هجرة كانت في الإسلام؛ فكان أول من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان بن أبي العاص ابن أمية؛ ومعه امرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بنى عبد شمس أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو؛ أحد بنى عامر بن لؤي ؛، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام.
فعد النفر الذين ذكرهم الواقدي؛ غير أنه قال: من بنى عامر بن لؤي ابن غالب بن فهر أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي. قال: ويقال: هو أول من قدمها، فجعلهم ابن إسحاق عشرة؛ وقال: كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة - فيما بلغنى.
قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة؛ فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه؛ ثم عد بعد ذلك تمام اثنين وثمانين رجلاً؛ بالعشرة الذين ذكرت بأسمائهم؛ ومن كان منهم معه أهله وولده؛ ومن ولد له بأرض الحبشة، ومن كان منهم لا أهل معه.
قال أبو جعفر: ولما خرج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مهاجراً إليها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمٌ بمكة، يدعو إلى الله سراً وجهراً، قد منعه الله بعمه أبي طالب وبمن استجاب لنصرته من عشيرته، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم إليه، رموه بالسحر والكهانة والجنون؛ وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا منه أن يسمع قوله فيتبعه؛ فكان أشد ما بلغوا منه حينئذٍ - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاًُ أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته ! قال: قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ! سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا ! لقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا.

فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها؛ فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف فقال: أتسمعون يا معشر قريش ! أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح ! قال: فأخذت القوم كلمته؛ حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنما على رأسه طائر واقع؛ وحتى إن أشدهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فوالله ما كنت جهولاً ! قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم؛ حتى إذا كان الغد، اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه؛ حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ! فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا ! لما يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك؛ قال: فلقد رأيت رجلاً منهم آخذاً بجمع ردائه. قال: وقام أبو بكر الصديق دونه، يقول وهو يبكي: ويلكم ! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك أشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: قلت لعبد الله بن عمرو: حدثني بأشد شيء رأيت المشركين صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه، وخنقه خنقاً شديداً ، فقام أبو بكر من خلفه، فوضع يده على منكبه، فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر: يا قوم: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " إلى قوله: " إن الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذابٌ " " .
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم كان واعيةً، أن أبا جهل ابن هشام مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاةٌ لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك. ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه، راجعاً من قنص له - وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة - فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته، قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفاً قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام ! وجده هاهنا جالساً فسبه وآذاه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعاً - لا يقف على أحد كما كان يصنع - يريد الطواف بالكعبة، معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه؛ حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضبة فشجه بها شجةً منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ! فرد ذلك علي إن استطعت ! وقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما كانوا ينالون منه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود، قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريشٌ بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال عبد الله ابن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك؛ إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، فقال: دعوني، فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " - رافعاً بها صوته - " الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان " ، قال: ثم استقبلها يقرأ فيها، قال: وتأملوا وجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد ! ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.
ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك ! قال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ! لئن شئتم لأغادينهم غداً بمثلها، قالوا: لا حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.
قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا، تآمرت قريشٌ فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة أهدوها إليه وإلى بطارقته، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قبله وبأرضه من المسلمين إليهم. فشخص عمرو وعبد الله إليه في ذلك، فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم - وكان رجلاً جلداً جليداً منيعاً، وكان قد أسلم قبل ذلك حمزة ابن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم قوةً، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم - اجتمعت قريش، فائتمرت بينها: أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه؛ على ألا ينحكوا إلى بني هاشم وبني عبد الطلب، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيداً بذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، وظاهرهم عليه، فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثاً؛ حتى جهدوا ألا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سراً، مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش. وذكر أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة ! فجاء أبو البختري بن هشام بن الحارث ابن أسد، فقال: مالك وله ! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعامٌ لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ! خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير، فضربه فشجه، ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة ابن عبد المطلب قريبٌ يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، يدعو قومه سراً وجهراً، آناء الليل وآناء النهار، والوحي عليه من الله متتابعٌ بأمره ونهيه، ووعيد من ناصبه العداوة، والحجج لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه.

فذكر أن أشراف قومه اجتمعوا له يوماً - فيما حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن قريشاً وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء؛ فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي ؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنةً؛ اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي ! فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: " قل يأيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون " السورة وأنزل الله عز وجل: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " إلى قوله: " بل الله فاعبد و كن من الشاكرين " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما في أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه؛ وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فأنزل الله عز وجل: " قل يأيها الكافرون " ؛ حتى انقضت السورة.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على صلاح قومه، محباً مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقارنتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسره مع حبه لقومه، وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم؛ حتى حدث بذلك نفسه، وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى " ، فلما انتهى إلى قوله: " أفرأيتم اللات والعزى، مناة الثالثة الأخرى " ، ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه، ويتمنى أن يأتي به قومه: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى " ؛ فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له - والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم زلل - فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقاً لما جاء به، واتباعاً لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخاً كبيراً، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بآحسن الذكر، قد زعم فيما يتلو: " أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن ترتضى " وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى اللهه عليه وسلم؛ وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف آخرون، وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ماذا صنعت ! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً كثيراً، فأنزل الله عز وجل - وكان به رحيماً - يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى، ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته؛ أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله عز وجل: " وما أرسلنا من قبلك رسولٍ ولا نبيٍ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليمٌ حكيمٌ " ، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم: " أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى " ، بقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: " ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذاً قسمة ضيزى " أي عوجاء، " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " - إلى قوله - " لمن يشاء ويرضى " ، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده ! فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره؛ وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عله وسلم قد وقعا في فم كل مشرك، فازداودا شراً إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة، حين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار، أو مستخفياً، فكان ممن قدم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدراً من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، عثمان بن عفان ابن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بنت سهيل، وجماعة أخر معهم، عددهم ثلاثة وثلاثون رجلاً.

حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى " ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ: " أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة ،الأخرى " ألقى الشيطان عليه كلمتين " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى " فتكلم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم معه جميعاً، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته، فسجد عليه - وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود - فرضوا بما تكلم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت؛ وهو الذي يخلق ويرزق؛ ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعلت لها نصيباً فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره " إلى قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيراً " ؛ فما زال مغموماً مهموماً، حتى نزلت: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍ " - إلى قوله: " والله عليمٌ حكيمٌ " .
قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ثم قام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نقضٍ الصحيفة التي كانت قريش كتبت بينها على بني هاشم وبني عبد المطلب - نفرٌ من قريش.
وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث العامري، من عامر بن لؤي - وكان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه - وإنه مشى إلى زهير ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعم، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؛ لا يبايعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ور ينكح إليهم ! أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليهم منهم ما أجابك إليه أبداً. قال: ويحك يا هشام ! فماذا أصنع ! إنما أنا رجلٌ واحد؛ والله لو كان معي رجلٌ آخر لقمت في نقضها حتى انقضها. قال: قد وجدت رجلاً، قال: من هو ؟ قال: أنا، قال له زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي ابن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه ! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سرعاً. قال: ويحك ! فماذا أصنع ! إنما أنا رجلٌ واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو ؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال من هو ؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رأبعاً، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا ؟ قال: نعم، قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك.

قال: ابغنا خامساً، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم. فاتعدوا له خطم الحجون الذي بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك ، وأجمعوا أمرهم ، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه حلة له؛ فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة؛ أنأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يبتاع منهم ! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق ! قال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت؛ قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به ! قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها؛ وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمرٌ قضى بليلٍ، وتشوور فيه بغير هذا المكان - وأبو طالب جالس في ناحية المسجد - وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها؛ فوجد الأرضة قد أكلتها؛ إلا ما كان من " باسمك اللهم " ، وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش؛ تفتتح بها كتابها إذا كتبت.
قال: وكان كاتب صحيفة قريش - فيما بلغني - التي كتبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه من بني هاشم وبني المطلب، منصور بن عكرمة ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فشلت يده.
وأقام بقيتهم بأرض الحبشة؛ حتى بعث فيهم رسول الله إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين، فقدم بهم على رسول الله، وهو بخيبر بعد الحديبية. وكان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلاً.
ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيماً مع قريش بمكة يدعوهم إلى الله سراً وجهراً، صابراً على أذاهم وتكذيبهم إياه واستهزائهم به؛ حتى إن كان بعضهم - فيما ذكر - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، ويطرحها في برمته إذا نصبت له؛ حتى اتخذ رسول الله منهم - فيما بلغني - حجراً يستتر به منهم إذا صلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج بذلك إذا رمى به في داره على العود فيقف على بابه، ثم يقول: يا بنى عبد مناف، أي جوار هذا ! ثم يلقيه بالطريق.
ثم إن أبا طالب وخديجة هلكا في عام واحد - وذلك فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إبن إسحاق - قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة على رسول الله بهلاكهما؛ وذلك أن قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه؛ حتى نثر بعضهم على رأسه التراب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما نثر ذلك السفيه التراب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب؛ وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: يا بنية لا تبكي؛ فإن الله مانعٌ أباك ! قال: ويقول رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ما نالت منى قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.

