كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

قال: وذكرعمر بن شجرة أنّ عمرو بن محمد بن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بن غزّان - أو عزّان - الكلبيّ، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالاً عظيماً يؤدّي منه في كل جمعة نجماً، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطاً، فجفّت يده وبعض أصابعه، فلما ولي منصور ابن جمهور العراق ولاّه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بن محمد، فأوثقه وأمر به حرساً يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفاً مع الحرس، فاتّكأ عليه مسلولاً حتى خالط جوفه، وتصايح الناس؛ فخرج ابن غزّان فقال: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: خفت العذاب، قال: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك. فلبث ثلاثاً ثم مات، وبايع ابن غزّان ليزيد؛ فقال يوسف بن عمر لسليمان بن سليم بن كيسان الكلبيّ حين أقرأه كتاب منصور بن جمهور: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشأم الحارث بن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بن جمهور إن قدم عليك، وما الرّأي إلا أن تلحق بشأمك؛ قال: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك؛ فإذا قرب منصور وجّهتُ معك من أثق به. فلما نزل منصور بحيث يصبّح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بن سليم، فأقام به ثلاثاً، ثم وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء.
وقد قيل إنّ سليمان قال له: تستخفي وتدع منصوراً والعمل، قال: فعند من؟ قال: عندي، وأضعك في ثقة؛ ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال: أنت امرؤٌ من قريش، وأخوالك بكر بن وائل؛ فآواه. قال عمرو: فلم أر رجلاً كان مثل عتوه رعب رعبه؛ أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فوالله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إليّ يوماً فأتيته، فقال: قد أحسنت وأجملت؛ وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قال: تخرجني من الكوفة إلى الشأم، قلت: نعم. وصبّحنا منصور بن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد. فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعّثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصّتهم، فجعلت لا أذكر رجلاً ممّن ذكره بسوء إلا قال: لله عليّ أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط؛ ثلثمائة سوط؛ فجعلت أتعجّب من طمعه في الولاية بعد؛ وتهدده الناس، فتركه سليمان بن سليم، ثم أرسله إلى الشأم فاختفى بها، ثم تحوّل إلى البلقاء.
ذكر عليّ بن محمد أن يوسف بن عمر وجّه رجلاً من بني كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مرّ بكم يزيد بن الوليد فلا تدعنّه يجوز. فأتاهم منصور بن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة. قال: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلاّ سفيان بن سلامة بن سليم بن كيسان وغسّان بن قعاس العذريّ، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى. ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج.
قال: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بن الوليد؛ فحدّثني أحمد بن زهير؛ قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم خالد بن يزيد بن هريم، قال: حدّثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت محمد بن سعيد الكلبيّ - وكان من قوّاد يزيد بن الوليد - يقول: إنّ يزيد وجّهه في طلب يوسف بن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قال: فخرجت في خمسين فارساً أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتّش، فلم نر شيئاً، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهنّ فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم؛ فلما قدم مروان الشأم وقرب من دمشق وليَ قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد - يكنى أبا الأسد - في عدّة من أصحابه؛ فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه.

وقيل: إن يزيد بن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجّه إليه خمسين فارساً، فعرض له رجل من بني نمير، فقال: يا بن عمّ، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاىء، قال: لا، قال: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية؛ فتغيّظنا بقتلك، قال: مالي في واحدة مما عرضت عليّ خيار، قال: فأنت أعلم.
ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قال: قدم منصور بن جمهور والياً فتركته والعمل، قال: لا، ولكنك كرهت أن تليَ لي. فأمر بحبسه. وقيل: إن يزيد دعا مسلم بن ذكوان ومحمد بن سعيد بن مطرّف الكلبيّ، فقال لهما؛ إنه بلغني أنّ الفاسق يوسف بن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلِقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابناً له، فقال: أنا أدلّكما عليه، فقال: غنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلاً، فأخذا معهما خمسين رجلاً من جند البلقاء، فوجدوا أثره - وكان جالساً - فلما أحسّ بهم هرب وترك نعله، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بن سعيد أن يرضي عنه كلباً، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بن عمير وهانىء بن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزّها، ونتف بعضها - وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة - فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه - وإنها حينئذ لتجوز سرّته - وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة. فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقى عليك حجراً! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلاّ كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا؛ وإن كان أضيق منه! قال: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لأوجّهه إلى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه.
ولما قتل يزيد بن الوليد الوليد بن يزيد، ووجّه منصور بن جمهور إلى العراق كتب يزيد بن الوليد إلى أهل العراق كتاباً يذكر فيه مساوىء الوليد، فكان مما كتب به - فيما حدّثني أحمد بن زهير عن عليّ بن محمد: إنّ الله اختار الإسلام ديناً وارتضاه وطهّره، وافترض فيه حقوقاً أمر بها، ونهى عن أمور حرمها؛ ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأ:مل فيه كلّ منقبة خير وجسيم فضل؛ ثم تولاّه، فكان له حافظاً ولأهله المقيمين حدوده ولياً، يحوطهم ويعرفّهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحداً يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق أو يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، إلاّ كان كيده الأوهن، ومكره الأبور؛ حتى يتمّ الله ما أعطاه، ويدّخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوّه الأضلّ سبيلا، الأخسر عملاً. فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه؛ فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمّت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام.
ثم أفضى الأمر إلى عدوّ الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر؛ تكرماً عن غشيان مثلها. فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتدّ فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير هحقها؛ مع أمور فاحشة، لم يكن الله ليمليَ للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكراً لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخّياً من الله إتمام الذي نويت؛ من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضاً، حتى أتيت جنداً، وقد وغرت صدورهم على عدوّ الله، لما رأوا من عمله؛ فإنّ عدوّ الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئاً إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله؛ وكان ذلك منه شائعاً شاملاً، عريان لم يجعل الله فيه تسراً، ولا لأحد فيه شكاً، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه؛ وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا أن يكونوا قد أبقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة.

فابتعث الله منهم بعثاً يخبرهم، من أولى الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، حتى لقي عدوّ الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم ممن يقلدونه ممّن اتفقوا عليه، فلم يجب عدوّ الله إلى ذلك؛ وأبى إلا تتايعاً في ضلالته؛ فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزاً حكيماً، وأخذه أليماً شديداً، فقتله الله على سوء عمله وعصبته؛ ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة؛ ودخل من كان معه سواهم في الحقّ الذي دعوا إليه، فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعداً له ولمن كان على طريقته! أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجّل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم؛ إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه؛ فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بن جمهور؛ فقد ارتضيته لكم؛ على أنّ عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه؛ لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة؛ ولكم عليّ مثل ذلك؛ لأعملنّ فيكم بأمر الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واتبع سبيل من سلف من خياركم؛ نسأل الله ربنا ووليّنا أحسن توفيقه وخير قضائه.
ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بن الوليد ولاّها منصوراً مع العراق.
قال أبو جعر: قد ذكرت قبل من خبر نصر؛ وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجهاً إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد؛ فذكر عليّ بن محمد أنذ الباهليّ أخبره، قال: قدم على نصر بشر بن نافع مولى سالم الليثيّ - وكان على سكك العراق - فقال: أقبل منصور بن جمهور أميراً على العراق؛ وهرب يوسف بن عمر؛ فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الرّيّ، فأقبلتُ مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني؛ فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألاّ يخبر أحداً حتى أقدم على نصر فأخبره. ففعل؛ فأقبلنا جميعاً حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنّا، فقال خصيّ له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني؛ فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به؛ فأته بجائزة؛ ثم أتاني يونس بن عبد ربّه وعبيد الله بن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بن أحوز فأخبرته. قال: وكان خبر يوسف عند نصر، فأتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إليّ فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء؛ فلما مضت ثلاث على ذلك؛ جعل عليّ ثمانين رجلاً حرساً، فأبطأ الخبر على ما كنت قدّرت، فلما كانت الليلة التاسعة - وكانت ليلة نوروز - جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إليّ عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجاً صينياً، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف. قال: فلما تيقّن نصر قتل الوليد ردّ تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روفقة الجواري في ولده وخاصّته، وقسم تلك الآنية في عوّام الناس، ووجّه العمال، وأمرهم بحسن السيرة.
قال: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان؛ فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.
ثم باح به بعد؛ فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور.
قال: وولّى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولّى يعقوب بن يحيى بن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكريّ على خوارزم؛ وهو الذي يقول فيه خلف:
أقول لأصحابي معاً دون كردر ... لمسعدة البكريّ غيث الأرامل
ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهرانيّ؛ واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضميّ على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك:
أقول لنصر وبايعته ... على جل بكر وأحلافها
يدي لك رهن ببكر العرا ... ق سيدها وابن وصافها
أخذت الوثيقة للمسلمين ... لأهل البلاد وألافها

إذا آل يحيى إلى ما تريد ... أتتك الدماك بأخفافها
دعوت الجنود إلى بيعة ... فأنصفتها كل إنصافها
وطدت خراسان للمسلمين ... إن الأرض همت بإرجافها
وإن جمعت ألفة المسلمين ... صرفت الضراب لألافها
أجار وسلم أهل البلا ... د والنازلين بأطرافها
فصرت على الجند بالمشرقين ... لقوحاً لهم در أخلافها
فنحن على ذاك حتى تبين ... مناهج سبل لعرافها
وحتى تبوح قريش بما ... تجنّ ضمائر أجوافها
فأقسمت للمعبرات الرتا ... ع للعرو أوفى لأصوافها
إلى ما تؤدّي قريش البطا ... ح أخلافها بعد أشرافها
فإن كان من عز بز الضعيف ... ضربنا الخيول بأعرافها
وجدنا العلائف أنّى يكو ... ن يحمى أواريّ أعلافها
إذا ما تشارك فيه كبت ... خواصرها بعد إخطافها
فنحن على عهدنا نستديم ... قريشاً ونرضى بأحلافها
سنرضى بظلك كنا لها ... وظلك من ظل أكنافها
لعل قريشاً إذا ناضلت ... تقرطس في بعض أهدافها
وتلبس أغشية بالعراق ... رمت دلو شرق بخطافها
وبالأسد منا وإن الأسود لها لبد فوق أكتافها
فإن حاذرت تلفاً في النفا ... ر فالدهر أدنى لإتلافها
فقد ثبتت بك أقدامنا ... إذا انهار منهار أجرافها
وجدناك براً رءوفاً بنا كرأمة أم وإلطافها
ولم تك بيعتنا خلسة ... لأسرع نسفة خطافها
نكاح التي أسرعت بالحلي ... ل قبل تخضب أطرافها
فكشفها البعل قبل الصدا ... ق فاستقبلته بمعتافها
قال: وكان نصر ولّى عبد الملك بن عبد الله السلميّ خوارزم؛ فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابيّ الجلف، ولا الفزاريّ المستنبط؛ ولقد كرّمتني الأمور وكرّمتها، أما والله لأضعنّ السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدُنّي غشمشماً، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقة ورفض البكّارة في السنن الأعظم، أو لأصكّنكم صكّ القطاميّ القطا القارب يصكهنّ جانباً فجانباً.
قال: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجّهه منصور بن جمهور، فأخذه مولىً لنصر، يقال له حميد، كان على سكّة بنيسابور؛ فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفاً وكساه، وقال: إنّ الذي كسر أنفك مولىً لي وليس بكفء فأقصّك منه، فلا تقلْ إلاّ خيراً. قال: ما قبلت جائزتك، وأنا أريد ألا أذكر إلا خيراً.
قال عصمة بن عبد الله الأسديّ: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيساً لربيعة وتميماً للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها. فقال نصر: كلما أصلحت أمراً أفسدتموه! قال أبو زيد عمر بن شبّة: حدّثني أحمد بن معاوية عن أبي الخطاب، قال: قدم قدامة بن مصعب العبديّ ورجل من كندة على نصر بن سيّار من قبل منصور بن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قال: ووليَ منصور بن جمهور وهرب يوسف بن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قال: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسّع عليهما، ووجّه رجلاً حتى أتى فرأى منصوراً يخطب بالكوفة، فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قال: نعم؛ إنما نحن بين قيس واليمن، قال: فكيف لا يولاها رجل منكم! قال: لأنا كما قال الشاعر:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكرا
فضحك نصر، وضمّه إليه.
قال: ولما قدم منصور بن جمهور العراق وليّ عبيد الله بن العباس الكوفة - أو وجده والياً عليها فأقرّه - وولّى شرطته ثمامة بن حوشب ثم عزله وولّى الحجاج بن أرطاة النخعيّ.
ذكر مخالفة مروان بن محمد وفي هذه السنة كتب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد، أخي الوليد بن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد.
ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليهحدّثني أحمد عن عليّ، قال: كتب مروان إلى الغمر بن يزيد بعد قتل الوليد:

أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلّدهم، يعزّهم ويعزّ من يعزّهم، والحين عليى من ناوأهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين. وكان أهل الشأم أحسن خلقه فيه طاعة، وأذّه عن حرمه وأوفاه بعهده، وأشدّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرّت نعمة الله عليهم. قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإن دمه غير ضائع؛ وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردّ له.
فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى؛ فإني مطرق إلى أن أرى غيراً فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم؛ أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعاً، والنقمة دولة تأتي من الله؛ ووقت مؤجل؛ ولم أشبه محمداً ولا مروان - غير أن رأيت غيراً - إن لم أشمّر للقدريّة إزاري، وأضربهم بسيفي جارحاً وطاعناً، يرمي قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، أو يرمي بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه؛ وما إطراقي إلاّ لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإنّ الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالباً ونصيراً.
حدّثني أحمد، عن عليّ، عن عمرو بن مروان الكلبيّ، عن مسلم بن ذكوان، قال: كلّمَ يزيد بن الوليد العباس بن الوليد في طفيل بن حارثة الكلبيّ، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها - وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئاً من ذلك عند العطاء - فأجابه وحمله على البريد. وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكلّ ما يكتب به. وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار. قال مسلم بن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلّمه في هذا الأمر. قال: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما؛ إن لكما ولمروان لقصّةً، قلنا: وما ذاك؟ قال: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزّة يكونون ألفاً؟ قلت: وأكثر، قال: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قال: كم ترى عدّة بني عامر؟ يعني بني عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرّك أصبعه، ولوى وجهه. قال مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات مواليّ؛ وهو شعب حصين، ووعاء أمين؛ إن شاشء الله. فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أنّ معه كتاب يزيد بن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك شيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح.

قال مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة؛ فلما صلّى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتدّ بصلاته، فلما استويت قائماً جاءني خصيّ، فلما نظر إليّ انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان؛ وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بن ذكوان مولى يزيد، قال: مولى عتقاة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قال: ذاك أفضل؛ وفي كلّ ذلك فضل؛ فاذكر ما بدا لك. قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه؛ فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصلّيت على نبيّه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامّة؛ وذكرت حاله كلها. فلما فرغت تكلم؛ فوالله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد؛ فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي؛ لا أريد بذلك إلا ما عند الله؛ والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه؛ ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب. وسألني عن أمر يزيد، فكبّرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك؛ وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم. فأقمت أياماً، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قال: الحق بصاحبك، وقل له: سدّدك الله، امض على أمر الله؛ فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ستّ ليال أو سبع خارجة؛ وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز. قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلاّ وقد أعطيتهم الرّضا حتى أخبروني بذات أنفسهم. فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله؛ إنه قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: أنّي أصبت هذا العلم؟ قال: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم؛ حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات أنفسهم. فوّدعته وخرجت. فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضاً بقتل الوليد؛ وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابّة ودليلاً، فقدمت على يزيد بن الوليد.
ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق، وولاّها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان.
ذكر الخبر عن ذلكذكر عن يزيد بن الوليد أنه قال لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها؛ فذكر عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الله بن عمر متألّهاً متألماً، فقدّم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلاً وكتباً إلى قوّاد الشأم الذين بالعراق، وخاف ألاّ يسلّم له منصور بن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلّم له منصور بن جمهور، وانصرف إلى الشأم، ففرق عبد الله بن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم؛ فنازعه قوّاد أهل الشأم وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدوّنا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردتُ أن أردّ فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحقّ به؛ فنازعني هؤلاء فأنكروا عليبّ.
فخرج أهل الكوفة إلى الجبّانة، وتجمّعوا، فأرسل إليهم قوّاد أهل الشأم يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئاً مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بن عمر بالحيرة، وعبيد الله بن العباس الكنديّ بالكوفة؛ قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فأراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بن الغضبان بن القبعثريّ، فأتاه فنحّى الناس عنه، وسكّنهم وزجر سفهاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضاً وبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، وأحسن جائزته، وولاّه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين.
ذكر وقوع الخلاف بين اليمانية والنزارية في خراسان وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارّية، وأظهر الكرمانيّ فيها الخلاف لنصر بن سيار، واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته.

ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك: ذكر عليّ بن محمد عن شيوخه؛ أن عبد الله بن عمر لمّا قدم العراق والياً عليها من قبل يزيد بن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان؛ قال: ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرمانيّ من حبس نصر، فقال المنجّمون لنصر: إنّ خراسان سيكون بها فتنة؛ فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقاً وذهباً من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد؛ وكان أوّل من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نضر رجالاً من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكنديّ فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأدزد - وكان يلقب أبا الشياطين - فتكلم، وقام حمّاد الصائغ وأبو السليل البكريّ، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية؛ عليكم بالطاعة والجماعة؛ فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به.
فصعد سلم بن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلّمه، فقال: ما يغني عنّا كلامك هذا شيئاً. ووثب أهل السوق إلى أسواقهم؛ فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قال: كأني بالرّجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري؛ وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شرّ لا يطاق، وكأني بكم مطرّحين في الأسواق كالجزر المنحورة؛ إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملّوها؛ وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدوّ، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان.
قال عليّ: قال عبد الله بن المبارك، قال نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلّم؛ وعسى أن يكون ذلك خيراً لي. إنكم تغشون أمراً تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم؛ والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قال من كان قبلكم:
استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ... فقد عرفنا خيركم وشركم
فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه. يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة. أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل لقول النابغة الذبيانيّ:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم ... فإني في صلاحكم سعيت
وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعديّ:
أبيت أرعى النجوم مرتفقاً ... إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة ... قد عمّ أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن ... بالشأم كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة ... دهماء ملتجة غياظلها
يمسي السفيه الذي يعنف بال ... جهل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في ظل مبهمة ... عمياء تغتالهم غوائلها
لا ينظر الناس في عواقها ... إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حب ... لى طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته ... فيها خطوب حمر زلازلها
قال: فلما أتى نصراً عهده من قبل عبد الله بن عمر قال الكرمانيّ لأصحابه: الناس في فتنة؛ فانظروا لأموركم رجلاً - وإنما سمّي الكرمانيّ لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن عليّ بن شبيب بن براري بن صنيم المعنيّ - فقالوا: أنت لنا، فقالت المضريّة لنصر: الكرمانيّ يفسد عليك؛ فأرسل إليه فاقتله، أو فاحبسه، قال: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بنيّ من بناته وبنيه من بناتي؛ قالوا: لا، قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئاً، ويعلمون بها فيتفرّقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قال: فدعوه على حاله يتقينا ونتّقيه، قالوا لا، قال: فأرسل إليه فحبسه.

قال: وبلغ نصراً أن الكرمانيّ يقول: كانت غايتي في طاعة بني مروان أن يقلّد ولدي السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه. فقال له عصمة ابن عبد الله الأسديّ: إنها بدء فتنة، فتجنّ عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بن النعمان الأزديّ والفرافصة بن ظهير البكريّ، فإنه لم يزل متغضّباً على الله بتفضيله مضر على ربيعة.
وكان بخراسان. وقال جميل بن النعمان: إنك قد شرّفته وإن كرهت قتله فادفعه إليّ أقتله. وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بن فراس البهرانيّ عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرمانيّ مع أبي الزّعفران مولى أسد بن عبد الله ، فطلبه نصر فلم يقدر عليه. والذي كتب إلى الكرمانيّ بقتل الوليد وقدوم منصور بن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار. وقيل: إن قوماً أتوا نصراً، فقالوا: الكرمانيّ يدعو إلى الفتنة. وقال أصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعاً لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهوّد. وكان نصر والكرمانيّ متصافيينن، وقد كان الكرمانيّ أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما وليَ نصر خراسان عزل الكرمانيّ عن الرئاسة وصيرها لحرب بن عامر بن أيثم الواشجيّ، فمات حرب فأعاد الكرمانيّ عليها، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وصيّرها لجميل بن النعمان. قال: فتباعد ما بين نصر والكرمانيّ فحبس الكرمانيّ في القهندز وكان على القهندز مقاتل بن عليّ المرئيّ - ويقال المريّ.
قال: ولما أراد نصر حبس الكرمانيّ أمر عبيد الله بن بسّام صاحب حرسه؛ فأتاه به، فقال له نصر: يا كرمانيّ، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قال: بلى، قال ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قال بلى، ألم أرش عليّاً ابنك على كره من قومك! قال: بلى، قال: فبدّلت ذلك إجماعاً على الفتنة! قال الكرمانيّ: لم يقل الأمير شيئاً إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بن عبد الله ما قد علم، فليستأن الأمير ويثبّت فلست أحب الفتنة. فقال عصمة بن عبد الله الأسديّ: كذبت؛ وأنت تريد الشغب، ومالا تناله. وقال سلم بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم الغامديّ: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: أرجه وأخاه، والله لا يقتلنّ الكرمانيّ بقولك يابن أحوز وعلت الأصوات، فأمر نصر سليمان بحبس الكرمانيّ، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: إنيّ حلفت أن أحبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلاً يكون معه. قال: فاختاروا يزيد النحويّ؛ فكان معه في القهندز، وصيّر حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وهجم ابني مسعود. قال: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بن شعبة الجهضميّ وخالد بن شعيب بن أبي صالح الحمدانيّ، فكلماه فيه. قال: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يوماً، فقال عليّ بن وائل أحد بني ربيعة بن حنظلة: دخلت على نصر والكرمانيّ جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان أبو الزعفران جاء! فوالله ما ورايته ولا أعلم مكانه.

وقد كانت الأزد يوم حبس الكرمانيّ أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرمانيّ ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بن حرملة اليحمديّ والمغيرة بن شعبة وعبد الجبار بن شعيب بن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرمانيّ يغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى؛ ليكفنّ عنا نصر أو لنبدأنّ بكم. وأتاهم عبد العزيز بن عباد بن جابر بن همام بن حنظلة اليحمديّ في مائة، ومحمد بن المثنى وداود بن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزّة أم ولد نصر - وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى؛ فعند ذلك صيّروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحويّ وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرمانيّ: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسّعه، وأتى ولد الكرمانيّ، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرمانيّ يزيد النحويّ وحصين بن حكم فتعشيّا معه وخرجا، ودخل الكرمانيّ السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره. قال فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوّامه - ويقال: بل ركب فرسه البشير - والقيد في رجله، فأتوابه قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه.
قال عليّ: وقال أبو الوليد زهير بن هنيد العدويّ: كان مع الكرمانيّ غلامه بسام، فرأى خرقاً على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه. قال: فأرسل الكرمانيّ إلى محمد بن المثنى وعبد الملك بن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قرية حرب ابن عامر، وعليه ملحفة متقلداً سيفاً، ومعه عبد الجبار بن شعيب وابنا الكرمانيّ: عليّ وعثمان وجعفر غلامه، فأمر عمرو بن بكر أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معاً، وأمرهم أن يوافوه على باب الريّان بن سنان اليحمديّ بنوش في المرج - وكان مصلاّهم في العيد - فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلّى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بن خليفة:
أصحروا للمرج أجلي للعمى ... فلقد أصحر أصحاب السرب
إن مرج الأزد مرج واسع ... تستوي الأقدام فيه والرّكب
وقيل إن الأزد بايعت لعبد الملك بن حرملة على كتاب الله عزّ وجلّ ليلة خرج الكرمانيّ، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرمانيّ ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيّرا الأمر له، فصلى الكرمانيّ. ولما هرب الكرمانيّ أصبح نصر معسكراً بباب مرو الرّوذ بناحية إبردانة، فأقام يوماً أو يومين.
وقيل: لما هرب الكرمانيّ استخلف نصر عصمة بن عبد الله الأسديّ وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرمانيّ، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانياً، ثم سقط إلى هراة فكان هروياً، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت؛ ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حية البحر
ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإنّ ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق.

ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بن أحوز إلى الكرمانيّ في بشر كثير. فسفر الناس بين نصر والكرمانيّ، وسألوا نصراً أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه. فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر فأتاه القاسم بن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له: إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره - وكان رأي نصر إخراجه - فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: أخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفّه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فكفّ عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة. وأتى الكرمانيّ نصراً، فدخل سرادقه فآمنه. ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج. وأتى نصراً عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوّال سنة ست وعشرين ومائة؛ فخطب الناس، وذكرا ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب؛ فغضب الكرمانيّ لابن جمهور، فعاد في جميع الرجال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعه في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجاً من المقصروة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءاً، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني. فقال الكرمانيّ: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر. فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره. فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسديّ، فقال: يا أبا عليّ، إني أخاف عليك عاقبة ما بدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالاً؛ فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد بذلك إلا الإنذار إليك. فقال الكرمانيّ: إنيّ أعلم أن نصراً بدلم يقل هذا لك ولكنك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلمي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك. فرجع عصمة، وقال: ما رأيت علجاً أعدى لطوره من الكرمانيّ، وما أعجب منه؛ ولكن من يحي بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيماً له من أصحابه. قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديداً. وقال نصر لقديد بن منيع: انطلق إلليه، فأتاه فقال له: يا أبا عليّ، لقد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعاً، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال: يا قديد؛ إني لا أتهمك؛ وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البكريّ أخوك ولا تثق به " ؛ قال: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهناً، قال: من؟ قال: أعطه عليًّا وعثمان، قال: قمن يعطني؟ ولا خير فيه، قال يا أبا عليّ، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك. ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بن معقل الليثيّ: ما أخوفني أن يقع ييهذا الثغر بلاء، فكلم أبن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأميرح أنشدك الله أن تشأم عشيرتك؛ إن مروان بالشأم تقاتله الخوارج، والناس في فتنة والأزد سفهاء وهم جيرانك. قال: فما أصنع؟ إن علمت أمراً يصلح الناس فدونك، فقدم عزم أنه لا يثق بي. قال: فأتى عقيل الكرمانيّ، فقال: أبا عليّ، قد سننت سنة تطلببعدك من الأمراء، إني أرى أمراً أخاف أن تذهب فيه العقول، قال الكرمانيّ: إن نصراً يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتززل، ونختار رجلاً من بكر بن وائل، نرضاه جميعاً فيلي أمرنا جميعاً حتى يأتي أمر من الخليفة؛ وهو يابى هذا. قال: يا أبا عليّ، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما سئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوافيه، فقال الكرمانيّ: إني لاأتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثقبنص ؛ فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص. قال: فهل لك في أمريجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قال: لا آمنه على حال، قال: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غداً بمضيعة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قال: لا؛ ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتتركب منا مالا بقيّة بعده؛ فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن

أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان.كره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان.
خبر الحارث بن سريج مع يزيد وفي هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحاررث بن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه ماله وولده
ذكر الخبر عن سبب ذلكذكر أن الفتنة لما وقعت بخرسان بين نصر والكرمانيّ، خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرمانيّوغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إلليه مقاتل بن حيان النبطيّ وثعلبة بن صفوان البنانيّ وأنس بن بجالة الأعرجيّ هدبة الشعراويّ وربيعة القرشيّ ليردّوه عن بلاد الترك.
فذكر عليّ بن محمد عن شيوخه أن خالد بن زياد البدّيّ من أهل التّرمذ وخالد بن عمر مولى بني عامر، خارجا إلى يزيد بن الوليد يطلبان الأمان للحارث بن سريج، فقما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سمّوني خدينة؟ قال: لا، قال: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت، وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح - وكان من خاصةيزيد بن الوليد - فكتب لهما إليه، فأدخلمها عليه، فقال له خالد بن زياد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله ، وعمالك يغشمون ويظلمون! قال : لا أجد أعواناً غيرهم، وإني لأغضهم، قال: يا أمير المؤمنين، ولّ أهل البيوتات، وضمّ إلى كل عامل رجلاً من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قال: أفعل، وسألاه أماناً للحارث بن سريج، فكتب له: أما بعد، فإنا غضبنا الله، إذ عطلت حدود، وبلغ بعباده كل مبلغ، وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله عز وجلّ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا قوّة إلا بالله؛ فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا؛ فأقبل آمناً أنت ومن معك؛ فإنكم إخواننا وأعواننا. وقد كتبت إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بردّ ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم.
فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بن زياد: أصلح الله الأمير؟ ألا تأمر عمالك بسيرة أبيك؟ قال: أوليس سيرة عمر ظاهرة معروفة؟ قال: فما ينفع النّاس منها ولا يعمل بها؟ ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فردّ ما كان أخذ لهم مما قدر عليه. ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجهّهم نصر إلى الحارث. وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة. فأسقط في يديه، فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة. فلما لقيا مقاتلاً بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكفّ عنه يزيد. قال: فأقبل الحارث يريد مرو - وكان مقامه بأرض الشرّك اثنتي عشرة سنة - وقدم معه القاسم الشيبانيّ ومضرس بن عمران قاضيه وعبد الله بن سنان. فقدم سمرقند وعليها منصور بن عمر فلم يتلقّه، وقال: ألحسن بلائه وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار. وكتب إليه: لئن قدم الحارث علىالأمير وقد ضرّ ببني أمية في سلطانهم؛ وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحاً عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأساً، وأنفذهم غارة في الترك؛ ليفّرقن عليك بني تميم. وكان سردرخداه محبوساً عند منصور بن عمر؛ لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده منصوراً، فحبسه، فكلم الحارث منصوراً فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفّى له.
كتاب إبراهيم الإمام إلى شيعة بني العباس وفي هذه السنة - فيما زعم بعضهم - وجه إبراهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصيّه. فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدّعاة، فنعى لهم الإمام محمد بن عليّ، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بن محمد.
ذكر بيعة إبرهيم بن الوليد بالعهد

وفي هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد لأخيه إبراهيم بن الوليد على الناس البيعة، وجعله وليّ عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعد إبراهيم ابن الوليد؛ وكان السبب في ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن عليّ ابن محمد - أن يزيد بن الوليد مرض في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له: بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده. قال: فلم تزل القدرية يحثونه عل البيعة، ويقولون له: إنه لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك؛ حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده.
وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، وولاها عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن عثمان. قال محمد بن عمر: يقال إن يزيد بن الوليد لم يوله، ولكنه افتعل كتاباً بولايته المدينة، فعزله يزيد عنها، وولاها عبد العزيز بن عمر، فقدمها لليلتين بقيتا من ذي القعدة.
ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد وفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف على يزيد بن الوليد؛ وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهراً أنه طالب بدم الوليد بن يزيد. فلما صار بحرّان بايع يزيد.
ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن

السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن صالح مولى عثمان بن عفان - وسألته عما شهد ما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بن محمد - قال: كان عبد الملك بن مروان بن محمد بن مروان حين انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، وعلى الجزيرة عبدة بن رباح الغسانيّ عاملا للوليد عليها، فشخص منها - حيث بلغه قتل الوليد - إلى الشأم، ووثب عبد الملك بن مروان بن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بن عبد الله بن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطّلا حتى يحكم أمره؛ فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيليّ - وهو رأس قيس - وثابت بن نعيم الجذاميّ من أهل فلسطين - وهو رأس اليمن - وكان سبب صحبة ثابت إياه أن مروان كان خلصه من حبس هشام بالرّصافة. وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه. وكان سبب حبس هشام ثابتاً ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية؛ إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بن عياض القسريّ، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه إليه، فأمر هشام حنظلة بتوجيهه إليه في الحديد، فوجّهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بن محمد على هشام في بعض وفاداته - وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا - فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية؛ ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه؛ وكان ممن كلمه فيه كعب بن حامد العبسيّ صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بن الضخم وسلمان بن حبيب قاضيه، فاستوهب مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجّه مروان ثابتاً مع إسحاق إلىأهل الباب، كتب إليهم كتاباً يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراريّ المسلمين.

