كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

قال أبو جعفر: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في قول عامّة أهل الكتاب الأوّل، وقبل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم. وقيل إنه كان على مقدمة ذي القَرْنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قضى له ببئر السبع - وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردنّ - وإنّ قوماً من أهل الأردنّ ادّعوا الأرض التي كان احتفر بها إبراهيم بئره، فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين الذي ذكر أن الخَضِر كان على مقدمته أيامَ سَيْره في البلاد، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهرَ الحياة، فشرب من مائه وهو لا يعلم، ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه، فخلِّد، فهو حيّ عندهم إلى الآن.
وزعم بعضهم أنه من ولد مَن كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن، واتبعه على دينه، وهاجر معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها. وقال: اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال: وكان أبوه ملكاً عظيماً.
وقال: آخرون ذو القرنين الذي كان على عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو أفريدون بن أثفيان، قال: وعلى مقدمته كان الخضر.
وقال عبد الله بن شوذب فيه ما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال: حدثنا محمد بن المتوكل، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن عبد الله بن شَوْذب، قال: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في كلّ عام بالموسم.
وقال ابن إسحاق فيه ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: بلغني أنه استخلف الله عزّ وجلّ في بني إسرائيل رجلاً منهم، يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله عزّ وجلّ لهم الخضر نبيَّاً. قال: واسم الخضر - فيما كان وهب بن منبّه يزعم عن بني إسرائيل - أو رميا بن خلقيا، وكان من سبْط هارون بن عمران. وبين هذا الملك الذي ذكره ابن إسحاق وبين أفريدون أكثر من ألف عام.
وقول الذي قال: إن الخضر كان في أيام أفريدون وذي القرنين الأكبر وقبل موسى بن عمران أشبه بالحق إلا أن يكون الأمر كما قاله مًنْ قال إنه كان على مقدمة ذي القرنين صاحب إبراهيم، فشرب ماء الحياة، فلم يبعث في أيام إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبيّاً، وبعث أيام ناشية بن أموص؛ وذلك أنّ ناشية بن أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكاً على بني إسرائيل، كان في عهد بشتاسب بن لهراسب، وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور والأزمان ما لا يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم، وسأذكر مبلغ ذلك إذا انتهينا إلى خبر بشتاسب إن شاء الله تعالى.
وإنما قلنا: قول من قال: كان الخضر قبل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم أشبهُ بالحق من القول الذي قاله ابن إسحاق وحكاه عن وهب بن منبّه، للخبر الذي رَوَىَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، أنّ صاحب موسى بن عمران - وهو العالم الذي أمره الله تبارك بطلبه إذ ظن أنه لا أحدَ في الأرض أعلم منه - هو الخضر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمَ خلق الله بالكائن من الأمور الماضية، والكائن منها الذي لم يكن بعد.

والذي روى أبيّ بن كعب في ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد، قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، فقال كذبَ عدو الله، حدثنا أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن موسى قام في بني إسرائيل خطيباً فقيل: أيّ الناس أعلم. فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: بل عبدٌ لي عند مجمع البحرين، فقال: يا ربّ، كيف به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكْتل فحيث تفقده فهو هناك. قال: فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، ثم قال لفتاه: إذا فقدتَ هذا الحوت فأخبرني. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا صخرة، فرقّد موسى فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج فوقع في البحر، فأمسك الله عنه جَرْية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرَباً، وكان لهما عجباً. ثم انطلقا، فلما كان حين الغذاء قال موسى لفتاه: " آتِنَا غَذَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذَا نَصَباً " قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوز حيث أمَره الله، قال: فقال: " أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فإني نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أذْكُرَهُ وَاُتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً " قال: فقال: " ذَلكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً " . قال: يقّصان آثارهما. قال: فأتيا الصخرة فإذا رجل نائم مسجَّى بثوبه، فسلّم عليه موسى فقال: وأنَّى بأرضنا السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى، إني على علْم من علم الله، علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك على أن تعلمني ممَّا عُلمْتَ رُشْداً. " قال فَإِنِ اُتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً " . فانطلقا يمشيان على الساحل، فإذا بملاح في سفينة، فعرف الخضر، فحمله بغير نَوْل، فجاء عصفور فوقع على حرفها فنقر - أو فنقد - في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر - أو نقد - هذا العصفور من البحر.
قال أبو جعفر: أنا أشكُّ، وهو في كتابي هذا " نقر " قال: فبينما هم في السفينة لم يُفجأ موسى إلا وهو يتد وتداً أو ينزع تخْتاً منها، فقال له يا موسى: حمَلنا بغير نَوْل وتخرقها لتُغْرقَ أهْلها! " لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً، قَالَ أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْراً لاَ تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ " - قال: فكانت الأولى من موسى نسياناً - قال: ثم خرجا فانطلقا يمشيان، فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: " أَقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً، أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيْعَ مَعِيَ صَبْراً، قَالَ إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذراً " .
فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها، فلم يجدا أحداً يطعمهم ولا يسقيهم، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه بيده - قال: مسحه بيده - فقال له موسى: لم يُضيفونا ولم ينزلونا، " لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً " . " قَالَ هذا فِراقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ " قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لوددت أنه كان صبَر حتى يقصّ علينا قصصهم " .

حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى عليه السلام الذي سأل السبيلَ إلى لقائه، فهل سمعت رسول الله يذكر شأنه؟ قال: نعم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينا موسى عليه السلام في ملأِ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد اعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى إلى موسى: بَلى عبدنا الخَضِر، فسأل موسى السبيلَ إلى لقائه، فجعل الله الحوت آية، وقال له: إذا افتقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت، - في البحر فقال فتى موسى لموسى: " أرأيْت إذْ أوَيْنا إلى الصخرةِ فإني نسيتُ الحوتَ " - ، وقال موسى: " ذلك ما كُنّا نَبْغِ فارتدَّا على آثارهما قصَصاً " ، فوجدا الخضر، فكان من شأنهما ما قصّ الله في كتابه " .