ولما هلك أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه؛ وذكر أنه خرج إليهم وحده؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفرٍ من ثقيف - هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم؛ وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود ابن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير؛ وعندهم امرأة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم - فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء لهم من نصرته على الإسلام. والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك ! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبداً؛ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام؛ ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف؛ وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به؛ حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلةٍ من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء ثقيف. وقد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - تلك المرأة من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك ! فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما ذكر لي: اللهم إليك أشكو صعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ؛ يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي؛ إلى من تكلني ! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي ! ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك.
فلما رأى ابنا ربيعة: عتبة وشيبة ما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوا له غلاماً لهما نصرانياً؛ يقال له عدس، فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه؛ ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: " بسم الله " ، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجلٌ من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ! قال: يا سيدي ما في هذه الأرض خيرٌ من هذا الرجل ! لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبيٌ، فقالا: ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خيرٌ من دينه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفرٌ من الجن الذين ذكر الله عز وجل.
قال محمد بن إسحاق: وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله عز وجل خبرهم عليه: " وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن " - إلى قوله: " ويجركم من عذابٍ أليمٍ " . وقال: " قل أوحى إلي أنه استمع نفرٌ من الجن ... " إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.

قال محمد: وتسمية النفر من الجن الذين استمعوا الوحي - فيما بلغني - حسّا، ومسّا، وناصر، واينا الأرد، وأينين، والأحقم.
قال: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به.
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف مريداً مكة مر به بعض أهل مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها ؟ قال: نعم، قال: ائت الأخنس ابن شريق، فقل له: يقول لك محمد: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي ؟ قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح.
قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، قال: تعود ؟ قال: نعم، قال: ائت سهيل بن عمرو، فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ فأتاه فقال له ذلك، قال: فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب. قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، قال: تعود ؟ قال: نعم، قال: ائت المطعم بن عدي، فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ قال: نعم، فليدخل، قال: فرجع الرجل إليه، فأخبره، وأصبح المطعم ابن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل، قال: أمجيرٌ أم متابع ؟ قال: بل مجير، قال: فقال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة؛ وأقام بها، فدخل يوماً المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة، فلما رآه أبو جهل، قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف، قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك ! فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم - أو سمعه - فأتاهم، فقال: أما أنت يا عتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله؛ ولكن حميت لأنفك، وأما أنت ياأبو جهل بن هشام؛ فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً. وأما أنتم يا معشر الملإ من قريش؛ فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون، وأنتم كارهون.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلامٌ شابٌ مع أبي بمنىً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به.
قال: وخلفه رجلٌ أحول وضىء، له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وما دعا إليه، قال الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه؛ يرد عليه ما يقول ؟ قال: هذا عمه عبد العزىأبو لهب بن عبد المطلب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كنده في منازلهم، وفيهم سيد لهم، يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين، أنه أتى كلباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه؛ حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبح رداً عليه منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم ،يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك؛ أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه، فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم؛ قد كانت أدركته السن؛ حتى لا يقدر على أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه، حدثوه بما يكون في ذلك الموسم؛ فلما قدموا عليه ذلك العام، سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى أن نمنعه ونقوم معه؛ ونخرج به معنا إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلافٍ ! هل لذناباها من مطلب ! والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط ! وإنها لحق، فأين كان رأيكم عنه ! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره؛ كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، لا يسمع بقادم يقدم من العرب؛ له اسمٌ وشرفٌ إلا تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده.
حدثنا ابن حميد :، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الظفري، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت - أخو بني عمرو بن عوف - مكة حاجاً أو معتمراً، قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره، ونسبه وشرفه؛ وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشحم ما كان شاهداً ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... نميمة غشٍ تبترى عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبرى
مع أشعار له كثيرة يقولها.
قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به. فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، قال: فقال له سويدٌ: فلعل الذي معك مثل الذي معي ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك ؟ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسنٌ، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هدى ونورٌ. قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسنٌ.
ثم انصرف عنه، وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج؛ فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلمٌ، وكان قتله قبل بعاث.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشهل، عن محمود بن لبيد، أخي بني الأشهل، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتيةٌ من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم إلى خيرٍ مما جئتم له ؟ قالوا: وما ذاك ؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل علي الكتاب.

ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خيرٌ مما جئتم له. قال: فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس ابن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة. فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.
قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره، ويحمده ويسبحه؛ حتى مات. فما كانوا يشكون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.
قال: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب؛ كما كان يصنع في كل موسم؛ فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراٌ.
قال ابن حميد، قال سلمة: قال محمد بن إسحاق فحدثني عاصم ابن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: من أنتم ؟ قالوا: نفرٌ من الخزرج، قال: أمن موالي يهود ؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا: بلى، قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلىالله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمن والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.
فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا. ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم؛ وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
وهم - فيما ذكر لي - ستة نفر من الخزرج: منهم من بني النجار - وهم تيم الله - ثم من بني مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخرزج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وهو أبو أمامة؛ وعوف بن الحارث ابن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء .
ومن بني زريق بن عامر بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم ابن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان ابن عمرو بن عامر بن زريق.
ومن بني سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر؛ ثم من بني سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
ومن بنى حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، عقبة ابن عامر بن نابي بن زيد بن حرام.
ومن بنى عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد.
قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام؛ حتى فشا فيهم فلم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعه النساء؛ وذلك قبل أن يفترض عليهم الحرب؛ منهم من بنى النجار أسعد بن زرارة ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار؛ وهوأبو أمامة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بنم مالك بن غنم بن مالك ابن النجار؛ وهما ابنا عفراء.

ومن بنى زريق بن عامر، رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر ابن زريق، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق.
ومن بنى عوف بن الخزرج، ثم من بنى غنم بن عوف - وهم القواقل - عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف ابن الخزرج، وأبو عبد الرحمن؛ وهو يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم ابن عمرو بن عمارة، من بنى غضينة من بلي، حليف لهم.
ومن بنى سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج عباس بن عبادة ابن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف.
ومن بنى سلمة، ثم من بنى حرام، عقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة.
ومن بنى سواد، قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
وشهدها من الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، ثم من بنى الأشهل:أبو الهيثم بن التيهان؛ اسمه مالك، حليف لهم.
ومن بنى عمرو بن عوف، عويم بن ساعدة بن صلعجة، حليف لهم حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، عن عبادة بن الصامت، قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى؛ وكنا اثنى عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب؛ على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف؛ فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا؛ فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة؛ فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق؛ أن ابن شهاب ذكر عن عائذ الله بن عبد الله أبى إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فلما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين؛ فكان يسمى مصعب بالمدينة: المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير؛ يريد به دار بنى عبد الأشهل، ودار بنى ظفر؛ وكان سعد بن معاذ بن النعمان ابن امرئ القيس، ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بنى ظفر، على بئر يقال لها بئر مرق؛ فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجالٌ ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل؛ وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد ابن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك ! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا، ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت، كفيتك ذلك؛ هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما.
فأخذ أسيد بن حضير حربته. ثم أقبل إليهما؛ فلما رآه أسعد بن زارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه ،قال: فوقف عليهما متشمتاً. فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعاءنا ! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله.
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له: تغتسل، فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.

قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً؛ إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحدٌ من قومه؛ وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه؛ وهم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي ، قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة، قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه؛ وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضباً مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة. فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا؛ ثم خرج إليهما؛ فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. تغشانا في دارنا بما نكره ! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب ! جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد: أنصفت؛ ثم ركز الحربة، فجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به؛ في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين.
قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير؛ فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم، قال: يا بني عبد الأشهل؛ كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبةً، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف؛ وتلك أوس الله؛ وهم من أوس بن حارثة؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت؛ وهو صيفي، وكان شاعرا لهم، وقائدا يسمعون منه، ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام؛ فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ ومضى بدر و أحد و الخندق.
قال: ثم إن مصعب بن عمير، رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك؛ حتى قدموا مكة؛ فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله من كرامته، والنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين، أخو بنى سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعب ابن مالك حدثه - وكان كعب ممن شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال خرجنا في حجاج قومنا، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا. فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: والله يا هؤلاء، إني قد رأيت رأياً، والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا ! قال: فقلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر - يعنى الكعبة - وأن أصلي إليها. قال: فقلنا: والله ما بلغنا عن نبينا أنه يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. قال: فقال: إني لمصلٍ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام، وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة.