قال: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلاً من أهل فلسطين يقال له حميد بن عبد الله اللخميّ - وكان راضياً فيهم وكان وليهم قبل ذلك - فحمدوا ولايته. فقاما فيهم بأمره، وأبلغهم رسالته، وقرآ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم وازوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتاً قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم وللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشأم بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم؛ فانخزلوا عن عسكرهم مع من فرّ ليلا وعسكروا على حدة. وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح؛ ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصّفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشأم؛ ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم عليّ فيه من سيرى! ألم ألكم بما تحبّون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشأم يزيد بن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نردّ إلى أجنادنا. فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم؛ وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمّة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم؛ وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إليّ، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم. فلما رأوا الجدّ منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده؛ وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران. قال: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل. ووكل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشأم والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يفسد ولا يظلم أحداً من أهل القرى، ولا يرزأه شيئاً إلا بثمن، حتى ورد حرّان. ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتاً معه، ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيّف وعشرين ألفاً من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمد بن مروان من الجزرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجّه إليه محمد بن عبد الله بن علاثة ونفراً من وجوه الجزيرة.
ذكر خبر وفاة يزيد بن الوليد وفي هذه السنة مات يزيد بن الوليد، وكانت وفاته سلخ ذي الحجة من سنة ست وعشرين ومائة، قال أبو معشر ما حدثني به أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: توفي يزيد بن الوليد في ذي الحجة بعد الأضحى سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته في قول جميع من ذكرنا ستة أشهر، وقيل كانت خلافته خمسة أشهر وليلتين.
وقال هشام بن محمد: ولي ستة أشهر وأياماً. وقال عليّ بن محمد: كانت ولايته خمسة أشهر واثني عشر يوماً.
وقال عليّ بن محمد: مات يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة.
وكانت ولايته فيما زعم ستة أشهر وليلتين، وتوفي بدمشق.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفّى فقال هشام توفي وهو ابن ثلاثين سنة.
وقال بعضهم: توفيَ وهو ابن سبع وثلاثين سنة. وكان يكنى أبا خالد وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار ابن كسرى. وهو القائل:
أنا بان كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدّي وجدّ خاقان
وقيل: إنه كان قدرياً. وكان - فيما حدثني أحمد، عن عليّ بن محمد في صفته - أسمر طويلاً، صغير الرأس، بوجهه خال. وكان جميلاً من رجل، في فمه بعض السعة، وليس بالمفرط.
وقيل له يزيد الناقص لنقصه الناس العشرات التي كان الوليد زادها الناس في قول الواقديّ؛ وأما عليّ بن محمد فإنه قال: سبّه مروان بن محمد، فقال: الناقص ابن الوليد، فسمّاه الناس الناقص.

وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان في قول الواقدّي. وقال بعضهم: حجّ بالناس في هذه السنة عمر بن عبد الله ابن عبد الملك، بعثه يزيد بن الوليد، وخرج معه عبد العزيز وهو على المدينة ومكة والطائف.
وكان عامله على العراق في هذه السنة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى أحداث البصرة المسوّر بن عمر بن عبّاد. وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى خراسان نصر بن سيار الكنانيّ.
خلافة أبي إسحاق إبراهيم بن الوليد ثم كان إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان غير أنه لم يتمّ له أمر. فحدثني أحمد بن زهير، عن عليّ بن محمد، قال: لم يتمّ لإبراهيم أمره، وكان يسلّم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمرة؛ وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمرة؛ فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بن محمد فخلعه وقتل عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
وقال هشام بن محمد: استخلف يزيد بن الوليد أبا إسحاق إبراهيم بن الوليد؛ فمكث أربعة أشهر ثم خلع في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين ومائة، ثم لم يزل حيّاً حتى أصيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمه أمّ ولد.
حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كانت ولاية إبراهيم بن الوليد سبعين ليلة.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر مسير مروان إلى الشام وخلع إبراهيم بن الوليد فمما كان فيها من ذلك مسير مروان بن محمد إلى الشأم والحرب التي جرت بينه وبين سليمان بن هشام بعين الجرّ.
ذكر ذلك والسبب الذي كانت عنه هذه الوقعة: قال أبو جعفر: وكان السبب ما ذكرتُ بعضه؛ من أمر مسير مروان بعد مقتل الوليد بن يزيد إلى الجزيرة من أرمينية، وغلبته عليها، مظهراً أنه ثائر بالوليد، منكر قتله، ثم إظهاره البيعة ليزيد بن الوليد بعد ما ولاّه عمل أبيه محمد بن مروان، وإظهاره ما أظهر من ذلك، وتوجيهه وهو بحرّان محمد بن عبد الله بن علاثة وجماعة من وجوه أهل الجزيرة. فحدثني أحمد، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: لما أتى مروان موت يزيد أرسل إلى ابن علاثة وأصحابه فردّهم من منبج، وشخص إلى إبراهيم بن الوليد، فسار مروان في جند الجزيرة، وخلف ابنه عبد الملك في أربعين ألف من الرّابطة بالرقة. فلما انتهى إلى قنسرين، وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له بشر، كان ولاه قنسرين فخرج إليه فصافّه، فنادى الناس، ودعاهم مروان إلى مبايعته، فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسيّة، وأسلموا بشراً وأخاً له يقال له مسرور بن الوليد، - وكان أخا بشر لأمه وأبيه - فأخذه مروان وأخاه مسرور بن الوليد؛ فحبسهما وسار فيمن معه من أهل الجزيرة وأهل قنسرين، متوجّهاً إلى أهل حمص؛ وكان أهل حمص امتنعوا حين مات يزيد بن الوليد أن يبايعوا إبراهيم وعبد العزيز ابن الحجاج، فوجّه إليه إبراهيم عبد العزيز بن الحجاج وجند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم، وأغذّ مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص، رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه، وساروا بأجمعهم معه، ووجّه إبراهيم بن الوليد الجنود مع سليمان بن هشام، فسار بهم حتى نزل عين الجرّ، وأتاه مروان وسليمان في عشرين ومائة ألف فارس ومروان في نحو من ثمانين ألفاً فالتقيا، فدعاهم مروان إلى الكفّ عن قتاله، والتخلية عن ابني الوليد: الحكم وعثمان، وهما في سجن دمشق محبوسان، وضمن عنهما ألاّ يؤاخذاهم بقتلهم أباهما، وألاّ يطلبا أحداً ممن ولي قتله؛ فأبوا عليه، وجدّوا في قتاله؛ فاقتتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، واستحرّ القتل بينهم؛ وكثر في الفريقين. وكان مروان مجرّباً مكايداً، فدعا ثلاثة نفر من قوّاده - أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم يقال له عيسى - فأمرهم بالمسير خلف صفّه في خيله وهم ثلاثة آلاف، ووجّه معهم فعلة بالفؤوس، وقد ملأ الصّفان من أصحابه وأصحاب سليمان بن هشام ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر جرّار، وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر، فيعقدوا جسوراً، ويجوزوا إلى عسكر سليمان، ويغيروا فيه.

قال: فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلاّ بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انكسروا؛ وكانت هزيمتهم، ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحردهم عليهم، فقتلوا منهم نحواً من سبعة عشر ألفاً، وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم، فلم يقتلوا منهم أحداً، وأتوا مروان من أسرائهم بمثل عدّة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم. فأخذ مروان عليهم البيعة للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم. بدينار دينار، وألحقهم بأهاليهم، ولم يقتل منهم إلاّ رجلين يقال لأحدهما يزيد بن العقّار وللآخر الوليد بن مصاد الكلبيّان؛ وكانا فيمن سار إلى الوليد ووليَ قتله. وكان يزيد بن خالد بن عبد الله القسريّ معهم، فسار حتى هرب فيمن هرب مع سليمان بن هشام إلى دمشق؛ وكان أحدهما - يعني الكلبيّين - على حرس يزيد والآخر على شرطه؛ فإنه ضربهما في موقفه ذلك بالسياط، ثم أمر بهما فحبسا فهلكا في حبسه.
قال: ومضى سليمان ومن معه من الفلّ حتى صبّحوا دمشق، واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج رءوس من معهم، وهم يزيد بن خالد القسريّ وأبو علاقة السكسكيّ والأصبغ بن ذؤالة الكلبيّ ونظراؤهم؛ فقال بعضهم لبعض: إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتى يقدم مروان ويخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحداً من قتلة أبيهما؛ والرأي أن نقتلهما. فولّوا ذلك يزيد بن خالد - ومعهما في الحبس أبو محمد السفيانيّ ويوسف بن عمر - فأرسل يزيد مولىً لخالد يقال له أبا الأسد، في عدّة من أصحابه، فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد؛ وأخرج يوسف بن عمر ليقتلوه، وضربت عنقه. وأرادوا قتل أبي محمد السفيانيّ، فدخل بيتاً من بيوت السجن فأغلقه، وألقى خلفه الفرش والوسائد، واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه، فدعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها، حتى قيل: قد دخلت خيل مروان المدينة وهرب إبراهيم بن الوليد، وتغيّب، وأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة.
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة، وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ابن مروان، فهزمه عبد الله بن عمر، فلحق بالجبال فغلب عليها.
ذكر الخبر عن سبب خروج عبد الله ودعائه الناس إلى نفسه: وكان إظهار عبد الله بن معاوية الخلاف على عبد الله بن عمر ونصبه الحرب له - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف - في المحرّم سنة سبع وعشرين ومائة. وكان سبب خروجه عليه - فيما حدّثني أحمد، عن عليّ بن محمد، عن عاصم ابن حفص التميميّ وغيره من أهل العلم - أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر قدم الكوفة زائراً لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، يلتمس صلته، لا يريد خروجاً، فتزوج ابنة حاتم بن الشرقيّ بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعيّ، فلما وقعت العصبيّة قال له أهل الكوفة: ادعُ إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، فدعا سراً بالكوفة وابن عمر بالحيرة، وبايعه ابن ضمرة الخزاعيّ، فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه، فأرسل إليه: إذا نحن التقينا بالناس انهزمت بهم. وبلغ ابن معاوية، فلما التقى الناس قال ابن معاوية: إنّ ابن ضمرة قد غدر، ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس؛ فلا يهولنّكم انهزامه، فإنه عن غدر يفعل. فلما التقوا انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق معه أحد، فقال:
تفرقت الظباء على خداش ... فما يدري خداش ما يصيد
فرجع ابن معاوية إلى الكوفة؛ وكانوا التقوا ما بين الحيرة والكوفة، ثم خرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج فغلب على حلوان والجبال.
قال: ويقال قدم عبد الله بن معاوية الكوفة وجمع جمعاً، فلم يعلم عبد الله بن عمر حتى خرج في الجبّانة مجمعاً على الحرب، فالتقوا، وخالد بن قطن الحارثيّ على أهل اليمن، فشدّ عليه الأصبغ بن ذؤالة الكلبيّ في أهل الشأم، فانهزم خالد وأهل الكوفة وأمسكت نزار عن نزار ورجعوا، وأقبل خمسون رجلاً من الزّيديّة إلى دار ابن محرز القرشيّ يريدون القتال، فقتلوا، ولم يقتل من أهل الكوفة غيرهم.

قال: وخرج ابن معاوية من الكوفة مع عبد الله بن عباس التميميّ إلى المدائن، ثم خرج منها فغلب على الماهين وهمذان وقومس وأصبهان والرّيّ، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، وقال:
فلا تركبنّ الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله
ولا يعجبنك قول امرىء ... يخالف ما قال في فعله
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى؛ فإنه زعم أن سبب ذلك أن عبد الله والحسن ويزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدموا على عبد الله بن عمر؛ فنزلوا في النّخع، في دار مولى لهم، يقال له الوليد بن سعيد، فأكرمهم ابن عمر وأجازهم، وأجرى عليهم كلّ يوم ثلثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد ومن بعده عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك، فقدمت بيعتهما على عبد الله بن عمر بالكوفة، فبايع الناس لهما، وزادهم في العطاء مائة مائة؛ وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك؛ إذ أتاه الخبر بأنّ مروان بن محمد قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم بن الوليد، وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجري عليه، وأعدّه لمروان ابن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له؛ ويقاتل به مروان؛ فماج الناس في أمرهم، وقرب مروان من الشأم، وخرج إليه إبراهيم فقاتله مروان، فهزمه وظفر بعسكره وخرج هارباً، وثبت عبد العزيز بن الحجاج يقاتل حتى قتل. وأقبل إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسريّ هارباً حتى أتى الكوفة؛ وكان في عسكر إبراهيم، فافتعل كتاباً على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، فأرسل إلى اليمانية، فأخبرهم سراً أنّ إبراهيم بن الوليد ولاّه العراق، فقبلوا ذلك منه، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فباكره صلاة الغداة، فقاتله من ساعته، ومعه عمر بن الغضبان؛ فلما رأى إسماعيل ذلك - ولا عهد معه وصاحبه الذي افتعل العهد على لسانه هارب منهزم - خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء؛ ولم أحس أن يبلغ الأمر ما بلغ، فكفوا أيديكم. فتفرق القوم عنه، فقال لأهل بيته: إنّ إبراهيم قد هرب، ودخل مروان دمشق، فحّكي ذلك عن أهل بيته، فانتشر الخبر، واشرأبّت الفتنة، ووقعت العصبية بين الناس. وكان سبب ذلك أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا عظاماً، ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهليّ وعثمان بن الخيبريّ أخا بني تيم اللات بن ثعلبة شيئاً، ولم يسوّهما بنظرائهما؛ فدخلا عليه؛ فكلّماه كلاماً غليظاً، فغضب ابن عمر، وأمر بهما، فقام إليهما عبد الملك الطائيّ - وكان على شرطه يقوم على رأسه - فدفعهما، فدفعاه وخرجا مغضبين. وكان ثمامة بن حوشب بن رويم الشيباني حاضراً، فخرج مغاضباً لصاحبيه، فخرجوا جميعاً إلى الكوفة، وكان هذا وابن عمر بالحيرة، فلما دخلوا الكوفة نادوا: يا آل ربيعة، فثارت إليهم ربيعة، فاجتمعوا وتنمّروا، وبلغ الخبر ابن عمر، فأرسل إليهم أخاه عاصماً، فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم، وقال: هذه يدي لكم فاحكموا؛ فاستحيوا وعظّموا عاصماً، وتشكّروا له، وأقبل على صاحبيهم فسكتا وكفّا، فلمّا أمسى ابنُ عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بن الغضبان بمائة ألف، فقسمها في قومه بني همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وأرسل إلى ثمامة بن حوشب بن رويم بمائة ألف، فقسمّها في قومه، وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة آلاف، وإلى عثمان بن الخيبريّ بعشرة آلاف.

قال أبو جعفر: فلما رأت الشيعة ضعفه اغتمزوا فيه، واجترءوا عليه وطمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وكان الذي ولي ذلك هلال ابن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس حتى أتوا المسجد، فاجتمعوا فيه وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من الشيعة لعبد الله بن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله، فأخرجوه من دار الوليد بن سعيد؛ حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بن عمر وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه، فيهم عمر بن الغضبان بن القبعثريّ ومنصور بن جمهور وإسماعيل بن عبد الله القسريّ ومن كان من أهل الشأم بالكوفة له أهل وأصل، فأقام بالكوفة أياماً يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج يريد عبد الله بن عمر بالحيرة، وبرز له عبد الله بن عمر فيمن كان معه من أهل الشأم، فخرج رجل من أهل الشأم يسأله البراز، فبرز له القاسم بن عبد الغفار، فقال له الشاميّ: لقد دعوت حين دعوت، وما أظنّ أن يخرج إليّ رجل من بكر بن وائل، والله ما أريد قتالك، ولكن أحببت أن ألقي إليك ما انتهى إلينا؛ أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن؛ لا منصور ولا إسماعيل ولا غيرهما إلا وقد كاتب عبد الله بن عمر، وجاءته كتب مضر، وما أرى لكم أيها الحيّ من ربيعة كتاباً ولا رسولاً، وليسوا مواقعيكم يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألاّ تكون بكم الحزّة فافعلوا، فإني رجل من قيس، وسنكون غداً بإزائكم؛ فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا أبغته، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أبلغتكم حالَ الناس. فدعا القاسم رجالاً من قومه، فأعلمهم ما قال له الرجل؛ وأنّ ميمنة ابن عمر من ربيعة، ومضر ستقف بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال عبد الله بن معاوية: إنّ هذه علامة ستظهر لنا إن أصبحنا؛ فإن أحبّ عمر بن الغضبان فليلقني الليلة؛ وإن منعه شغل ما هو فيه فهو عذر؛ وقل له: إني لأظن القيسيّ قد كذب، فأتى الرّسول عمر بذلك، فردّه إليه بكتاب يعلمه أن رسولي هذا بمنزلتي عندي، ويأمره أن يتوثّق من منصور وإسماعيل، وإنما أراد أن يعلمهما بذلك. قال: فأبى ابنُ معاوية أن يفعل، فأصبح الناس غادين على القتال، وقد جعل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى منادٍ: من أتى برأس فله كذا وكذا، أو بأسير فله كذا وكذا، والمال عند عمر بن الغضبان.
والتقى الناس واقتتلوا، وحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة، ورجمت غوغاء الناس أهل اليمن من أهل الكوفة، فقتلوا فيهم أكثر من ثلاثين رجلاً، وقتل الهاشميّ العباس بن عبد الله زوج ابنة الملاة.
ذكر عمر أن محمد بن يحيى حدّثه عن أبيه، عن عاتكة بنت الملاة، تزوجت أزواجاً، منهم العباس بن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قتل مع عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في العصبيّة بالعراق. وقتل مبكر ابن الحواريّ بن زياد في غيرهم؛ ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بن معاوية حتى دخل نصر الكوفة، وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشأم، وحمل أهل القلب من أهل الشأم على الزيديّة فانكشفوا، حتى دخلوا الكوفة، وبقيت الميسرة وهم نحو خمسمائة رجل، وأقبل عامر بن ضبارة ونباتة ابن حنظلة بن قبيصة وعتبة بن عبد الرحمن الثعلبيّ والنضر بن سعيد بن عمرو الحرشيّ، حتى وقفوا على ربيعة، فقالوا لعمر بن الغضبان: أمّا نحن يا معشر ربيعة، فما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوّف عليكم مثلها؛ فانصرفوا. فقال عمر: ما كنت ببارح أبداً حتى أموت؛ فقالوا: إن هذا ليس بمغنٍ عنك ولا عن أصحابك شيئاً، فأخذوا بعنان دابته فأدخلوه الكوفة.

قال عمر: حدّثني عليّ بن محمد، عن سليمان بن عبد الله النوفلّي، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا خراش بن المغيرة بن عطية مولى لبني ليث، عن أبيه، قال: كنت كاتب عبد الله بن عمر؛ فوالله إني لعنده يوماً وهو بالحيرة إذ أتاه آت فقال: هذا عبد الله بن معاوية قد أقبل في الخلق، فأطرق ملياً وجاءه رئيس خبّازيه، فقام بين يديه كأنه يؤذنه بإدراك طعامه، فأومأ إليه عبد الله: أن هاته. فجاء بالطعام، وقد شخصت قلوبنا، ونحن نتوقع أن يهجم علينا ابن معاوية ونحن معه، قال: فجعلت أتفقّده: هل أراه تغير في شيءمن أمره من مطعم أو مشرب أو منظر أو أمر أو نهي؟ فلا والله، ما أنكرت من هيئته قليلاً ولا كثيراً؛ وكان طعامه إذا أتيَ به وضع بين كل اثنين منا صحفة. قال: فوضعت بيني وبين فلان صحفة، وبين فلان وفلان صحفة أخرى؛ حتى عدّ من كان على خوانه، فلما فرغ من غدائه ووضوئه، أمر بالمال فأخرج؛ حتى أخرجت آنية من ذهب وفضة وكساً، ففرّق أكثر ذلك في قواده، ثم دعا مولى له أو مملوكاً كان يتبرّك به ويتفاءل باسمه - إمّا يدعى ميموناً أو فتحاً أو اسماً من الأسماء المتبرّك بها - فقال له: خذ لواءك، وامض إلى تلّ كذا وكذا فاركزه عليه؛ وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك. ففعل وخرج عبد الله وخرجنا معه؛ حتى صار إلى التلّ فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر عبد الله منادياً، فنادى: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فوالله ما كان بأسرع من أن أتيَ برأس، فوضع بين يديه؛ فأمر له بخمسمائة، فدفعت إلى الذي جاء به، فلما رأى أصحابه وفاءه لصاحب الرأس، ثاروا بالقوم؛ فوالله ما كان إلا هنيهة حتى نظرت إلى نحو من خمسمائة رأس قد ألقيت بين يديه؛ وانكشف ابن معاوية ومن معه منهزمين، فكان أوّل من دخل الكوفة من أصحابه منهزماً أبو البلاد مولى بني عبس وابنه سليمان بين يديه - وكان أبو البلاد متشيعاً - فجعل أهل الكوفة ينادونهم كل يوم؛ وكأنهم يعيرونهم بانهزامه؛ فجعل يصيح بابنه سليمان: امض ودع النواضح ينفقن. قال: ومرّ عبد الله بن معاوية فطوى الكوفة، ولم يعرّج بها حتى أتى الجبل.
وأما أبو عبيدة: فإنه ذكر أن عبد الله بن معاوية وإخوته دخلوا القصر فلما أمسوا قالوا لعمر بن الغضبان وأصحابه: يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا؛ وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم؛ فإن كنتم مقاتلين معنا قاتلنا معكم؛ وإن كنتم ترون الناس خاذلينا وإيّاكم؛ فخذوا لنا ولكم أماناً؛ فما أخذتم لأنفسكم فقد رضينا لأنفسنا، فقال لهم عمر بن الغضبان: ما نحن بتاركيكم من إحدى خلّتين: إما أن نقاتل معكم، وإما أن نأخذ لكم أماناً كما نأخذ لأنفسنا، فطيبوا نفساً، فأقاموا في القصر، والزيدية على أفواه السكك يغدو عليهم أهل الشأم ويروحون، يقاتلونهم أياماً. ثم إن ربيعة أخذت لأنفسها وللزيدّية ولعبد الله بن معاوية أماناً؛ ألاّ يتبعوهم ويذهبوا حيث شاءوا. وأرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان يأمره بنزول القصر وإخراج عبد الله بن معاوية، فأرسل إليه ابن الغضبان فرحّله ومن معه من شيعته ومن تبعه من أهل المدائن وأهل السواد وأهل الكوفة، فسار بهم رسل عمر حتى أخرجوهم من الجسر فنزل عمر من القصر.
ذكر خبر رجوع الحارث بن سريج إلى مرو وفي هذه السنة وافى الحارث بن سريج مرو، خارجاً إليها من بلاد الترك بالأمان الذي كتب له يزيد بن الوليد، فصار إلى نصر بن سيار، ثم خالفه وأظهر الخلاف له، وبايعه على ذلك جمع كبير.
ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بعد قدومه عليه:

ذكر عليّ بن محمد عن شيوخه؛ أنّ الحارث سار إلى مرو، مخرجه من بلاد الترك، فقدمها يوم الأحد لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة، فتلقاه سلم بن أحوز، والناس بكشماهن، فقال محمد بن الفضل ابن عطية العبسيّ: الحمد لله الذي أقر أعيننا بقدومك، وردّك إلى فئة الإسلام وإلى الجماعة. قال: يا بنيّ؛ أما علمت أنّ الكثير إذا كانوا على معصية الله كانوا قليلاً، وأنّ القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا كثيراً! وما قرّت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله. فلما دخل مرو قال: اللهمّ إني لم أنوِ قطّ فى شىء مما بينى وبينهم إلاّ الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهمم. ولقاه نصر فأنزله قصر بخاراخذاه، وأجرى عليه نزلاً خمسين درهماً في كلّ يوم، وكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر من كان عنده من أهله؛ أطلق محمد بن الحارث والألوف بنت الحارث وأمّ بكر؛ فلما أتاه ابنه محمد، قال: اللهمّ اجعله باراً تقيّاً.
قال: وقدم الوضاح بن حبيب بن بديل على نصر بن سيّار من عند عبد الله بن عمر، وقد أصابه برد شديد، فكساه أثواباً، وأمر له بقرى وجاريتين؛ ثم أتى الحارث بن سريج، وعنده جماعة من أصحابه قيام على رأسه، فقال له: إنّا بالعراق، نشهر عظم عمودك وثقله؛ وإني أحبّ أن أراه، فقال: ما هو إلا كبعض ما ترى مع هؤلاء - وأشار إلى أصحابه - ولكني إذا ضربت به شهرت ضربتني، قال: وكان في عموده بالشأمي ثمانية عشر رطلاً. قال: ودخل الحارث بن سريج على نصر، وعليه الجوشن الذي أصابه من خاقان، وكان خيّره بين مائة ألف دينار دنبكانيّة وبين الجوشن؛ فاختار الجوشن. فنظرت إليه المرزبانة بنت قديد؛ امرأة نصر بن سيار، فأرسلت إليه بجرز لها سمّور، مع جارية لها فقالت، أقرئي ابن عمي السلام، وقولي له: اليوم بارد فاستدفىء بهذا الجرز السمّور، فالحمد لله الذي أقدمك صالحاً. فقال للجارية: أقرئي بنت عمّي السلام، وقولي لها: أعارّية أم هدية؟ فقالت: بل هديّة؛ فباعه بأربعة آلاف دينار وقسمها في أصحابه. وبعث إليه نصر بفرش كثيرة وفرس، فباع ذلك كلّه وقسّمه في أصحابه بالسّويّة. وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة. وعرض نصر على الحارث أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وأرسل إلى نصر: إني لست من هذه اعلدنيا ولا من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في شيء؛ وإنما أسأل كتاب الله عزّ وجلّ والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك.
وأرسل الحارث إلى الكرمانيّ: إني أعطاني نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بالله عليه، وأعنتك إن ضمنت لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة.
وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه محمد بن حمران ومحمد ابن حرب بن جرفاس المنقريّان والخليل بن غزوان العدويّ، وعبد الله ابن مجاعة وهبيرة بن شراحيل السعديّان، وعبد العزيز بن عبد ربّه الليثيّ، وبشر ابن جرموز الضبيّ، ونهار بن عبد الله بن الحتات المجاشعيّ، وعبد الله النباتي. وقال الحارث لنصر: خرجت من هذه المدينة منذ ثلاث عشرة سنة إنكاراً للجور، وأنت تريدني عليه! فانضمّ إلى الحارث ثلاثة آلاف.
خلافة مروان بن محمد وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بن محمد بالخلافة:
ذكر الخبر عن سبب البيعة لهحدّثني أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد مولى عثمان بن عفان، قال: لما قيل: قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، فانتهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل عالية، وأتيَ بالغلامين مقتولين وبيوسف بن عمر فأمر بهم فدفنوا، وأُتي بأبي محمد السفيانيّ محمولاً في كُبُوله، فسلم عليه بالخلافة، ومروان يومئذ يسلّم عليه بالإمرة، فقال له: مه، فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشده شعراً قاله الحكم في السجن.

قال: وكانا قد بلغا، وولد لأحدهما وهو الحكم والآخر قد احتلم قبل ذلك بسنتين، قال: فقال الحكم:
ألا من مبلغٌ مروان عنّى ... وعمى الغمر طال بذا حنينا
بأني قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد متابعينا
أيذهب كلبهم بدمي ومالي ... فلا غثاً أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بني نزار ... كليث الغاب مفترس عرينا
ألم يحزنك قتل فتى قريش ... وشقهم عصي المسلمينا
ألا فاقر السلام على قريش ... وقيس بالجزيرة أجمعينا
وساد الناقص القدريّ فينا ... وألقى الحرب بين بني أبينا
فلو شهد الفوارس من سليم ... وكعب لم أكن لهم رهينا
ولو شهدت ليوث بني تميم ... لما بعنا تراث بني أبينا
أتنكث بيعتي من أجل أمي ... فقد بايعتم قبلي هجينا
فليت خئولتي من غير كلب ... وكانت في ولادة آخرينا
فإن أهلك أنا ووليّ عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
ثم قال: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان من أهل الشأم؛ فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير ورءوس أهل حمص، فبايعوه، فأمرهم أن يختاروا لولاية أجنادهم، فاختار أهل دمشق زامل بن عمرو الجبرانيّ، وأهل حمص عبد الله بن شجرة الكنديّ، وأهل الأردنّ الوليد بن معاوية بن مروان، وأهل فلسطين ثابت بن نعيم الجذاميّ الذي كان استخرجه من سجن هشام وغدر به بأرمينية، فأخذ عليهم العهود المؤكّدة والأيمان المغلظلة على بيعته، وانصرف إلى منزله من حرّان.
قال أبو جعفر: فلما استوت لمروان بن محمد الشأم وانصرف إلى منزله بحرّان طلب الأمان منه إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهم، فقدم عليه سليمان - وكان سليمان بن هشام يومئذ بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة - فبايعوا مروان بن محمد.
ذكر الخبر عن انتقاض أهل حمص على مروان وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشأم فحاربهم.
ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك:

حدّثني أحمد، قال حدّثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح، قال: لما انصرف مروان إلى منزله من حران بعد فراغه من أهل الشأم لم يلبث إلا ثلاثة أشهر؛ حتى خالفه أهل الشأم وانتقضوا عليه؛ وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، وراسلَهم وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب؛ فشخص إليهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبيّ ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية السكسكيّ - وكان فارس أهل الشأم - وعصمة بن المقشعرّ وهشام بن مصاد وطفيل بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين ومائة. قال: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلاً، فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام؛ وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبيّة فيها قد ردموا أبوابها من داخل، وهو على عدّة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه: ما دعاكم إلى النّكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح في الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة؛ فلما كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وأفلت الأصبغ بن ذؤالة والسكسكيّ وأسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيّف وثلاثين رجلاً منهم، فأتيَ بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستمائة، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحواً من غلوة. وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسريّ، وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو أربعمائة، يقال له أبو هبّار القرشي فوجّه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث - واسمه مجزأة - وعمرو بن الوضّاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبّار وخيله من المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزّة من قرى اليمانية، ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزّة، فدلّ عليهما زامل، فأرسل إليهما، فقتلا قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما إلى مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين؛ حتى أتى مدينة طبريّة، فحاصر أهلها وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ ابن أخي عبد الملك بن مروان، فقاتلوه أياماً، فكتب مروان إلى أبي الورد أن يشخص إليهم فيمدّهم. قال: فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزماً، فجمع قومه وجنده؛ ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة رجال من ولده؛ وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه؛ - وهو بدير أيوب - جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيّب ثابت بن نعيم، فولّى الرّماحس بن عبد العزيز الكنانيّ فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة ابن ثابت - وكان أخبثهم - فلحق بمنصور بن جمهور، فأكرمه وولاّه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور؛ فوثب عليه فقتله، فبلغ منصوراً وهو متوجّه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها، ثم سمّره إليها، وبنى عليه.