حدثني محمد بن مرزوق قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا عبد الله بن عمر النيمريّ، عن يونس بن يزيد، قال: سمعت الزهريّ يحدث قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى، فذكر نحو حديث العباس عن أبيه.
حدثنا محمد بن مسعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس؛ قوله: " وإذْ قال موسى لفتاهُ لا أبْرَحُ حتى أبْلُغَ مجْمَعَ البحرينِ... " الآية، قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر نزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار، أنزل الله عزّ وجلّ عليه: أن ذكِّرهم بأيام الله. فخطب قومه، فذكَر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكَّرهم إذ أنجاهم الله من آل فرعون، وذكّرهم هلاك عدوهم، وما استخلفهم الله في الأرض، فقال: وكلم الله موسى نبيكم تكليماً، واصطفاني لنفسه، وأنزل على محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة. فلم يترك نعمة أنعمها الله عليهم إلا ذكرها وعرّفها إياهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: هو كذلك يا نبيّ الله، وقد عرفْنا الذي تقول، فهل على الأرض أحدٌ أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا، فبعث الله عزّ وجلّ جبرئيل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن على شطّ البحر رجلاً أعلم منك - قال ابن عباس: هو الخضر - فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى الله إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتاً فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شطّ البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثمّ تجد العبد الصالح الذي تطلب.
فلما طال سفر موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: " أرأيت إذْ أويْنا إلى الصخرةِ فإني نسيت الحوتَ، وما أنسانيه إلا الشيطانُ أنْ أذكُره " لك. قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سرباً. فأعجب ذلك موسى فرجع حتى أتي الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرج بها عنه الماء، يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئاً من الماء إلا يبس حتى يكون صخرة، فجعل نبي الله صلى الله عليه يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر بها، فسلّم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض! ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال له: الخضر صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، فرحَّب به وقال: ما جاء بك؟ جئت على أن تعلّمني مما علمت رشداً، قال: " إنك لن تستطيعَ معيَ صبراً " ، يقول: لا تطيق ذلك، قال موسى: " ستجدُني إنْ شاء اللهُ صابراَ ولا أعصي لك أمراً " . قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: " حتى أُحْدِثَ لك منه ذِكْراً " . فركبا في السفينة يريدان أن يتعديا إلى البرّ، فقال الخضر، فخرق السفينة فقال له موسى: :أخرقْتَها لتُغرِقَ أهلها لقد جئتَ شيئاً إمْراً " ... ثم ذكر بقية القصّة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّيّ، عن هارون بن عنترة عن أبيه، عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه عزّ وجلّ فقال: أي ربّ؛ أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال أيّ ربٍّ، أيُّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علْم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو تردّه عن ردّي، قال: ربّ فهل في الأرض أحد - قال أبو جعفر أظنه قال: أعلم مني؟ قال: نعم، قال: ربّ، فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أطلبه؟ قال: على الساحل، عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكره الله عز وجل وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلّم كلُّ واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أريد أن تستصحبني، قال: لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتي " فلا تسألني عن شيء حتى أحْدِثَ لك منه ذِكْراً، فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقَها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمْراً، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معيّ صبراً، قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا تُرهقْني من أمري عُسْراً، فانطلقا حتى إذا لقيا غُلاماً فقتله قال أقتلْتَ نَفْساً زاكيةً بغير نفْسٍ لقد جئت شيئاً نُكْراً " ، إلى قوله: " لاتّخذت عليه أجراً " .
قال: فكان قول موسى في الجدار لنفسه " لاتّخذت عليه أجراً " ولطلب شيء من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله عز وجل. " قال هذا فراق بيني وبينك سأُنبِّئك بتأويلِ ما لم تستطعْ عليه صبراً " ، فأخبره بما قال الله: " أما السفينة فكانت لمساكينَ... " الآية، " وأما الغلام.... " الآية، " وأما الجدارُ... " الآية. قال: فسار به في البحر حتى انتهى به إلى مجمع البحرين، وليس في الأرض مكان أكثر ماءً منه، قال: وبعث ربك الخُطّاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخُطّاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقلّ ما رزأ! قال: يا موسى فإنّ علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخُطّاف من هذا الماء. وكان موسى عليه السلام قد حدّث نفسه أنه ليس أحدُ أعلمَ منه، أو تكلم به؛ فمن ثَمّ أمِر أن يأتي الخضر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفرٌ من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس إن نَوْفاً ابن امرأة كعب، ذكر عن كعب أن موسى النبي عليه السلام الذي طلب العالم إنما هو موسى بن منشا. قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوْفٌ يقول هذا؟ قال سعيد: فقلت له: نعم، أنا سمعت نوْفاً يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم، قال: كذب نوْف. ثم قال ابن عباس: حدثني أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى نبيّ إسرائيل سأل ربه تبارك وتعالى فقال: أيّ رب، إن كان في عبادك أحدٌ أعلم مني فادللني عليه، فقال له: نعم في عبادي مٍنْ هو أعلم منك، ثم نعَت له مكانه، وأذن له في لقائه، فخرج موسى عليه السلام ومعه فتاه، ومعه حوت مليح قد قيل له: إذا حَيِيَ هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك، وقد أدركتَ حاجتهم.

فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء وذلك الماء، ماء الحياة، مَنْ شرب منه خُلِّد، ولا يقاربه شيء ميت إلا أدركته الحياة وحيي. فلما نزلا منزلاً ومسّ الحوتُ الماء حيي، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فانطلق فلما جاوزا بمنقلة قال موسى لفتاه: " آتِنا غَذاءَنا لقد لَقَينا منْ سفرِنا هذا نصَباً " . قال الفتى وذكر: " أرأيت إذ أويْنا إلى الصخرة فإني نسيتُ الحوتَ وما أنسانيه إلا الشيطان أنْ أذكُرَه واتخذ سبيلَه في البحر عجباً " . قال ابن عباس: وظهر موسى على الصخرة حتى انتهيا إليه، فإذا رجل متلفّف في كساء له، فسلم عليه موسى، فرد عليه السلام، ثم قال له: ومنْ أنت؟ قال: أنا موسى ابن عمران، قال: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم أنا ذلك، وما جاء بك إلى هذه الأرض؛ أنْ لك في قومك لشُغْل! قال له موسى: جئتك لتعلّمني مما عُلّمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، وكان رجلاً يعمل على الغيب قد علم ذلك، فقال موسى: بلى، قال: " وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبْراً " ، أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ولم تُحط من علم الغيب بما أعلم. " قال ستجدني إنْ شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمْراً " وإن رأيتُ ما يخالفني. قال: " فإن اتَّبعْتَني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحْدِثَ لك منه ذِكْراً " ، أي فلا تسألني عن شيء وإن أنكرته حتى أحدث لك منه ذكراً، أي خبراً. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان الناس، يلتمسان منْ يحملهما حتى مرّت بهما سفينة جديدة وثيقة، لم يمرّ بهما شيء من السفن أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما اطمأنّا فيها، ولجّجت بهما مع أهلها، أخرج منقاراً ومطْرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحاً فطبّقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، قال له موسى: فأيّ أمر أفظع من هذا! " أخرقتها لتُغرِق أهلها لقد جئت شيئاً إمْراً " ! حملونا وآوونا إلي سفينتهم، وليس في البحر سفينة مثلها، فلم خرقتها! قال: " ألم أقلْ إنك لن تستطيعَ معيَ صبْراً، قال لا تؤاخذْني بما نسيت " ، أي بما تركت من عهدك " ولا ترهِقْني منْ أمْري عُسراً " . ثم خرجا من السفينة، فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية، فإذا غلمان يلعبون، فيهم غلامٌ ليس في الغلمان غلام أظرفُ ولا اترفُ ولا أوضأ منه، فأخذ بيده وأخذ حجراً فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله. قال: فرأى موسى أمراً فظيعاً لا صبْرَ عليه، صبيّ صغير قتله بغير جناية ولا ذنب له! فقال: " أقتلت نفْساً زاكية بغير نفسٍ " ، أي صغيرة بغير نفس، " لقد جئت شيئاً نُكراً، قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معيَ صبراً، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تُصاحبْني قد بلغتَ منْ لدُنِّي عُذراً " ، أي قد أعذرت في شأني. " فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلَها فأَبْوا أن يُضيفوهما فوَجَدا فيها جداراً يريدُ أن ينقضَّ فأقامه:، فهدمه ثم قعد يبينه، فضجر موسى مما رآه يصنع من التكلف لما ليس عليه صبر، فقال: " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " أي قد استطعمناهم فلم يُطعمونا، واستضفناهم فلم يُضيفونا، ثم قعدت تعمل في غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجراً في عمله " قال هذا فِراقٌ بيني وبينكً سأُنبِّئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، أما السفينة فكانت لمساكينَ يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملِكٌ يأخذ كل سفينةٍ - وفي قراءة أبيّ بن كعب: كلَّ سفينة صالحة - غصباً " ، وإنما عبتها لأردّه عنها، فسلمتْ منه حين رأى العيب الذي صنعتُ بها. " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخَشَيْنا أن يُرهقَهما طُغيَاناً وكُفْراً، فأردنا أن يُبْدِلُهُما ربُّهُما خيراً منهُ زكاةً وأقربَ رُحْماً، وأما الجدارُ فكان لغُلامين يتيمين في المدينةِ وكان تحته كنزٌ لهُما وكان أبُهُما صالحاً " - إلى - " ما لم تستطع عليه صبراً " . فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنز إلا علماً.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن أبيه، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه! فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى، قال: شرب الفتى من ماء الخلد فخلِّد، فأخذه العالم فطابق به سفينة، ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن شعبة، عن قتادة، قوله: " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتَهما " ، ذُكر لنا أن نبي الله موسى لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل فخطبهم فقال: أنتم خيرُ أهل الأرض وأعلمُهم قد أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر وأنزل عليكم التوراة، قال: فقيل له: إن ها هنا رجلاً هو أعلم منك قال: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، فتزودا مملوحة في مكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيّماً ما معكما لقيتما رجلاً عالماً يقال له الخضر، فلما أتيا ذلك المكان، رد الله إلى الحوت روحَه فسرَّب له من الجُدّ حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقاً إلا صار ماء جامداً، قال: ومضى موسى وفتاه، يقول الله عز وجل: :فلما جاوزوا قال لفتاه آتنا غَذاءنا لقد لقِينا من سفرنا هذا نصَباً " - إلى قوله - : " وعلّمناه منْ لدُنّا عِلماً " ، فلقيا رجلاً عالماً يقال له الخِضر، فذُكر لنا أن نبيّ الله قال: إنما سمي الخِضر خضراً لأنه قعد على فروة بيضاء فاهتزّت به خضراء.
فهذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف من أهل العلم تنبئ عن أن الخِضرَ كان قبل موسى وفي أيامه، ويدلّ على خطأِ قول من قال: إنه أورميا بن خلقيا، لأن أورميا كان في أيام بختنصّر، وبين عهدي موسى وبختنصّر من المدة ما لا يشكل قدرها على أهل العام بأيام الناس وأخبارهم؛ وإنما قدمنا ذكره وذكر خبره لأنه كان في عهد أفريدون فيما قيل؛ وإن كان قد أدرك على هذه الأخبار التي ذكرت من أمره وأمر موسى وفتاه أيام منُوشهر وملكه، وذلك أن موسى إنما نُبّئ في عهد منوشهر، وكان ملك منوشهر بعد ما ملك جده أفريدون، فكلّ ما ذكرنا من أخبار مَن ذكرنا أخباره من عهد إبراهيم إلى الخبر عن الخضر عليهما السلام، فإن ذلك كله - فيما ذكر - كان في ملك بِيُورَاسب وأفريدون، وقد ذكرنا فيما مضى قبل أخبارَ أعمارهما ومبلغهما ومدة كل واحد منهما.