قال: وقد عبنما عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك؛ فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنى والله لقد وقع في نفسي منه شيء؛ لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنا لا نعرفه، ولم نره قبل ذلك - فلقينا رجلاً من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تعرفانه ؟ قلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قلنا: نعم - قال: وقد كنا نعرف العباس ، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس بن عبد المطلب، قال: فدخلنا المسجد؛ فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع العباس؛ فسلمنا؛ ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه؛ وهذا كعب بن مالك - قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر ؟ قال: نعم - قال: فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله؛ إنى خرجت في سفري هذا؛ وقد هداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل منى هذه البنية بظهر، فصليت إليها؛ وقد خالفني أصحابي في ذلك؛ حتى وقع في نفسي من ذلك شيء؛ فماذا ترى يا رسول الله ؟ قال: قد كنت على قبلةٍ لو صبرت عليها ! فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات؛ وليس ذلك كما قالوا:؛ نحن أعلم به منهم.
قال: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق.
قال: فلما فرغنا من الحج؛ وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها؛ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام،أبو جابر، أخبرناه، وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا؛ فكلمناه؛ وقلنا له: يا أبا جابر؛ إنك سيد من سادتنا، وشريفٌ من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً. ثم دعوناه إلى الإسلام؛ وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة.
قال: فأسلم، وشهد معنا العقبة - وكان نقيباً - فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل مستخفين تسلل القطا؛ حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة؛ ونحن سبعون رجلاً، ومعهم امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي، إحدى نساء بنى سلمة؛ وهي أم منيع؛ فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه؛ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخته، ويتوثق له؛ فلما جلس كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث علمتم؛ وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا؛ وهو في عز من قومه ومنعة في بلده؛ وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه؛ ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك؛ وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍ ومنعةٍ عن قومه وبلده.
قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت؛ فتكلم بيا رسول الله؛ وخذ لنفسك وربك ما أحببت.
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تنعون منه نساءكم وأبناءكم.
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة؛ ورثناها كابراً عن كابر.

قال: فاعترض القول - والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان، حليف بنى عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله؛ إن بيننا وبين الناس حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك، وتدعنا ! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم ! أنتم منى وأنا منكم؛ أحارب من حاربتم واسالم من سالمتم.
وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيباً؛ يكونون على قومهم بما فيهم. فأخرجوا اثنى عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى، قالوا: نعم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، ثم أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس؛ فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة؛ وأشرافكم قتلا أسلمتموه؛ فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
وأما عاصم بن عمر بن قتادة، فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعناقهم. وأما عبد الله بن أبي بكر، فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي سلول، فيكون أقوى لأمر القوم. والله أعلم أي ذلك كان؛ فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يديه، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم ابن التيهان.
قال ابن حميد، قال: سلمة، قال محمد: وأما معبد بن كعب بن مالك فحدثني - قال أبو جعفر: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد - قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن معبد بن كعب، قال: فحدثني في حديثه عن أخيه عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور؛ ثم تتابع القوم؛ فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يقول عدو الله ؟ هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب؛ اسمع عدو الله؛ أما والله لأفرغن لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس ابن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك؛ ولكن ارجعوا إلى رحالكم، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها؛ حتى أصبحنا؛ فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج؛ إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا؛ وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم؛ قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله: ما كان من هذا شيء وما علمناه.
قال: وصدقوا لم يعلموا. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض؛ وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان.

قال: فقلت كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر؛ أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال: فسمعها الحارث، فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلي، وقال: والله لتنتعلنهما. قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى ! فاردد عليه نعليه، قال: قلت: والله لا أردهما؛ فأل والله صالح؛ والله لئن صدق الفأل لأسلبنه.
فهذا حديث كعب بن مالك عن العقبة وما حضر منها.
قال أبو جعفر: وقال غير ابن إسحاق: كان مقدم من قدم على النبي صلى الله عليه وسلم للبيعة من الأنصار في ذي الحجة، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهم بمكة بقية ذي الحجة من تلك السنة، والمحرم وصفر؛ وخرج مهاجراً إلى المدينة في شهر ربيع الأول؛ وقدمها يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت منه.
وحدثني علي بن نصر بن علي، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي بن نصر: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة؛ أنه قال: لما رجع من أرض الحبشة من رجع منها ممن كان هاجر إليها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جهل أهل الإسلام يزدادون ويكثرون، وإنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناسٌ كثير، وفشا بالمدينة الإسلام؛ فطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت ذلك قريش تذامرت على أن يفتنوهم، ويشتدوا عليهم، فأخذوهم وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، وكانت الفتنة الآخرة، وكانت فتنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم بها، وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة.
ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيباً، رءوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم؛ على أنا منك وأنت منا، وعلى أنه من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى المدينة؛ وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج، وهي التي أنزل الله عز وجل فيها: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول - يعني قريشاً - فقالوا مثل ما ذكر كعب بن مالك من القول لهم، فقال لهم: إن هذا لأمرٌ جسيم؛ ما كان قومي ليفوتوا علي بمثل هذا وما علمته كان. فانصرفوا عنه، وتفرق الناس من منىً، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بالحاجر، والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة ابن كعب بن الخزرج؛ وكلاهما كان نقيباً؛ فأما المنذر فأعجز القوم، وأنا سعد فأخذوه، وربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجبذونه بجمته - وكان ذا شعر كثير - فقال سعد: فوالله إني لفي أيديهم؛ إذ طلع علي نفر من قريش؛ فيهم رجلٌ أبيض وضىءٌ شعشاع حلو من الرجال. قال: قلت: إن يكن عند أحدٍ من القوم خير فعند هذا. فلما دنا ما عندهم مني رفع يديه فلطمني لطمة شديدة.
قال: قلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا خير. قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني ؛ إذ أوى إلي رجل منهم ممن معهم، فقال: ويحك ! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهدٌ ! قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجاره ، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي ، وللحارث بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك ! فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما. قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلاً من الخزج الآن يضرب بالأبطح، وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً، قالا: ومن هو ؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله إن كان ليجير تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده. قال: فجاءا فخلصا سعداً من أيديهم وانطلق. وكان الذي لكم سعداً سهيل ابن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي.

قال أبو جعفر: فلما قدموا المدينة، أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من أهل الشرك، منهم عمرو بن الجموح ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو قد شهد العقبة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتيان منهم، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايع من الأوس والخزرج في العقبة الآخرة؛ وهي بيعة الحرب حين أذن الله عز وجل في القتال بشروط غير الشروط في العقبة الأولى، وأما الأولى فإنما كانت على بيعة النساء؛ على ما ذكرت الخبر به عن عبادة بن الصامت قبل؛ وكانت بيعة العقبة الثانية على حرب الأحمر والأسود على ما قد ذكرت قبل؛ عن عروة بن الزبير.
وقد حدثنا ابن حميد - قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه الوليد، عن عبادة بن الصامت - وكان أحد النقباء - قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة الحرب؛ وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى.
قال أبو جعفر: فلما أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، ونزل قوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله " ، وبايعه الأنصار على ما وصفت من بيعتهم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ممن هو معه بمكة من المسلمين بالهجرة والخروج إلى المدينة، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها فخرجوا أرسالاً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه بالخروج من مكة؛ فكان أول من هاجر من المدينة والهجرة إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، ثم من بني مخزوم، أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجراً.
ثم كان أول من قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة، عامر بن ربيعة، حليف بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب. ثم عبد الله ابن جحش بن رئاب، وأبو أحمد بن جحش - وكان رجلاً ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد - ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أرسالا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين؛ ينتظر أن يؤذن له في الهجرة. ولم يتخلف معه بمكة أحد المهاجرين إلا أخذ فحبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة. وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له رسول اله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحباً، فطمع أبو بكر أن يكونه، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم، يغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منه منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع أن يلحق بهم لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة؛ وهي دار قصي بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر سول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه !

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج، عن ابن عباس، قال: وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس والحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة، ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا في اليوم الذي تعدوا له؛ وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتٌ له، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفاً على بابها، قالوا: من الشيخ ؟ قال: شيخٌ من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى إلا يعدمكم منه رأي ونصحٌ، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم، من كل قبيلة؛ من بنى عبد شمس شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، ومن بنى نوفل ابن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر ابن نوفل. ومن بنى عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بنى أسد بن عبد العزى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام. ومن بنى مخزوم أبو جهل بن هشام، ومن بنى سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بنى جمح أمية بن خلف؛ ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان أمره ما قد كان وما قد رأيتم؛ وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً؛ قال: فتشاورا. ثم قال قائلٌ منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشابهه من الشعراء الذين قبله: زهيراً، والنابغة ومن مضى منهم ؛ من هذا الموت يصيبه منه ما أصابهم.
قال: فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي؛ والله لو حبستموه - كما تقولون - لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه؛ فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم هذا؛ ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.
ثم تشاوروا، فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا؛ فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه. فأصلحنا أمرنا، وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي؛ ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد فيه رأياً غير هذا ! قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد ! قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتىً شاباً جلداً، نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه، ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها؛ فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاُ، ورضوا منتا بالعقل فعقلناه لهم.
قال: فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا أرى لكم غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ! قال : فلما كان العتمة من الليل، اجتمعوا على بابه فترصدوه متى ينام ، فيثبون عليه. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، واتشح ببردي الحضرمي الأخضر؛ فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
قال أبو جعفر: زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع: وقال له: إن أتاك ابن أبي قحافة، فأخبره أنى توجهت إلى ثور، فمره فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام، واستأجر لي دليلاً يدلني على طريق المدينة؛ واشتر لي راحلةً. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه عنه، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: اجتمعوا له. وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم؛ فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب، ثم قال: نعم، أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم؛ وهو يتلو هذه الآيات من يس: " يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم " إلى قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على راسه تراباً؛ ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا ؟ قالوا: محمداً، قال: خيبكم الله ! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون، فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم، عليه برده؛ فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا، فكان مما نزل من القرآن في ذلك اليوم، وما كانوا أجمعوا له: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ليقتلوك أو ليخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ، وقول الله عز وجل: " أم يقولون شاعرٌ نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين " وقد زعم بعضهم أن أبا بكر أتى علياً فسأله عن نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه لحق بالغار من ثور، وقال: إن كان لك فيه حاجةٌ فالحقه، فخرج أبو بكر مسرعاً، فلحق نبي الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جرس أبي بكر في ظلمة الليل، فحسبه من المشركين، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي، فانقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجرٌ فكثر دمها، وأسرع السعي، فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع صوته، وتكلم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام حتى أتاه، فانطلقا ورجل رسول الله صلى الله عليه وسلم تستن دماً؛ حتى انتهى إلى الغار مع الصبح؛ فدخلاه. وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الدار، وقام علي عليه السلام عن فراشه، فلما دنوا منه عرفوه، فقالوا له: أين صاحبك ؟ قال: لا أدري، أو رقيباً كنت عليه ! أمرتموه بالخروج فخرج؛ فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد، فحبسوه ساعة ثم تركوه، ونجى الله رسوله من مكرهم وأنزل عليه في ذلك: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ليقتلوك أو ليخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " .
قال أبو جعفر: وأذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالهجرة، فحدثنا علي بن نصر الجهضمي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: لما خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن يخرج - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تنزل هذه الآية التي أمروا فيها بالقتال، أستأذنه أبو بكر؛ ولم يكن أمره بالخروج مع من خرج من أصحابه، حبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له: أنظرني، فإنى لا أدري؛ لعلي يؤذن لي بالخروج.
وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين يعدهما للخروج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ فلما استنظره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بالذي يرجو من ربه أن يأذن له بالخروج، حبسهما وعلفهما، انتظار صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أسمنهما، فلما حبس علي خروج النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: أتطمع أن يؤذن لك ؟ قال: نعم؛ فانتظره فمكث بذلك.

فأخبرتني عائشة، أنهم بينا هم ظهراً في بيتهم، وليس عند أبي بكر إلا ابنتاه: عائشة وأسماء؛ إذا هم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قام قائم الظهيرة - وكان لا يخطئه يوماً أن يأتي بيت أبو بكر أول النهار وآخره - فلما رأى أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم جاء ظهراً، قال له: ما جاء بك يا نبي الله إلا أمرٌ حدث ؟ فلما دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم البيت، قال لأبي بكر: أخرج من عندك، قال: ليس علينا عين إنما هما ابنتاي قال: إن الله قد أذن لي بالخروج إلى المدينة، فقال أبو بكر: يا رسول الله، الصحابة، الصحابة! قال: الصحابة. قال أبو بكر: خذ إحدى الراحلتين - وهما الراحلتان اللتان كان يعلفهما أبو بكر، ويعدهما للخروج، إذا أذن لرسوال الله صلى الله عليه وسلم - فأعطاه إحدى الراحلتين، فقال: خذها يا رسول الله فارتحلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. قد أخذتها بالثمن، وكان عامر بن فهيرة مولداً من مولدي الأزد، كان للطفيل ابن عبد الله بن سخبرة، وهوأبو الحارث بن الطفيل، وكان أخا عائشة بنت أبي بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر لأمهما، فأسلم عامر بن فهيرة، وهو مملوك لهم، فاشتراه أبو بكر فأعتقه، وكان حسن الإسلام، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، كان لأبي بكر منيحةٌ من غنمٍ تروح على أهله، فأرسل أبو بكر عامراً في الغنم إلى ثورٌ، فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور، وهو الغار الذي سماه الله في القرآن، فأرسل بظهرهما رجلاً من بنى عبد بن عدي، حليفاً لقريش من بنى سهم، ثم آل العاص بن وائل؛ وذلك العدوي يومئذ مشركٌ، ولكنهما استأجراه، وهو هاد بالطريق. وفي الليالي التي مكثا بالغار كان يأتيهما عبد الله بن أبي بكر حين يمسي بكل خبر بمكة، ثم يصبح بمكة ويريح عامر الغنم كل ليلة، فيحلبان، ثم يسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس ولا يفطن له؛ حتى إذا هدأت عنهما الأصوات، وأتاهما أن قد سكت عنهما، جاءهما صاحبهما ببعيريهما، فانطلقا وانطلق معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه على رحله، ليس معهما أحدٌ إلا عامر بن فهيرة، وأخو بنى عدي يهديهما الطريق، فأجاز بهما في أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى حاذى بهما الساحل، أسفل من عسفان، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد ما جاوز قديداً، ثم سلك الخرار، ثم أجاز على ثنية المرة، ثم أخذ على طريق يقال لها المدلجة بين طريق عمق وطريق الروحاء، حتى توافوا طريق العرج، وسلك ماء يقال له الغابر عن يمين ركوبة؛ حتى يطلع على بطن رئم، ثم جاء حتى قدم المدينة على بنى عمرو بن عوف قبل القائلة. فحدثت أنه لم يبق فيهم إلا يومين - وتزعم بنو عمرو بن عوف أن قد أقام فيهم أفضل من ذلك - فاقتاد راحلته فاتبعته حتى دخل في دور بنى النجار، فأراهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مربداً كان بين ظهري دورهم.
وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، قال: حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئه أحدٌ طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرةً، وإما عشيةً حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة، وبالخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها.
قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختى أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك، قال: يا نبي الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي ! قال: إن الله عز وجل قد أذن لي بالخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة.

قالت:فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح؛ حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي من الفرح. ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتاي، كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أرقد - رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه أمرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً - يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما، ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر؛ فأما علي بن أبي طالب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحدٌ عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما يعرف من صدقه وأمانته. فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور جبل في أسفل مكة، فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى بالغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً، ومعه أبو بكر، وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم، فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش ومعهم، ويستمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم، حتى يعفي عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ببعيريهما، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما. فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس فيها عصامٌ فحلت نطاقها، فجعلته لها عصاماً، ثم علقتها به - فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر: ذات النطاقين؛ لذلك - فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرب له أفضلهما، ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أركب بعيراً ليس لي، قال: فهو لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ! قال: لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال: هي لك يا رسول الله، فركبا فانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه يخدمهما بالطريق.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفرٌ من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبي بكر ؟ قلت: لا أدري والله أين أبي ! قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي. قالت: ثم انصرفوا ومكثنا ثلاث ليال، لا ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أقبل رجل من الجن، من أسفل مكة يغني بأبيات من الشعر غناء العرب والناس يتبعونه؛ يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واغتدوا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة، وكانوا أربعه: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقد دليلهما.