قال: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقاً بعد شهرين، فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم؛ ثم حملوا إلى دمشق. فرأيتهم مقطّعين، فأقيموا على باب مسجدها؛ لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون بثابت، ويقولن: إنه أتى مصر؛ فغلب عليها، وقتل عامل مروان بها. وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله، وزوّجهما ابنتي هشام بن عبد الملك؛ أمّ هشام وعائشة، وجمع لذلك أهل بيته جميعاً؛ من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل الشأم بعثاً وقوّاهم، وولّى على كل جند منهم قائداً منهم، وأمرهم باللّحاق بيزيد بن عمر بن هبيرة. وكان قبل مسيره إلى الشأم وجهه في عشرين ألفاً من أهل قنّسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيّره مقدّمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق؛ وقد استقامت له الشأم كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بن نعيم وبنيه والنّفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قال: فرأيتهم حين قتلوا وصلبوا. قال: واستبقى رجلاً منهم يقال له عمرو بن الحارث الكلبيّ، وكان - فيما زعموا - عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم، ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص ممايلي تدمر؛ بينهما مسيرة ثلاثة أيام؛ وبلغه أنهم قد عوّروا ما بينه وبينها من الآبار، وطمّوها بالصخر؛ فهيّأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه، فكلمه الأبرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما. وسألوه أن يعذر إليهم، ويحتجّ عليهم. فأجابهم إلى ذلك، فوجّه الأبرش إليهم أخاه عمرو بن الوليد، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجّه إليهم، ويؤجله أياماً، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوّفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامّتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برّية كلب وباديتهم، وهم السكسكيّ وعضمة بن المقشعرّ وطفيل بن حارثة ومعاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته. وكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إليّ بمن بايعك منهم.
فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البريّة على سورية ودير اللثق، حتى قدم الرصافة ومعه سليمان بن هشام وعمه سعيد بن عبد الملك وإخوته جميعاً وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا بها يوماً، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم أياماً ليقوى من معه من مواليه، ويجمّ ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى مروان، فنزل عند واسط على شاطىء الفرات في عسكر كان ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها، ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك ابن قيس الشيبانيّ الحروريّ، فأقبل في نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم حتى حلّوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته.
وفي هذه السنة دخل الضّحاك بن قيس الشيبانيّ الكوفة.
ذكر الأخبار عن خروج الضحاك محكماً ودخوله الكوفة، ومن أين كان إقباله إليها اختلف في ذلك من أمره، فأما أحمد، فإنه حدّثني عن عبد الوهاب ابن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان سبب خروج الضحاك أنّ الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروريّ يقال له سعيد ابن بهدل الشيبانيّ في مائتين من أهل الجزيرة؛ فيهم الضحّاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشأم، فخرج بأرض كفر توثا، وخرج بسطام البيهسيّ وهو مفارق لرأيه في مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه؛ فلما تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبريّ - وهو أحد قواده، وهو الذي هزم مروان - في نحو من مائة وخمسين فارساً ليبيّته، فانتهى إلى عسكره وهم غارون، وقد أمر كلّ واحد منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به رأسه، ليعرف بعضهم بعضاً، فبكّروا في عسكرهم فأصابوهم في غرّة، فقال الخيبريّ:

إن يك بسطام فإني الخيبري ... أضرب بالسيف وأحمي عسكري
فقتلوا بسطاماً وجميع من معه إلاّ أربعة عشر، فلحقوا بمروان، فكانوا معه فأثبتهم في روابطه، وولّى عليهم رجلاً منهم يقال له مقاتل، ويكنى أبا النعثل. ثمّ مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بها واختلاف أهل الشأم، وقتال بعضهم بعضاً مع عبد الله بن عمر، والنضر بن سعيد الحرشي - وكانت اليمانية من أهل الشأم مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضرّية، مع ابن الحرشيّ بالكوفة؛ فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشيّة.
قال: فمات سعيد بن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه؛ واستخلف الضحاك بن قيس من بعده؛ وكانت له امرأة تسمى حوماء، فقال الخيبريّ في ذلك:
سقى الله يا حوماء قبر ابن بهدل ... إذا رحل السارون لم يترحّل
قال: واجتمع مع الضّحاك نحوٌ من ألف ثم توّنجه إلى الكوفة، ومرّ بأرض الموصل، فاتّبعه منها ومن أهل الجزيرة نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشيّ ومعه المضرّية، وبالحيرة عبد الله بن عمر في اليمانية، فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة، فلما دنا إليه الضحاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشيّ، فصار أمرهم واحداً، وبداً على قتال الضحاك، وخندقاً على الكوفة، ومعهما يومئذ من أهل الشأم نحو من ثلاثين ألفاً، لهم قوّة وعدّة، ومعهم قائد من أهل قنّسرين، يقال له عبّاد بن الغزيّل في ألف فارس، قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشيّ، فبرزوا لهم، فقاتلوهم، فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عباس الكنديّ، وهزموهم أقبح هزيمة، ولحق عبد الله بن عمر في جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشيّ - وهو النّضر - وجماعة المضرّية وإسماعيل ابن عبد الله القسريّ إلى مروان، فاستولى الضحاك والجزريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد. ثم استخلف الضّحاك رجلاً من اصحابه - يقال له ملحان - على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في عظم أصحابه إلى عبد الله بان عمر بواسط، فحاصره بها؛ وكان معه قائد من قوّاد أهل قنّسرين يقال له عطية الثعلبيّ - وكان من الأشدّاء - فلما تخوّف محاصرة الضّحاك خرج في سبعين أو ثمانين من قومه متوجهاً إلى مروان، فخرج على القادسيّة، فبلغ ملحان ممره، فخرج في أصحابه مبادراً يريده. فلقيه على قنطرة السَيلحين - وملحان قد تسرع في نحو من ثلاثين فارساً - فقاتله فقتله عطية وناساً من أصحابه، وانهزم بقيتهم حتى دخلوا الكوفة، ومضى عطية حتى لحق فيمن معه مروان.

وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى، فإنه قال: حدثني أبو سعيد، قال: لما مات سعيد بن بهدل المرّيّ، وبايعت الشراة للضّحاك، أقام بشهرزور وثابت إليه الصفرية من كلّ وجه حتى صار في أربعة آلاف، فلم يجتمع مثلهم لخارجيّ قطّ قبله. قال: وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر، فانحطّ مروان من أرمينية حتى نزل الجزيرة، وولّى العراق النضر بن سعيد - وكان من قوّاد ابن عمر - فشخص إلى الكوفة، ونزل ابن عمر الحيرة، فاجتمعت المضرّية إلى النّضر واليمانية إلى ابن عمر، فحاربه أربعة أشهر، ثم آمدّ مروان النّضر بابن الغزيل، فأقبل الضحاك نحو الكوفة وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، فأرسل ابن عمر إلى النضر: هذا لا يريد غيري وغيرك، فهلمّ نجتمع عليه فتعاقدا عليه، وأقبل ابن عمر، فنزل تلّ الفتح وأقبل الضّحاك ليعبر الفرات، فأرسل إليه ابن عمر حمزة بن الأصبغ بن ذؤالة الكلبيّ ليمنعه من العبور، فقال عبيد الله بن العباس الكنديّ: دعه يعبر إلينا، فهو أهون علينا من طلبه. فأرسل ابن عمر إلى حمزة يكفّه عن ذلك، فنزل ابن عمر الكوفة، وكان يصلي في مسجد الأمير بأصحابه، والنضر بن سعيد في ناحية الكوفة يصلّي بأصحابه، لا يجامع ابن عمر ولا يصلي معه؛ غير أنهما قد تكافآ واجتمعا على قتال الضّحاك، وأقبل الضّحاك حين رجع حمزة حتى عبر الفرات، ونزل النّخيلة يوم الأربعاء في رجب سنة سبع وعشرين ومائة، فخفّ إليهم أهل الشأم من أصحاب ابن عمر والنضر، قبل أن ينزلوا، فأصابوا منهم أربعة عشر فارساً وثلاث عشرة امرأة. ثم نزل الضّحاك وضرب عسكره، وعبّى أصحابه، وأراح، ثم تغادوا يوم الخميس، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكشفوا ابن عمر وأصحابه، وقتلوا أخاه عاصماً؛ قتله البرذون بن مرزوق الشيبانيّ، فدفنه بنو الأشعث بن قيس في دارهم، وقتلوا جعفر بن العباس الكنديّ أخا عبيد الله، وكان جعفر على شرطة عبد الله بن عمر، وكان الذي قتل جعفراً عبد الملك بن علقمة بن عبد القيس، وكان جعفر حين رهقه عبد الملك نادى ابن عمّ له يقال له شاشلة، فكرّ عليه شاشلة، وضربه رجل من الصفرّية، ففلق وجهه.
قال أبو سعيد: فرأيته بعد ذلك كأنّ له وجهين، وأكبّ عبد الملك على جعفر فذبحه ذبحاً، فقالت أم البرذون الصفرية:
نحن قتلنا عاصماً وجعفرا ... والفارس الضبّيّ حين أصحرا
ونحن جئنا لخندق المقعرا فانهزم أصحاب ابن عمر، وأقبل الخوارج، فوقفوا على خندقنا إلى الليل ثم انصرفوا، ثم تغادينا يوم الجمعة؛ فوالله ما تتاممنا حتى هزمونا، فدخلنا خنادقنا، وأصبحنا يوم السبت؛ فإذا الناس يتسلللون ويهربون إلى واسط، ورأبوا قوماً لم يروا مثلهم قطّ أشدّ بأساً؛ كأنهم الأسد عند أشبالها، فذهب ابن عمر ينظر أصحابه، فإذا عامّتهم قد هربوا حتحت الليل، ولحق عظمهم بواسط؛ فكان ممّن لحق بواسط النّضر بن سعيد وإسماعيل بن عبد الله ومنصور ابن جمهور والأصبغ بن ذؤالة وابناه: حمزة وذؤالة، والوليد بن حسان الغسانيّ وجميع الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن بقي من أصحابه مقيماً لم يبرح.
ويقال: إنّ عبد الله بن عمر لمّا وليَ العراق ولّى الكوفة عبيد الله بن العباس الكنديّ وعلى شرطه عمر بن الغضبان بن القبعثري، فلم يزالا على ذلك حتى مات يزيد بن الوليد، وقام إبراهيم بن الوليد، فأقرّ ابن عمر على العراق، فولّى ابن عمر أخاه عاصماً على الكوفة، وأقرّ ابن الغضبان على شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بن معاوية فاتّهم عمر بن الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بن معاوية ولّى عبد الله بن عمر عمرَ بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الكوفة، وعلى شرطه الحكم بن عتيبة الأسديّ من أهل الشأم، ثم عزل عمر بن عبد الحميد عن الكوفة، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بن حسان الغسانيّ، ثم ولّى إسماعيل بن عبد الله القسريّ وعلى شرطه أبان بن الوليد، ثم عزل إسماعيل وولّى عبد الصمد بن أبان بن النعمان بن بشير الأنصاريّ، ثم عزل فولّى عاصم بن عمر، فقدم عليه الضّحاك بن قيس الشيبانيّ.

ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بن عبد الله القسريّ في القصر وعبد الله بن عمر بالحيرة وابن الحرشيّ بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة، وولّى ملحان بن معروف الشيبانيّ عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة - حروريّ - فخرج ابن الحرشيّ يريد الشأم، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي فولى الضّحاك على الكوفة حسان فولّى حسان ابنه الحارث على شرطه.
وقال عبد الله بن عمر يرثي أخاه عاصماً لما قتله الخوارج:
رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ... غداة رمى للقوس في الكف منزعا
رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصماً ... أخاً كان لي حرزاً ومأوًى ومفزعا
فإن تلك أحزان وفائض عبرة ... أذابت عبيطاً من دم الجوف منقعاً
تجرعتها في عاصم واحتسيتها ... فأعظم منها ما احتسى وتجرّعا
فليت المنايا كن خلفن عاصماً ... فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
وذكر أن عبد الله بن عمر يقول: بلغني أنّ عين بن عين بن عين بن عين يقتل ميم بن ميم بن ميم بن ميم، وكان يأمل أن يقتله؛ فقتله عبد الله بن عليّ ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا فلحقوا بواسط، قال لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب الناس! قال: أتلوّم وأنظر، فأقام يوماً أو يومين لا يرى إلا هارباً، وقد امتلأت قلوبهم رعباً من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرّحيل إلى واسط، وجمع خالد بن الغزيّل أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بن العباس الكنديّ إلى ما لقيَ الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضّحاك فبايعه؛ وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السنديّ يعيّره باعتباعه الضحاك، وقد قتل أخاه:
قل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحيّ لم يجنح وأنت قتيل
ولم يتبع المرّاق والثّأر فيهم ... وفي كفه عضب الذباب صقيل
إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ... أباك، فماذا بعد ذاك تقول!
فلما بلغ عبيد الله بن العباس هذا البيت من قول أبي عطاء، قال أقول: أعضّك الله ببظر أمّك.
فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ... وطالب وتر، والذليل ذليل
تركت أخا شيبان يسلب بزّه ... ونجّاك خوّار العنان مطول

قال: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بن يوسف بواسط - فيما قيل - في اليمانية ونزل النّضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بن نباتة وابناه محمد ونباتة في المضرّية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة والحيرة للضّحاك والشّراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن عمر والنّضر ابن سعيد الحرشيّ إلى ما كانت عليه قبل قدوم الضّحاك يطلب النضر أن يسلم إليه عبد الله بن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، ويأتي عبد الله بن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النّضر؛ وذلك أن جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصّباً على الوليد حيث أسلم خالد بن عبد الله القسريّ إلى يوسف بن عمر حتى قتله؛ وكانت القيسية مع مروان، لأنه طلب بدم الوليد - وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمّه زينب بنت محمد بن يوسف ابنة أخي الحجاج - فعادت الحرب بين ابن عمر والنّضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيبانيّ في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضّاً في الثّراة إلى واسط، متبعاً لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار. فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت لمتهما عليه واحدة؛ ما انت بالوفة؛ فجعل النضر وقوّاده يعبرون الجسر، فيقاتلون الضّحا وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون مع ابن عمر؛ فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا يوماً من تل الأيام، فاشتدّ قتالهم، فشدّ منصور بن جمهور على قائد من قواد الضحا، ان عظيم القدر في الشّراة، يقال له عرمة بن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله. وبعث الضحاك قائداً من قواده يدعى شوالاً من بني شيبان إلى باب الزّاب، فقال اضرمه عليهم ناراً، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوّال ومعه الخيبريّ؛ أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بن علقمة، فقال لهم أين تريدون؟ فقال له شوّال نريد باب الزّاب، أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فقال: أنا معك؛ فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من قوّاد الضحاك أيضاً وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضروه، فأخرج لهم عبد الله بن عمر منصور بن جمهور فى ستمائة فارس من كلب، فقاتلوهم أشد القتال، وجعل عبد الملك بن علقمة يشد عليهم وهو حاسر؛ فقتل منهم عدّة، فنظر إليه منصور بن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل عاتقه فقطعه حتى بلغ حرفقته؛ فخرّ ميّتاً، وأقبلت امرأة من الخوارج شادّة؛ حتى أخذت بلجام منصور بن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين، فضرب يدها - ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها - ونجا. فدخل المدينة الخيبريّ يريد منصوراً، فاعترض عليه ابن عمّ له من كلب، فضربه الخيبريّ فقتله؛ فقال حبيب بن خدرة مولى بني هلال - وكان يزعم أنه من أبناء ملوك فارس - يرثي عبد الملك بن علقمة:
وقائلة ودمع العين يجري ... على روح ابن علقمة السلام
أأدركك الحمام وأ،ت سار ... وكل فتى لمصرعه حمام
فلا رعش اليدين ولا هدان ... ولا وكل اللقاء ولا كهام
وما قتل على شار بعار ... ولكن يقتلون وهم كرام
طغام الناس ليس لهم سبيل ... شجاني يا بن علقمة الطغام

ثم إن منصوراً قال لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قطّ - يعني الشراة - فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرّضا، واجعلنم بينك وبين مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلّوا عنا ومضوا إلى مروان، فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحاً يموضعك هذا؛ فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمناً، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته جاماً مستريحاً؛ مع أن أمره وأمرهم سيطول، ويوسعونه شرّاً. فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوّم وننظر، فقال: أيّ شيء ننتظر؟ فما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقرّ، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدّهم وشغلناهم عنه؟ أما أنا فخارج لاحقٌ بهم. فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام الله - قال: وهي محنتهم - فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمتُ، فدعوا له بغداء فتغدّى، ثم قال لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزّاب؟ يعني يوم ابن علقمة - فنادوا يا أمّ العنبر، فخرجت إليهم؛ فإذا أجمل الناس، فقالت له: أنت منصور؟ قال: نعم، قالت: قبح الله سيفك، أين ما تذكر منه؟ فوالله ما صنع شيئاً، ولا ترك - تعني ألاّ يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة - وكان منصور لا يعلم يومئذ أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قال: إن لها زوجاً - وكانت تحت عبيدة بن سوّار التغلبيّ - قال: ثم إنّ عبد الله بن عمر خرج إليهم في آخر شوّال فبايعه.
؟خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد وفي هذه السنة - أعني سنة سبع وعشرين ومائة - خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك بن مروان مروان بن محمد ونصب الحرب.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما:

حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضّحاك بن قيس الشيبانيّ استأذنه سليمان بن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح أمره؛ فأذن له، ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوّادهم؛ حتى جاءوا الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه عند أهل الشأم وأولى بالخلافة، فاستزلّه الشيطان، فأجابهم، وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل الشأم فانقضوا إليه من كلّ وجه وجند؛ وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفاً إليه، وكتب إلى ابن ههبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهنيّ من موالى سليمان وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريّهم فتحصّنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من العهود والمواثيق! فردّوا على رسله: إنا مع سليمان على من خالفه. فردّ إليهم: إنّي أحذرّكم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممّن تبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فتحلّوا بأنفسكم؛ ولا أمان لكم عندي. فأرسلوا إليه: إنا سنكفّ. ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتّبعه من أخريات الناس وشذّان الجند؛ فيسلونهم خيولهم وسلاحهم. وبلغه ذلك، فتحرّق عليهم غيظاً. واجتمع إلى سليمان نحوٌ من سبعين ألفاً من أهل الشأم والذّكوانية وغيرهم، وعسكر في قرية لبنى زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها. فلما دنا منه مروان قدّم السكسكيّ في نحو سبعة آلاف، ووجّه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدّتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديداً، والتقى السكسكيّ وعيسى، وكلّ واحد منهما فارس بطل، فطّعنا حتى تقصّفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكيّ مقدّم فرس صاحبه، فسقط لجامه في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه السكسكيّ، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه فأسره، وبارز فارساً من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد الصقالبة. فأسره، وانهزمت مقدّمة مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى وطوى على تعبية، ولم ينزل حتى انتهى إلى سليمان، وقد تعبّأ له، وتهيّأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، وأتبعتهم خيوله تقتلهم وتأسرهم؛ وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفاً، وأمر ابنيه فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألاّ يأتوا بأسير إلاّ قتلوه إلاّ عبداً مملوكاً، فأحصيَ من قتلاهم يومئذ نيّف على ثلاثين ألفاً.
قال: وقتل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له خالد بن هشام المخزوميّ - وكان بادناً كثير اللحم - فأدنيَ إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق؛ أما كان لك في خمر المدينة وقيانها ما يكفك عن الخروج مع الخرّاء تقاتلني! قال: يا أمير المؤمنين، أكرهني، فأنشدك الله والرّحم! قال: وتكذب أيضاً! كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله. فف وادّعى كثير من الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكفّ عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم.

قال: ومضى سليمان مفلولاً حتى انتهى إلى حمص؛ فانضمّ إليه من أفلت ممّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجّه مروان يوم هزمه قوّاداً وروابط في جريدة خيل، وتقدّم إليهم أن يسبقوا كلّ خبر؛ حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها إلى أن يأتيهم، حنقاً عليهم، فأتوهم فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى ترمّننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثّل بهم واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدّتهم جميعاً نحواً من ثلثمائة. ثم شخص إلى سليمان ومن تجمّع معه بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان! هلمّوا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعاً. فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطّن نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولّى سليمان على شطرهم معاوية السكسكيّ، وعلى الشّطر الثاني ثبيتاً البهرانيّ. فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيّتوه إن أصابوا منه غرّة، وبلغه خبرهم وما كان منهم، فتحرّز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية، فراموا تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية تسمى تل منّس من جبل السمّاق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبية، فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنّبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، والتقى السكسكيّ وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلميّ عن فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيراً وهو واقف؛ فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منّا! فقال: استبقني فإني فارس العرب، قال: كذبت؛ الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل ممّن صبر معه نحو من ستة آلاف.
قال: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر، ونصب عليها نيفاً وثمانين منجنيقاً، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار وهم في ذلك يخرجون إليه كلّ يوم فيقاتلونه، وربما بيّتوا نواحي عسكره، وأغاروا على الموضع الذي يطمعون في إصابة العورة والفرضة منه. فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمّنهم على أن يمكنوه من سعيد بن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكيّ، كان يغير على عسكرهم، ومن حبشيّ كان يشتمه ويفتري عليه؛ فأجابهم إلى ذلك وقبله. وكانت قصّة الحبشي أنه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم! وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثّلوا به، وأمر بقتل المتسمّي السكسكيّ والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجّهاً إلى الضحاك.
وأما غير أبي هاشم مخلّد بن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بن هشام بعد انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلّد؛ والذي ذكره من ذلك أنّ سليمان بن هشام بن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هارباً؛ حتى صار إلى عبد الله بن عمر، فخرج مع عبد الله بن عمر إلى الضّحاك، فبايعه، وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضّض عليه، وقال: أنا سائر معكم في مواليّ ومن اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعيّ في بيعتهم الضحاك:
ألم تر أن الله أظهر دينه ... فصلّت قريش خلف بكر بن وائل
فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بن سعيد، فعلم أنه لا طاقة له بهم؛ فارتحل من ساعته يريد مروان بالشأم.
وذكر أبو عبيدة أن بيهساً أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين ومائة، استقام لمروان الشأم ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر ابن هبيرة، فوجّهه عاملاً على العراق، وضمّ إليه أجناد الجزيرة، فأقبل حتى نزل سعيد بن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك. قال: فجعل الضّحاك لنا ميسان وف إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي. واستعمل ابن عمر عليها مولاه الحكم بن النعمان.

فأما أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بن عمر صالح الضّحاك على أنّ بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها، وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز وفارس، فارتحل الضّحاك حتى لقي مروان بكفر توثا من أرض الجزيرة.
وقال أبو عبيدة: تهيأ الضّحاك ليسير إلى مروان، ومضى النّضر يريد الشأم، فنزل القادسيّة، وبلغ ذلك ملحان الشيبانيّ عامل الضّحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلّة من الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النّضر. وقال ابن خدرة يرثيه وعبد الملك بن علقمة:
كائن كملحان من شار أخي ثقة ... وابن علقمة المستشهد الشاري
من صادق كنت أصفيه مخالصتي ... فباع داري بأعلى صفقة الدار
إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ... أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري
وبلغ الضّحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنّى بن عمران من بني عائدة، ثم سار الضّحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحطّ ابن هبيرة من نهر سعيد حتى نزل غزّة من عين التّمر، وبلغ ذلك المثنّى بن عمران العائذيّ، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه منصوور بن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضّحاك خلافاً على مروان، فالتقوا بغزّة، فاقتتلوا قتالاً شديداً أياماً متوالية؛ فقتل المثنى وعزيز وعمرو - وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك - وهرب منصور، وانهزمت الخوارج، فقال مسلم حاجب يزيد:
أرت للمثنّى يوم غزّة حتفه ... وأذرت عزيراً بين تلك الجنادل
وعمراً أزارته المنية بعد ما ... أطافت بمنصور كفات الحبائل
وقال غيلان بن حريث في مدحه ابن هبيرة:
نصرت يوم العين إذ لقيتا ... كنصر داود على جالوتا
فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بن جمهور، أقبل لا يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعاً من اليمانية والصفرية ومن كان تفرّق منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعاً، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم، فقاتلهم أياماً ثم هزمهم، وقتل البرذون بن مرزوق الشيبانيّ، وهرب منصور ففي ذلك يقول غيلان بن حريث:
ويوم روحاء العذيب دففوا ... على ابن مرزوق سمام مزعف
قال: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضّحاك ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بن سوّار التغلبيّ، فوجّهه إليهم، وانحطّ ابن هبيرة يريد واسطاً وعبد الله بن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن بن بشير العجليّ، وأقبل عبيدة بن سوّار مغذاً في فرسان أصحابه، حتى نزل الصّراة، ولحق به منصور بن جمهور؛ وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم فالتقوا بالصّراة في سنة سبع وعشرين ومائة.
وفي هذه السنة توجّه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظة وقحطبة بن شبيب - فيما ذكر - إلى مكة، فلقوا إبراهيم بن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكاً ومتاعاً كثيراً، فأمرهم بدفع ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بن عليّ، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بن محمد: إنّ هذا مولاك.
وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم بن محمد يخبره أنه في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن سليمان، وهو رضاً للأمر. وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه؛ وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدّقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مروان على المدينة ومكة والطائف؛ حدّثني بذلك أحمد بن ثابت الرازيّ، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقديّ وغيره.
وكان العامل على العراق النّضر بن الحرشيّ، وكان من أمره وأمر عبد الله ابن عمر والضحاك الحروريّ ما قد ذكرت قبل. وكان بخراسان نصر بن سيار وبها من ينازعه فيها كالكرمانيّ والحارث بن سريج.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان

فمما كان فيها من الأحداث قتل الحارث بن سريج بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك قد مضى ذكر كتاب يزيد بن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بن سيار، وما كان من نصر إليه، واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له. فذكر عليّ بن محمد عن شيوخه، أنّ ابن هبيرة لما وليَ العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه. فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى البيعة أتاه سلم بن أحوز وخالد بن هريم وقطن بن محمد وعبّاد بن الأبرد بن قرّة وحمّاد بن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصيّر نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما أتى بك لئلا يجترىء عليك عدوّك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، وأطمعت فيهم عدوّهم، فنذكّرك الله أن تفرّق جماعتنا! فقال الحارث: إنّي لأرى في يدي الكرمانيّ ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى حائط لحمزة بن أبي صالح السلميّ بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر. فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب بن داود، وأمر جهم بن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتاباً سيّر فيه الحارث على الناس، فانصرفوا يكبّرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم بن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بن بسطام البرجميّ، فوقع بينه وبين مغلّس بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم، فعزله. واستعمل إبراهيم بن عبد الرحمن، واختاروا رجالاً يسمون لهم قوماً يعملون بكتاب الله. فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضميّ ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من العمال، فيولّيهم الثغرين؛ ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما ما يرضونه من السير والسنن. فاستأذن سلم بن أحوز نصراً في الفتك بالحارث، فأبى وولّى إبراهيم الصائغ، وكان يوجّه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أ،ه صاحب الرّايات السود؛ فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أمر بني أميّة، فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر؛ فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك؛ وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني. فقال نصر: فقد استبان أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فأذكرك الله في عشرين ألفاً من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم. وعرض نصر على الحارث أن يولّيه ما وراء النهر، ويعطيه ثلثمائة ألف؛ فلم يقبل؛ فقال له نصر: فإن شئت فابدأ بالكرمانيّ فإن قتلته فأنا في طاعتك، وإن شئت فخلّ بيني وبينه؛ فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك؛ فإذا جزت الرّيّ فأنا في طاعتك.
قال: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن يحكم بينهم مقاتل بن حيان وجهم بن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون الأمر شورى. فلم يقبل نصر. وكان جهم يقصّ في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصراً، ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصيّر سلماً في المدينة في منزل ابن سوّار، وضمّ إليه الرّابطة وإلى هدبة بن عامر الشعراويّ فرساً، وصيّره في المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بن يزيد بن حيّان السلميّ، وحوّل السلاح والدّواوين إلى القهندز، واتّهم قوماً من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من اتّهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولاّهم واصطنعهم عن يمينه؛ ثم تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم؛ كيف أظفر الله به؛ ثم قال: أحمد الله وأذم من على يساري؛ وليت خراسان فكنت يا يونس بن عبد ربّه ممن أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بن عبد الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرّجالة، فوليتكم إذ ووليتكم واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقلّ، ثم ملأتم الحارث عليّ، فهلاّ نظرتم إلى هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء الذين عن يمينه. فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم.

وقدم على نصر من كورخراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة؛ منهم عاصم بن عمير الصريميّ وأبو الذّيال الناجيّ وعمرو الفادوسبان السغديّ البخاريّ وحسان بن خالد الأسديّ من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن معقل الليثيّ ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسعد الصّغير في فرسان.
وكتب الحارث بن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه قوم كثير؛ فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه الحارث، فأتى نصراً هبيرة بن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا الحسن بن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بن سريج عدوّ الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وأرسل من ليلته عاصم بن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بن عبد الرحمن: ما نفعل شعارَنا غدا؟ فقال مقاتل بن سليمان: إن الله بعث نبياً فقاتل عدواً له، فكان شعاره " حم لا ينصرون " ، فكان شعارهم " حم لا ينصرون " ، وعلامتهم عليّ الرّماح الصوف.
وكان سلم بن أحوز وعاصم بن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بن مالك والجماعة في طرف الطخارّية ويحيى بن حضين وربيعة في البخاريّين. ودلّ رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا منصور - بشعار الحارث - وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بن مسعود الناجيّ، فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا قبة سلم بن أحوز فقاتلهم عصمة بن عبد الله الأسديّ وخضر بن خالد والأبرد بن داود من آل الأبرد بن قرّة، وعلى باب بالين حازم بن حاتم، فقتلوا كلّ من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع؛ ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع ومنزل إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلميّ إلاّ الدوابّ والسلاح؛ وذلك ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة.
قال: وأتى نصراً رسول سلم يخبره دنوّ الحارث منه، وأرسل إليه: أخّره حتى نصبح، ثم بعث إليه أيضاً محمد بنم قطن بن عمران الأسديّ، أنه قد خرج عليه عامّة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم.
وكان الذي أهاج القتال، أنّ غلاماً للنضر بن محمد الفقيه يقال له عطية، صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب اعلحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا، فرمى غلاماً لعاصم في عينه فمات؛ فقاتلهم ومعه عقيل بن معقل فهزمهم، فانتهوا إلى الحارث وهو يصلّي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم؛ فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخاريّة، فدنا منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه؛ فضرب الحارث أحدهما بعموده فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيّان، فنهاه عن القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بن عامر الحمانيّ ومحمد بن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم؛ فلما دنا منه رمى به فرسه؛ فدخل حانوتاً، وضرب برذونه على مؤخره فنفق. قال: وركب سلم حين أصبح إلى باب نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر منادياً، فنادى: من جاء برأس فله ثلثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد الله بن مجّاعة بن سعد، فقتلوه. وانتهى سلم إلى عسكر الحارث؛ وانصرف إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهياً حتى أدخل المدينة على هذا الدبّوسيّ؛ فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بن بسام إلى باب درسنكان - وهو القهندز - فوجده مردوماً، فصعد عبد الله بن مزيد الأسديّ السور ومعه ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكّل بالباب أبا مطهّر حرب بن سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بن سريج، واسمه يزيد بن داود، وأتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلاً من الجزّارين كان دلّ الحارث على النقب؛ فقال المنذر الرقاشيّ ابن عمّ يحيى بن حضين، يذكر صبر القاسم الشيبانيّ:
ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ... في عصبة قاتلوا صبراً فما ذعروا
هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ... حتى أتاهم غياث الله فانتصروا
فقاسم بعد أمر الله أحرزها ... وأنت في معزل عن ذاك مقتصر

ويقال: لما غلظ أمر الكرمانيّ والحارث أرسل نصر إلى الكرمانيّ، فأتاه على عهد، وحضرهم محمد بن ثابت القاضي ومقدام بن نعيم أخو عبد الرحمن ابن نعيم الغامديّ وسلم بن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرمانيّ أن أسعد الناس بذلك؛ فوقع بين سلم بن أحوز والمقدام كلام؛ فأغلظ له سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغديّ بن عبد الرحمن الحزميّ، فقال سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مست السيف لم ترجع إليك يدك، فخاف الكرمانيّ أن يكون مكراً من نصر، فقام وتعلقوا به، فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة.
قال فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إماماً، فأرسل إليه نصر: كيف يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك وغزوت المسلمين بالمشركين! أتراني أتضرّع إليك أكثر مما تضرّعت!. قال فأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهميّة، فقال لسلم: إن لي ولثاً من ابنك حارث؛ قال: ما كان ينبغي له أن يفعل؛ ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إليّ عيسى بن مريم ما نجوت؛ والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك؛ والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت؛ وأمر عبد ربّه بن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز - وكان جهم يكنى أبا محرز. وأسر يومئذ هبيرة بن شراحيل وعبد الله بن مجّاعة فقال: لا أبقى الله من استبقاكما، وإن كنتما من تميم. ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند دار قديد بن منيع فقتل. قال: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه حاتماً إلى الكرمانيّ، فقال له محمد بن المثنّى: هما عدوّاك، دعهما يضطربان؛ فبعث الكرمانيّ السغديّ بن عبد الرحمن الحزميّ معه، فدخل السغديّ المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازة الكرمانيّ، ومع الكرمانيّ داود ابن شعيب الجدّانيّ ومحمد بن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى بهم الكرمانيّ، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بن محمد بن عزيز أبو خلف، فلمّا كان الغد سار الكرمانيّ إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل سعد بن سلم المراغيّ، وأخذوا علم عثمان بن الكرمانيّ؛ فأوّل من أتى الكرمانيّ بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة النضر ابن غلاّق السغديّ وعبد الواحد بن المنخّل. ثم أتاه سوادة بن سريج وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذريّ، أتوه ببيعة الحارث بن سريج.
وأول من بايع الكرمانيّ يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانيّ، فوجه الكرمانيّ إلى الحارث بن سريج سورة بن محمد الكنديّ إلى أسمانير والسغديّ بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعباً أو صعيباً، وصبّاحاً، فدخلوا المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرمانيّ إلى باب حرب بن عامر، ووجّه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال. قال: والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد؛ حتى وصلوا إلى الكرمانيّ، فأخذ اللواء بيده فقاتل به، وحمل الخضر بن تميم وعليه تهجفاف، فرموه بالنّشاب، وحمل عليه حبيش مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه؛ فشبّ به فرسه، وحمل فطعن حبيشاً فأذراه عن برذونه، فقتله رجّالة الكرمانيّ بالعصيّ.
قال: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرساً، وصرع تميم ابن نصر، فأخذوا له برذونين؛ أخذ أحدهما السغديّ بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر الخضر، ولحق الخضر بسلم بن أحوز، فتناول من ابن أخيه عموداً فضربه فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بن الحدّاد إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسديّ، وكان يحمى أصحاب نصر؛ فأدركه صالح بن القعقاع الأزديّ، فقال له عصمة: تقدّم يا مزنيّ، فقال صالح: أثبت يا حصي - وكان عقيماً - فعطف فرسه فشبّ فسقط، فطعنه صالح فقتله.