ونرجع الآن إلى الخبر عن:
منوشهر

وأسبابه والحوادث الكائنة في زمانه
ثم ملك بعد أفردون بن أثفيان بركاو مِنوشِهر، وهو من ولد ابرَج بن أفريدون.
وقد زعم بعضهم أن فارس سميت بمنوشهر هذا، وهو منوشهر كيازيه - فيما يقول نسابة الفرس - بن منشخورنر بن منشخوا ربغ ابن ويرك بن سروشنك بن أبوك بن بتك بن فرزشك بن زشك ابن فركوزك بن كوزك بن إيرَح بن أفريدون بن أثفيان بركاو.
وقد ينطق بهذه الأسماء بخلاف هذه الألفاظ.
وقد يزعم بعض المجوس أن أفريدون وطئ ابنةً لابنه أيرَح، يقال لها كوشك، فولدت له جارية يقال لها فركوشك، ثم وطئ فركوشك هذه فولدت له جارية يقال لها زوشك، ثم وطئ زوشك هذه، فولدت له جارية يقال لها بيتك، ثم وطئ بيتك هذه فولدت له جارية يقال هل إيرك، ثم وطئ إيرك فولدت له إيزك، ثم وطئ إيزك فولدت له ويرك، ثم وطئ ويرك فولدت له منشخرفاغ. ويقول بعضهم: منشخواربغ وجارية يقال لها: منشجرك، وأن منشخرفاغ وطئ منشجرك فولدت له منشخرنر، وجارية يقال لها منشراروك، وأن منشخرنر وطئ منشراروك فولدت له منوشهر.
فيقول بعضهم كان مولده بدُنْباوند.
ويقول بعض: كان مولده بالرّيّ، وإن منشخرنر ومنشراروك لما ولد لهما منوشهر أسرّا أمره خوفاً من طوج وسَلْم عليه، وإن منوشهر لما كبر صار إلى جده أفريدون، فلما دخل عليه توسّم فيه الخير، وجَعل له ما كان جعل لجده إيرج من المملكة، وتوجّه بتاجه.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن منوشهر هذا هو منوشهر بن منشخرنر ابن أفريقيس بن إسحاق بن إبراهيم؛ وأنه انتقل إليه الملك بعد أفريدون وبعد أن مضى ألف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، من عهد جيومرت، واستشهد لحقيقة ذلك بأبيات لجرير بن عطية، وهو قوله.
وأبناءُ إسحاقَ اللُّيوثُ إذا ارْتدَوا ... حمائل موتٍ لابسين السَّنوَّرا

إذا انتسبوا عدوّاً الصبهبذ منهمُ ... وكسرى وعدواً الهُرمُوانَ وقَيْصَرا
وكان كتابٌ فيهِمُ ونُبُوةٌ ... وكانوا بإصْطخْرَ الملوكَ وتُستَرا
فيجمعُنا والغُرَّ أبناء فارس ... أبٌ لا نُبالي بعْدَه مَنْ تأخّرا
أبُونا خليلُ اللهِ، واللهُ ربُّنا ... رضينا بما أعطى الإلهُ وقدّرا
وأما الفرس فإنها تنكر هذا النسب، ولا تعرف لها مُلْكاً إلا في أولاد أفريدون، ولا تقرُّ بالملك لغيرهم، وترى أن داخلاً إن كان دخل عليهم في ذلك من غيرهم في قديم الأيام - قبل الإسلام - ، فإنه دخل فيه بغير حق.
وحدّثت عن هشام بن محمد، قال: مَلك طوج وسلْمِ الأرضَ بينهما بعد قتلهما أخاهما إبرَج ثلاثمائة سنة، ثم ملك منوشهر بن إيرَج بن أفريدون مائة وعشرون سنة، ثم إنه وثب به ابن لابن طوج التركي - على رأس ثمانين سنة - فنفاه عن بلاد العراق اثنتي عشرة سنة، ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانياً وعشرين سنة.
قال: وكان منوشهر يُوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خَندق الخنادق، وجمع آلة الحرب، وأول مَنْ وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها له خَولاً وعبيداً، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. قال: ويقال إن موسى النبي صلى الله عليه وسلم ظهر في سنة ستين من ملكه.
وذكر غير هشام أن منوشهر لما ملك تُوِّج بتاج الملك وقال يوم ملك: نحن مقوّون مقاتلينا، ومُعدّوهم للانتقام لأسلافنا، ودفع العدو عن بلادنا. وأنه سار نحو بلاد الترك طالباً بدم جده إيرَج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سَلْماً، وأدرك ثأره وانصرف، وأن فرَاسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك - الذي تنسب إليه الأتراك، بن شهراسب. ويقال: ابن إرشسب بن طوج بن أفريدون الملك. وقد يقال لفشك فشنج بن زاشمين - حارب منوشهر، بعد أن مضى لقتله طوجاً وسَلْماً سنوت سنة، وحاصره بطبرِستان.
ثم إن منوشهر وفَراسياب اصطلحا على أن يجعلا حدَّ ما بين مملكتيهما منتهى رمْية سهم رجل من أصحاب منوشهر يدعى أرِشبّاطير - وربما خفف اسمه بعضهم فيقول: إيرش - فحيث ما وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي بلاد الترك فهو الحدُّ بينهما لا يجاوز ذلك واحد منهما إلى الناحية الأخرى. وإن أرشباطير نزع بسهم في قوسه، ثم أرسله - وكان قد أعطى قوة وشدة - فبلغت رميته من طبرِستان إلى نهر بلْخ ووقع السهم هنالك، فصار نهر بلْخ حدَّ ما بين الترك وولد طوج وولد إيرج وعمل الفرس، فانقطع بذلك من رمية أرشباطير حروب ما بين فراسياب ومنوشهر.