قال أبو جعفر: حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا هشام ابن محمد بن السائب الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلاً يقول في الليل على أبي قبيس:
فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان ؟ سعد بكر، سعد تميم، سعد هذيم ! فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنانٌ من الفردوس ذات رفارف
فلما أصبحوا، قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
قال أبو جعفر: وقدم دليلهما بهما قباء، على بني عمرو بن عوف، لثنتى عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، يوم الإثنين حين اشتد الضحى، وكادت الشمس أن تعتدل .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال؛ فإذا لم نجد ظلاً دخلنا بيوتنا، وذلك في أيام حارةٍ؛ حتى إذا كان في اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس؛ حتى إذا لم يبق ظلٌ دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رأه رجلٌ من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع، وإن كنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء.
قال: فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا من لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، قال: وركبه الناس، وما نعرفه من أبي بكر؛ حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - على كلثوم بن هدم، أخي بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.
ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن هدم: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن هدم، جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة؛ وذلك أنه كان عزباً لا أهل له، وكان منازل العزاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين عنده؛ فمن هنالك يقال: نزل على سعد بن خيثمة، وكان يقال لبيت سعد بن خيثمة بيت العزاب، فالله أعلم أي ذلك كان، كلا قد سمعنا.
ونزل أبو بكر بن أبي قحافة على خبيب بن أساف، أخي بني الحارث ابن الخزرج بالسنح، ويقول قائل: كان منزله على خارجة بن زيد بن أبي زهير، أخي بني الحارث بن الخزرج.
وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده إلى الناس؛ حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل معه على كلثوم بن هدم، فكان علي يقول: وإنما كانت إقامته بقباء على امرأة لا زوج لها مسلمة، ليلةً أو ليلتين، وكان يقول: كنت نزلت بقباء على امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنساناً يأتيها في جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه، قال: فاستربت لشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئاً، ما أدري ما هو ؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك ! قالت: هذا سهل بن حنيف بن واهب، قد عرف إني امرأة لا أحد لي؛ فإذا أمسى عدا علي أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، وقال: احتطبي بهذا. فكان علي بن أبي طالب يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني هذا الحديث علي بن هند بن سعد بن سهل بن حنيف، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس؛ وأسس مسجدهم، ثم أخرجه الله عز وجل من بين أظهرهم يوم الجمعة؛ وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك. والله أعلم.
ويقول بعضهم: إن مقامه بقباء كان بضعة عشر يوماً.
قال أبو جعفر: واختلف السلف من أهل العلم في مدة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد ما استنبىء، فقال بعضهم: كانت مدة مقامه بها إلى أن هاجر إلى المدينة عشر سنين.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس المدني - يقال له أبو زكير - قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشراً.
حدثني الحسين بن نصر الآملي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن؛ قال: أخبرتني عائشة وابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين، ينزل عليه القرآن.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى ابن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشراً.
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنز ل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشراً.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، قال: هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس عشرٍ من مخرجه.
قال أبو جعفر: وقال أخرون: بل أقام بعدما استنبىء بمكة ثلاثة عشرة سنة .
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - ، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أبو جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا زكرياء ابن إسحاق، قال: حدثنا عمر بن دينار، عن ابن عباس، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة.
حدثني عبيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا روح ،قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة.
قال أبو جعفر: وقد وافق قول من قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، أخي بني عدي بن النجار، في قصيدته التي يقول فيها، وهو يصف كرامة الله إياهم بما أكرمهم به من الإسلام، ونزول نبي الله صلى الله عليه وسلم ، عليهم:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ... يذكر لو يلقى صديقاً مواتيا !
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوى، ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وألفى صديقاً وأطمأنت به النوى ... وكان له عوناً من الله باديا
يقص لنا ما قال نوحٌ لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا
وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريباً، ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... ونعلم أن الله أفضل هاديا
فأخبر أبو القيس في قصيدته هذه أن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه قريش، كان بعدما استنبىء وصدع بالوحي من الله بضع عشرة حجة.
وقال بعضهم كان مقامه بمكة خمس عشرة سنة:

ذكر من قال ذلك: حدثني بذلك الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ واستشهد بهذا البيت من قول أبي قيس صرمة بن أبي أنس، غير أنه أنشد ذلك:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجةً ... يذكر لو يلقى صديقاً مواتيا !
قال أبو جعفر: وقد روى عن الشعبي أن إسرافيل قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه ثلاث سنين.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي - قال: وحدثنا إملاءً من لفظه منصورٌ عن الأشعث، عن الشعبي - قال: قرن إسرافيل بنوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، يسمع حسه، ولا يرى شخصه. ثم كان بعد ذلك جبريل عليه السلام.
قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار، فقال: والله يا بن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعاً، وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبىء إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر، قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بمكة وعشر سنين بالمدينة.
قال أبو جعفر: فلعل الذي قالوا: كان مقامه بمكة بعد الوحي عشراً عدوا مقامه بها من حين أتاه جبريل بالوحي من الله عز وجل، وأظهر الدعاء إلى توحيد الله. وعد الذين قالوا: كان مقامه ثلاث عشرة سنة من أول الوقت الذي استنبىء فيه؛ وكان إسرافيل المقرون به وهي السنون الثلاث التي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة.
وقد روى عن قتادة غير القولين اللذين ذكرت؛ وذلك ما حدثت عن روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين بمكة وعشراً بعدما هاجر، وكان الحسن يقول: عشراً بمكة وعشراً بالمدينة.
ذكر الوقت الذي عمل فيه التأريخقال أبو جعفر: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أمر بالتأريخ فيما قيل. حدثني زكرياء بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي سلمة، عن ابن شهاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة - وقدمها في شهر ربيع الأول - أمر بالتأريخ.
قال أبو جعفر: فذكر أنهم يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة، وقد قيل أول من أمر بالتأريخ في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله.
ذكر الأخبار الواردة بذلك: حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حبان ابن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: إنه تأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. قال: فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا خالد بن حيان أبو زيد الخراز، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، قال: رفع إلى عمر صكٌ محله في شعبان، فقال عمر: أي شعبان ؟ الذي هو أت، أو الذي نحن فيه ؟ قال: ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال: بعضهم: اكتبوا على تأريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين؛ فهذا يطول. وقال بعضهم: اكتبوا على تأريخ الفرس؛ فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله؛ فاجتمع رأيهم على أن ينظزوا: كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ فوجدوه عشر سنين؛ فكتب التأريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثت عن أمية بن خالد وأبي داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا ؟ قال: شيء تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر بن الخطاب: حسنٌ، فأرخوا.
فقالوا: من أي السنين نبدأ ؟ قالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته؛ ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: فأي الشهور نبدأ ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم؛ وهو شهرٌ حرام، فأجمعوا على المحرم.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعيد بن أبي مريم. وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبي، قالا جميعاً: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل ابن سعد، قال: ما أصاب الناس العدد؛ ما عدوا من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من وفاته، ولا عدوا إلا من مقدمه المدينة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يعقوب ابن إسحاق بن أبي عباد؛ قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو ابن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فذكر مثله.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا نوح بن قيس الطاحي، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في: " والفجر وليالٍ عشرٍ " ، قال: الفجر هو المحرم، فجر السنة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق؛ عن الأسود بن يزيد، عن عبيد بن عمير، قال: إن المحرم شهر الله عز وجل، وهو رأس السنة، فيه يكسى البيت، ويؤرخ التأريخ، ويضرب فيه الورق، وفيه يوم كان تاب فيه قوم، فتاب الله عز وجل عليهم .
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية، وهو باليمن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول، وأن الناس أرخوا لأول السنة؛ وإنما أرخ الناس لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد ابن صالح، عن الشعبي، قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم عليه السلام إلى بنيان البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت؛ حتى تفرقت، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة، بني زيد، من تهامة؛ حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل؛ فكان التأريخ من الفيل، حتى أرخ عمر ابن الخطاب من الهجرة؛ وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم، فقال: من أي يوم نكتب ؟ فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه .
قال أبو جعفر: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد، عمن رواه عنه في تأريخ بني إسماعيل غير بعيد من الحق؛ وذلك أنهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم، وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي بلادهم، ولزبةٍ أصابتهم؛ أو بالعامل كان يكون عليهم، أو الأمر الحادث فيهم ينتشر خبره عندهم؛ يدل على ذلك اختلاف شعرائهم في تأريخاتهم؛ ولو كان لهم تأريخ على أمرٍ معروف، وأصلٍ معمول عليه، لم يختلف ذلك منهم .
ومن ذلك قول الربيع بن ضبع الفزاري:
هأنذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس هل سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا !
فأرخ عمره بحجر بن عمرو أبي امرئ القيس .
وقال نابغة بني جعدة:

فمن يك سائلاً عني فإني ... من الشبان أزمان الخنان
فجعل النابغة تأريخه ما أرخ بزمان علة كانت فيهم عامة.
وقال آخر:
وما هي إلا في إزارٍ وعلقةٍ ... مغار ابن همامٍ على حي خثعما
فكل واحد من هؤلاء الذين ذكرت تأريخهم في هذه الأبيات، أرخ على قرب زمان بعضهم من بعض، وقرب وقت ما أرخ به من وقت الآخر؛ بغير المعنى الذي أرخ به الآخر؛ ولو كان لهم تأريخ معروف كما للمسلمين اليوم ولسائر الأمم غيرها، كانوا إن شاء الله لا يتعدونه؛ ولكن الأمر في ذلك كان عندهم إن شاء الله على ما ذكرت؛ فأما قريش من بين العرب؛ فإن آخر ما حصلت من تأريخها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة على التأريخ بعام الفيل؛ وذلك عام ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بين عام الفيل والفجار عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبة ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين.
قال أبو جعفر: وبعث رسول اله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته - كما قال الشعبي - ثلاث سنين: إسرافيل؛ وذلك قبل أن يؤمر بالدعاء وإظهاره على ما قدمنا الرواية والإخبار به، ثم قرن بنبوته جبريل عليه السلام بعد السنين الثلاث، وأمره بإظهار الدعوة إلى الله، فأظهرها، ودعا إلى الله مقيماً بمكة عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة من حين استنبئ، وكان خروجه من مكة إليها يوم الاثنين، وقدومه المدينة يوم الاثنين؛ لمضى اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول .
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهرين وأيام؛ هي اثنا عشر؛ وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التأريخ من وقت قدومه؛ بل من أول تلك السنة.
ذكر ما كان من

الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة
قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر إرتحاله عنه. ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه؛ وهي السنة الأولى من الهجرة.
فمن ذلك تجميعه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء؛ وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم - قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة؛ وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل.
خطبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أول جمعة جمعها بالمدينة
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:

" الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودنوٍ من الساعة، وقربٍ من الأجل؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى وفرط؛ وضل ضلالاً بعيداً. وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم؛ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكراً؛ وإن تقوى الله لمن عمل به على وجلٍ ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلامٍ للعبيد " . فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً ، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً. وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وأن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله؛ قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه؛ الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم !.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلم يا رسول الله ! إلى العدد والعدة والمنعة؛ فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: خلوا زمامها فإنها مأمورة؛ حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده؛ وهو يومئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء؛ يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل، ابنا عمرو بن عباد بن ابن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن النجار. فلما بركت لم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به؛ ثم التفتت خلفها، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع رحله. فنزل على أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب، في بني غنم بن النجار.
قال أبو جعفر: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد لمن هو ؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأرضيهما. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجداً، ونزل على أبي أيوب، حتى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى موضع مسجده، ثم بناه.
والصحيح عندنا في ذلك، ما حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبورٌ من قبور الجاهلية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغيه به ثمناً إلا ما عند الله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يصلي في مرابض الغنم، وحيث أدركته الصلاة.
قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده صلى الله عليه وسلم هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار.

وفي هذه السنة بني مسجد قباء.
وكان أول من توفى بعد مقدمه المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيراً حتى مات.
ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه،أبو أمامة. وكانت وفاته قبل أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد إبن إسحاق. حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب ! يقولون: لو كان محمد نبياً لم يمت صاحبه؛ ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً.
وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد ابن زرارة من الشوكة .
قال ابن حميد، قال سلمة، عن إبن إسحاق، قال: حدثني عاصم ابن عمر بن قتادة الأنصاري أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أبو أمامة نقيبهم - فقالوا: يا رسول الله؛ إن هذا الرجل قد كان منا حيث قد علمت؛ فاجعل منا رجلاً مكانه، يقيم من أمرنا ما كان يقيمه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أخوالي وأنا منكم؛ وأنا نقيبكم.
قال: وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض؛ فكان من فضل بني النجار الذي تعد على قومهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقيبهم.
وفي هذه السنة مات أبو أحيحة بماله بالطائف. ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة.
وفيها بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة بعد مقدمها المدينة بثمانية أشهر؛ في ذي القعدة في قول بعضهم، وفي قول بعضٍ: بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر، في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقد قيل: تزوجها وهي ابنة سبع.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن عبد الرحمن بن أبي الضحاك، عن رجل من قريش، عن عبد الرحمن بن محمد، أن عبد الله بن صفوان وآخر معه أتيا عائشة، فقالت عائشة: يا فلان؛ أسمعت حديث حفصة ؟ قال لها: نعم يا أم المؤمنين، قال لها عبد الله بن صفوان: وما ذاك ؟ قالت: خلالٌ في تسع لم تكن في أحدٍ من النساء إلا ما آتى الله مريم بنت عمران؛ والله ما أقول هذا فخراً على أحد من صواحبي، قال لها: وما هن ؟ قالت: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين، وأهديت إليه لتسع سنين، وتزوجني بكراً لم يشركه في أحدٌ من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه ، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن كادت الأمة أن تهلك، ورأيت جبريل ولم يراه أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي لم يله أحدٌ غير الملك وأنا.
قال أبو جعفر: وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ما قيل - في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال.
ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال. وكانت عائشة تستحب أن يبنى بالنساء في شوال.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني ! وكانت عائشة تستحب أن يدخل بالنساء في شوال.
قال أبو جعفر: وقيل: إن رسوال الله صلى الله عليه وسلم بنى بها في شوال يوم الأربعاء في منزل أبي بكر بالسنح.
وفي هذه السنة بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة.
ولما رجع - فيما ذكر - عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة؛ وعبد الله بن أبي بكر حتى قدموا المدينة.

وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين؛ وذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر ،في ربيع الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.
وفيها - في قول بعضهم - ولد عبد الله بن الزبير. وفي قول الواقدي: ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شوال.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهراً بالمدينة.
قال أبو جعفر: وكان أول مولودٍ ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر - فيما ذكر - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد؛ وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم؛ فكان تكبيرهم ذلك سروراً منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك.
وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حاملٌ به.
وقيل أيضاً: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة؛ وإنه أول مولد ولد للأنصار بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ وأنكر ذلك الواقدي أيضاً.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن بشير؛ ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهراً، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، أو أكثر قليلاً.
قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، قال: ذكر النعمان بن بشير عند ابن الزبير، فقال: هو أسن مني بستة أشهر.
قال أبو الأسود: ولد ابن الزبير على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهراً في ربيع الآخر.
قال أبو جعفر : وقيل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي وزياد ابن سمية فيها ولدا.
قال: وزعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبد المطلب لواءً أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقى أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فحجز بينهم مجدي بن عمر الجهني فافترقوا، ولم يكن بينهم قتال. وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد أيضاً في هذه السنة، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره في شوال، لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ، وأن لواءه كان مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية المرة - وهي بناحية الجحفة - في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري؛ وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء؛ فكان بينهم الرمي دون المسايفة.
قال: وقد اختلفوا في أمير السرية؛ فقال بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب، وقال بعضهم: كان مكرز بن حفص.
قال الواقدي: ورأيت الثبت على أبي سفيان بن حرب، وكان في مائتين من المشركين.
قال: وفيها عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواءً أبيض يحمله المقداد بن عمرو في ذي القعدة. وقال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: خرجت في عشرين رجلاً على أقدامنا - أو قال: واحد وعشرين رجلاً - فكنا نكمن النهار، ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسةٍ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلي إلا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم، وكانوا ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.
قال أبو جعفر: وقال ابن إسحاق في أمر كل هذه السرايا التي ذكرت عن الواقدي قوله فيها غير ما قاله الواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة الثانية من وقت التاريخ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتى عشرة ليلة مضت منه، فأقام بها ما بقي من شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم.

وخرج في صفر غازياً على رأس اثنى عشر شهراً من مقدمه المدينة، لثنتى عشرة ليلةٍ مضت من شهر ربيع الأول؛ حتى بلغ ودان؛ يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويه غزوة الأبواء، فوادعته فيها بنو ضمرة؛ وكان الذي وادعه منهم عليهم سيدهم كان في زمانه ذلك مخشى بن عمرو، رجل منهم.
قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول.
وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب في ثمانين أو ستين راكباً من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، حتى بلغ أحياء ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقى بها جمعاً عظيماً من قريش؛ فلم يكن بينهم قتال؛ إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم؛ فكان أول سهم رمي به في الإسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حاميةٌ، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر حليف بني نوفل بن عبد مناف - وكانا مسلمين؛ ولكنهما خرجا يتوصلان بالكفار إلى المسلمين - وكان على ذلك الجمع عكرمة بن أبي جهل.
قال محمد: فكانت راية عبيدة - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة. قال: وبعث حمزة بن عبد المطلب في مقامه ذلك إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين؛ وهي من أرض جهينة ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، فكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.
قال: وبعض القوم يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الملسمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة بن الحارث كانا معاً، فشبه ذلك على الناس.
قال: والذي سمعنا من أهل العلم عندنا أن راية عبيدة بن الحارث كانت أول راية عقدت في الإسلام.
قال: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر، يريد قريشاً، حتى إذا بلغ بواط من ناحية رضوى رجع ولم يلق كيداً، فلبث بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأول.
ثم غزا يريد قريشاً، فسلك على نقب بني دينار بن النجار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده. وصنع له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثا في البرمة معلوم هنالك. واستقى له ماء به يقال له المشيرب. ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها شعبة عبد الله - وذلك اسمها اليوم - ثم صب ليسار، حتى هبط يليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة؛ واستقى له من بئر بالضبوعة. ثم سلك الفرش؛ فرش ملل، حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام. ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً.
وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب ما قال.
قال: فلم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من غزوة العشيرة بالمدينة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه؛ وهي غزو بدر الأولى؛ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجب وشعبان. وقد كان بعث فيما بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط.
وزعم الواقدي أن في هذه السنة - أعني السنة الأولى من الهجرة - جاء أبو قيس بن الأسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه ! أنظر في أمري ، ثم أعود إليك. فلقيه عبد الله بن أبي، فقال له: كرهت والله حرب الخزرج ! فقال أبو قيس: لا أسلم سنة؛ فمات في ذي القعدة.
ثم كانت السنة الثانية من الهجرة

فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قول جميع أهل السير - فيها، في ربيع الأول بنفسه غزوة الأبواء - ويقال ودان - وبينهما ستة أميال هي بحذائها؛ واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة حين خرج إليها سعد بن عبادة بن دليم. وكان صاحب لوائه في هذه الغزاة حمزة بن عبد المطلب، وكان لواؤه - فيما ذكر - أبيض.
وقال الواقدي: كان مقامه بها خمسة عشرة ليلة، ثم قدم المدينة.
قال الواقدي: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه؛ حتى بلغ بواط في شهر ربيع الأول؛ يعترض لعيرات قريش، وفيها أمية بن خلف ومائة رجلٍ من قريش وألفان وخمسمائة بعير. ثم رحع ولم يلق كيداً.
وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد ابن معاذ في غزوته هذه.
قال: ثم غزا في ربيع الأول في طلب كرزين بن جابر الفهري في المهاجرين، وكان قد أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء فاستاقه، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بدراً فلم يلحقه؛ وكان يجمل لواءه علي بن أبي طالب عليه السلام. واستخلف على المدينة زيد بن حارثة.
غزوة ذات العشيرةقال: وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعترض لعيرات قريش حتى أبدأت إلى الشام في المهاجرين - وهي غزوة ذات العشيرة - حتى بلغ ينبع؛ واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد؛ وكان يحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب. فحدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يزيد بن خثيم؛ عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: حدثنا أبوك يزيد بن خثيم، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي رفيقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة، فنزلنا منزلاً فرأينا رجالاً من بني مدلج يعملون في نخل لهم، فقلت: لو انطلقنا ! فنظرنا إليهم كيف يعملون، فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعةً، ثم غشينا النعاس، فعمدنا إلى صور من النخل؛ فنمنا تحته في دقعاء من التراب، فما أيقظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتانا وقد تتربنا في ذلك التراب؛ فحرك علياً برجله، فقال: قم يا أبا تراب؛ ألا أخبرك بأشقى الناس ؟ أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - فيخضب هذ منها؛ وأخذ بلحيته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن محمد بن خثيم المحاربي، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خثيم - وهو أبو يزيد - عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلي رفيقين، فذكر نحوه.
وقد قيل في ذلك غير هذا القول؛ وذلك ما حدثني به محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، قال: قيل لسهل بن سعد: إن بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك أن تسب علياً عند المنبر، قال: أقول ماذا ؟ قال: تقول : أبا تراب، قال: والله ما سماه بذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: وكيف ذلك يا أبا العباس ؟ قال: دخل علي على فاطمة، ثم خرج من عندها، فاضطجع في فيء المسجد. قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة، فقال لها :أين ابن عمك ؟ فقالت: هو ذاك مضطجع في المسجد، قال: فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجده قد سقط رادؤه عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره، ويقول: اجلس أبا تراب. فوالله ما سماه به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ووالله ما كان اسمٌ أحب إليه منه !.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة في صفر، لليال بقين منه، تزوج علي بن أبي طالب عليه السلام فاطمة رضي الله عنها؛ حدثت بذلك، عن محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر.
سرية عبد الله بن حجشقال أبو جعفر الطبري: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر الفهري إلى المدينة، وذلك في جمادى الآخرة، بعث في رجب عبد الله بن جحش معه ثمانية رهط من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ؛ فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الزهري ويزيد بن رومان؛ عن عروة بن الزبير، بذلك .
وأما الواقدي فإنه زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله ابن جحش سريةً في اثني رجلاً من المهاجرين.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة، قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم له كتاباً - يعني لعبد الله بن جحش - وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين؛ ثم ينظر فيه فيمضي له أمره به، ولا يستكره أحداً من أصحابه، فلما سار عبد الله ابن حجش يومين، فتح الكتاب، ونظر فيه، فإذا فيه: " وإذا نظرت في كتابي هذا؛ فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف؛ فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله في الكتاب، قال: سمعٌ وطاعةٌ؛ ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة، فأرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم؛ فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع؛ فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز؛ حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا عليه في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش فيها، منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن - وقد كان حلق رأسه - فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم؛ وذلك في آخر يوم من رجب؛ فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم؛ فليمتنعن به منكم؛ ولئن قتلتموهم في الشهر الحرام. فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم؛ ثم تشجعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين؛ حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
قال: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش ،أن عبد الله بن جحش، قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله من الغنائم الخمس - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الغنيمة، قسم سائرها بين أصحابه؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم المسلمون فيما صنعوا. وقال لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال ! وقالت قريش: قد استحل محمدٌ وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. فقال من يرد ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان. وقالت اليهود: تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله " عمرو " عمرت الحرب، و " الحضرمي " حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب؛ فجعل الله عز وجل ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه .... " الآية.
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين.
وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفذيكموهما؛ حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما؛ فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة، ففاداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؛ فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في بئر معونة شهيداً.

قال أبو جعفر: وخالف في بعض هذه القصة محمد بن إسحاق والواقدي جميعاً السدي؛ حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد؛ قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌ عن سبيل الله " ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر؛ عليهم عبد الله بن جحش الأسدي وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي؛ حليف لعمر بن الخطاب.
وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل؛ فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب؛ فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة؛ فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص؛ فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعبتة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة؛ فإذا هو بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي؛ فاقتتلوا، فأسروا الحكم بن كيسان وعبد الله بن المغيرة ،وانفلت المغيرة، وقتل عمرو بن الحضرمي، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أول غنيمة غنهما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا من الأموال؛ أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا ! فلما رجع سعد وصاحبه فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون، وقالوا: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب ! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى - وقيل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رجب؛ فأنزل الله عز وجل يعير أهل مكة: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ ... " الآية.
قال أبو جعفر: وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان انتدب لهذا المسير أبا عبيدة بن الجراح، ثم بدا له فيه، فندب له عبد الله بن جحش.
ذكر الخبر بذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى؛ حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطاً، فبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح؛ فلما أخذ لينطلق بكى صبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رجلاً مكانه يقال له عبد الله جحش، وكتب له كتاباً وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا: " ولا تكرهن أحداً من أصحابك على السير معك " . فلما قرأ الكتاب استرجع، ثم قال: سمعاً وطاهة لأمر الله ورسوله ! فخبرهم بالخبر؛ وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ! فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهرالحرام ! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه " إلى قوله: " والفتنة أكبر من القتل " ، الفتنة هي الشرك.
وقال بعض الذين - أظنه قال - : كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحدٌ؛ فقال: إن خيراً فقد وليت، وإن يكن ذنباً فقد علمت.
ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من سني الهجرة ومن ذلك ما كان من صرف الله عز وجل قبلة المسلمين من الشأم إلى الكعبة، وذلك في السنة الثانية من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في شعبان.
واختلف السلف من العلماء في الوقت الذي صرفت فيه من هذه السنة؛ فقال بعضهم - وهم الجمهور الأعظم: صرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمر بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدى - في خبر ذكره - عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كان الناس يصلون قبل بيت المقدس؛ فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهراً من مهاجره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر، وكان يصلي قبل بيت المقدس؛ فنسختها الكعبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي قبل الكعبة، فأنزل الله عز وجل: " قد نرى تقلب وجهك في السماء ... " ، الآية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .
وحدثت عن ابن سعد، عن الواقدي مثل ذلك. وقال: صرفت القبلة في الظهر يوم الثلاثاء للنصف من شعبان .
قال أبو جعفر: وقال آخرون: إنما صرفت القبلة إلى الكعبة لستة عشر شهراً مضت من سني الهجرة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى بن إبراهيم الآملي، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: سمعت قتادة، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم ! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل: " قد نرى تقلب وجهك في السماء ... " الآية .
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فرض - فيما ذكر - صوم رمضان. وقيل: إنه فرض في شعبان منها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء؛ فسألهم فأخبروه أنه اليوم الذي غرق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم؛ فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام وأمر الناس بصومه، فلما فرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه.
وفيها أمر الناس بإخراج زكاة الفطر. وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، وأمرهم بذلك .
وفيها خرج إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد؛ وكان ذلك أول خرجةٍ خرجها بالناس إلى المصلى لصلاة العيد.
وفيها - فيما ذكر - حملت العنزة له إلى المصلى فصلى إليها، وكانت للزبير بن العوام - كان النجاشي وهبها له - فكانت تحمل بين يديه في الأعياد، وهي اليوم فيما بلغني عند المؤذنين بالمدينة.
وفيها كانت وقعة بدر الكبرى بين رسول الله صلى عليه وسلم والكفار من قريش؛ وذلك في شهر رمضان منها.
ثم اختلفوا في اليوم الذي فيه كانت الحرب بينه وبينهم، فقال بعضهم: كانت وقعة بدر يوم تسعة عشر من شهر رمضان.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: التمسوا ليلة القدر في تسع عشرة ليلةً من رمضان؛ فإنها ليلة بدر.
حدثنا محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حجير الثعلبي، عن الأسود عن عبد الله، قال: التمسوا ليلة القدر في تسع عشرة من رمضان، فإن صبيحتها كانت صبيحة بدر.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد بن محمد المحاربي، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن زيد، أنه كان لا يحيي ليلةً من شهر رمضان كما يحيى ليلة تسع عشرة وثلاث وعشرين، ويصبح وجهه مصفراً من أثر السهر، فقيل له، فقال: إن الله عز وجل فرق في صبحيتها بين الحق والباطل.
وقال آخرون: كانت يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن حجير، عن الأسود وعلقمة، أن عبد الله بن مسعود، قال: التمسوها في سبع عشرة. وتلا هذه الآية: " يوم التقى الجمعان " ، يوم بدر، ثم قال: أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين.

حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قل: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا الثوري، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال: كانت بدر صبيحة تسع عشرة من رمضان.
حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبدالله مثله.
قال الحارث: قال ابن سعد، قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح، فقال: هذا أعجب الأشياء؛ ما ظننت أن أحداً من أهل الدنيا شك في هذا؛ إنها صبيحة سبع عشرة من رمضان، يوم الجمعة.
قال محمد بن صالح: وسمعت عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان؛ يقولان ذلك. قال لي محمد بن صالح: يا بن أخي، وما تحتاج إلى تسمية الرجال في هذا ! هذا أبين من ذلك؛ ما يجهل هذا النساء في بيوتهن.
قال الواقدي: فذكرته لعبد الرحمن بن أبي الزناد، فقال: أخبرني أبي، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، أنه كان يحيى ليلة سبع عشرة من شهر رمضان؛ وإنن كان ليصبح وعلى وجهه أثر السهر، ويقول: فرق الله في صبحيتها بين الحق والباطل، وأعز في صبحها الإسلام، وأنزل فيها القرآن، وأذل فيها أئمة الكفر.
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى ابن واضح، قال: حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن أبي عون محمد ابن عبيد الله الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب، قال: قال قال الحسن بن علي بن أبي طالب: كانت ليلة الفرقان يوم التقى، الجمعان، لسبع عشرة من رمضان.
وكان الذي هاج وقعة بدر وسائر الحروب التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش - فيما قال عروزة بن الزبير - ما كان من قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي.
ذكر وقعة بدر الكبرىحدثنا علي بن نصر بن علي، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن وعروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى في أبي سفيان ومخرجه، تسألني كيف كان شأنه ؟ كان من شأنه أن أبا سفيان بن حرب أقبل من الشام في قريب من سبعين راكباً من قبائل قريش كلها، كانوا تجاراً بالشام، فأقبلوا جميعاً معهم أموالهم وتجارتهم، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابة؛ وقد كانت الحرب بينهم قبل ذلك، فقتلت قتلى، وقتل ابن الحضرمي في ناس بنخلة، وأسرت أسارى من قريش؛ فيهم بعض بني المغيرة، وفيهم ابن كيسان مولاهم، أصابهم عبد الله بن جحش وواقد حليف بني عدي بن كعب، في ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهم مع عبد الله بن جحش، وكانت تلك الوقعة هاجت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وأول ما أصاب به بعضهم بعضاً من الحرب، وذلك قبل مخرج أبي سفيان وأصحابه إلى الشأم.
ثم إن أبا سفيان أقبل بعد ذلك ومن معه من ركبان قريش مقبلين من الشأم، فسلكوا طريق الساحل، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه وحدثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم، فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه؛ لا يرونها إلا غنيمة لهم؛ لا يظنون أن يكون كبير قتال إذا لقوهم، وهي التي أنزل الله عز وجل فيها: " وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم " .

فلما سمع أبو سفيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضون له، بعث إلى قريش: إن محمدا وأصحابه معترضون لكم، فأجيروا تجارتكم. فلما أتى قريشاً الخبر - وفي عير أبي سفيان؛ من بطون كعب ابن لؤي كلها - نفر لها أهل مكة؛ وهي نفرة بني كعب بن لؤي، ليس فيها من بني عامر أحدٌ إلا من كان من بني مالك بن حسل؛ ولم يسمع بنفرة قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ؛ حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم بدراً - وكان طريق ركبان قريش، من أخذ منهم طريق الساحل إلى الشأم - فخفض أبو سفيان عن بدر ولزم طريق الساحل، وخاف الرصد على بدر وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عرس قريباً من بدر، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في عصابة من أصحابه إلى ماء بدر، وليسوا يحسبون أن قريشاً خرجت لهم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي؛ إذا ورد بعد روايا قريش ماء بدر وفيمن ورد من الروايا غلام لبني الحجاج أسود؛ فأخذه النفر الذي بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير إلى الماء، وأفلت بعض أصحاب العبد نحو قريش، فأقبلوا به حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معرسه، فسألوه عن أبي سفيان وأصحابه؛ لا يحسبون إلا أنه معهم، فطفق العبد يحدثهم عن قريش ومن خرج منها، وعن رءوسهم، ويصدقهم الخبر، وهو أكره شيء إليهم الخبر الذي يخبرهم؛ وإنما يطلبون حينئذ بالركب أبا سفيان وأصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي؛ يركع ويسجد ويرى ويسمع ما يصنع بالعبد، فطفقوا إذا ذكر لهم أنها قريش جاءتهم ضربوه وكذبوه وقالوا: إنما تكتمنا أبا سفيان وأصحابه؛ فجعل العبد إذا أذلقوه بالضرب وسألوه عن أبي سفيان وأصحابه - وليس لهم بهم علم؛ إنما هو من روايا قريش - قال: نعم، هذا أبو سفيان والركب حينئذ أسفل منهم؛ قال الله عز وجل: " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم " - حتى بلغ - " أمراً كان مفعولاً " ، فطفقوا إذا قال لهم العبد: هذه قريش قد أتتكم ضربوه، وإذا قال لهم: هذا أبو سفيان تركوه.
فلما رأى صنيعهم النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاته وقد سمع الذي أخبرهم فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والذي نفسي بيده، إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذب ! قالوا: فإنه يحدثنا أن قريشاً قد جاءت، قال: فإنه قد صدق؛ قد خرجت قريش تجير ركابها، فدعا الغلام فسأله فأخبره بقريش، وقال: لا علم لي بأبي سفيان، فسأله: كم القوم ؟ فقال: لا أدري؛ والله هم كثير عددهم. فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أطعمهم أول من أمس ؟ فسمى رجلاً أطعمهم، فقال: كم جزائر نحر لهم ؟ قال: تسع جزائر، قال فمن أطعمهم أمس ؟ فسمى رجلاً، فقال كم نحر لهم ؟ قال: عشر جزائر؛ فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف. فكان نفرة قريش يومئذ خمسين وتسعمائة.
فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الماء وملأ الحياض، وصف عليها أصحابه، حتى قدم عليه القوم، فلما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً قال: هذه مصارعهم؛ فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل عليه. فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه قريش قد جاءت بجلبتها وفخرها؛ تحادك وتكذب رسولك ! اللهم إني أسألك ما وعدتني.
فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم التراب؛ فهزمهم الله. وكانوا قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: أن ارجعوا - والركب الذين يأمرون قريشاً بالرجعة بالجحفة - فقالوا: والله لا نرجع حتى ننزل بدراً، فنقيم فيه ثلاث ليال، ويرانا من غشينا من أهل الحجاز؛ فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا. وهم الذين قال الله عز وجل: " الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس " ؛ فالتقوا هم والنبي صلى الله عليه وسلم، ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر وشفى صدور المسلمين منهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35