وقاتل ابن الديليمريّ، وهو يرتجز؛ فقتل إلى جنب عصمة. وقتل عبيد الله بن حوتمة السلميّ، رمى مروان البهرانيّ بجرزة؛ فقتل؛ فأتى الكرمانيّ برأسه فاسترجع - وكان له صديقاً - وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم فعرفه فتركه. واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرّية اليمن، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن؛ قد دخل الحارث السوق، وقتل ابن الأقطع؛ ففتّ في أعضاد المضرّية. وكان أوّل من انهزم إبراهيم بن بسام الليثيّ، وترجّل تميم بن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن بن جامع الكنديّ، وقتلوا هيّاجاً الكلبيّ ولقيط بن أخضر؛ قتله غلام لهانىء البزّار.
قال: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهّبوا للقتال، وهدموا الحيطان ليتّسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بن قطن إلى الكرمانيّ: إنك لست مثل هذا الدبّوسيّ، فاتّق الله، لا تشرع في الفتنة. قال: وبعث تميم بن نصر شاكريّته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع؛ فرماهم أصحاب الكرمانيّ من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بن معقل لمحمد بن المثنّى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرمانيّ! هلّم نرجع إلى بلدنا بطخارستان، فقال محمد: إنّ نصراً لم يفِ لنا، فلسنا ندع حربه. وكان أصحاب الحراث والكرمانيّ يرمون نصراً وأصحابه بعرّادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم يحوّله، فوجه إليهم سلم ابن أحوز فاقتلهم؛ فكان أوّل الظفر لنصر، فلما رأى الكرمانيّ ذلك أخذ لواءه من محمد بن محمد بن عميرة، فقاتل به حتى كسره. وأخذ محمد بن المثنى والزّاغ وحطّان في كارابكل، حتى خرجوا على الرّزيق، وتميم بن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بن المثنى لتميم حين انتهى إليه: تنحّ يا صبيّ. وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا أعين مولى نصرن وقتلوه؛ وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفراً من شاكريّته. وحمل الخضر بن تميم على سلم بن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز على صدره وأخرى على منكبه؛ وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في ثمانية، فمنعهم من دخول السوق.
قال: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيّرونني بانهزامكم؛ وأنا كافّ؛ فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانيّ، فبعث إليه نصر يزيد النحويّ أو خالداً يتوثّق منه؛ أن يفي له بما أعطاه من الكفّ. ويقال: إنما كفّ الحارث عن قتال نصر أن عمران بن الفضل الأزديّ وأهل بيته وعبد الجبار العدويّ وخالد بن عبيد الله بن حبيب العدويّ وعامة أصحابه نقموا على الكرمانيّ فعله بأهل التبوشكان؛ وذلك أن أسداً وجهّه إليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلاً وألقاهم في نهر بلخ، وقطع أيدي ثلثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد، فنقموا على الحارث عونه الكرمانيّ، وقتاله نصراً. فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: إن مضر، لا تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرمانيّ؛ لا يتفقان على أمر، فالرأي تركهما؛ فإنهما يختلفان. وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدويّ وعمر بن أبي الهيثم الصغديّ، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرمانيّ؟ فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسياً؛ ما أحلك هذا المحلّ! فلما رجع نصر إلى مرو أمر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام بها، ومعه مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسلم بن أحوز وسنان الأعرابيّ، فقال نصر لنسائه: إنّ الحارث سيخلفني فيكنّ ويحميكنّ. فلما قرب من نيسابور أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمراً قد كان الله أطفأه؟ وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامريّ، فأرسل إليه نصر بن سيار سناناً الأعرابيّ ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز، فكلموهم فخرجوا، فتلقوا نصراً بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله فداك! هذا الحيّ من قيس؛ فإنما كانت عاتبة، فقال نصر:
أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمّي قيس عيلانا
وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بن عبد ربّه ومحمد بن قطن وخالد بن عبد الرحمن في نظرائهم.

قال: وتقدّم عبّاد بن عمر الأزديّ وعبد الحكيم بن سعيد العوذيّ وأبو جعفر عيسى بن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم: أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك؛ طالت ولايتها في ولايتك، وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء. فقال عبّاد: أتستقبل الأمير بنهذا الكلام! قال: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بن جرز - وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية، فإنه قد أطلّ أمرٌ عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين. وجّهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر عليّ. فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانيّ من ذلك ببعيد. فوصله نصر. قال: وكان سلم بن أحوز يقول: ما رأيت قوماً أكرم إجابةً، ولا أبذل لدمائهم من قيس.
قال: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرمانىّ، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقاً لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بن حيّان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرمانيّ في خيمة في العسكر، فكلّمه معمّر بن مقاتل بن حيّان - أو معمر بن حيان - فخلاه، فأتى الكرمانيّ المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرمانيّ الناس، وآمنهم غير محمد بن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بن أبي داود بن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه؛ ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرمانيّ في مصلّى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهمّ الكرمانيّ به، ثم كفّ عنه، فأقام أياماً. وخرج بشر بن جرموز الضبيّ بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنّة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذْ كنت مع الكرمانيّ، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبيّة، فلست مقاتلاً معك. واعتزل في خمسة آلاف وخمسمائة - ويقال في أربعة آلاف - وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحقّ ولا نقاتل إلاّ من يقاتلنا. وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرمانيّ يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرمانيّ، وبعث الحارث ابنه محمداً فحمل ثقله من دار تميم بن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر؛ أن الزموا الحارث مناصحةً فأتوه؛ فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إليّ بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه. وكان من مدبّري عسكر الكرمانيّ مقاتل بن سليمان، فأتاه رجل من البخاريّين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البيّنة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بن شيخ الأزديّ، فأمر مقاتل فصكّ له إلى بيت المال. قال: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرمانيّ: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرّم الله من دمائكم؛ فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحراث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحةً في عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله؛ ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدوّ، فاتقوا الله وراجعوا الحقّ، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها.

فأقاموا أياماً، فأتى الحارث بن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بن أبي الهيثم، فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقالوا: غدرت. فأقام القاسم الشيبانيّ وربيع التيميّ في جماعة، ودخل الكرمانيّ من باب سرخس، فحاذى الحارث؛ ومرّ المنخّل بن عمرو الأزديّ فقتله السميدع؛ أحد بني العدويّة، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرمانيّ على ميمنته داود بن شعيب وإخوته: خالداً ومزيداً والمهلب، وعلى ميسرته سورة بن محمد بن عزيز الكنديّ، في كندة وربيعة. فاشتدّ الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرساً فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بن جرموز وقطن بن المغيرة بن عجرد، وكفّ الكرمانيّ، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرمانيّ مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس. وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوماً، قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب. وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء. فقتل كذك سنة ثمان وعشرين ومائة. وأصاب الكرمانيّ صفائح ذهب للحارث فأخذها وحبس أمّ ولده ثم خلّى عنها، وكانت عند حاجب بن عمرو بن سلمة بن سكن بن جون بن دبيب. قال: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم: بم تستحل ماله؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان، فأتى به منزله.
قال عليّ:، قال زهير بن الهنيد: خرج الكرمانيّ إلى بشر بن جرموز، وعسكر خارجاً من المدينة؛ مدينة مرو، وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرمانيّ، فأقام الكرمانيّ أياماً بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدّم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن يقاتله، فقال للحارث: تقدّم. وندم الحارث على اتباع الكرمانيّ، فقال: لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردّهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس؛ حتى أتى عسكر بشر في قرية الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل المضريّون ينسلّون من عسكر الكرمانيّ إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرمانيّ مضريّ غير سلمة بن أبي عبد الله، مولى بني سليم؛ فإنه قال: والله لا أتبع الحارث أبداً فإني لم أره إلا غادراً والمهلّب بن إياس، وقال: لا أتبعه فإني لم أره قطّ إلا في خيل تطّرد. فقاتلهم الكرمانيّ مراراً يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرّةً لهؤلاء ومرّة لهؤلاء، فالتقوا يوماً من أيامهم، وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعيّ، فخرج سكران على برذون للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم؛ حتى تخلص، وعار البرذون، فلما رجع لامه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول ذلك لمكان برذونك، امرأتي طالق إن لم آتك ببرذون أفره من برذونك من عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: أيّ برذون في عسكرهم أفره؟ قالوا: برذون عبد الله ابن ديسم العنزيّ - وأشاروا إلى موقفه - حتى وصل إليه، فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلّق مرثد عنان فرسه في رمحه، وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بن الحسن مرثداً، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال: خذه، قال: أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك أياماً، ثم ارتحل الحارث ليلاً، فأتى حائط مرو فنقب باباً، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضريّة للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرّة، فترجّل. فقال: أنا لكم فارساً خير مني لكم راجلاً، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل اعلحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل:
يا مدخل الذلّ على قومه ... بعداً وسحقاً لك من هالك!
شؤمك أردى مضراً كلّها ... وغض من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع في عمرو ولا مالك
ولا بني سعد إذا ألجموا ... كل طمر لونه حالك
ويقال: بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة المازّنيّ.
وقالت أم كثير الضبيّة:

لا بارك الله في أنثى وعذّبها ... تزوجت مضرباً آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذلّ والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزونيّ يجبيكم على قهر
وقال عبّاد بن الحارث:
ألا يا نصر قد برح الخفاء ... وقد طال التمنّي والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مرو ... تقضّى في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم ... على مضر وإن جار القضاء
وحمير في مجالسها قعود ... ترقرق في رقابهم الدماء
فإن مضر بذا رضيت وذلت ... فطال لها المذلّة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا ... فحل على عساكرها العفاء
وقال:
ألا يا أيها المرء ال ... ذي قد شفّه الطرب
أفق ودع الذي قد كن ... ت تطلبه ونطّلب
فقد حدثت بحضرتنا ... أمور شأنها عجب
الأزد رأيتها عزّت ... بمرو وذلت العرب
فجاز الصفر لمّا كا ... ن ذاك وبهرج الذهب
وقال أبو بكر بن إبراهيم لعليّ وعثمان ابني الكرمانيّ:
إني لمرتحل أريد بمدحتي ... أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
سبقا الجياد فلم يزالا نجعةً ... لا يعدم الضيف الغريب قراهما
يستعليان ويجريان إلى العلا ... ويعيش في كنفيهما حيّاهما
أعنى عليّاً إنّه ووزيره ... عثمان ليس يذلّ من والاهما
جرياً لكيما يلحقا بأبيهما ... جري الجياد من البعيد مداهما
فلئن هما لحقا به لمنصب ... يستعليان ويلحقان أباهما
ولئن أبرّ عليهما فلطالما ... جريا فبذّهما وبذّ سواهما
فلأمدحنّهما بما قد عاينت ... عني وإن لم أحص كلّ نداهما
فهما التّقيّان المشار إليهما ... الحاملان الكاملان كلاهما
وهما أزالا عن عريكة ملكه ... نصراً ولا في الذلّ إذ عاداهما
نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ... وتقسّمت أسلابه خيلاهما
والحارث بن سريج إذا قصدوا له ... حتى تعاور رأسه سيفاهما
أخذا بعفو أبيهما في قدره ... إذ عزّ قومهما ومن والاهما
وفي هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله؛ فإني قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك؛ فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه عليّ، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجّه أبا مسلم على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبداً، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة، ثم قال: يا عبد الرحمن، إنك رجل منّا أهل البيت؛ فاحتفظ وصيّتي، وانظر هذا الحيّ من اليمن فأكرمهم، وحلّ بين أظهرهم؛ فإن الله لا يسمّ هذا الأمر إلا بهم؛ وانظر هذا الحيّ من ربيعة فاتّهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحيّ من مضر؛ فإنهم العدوّ القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء؛ وإن استطعت ألاّ تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله، ولا تخالف هبذا الشيخ - يعني سليمان بن كثير - ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني.
ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجيّ
وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجيّ، فيما قال أبو مخنف، ذكر ذلك هشام بن محمد عنه.
ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك

ذكر أنّ الضحاك لما حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وبايعه منصور بن جمهور، ورأى عبد الله بن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه؛ إن مقامكم عليّ ليس بشيء؛ هذا مروان فسر إليه؛ فإن قاتلته فأنا معك، فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه.
فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقيَ مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا.
وأما أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، فقال فيما حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم عنه أن الضّحاك لما قتل عطية الثعلبيّ صاحبَه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السيلحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر بواسط، وجّه مكانه من أصحابه رجلاً يقال له مطاعن؛ واصطلح عبد الله بن عمر والضحاك عن أن يدخل في طاعته؛ فدخل وصلى خلفه، وانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط، ودخل الضّحاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكّنوه منها؛ فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهراً، حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ عامل لمروان؛ وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة يقال له القطران بن أكمه، ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا، واستولى الضّحاك على الموصل وكورها. وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط الجزيرة، فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه؛ وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلّف بحرّان قائداً في ألف أو نحو ذلك؛ وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين، فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة من مع الضحاك؛ فهم فيما بلغنا عشرون ومائة ألف، يرزق الفارس عشرين ومائة والراجل والبغال المائة والثمانين في كلّ شهر؛ وأقام الضحاك على نصيبين محاصراً لها، ووجّه قائدين من قوّاده يقال لهما عبد الملك بن بشر التغلبيّ، وبدر الذّكوانيّ مولى سليمان بن هشام، في أربعة آلاف أو خمسة آلاف حتى وردا الرّقة، فقاتلهم من بها من خيل مروان؛ وهم نحو من خمسمائة فارس، ووجّه مروان حين بلغه نزولهم الرّقة خيلاً من روابطه؛ فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضّحاك منصرفين إليه، فاتبعتهم خيله، فاستسقطوا من ساقتهم نيّفاً وثلاثين رجلاً، فقطعهم مروان حين قدم الرّقة، ومضى صامداً إلى الضّحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا، فقاتله يومه ذلك؛ فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجّل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه، وأحدقت بهم خيول مروان فألحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك إلى عسكرهم؛ ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحاك أن الضّحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل. وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بخبره ومقتله، فبكوه وناحوا عليه، وخرج عبد الملك بن بشر التغلبيّ القائد الذي كان وجّهه في عسكرهم إلى الرّقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فأعلمه أنّ الضحاك قتل، فأرسل معه رسلاً من حرسه، معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلّبا القتلى حتى استخرجوه، فاحتملوه حتى أتوا به مروان، وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضّحاك أنهم قد علموا بذلك، وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة، فطيف به فيها.
وقيل: إن الخيبريّ والضحاك إنما قتلا في سنة تسع وعشرين ومائة.
ذكر الخبر عن مقتل الخيبريّ وولاية شيبان
وفي هذه السنة كان أيضاً - في قول أبي مخنف - قتل الخيبريّ الخارجيّ، كذلك ذكر هشام عنه.
ذكر الخبر عن مقتله

حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره بايعوا الخيبريّ، وأقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد، وصافّوه وصافّهم، وسليمان بن هشام يومئذ في مواليه وأهل بيته مع الخيبريّ؛ وقد كان قدم على الضحاك وهو بنصيبين؛ وهم في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوّج فيهم أخت شيبان الحروريّ الذي بايعوه بعد قتل الخيبريّ، فحمل الخيبريّ على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشّراة، فهزم مروان وهو في القلب، وخرج مروان من المعسكر هارباً، ودخل الخيبريّ فيمن معه عسكره، فجعلوا ينادون بشعارهم: يا خيبريّ يا خيبريّ، ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان، فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبريّ على فرشه. وميمنة مروان عليها ابنه عبد الله ثابتة على حالهاا، وميسرته ثابتة عليها إسحاق بن مسلم العقيليّ، فلما رأى أهل عسكر مروان قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيد من أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبريّ وأصحابه جميعاً في حجرة مروان وحولها، وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزماً، فانصرف إلى عسكره وردّ خيوله عن مواضعها ومواقفها، وبات ليلته تلك في عسكره. فانصرف أهل عسكر الخيبريّ فولّوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ. وكان مروان يوم الخيبريّ بعث محمد بن سعيد، وكان من ثقاته وكتابه إلى الخيبريّ، فبلغه أنه ما لأهم وانحاز إليهم يومئذ، فأتيَ به مروان أسيراً فقطع يده ورجله ولسانه.
وفي هذه السنة وجّه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز؛ كذلك قال أبو معشر - فيما حدّثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه. وكذلك قال الواقديّ وغيره.
وقال الواقديّ: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وآخذ نعيم بن ثابت الجزاميّ فقتله في شوال سنة ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف - فيما ذكر - في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وبالعراق عمّال الضحاك وعبد الله بن عمر، وعلى قضاء البصرة ثُمامة بن عبد الله، وبخراسان نصر بن سيّار وخراسان مفتونة.
خبر أبي حمزة الخارجيّ مع عبد الله بن يحيى
وفي هذه السنة لقي أبو حمزة الخارجيّ عبد الله بن يحيى طالب الحق فدعاه إلى مذهبه.
ذكر الخبر عن ذلك: حدّثني العباس بن عيسى العقيليّ، قال: حدّثنا هارون بن موسى الفرويّ، قال: حدّثني موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال: كان أوّل أمر أبي حمزة - وهو المختار بن عوف الأزديّ السبّليميّ من البصرة - قال موسى: كان أول أمر أبي حمزة أنه كان يوافي كلّ سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد وإلى خلاف آل مروان. قال: فلم يزل يختلف في كلّ سنة حتى وافى عبد الله بن يحيى في آخر سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل، أسمع كلاماً حسناً، وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان.
وقد حدّثني محمد بن حسن أن أبا حمزة مرّ بمعدن بني سليم وكثير بن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد سبعين سوطاً، ثم مضى إلى مكّة، فلما قدم أبو حمزة المدينة حين افتتحها تغيّب كثير حتى كان من أمرهم ما كان.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر هلاك شيبان بن عبد العزيز الحروريّ فمن ذلك ما كان من هلاك شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ ابي الدّلفاء.
ذكر الخبر عن سبب مهلكه:

وكان سبب ذلك أنّ الخوارج الذين كانوا بإزاء مروان بن محمد يحاربونه لمّا قتل الضحاك بن قيس الشيبانيّ رئيس الخوارج والخيبريّ بعده، ولّوا عليهم شيبان وبايعوه؛ فقاتلهم مروان، فذكر هشام بن محمد والهيثم بن عديّ أنّ الخيبريّ لما قتل قال سليمان بن هشام بن عبد الملك للخوارج - وكان معهم في عسكرهم: إنّ الذي تفعلون ليس برأي؛ فإن أخذتم برأيي، وإلا انصرفت عنكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: إنّ أحدكم يظفر ثم يستقتل فيقتل، فإني أرى أن ننصرف على حاميتنا حتى ننزل الموصل، فنخندق. ففعل وأتبعه مروان والخوارج في شرقيّ دجلة ومروان بإزائهم؛ فاقتتلوا تسعة أشهر، ويزيد بن عمر بن هبيرة بقرقيسيا في جند كثيف من أهل الشأم وأهل الجزيرة، فأمره مروان أن يسير إلى الكوفة، وعليها يومئذ المثنّى بن عمران؛ من عائذة قريش من الخوارج.
وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان مروان بن محمد يقاتل الخوارج بالصّف، فلما قتل الخيبريّ وبويع شيبان، قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ، وجعل الآخرون يكردسون بكراديس مروان كراديس تكافئهم وتقاتلهم، وتفرّق كثير من أصحاب الطمع عنهم وخذلوهم، وحصلوا في نحو من أربعين ألفاً، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى مدينة الموصل، فيصيّروها ظهراً وملجأً وميرةً لهم، فقبلوا رأيه، وارتحلوا ليلاً، وأصبح مروان فأتبعهم؛ ليس يرحلون عن منزل إلا نزله؛ حتى انتهوا إلى مدينة الموصل، فعسكروا على شاطىء دجلة من عسكرهم إلى المدينة؛ فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، فأقام ستة أشهر يقاتلهم بكرة وعشيّةً.
قال: وأتيَ مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، يقال له أمية بن معاوية بن هشام، وكان مع عمه سليمان بن هشام في عسكر شيبان بالموصل؛ فهو مبارز رجلاً من فرسان مروان، فأسره الرجل فأتيَ به أسيراً، فقال له: أنشدك الله والرحِم يا عمّ! فقال: ما بيني وبينك اليوم من رحم، فأمر به - وعمه سليمان وإخوته ينظرون - فقطعت يداه وضربت عنقه.
قال: وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بن سوّار خليفة الضّحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التّمر، فقاتلهم فهزمهم؛ وعليهم يومئذ المثنّى بن عمران من عائذة قريش والحسن بن يزيد؛ ثم تجمّعوا له بالكوفة بالنّخيلة، فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصّراة ومعهم عبيدة؛ فقاتلهم فقتل عبيدة، وهزم أصحابه، واستباح ابن هبيرة عسكرهم، فلم يكن لهم بقيّة بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها، وكتب إليه مروان بن محمد من الخنادق يأمره أن يمدّه بعامر بن ضبارة المرّيّ، فوجّهه في نحو من ستة آلاف أو ثمانية؛ وبلغ شيبان خبرهم ومن معه من الحرورية، فوجّهوا غليه قائدين في أربعة آلاف، يقال لهما ابن غوث والجون، فلقوا ابن ضبارة بالسنّ دون الموصل، فقاتلوه قتالاَ شديداً، فهزمهم ابن ضبارة، فلما قدم فلهم أشار عليهم سليمان بالارتحال عن الموصل، وأعلمهم أنه لا مقام لهم إذ جاءهم ابن ضبارة من خلفهم، وركبهم مروان من بين أيديهم؛ فارتحلوا فأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس، ووجّه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة نفر من قوّاده في ثلاثين ألفاً من روابطه؛ أحدهم مصعب بن الصّحصح الأسديّ وشقيق وعطيف السليماني، وشقيق الذي يقول فيه الخوارج:
قد علمت أختاك يا شقيق ... أنك من سكرك ما تفيق
وكتب إليه يأمره أن يتبعهم، ولا يقلع عنهم حتى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتى وردوا فارس، وخرجوا منها وهو في ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم، فتفرّقوا، وأخذ شيبان في فرقته إلى ناحية البحرين، فقتل بها، وركب سليمان فيمن معه من مواليه وأهل بيته السفن إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حرّان، فأقام بها حتى شخص إلى الزّاب.

وأمّا أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه - قال: أمر مروان يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان في جنود كثيرة من الشأم وأهل الجزيرة بقرقيسيا - أن يسير إلى الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ رجل من الخوارج يقال له المثنّى بن عمران العائذيّ؛ عائذة قريش، فسار إليه ابن هبيرة على الفرات حتى انتهى إلى عين التّمر، ثم سار فلقي المثنى بالروحاء، فوافى الكوفى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فهزم الخوارج، ودخل ابن هبيرة الكوفة ثم سار إلى الصّراة، وبعث شيبان عبيدة بن سوّار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقيّ الصّراة، وابن هبيرة في غربيّها، فالتقوا، فقتل عبيدة وعدّة من أصحابه؛ وكان منصور بن جمهور معهم في دور الصراة، فمضى حتى غلب على الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط؛ فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجّه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز، وبعث إليه سليمان داود بن حاتم، فالتقوا بالمريان على شاطىء دجيل، فانهزم الناس، وقتل داود بن حاتم. وفي ذلك يقول خلف بن خليفة:
نفسي لداود الفدا والحمى ... إذ أسلم الجيش أبا حاتم
مهلّبيّ مشرق وجهه ... ليس على المعروف بالنادم
سألت من يعلم لي علمه ... حقاً وما الجاهل كالعالم
قالوا عهدناه على مرقب ... يحمل كالضرغامة الصارم
ثم انثنى منجدلاً في دم ... يسفح فوق البدن الناعم
وأقبل القبط على رأسه ... واختصموا في السيف والخاتم
وسار سليمان حتى لحق بابن معاوية الجعفريّ بفارس. وأقام ابن هبيرة شهراً. ثم وجّه عامر بن ضبارة في أهل الشأم إلى الموصل؛ فسار حتى انتهى إلى السنّ فلقيه بها الجون بن كلاب الخارجيّ، فهزم عامر بن ضبارة حتى أدخله السنّ فتحصّن فيها، وجعل مروان يمدّه بالجنود يأخذون طريق البرّ؛ حتى انتهوا إلى دجلة، فقطعوها إلى ابن ضبارة حتى كثروا. وكان منصور بن جمهور يمدّ شيبان بالأموال من كور الجبل؛ فلما كثر من يتبع ابن ضبارة من الجنود؛ نهض إلى الجون بن كلاب فقتل الجون، ومضى ابن ضبارة مصعداً إلى الموصل.؛ فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر بن ضبارة نحوه، كره أن يقيم بين العسكرين؛ فارتحل بمن معه وفرسان الشأم من اليمانية. وقدم عامر بن ضبارة بمن معه على مروان بالموصل، فضمّ إليه جنوداً من جنوده كثيرة، وأمره أن يسير إلى شيبان؛ فإن أقام أقام؛ وإن سار سار؛ وألاّ يبدأه بقتال؛ فإن قاتله شيبان قاتله؛ وإن امسك أمسك عنه، وإن ارتحل اتّبعه؛ فكان على ذلك حتى مرّ على الجبل، وخرج على بيضاء إصطخر، وبها عبد الله بن معاوية أياماً، ثم ناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية، فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه، فلقي شيبان بجيرفت من كرمان، فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزمت الخوارج، واستبيح عسكرهم؛ ومضى شيبان إلى سجستان، فهلك هبا؛ وذلك في سنة ثلاثين ومائة.
وأما أبو عبيدة فإنه قال: لما قتل الخيبريّ قام بأمر الخوارج شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ، فحارب مروان، وطالت الحرب بينهما؛ وابن هبيرة بواسط قد قتل عبيدة بن سوار ونفى الخوارج ومعه رءوس قوّاد أهل الشأم وأهل الجزيرة. فوجّه عامر بن ضبارة في أربعة آلاف مدداً لمروان، فأخذ على باب المدائن، وبلغ مسيره شيبان، فخاف أن يأتيهم مروان، فوجّه إليه الجون بن كلاب الشيبانيّ ليشغله، فالتقيا بالسنّ، فحصر الجون عامراً أياماً.
قال أبو عبيدة: قال أبو سعيد: فأحرجناهم والله، واضطررناهم إلى قتالنا؛ وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا؛ فلم ندع لهم مسلكاً. فقال لهم عامر: أنتم ميّتون لا محالة؛ فموتوا كراماً، فصدمونا صدمة لم يقم لها شيء، وقتلوا رئيسنا الجون بن كلاب، وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان، وابن ضبارة في آثارنا؛ حتى نزل منّا قريباً؛ وكنا نقاتل من وجهين؛ نزل ابن ضبارة من ورائنا ممّا يلي العراق، ومروان أمامنا مما يلي الشأم؛ فقطع عنا المادّة والميرة، فغلت أسعارنا؛ حتى بلغ الرغيف درهماً؛ ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغالٍ ولا رخيص. فقال حبيب بن خدرة لشيبان: يا أمير المؤمنين؛ إنك في ضيق من المعاش؛ فلو انتقلت إلى غير هذا الموضع! ففعل ومضى شهرزور من أرض الموصل، فعاب ذلك عليه أصحابه؛ فاختلفت كلمتهم.

وقال بعضهم: لما ولي شيبان أمر الخوارج رجع بأصحابه إلى الموصل فاتّبعه مروان ينزل معه حيث نزل فقاتله شهراً ثم انهزم شيبان حتى لحق بأرض فارس، فوجه مروان في أثره عامر بن ضبارة فقطع إلى جزيرة ابن كاوان، ومضى شيبان بمن معه حتى صار إلى عمان، فقتله جلندي بن مسعود ابن جيفر بن جلندي الأزديّ.
ذكر إظهار الدعوة العباسية بخراسان وفي هذه السنة أمر إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس أبا مسلم، وقد شخص من خراسان يريده حتى بلغ قومس، بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم بإظهار الدعوة والتسويد.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان الأمر فيهقال عليّ بن محمد عن شيوخه: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خُراسان، حتى وقعت العصبيّة بها؛ فلما اضطرب الحبل، كتب سليمان بن كثير إلى أبي سلمة الخلاّل يسأله أن يكتب إلى إبراهيم، يسأله أن يوجّه رجلاً من أهل بيته. فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبا مسلم. فلما كان في سنة تسع وعشرين ومائة، كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه ليسأله عن أخبار الناس، فخرج في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفساً من النقباء، فلما صار بالدّندانقان من أرض خراسان عرض له كامل - أو أبو كامل - قال: أين تريدون؟ قالوا: الحجّ، ثم خلا به أبو مسلم، فدعاه فأجابهم، وكفّ عنهم، ومضى أبو مسلم إلى بيورد، فأقام بها أياماً، ثم سار إلى نسا؛ وكان بها عاصم بن قيس السلميّ عاملاً لنصر بن سيار الليثيّ؛ فلما قرب منها أرسل الفضل بن سليمان الطوسيّ إلى أسيد بن عبد الله الخزاعيّ ليعلمه قدومه، فمضى الفضل فدخل قريةً من قرى نسا، فلقي رجلاً من الشيعة يعرفه، فسأله عن أسيد، فانتهره، فقال: يا عبد الله، ما أنكرت من مسأتلي عن منزل رجل؟ قال: إنه كان في هذه القرية شرّ، سعيَ برجلين قدما إلى العامل، وقيل إنهما داعيان، فأخذهما، وأخذ الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب بن سعيد والمهاجر بن عثمان؛ فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكّب الطريق، وأخذ في أسفل القرى، وأرسل طرخان الجمّال إلى أسيد، فقال: ادعه لي ومن قدرت عليه من الشيعة، وإياك أن تكلم أحداً لم تعرفه، فأتى طرخان أسيداً فدعاه، وأعلمه بمكان أبي مسلم، فأتاه فسأله عن الأخبار، قال: نعم، قدم الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعد بكتب من الإمام إليك، فخلّفا الكتب عندي وخرجا، فأخذا فلا أدري من سعى بهما! فبعث بهما العامل إلى عاصم بن قيس، فضرب المهاجرين عثمان وناساً من الشيعة. قال: فأين الكتب؟ قال: عندي، قال: فأتني بها فأتاه بالكتب فقرأها.
قال: ثم سار حتى أتى قومس، وعليها بيهس بن بديل العجليّ، فأتاهم بيهس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: الحجّ، قال: أفمعكم فضل برذون تبيعونه؟ قال أبو مسلم: أما بيعاً فلا؛ ولكن خذ أيّ دوابّنا ششئت؛ قال: اعرضوها عليّ، فعرضوها، فأعجبه برذون منها سمند، فقال أبو مسلم: هو لك، قال: لا أقبله إلاّ بثمن، قال: احتكم، قال: سبعمائة، قال: هو لك. وأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام إليه وكتاب إلى سليمان بن كثير؛ وكان في كتاب أبي مسلم: إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألفاك كتابي، ووجّه إليّ قحطبة بما معك يوافني به في الموسم. فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى الإمام، فلما كانوا بنسا عرض لهم صاحب مسلحه في قرية من قرى نسا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أردنا الحجّ، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه، فأوصلهم إلى عاصم بن قيس السلميّ، فسألهم فأخبروه، فقال: ارتحلوا وأمر المفضل بن الشرقيّ السلميّ - وكان على شُرطته - أن يزعجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم، فأجابه، وقال: ارتحلوا على مهل، ولا تعجلوا. وأقام عندهم حتى ارتحلوا.