وذكروا أن منوشهر اشتقّ من الصّراة ودِجلة ونهر بلْخ أنهاراً عظاماً. وقيل إنه هو الذي كرا الفُرات الأكبر، وأمر الناس بحراثة الأرض وعمارتها، وزاد في مهنة المقاتِلة الرمي، وجعل الرئاسة في ذلك لأرشباطير لرميتِه التي رماها.

وقالوا: إن منوشهر لما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة تناولت الترك من أطراف رعيته، فوبّخ قومه وقال لهم: أيها الناس، إنكم لم تلدوا الناس كلهم، وإنما الناس ناسٌ ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدو عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد عدوكم، وقلة المبالاة، وإن الله تبارك وتعالى أعطانا هذا الملك ليبلوَنا أنشكرُ فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا! ونحن أهل بيت عز ومعدن الملك لله؛ فإذا كان غداً فاحضروا، قالوا: نعم واعتذروا، فقال: انصرفوا، فلما كان من الغد أرسلَ إلى أهل المملكة وأشراف الأساورة، فدعاهم وأدخل الرؤساء من الناس، ودعا موْبذ موبذان، فأقعد على كرسيّ مقابل سريره، ثم قام على سريره، وقام أشراف أهل بيت المملكة وأشراف الأساورة على أرجلهم، فقال: اجلسوا فإني إنما قمت لأسمِعَكم كلامي. فجلسوا فقال: أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالباً كان أو مطلوباً، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء بعد ذهاب أصله! وإن الله عز وجل أعطانا هذا الملك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن للملك على أهل مملكته حقّاً، ولأهل مملكته عليه حقاً، فحق الملك على أهل المملكة أن يُطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقهم على الملك أن يعطيَهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتَمد لهم على غيرها، وإنها تجارتهم، وحق الرعية على الملك أن ينظر لهم، ويرفُق بهم، ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض أن يُسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عماراتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، وأمْر الجند للملك بمنزله جناحي الطائر، فهم أجنحة الملك متى قُص من الجناح ريشة كان ذلك نقصاناً منه؛ فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه. ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقاً لا يكذب، وأن يكون سخياً لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب؛ فإنه مسلَّط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فيبتغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو؛ فإنه لا ملكَ أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلَك من ملك فيه العقوبة. ألا وإن المرء إن يخطئ في العفو فيعفو، خير من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي للملك أن يتثبّت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا ينبغي له أن يحابيَه، وليجمع بينه وبين المتظلّم؛ فإن صحّ عليه للمظلوم حتى خرج إليه منه، وإن عجز عنه أدى عنه الملكُ وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد؛ فهذا لكم علينا. ألا ومَن سفك دماً بغير حق، أو قطع يداً بغير حق، فإني لا أعفو عن ذلك إلا أن يعفُوَ عنه صاحبُه فخذوا هذا عني. وإن الترك قد طعمت فيكم فاكفونا، فإنما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإن الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك. ومهما بلغنا من الخِلاف فإنا لا نقبله من المبُلِغ له حتى نتيقّنه، فإذا صحت معرفة ذلك وإلا أنزلناه منزلة المخالف. ألاَ وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخْذ بالصبر والراحة إلى اليقين؛ فمن قُتِل في مجاهدة العدوّ رجوتُ له الفوز برضوان الله. وأفضل الأمور التسليم لأمر الله والراحة إلى اليقين والرضا بقضائه، وأين المَهْرب مما هو كائن! وإنما يتقلّب في كفّ الطالب، وإنما هذه الدنيا سَفٍر لأهلها لا يحلّون عّقْد الرحال إلا في غيرها؛ وإنما بُلغتهم فيها بالعواريّ، فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاءُ له! ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهرباً إلا إليه، ولا معوّلاً إلا عليه! فثقوا بالغلَبة إذا كانت نياتكم أن النصر من الله، وكونوا على ثقة من دَرَك الطلِبة إذا صحت نياتكم. واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة وقمع العدوّ وسدّ الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم

فشفاؤكم عندكم، والدواءُ الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلا بالله. انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا حِفْتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطّلوا أكثر الأرض فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف؛ وما كان من الأنهار والبثوق مما نَفقة ذلك من السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعيّة فعجزوا عنه فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غَلاّتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، رُبْع في كلّ سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشقّ ذلك عليهم. هذا قولي وأمري يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك؛ أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون. وكان مُلكه مائة وعشرين سنة.كم عندكم، والدواءُ الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلا بالله. انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا حِفْتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطّلوا أكثر الأرض فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف؛ وما كان من الأنهار والبثوق مما نَفقة ذلك من السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعيّة فعجزوا عنه فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غَلاّتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، رُبْع في كلّ سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشقّ ذلك عليهم. هذا قولي وأمري يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك؛ أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون. وكان مُلكه مائة وعشرين سنة.