فقدم أبو مسلم مرو في أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، وكان فيه أن أظهر دعوتك ولا تربّص، فقد آن ذلك. فنصبوا أبا مسلم، وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم. ونزل أبو مسلم قريةً من قرى خزاعة يقال لها سفيذنج، وشيبان والكرمانيّ يقاتلان نصر بن سيار، فبثّ أبو مسلم دعاته في الناس، وظهر أمره، وقال الناس: قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كلّ وجه، فظهر يوم الفطر في قرية خالد بن إبراهيم. فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بن مجاشع المرائيّ، ثم ارتحل فنزل بالين - ويقال قرية اللين - لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام اثنين وأربعين يوماً؛ فكان أوّل فتح أبي مسلم من قبل موسى بن كعب في بيودر، وتشاغل بقتل عاصم بن قيس، ثم جاء فتح من قبل مروروذ.
قال أبو جعفر: وأما أبو الخطاب فإنه قال: كان مقدم أبي مسلم أرض مرو منصرفاً من قومس، وقد أنفذ من قومس قحطبة بن شبيب بالأموال التي كانت معه والعروض إلى الإمام إبراهيم بن محمد، وانصرف إلى مرو، فقدمها في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة لتسع خلون منه يوم الثلاثاء، فنزل قرية تدعى فنين على أبي الحكم عيسى بن أعين النّقيب، وهي قرية أبي داود النقيب، فوجّه منها أبا داود ومعه عمرو بن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ بإظهار الدّعوة في شهر رمضان من عامهم، ووجّه النّضر بن صبيح التميميّ ومعه شريك بن غضيّ التميميّ إلى مرو الرّوذ بإظهار الدّعوة في شهر رمضان، ووجّه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بن عطيّة إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدّعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوّهم دون الوقت، فعرض لهم بالأذى والمكروه فقد حلّ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجرّدوها من أغمادها، ويجاهدوا أعداء الله ومن شغلهم عدوّهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت.
ثم تحوّل أبو مسلم عن منزل أبي الحكم عيسى بن أعين، فنزل على سليمان ابن كثير الخزاعيّ في قريته التي تدعى سفيذنج من ربع خرقان لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة اعتقدوا اللواء الذي بعث به الإمام إليه الذي يُدعى الظلّ، على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد الرّاية التي بعث بها الإمام التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً، وهو يتلو: " أُذنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير " ، ولبس السوّاد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، منهم غيلان بن عبد الله الخزاعيّ - وكان صهر سليمان على أخته أم عمرو بنت كثير - ومنهم حميد بن رزين وأخوه عثمان بن رزين، فأقوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان ربع خرقان - وكانت العلامة بين الشيعة - فتجمعوا له حين أصبحوا مغذّين، وتأويل هذين الاسمين: الظلّ والسحاب، أن السحاب يطبّق الأرض؛ وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظلّ أن الأرض لا تخلو من الظلّ أبداً، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسيّ أبد الدهر.

وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة؛ وكان أوّل من قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح الهرمزفرّيّ عيسى بن شبيل في تسعمائة رجل وأربعة فرسان، وم أهل هرمزفرة سليمان بن حشان وأخوه يزدان بن حسان والهيثم بن يزيد بن كيسان؛ وبويع مولى نصر بن معاوية وأبو خالد الحسن وجردى ومحمد بن علوان، وقدم أهل السقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم الجوبانيّ في ألف وثلثمائة راجل وستة عشر فارساً. ومنهم من الدّعاة أبو العباس المرّوزيّ وخذام بن عمّار وحمزة بن زنيم، فجعل أهل السقادم يكبّرون من ناحيتهم وأهل السقادم مع محرز بن إبراهيم يجيبونهم بالتكبير؛ فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج؛ وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين. وأمر أبو مسلم أن يرمّ حصن سفيذنج ويحصّن ويدرّب؛ فلما حضر العيد يوم الفطر بسفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبراً في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة - وكانت بنو أميّة تبدأ بالخطبة والأذان، ثم الصلاة بالإقامة على صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوساً في الجمعة والأعياد - وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يكبّر الركعة الأولى ست تكبيرات تباعاً، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعاً. ثم يقرأ ويركع بالسادسة. ويفتتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكانت بنو أمية تكبر في الرّكعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات. فلما ضقى سليمان بن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعدّه لهم أبو مسلم الخراسانيّ، فطعموا مستبشرين. وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بن سيار يكتب: للأمير نصر؛ فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: أما بعد، فإن الله تبارك أسماؤه وتعالى ذكره عيّر أقواماً في القرآن فقال: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلاّ نفوراً. استكباراً في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله فهل ينظرون إل سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنه الله تحويلاً.
فتعاظم نصرٌ الكتاب وأنه بدأ بنفسه، وكسر له إحدى عينيه وأطال الفكرة وقال: هذا كتاب له جواب. فلما استقرّ بأبي مسلم معسكره بالماخوان أمر محرز ابن إبراهيم أن يخندق خندقاً بجيرنج، ويجتمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة، فيقطع مادّة نصر بن سيار من مرور وذوبلخ وكورطخارستان. ففعل ذلك محرز بن إبراهيم، واجتمع له في خندق نحو من ألف رجل، فأمر أبو مسلم أبا صالح كامل بن مظفر أن يوجه رجلاً إلى خندق محرز بن إبراهيم لعرض من فيه وإحصائهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم، فوجّه أبو صالح حميداً الأزرق لذلك، وكان كاتباً، فأحصى في خندق محرز ثمانمائة رجل وأربعة رجال من أهل الكفّ؛ وكان فيهم من القوّاد المعروفين زياد بن سيّار الأزديّ من قرية تدعى أسبوادق من ربع خرقان، وخذام بن عمار الكنديّ من ربع السقادم ومن قرية تدعى بالأوايق، وحنيفة بن قيس من ربع السقادم، ومن قرية تدعى الشنج، وعبدويه الجردامذ بن عبد الكريم من أهل هراة، وكان يجلب الغنم إلى مرو، وحمزة بن زنيم الباهليّ من ربع خرقان من قرية تدعى ميلاذجرد، وأبو هاشم خليفة بن مهران من ربع السقادم من قرية تدعى جوبان وأبو خديجة جيلان بن السغديّ وأبو نعيم موسى بن صبيح. فلم يزل محرز بن إبراهيم مقيماً في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو، وعطل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بمارسرجس يريد نيسابور؛ فضمّ إليه محرز بن إبراهيم أصحابه؛ وكان من الأحداث، وأبو مسلم بسفيذنج، وكان نصر بن سيار وجّه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهراً من ظهوره، فوجّه إليه أبو مسلم مالك ابن الهيثم الخزاعيّ ومعه مصعب بن قيس، فالتقوا بقرية تدعى آلين، فدعاهم مالك إلى الرّضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستكبروا عن ذلك، فصافّهم مالك وهو في نحو من مائتين من أوّل النهار إلى وقت العصر.

وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضّبيّ وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى فوجّههم إلى مالك بن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوى بهم أبو نصر، فقال يزيد مولى نصر بن سيار لأصحابه: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الأمداد، فاحملوا على القوم؛ ففعلوا، وترجّل أبو نصر وحضّ أصحابه، وقال: إني لأرجو أن يقطع الله من الكافرين طرفاً، فاجتلدوا جلاداً صادقاً، وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان أربعة وثلاثون رجلاً، وأسر منهم ثمانية نفر، وحمل عبد الله الطائيّ على يزيد مولى نصر عميد القوم فأسره، وانهزم أصحابه، فوجّه أبو نصر عبد الله الطائيّ بأسيره في رجال من الشيعة، ومعهم الأسرى والرءوس، وأقام أبو نصر في معسكره بسفيذنج، وفي الوفد أبو حماد المروزيّ وأبو عمرو الأعجميّ، فأمر أبو مسلم بالرءوس فنصبت على باب الحائط الذي في معسكره، ودفع يزيد الأسلميّ إلى أبي إسحاق خالد بن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن تعاهده، وكتب إلى أبي نصر بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم، فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالماً، وأعطنا عهد الله ألاّ تحاربنا وألاّ تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت؛ فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق. وقال أبو مسلم: إنّ هذا سيردّ عنكم أهل الورع والصلاح. فإنّا عندهم على غير الإسلام.
وقدم يزيد على نصر بن سيار؛ فقال: لا مرحباً بك؛ والله ما ظننت استبقاك القوم إلاّ ليتخذوك حجة علينا، فقال يزيد: فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني ألاّ أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيراً، ويدعون إلى ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما أحسب أمرهم إلا سيعلو؛ ولولا أنك مولاي أعتقتني من الرقّ ما رجعتُ إليك، ولأقمت معهم. فهذه أول حرب كانت بين الشيعة وشيعة بني مروان.
وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مروروذ، وقتل عامل نصر بن سيّار الذي كان عليها؛ وكتب بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم.
ذكر الخبر عن ذلك: ذكر عليّ بن محمد أن أبا الحسن الجشميّ وزهير بن هنيد والحسن ابن رشيد أخبروه أن خازم بن خزيمة لما أراد الخروج بمروروذ أراد ناس من تميم أن يمنعوه، فقال: إنما أنا رجل منكم، أريد مرو لعلي أن أغلب عليها، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت فقد كفيتكم أمري. فكفّوا عنه، فخرج فعسكر في قرية يقال لها كنج رستاه، وقدم عليهم من قبل أبي مسلم النضر بن صبيح وبسام بن إبراهيم. فلما أمسى خازم بيّت أهل مروروذ، فقتل بشر بن جعفر السعديّ - وكان عاملاً لنصر بن سيار على مروروذ - في أول ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم عبد الله بن سعيد وشبيب بن واج.

قال أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدّعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولاً خلاف قولهم؛ والذي قال في ذلك: أنذ إبراهيم الإمام زوّج أبا مسلم لما توجّه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى الننقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم - فيما زعم - من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرماناً لإدريس بن معقل العجليّ، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بن عليّ، ثم لإبراهيم بن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن عليّ فقدم خراسان وهو حديث السنّ، فلم يقبله سليمان بن كثير وتخوّف ألاّ يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردّوه - وأبو داود خالد بن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ - فلما انصرف أبو داود، وقدم مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجّهه، فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجّهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجّتكم في ردّه؟ فقال سليمان بن كثير: لحداثة سنه، وتخوّفاً ألاّ يقدر على القيام بهذا الأمر؛ فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟ فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا؛ قال: أفتشكون أنّ الله تعالى نزّل عليه كتابه فأتاه به جبريل الرّوح الأمين، أحلّ فيه حلاله، وحرّم فيه حرامه، وشرّع فيه شرائعه، وسنّ فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أن الله عزّ وجلّ قبضه إليه بعد ما أدّى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قال: أفتظنّون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلّفه؟ قالوا: بل خلّفه، قال: أفتظنونه خلّفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قال: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالاً، ورأى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قال: لست أقول لكم فعلتم؛ ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون وفيما لا يكون. قال: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أنهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا، قال: فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم؛ ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم.
فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود؛ وولّوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا. ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود. وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبثّ الدعاة في أقطار خراسان؛ فدخل الناس أفواجاً، وكثروا، وفشت الدّعاة بخراسان كلها. وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة - وهي سنة تسع وعشرين ومائة - ، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال؛ وقد كان اجتمع عنده ثلثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامّتها عروضاً من متاع التجار؛ من القوهيّ والمرويّ والحرير والفرند، وصيّر بقيته سبائك ذهب وفضة وصيّرها في الأقبية المحشوّة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بن شبيب والقاسم بن مجاشع وطلحة بن رزيق؛ ومن الشيعة واحد وأربعون رجلاً، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلاً، وحمل على كلّ بغل رجلاً من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بن سيار حتى انتهوا إلى أبيورد.

فكتب أبو مسلم إلى عثمان بن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلاً، ثم ارتحلوا من أبيورد؛ حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس؛ من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان - قرية أسيد - فلقي بها رجلاً من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرّجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شرّ طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجر بن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بن قيس بن الحروريّ، فحبسهم. وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من أهل نسا؛ فأخبره أبو مالك أنّ الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية؛ فإذا في الكتاب إليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه؛ وأن يظره الدّعوة. فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه.
وبلغ ذلك عاصم بن قيس الحروريّ، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاجّ الذين يريدون بيت الله، ومعه عدّة من أصحابه من التجار، وسأله أن يخلّي سبيل من احتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطاً على نفسه؛ أن يصرف من معه من العبيد وما معه من الدوابّ والسلاح، على أن يخلّوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم. فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه؛ فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام؛ وأمرهم بإظهار الدعوة؛ فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بن عبد الله الخزاعيّ وزريق بن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد. ثم سار فيمن بقي من أصحابه ومعه قحطبة ابن شبيب؛ حتى نزلوا تخوم جرجان؛ وبعث إلى خالد بن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشّيعة، فقدما عليه؛ فأقام أياماً حتى اجتمعت القوافل. وجهّز قحطبة بن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها؛ ثم وجّهه إلى إبراهيم بن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها؛ ثم سار حتى أتى مرو ممتنكراً، فنزل قرية تدعى فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان؛ وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر. ووجّه أبا داود وعمرو بن أعين إلى طخارستان، والنضر بن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بن عيسى، وموسى بن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلّى بهم القاسم بن مجاشع التميميّ يوم العيد؛ في مصلّى آل قنبر؛ في قرية أبي داود خالد بن إبراهيم.
ذكر تعاقد أهل خراسان على قتال أبي مسلم وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم؛ وذلك حين كثر تبّاع أبي مسلم وقويَ أمره.
وفيها تحوّل أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان.
ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيهقال عليّ: أخبرنا الصبّاح مولى جبريل، عن مسلمة بن يحيى، قال: لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه؛ لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم؛ وكان الكرمانيّ وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم؛ لأنه دعا إلى خلع مروان بن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة؛ فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا؛ ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فأعفونا. قالوا: والله ما نعرف لك نسباً، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل؛ وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرّغ أحد هذين؛ قال أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله.

فرجع الفتية فأتوا نصر بن سيار فحدّثوه، فقال: جزاكم الله خيراً، مثلكم تفقّد هذا وعرفه، وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضاً؛ فأرسل إليه نصر: إن شئت فكفّ عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه؛ ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه. فهمّ شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم؟ تكلّمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه؛ فقال: هذا لذاك إذاً. فكتبوا إلى عليّ بن الكرمانيّ: إنك موتور؛ قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان؛ وإنما تقاتل لثأرك؛ فامنع شيبان من صلح نصر؛ فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور؛ وأيم الله ليتفاقمنّ هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه.
فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضّبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل الليثيّ، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزماً، وغلب النضر على هراة. قال: فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: إنّ هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم؛ قالوا: فما الرأي؟ قال: صالحوا نصراً، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصراً وتركوكم؛ لأنّ الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصراً صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: قدّموهم قبلكم ولو ساعة؛ فتقرّ أعينكم بقتلهم. فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتاباً، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرمانيّ، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرمانيّ: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة؛ وكتبوا بينهم كتاباً؛ فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهراً، فتوادعنا ثلاثة أشهر؛ فقال ابن الكرمانيّ: فإني ما صالحت نصراً؛ وإنما صالحه شيبان؛ وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله. فعاوده القتال؛ وأبي شيبان أن يعينه، وقال: لا يحلّ الغدر. فأرسل ابن الكرمانيّ إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرمانيّ شبل بن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرمانيّ: إني أحبّ أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوماً، ثم سار إلى ابن الكرمانيّ، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بن الكرمانيّ في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر؛ وأتى لحجرة عليّ فوقف، فأذن له فدخل، فسلّم على عليّ بالإمرة، وقد اتخذ له عليّ منزلاً في قصر لمخلّد بن الحسن الأزديّ، فأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان؛ وذلك لخمس خلون من المحرّم من سنة ثلاثين ومائة.
وأما أبو الخطاب، فإنه قال: لما كثرت الشيعة في عسكر أبي مسلم، ضاقت به سفيذنج، فارتاد معسكراً فسيحاً، فأصاب حاجته بالماخوان؛ - وهي قرية العلاء بن حريث وأبي إسحاق خالد بن عثمان، وفيها أبو الجهم ابن عطية وإخوته - وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوماً، وارتحل من سفيذنج إلى الماخوان، فنزل منزل أبي إسحاق خالد بن عثمان يوم الأربعاء، لتسع ليال خلون من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين ومائة، فاحتفر بها خندقاً، وجعل للخندق بابين، فعغسكر فيه والشيعة، ووكّل بأحد بابي الخندق مصعب بن قيس الحنفيّ وبهدل بن إياس الضبّيّ، ووكل بالباب الآخر أبا شراحيل وأبا عمرو الأعجميّ، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك ابن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح؛ والقاسم بن مجاشع النقيب التميميّ على القضاء، وضمّ أبا الوضاح وعدّة من أهل السقادم إلى مالك بن الهيثم، وجعل أهل نوشان - وهم ثلاثة وثمانون رجلاً - إلى أبي إسحاق في الحرس.

وكان القاسم بن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصّلوات في الخندق، ويقصّ القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أميّة، فنزل أبو مسلم خندق الماخوان، وهو كرجل من الشيعة في هيئته؛ حتى أتاه عبد الله بن بسطام؛ فأتاه بالأروقة والفساطيط والمطابخ والمعالف للدوابّ وحياض الأدم للماء؛ فأوّل عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرّاز؛ فردّ أبو مسلم العبيد عن أن يضاموا في خندقه، واحتفر لهم خندقاً في قرية شوّال، وولى الخندق داود بن كرّاز. فلما اجتمعت للعبيد جماعة، وجّههم إلى موسى بن كعب بأبيورد، وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض أهل الخندق بأسمائهم وأسماء آبائهم فينسبهم إلى القوى، ويجعل ذلك في دفتر، ففعل ذلك كامل أبو صالح، فبلغت عدّتهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم ثلاثة دراهم لكلّ رجل، ثم أعطاهم أربعة أربعة على يدي أبي صالح كامل.
ثم إنّ أهل القبائل من مضر وربيعة وقحطان توادعوا على وضع الحرب، وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم، فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه. فكتبوا على أنفسهم بذلك كتاباً وثيقاً. وبلغ أبا مسلم الخبر، فأفظعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء؛ فتخوّف أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، فتحوّل إلى آلين - قرية أبي منصور طلحة بن رزيق النقيب - وذلك بعد مقامه أربعة أشهر بخندق الماخوان، فنزل آلين في ذي الحجة من سنة تسع وعشرين ومائة، يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة. فخندق بآلين خندقاً أمام القرية؛ فيما بينها وبين بلاش جرد، فصارت القرية من خلف الخندق، وجعل وجه دار المحتفز بن عثمان ابن بشر المزنيّ في الخندق، وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان، لا يمكّن نصر ابن سيار قطع الشرب عن آلين. وحضر العيد يوم النحر، وأمر القاسم بن مجاشع التميميّ فصلى بأبي مسلم والشيعة في مصلى آلين، وعسكر نصر بن سيّار على نهر عياض، ووضع عاصم بن عمرو ببلاش جرد، ووضع أبا الذيّال بطوسان، ووضع بشر بن أنيف اليربوعيّ بجلفر، ووضع حاتم بن الحارث ابن سريج بخرق؛ وهو يلتمس مواقعة أبي مسلم. فأمّا أبو الذيال فأنزل جنده على أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا الدجاج والبقر والحمام، وكلفوهم الطعام والعلف، فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجّه معهم خيلاً، فلقوا أبا الذيّال فهزموه، وأسروا من أصحابه ميموناً الأعسر الخوارزميّ في نحو من ثلاثين رجلاً، فكساهم أبو مسلم، وداوى جراحاتهم وخلّى لهم الطريق.
ذكر خبر مقتل الكرمانيّ قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل جديع بن عليّ الكرمانيّ وصلب.
ذكر الخبر عن مقتلهقد مضى قبل ذكرنا مقتل الحارث بن سريج، وأنّ الكرمانيّ هو الذي قتله.ولما قتل اعلكرمانيّ الحارث، خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحّى نصر ابن سيّار عنها إلى أبرشهر، وقوى أمر الكرمانيّ، فوجّه نصر إليه - فيما قيل - سلم بن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه؛ حتى لقي أصحاب الكرمانيّ، فوجد يحيى بن نعيم أبا الميلاء واقفاً في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنّى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بن الشيخ الأزديّ في ألف من فتيانهم، والحزميّ السغديّ في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قال سلم بن أحوز لمحمد بن المثنّى: يا محمّد بن المثنى، مر هذا الملاّح بالخروج إلينا، فقال محمد لسلم: يا بن الفاعلة؛ لأبي عليّ تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على مائة، وقتل من اصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولاً، فقال له عقيل بن معقل: يا نصر شأمت العرب؛ فأما إذ صنعت ما صنعت فجدّ وشمر عن ساق، فوجّه عصمة بن عبد الله الأسديّ فوقف موقف سلم بن أحوز، فنادى: يا محمد، لتعلمنّ أن السمك لا يغلب اللخم؛ فقال له محمد: يا بن الفاعلة، قف لنا إذاً. وأمر محمد السغديّ فخرج إليه في أهل اليمن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بن سيار، وقد قتل من أصحابه أربعمائة.

ثم أرسل نصر بن سيّار مالك بن عمرو التميميّ فأقبل في أصحابه، ثم نادى: يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلاً! فبرز له، فضربه التميميّ على حبل العاتق فلم يصنع شيئاً؛ وضربه محمد بن المثنّى بعمود فشدخ رأسه؛ فالتحم القتال؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من أصحاب الكرمانيّ ثلثمائة رجل؛ ولم يزل الشرّ بينهم حتى خرجوا جميعاً إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالاَ شديداً، فلما استيقن أبو مسلم أنّ كلا الفريقين قد أثخن صاحبه؛ وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على المضريّة، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم، فلا تثقنّ بهم ولا تطمئنّ إليهم؛ فإني أرجو أن يريك الله ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفراً. ويرسل رسولاً آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرّية وإطراء اليمن بمثل ذلك؛ حتى صار هوى الفريقين جميعاً معه؛ وجعل يكتب إلى نصر بن سيّار وإلى الكرمانيّ: إنّ الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر؛ فكان أول من سوّد - فيما ذكر - أسيد ابن عبد الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور. وسوّد معه مقاتل بن حكيم وابن غزوان، وسوّد أهل أبيورد وأهل مرو الرّوذ، وقرى مرو.
وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بن سيار وخندق جديع الكرمانيّ، وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار إلى مروان ابن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب بأبيات شعر:
أرى بين الرّماد وميض جمر ... فأحج بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجب: ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام!
فكتب إليه: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم ألاّ نصر عنده. فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمدّه، وكتب إليه بأبيات شعر:
أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت ألاّ خير في الكذب
أنّ خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضاً لوافرخ قد حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيّما لهب
فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة؛ وليس عندي رجل. وكتب نصر إلى مروان يخبره خبر أبي مسلم وظهوره وقوّته؛ وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، فألفى الكتاب مروان وقد أتاه رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم؛ كان قد عاد من عند إبراهيم، ومعه كتاب إبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتابه، يلعن فيه أبا مسلم ويسبّه؛ حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرمانيّ إذ أمكناه، ويأمره ألاّ يدع بخراسان عربياً إلا قتله. فدفع الرسول الكتاب إلى مروان، فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق، يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كرار الحميمة، فليأخذ إبراهيم بن محمد ويشدّه وثاقاً، وليبعث به إليه في خيل؛ فوجه الوليد إلى عامل البقاء فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه مروان في السجن.
رجع الحديث إلى حديث نصر والكرمانيّ. وبعث أبو مسلم حين عظم الأمر بين الكرمانيّ ونصر إلى الكرمانيّ: إني معك، فقبل ذلك الكرمانيّ وانضمّ إليه أبو مسلم، فاشتدّ ذلك على نصر، فأرسل إلى الكرمانيّ: ويلك لا تغترر! فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه؛ ولكن هلمّ إلى الموادعة، فتدخل مرو، فنكتب بيننا كتاباً بصلح - وهو يريد أن يفرّق بينه وبين أبي مسلم - فدخل الكرمانيّ منزله، وأقام أبو مسلم في المعسكر، وخرج الكرمانيّ حتى وقف في الرحبة في مائة فارس، وعليه قرطق خشكشونة. ثم أرسل إلى نصر: اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب، فأبصر نصر منه غرّة، فوجه إليه ابن الحارث بن سريج في نحو من ثلثمائة فارس، فالتقوا في الرّحبة، فاقتتلوا بها طويلاً.

ثم إنّ اعلكرمانيّ طعن في خاصرته فخرّ عن دابّته، وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرمانيّ وصلبه، ومعه سمكة، فأقبل ابنه عليّ - وقد كان صار إلى أبي مسلم، وقد جمع جمعاً كثيراً - فسار بهم إلى نصر بن سيار فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، فأتاه عليّ بن جديع الكرمانيّ فسلّم عليه بالإمرة، وأعلمه أنه معه على مساعدته، وقال: مرني بأمرك، فقال: أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري.
غلبة عبد الله بن معاوية على فارس وفي هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على فارس.
ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي وصل به إلى الغلبة عليها: ذكر عليّ بن محمد أنّ عاصم بن حفص التميميّ وغيره حدّثوه أنّ عبد الله ابن معاوية لما هزم بالكوفة، شخص إلى المدائن، فبايعه أهل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والريّ، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، فلمّا غلب على ذلك أقام بأصبهان؛ وقد كان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء يمشي في نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل؛ عامل ابن عمر عنها، وقال لرجل يقال له عمارة: بايع الناس، فقال له أهل إصطخر: علام نبايع؟ قال: على ما أحببتم وكرهتم. فبايعون لابن معاوية، وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم، وأصاب في غارته إبلاً لثعلبة بن حسان المازنيّ فاستاقها ورجع. فخرج ثعلبة يطلب إبله في قرية له تدعى أشهر - قال: ومع ثعلبة مولىً له - فقال له مولاه: هل لك أن نفتك بمحارب؛ فإن شئت ضربته وكفيتني الناس؛ وإن ششئت ضربته وكفيتك الناس؟ قال: ويحك! أردت أن تفتك وتذهب الإبل ولم نلق الرجل! ثم دخل على محارب فرحّب به. ثم قال: حاجتك! قال: إبلي، قال: نعم، لقد أخذت، وما أعرفها، وقد عرفتها، فدونك إبلك فأخذها، وقال لمولاه: هذا خير، وما أردت؟ قال: ذلك لو أخذناها كان أشفى. وانضمّ إلى محارب القواد والأمراء من أهل الشأم: فسار إلى مسلم بن المسيّب وهو بشيراز، عامل لابن عمر؛ فقتله في سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان، فحوّل عبد الله بن معاوية إلى إصطخر؛ واستعمل أخاه عبد الله أخاه الحسن على الجبال، فأقبل فنزل في دير على ميل من إصطخر، واستعمل أخاه يزيد على فارس فأقام، فأتاه الناس؛ بنو هاشم وغيرهم؛ وجبى المال، وبعث العمال؛ وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام بن عبد الملك وشيبان بن الحلس بن عبد العزيز الشيبانيّ الخارجيّ، وأتاه أبو جعفر عبد الله، وعبد الله وعيسى ابنا عليّ. وقدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق، فأرسل نباتة بن حنظلة الكلابيّ إلى عبد الله بن معاوية؛ وبلغ سليمان بن حبيب أنّ ابن هبيرة ولي نباتة الأهواز، فسرّح داود بن حاتم، فأقام بكربج دينار ليمنع نباتة من الأهواز، فقدم نباتة، فقاتله، فقتل داود، وهرب سليمان إلى سابور؛ وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، وأخرجوا المسيح بن الحماريّ، فقاتلهم سليمان، فطرد الأكراد عن سابور، وكتب إلى عبد الله بن معاوية بالبيعة، فقال: عبد الرحمن ابن يزيد بن المهلب: لا يفي لك، وإنما أراد أن يدفعك عنه؛ ويأكل سابور؛ فاكتب إليه فليقدم عليك إن كان صادقاً. فكتب إليه فقدم، وقال لأصحابه: ادخلوا معي؛ فإن منعكم أ؛د فقاتلوه، فدخلوا فقال لابن معاوية: أنا أطوع الناس لك، قال: ارجع إلى عملك، فرجع.
ثم إن محارب بن موسى نافر ابن معاوية، وجمع جمعاً، فأتى سابور - وكان ابنه مخلد بن محارب محبوساً بسابور، أخذه يزيد بن معاوية فحبسه - فقال لمحارب: ابنك في يديه وتحاربه! أما تخاف أن يقتل ابنك! قال: أبعده الله! فقاتله يزيد، فانهزم محارب، فأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث، فصار معه، ثم نافر ابن الأشعث فقتله وأربعة وعشرين ابناً له. ولم يزل عبد الله بن معاوية بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود ابن يزيد بن عمر بن هبيرة، فأمر ابن معاوية فكسروا قنطرة الكوفة، فوجّه ابن هبيرة معن بن زائدة من وجه آخر، فقال سليمان لأبان بن معاوية بن هشام: قد أتاك القوم، قال: لم أومر بقتالهم؛ قال: ولا تؤمر والله بهم أبداً، وأتاهم فقاتلهم عند مرو الشاذان، ومعن يرتجز:

ليس أمير القوم بالخب الخدع ... فر من الموت وفي الموت وقع
قال ابن المقفع أو غيره: فرّ من الموت وفيه قد وقع.
قال: عمداً، قلت: قد عملت، فانهزم ابن معاوية، وكفّ معن عنهم، فقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان. وأسروا أسراء كثيرة، فقتل ابن ضبارة عدّة كثيرة؛ فيقال: كان فيمن قتل يومئذ حكيم الفرد أبو المجد، ويقال: قتل بالأهواز، قتله نباتة.
ولما انهزم ابن معاوية هرب شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ومنصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمرو بن سهل بن عبد العزيز إلى مصر؛ وبعث ببقيّة الأسراء إلى ابن هبيرة.
قال حميد الطويل: أطلق أولئك الأسراء فلم يقتل منهم غير حصين بن وعلة السدوسيّ، ولما أمر بقتله قال: أقتل من بين الأسراء! قال: نعم، أنت مشرك، أنت الذي تقول: ولو آمر الشمس لم تشرق ومضى ابن معاوية من وجهه إلى سجستان. ثم أتى خراسان ومنصور بن جمهور إلى السند، فسار في طلبه معن بن زائدة وعطيّة الثعلبيّ وغيره من بني ثعلبة، فلم يدركوه، فرجعوا. وكان حصين بن وعلة السدوسي مع يزيد بن معاوية، فتركه ولحق بعبد الله بن معاوية فأسره مورع السلميّ، رآه دخل غيضة فآخذه فأتى به معن بن زائدة فبعث به معن إلى ابن ضبارة، فبعث به ابن ضبارة إلى واسط؛ وسار ابن ضبارة إلى عبد الله بن معاوية بإصطخر، فنزل بإزائه على نهر إصطخر، فعبر ابن الصحصح في ألف، فلقيه من أصحاب عبد الله بن معاوية أبان بن معاوية بن هشام فيمن كان معه من أهل الشأم، ممن كان مع سليمان بن هشام فاقتتلوا، فمال ابن نباتة إلى القنطرة، فلقيهم من كان مع ابن معاوية من الخوارج، فانهزم أبان والخوارج، فأسر منهم ألفاً، فأتوا بهم ابن ضبارة، فخلى عنهم، وأخذ يومئذ عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن عباس في الأسراء، فنسبه ابن ضبارة، فقال: ما جاء بك إلى ابن معاوي، وقد عرفت خلافة أمير المؤمنين! قال: كان عليّ دين فأدّيته. فقام إليه حرب بن قطن الكنانيّ. فقال: ابن اختنا، فوهبه له، وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش. وقال له ابن ضبارة: إن الذي قد كنت معه قد عيب بأشياء، فعندك منها علم؟ قال: نعم، وعابه ورمى أصحابه باللواط، فأتوا ابن ضبارةة بغلمان عليهم أقبية قوهيّة مصبّغة ألواناً، فأقامهم للناس وهم أكثر من مائة غلام، لينظروا إليهم. وحمل ابن ضبارة عبد الله بن عليّ على البريد إلى ابن هبيرة ليخبره أخباره، فحمله ابن هبيرة إلى مروان في أجناد أهل الشأم، وكان يعيبه، وابن ضبارة يومئذ في مفازة كرمان في طلب عبد الله ابن معاوية، وقد أتى ابن هبيرة مقتل نباتة، فوجّه ابن هبيرة كرب بن مصقلة والحكم بن أبي الأبيض العبسيّ وابن محمد السكرنيّ؛ كلهم خطيب، فتكلموا في تقريظ ابن ضبارة، فكتب إليه أن سر بالناس إلى فارس، ثم جاءه كتاب ابن هبيرة: سر إلى أصبهان.
مجىء أبي حمزة الخارجيّ الموسم وفي هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجيّ، من قبل عبد الله ابن يحيى طالب الحق، محكّماً مظهراً للخلاف على مروان بن محمد.
ذكر الخبر عن ذلك من أمره:

حدّثني العباس بن عيسى العقيليّ، قال: حدّثنا هارون بن موسى الفرويّ قال: حدّثنا موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال: لما كان تمام سنة تسع وعشرين ومائة، لم يدر الناس بعرفة إلاّ وقد طلعت أعلام عمائم سود حرقانيّة في رءوس الرماح وهم في سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم، وقالوا: ما لكم! وما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منه. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان - وهو يومئذ على المدينة ومكة - فراسلهم في الهندنة، فقالوا: نحن بحجّنا أضنّ، ونحن عليه أشحّ. وصالحهم على أنهم جميعاً آمنون؛ بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النّفر الأخير، وأصبحوا من الغد. فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، فلما كانوا بمنى ندموا عبد الواحد، وقالوا: قد أخطأت فيهم، ولو حملت الحاجّ عليهم ما كانوا إلاذ أكلة رأس. فنزل أبو حمزة بقرين الثعالب، ونزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدّمهم إليه عبد الله بن الحسن ومحمد بن عبد الله فنسبهما فانتسبا له، فعبس في وجوههما، وأظهر الكراهة لهما، ثم سأل عبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر فانتسبا له، فهشّ إليهما، وتبسّم في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد الله بن حسن: والله ما جئنا لتفضّل بين آبائنا، ولكنا بعثنا إليك الأمير برسالة - وهذا ربيعة يخبركها - فلما ذكر ربيعة نقض العهد؛ قال بلج وأبرهة - وكانا قائدين له: الساعة الساعة! فأقبل عليهم أبو حمزة، فقال: معاذ الله أن ننقض العهد أو نحبس، والله لا أفعل ولو قطعت رقتي هذه؛ ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم. فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد، فلما كان النّفر نفر عبد الواحد في النفر الأول، وخلى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال. قال العباس: قال هارون: فأنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتاً هجيَ بها عبد الواحد - قال: وهي لبعض الشعراء لم أحفظ اسمه:
زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففر عبد الواحد
ترك الحلائل والإمارة هارباً ... ومضى يخبط كالبعير الشارد
لو كان والده تنصّل عرقه ... لصفت مضاربه بعرق الوالد
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالدّيوان، فضرب على الناس البعث، وزادهم في العطاء عشرة عشرة. قال العباس: قال هارون: أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض، قال: كنت فيمن اكتتب، ثم محوت اسمي.
قال العباس: قال هارون: وحدّثني غير واحد من أصحابنا أنذ عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس فخرجوا؛ فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان حدّثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال محمد بن عمر وغيره.
وكان العامل على مكة والمدينة عبد الواحد بن سليمان، وعلى العراق يزيد ابن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربيّ - فيما ذكر - وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والفتنة بها.
ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة

ذكر خبر الأحداث التي كانت فيها
ذكر دخول أبي مسلم مرو والبيعة بها فممّا كان فيها من ذلك دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة بها، ومطابقة عليّ بن جديع الكرمانيّ إيّاه على حرب نصر بن سيّار.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه:

ذكر أبو الخطاب أن دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة التي ينزلها عمّال خراسان كان في سنة ثلاثين ومائة لتسع خلون من جمادى الآخرة يوم الخميس، وأن السبب في مسير عليّ بن جديع مع أبي مسلم كان أن سليمان ابن كثير كان بإزاء عليّ بن الكرماني حين تعاقد هو ونصر على حرب أبي مسلم؛ فقال سليمان بن كثير لعليّ بن الكرماني: يقول لك أبو مسلم: أما تأنف من مصالحة نصر بن سيار، وقد قتل بالأمس أباك وصلبه! ما كنت أحسبك تجامع نصر بن سيار في مسجد تصليان فيه! فأدرك عليّ بن الكرمانيذ الحفيظة، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب. قال: ولما انتقض صلحهم بعث نصر ابن سيار إلى أبي مسلم يتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان إلى أبي مسلم بمثل ذلك، فتراسلوا بذلك أياماً، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا. وأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا ربيعة وقحطان؛ فإنّ السلطان في مضر، وهم عمال مروان الجعديّ، وهم قتلة يحيى بن زيد. فقدم الوفدان؛ فكان في وفد مضر عقيل بن معقل بن حسان الليثيّ وعبيد الله بن عبد ربه الليثيّ والخطاب بن محرز السلميّ، في رجال منهم. وكان في وفد قحطان عثمان بن الكرمانيّ ومحمد بن المثنى وسورة بن محمد ابن عزيز الكنديّ، في رجال منهم؛ فأمر أبو مسلم عثمان بن الكرمانيّ وأصحابه فدخلوا بستان المحتفز، وقد بشط لهم فيه؛ فقعدوا وجلس أبو مسلم في بيت في دار المحتفز، وأذن لعقيل بن معقل وأصحابه من وفد مضر، فدخلوا إليه، ومع أبي مسلم في البيت سبعون رجلاً من الشيعة، قرأ على الشيعة كتاباً كتبه أبو مسلم ليختاروا أحد الفريقين؛ فلما فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان ابن كثير، فتكلم - وكان خطيباً مفوّهاً - فاختار عليّ بن الكرمانيّ وأصحابه، وقام أبو منصور طلحة بن رزيق النقيب فيهم - وكان فصيحاً متكلماً - فقال كمقالة سليمان بن كثير، ثم قام مزيد بن شقيق السلميّ، فقال: مضر قتله آل النبي صلى الله عليه وسلم وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعديّ، ودماؤنا في أعناقهم، وأموالنا في أيديهم، والتّباعات قبلهم، ونصر بن سيار عامل مروان على خراسان ينفذ أموره، ويدعو له على منبره، ويسميّه أمير المؤمنين؛ ونحن من ذلك إلى الله برآء وأن يكون مروان أمير المؤمنين، وأن يكون نصر على هدىً وصواب، وقد اخترنا عليّ بن الكرمانيّ وأصحابه من قحطان وربيعة. فقال السبعون الذين جمعوا في البيت بقول مزيد بن شقيق.
فنهض وفد مضر عليهم الذّلة والكآبة؛ ووجّه معهم أبو مسلم القاسم بن مجاشع في خيل حتى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد عليّ بن الكرمانيّ مسرورين منصورين. وكان مقام أبي مسلم بآلين تسعة وعشرين يوماً، فرحل عن آلين راجعاً إلى خندقه بالماخوان، وأمر أبو مسلم الشيعة أن يبتنوا المساكن، ويستعدّوا للشتاء فقد أعفاهم الله من اجتماع كلمة العرب، وصيرهم بنا إلى افتراق الكلمة؛ وكان ذلك قدراً من الله مقدوراً.
وكان دخول أبي مسلم الماخوان منصرفاً عن آلين سنة ثلاثين ومائة، للنصف من صفر يوم الخميس، فأقام أبو مسلم في خندقه بالماخوان ثلاثة أشهر؛ تسعين يوماً، ثم دخل حائط مرو يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة.
قال: وكان حائط مرو إذ ذاك في يد نصر بن سيّار لأنّه عامل خراسان، فأرسل عليّ بن الكرمانيّ إلى أبي مسلم أن أدخل الحائط من قبلك، وأدخل أنا وعشيرتي من قبلي، فنغلب على الحائط. فأرسل إليه أبو مسلم أن لست آمن أن يجتمع يدك ويد نصر على محاربتي؛ ولكن ادخل أنت فانشب الحرب بينك وبينه وبين أصحابه؛ فدخل لعيّ بن الكرمانيّ فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم أبا عليّ شبل بن طهمان النقيب في جند، فدخلوا الحائط، فنزل في قصر بخاراخذاه؛ فبعثوا إلى أبي مسلم أن ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان، وعلى مقدّمته أسيد بن عبد الله الخزاعيّ، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم الخزاعيّ، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع التميميّ؛ حتى دخل الحائط؛ والفريقان يقتتلان. فأمرهما بالكفّ وهو يتلو من كتاب الله: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " . ومضى أبو مسلم حتى نزل قصر الإمارة بمرو الذي كان ينزله عمال خراسان؛ وكان ذلك لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة، يوم الخميس.

وهرب نصر بن سيّار عن مرو الغد من يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى من سنة ثلاثين ومائة، وصفت مرو لأبي مسلم. فلما دخل أبو مسلم حائط مرو أمر أبا منصور طلحة بن رزيق بأخذ البيعة على الجند من الهاشميّة خاصّة - وكان أبو منصور جلاً فصيحاً نبيلاً مفوّهاً عالماً بحجج الهاشمية وغوامض أمورهم؛ وهو أحد النقباء الاثني عشر؛ والنقباء الاثنا عشر هم الذين اختارهم محمد بن عليّ من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة - وأمره أن يدعو إلى الرّضا، ولا يسمى أحداً، ومثّل له مثالاً ووصف من العدل صفة، فقدمها فدعا سراً، فأجابه ناس، فلما صاروا سبعين أخذ منهم اثني عشر نقيباً. منهم من خزاعة سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحة ابن رزيق وعمرو بن أعين، ومن طيّىء قحطبة - واسمه زياد بن شبيب بن خالد بن معدان - ومن تميم موسى بن كعب أبو عيينة ولاهز بن قريظ والقاسم بن مجاشع، كلهم من بني امرىء القيس، وأسلم بن سلام أبو سلام؛ ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم من بني عمرو بن شيبان أخي سدوس وأبو عليّ الهرويّ.
ويقال: شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين. وعيسى بن كعب وأبو النجم عمران بن إسماعيل مكان أبي عليّ الهرويّ، وهو ختن أبي مسلم.
ولم يكن في النقباء أحد والده حيّ غير أبي منصور طلحة بن رزيق بن أسعد؛ وهو أبو زينب الخزاعيّ، وقد كان شهد حرب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وصحب المهلب بن أبس صفرة وغزا معه؛ فكان أبو مسلم يشاوره في الأمور، ويسأله عما شهد من الحروب والمغازي، ويسأله عن الكنية بأبي منصور: يا أبا منصور، ما تقول؟ وما رأيك؟ قال أبو الخطاب: فأخبرنا من شهد أبا منصور بأخذ البيعة على الهاشميّة: أبايعكم على كتاب الله عزّ وجلّ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله، وعلى ألاّ تسألوا رزقاً ولا طمعاً حتى يبدأكم به ولاتك؛ وإن كان عدوّ أحدكم تحت قدمه فلا تهيجوه إلا بأمر ولاتكم. فلما حبس أبو مسلم سلم بن أحوز ويونس بن عبد ربه، وعقيل ابن معقل ومنصور بن أبي الخرقاء وأصحابه، شاور أبا منصور، فقال: اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر؛ فأقدمهم أبو مسلم فقتلهم، وكانت عدّتهم أربعة وعشرين رجلاً.
وأما عليّ بن محمد، فإنه ذكر أن الصباح مولى جبريل، أخبره عن مسلمة ابن يحيى، أن أبا مسلم جعل على حرسه خالد بن عثمان، وعلى شرطه مالك ابن الهيثم، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع، وعلى الديوان كامل بن مظفر، فرزق كلّ رجل أربعة آلاف، وأنه أقام في عسكره بالماخوان ثلاثة أشهر، ثم سار من الماخوان ليلاً في جمع كبير يريد عسكر ابن الكرمانيّ؛ وعلى ميمنته لاهز بن قريظ، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع، وعلى مقدّمته أبو نصر مالك بن الهيثم. وخلّف على خندقه أبا عبد الرحمن الماخوانيّ، فأصبح في عسكر شيبان؛ فخاف نصر أن يجتمع أبو مسلم وابن الكرمانيّ على قتاله؛ فأرسل إلى أبي مسلم يعرض عليه أن يدخل مدينة مرو ويوادعه، فأجابه، فوادع أبا مسلم نصر، فراسل نصر بن أحوز يومه ذلك كله، وأبو مسلم في عسكر شيبان، فأصبح نصر وابن الكرمانيّ، فغدوا إلى القتال، وأقبل أبو مسلم ليدخل مدينة مرو، فردّ خيل نصر وخيل ابن الكرمانيّ، ودخل المدينة لسبع - أو لتسع - خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائة، وهو يتلو: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته.... " إلى آخر الآية.
قال عليّ: وأخبرنا أبو الذّيال والمفضل الضبيّ، قالا: لما دخل أبو مسلم مدينة مرو، قال نصر لأصحابه: أرى هذا الرجل قد قوي أمره، وقد سارع إليه الناس، وقد وادعته وسيتمّ له ما يريد؛ فاخرجوا بنا عن هذه البلدة وخلّوه، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال: أما إنكم ستذكرون قولي. وقال لخاصته من مضر: انطلقوا إلى أبي مسلم فالقوه، وخذوا بحظّكم منه، وأرسل أبو مسلم إلى نصر لاهز بن قريظ يدعوه فقال لاهز: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " ، وقرأ قبلها آيات، ففطن نصر، فقال لغلامه: ضع لي وضوءاً؛ فقام كأنه يريد الوضوء، فدخل بستاناً وخرج منه، فركب وهرب.

قال عليّ: وأخبرنا أبو الذّيال، قال: أخبرني إياس بن طلحة بن طلحة قال: كنت مع أبي وقد ذهب عمّي إلى أبي مسلم يبايعه؛ فأبطأ حتى صلّيت العصر والنهار قصير؛ فنحن ننتظره؛ وقد هيّأنا له الغداء؛ فإني لقاعد مع أبي إذ مرّ نصر على برذون؛ لا أعلم في داره برذوناً اسرى منه، ومعه حاجبه والحكم بن نميلة النميريّ. قال أبي: إنه لهارب ليس معه أحد، وليس بين يديه حربة ولا راية، فمرّ بنا، فسلم تسليماً خفياً، فلما جازنا ضرب برذونه، ونادى الحكم بن نميلة غلمانه، فركبوا واتبعوه.
قال عليّ: قال أبو الّيال: قال إياس: كان بين منزلنا وبين مرو أربعة فراسخ، فمرّ بنا نصر بعد العتمة، فضجّ أهل القرية وهربوا، فقال لي أهلي وأخواني: اخرج لا تقتل؛ وبكوا؛ فخرجت أنا وعمّي المهلب بن إياس فلحقنا نصراً بعد هدء الليل؛ وهو في أربعين، قد قام برذونه، فنزل عنه، فحمله بشر بن بسطام بن عمران بن الفضل البرجميّ على برذونه، فقال نصر: إني لا آمن الطلب، فمن يسوق بنا؟ قال عبد الله بن عرعرة الضبّيّ: أنا أسوق بكم، قال: أنت لها، فطرد بنا ليلته حتى أصبحنا في بئر في المفازة على عشرين فرسخاً أو أقل، ونحن ستمائة؛ فسرنا يومنا فنزلنا العصر، ونحن ننظر إلى أبيات سرخس وقصورها ونحن ألف وخمسمائة، فانطلقت أنا وعمي إلى صديق لنا من بني حنيفة يقال له مسكين، فبيتنا نحن عنده لم نطعم شيئاً، فأصبحنا، فجاءنا بثريدة فأكلنا منها ونحن جياع لم نأكل يومنا وليلتنا؛ واجتمع الناس فصاروا ثلاثة آلاف، وأقمنا بسرخس يومين؛ فلمّا لم يأتنا أحد صار نصر إلى طوس، فأخبرهم خبر أبي مسلم، وأقام خمسة عشر يوماً، ثم سار وسرنا إلى نيسابور فأقام بها، ونزل أبو مسلم؛ين هرب نصر دار الإمارة، وأقبل ابن الكرمانيّ، فدخل مسرو مع أبي مسلم، فقال أبو مسلم حين هرب نصر: يزعم نصر أني ساحر؛ هو والله ساحر! وقال غير من ذكرت قوله في أمر نصر وابن الكمانيّ وشيبان الحروريّ: انتهى أبو مسلم في سنة ثلاثين ومائة من معسكره بقرية سليمان بن كثير إلى قرية تدعى الماخوان فنزلها، وأجمع على الاستظهار بعليّ بن جديع ومن معه من اليمن، وعلى دعاء نصر بن سيار ومن معه إلى معاونته، فأرسل إلى الفريقين جميعاً، وعرض على كلّ فريق منهم المسالمة واجتماع الكلمة والدخول في الطاعة، فقبل ذلك عليّ بن جديع، وتابعه على رأيه، فعاقده عليه، فلما وثق أبو مسلم بمبايعة عليّ بن جديع إياه، كتب إلى نصر بن سيّار أن يبعث إليه وفداً يحضرون مقالته ومقالة أصحابه فيما كان وعده أن يميل معه، وأرسل إلى عليّ بمثل ما أرسل به إلى نصر.
ثم وصف من خبر اختيار قوّاد الشيعة اليمانية على المضرّية نحواً مما وصف من قد ذكرنا الرواية عنه قبل في كتابنا هذا، وذكر أنّ أبا مسلم إذ وجّه شبل ابن طهمان فيمن وجّهه إلى مدينة مرو وأنزله قصر بخاراخذاه؛ إنما وجهه مدداً لعليّ بن الكرمانيّ.

قال: وسار أبو مسلم من خندقة بالماخوان بجميع من معه إلى عليّ ابن جديع، ومع عليّ عثمان وأخوه وأشراف اليمن معهم وحلفاؤهم من ربيعة، فلما حاذى أبو مسلم مدينة مرو استقبله عثمان بن جديع في خيل عظيمة، ومعه أشراف اليمن ومن معه من ربيعة؛ حتى دخل عسكر عليّ بن الكرمانيّ وشيبان بن سلمة الحروريّ ومن معه من النقباء، ووقف على حجرة عليّ بن جديع، فدخل عليه وأعطاه الرضا، وآمنه على نفسه وأصحابه، وخرجا إلى حجرة شيبان، وهو يسلّم عليه يومئذ بالخلافة، فأمر أبو مسلم علياً بالجلوس إلى جنب شيبان، وأعلمه أنه لا يحلّ له التسليم عليه. وأراد أبو مسلم أن يسلم على عليّ بالإمرة، فيظنّ شيبان أنه يسلم عليه. ففعل ذلك عليّ، ودخل عليه أبو مسلم، فسلّم عليه بالإمارة، وألطف لشيبان وعظمه، ثم خرج من عنده فنزل قصر محمد بن الحسن الأزديّ، فأقام به ليلتين، ثم انصرف إلى خندقه بالماخوان، فأقام به ثلاثة أشهر، ثم ارتحل من خندقه بالماخوان إلى مرو لسبع خلون من ربيع الآخر؛ وخلّف على جنده أبا عبد الرحمن الماخوانيّ، وجعل أبو مسلم على ميمته لاهز بن قريظ، وعلى ميسرته القاسم ابن مجاشع، وعلى مقدّمته مالك بن الهيثم، وكان مسيره ليلاً، فأصبح على باب مدينة مرو، وبعث إلى عليّ بن جديع أن يبعث خيله حتى وقف على باب قصر الإمارة، فوجد الفريقين يقتتلان أشدّ القتال في حائط مرو، فأرسل إلى الفريقين أن كفّوا، وليتفرق كلّ قوم إلى معسكرهم، ففعلوا. وأرسل أبو مسلم لاهز بن قريظ وقريش بن شقيق وعبد الله بن البختريّ، وداود بن كرّاز إلى نصر يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرّضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى نصر ما جاءه من اليمانية والربعية والعجم، وأنه لا طاقة له بهم؛ ولا بد إن أظهر قبول ما بعث به إليه أن يأتيه فيبايعه، وجعل يرثيهم لما همّ به من الغدر والهرب إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم إلى ما يأمنون فيه؛ فما تيسّر لأصحاب نصر الخروج في تلك الليلة. وقال له سلم بن أحوز: إنه لا يتيسّر لنا الخروج الليلة؛ ولكنا نخرج القابلة، فلما كان صبح تلك الليلة عبأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل في تعبيتها إلى بعد الظهر، وأرسل إلى نصر لاهز بن قريظ وقريش بن شقيق وعبد الله بن البختريّ وداود بن كرّاز وعدّة من أعاجم الشيعة، فدخلوا على نصر، فقال لهم: لشرّ ما عدتم، فقال له لاهز: لا بدّ لك من ذلك؛ فقال نصر: أما إذ كان لا بدّ منه؛ فإني أتوضأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبي مسلم؛ فإن كان هذا رأيه وأمره أتيته ونعمى لعينه، وأتهيأ إلى أن يجىء رسولي، وقام نصر، فلما قام قرأ لاهز هذه الآية: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من النّاصحين " ، فدخل نصر منزله، وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من عند أبي مسلم، فلما جنّه الليل، خرج من خلف حجرته، ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة النميريّ وحاجبه وامرأته؛ فانطلقوا هراباً، فلما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله، فوجدوه قد هرب؛ فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر، وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم؛ وكان فيهم سلم بن أحوز صاحب شرطة نصر والبختريّ كاتبه، وابنان له ويونس بن عبد ربّه ومحمد بن قطن ومجاهد بن يحيى بن حضين والنضر بن إدريس ومنصور بن عمر بن أبي الحرقاء وعقيل بن معقل الليثيّ، وسيار بن عمر السلميّ، مع رجال من رؤساء مضر فاستوثق منهم بالحديد، ووكل بهم عيسى بن أعين، وكانوا في الحبس عنده حتى أمر بقتلهم جميعاً، ونزل نصر سرخس فيمن اتّبعه من المضرّية، وكانوا ثلاثة آلاف، ومضى أبو مسلم وعليّ بن جديع في طلبه، فطلباه ليلتهما حتى أصبحا في قرية تدعى نصرانيّة؛ فوجدا نصراً قد خلف امرأته المرزبانة فيها، ونجا بنفسه.
ورجع أبو مسلم وعليّ بن جديع إلى مرو، فقال أبو مسلم لمن كان وجّه إلى نصر: ما الذي ارتاب به منكم؟ قالوا: لا ندري، قال: فهل تكلم أحد منكم؟ قالوا: لاهز تلا هذه الآية: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " قال: هذا الذي دعاه إلى الهرب، ثم قال: يا لاهز؛ أتدغل في الدين! فضرب عنقه.
خبر مقتل شيبان بن سلمة الخارجيّ وفي هذه السنة قتل شيبان بن سلمة الحروريّ.
ذكر الخبر عن مقتله وسببه

وكان سبب مقتله - فيما ذكر - أنّ عليّ بن جديع وشيبان كانا مجتمعين على قتال نصر بن سيار لمخالفة شيبان نصراً؛ لأنه من عمال مروان بن محمد وأنّ شيبانيرى رأي الخوارج ومخالفة عليّ بن جديع نصراً، لأنه يمان ونصر مضريّ، وأن نصراً قتل أباه وصلبه، ولما بين الفريقين من العصبية التي كانت بين اليمانية والمضرّية؛ فلما صالح عليّ بن الكرمانيّ أبا مسلم، وفارق شيبان، تنحّى شيبان عن مرو، إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم وعليّ ابن جديع مع اجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو وسار إلى سرخس.
فذكر عليّ بن محمد أن أبا حفص أخبره والحسن بن رشيد وأبا الذيال أن المدة التي كانت بين أبي مسلم وبين شيبان لما انقضت، أرسل أبو مسلم إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي؛ فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت فيه، فأرسل شيبان إلى ابن الكرمانيّ يستنصره، فأبى. فسار شيبان إلى سرخس، واجتمع إليه جمع كثير من بكر بن وائل. فبعث إليه أبو مسلم تسعةً من الأزد، فيهم المنتجع بن الزبير؛ يدعوه ويسأله أن يكفّ، فأرسل شيبان، فأخذ رسل أبي مسلم فسجنهم، فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث ببيورد، يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله. ففعل، فهزمه بسّام، واتبعه حتى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدّة من بكر بن وائل، فقيل لأبي مسلم: إنّ بساماً ثائر بأبيه؛ وهو يقتل البرىء والسقيم، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، فقدم، واستخلف على عسكره رجلاً.
قال عليّ: أخبرنا المفضل، قال: لما قتل شيبان مرّ رجل من بكر بن وائل - يقا له خفاف - برسل أبي مسلم الذين كان أرسلهم إلى شيبان، وهم في بيت، فأخرجهم وقتلهم.
وقيل: إن أبا مسلم وجّه إلى شيبان عسكراً من قبله، عليهم خزيمة ابن خازم وبسام بن إبراهيم.
ذكر خبر قتل عليذ وعثمان ابني جديع وفي هذه السنة قتل أبو مسلم علياً وعثمان ابني جديع الكرمانيّ.
ذكر سبب قتل أبي مسلم إياهما

وكان السبب في ذلك - فيما قيل - أن أبا مسلم كان وجّه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها. وكتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجّه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيريّ، فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ والترمذ وغيرهما من كورطخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داود منهم، انصرفوا منهزمين إلى الترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ. فخرج أبو داود، فلقيه كتاب من أبي مسلم يأمره بالانصراف، فانصرف، وقدم عليه أبو الميلاء؛ فكاتب زياد بن عبد الرحمن يحيى بن نعيم أبو الميلاء أن يصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد بن عبد الرحمن القشيريّ ومسلم ابن عبد الرحمن بن مسلم الباهليّ وعيسى بن زرعة السلميّ وأهل بلخ والترمذ وملوك طخارستان، وما خلف النهر وما دونه، فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بن نعيم بمن معه حتى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة، مضريّهم ويمانيهم وربعيهم ومن معهم من الأعاجم على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النبطيّ؛ كراهة أن يكون من الفرق الثلاثة، وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل أبو داود بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان. وكان زياد بن عبد الرحمن وأصحابه قد وجّهوا أبا سعيد القرشيّ مسلحة فيما بين العود وبين قرية يقال لها أمديان؛ لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم. وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سوداً، فلما اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما، واصطفوا للقتال، أمر أبو سعيد القرشيّ أصحابه أن يأتوا زياداً وأصحابه من خلفهم، فرجع وخرج عليهم من سكة العود وراياته سود، فظنّ أصحاب زياد أنهم كمين لأبي داود، وقد نشب القتال بين الفريقين، فانهزم زياد ومن معه، وتبعهم أبو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان، وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود عسكرهم، وحوى ما فيه، ولم يتبع زياداً ولا أصحابه وأكثر من تبعهم سرعان من سرعان خيل أبي داود إلى مدينة بلخ لم يجاوزها ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى الترمذ، وأقام أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل مدينة بلخ واستصفى أموال من قتل بالسرجنان ومن هرب من العرب وغيرهم، واستقامت بلخ لأبي داود.
ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه النضر بن صبيح المريّ على بلخ. وقدم أبو داود، واجتمع رأى أبي داود وأبي مسلم على أن يفرّقا بين عليّ وعثمان ابني الكرمانيّ، فبعث أبو مسلم عثمان عاملاً على بلخ، فلما قدمها استخلف الفرافصة بن ظهير العيسي على مدينة بلخ، وأقبلت المضرية من ترمذ، عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي، فالتقوا وأصحاب عثمان بن جديع بقرية بين البروقان وبين الدستجرد؛ فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب عثمان بن جديع، وغلب المضرّية ومسلم بن عبد الرحمن على مدينة بلخ، وأخرجوا الفرافصة منها. وبلغ عثمان بن جديع الخبر والنضر ابن صبيح، وهما بمرو الرّوذ، فأقبلا نحوهم، وبلغ أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، وعتّب النضر في طلبهم، رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان بن جديع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب عثمان بن جديع، وأكثروا فيهم القتل، ومضت المضريّة إلى أصحابها، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه عليّ بن جديع إلى نيسابور. واتّفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم علياً، ويقتل أبو داود عثمان في يوم واحد. فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملاً على الختل فيمن معه من يماني أهل مرو وأهل بلخ وربعيّهم. فلما خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحق عثمان على شاطىء نهر بوخش من أرض الختل، فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم جميعاً ثم ضرب أعناقهم صبراً. وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم عليّ بن الكرمانيّ، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمّى له خاصته ليوليهم، ويأمر لهم بجوائز وكساً، فسماهم له فقتلهم جميعاً.
قدوم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم

وفي هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفاً من عند إبراهيم بن محمد بن عليّ، ومعه لواؤه الذي عقد له إبراهيم، فوجّهه أبو مسلم حين قدم عليه على مقدّمته، وضمّ إليه الجيوش، وجعل له العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسّمع والطاعة.
وفيها وجّه قحطبة إلى نيسابور للقاء نضر؛ فذكر عليّ بن محمد أن أبا الذّيال والحسن بن رشيد وأبا الحسن الجشميّ أخبروه أن شيبان بن سلمة الحروريّ لما قتل لحق أصحابه بنصر وهو بنيسابور، وكتب إليه النابي بن سويد العجليّ يستغيث، فوجّه إليه نصر ابنه تميم بن نصر في ألفين، وتهيأ نصر على أن يسير إلى طوس، ووجّه أبو مسلم قحطبة بن شبيب في قواد، منهم القاسم ابن مجاشع وجهور بن مرّار، فأخذ القاسم من قبل سرخس، وأخذ جهور من قبل أبيورد، فوجّه تميم عاصم بن عمير السغديّ إلى جهور؛ وكان أدناهم منه، فهزمه عاصم بن عمير، فتحصّن في كبادقان، وأطلّ قحطبة والقاسم على النابي، فأرسل تميم إلى عاصم أن ارحل عن جهور وأقبل؛ فتركه، وأقبل فقاتلهم قحطبة.