وقد زعم هشام بن الكلبي فدا حدِّثت عنه أن الرائش بن قيس بن صيفيّ ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ وإخوته، وأن الرائش كان ملكه باليمن أيام ملك منوشهر، وإنه إنما سمي الرائش - واسمه الحارث بن أبي شدد - لغنيمة غنمها من قوم غزاهم فأدخلها اليمن، فسُمي لذلك الرائش، وأنه غزا الهند فقتل بها وسبى وغنم الأموال، ورجع إلى اليمن ثم سار منها، فخرج على جبلَيْ طيئ ثم على الأنبار، ثم على الموصل، وأنه وجّه منها خيله وعليها رجل من أصحابه، يقال له: شمر بن العطاف، فدخل على الترك أرض أذْرَبيجان وهي في أيديهم يومئذ، فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، وزَبَر ما كان من مسيره في حجَريْن، فهما معروفان ببلاد أذربيجان. قال: وفي ذلك يقول امرؤ القيس:
ألم يُخبرْك أنّ الدهرَ غولٌ ... خَتورُ العهدِ يلتقِمُ الرّجالا
أزالَ عنِ المصانع ذا ريَاش ... وقد ملك السُّهولةَ والجِبالا
وأنشب في المخالب ذا منارٍ ... وللزّرّاد قد نصب الحِبالا
قال: وذو منار الذي ذكره الشاعر هو ذو منار بن رائش، الملك بعد أبيه، واسمه أبْرهة بن الرائش، وإنما سمّى ذا منار لأنه غزا بلاد المغرب فوغل فيها براً وبحراً، وخاف على جيشه الضلال عند فقوله، فبنى المنار ليهتدوا بها. قال: ويزعم أهلُ اليمن أنه كان وجّه ابنه العبد بن أبرهة في غزوته هذه إلى ناحية من أقاصي بلاد المغرب، فغنم وأصاب مالاً وقدم عليه بَنسْناس لهم خِلَق وحشيّة منكرة، فذعر الناس منهم، فسموه ذا الأذعار.
قال: فأبرهة أحدُ ملوكهم الذين توغلوا في الأرض؛ وإنما ذكرتُ منْ ذكرت من ملوك اليمن في هذا الموضع لما ذكرت من قول من زعم أن الرائش كان ملكاً باليمن أيام منوشهر، وأن ملوك اليمن كانوا عمالاً لملوك فارس بها، ومن قبَلهم كانت ولايتهم بها.
ذكر نسب موسى بن عمران

وأخباره وما كان في عهده وعهد منوشهر بن منشخورنر الملك من الأحداث

قد ذكرنا أولاد يعقوب إسرائيل الله وعددهم وموالدهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أن لاوى بن يعقوب نكح نابتة ابنة ماري بن يشخر، فولدت له عَرشون بن لاوى ومرزي بن لاوى - ومردي بن لاوى - وقاهث ابن لاوى. فنكح قاهث بن لاوى فاهى ابنة مسين بن بتويل بن إلياس. فولدت له يصهر بن قاهث، فتزوج يصهر شميث ابنة بتاديت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم. فولدت له عمران بن يصهر، وقارون بن يصهر، فنكح عمران يحيب ابنة شمويل بن بركيا ين يقسان بن إبراهيم؟ فولدت له هارون بن عمران وموسى بن عمران.
وقال غير ابن إسحاق: كان عمرُ يعقوب بن إسحاق مائة وسبعاً وأربعين سنة، وولد لاوى له، وقد مضى من عمره تسع وثمانون سنة، وولد للاوى قاهث بعد أن مضى من عمر لاوى ست وأربعون سنة، ثم ولد لقاهث يصهر، ثم ولد ليصهر عمرم - وهو عمران - وكان عمر يصهر مائة وسبعاً وأربعين سنة، وولد له عمران بعد أن مضى من عمره ستون سنة، ثم ولد لعمران موسى، وكانت أمه يوخابد - وقيل: كان اسمها باختة - وامرأته صفورا ابنة يترون، وهو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم. وولد موسى جرشون وإبيليعازر، وخرج إلى مدين خائفاً وله إحدى وأربعون سنة، وكان يدعو إلى دين إبراهيم، وتراءى الله بطور سيناء، وله ثمانون سنة.
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، فرعون يوسف الأول. فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمِر بأن يأتيَه هو وأخوه هارون بالرسالة.
قال: ويقال إن الوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه وكان عمر عمران مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، ثم صار موسى إلى فرعون رسولاً مع هارون، وكان من مولد موسى إلى أن خرج ببني إسرائيل عن مصر ثمانون سنة، ثم صار إلى التيه بعد أن عبّر البحر، فكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته في التيه مائة وعشرين سنة.
وأما ابن إسحاق فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قبض الله يوسفَ، وهلَك الملك الذي كان معه الريان بن الوليد، وتوارثت الفراعنة من العماليق ملْك مصر، فنشر الله بها بني إسرائيل، وقبر يوسف حين قبض - كما ذكر لي - في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام، متمسّكين؛ به حتى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا أعظم قولاً ولا أطول عمراً في ملكه منه. وكان اسمه - فيما ذكروا لي - الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشدّ غلظة، ولا أقسى قلباً، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذّبهم فيجعلهم خدَماً وخولاً، وصنّفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرِثون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومَنْ لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قال الله: " سوءَ العذابِ " ، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقَه، وقد استنكح منهم امرأة يقال لها آسية ابنة مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمِّر فيهم وهم تحت يديه عمراً طويلاً يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشُدّ أعطى الرسالة.
قال: وذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجّمو فرعون وحُزاته إليه، فقالوا: تعلّم أنا نجد في علمنا أو مولوداً من بني إسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يُولد فيه، يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدّل دينك. فلما قالوا له ذلك أمر بقتل كلّ مولود يولد من بني إسرائيل من الغِلمان وأمر بالنساء يُستحْيًين، فجمع القوابل من نساء أهل مملكته فقال لهن: لا يسقطنَّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتلتموه، فكنّ يفعلن ذلك، وكان يذبح مَنْ فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذَّبن حتى يطرحن ما في بطونهنّ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: لقد ذُكر لي أنه كان يأمر بالقصب فيُشقّ حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصفّ بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحزّ أقدامهنّ، حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع بين رجليها، فتظلَّ تطؤُه تَتَّقِي به حزّ القصب عن رجليها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك، وكاد يُفنيهم، فقيل له: أفنيتَ الناس، وقطعت النَّسل، وإنهم خَولك وعُمَّالك. فأمر أن يقتَل الغلمان عاماً ويستحيوا عاماً، فولد هارون في السنة التي يَستَحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يُقتلون، فكان هارون أكبرَ منه سنة.