قال أبو جعفر: فأما غير الذين روى عنهم عليّ بن محمد ما ذكرنا في أمر قحطبة وتوجيه أبي مسلم إياه إلى نصر وأصحابه، فإنه ذكر أن أبا مسلم لما قتل شيبان الخارجيّ وابني الكرمانيّ، ونفى نصراً عن مرو. وغلب على خراسان، وجّه عماله على بلادها. فاستعمل سباع بن النعمان الأزديّ على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ووجّه محمد بن الأشعث إلى الطبسين وفارس، وجعل مالك بن الهيثم على شرطته، ووجّه قحطبة إلى طوس، ومعه عدّة من القوّاد؛ منهم أبو عون عبد الملك بن يزيد ومقاتل بن حكيم العكيّ وخالد بن برمك وخازم بن خزيمة والمنذر بن عبد الرحمن وعثمان ابن نهيك وجهور بن مرار العجليّ وأبو العباس الطوسي وعبد الله بن عثمان الطائيّ وسلمة بن محمد وأبو غانم عبد الحميد بن ربعيّ وأبو حميد وأبو الجهم - وجعله أبو مسلم كاتباً لقحطبة على الجند - وعامر بن إسماعيل ومحرز بن إبراهيم، في عدّة من القوّاد، فلقي من بطوس فانهزموا، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل؛ فبلغ عدّة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفاً. ووجه أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة؛ وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بن نصر بن سيّار والنابي بن سويد، ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، وأن يصرف إليه موسى بن كعب من أبيورد. فلما قدم قحطبة أبيورد صرف موسى بن كعب إلى أبي مسلم، وكتب إلى مقاتل بن حكيم يأمره أن يوجّه رجلاً إلى نيسابور، ويصرف منها القاسم بن مجاشع؛ فوجّه أبو مسلم عليّ بن معقل في عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وأمره إذا دخل قحطبة طوس أن يستقبله بمن معه وينضمّ إليه؛ فسار عليّ بن معقل حتى نزل قرية يقال لها حلوان، وبلغ قحطبة مسير عليّ ونزوله حيث نزل، فعجل السير إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بن نصر والنابي بن سويد، ووجّه على مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعيّ في ثلاثة آلاف رجل من شيعة أهل نسا وأبيورد، فسار حتى نزل قرية يقال لها حبوسان، فتعبّأ تميم والنابي لقتاله، فكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله، وأنه إن لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله عز وجل، وأخبره أنهما في ثلاثين ألفاً من صناديد أهل خراسان وفرسانهم. فوجّه قحطبة مقاتل بن حكيم العكيّ في ألف وخالد بن برمك في ألف، فقدما على أسيد؛ وبلغ ذلك تميماً والنابي فكسرهما. ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه، وتعبّأ لقتال تميم، وجعل على ميمنته مقاتل بن حكيم وأبا عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك، وعلى ميسرته أسيد بن عبد الله الخزاعيّ والحسن بن قحطبة والمسيّب بن زهير وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار هو في القلب، ثم زحف إليهم، فدعاهم إلى كتاب الله عزّ وجلّ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم فلم يجيبوه، فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً أشدّ ما يكون من القتال، فقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل معه منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم، وأفلت النابي في عدّة، فتحصّنوا في المدينة، وأحاطت بهم الجنود، فنقبوا الحائط ودخلوا إلى المدينة، فقتلوا النابي ومن كان معه، وهرب عاصم بن عمير السمرقنديّ وسالم بن راوية السعيديّ إلى نصر بن سيّار بنيسابور، فأخبراه بمقتل تميم والنابي ومن كان معهما؛ فلما غلب قحطبة على عسكرهم بما فيه صيّر إلى خالد بن برمك قبض ذلك، ووجّه مقاتل بن حكيم العكيّ على مقدمته إلى نيسابور؛ فبلغ ذلك نصر بن سيار؛ فارتحل هارباً في أثر أهل إبرشهر حتى نزل قومس وتفرّق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده.
ذكر خبر قتل نباتة بن حنظلة وفي هذه السنة قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن عمر بن هبيرة على جرجان.
ذكر الخبر عن مقتلهذكر عليّ بن محمد أنّ زهير بن هنيد وأبا الحسن الجشميّ وجبلة بن فرّوخ وأبا عبد الرحمن الأصبهانيّ أخبروه أن يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابيّ إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان، ثم سار إلى الريّ، ومضى إلى جرجان، ولم ينضمّ إلى نصر بن سيار، فقالت القيسيّة لنصر: لا تحملنا قومس، فتحوّلوا إلى جرجان. وخندق نباتة؛ فكان إذا وقع الخندق في دار قوم رشّوه فأخّره، فكان خندقه نحواً من فرسخ.

وأقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة من سنة ثلاثين ومائة، ومعه أسيد ابن عبد الله الخزاعيّ وخالد بن برمك وأبو عون عبد الملك بن يزيد وموسى بن كعب المرائيّ والمسيّب بن زهير وعبد الجبار بن عبد الرحمن الأزديّ، وعلى ميمنته موسى بن كعب، وعلى مسيرته أسيد بن عبد الله، وعلى مقدّمته الحسن بن قحطبة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان، أتدرون إلى من تسيرون، ومن تقاتلون؟ إنما تقاتلون بقيّة قوم أحرقوا بيت الله عزّ وجلّ. وأقبل الحسن حتى نزل تخوم خراسان، ووجّه الحسن عثمان بن رفيع ونافعاً المروزيّ وأبا خالد المروروزيّ ومسعدة الطائيّ إلى مسلحة نباتة، وعليها رجل يقال له ذؤيب، فبيّتوه، فقتلوا ذؤيباً وسبعين رجلاً من أصحابه، ثم رجعوا إلى عسكر الحسن، وقدم قحطبة فنزلا بإزاء نباة وأهل الشأم في عدّة لم ير الناس مثلها. فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلّموا بذلك وأظهروه. وبلغ قحطبة. فقام فيهم خطيباً فقال: يا أهل خراسان؛ هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوّهم بعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدّلوا وظلموا، فسخط الله عزّ وجلّ عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذلّ أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقّوا أولادهم؛ فكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد. وينصرون المظلوم، ثم بدّلوا وغيّروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البرّ والتقوى من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشدّ عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر. وقد عهد إليّ الإمام أنكم تلقونهم في مثل هذه العدّة فينصركم الله عزّ وجلّ عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم.
وقد قرىء على قحطبة كتاب أبي مسلم. من أبي مسلم إلى قحطبة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد. فناهض عدوّك؛ فإنّ الله عزّ وجلّ ناصرك؛ فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل.
فالتقوا في مستهلّ ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة في يوم الجمعة. فقال قحطبة: يا أهل خراسان. إن هذا اليوم قد فضّله الله تبارك وتعالىة على سائر الأيام والعمل فيه مضاعف؛ وهذا شهر عظيم فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عزّ وجلّ، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجدّ وصبر واحتساب؛ فإنّ الله مع الصابرين. ثم ناهضهم وعلى ميمنته الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته خالد بن برمك ومقاتل بن حكيم العكّيّ، فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فقتل نباتة، وانهزم أهل الشأم فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث قحطبة إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حيّة.
قال: وأخبرنا شيخ من بني عديّ، عن أبيه، قال: كان سالم بن راوية التميمي ممن هرب من أبي مسلم، وخرج مع نصر، ثم صار مع نباتة، فقاتل قحطبة بجرجان، فانهزم الناس، وبقي يقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائيّ - وكان من فرسان قحطبة - فضربه سالم بن راوية على وجهه، فأندر عينه. وقاتلهم حتى اضطر إلى المسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشدّ من ناحية إلا كشفهم، فجعل ينادي: شربة! فوالله لأنقعنّ لهم شراً يومي هذا. وحرّقوا عليه سقف المسجد، فرموه بالحجارة حتى قتلوه وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس في رأسه ولا وجهه مصح؛ فقال قحطبة: ما رأيت مثل هذا قط! ذكر وقعة أبي حمزة الخارجيّ بقديد قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بقديد بين أبي حمزة الخارجيّ وأهل المدينة.
ذكر الخبر عن ذلكحدّثني العباس بن عيسى العقيليّ، قال: حدّثنا هارون بن موسى الفرويّ، قال حدّثني غير واحد من أصحابنا، أنّ عبد الواحد بن سليمان استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا، فلما كان بالحرّة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا، فلما كان بالعقيق تعلّق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، فتشاءم الناس بالخروج؛ ثم ساروا حتى نزلوا قديد، فنزلوها ليلاً - وكانت قرية قديد من ناحية القصر المبنيّ اليوم، وكانت الحياض هنالك، فنزل قوم مغتترّون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من القصر.
وقد زعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم، وأدخلوهم عليهم فقتلوهم؛ وكانت المقتلة على قريش، هم كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة، وأصيب منهم عدد كثير.

قال العباس: قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أن رجلاً من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن وهو يقول: اعلحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال لابنه: يا بنيّ ابدأ به - وقد كان من أهل المدينة - قال: فدنا منه ابنه فضرب عنقه، ثم قال لابنه: أي بنيّ، تقدم؛ فقاتلا حتى قتلا. ثم ورد فلاّل الناس المدينة، وبكى الناس قتلاهم؛ فكانت المرأة تقيم على حميمها النّواح؛ فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهنّ فتخرج النساء امرأة امرأة؛ كل امرأة تذهب إلى حميمها فتنصرف حتى ما تبقى عندها امرأة.
قال: وأنشدني أبو ضمرة هذه الأبيات في قتلي قديد الذين أصيبوا من قومه، رثاهم بعض أصحابهم فقال:
يا لهف نفسي ولهفي غير كاذبة ... على فوارس بالبطحاء أنجاد
عمرو وعمرو وعبد الله بينههما ... وابناهما خامس والحارث السادي
ذكر خبر دخول أبي حمزة المدينة وفي هذه السنة دخل أبو حمزة الخارجيّ من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشأم.
ذكر الخبر عن دخول أبي حمزة المدينة وما كان منه فيها: حدّثني العباس بن عيسى، قال: حدثنا هارون بن موسى الفرويّ، قال: حدّثني موسى بن كثير، قال: دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين ومائة، ومضى عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشأم، فرقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أهل المدينة؛ سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم لعمر الله فيهم القول، وسألناكم: هل يقتلون بالظنّ؟ فقلتم لنا: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال اعلحرام والفرج الحرام؟ فقلتم لنا: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأ،تم نناشدهم الله إلاّ تنحّوا عنا وعنكم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم تعالوا نحن وأ،تم نقاتلهم؛ فإن نظهر نحن وأ،تم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلّوا بيننا وبينهم؛ فإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ونقسم فيئكم بينكم، فأبيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم.
قال محمد بن عمر: حدّثني حزام بن هشام، قال: كانت الحرورية أربعمائة، وعلى طائفة من الحروريّة الحارث، وعلى طائفة بكار بن محمد العدويّ؛ عديّ قريش، وعلى طائفة أبو حمزة، فالتقوا وقد تهيّأ الناس بعد الإعذار من الخوارج إليهم، وقالوا لهم: إنا والله ما لنا حاجة بقتالكم، دعونا نمض إلى عدّونا. فأبى أهل المدينة، فالتقوا لسبع ليال خلون من صفر يوم الخميس سنة ثلاثين ومائة، فقتل أهل المدينة، لم يقلت منهم إلا الشريد، وقتل أميرهم عبد العزيز بن عبد الله، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا الحروريّة. فقال لي حزام: والله لقد آويت رجالاً من قريش منهم حتى آمن الناس؛ فكان بلج على مقدّمتهم. وقدمت الحروريّة المدينة لتسع عشرة ليلة خلت من صفر.
حدّثني العباس بن عيسى، قال: قال هارون بن موسى: أخبرني بعض أشياخنا، أن أبا حمزة لما دخل المدينة قام فخطب فقال في خطبته: يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم وكتبتم إليه تسألونه أن يضع أخراصكم عنكم، فكتب إليكم يضعها عنكم، فزاد الغنيّ غنىً، وزاد الفقير فقراً، فقلتم: جزاك الله خيراً؛ فلا جزاكم الله خيراً ولا جزاه.
قال العباس: قال هارون: وأخبرني يحيى بن زكرياء أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة، قال: رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشراً ولا بطراً ولا عبثاً، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا؛ ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنّف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط: ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله " ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض " ، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافاً واحداً، قليلون مشتضعفون في الأرض؛ فآوانا وأيّدنا بنصره، فأصبحنا والله جميعاً بنعمته إخواناً، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم آل مروان؛ فشتّان لعمر الله ما بين الرّشد والغيّ. ثم أقبلوا يهرعون يزفّون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدّق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله عزّ وجلّ عصائب وكتائب، بكل مهنّد ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله عزّ وجلّ بعذاب من عنده أو بأيدينا. ويشف صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة، أوّلكم خير أول وآخركم شرّ آخر. يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم؛ إلا مشركاً عابد وثن، أو مشرك أهل الكتاب؛ أو إماماً جائراً. يا أهل المدينة من زعم أنّ الله عز وجلّ كلف نفساً فوق طاقتها، أو سألها ما لم يؤتها، فهو لله عزّ وجلّ عدوّ، ولنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله عزّ وجل في كتابه على القوييّ والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها جميعيها لنفسه، مكابراً محارباً لربه. يا أهل المدينة؛ بلغني أنكم تنتقصون أصحابي؛ قلتم: شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويلكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً أحداثاً! شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضبة عن الشر أعينيهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا الله عز وجل أنفساً تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآييةي خوف شهقوا خوفاً من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقاً إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت والرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفّوا وعيد الكتيبة لوعيد الله عزّ وجل، ولم يستخفّوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما فاضت في جوف الليل من خوف الله عز وجل! وكم من يد زالت عن مفصلها طالما اعتمد بها صاحبها فيي سجوده لله، وكم من خدّ عتيق وجبين رقيق فلق بعمد الحديد. رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان. أقول قولي هذا واستغفر الله من تقصيرنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
حدّثني العباس، قال قال هارون: حدّثني جدّي أبو علقمة، قال: سمعت أبا حمزة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ييقول: من زنى فهو كافر، ومن شكّ فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شكّ أنه كافر فهو كافر.
قال العباس: قال هارون: وسمعت جدّيي يقول: كان قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس حين سمعوا كلامه، في قوله: " من زنى فهو كافر " .
قال العباس: قال هارون: وحدّثني بعض أصحابنا: لما رقي المنبر قال: برح الخفاء، أين ما بك يذهب! من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، قال العباس: قال هارون: وأنشدني بعضهم في قديد:
ما للزمان وماليه ... أفنت قديد رجاليه
فلأبكين سريرة ... ولأبكينّ علانيه
ولأبكين إذا شج ... ييت مع الكلاب العاويه
فكان دخول أبي حمزة وأصحابه المدينة لثلاث عشرة بقيت من صفر.
واختلفوا في قدر مدتهم في مقامهم بها، فقال الواقديّ: كان مقامهم بها ثلاثة أشهر. وقال غيره: أقاموا بها بقيّة صفر وشهري ربيع وطائفة من جمادى الأولى.
وكانت عدّة من قتل من أهل المدينة بقديد - فيما ذكر الواقديّ - سبعمائة.

قال أبو جعفر: وكان أبو حمزة - فيما ذكر - قد قدّم طائفة من أصحابه، عليهم أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن عمر القرشيّ، ثم أحد بني عديّ بن كعب، وبلج بن عيينة بن الهيصم الأسديّ من أهل البصرة، فبعث مروان بن محمد من الشأم عبد الملك بن محمد بن عطيّة أحد بني سعد في خيول الشأم. فحدّثني العباس بن عيسى، قال: حدّثني هارون بن موسى، عن موسى بن كثير، قال: خرج أبو حمزة من المدينة، وخلّف بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي.
قال العباس: قال هارون: حدّثني بعض أصحابنا ممن أخبرني عنه أبو يحيى الزهريّ، أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف، واستعمل عليهم ابن عطيّة، وأمره بالجدّ في السير، وأعطى كلّ رجل منهم مائة دينار؛ وفرساً عربيّة وبغلاً لثقله، وأمره أن يمضى فيقاتلهم؛ فإن هو ظفر مضى حتى بلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن يحيى ومن معه؛ فخرج حتى نزل بالعلا - وكان رجل من أهل المدينة يقال له العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث، يقول: لقيني وأنا غلام ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية؛ فسألني: ما اسمك يا غلام؟ قال: فقلت: العلاء، قال: ابن من؟ قلت: ابن أفلح، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟ قلت بالعلا، قال: فأين نحن غداً؟ قلت: بغالب، قال: فما كلّمنيي حتى أردفني وراءه، ومضى بي حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه،؟ فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، قال: فسرّ بذلك، ووهب لي دراهم.
قال العبّاس: قال هارون: وأخبرني عبد الملك بن الماجشون، قال: لما لقي أبو حمزة وابن عطيّة، قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تخبروهم، قال: فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ قال: فصاح ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق، قال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال: نأكل ماله ونفجر بأمّه... في أشياء بلغني أنهم سألوهم عنها. قال: فلما سمعوا كلامهم، قاتلوهم حتى أمسوا، فصاحوا: ويحك يا بن عطية! إنّ الله عزّ وجلّ قد جعل الليل سكناً، فاسكن نسكن. قال: فأبى فقاتلهم حتى قتلهم.
قال العبّاس: قال هارون: وكان أبو حمزة حين خرج ودّع أهل المدينة للخروج إلى مروان يقاتله، قال: يا أهل المدينة، إنا خارجون إلى مروان؛ فإن نظفر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ونقسم فيئكم بينكم؛ وإن يكن ما تمنّون؛ فسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. قال العباس: قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الناس وثبوا على أصحابه حين جاءهم قتلُه فقتلوهم.
قال محمد بن عمر: سار أبو حمزة وأصحابه إلى مروان، فلقيهم خيل مروان بوادي القرى؛ عليها ابن عطيّة السعديّ، من قيس، فأوقعوا بهم، فرجعوا منهزمين منهم إلى المدينة، فلقيهم أهل المديينية فقتلوهم. قال: وكان الذي قاد جيش مروان عبد الملك بن محمد بن عطية السعديّ سعد هوازن، قدم المدينة في أربعة آلاف فارس عربيّ؛ مع كلّ واحد منهم بغل، ومنهم من عليه درعان أو درع وسنّور وتجافيف؛ وعدّة لم ير مثلها في ذلك الزمان، فمضوا إلى مكة.
وقال بعضهم: أقام ابن عطية بالمدينة حين دخلها شهراً، ثم مضى إلى مكة، واستخلف على المدينة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية، ثم مضى إلى مكة وإلى اليمن واستخلف على مكة ابن ماعز؛ رجلاً من أهل الشأم.
ولما مضى ابن عطيّة بلغ عبد الله بن يحيى - وهو بصنعاء - مسيره إليه، فأقبل إليه بمن معه فالتقى هو وابن عطية، فقتل ابن عطية عبد الله بن يحييى، وبعث ابنه بشير إلى مروان، ومضى ابن عطية فدخل صنعاء وبعث برأس عبد الله بن يحيى إلى مروان، ثم كتب مروان إلى ابن عطيّة يأمره أن يغذ السير، وييحج بالناس، فخرج في نفر من أصحابه - فيما حدثني العباس بن عيسى، عن هارون - حتى نزل الجرف - هكذا قال العباس - ففطن له بعض أهل القرية، فقالوا: منهزميني والله، فشدّوا عليه، فقال: ويحكم! عامل الحجّ؛ والله كتب إليّ أمير المؤمنين.

قال أبو جعفر: وأما ابن عمر، فإنه ذكر أنّ أبا الزبير بن عبد الرحمن حدّثه، قال: خرجت مع ابن عطية السعديّ؛ ونحن اثنا عشر رجلاً، بعهد مروان على الحجّ، ومعه أربعون ألف دينار في خرجه، حتى نزل الجرف يريد الحجّ وقد خلف عسكره وخيله وراءه بصنعاء؛ فوالله إنا آمنون مطمئنون؛ إذ سمعت كلمة من امرأة: قاتل الله ابني جمانة ما أشأمهما! فقمت كأني أهريق الماء، وأشرفت على نشز من الأرض؛ فإذا الدهم من الرجال والسلاح والخيل والقذّافات؛ فإذا ابنا جمانة المراديّان واقفان علينا، قد أحدقوا بنا من كلّ ناحية، فقلنا: ما تريدون؟ قالوا: أنتم لصوص؛ فأخرج ابن عطية كتابه، وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين وعهده على الحجّ وأنا ابن عطية، فقالوا: هذا باطل، ولكنكم لصوص؛ فرأينا الشرّ. فركب الصفر بن حبيب فرسه، فقاتل وأحسن حتى قتل؛ ثم ركب ابن عطية فقاتل حتى قتل، ثم قتل من معنا وبقيت، فقالوا: من أنت؟ فقلت: رجل من همدان، قالوا: من أيّ همدان أنت؟ فاعتزيت إلى بطن منهم - وكنت عالماً ببطون همدان - فتركوني، وقالوا: أنت آمن؛ وكلّ ما كان لك في هذا الرحل فخذه، فلو ادّعيت المال كله لأعطوني. ثم بعثوا معي فرساناً حتى بلغوا بي صعدة، وأمنت ومضيت حتى قدمت مكة.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا الصائفة - فيما ذكر - الوليد بن هشام، فنزل العمق وبنى حصن مرعش.
وفيها وقع الطاعون بالبصرة.
وفي هذه السنة قتل قحطبة بن شبيب من أهل جرجان من قتل من أهلها؛ قيل إنه قتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً؛ وذلك أنه بلغه - فيما ذكر - عن أهل جرجان أنه أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بن حنظلة على الخروج على قحطبة، فدخل قحطبة لما بلغه ذلك من أمرهم؛ واستعرضهم، فقتل منهم من ذكرت. ولما بلغ نصر بن سيار قتل قحطبة نباتة ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس، ارتحل حتى نزل خوار الرّيّ.
وكان سبب نزول نصر قومس - فما ذكر عليّ بن محمد - أن أبا الذيّال حدّثه والحسن بن رشيد وأبا الحسن الجشميّ؛ أن أبا مسلم كتب مع المنهال ابن فتّان إلى زياد بن زرارة القشيريّ بعهده على نيسابور بعدما قتل تميمي بن نصر والنابي بن سويد العجليّ، وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتيبع نصراً؛ فوجه قحطبة العكّيّ على مقدّمته. وسار قحطبة حتى نزل نيسابور، فأقام بها شهرين؛ شهري رمضان وشوال من سنة ثلاثين ومائة، ونصر نازل في يقريية من قى قومس يقال لها بذش، ونزل من كان معه من قيس في قرية يقال لها الممد؛ وكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمدّه وهو بواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان؛ يعظّم الأمر عليه، فحبس ابن هبيرة رسله، وكتب نصر إلى مروان: إني وجّهت إلى ابن هبيرة قوماً من وجوه أهل خراسان ليعلموه أمر الناس من قبلنا، وسألته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدّني بأحد؛ وإنما أنا بمنزلة من أخر من بيته إلى حجرته، ثم أخرج من حجرته إلى داره، ثم أخرج من داره إلى فناء داره؛ فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له؛ وإن أخرج من داره إلى الطريق فلا دار له ولا فناء.
فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمدّ نصراً، وكتب إلى نصر يعلمه ذلك، فكتب نصر إلى ابن هبيرة مع خالد مولى بني لييث يسأله أن يعجّل إليه الجند، فإنّ أهل خراسان قد كذبتهم حتى ما رجل منهم يصدّق لي قولاً؛ فأمدّني بعشرة آلاف قبل أن تمدّني بمائة ألف، ثم لا تغني شيئاً.
وحجّ في هذه السنة بالناس محمد بن عبد الملك بن مروان؛ كذلك حدّثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره؛ عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وكانت إليه مكة والمدينة والطائف.
وكان فيها العراق إلى يزد بن عمر بن هبيرة.
وكان على قضاء الكوفة الحجّاج بن عاصم المحاربيّ، وكان على قضاء البصرة عبّاد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والأمر بخراسان على ما ذكرت.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر موت نصر بن سيار

فممّا كان فيها من ذلك توجيه قحطبة ابنه اعلحسن إلى نصر وهو بقومس. فذكر عليّ بن محمد؛ أن زهير بن هنيد والحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ التاجيّ، قالوا: لما قتل نباتة ارتحل نصر بن سيّار من بذش، ودخل خوار وأميرها أبو بكر العقيليّ، ووجّه قحطبة ابنه الحسن إلى قومس قال: يالمحرّم سنة إحدى وثلاثيين ومائة، ثم وجّه قحطبة أبا كامل وأبا القاسم محرز بن إبراهيم وأبا العباس المروزيّ إلى الحسن في سبعمائة، فلما كانوا قريباً منه، انحاز أبو كامل وترك عسكره، وأتى نصراً فصار معه، وأعلمه مكان القائد الذي خلّف، فوجّه إليهم نصر جنداً فأتوهم وهم في حائط فحصروهم، فنقب جميل بن مهران الحائط، وهرب هو وأصحابه، وخلّفوا شيئاً من متاعهم فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة، فعرض له عطيف بالريّ، فأخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع، وبعث به إلى ابن هبيرة، فغضب نصر، وقال: أبي يتلعّب ابن هبيرة! أيشغب عليّ بضغابس قيس! أما والله لأدعنّه فليعرفنّ أنه ليس بشيء ولا ابنه الذي تربّص له الأشياء. وسار حتى نزل الريّ - وعلى الريّ حبيب بن بديل النهشليّ - فخرج عطيف من الرّيّ حين قدمها نصر إلى همذان، وفيها مالك بن أدهم بن محرز الباهليّ على الصحصحية، فلما رأى مالكاً في همذان عدل منها إلى أصبهان إلى عامر بن ضبارة - وكان عطيف في ثلاثة آلاف - وجّهه ابن هبيرة إلى نصر، فنزل الريّ، ولم يأت نصراً. وأقام نصر بالريّ يومين ثم مرض، فكان يحمل حملاً؛ حتى إذا كان بساوة قريباً من همذان مات بها؛ فلما مات دخل أصحابه همذان وكانت وفاة نصر - فيما قيل - لمضيّ اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول، وهو ابن خمس وثمانين سنة.
وقيل إن نصراً لما شخص من خوار متوجّهاً نحو الريّ لم يدخل الريّ ولكنه أخذ المفازة التي بين الريّ وهمذان فمات بها.
رجع الحديث إلى حديث عليّ عن شيوخه. قالوا: ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن خازم بن خزيمة إلى قرية ييقال لها سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدّم أمامه زياد بن زرارة القشيريّ؛ وكان زياد قد ندم على اتباع أبي مسلم، فانخزل عن قحطبة، وأخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة، فوجّه قحطبة المسيّب بن زهير الضبيّ، فلحقه من غد بعد العصر فقاتله، فانهزم زياد، وقتل عامة من معه، ورجع المسيّب بن زهير إلى قحطبة، ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن، فقدم خازم من الوجه الذي كان وجّهه فيهي الحسن، فقدّم قحطبة ابنه الحسن إلى الريّ. وبلغ حبيب ابن بديل النهشليّ ومن معه من أهل الشأم مسير الحسن، فخرجوا من الريّ ودخلها الحسن، فأقام حتى قدم أبوه.
وكتب قحطبة حين قدم الريّ إلى أبي مسلم يعلمه بنزوله الرّيّ.
أمر أبي مسلم مع قحطبة عند نزوله الريّ قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تحوّل أبو مسلم من مرو إلى نييسابور فنزلها.
ذكر الخبر عما كان من أمر أبي مسلم هنالكومن قحطبة بعد نزوله الريّ: ولما كتب قحطبة إلى أبي مسلم بنزوله الرّيّ ارتحل أبو مسلم - فيما ذكر - من مرو، فنزل نيسابور وخندق بها، ووجّه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الرّيّ بثلاث إلى همذان؛ فذكر عليّ عن شيوخه وغيرهم أنّ الحسن بن قحطبة لما توجّه إلى همذان؛ خرج منها مالك بن أدهم ومن كان بها من أهل الشأم وأهل خراسان إلى نهاوند، فدعاهم مالك إلى أرزاقهم، وقال: من كان له ديوان فليأخذ رزقه، فترك قوم كثير دواوينهم ومضوا، فأقام مالك ومن بقي معه من أهل الشأم وأهل خراسان ممّن كان مع نصر، فسار الحسن من همذان إلى نهاوند، فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة، حتى أطاف بالمدينة وحصرها.
ذكر خبر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل عامر بن ضبارة.
ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك:

وكان سبب مقتله أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هارباً نحو خراسان، وسلك إليها طريق كرمان، ومضى عامر بن ضبارة فيي أثره لطلبه، وورد على يزيد بن عمر مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان؛ فذكر عليّ بن محمد أن أبا السريّ وأبا الحسن الجشمّ والحسن ابن رشيد وجبلة بن فرّوج وحفص بن شبيب أخبروه، قالوا: لما قتل نباتة كتب ابن هبيرة إلى عامر بن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسيرا إلى قحطبة - وكانا بكرمان - فسارا في خمسين ألفاً حتى نزلوا أصبهان بمدينة جيّ - وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر - فبعث قحطبة إليهم مقاتلاً وأبا حفص المهلبيّ وأبا حماد المروزيّ مولى بني سليم وموسى بن عقيل وأسلم بن حسان وذؤيب بن الأشعث وكلثوم بن شبيب ومالك بن طريف والمخارق بن غفار والهيثم بن زياد؛ وعليهم جميعاً العكيّ، فسار حتى نزل قمّ. وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بأهل نهاوند، فأراد أن يأتيهم معيناً لهم، وبلغ الخبر العَكيّ من قمّ وخلف بها طريف بن غيلان، فكتب إليه قحطبة يأمره أن يقيم حتى يقدم عليه، وأن يرجع إلى قمّ، وأقبل قحطبة من الرّيّ، وبلغه طلائع العسكرين؛ فلما لحق قحطبة بمقاتل بن حكيم العكيّ ضمّ عسكر العكيّ إلى عسكره، وسار عامر بن ضبارة إليهم وبينه وبين عسكر قحطبة فرسخ، فأقام أياماً، ثم سار قحطبة إليهم، فالتقوا وعلى ميمنة قحطبة العكيّ ومعه خالد بن برمك، وعلى ميسرته عبد الحميد بن ربعيّ ومعه مالك بن طريف - وقحطبة في عشرين ألفاً وابن ضبارة في مائة ألف، وقيل في خمسين ومائة ألف - فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح ثم نادى: يا أهل الشأم، إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشتموه وأفحشوا في القول، فأرسل إليهم قحطبة: احملوا عليهم، فحمل عليهم العكيّ، وتهايج الناس، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشأم، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئاً لا يدرى عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبعث بالفتح إلى ابنه الحسن مع شريح بن عبد الله.
قال عليّ: وأخبرنا أبو الذّيال، قال: لقي قحطبة عامر بن ضبارة؛ ومع ابن ضبارة ناس من أهل خراسان؛ منهم صالح بن الحجاج النميريّ وبشر ابن بسطام بن عمران بن الفضل البرجميّ وعبد العزيز بن شماس المازنيّ وابن ضبارة في خيل ليست معه رجّالة، وحقحطبة معه خيل ورجّالة. فرموا الخيل بالنّشاب، فانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره، واتّبعه قحطبة، فترك ابن ضبارة العسكر، ونادى: إليّ، فانهزم الناس وقتل.
قال عليّ: وأخبرنا المفضّل بن محمد الضبيّ، قال: لما لقي قحطبة ابن ضبارة انهزم داود بن يزيد بن عمر، فسأل عنه عامر، فقيل: انهزم، فقال: لعن الله شرّنا منقلباً! وقاتل حتى قتل.
قال عليّ: وأخبرنا حفص بن شبيب، قال: حدّثني من شهد قحطبة وكان معه، قال: ما رأيت عسكراً قطّ جمع ما جمع أهل الشأم بإصبهان من الخيل والسلاك والرقيق، كأنا افتتحنا مدينة؛ وأصبنا معهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير؛ ولقلّ بيت أو خباء ندخله إلا أصبنا فيه زكرة أو زقاً من الخمر، فقال بعض الشعراء:
لما رمينا مضراً بالقبّ ... قرضبهم قحطبة القرضب
يدعون مروان كدعوى الربِّ ذكر خبر محاربة قحطبة أهل نهاوند ونهاوند وفي هذه السنة كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن محمد. وقيل: كانت الوقعة بجايلق من أرض أصبهان يوم السبت لسبع بقين من رجب.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة

ذكر عليّ بن محمد أن الحسن بن رشيد وزهير بن الهنيد أخبراه أن ابن ضبارة لما قتل كتب بذلك قحطبة إلى ابنه الحسن، فلما أتاه الكتاب كبّر وكبّر جنده، ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير السغديّ: ما صاح هؤلاء بقتل ابن ضبارة إلا وهو حقّ، فاخرجوا إلى الحسن بن قحطبة وأصحابه؛ فإنكم لا تقومون لهم، فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أو مدده. فقالت الرّجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول فتذهبون وتتركوننا! فقال لهم مالك ابن أدهم الباهليّ: كتب إليّ ابن هبيرة ولا أبرح حتى يقدم عليّ. فأقاموا وأقام قحطبة بأصبهان عشرين يوماً، ثم سار حتى قدم على الحسن نهاوند فحصرهم أشهراً، ثم دعاهم إلى الأمان فأبوا، فوضع عليهم المجانيق، فلما رأى ذلك مالك طلب الأمان لنفسه ولأهل الشأم - وأهل خراسان لا يعلمون - فأعطاه الأمان فوفى له قحطبة، ولم يقتل منهم أحداً، وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان، إلا الحكم بن ثابت بن أبي مسعر الحنفيّ، وقتل من أهل خراسان أبا كامل وحاتم بن الحارث بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعليّ بن عقيل وبيهس بن بديل من بني سليم؛ من أهل الجزيرة، ورجلاً من قريش يقال له البختريّ، من أولاد عمر بن الخطاب - وزعموا أن آل الخطاب لا يعرفونه - وقطن بن حرب الهلاليّ.
قال عليّ: وحدّثنا يحيى بن اعلحكم الهمدانيّ، قال: حدّثني مولى لنا قال: لمّا صالح مالك بن أدهم قحطبة قال بيهس بن بديل: إنّ ابن أدهم لمصالح علينا؛ والله لأفتكنّ به؛ فوجد أهل خراسان أن قد فتح لهم الأبواب، ودخلوا وأدخل قحطبة من كان معه من أهل خراسان حائطاً.
وقال غير عليّ: أرسل قحطبة إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه، وأعطاهم الأمان، فأبوا ذلك. ثم أرسل إلى أهل الشأم بمثل ذلك فقبلوا، ودخلوا في الأمان بعد أن حوصروا ثلاثة أشهر: شعبان ورمضان وشوّال، وبعث أهل الشأم إلى قحطبة يسألونه أن يشغل أهل المدينية حتى يفتحوا الباب وهم لا يشعرون، ففعل ذلك قحطبة، وشغل أهل المدينة بالقتال، ففتح أهل الشأم الباب الذي كانوا عليه؛ فلما رأى أهل خراسان الذين في المدينة خروج أهل الشأم، سألوهم عن خروجهم، فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم، فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كلّ رجل منهم إلى رجل من قوّاد أهل خراسان، ثم أمر مناديه فنادى: من كان فيي يده أسير ممّن خرج إلينا من أهل المدينية فلييضرب عنقه، وليأتنا برأسه. ففعلوا ذلك، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم وصاروا إلى الحصن إلاّ قتل، ما خلا أهل الشأم فإنه خلّى سبيلهم، وأخذ عليهم ألا يمالئوا عليه عدواً.
رجع الحديث إلى حديث عليّ عن شيوخه الذين ذكرت: ولما أدخل قحطبة الذين كانوا بنهاوند من أهل خراسان ومن أهل الشأم الحائط، قال لهم عاصم بن عمير: ويلكمّ ألا تدخلون الحائط! وخرج عاصم فلبس درعه، ولبس سواداً كان معه، فلقيه شاكريّ كان له بخراسان فعرفه، فقال: أبو الأسود؟ قال: نعم، فأدخله في سرب، وقال لغلام له: احتفظ به ولا تطلعنّ على مكانه أحداً، وأمر قحطبة: من كان عنده أسيراً فليأتنا به. فقال الغلام الذي كان وكل بعاصم: إن عندي أسيراً أخاف أن أغلب عليه، فسمعه رجل من أهل اليمن، فقال: أرنيه، فأراه إياه فعرفه، فأتى قحطبة فأخبره، وقال: رأس من رءوس الجبابرة، فأرسل إليه فقتله، ووفّى لأهل الشأم فلم يقتل منهم أحداً.
قال عليّ: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني وجبلة بن فروخ؛ قالا: لما قدم قحطبة نهاوند والحسن محاصرهم، أقام قحطبة عليهم، ووجّه الحسن إلى مرج القلعة، فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله ابن العلاء الكنديّ، فهرب من حلوان وخلاّها.
قال عليّ: وأخبرنا محرز بن إبراهيم، قال: لما فتح قحطبة نهاوند، أرادوا أن يكتبوا إلى مروان باسم قحطبة، فقالوا: هذا اسم شنيع، اقلبوه فجاء " هبط حقّ " ، فقالوا: الأول مع شنعته أيسر من هذا. فردّوه.
ذكر وقعة شهر زور وفتحها وفي هذه السنة كانت وقعة أبي عون بشهرزور.
ذكر الخبر عنها وعمّا كان فيها

ذكر عليّ أن أبا الحسن وجبلة بن فروخ، حدّثاه قالا: وجّه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراسانيّ ومالك بن طريف الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور، وبها عثمان بن سفياين على مقدّمة عبد الله بن مروان، فقدم أبو عون ومالك، فنزلا على فرسخين من شهرزور، فأقاما به يوماً وليلة، ثم ناهضا عثمان بن سفيان في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين ومائة فقتل عثمان بن سفيان، وبعث أبو عون بالبشارة مع إسماعيل بن المتوكّل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل.
وقال بعضهم: لم يقتل عثمان بن سفيان، ولكنّه هرب إلى عبد الله بن مروان، واستباح أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة بعد قتال شديد. وقال: كان قحطبة وجه أبا عون إلى شهرزور في ثلاثين ألفاً بأمر أبي مسلم إياه بذلك. قال: ولما بلغ خبر أبي عون مروان وهو بحرّان، ارتحل منها ومعه جنود الشأم والجزيرة والموصل، وحشرت بنو أمية معه أبناءهم مقبلاً إلى أبي عون؛ حتى انتهى إلى الموصل، ثم أخذ في حفر الخنادق من خندق إلى خندق؛ حتى نزل الزّاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهرزور بقيّة ذي الحجة والمحرّم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض فيها لخمسة آلاف رجل.
ذكر خبر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراق وفي هذه السنة سار قحطبة نحو ابن هبيرة؛ ذكر عليّ بن محمد أن أبا الحسن أخبره وزهير بن هنيد وإسماعيل بن أبي إسماعيل وجبلة بن فرّوخ، قالوا: لما قدم على ابن هبيرة ابنه منهزماً من حلوان، خرج يزيد بن عمر بن هبيرة، فقاتل قحطبة في عدد كثير لا يحصى مع حوثرة بن سهيل الباهليّ، وكان مروان أمدّ ابن هبيرة به، وجعل على الساقة زياد بن سهل الغطفانيّ، فسار يزيد بن عمر بن هبيرة، حتى نزل جلولاء الوقيعة وخندق، فاحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء؛ وأقيل قحطبة حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان، فنزل خانقين، فارتحل قحطبة من خانقين، وارتحل ابن هبيرة راجعاً إلى الدّسكرة.
وقال هشام عن أبي مخنف، قال: أقبل قحطبة، وابن هبيرة مخندق بجلولاء، فارتفع إلى عكبراء، وجاز قحطبة دجلة، ومضى حتى نزل دمماً دون الأنبار، وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفاً مبادراً إلى الكوفة لقحطبة، حتى نزل في الفرات في شرقيّه، وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفاً إلى الكوفة، وقطع قحطبة الفرات من دمماً، حتى صار من غربيّه، ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذيي فيه ابن هبيرة.
وفي هذه السنة حجّ بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعديّ؛ سعد هوازن، وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد بن عطية الذي قتل أبا حمزة الخارجيّز وكان والي المدينة من قبل عمه، حدّثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقديّ وغيره.
وقد ذكر أن الوليد بن عروة إنما كان خرج خارجاً من المدينة، وكان مروان قد كتب إلى عمه عبد الملك بن محمد بن عطية يأمره أن يحجّ بالناس وهو باليمين؛ فكان من أمره ما قد ذكرت قبل، فلمّا أبطأ عليه عمه عبد الملك افتعل كتاباً من عمه يأمره بالحجّ بالناس، فحجّ بهم.
وذكر أن الوليد بن عروة بلغه قتل عمه عبد الملك فمضى إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وبقر بطون نسائهم، وقتل الصبيان، وحرّق بالنيران من قدر عليه منهم.
وكان عامل مكة والمدينة والطائف في يهذه السنة الوليد بن عروة السعديّ من قبل عمه عبد الملك بن محمد، وعامل العراق يزيد بن عمر بن هبيرة.
وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربيّ، وعلى قضاء البصرة عبّاد ابن منصور الناجيّ.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن هلاك قحطبة بن شبيب فممّا كان فيها هلاك قحطبة بن شبيب.
ذكر الخبر عن مهلكه وسبب ذلك

فكان السبب في ذلك أنّ قحطبة لما نزل خانقين مقبلاً إلى ابن هبيرة، وابن هبيرة بجلولاء، ارتحل ابن هبيرة من جلولاء إلى الدسكرة، فبعث - فيما ذكر - قحطبة ابنه الحسن طليعةً ليعلم له خبر ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة راجعاً إلى خندقه بجلولاء، فوجد الحسن بن هبيرة في خندقه، فرجع إلى أبيه فأخبره بمكان ابن هبيرة؛ فذكر علّ بن محمد، عن زهير بن هنيد وجبلة ابن فرّوخ وإسماعيل بن أبي إسماعيل والحسن بن رشيد، أنّ قحطبة، قال لأصحابه لما رجع ابنه الحسن إليه وأخبره بما أخبره به من أمر ابن هبيرة: هل تعلمون طريقاً يخرجنا إلى الكوفة، لا نمرّ بابن هبيرة؟ فقال خلف بن المورّع الهمذانيّ، أحد بني تميم: نعم، أنا أدلّك، فعبر به تامراً من روستقباذ، ولزم الجادّة حتى نزل بزرج سابور، وأتى عكبراء، فعبر دجلة إلى أوانا.
قال عليّ: وحدّثنا إبراهيم بن يزيد الخراسانيّ، قال: نزل قحطبة بخانقين وابن هبيرة بجلولاء؛ بينهما خمسة فراسخ، وأرسل طلائعه إلى ابن هبيرة ليعلم علمه، فرجعوا إليه، فأعلموه أنه مقيم، فبعث قحطبة خازم بن خزيمة، وأمره أن يعبر دجلة، فعبر وسار بين دجلة ودجيل؛ حتى نزل كوثبا؛ ثم كتب إليه قحطبة يأمره بالمسير إلى الأنبار، وأن يحدر إليه ما فيها من السفن وما قدر عليه يعبرها، ويوافيه بها بد ممّا، ففعل ذلك خازم، ووافاه قحطبة بد ممّا، ثم عبر قحطبة الفرات في المحرّم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ووجّه الأثقال في البرّيّة، وصارت الفرسان معه على شاطىء الفرات، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات من أرض الفوجة العليا، على رأس ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابن ضبارة، وأمدّه مروان بحوثرة بن سهيل الباهليّ في عشرين ألفاً من أهل الشأم.
وذكر عليّ أن الحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ أخبراه أنّ قحطبة لما ترك ابنّ هبيرة ومضى يريد الكوفة، قال حوثرة بن سهيل الباهليّ وناس من وجوه أهل الشأم لابن هبيرة: قد مضى قحطبة إلى الكوفة، فاقصد أنت خراسان، ودعه ومروان فإنك تكسره، فبالحري أن يتبعك، فقال: ما هذا برأي، ما كان ليتبعني ويدع الكوفة؛ ولكنّ الرأي أن أبادره إلى الكوفة. ولما عبر قحطبة الفرات، وسار على شاطىء الفرات ارتحل ابن هبيرة من معسكره بأرض الفلّوجة، فاستعمل على مقدّمته حوثرة بن سهيل، وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على شاطىء الفرات؛ ابن هبيرة بن الفرات وسورا، وقحطبة في غربيه مما يلي البرّ. ووقف قحطبة فعبر إليه رجل أعرابيّ في زورق، فسلّم على قحطبة، فقال: ممن أنت؟ قال: من طيّىء، فقال الأعرابيّ لقحطبة: اشرب من هذا واسقني سؤرك، فغرف قحطبة في قصعة فشرب وسقاه، فقال الحمد لله الذي نسأ أجلي حتى رأيتي هذا الجيش يشرب من هذا الماء. قال قحطبة: أتتك الرواية؟ قال: نعم؛ قال: ممن أنت؟ قال: من طيىء، ثم أحد بني نبهان، فقال قحطبة: صدقني إمامي، أخبرني أن لي وقعة على هذا النهر لي فيها النصر، يا أخا بني نبهان، هل ها هنا مخاضة؟ قال: نعم ولا أعرفها، وأدلك على من يعرفها؛ السندييّ بن عصم. فأرسل إليه قحطبة، فجاء وأبو السنديّ وعون، فدلّوه على المخاضة وأمسى ووافته مقدّمة ابن هبيرة في عشرين ألفاً، عليهم حوثرة.
فذكر عليّ، عن ابن شهاب العبدّي، قال: نزل قحطبة الجبارية فقال: صدقني الأمام أخبرني أن النصر بهذا المكان، وأعطى الجند أرزاقهم، فردّ عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم، فضل الدرهم والدرهمين وأكثر وأقل، فقال: لا تزالون بخير ما كنتم على هذا. ووافته خيول الشأم، وقد دلّوه على مخاضة فقال: إنما أنتظر شهر حرام وليلة عاشوراء، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف أنّ قحطبة انتهى إلى موضع مخاضة ذكرت له، وذلك عند غروب الشمس ليلة الأربعاء؛ لثمان خلون من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فلما انتهى قحطبة إلى المخاضة اقتحم في عدة من أصحابه، حتى حمل على ابن هبيرة، ووليي أصحابه منهزمين؛ ثم نزلوا فم النيل، ومضى حوثرة حتى نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم، فألقوا بأيدهم، وعلى الناس الحسن بن قحطبة.

رجع الحديث إلى حديث عليّ عن ابن شهاب العبديّ: فأما صاحب علم قحطبة خيران أو يسار مولاه، فقال له: اعبر، وقال لصاحب رايته مسعود بن علاج رجل من بكر بن وائل: اعبر، وقال لصاحب شرطته عبد الحميد بن ربعيّ أبي غانم أحد بني نبهان من طيىء: اعبر يا أبا غانم، وأبشر بالغنيمة. وعبر جماعة حتى عبر أربعمائة، فقاتلوا أصحاب حوثرة حتى نحوهم عن الشريعة، ولقوا محمد بن نباة فقاتلوه، ورفعوا النيران، وانهزم أهل الشأم، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بن قحطبة على كره منه، وجعلوا على الأثقال رجلاً يقال له أبو نصر في مائتين، وسار حميد حتى نزل كربلاء، ثم دير الأعور ثم العباسيّة.
قال عليّ: أخبرنا خالد بن الأصفح وأبو الذيّال، قالوا: وجد قحطبة فدفنه أبو الجهم، فقال رجل من عرض الناس: من كان عنده عهد من قحطبة فلييخبرنا به، فقال مقاتل بن مالك العكيّ: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن أمير الناس، فبايع الناس حميداً للحسن، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاهي، فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم قحطبة، وبايعوه، فقال الحسن: إن كان قحطبة مات فأنا ابن قحطبة. وقتل في هذه الليلة ابن نبهان السدوسيّ وحرب بن سلم بن أحوز وعيسى بن إياس العدوييّ ورجل من الأساورة، يقال له مصعب، وادّعى قتل قحطبة معن بن زائدة ويحييى بن حضين.
قال عليّ: قال أبو الذيّال: وجدوا قحطبة قتيلا في جدول وحرب بن سلم بن أحوز قتيل إلى جنبه، فظنوا أن كلّ واحد منهما قتل صاحبه.
قال عليّ: وذكر عبد الله بن بدر قال: كنت مع ابن هبيرة ليلة قحطبة فعبروا إلينا، فقاتلونا على مسنّاة عليها خمسة فوارس؛ فبعث ابن هبيرة محمد بن نباتة، فتلقاهم فدفعناهم دفعاً، وضرب معن بن زائدة قحطبة على حبل عاتقه، فأسرع فيه السيف، فسقط قحطبة في الماء فأخرجوه، فقال: شدّوا يديّ، فشدّوها بعمامة، فقال: إن متّ فألقونيي في الماء لا يعلم أحد بقتلي. وكرّ عليهم أهل خراسان، فانكشف ابن نباتة وأهل الشأم، فاتبعونا وقد أخذ طائفة في وجه، ولحقنا قوم من أهل خراسان، فقاتلناهم طويلاً، فما نجونا إلاّ برجلين من أهل الشأم قاتلوا عنا قتالاً شديداً، فقال بعض الخراسانيّة: دعوا هؤلاء الكلاب بالفارسية فانصرفوا عنا. ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة؛ فسلموا هذا الأمر إليه. ورجع ابن هبيرة إلى واسط.

وقد قيل في هلاك قحطبة قول غير الذي قاله من ذكرنا قوله من شيوخ عليّ بن محمد؛ والذي قيل من ذلك أنّ قحطبة لما صار بحذاء ابن هبيرة من الجانب الغربيّ من الفرات، وبينهما الفرات، قدّم الحسن ابنه على مقدّمته، ثم أمر عبد الله الطائيّ ومسعود بن علاج وأسد بن المرزبان وأصحابهم بالعبور على خيولهم في الفرات، فعبروا بعد العصر، فطعن أوّل فارس لقيهم من أصحاب ابن هبيرة، فولّوا منهزمين حتى بلغت هزيمتهم جسر سورا حتى اعترضهم سويد صاحب شرطة ابن هبيرة، فضرب وجوههم ووجوه دوابّهم حتى ردّهم إلى موضعهم؛ وذلك عند المغرب؛ حتى انتهوا إلى مسعود بن علاج ومن معه؛ فكثروهم، فأمر قحطبة المخارق بن غفار وعبد الله بسّام وسلمة ابن محمد - وهم في جريدة خيل - أن يعيبروا، فيكيونوا ردءاً لمسعود بن علاج، فعبروا ولقيهم محمد بن نباتة، فحصر سلمة ومن معه بقرية على شاطىء الفرات، وترجّل سلمة ومن معه، وحميَ القتال، فجعل محمد بن نباتة يحمل على سلمة وأصحابه، فيقتل العشرة والعشرين، ويحمل سلمة وأصحابه على محمد بن نباتة وأصحابه، فيقتل منهم المائة والمائتين، وبعث سلمة إلى قحطبة يستمدّه، فأمدّه بقواده جميعاً، ثم عبر قحطبة بفرسانه، وأمر كل فارس أن يردف رجلاً؛ وذلك ليلة الخميس لليال خلون من المحرّم، ثم واقع قحطبة محمد بن نباتة ومن معه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزمهم قحطبة حتى ألحقهم بابن هبيرة، وانهزم ابن هبيرة بهزيمة ابن نباتة، وخلّوا عسكرهم وما فييه من الأموال والسلاح والرّثّة والآنية وغر ذلك؛ ومضت بهم الهزيمة حتى قطعوا جسر الصّراة، وساروا لييلتهم حتى أصبحوا بفم النيل، وأصبح أصحاب قحطبة وقد فقدوه؛ فلم يزالوا في رجاء منه إلى نصف النهار، ثم يئسوا منه وعلموا بغرقه، فأجمع القوّاد على الحسن بن قحطبة فولّوه الأمر وبايعوه، فقام بالأمر وتولاه، وأمر بإحصاء ما في عسكر ابن هبيرة، ووكّل بذلك رجلاً من أهل خراسان يكنى أبا النضر في مائتي فارس، وأمر بحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة، ثم ارتحل الحسن بالجنود حتى نزل كربلاء، ثم ارتحل فنزل سورا، ثم نزل بعدها دير الأعور، ثم سار منه فنزل العباسيّة. وبلغ حوثرة هزيمة ابن هبيرة، فخرج بمن معه حتى لحق بابن هبيرة بواسط.
وكان سبب قتل قحطبة - فيما قال هؤلاء - أنّ أحلم بن إبراهيم بن بسام مولى بني ليث قال: لما رأيت قحطبة في يالفرات، وقد سبحت به دابته حتى كادت تعبر به من الجانب الذي كنت فيه أنا وبسام بن إبراهيم أخي - وكان بسام على مقدّمة قحطبة - فذكرت من قتل من ولد نصر بن سيار وأشياء ذكرتها منه؛ وقد أشفقت على أخي بسام بن إبراهيم لشيء بلغه عنه، فقلت: لا طلبت بثأر أبداً إن نجوت الليلة. قال: فأتلقاه وقد صعدت به دابّته لتخرج من الفرات وأنا على الشطّ، فضربته بالسيف على جبينه، فوثب فرسه، وأعجله الموت؛ فذهب في الفرات بسلاحه. ثم أخبر ابن حصين السعديّ بعد موت أحلم بن إبراهيم بمثل ذلك، وقال: لولا أنه أقرّ بذلك عند موته ما أخبرتُ عنه بشيء.
ذكر خبر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوّداً قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد بالكوفة، وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة، وخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن.
ذكر الخبر عمّا كان من أمر من ذكرت

ذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: خرج محمّد بن خالد بالكوفة في ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثيّ، وعلى شرطه عبد الرحمن ابن بشير العجليّ؛ وسوّد محمد وسار إلى القصر، فارتحل زياد بن صالح وعبد الرحمن بن بشير العجليّ ومن معهم من أهل الشأم، وخلّوا القصر، فدخله محمد بن خالد، فلما أصبنح يوم الجمعة - وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك قحطبة - بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيّأ للمسير إلى محمد، فتفرّق عن محمد عامة من معه حيث بلغهم نزول حوثرة مدينة ابن هبيرة، ومسيره إلى محمد لقتاله؛ إلاّ فرساناً من فرسان أهل اليمن، ممن كان هرب من مروان ومواليه. وأرسل إليه أبو سلمة الخلال - ولم يظهر بعد - يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات؛ فإنه يخاف عليه لقلة من معه وكثرة من مع حوثرة - ولم يبلغ أحداً من الفريقين هلاك قحطبة - فأبىة محمد بن خالد أن يفعل حتى تعالى النهار، فتهيّأ حوثرة للمسير إلى محمد بن خالد؛ حييث بلغه قلّة من معه وخذلان العامة له، فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: خيل قد جاءت من أهل الشأم، فوجّه إليهم عدّة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بن سعد؛ إذ طلعت الرّايات لأهل الشأم، فتهيئوا لقتالهم، فنادى الشأميون: نحن بجيلة، وفينا مليح بن خالد البجليّ، جئنا لندخل في طاعة الأمير. فدخلوا، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل، فلما رأى ذلك حوثرة من صنيع أصحابه، ارتحل نحو واسط بمن معه، وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة؛ وهو لا يعلم بهلكه؛ يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، وعجل به مع فارس؛ فقدم على الحسن بن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس، ثم ارتحل نحو الكوفة، فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة والسبت والأحد وصبّحه الحسن يوم الاثنين، فأتوا أبا سلمة وهو في بني سلمة فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثم ارتحل إلى حمّام أعين، ووجّه الحسن ابن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة.
وأما عليّ بن محمد، فإنه ذكر أن عمارة مولى جبرائيل بن يحيى أخبره، قال: بايع أهل خراسان الحسن بعد قحطبة، فأقبل إلى الكوفة، وعليها يومئذ عبد الرحمن بن بشير العجليّ، فأتاه رجل من بني ضبّة، فقال: إن الحسن داخل اليوم أو غداً؛ قال: كأنك جئت ترهبني! وضربه ثلثمائة سوط. ثم هرب فسوّد محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ، فخرج في أحد عشر رجلاً، ودعا الناس إلى البيعة، وضبط الكوفة، فدخل الحسن من الغد، فكانوا يسألون في الطريق: أين منزل أبي سلمة، وزير آل محمد؟ فدلّوهم عليه، فجاءوا حتى وقفوا على بابه، فخرج إليهم، فقدّموا له دابة من دواب قحطبة فركبها، وجاء حتى وقف في جبّانة السبيع، وبايع أهل خراسان، فمكث أبو سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع - يقال له وزير آل محمد - واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله القسريّ على الكوفة - وكان يقال له الأمير - حتى ظهر أبو العباس.
وقال عليّ: أخبرنا جبلة بن فرّوخ وأبو صالح المروزيّ وعمارة مولى جبرائيل وأبو السريّ وغيرهم ممّن قد أدرك أوّل دعوة بن يالعباس، قالوا: ثم وجّه الحسن ابن قحطبة إلى ابن هبيرة بواسط، وضمّ إليه قوّاداً، منهم خازم بن خزيمة ومقاتل بن حكيم العكيّ وخفّاف بن منصور وسعيد بن عمرو وزياد بن مشكان والفضل بن سليمان وعبد الكريم بن مسلم وعثمان بن نهيك وزهير بن محمد والهيثم بن زياد وأبو خالد المروزيّ وغيرهم، ستة عشر قائداً وعلى جميعهم الحسن بن قحطبة. ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قوّاد؛ منهم عبد الرحمن بن نعيم ومسعود بن علاج؛ كلّ قائد في أصحابه. وبعث المسيّب بن زهير وخالد بن برمك إلى ديرقني، وبعث المهلبيّ وشراحيل في أربعمائة إلى عين التمر، وبسّام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة. فلما أتى بسام الأهواز خرج عبد الواحد إلى البصرة، وكتب مع حفص بن السبيع إلى سفيان بن معاوية بعهده على البصرة، فقال له الحارث أبو غسان الحارثيّ - وكان يتكهّن وهو أحد بني الديّان: لا ينفذ هذا العهد. فقدم الكتاب على سفيان، فقاتله سلم بن قتيبة، وبطل عهد سفيان. وخرج أبو سلمة فعسكر عند حمّام أعين، على نحو من ثلاثة فراسخ من الكوفة، فأقام محمد بن خالد بن عبد الله بالكوفة.

وكان سبب قتال سلم بن قتيبة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب - فيما ذكر - أن أبا سلمة الخلال وجّه إذ فرّق العمال في البلدان بسام بن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد بن عمر بن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضّه، فلحق سلم بن قتيبة الباهليّ بالبصرة؛ وهو يومئذ عامل ليزيد بن عمر بن هبيرة. وكتب أبو سلمة إلى الحسن بن قحطبة أن يوجّه إلى سلم من أحبّ من قوّاده، وكتب إلى سفياين بن معاوية بعهده على البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس، ويدعو إلى القائم منهم؛ وينفي سلم ابن قتيبة. فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحوّل عن دار الإمارة، ويخبره بما أتاه من رأى أبي سلمة؛ فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة غيرهم، وجنح إليه قائد من قوّاد ابن هبيرة؛ وكان بعثه مدداً لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم بن قتيبة، فاستعدّ له سلم، وحشد معه من قدر عليه من قيس وأحياء مضر ومن كان بالبصرة من بني أمية ومواليهم، وسارعت بنو أمية إلى نصره.
فقدم سفيان يوم الخميس وذلك في صفر؛ فأتى المربد سلم، فوقف منه عند سوق الإبل، ووجّه الخيول في سكة المربد وسائر سكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان، ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، ومن جاء بأسير فله ألف درهم. ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة خاصةً، فلقيه خيل من تميم في السكة التي تأخذ إلى بني عامر في سكّة المربد عند الدار التي صارت لعمر بن حبيب، فطعن رجل منهم فرس معاوية، فشبّ به فصرعه؛ فنزل إليه رجل من بني ضبّة يقال له عياض، فقتله، وحمل رأسه إلى سلم بن قتيبة، فأعطاه ألف درهم، فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه، وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتى القصر الأبيض فنزلوه، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر.
وقدم على سلم بعد غلبته على البصرة جابر بن توبة الكلابيّ والوليد بن عتبة الفراسيّ، من ولد عبد الرحمن بن سمرة في أربعة آلاف رجل، كتب إليهم ابن هبيرة أن يصيروا مدداً لسلم وهو بالأهواز، فغدا جابر بمن معه على دور المهلب وسائر الأزد، فأغاروا عليهم، فقاتلهم من بقي من رجال الأزد قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى فيهم؛ فانهزموا، فسبى جابر ومن معه من أصحابه النساء، وهدموا الدور وانتهبوا؛ فكان ذلك من فعلهم ثلاثة أيام؛ فلم يزل سلم مقيماً بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها فاجتمع من البصرة من ولد الحارث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أياماً يسيرة، حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعيّ من قبل أبي مسلم، فوليها خمسة أيام، فلما قام أبو عباس ولاّها سفيان بن معاوية.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع لأبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدّثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال هشام بن محمد. وأما الواقديّ فإنه قال: بويع لأبي العباس بالمدينة بالخلافة في جمادى الأولى في سنة ثنتين وثلاثين ومائة.
قال الواقديّ: وقال لي أبو معشر: في شهر ربيع الأول سنة ثنتين وثلاثين ومائة؛ وهو الثّبت.
خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن عليّ ابن عبد الله بن عباس
ذكر الخبر عن سبب خلافتهوكان بدء ذلك - فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه أعلم العباس ابن عبد المطلب أنه تؤول الخلافة إلأى ولده، فلم يزل ولده يتوقّعون ذلك، ويتحدّثون به بينهم.
وذكر عليّ بن محمد أن إسماعيل بن الحسن حدّثه عن رشيد بن كريب، أنّ أبا هاشم خرج إلى الشأم، فلقي محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، فقال: يا بن عمّ، إن عندي علماً أنبذه إليك فلا تطلعنّ عليه أحداً؛ إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس، فيكم. قال: قد علمت فلا يسمعنّه منك أحد.
قال عليّ: وأخبرنا سليمان بن داود، عن خالد بن عجلان، قال: لما خالف ابن الأشعث، وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس؛ إنما كنا نتخوّف لو كان من خراسان.

وقال عليّ: أخبرنا الحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ التاجيّ ويحيى بن طفيل والنعمان بن سريّ وأبو حفص الأزدي وغيرهم أن الإمام محمد بن عليّ ابن عبد الله بن عباس، قال: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق بإفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاة، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب، ويستخرجوا ما كنز الجبّارون فيها. فلمّا قتل يزيد بن أب يمسلم بإفريقية، ونقضت البربر، بعث محمد بن عليّ رجلاً إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمّي أحداً.
وقد ذكرنا قبل خبر محمد بن عليّ، وخبر الدّعاة الذي وجههم إلى خراسان. ثم مات محمد بن عليّ وجعل وصيّه من بعده ابنه إبراهيم؛ فبعث إبراهيم بن محمد إلى خراسان أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه وقام فيهم، ثم رجع إليه فردّه ومعه أبو مسلم. وقد ذكرنا أمر أبي مسلم قبل وخبره.
ثم وقع في يد مروان بن محمد كتاب لإبراهيم بن محمد إلى أبي مسلم، جواب كتاب لأبي مسلم يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربيّة بخراسان. فكتب مروان إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة، ويأخذ إبراهيم بن محمد ويوجّه به إليه. فذكر أبو زيد عمر بن شبّة أن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، حدّثه عن عثمان بن عروة ابن محمد بن عمار بن ياسر، قال: إني مع أبي جعفر بالحميمة ومعه ابناه محمد وجعفر، وأنا أرقّصهما، إذ قال لي: ماذا تصنع؟ أما ترى إلى ما نحن فيه! قال: فنظرت فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، قال: فقلت: دعني أخرج إليهم، قال: تخرج من بيتي وأنت ابن عمار بن ياسر! قال: فأخذوا أبواب المسجد حين صلوا الصبحح، ثم قالوا للشاميّين الذين معهم: أين إبراهيم بن محمد؟ فقالوا: هو ذا، فأخذوه؛ وقد كان مروان أمرهم بأخذ إبراهيم، ووصف لهم صفة أبي العباس التي كان يجدها في الكتب أنه يقتلهم؛ فلما أتوه بإبراهيم، قال: ليس هذه الصّفة التي وصفت لكم، فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، فردّهم في طلبه، ونذروا، فخرجوا إلى العراق هرّاباً.
قال عمر: وحدّثني عبد الله بن كثير بن الحسن العبديّ، قال: أخبرني عليّ بن موسى، عن أبيه، قال: بعث مروان بن محمد رسولاً إلى الحميمة يأتيه بإبراهيم بن محمد، ووصف له صفته، فقدم الرسول فوجد الصفة صفة أبي العباس عبد الله بن محمد، فلما ظهر إبراهيم بن محمد وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم؛ وهذا عبد الله! فلما تظاهر ذلك عنده ترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به. قال: فشخصت معه أنا وأناس من بني العباس ومواليهم، فانطلق بإبراهيم، ومعه أمّ ولد له كان بها معجباً، فقلنا له: إنما أتاك رجل، فهلمّ فلنقتله ثم ننكفىء إلى الكوفة، فهم لنا شيعة، فقال: ذلك لكم، قلنا: فأمهل حتى نصير إلى الطريق التي تخرجنا إلى العراق. قال: فسرنا حتى صرنا إلى طريق تتشعّب إلى العراق، وأخرى إلى الجزيرة، فنزلنا منزلاً؛ وكان إذا أراد التعريس اعتزل لمكان أمّ ولده، فأتينا للأمر الذي اجتمعنا عليه، فصرخنا به، فقام ليخرج فتعلقت به أم ولده، وقالت: هذا وقت لم تكن تخرج فيه؛ فما هاجك! فالتوى عليها، فأبت حتى أخبرها، فقالت: أنشدك الله أن تقتله فتشأم أهلك! والله لئن قتلته لا يبقي مروان من آل العباس أحداً بالحميمة إلاّ قتله؛ ولم تفارقه حتى حلف لها ألا يفعل، ثم خرج إلينا وأخبرنا، فقلنا: أنت أعلم.
قال عبد الله: فحدثني ابن لعبد الحميدي بن يحيى كاتب مروان، عن أبيه، قال: قلت لمروان بن محمد: أتتّهمني؟ قال: لا، قلت: أفيحطك صهره؟ قال: لا، قلت: فإني أرى أمره ينبغ عليك فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر كنت قد أعلقت بينك وبينه سبباً لا يريبك معه، وإن كفيته لم يشنك صهره. قال: ويحك! والله لو علمته صاحب ذاك لسبقت إليه؛ ولكن ليس بصاحب ذلك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35