وأما السديّ فإنه قال ما حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذانيّ عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القِبْط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس - رجل يكون على وجهه هلاكُ مصر. فأمر ببني إسرائيل ألاّ يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول الله: " إنّ فرعون علا في الأرضِ " يقول " تجبَّر في الأرض، " وجعل أهلها شيعاً " - يعني بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة - " يَسْتضعفُ طائفةً منهمْ يُذَبِّحُ أبناءَهُم " ، فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير، وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموتَ، فأسرع فيهم، فدخل رؤوس القبط على فرْعون فكلّموه، فقالوا: إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت، فيوشِك أن يقع العمل على غلماننا نذبح أبناءهم فلا يبلغ الصغار، ويفنى الكبار، فلو أنك تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة؛ فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون فترك، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت أم موسى بموسى فلما أرادت وضعَه حزنت من شأنه، فأوحى الله إليها: " أن أرضعيه فإذا خِفْتِ عليه فألقيه في اليمِّ " وهو النيل، " ولا تخافِيْ ولا تحزَني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه مِنَ المُرْسلين " . فلما وضعته أرضعته، ثم دعت له نجاراً فجعل له تابوتاً وجعل مفتاح التابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم، " وقالتْ لأختِهِ قُصِّيهِ " تعني قُصِّي أثره " فبصُرَت به عن جُنُب وهمْ لا يشْعُرونَ " ، أنها أخته. فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة، ويخفضه أخرى، حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن التابوت فأدخلته إلى آسية، وظنن أن فيه مالاً، فلما نظرت إليه آسية وقعت عليه رحمتُها وأحبته. فلما أخبَرت به فرعون أراد أن يذبحه، فلم تزل آسية تكلِّمه حتى تركه لها، قال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، فذلك قول الله تعالى: " فالتقطَه آلُ فِرعونَ ليكونَ لهُمْ عدوّاً وحَزَناً " . فأرادوا له المرضعات، فلم يأخذْ من أحد من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فذلك قول الله: " وحرَّمْنا عليهِ المراضِعَ مِنْ قبْلُ فقالتْ " أخته " هل أدلُّكُم على أهل بيتٍ يَكْفَلُونَهُ لكُم وهُمْ لهُ ناصِحون " ، فأخذوها، وقالوا: إنكِ قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه، ولكني إنما قلت: هم للملك ناصحون.

ولما جاءت أمه أخذ منها ثديها فكادت أن تقول: هو ابني! فعصمها الله، فذلك قول الله: " إن كادتْ لَتُبْدي بهِ لولا أن ربطْنا على قلبِها لِتكونَ مِنَ المؤمنين " ، وإنما سُمِّي موسى لأنهم وجدوه في ماء وشجر، والماء بالقبطة " مو " والشجر " شا " فذلك قول الله عز وجل: " فرددناه إلى أمّه كي تقرَّ عينُها ولا تخزّن " . فاتخذه فرعون ولداً فدعيَ ابن فرعون. فلما تحرك الغلام أرته أمه آسية صبيّاً، فبينما هي ترقّصه وتلعب به إذ ناولته فرعون، وقالت: خذه قرة عين لي ولك، قال فرعون: هو قرة عين لك ولا لي. قال عبد الله بن عباس: لو أنه قال وهو لي قرة عين إذاً لآمن به؛ ولكنه أبى، فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها، فقال فرعون: عليّ بالذباحين، هذا هو! قالت آسية: " لا تقتلوه عسى أنْ ينفَعَنا أوْ نتَّخِذه ولداً " ، إنما هو صبي لا يعقل؛ وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه لي سفي أهل مصر امرأة أحلى مني؛ أنا أضع له حلياً من الياقوت، وأضع له جمراً، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمر فإنما هو صبيّ، فأخرجت له ياقوتها فوضعت له طستاً من جمر، فجاء جبرئيل فطرح في يده جمرة فطرحها موسى في فيه فأحرق لسانه، فهو الذي يقول الله عز وجل: " واحلًلْ عُقْدَةً من لساني، يفقهوا قَوْلِي " . فزالت عن موسى من أجل ذلك. وكبر موسى فكان يركب مراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون. ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها مَنْف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهو قول الله عز وجل: " ودخلَ المَديْنةَ على حِيْنِ غَفْلةٍ مِنْ أهلها فوجدَ فيها رجُلينِ يقتتلان هذا من شيعته " يقول: هذا من بني إسرائيل، " وهذا منْ عدوّه " يقول: من القبط " فاستغاثه الذي من شيعتِه على الذي من عدوِّه فوكزَهُ موسى فقضيَ عليهِ قال هذا من عملِ الشيطانِ إنّه عدوٌ مضِلٌ مُبينٌ، قال ربِّ إنّي ظَلمْتُ نفسِي فاغفرْ لي فغَفَرَ له إنه هوَ الغفور الرحيمُ، قال ربِّ بما أنعمت عليّ فلنْ أكونَ ظهيراً للمُجْرمينَ، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب " خائفاً أن يؤخذ، " فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه " يقول: يستغيثه " قال له موسى إنّك لغويٌ مبينٌ " . ثم أقبل موسى لينصره، فلما نظر إلى موسى قد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي، قال الإسرائيلي وفرِق من موسى أن يبطش به من أجل أنه أغلظ الكلام - يا موسى " أتريدُ أنْ تقتلَني كما قتلت نفْساً بالأمسِ إنْ تريدُ إلا أن تكونَ جبّاراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين " . فتركه وذهب القبطيّ، فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعون وقال: خذوه فإنه صاحبنا، وقال للذين يطلبونه: اطلبوه في بُنيّات الطريق، فإن موسى غلام لا يهتدي إلى الطريق، وأخذ موسى في بنيّات الطريق وجاءه الرجل وأخبره " إنّ الملأَ يأتمرون بك ليقتلوكَ فاخْرج إنّي لك من الناصحين، فخرجَ منها خائفاً يترقب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين " . فلما أخذ موسى في بنيات الطريق جاءه ملك على فرس بيده عنزةٌ، فلما رآه موسى سجد له من الفرق؛ فقال: لا تسجد لي، ولكن اتبعني، فاتبعه فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو متوجه نحو مدين " عسى ربي أنْ يهديَني سواءَ السبيل " ، فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أصبع بن زيد الجُهنيّ، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني سعيد ابن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله لموسى: " وفتنّاك فُتُوناً " ، فسألته عن الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، قال: فلما أصبحت عذوت على ابن عباس لأنتجز منه فأوعدني. قال: فقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم من أن يجعلَ في ذريته أنبياء وملوكأً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكّون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم، قال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فائتمروا بينهم، وأجمعوا أمرَهم على أن يبعث رجالاً معهم الشِّفار، يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون

بآجالهم، وأن الصغار يُذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كلّ مولود ذكر، فيقلّ أبناؤهم؛ ودعوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً، فيشبّ الصغار مكان مَنْ يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يقلّوا بمن تقتلون. فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن - وذلك من الفُتون يا ابن جبير - مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها: " ألا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليكِ وجاعلوه من المرسَلين " . وأمرَها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليمّ. فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابّه. فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فُرضة مستَقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهنّ لبعض: إن في هذا مالاً؛ وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، " وأصبحَ فُؤادُ أمِّ موسى فارِغاً " من ذكر كلّ شيء، إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بسفارهم يريدون أن يذبحوه - وذلك من الفتُون يا بن جبير - فقالت: للذباحين: انصرفوا، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فاستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فلما أتت به فرعون قالت: " قُرّة عينٍ لي ولك لا تقتُلوه " ، قال فرعون: يكون لكِ، فأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي يُحْلَف به، لو أقرّ فرعون أن يكونَ له قرة عين كما أقرت به لهداه الله به، كما هدى امرأته، ولكن الله حرمه ذلك " .بآجالهم، وأن الصغار يُذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كلّ مولود ذكر، فيقلّ أبناؤهم؛ ودعوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً، فيشبّ الصغار مكان مَنْ يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يقلّوا بمن تقتلون. فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن - وذلك من الفُتون يا ابن جبير - مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها: " ألا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليكِ وجاعلوه من المرسَلين " . وأمرَها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليمّ. فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابّه. فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فُرضة مستَقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهنّ لبعض: إن في هذا مالاً؛ وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، " وأصبحَ فُؤادُ أمِّ موسى فارِغاً " من ذكر كلّ شيء، إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بسفارهم يريدون أن يذبحوه - وذلك من الفتُون يا بن جبير - فقالت: للذباحين: انصرفوا، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فاستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فلما أتت به فرعون قالت: " قُرّة عينٍ لي ولك لا تقتُلوه " ، قال فرعون: يكون لكِ، فأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي يُحْلَف به، لو أقرّ فرعون أن يكونَ له قرة عين كما أقرت به لهداه الله به، كما هدى امرأته، ولكن الله حرمه ذلك " .

فأرسلت إلى مَنْ حولها من كلّ أنثى لها لبن لتختار له ظئراً، فجعل كلّما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموتَ، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق، مجمع الناس ترجو أن تُصيب له ظئراً يأخذ منها، فلم يقبل من أحد، وأصبحت أمّ موسى فقالت لأخته قصّيه واطلبيه هل تسمعين له ذكراً! أحيّ ابني أم قد أكلتْه دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصُرت به أخته عن جُنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات: " هل أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون " . فأخذوها فقالوا: وما يدريكِ ما نصحهم له! هل تعرفينه؟ حتى شكّوا في ذلك - وذلك من الفتون يا ابن جبير - فقالت: نصحُهم له، وشفقتهم عليه، ورغبتُهم في ظئورة الملك، ورجاءُ منفعته. فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أنْ قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي تُرضعين ابني هذا فإني لم أحبّ حبَّه شيئاً قطّ. قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابتْ نفسُك أن تعطينيه فأذهب إلى بيتي، فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت، وإلا فإني غيرُ تاركة بيتي وولدي. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها منْ يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظه لما قضي فيه، فلم تزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسُّخَر التي كانت فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريد أن تريني موسى، فوعدتها يوماً تريها إياه فيه، فقالت لحواضنها وظئورها وقهارمتها: لا يبقينّ أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة، ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصى ما يصنع كلّ إنسان منكم. فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها بجّلته وأكرمته وفرحت به وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون فليبجّله وليكرمه. فلما دخلن به على فرعون وضعنَه في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتّى مدها، فقال: عدو من أعداء الله! ألا ترى ما وعدَ الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك! فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه - وذلك من الفتون يا بن جبير - بعد كلِّ بلاء ابتلى به وأريد به. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبتَه لي؟ قال: ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني ويعلُوني! فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف فيه الحق؛ أئت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهن إليه، فإنْ بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت انه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين فاعلم أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه فتناول الجمرتين فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى! فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان الله بالغاً فيه أمره، فلما بلغ أشدّه وكان من الرجال لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كلّ امتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان؛ أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبُه لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة غير أم موسى؛ إلا أن يكون الله عز وجل أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز الفرعوني فقتله، وليس يراهما إلا الله عز وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: " هذا مِنْ عملِ الشيطان إنه عدوٌّ مضِلٌ مبينٌ " ، ثم قال: " رب إني ظلمْت نفْسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " . فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار، فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخّص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله، ومن يشهد عليه؛ لأنه لا يستقيمُ أن نقضي بغير بيّنة ولا ثبت. فطلبوا ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى

ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندِم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: " إنّك لغويٌ مبينٌ " . فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: " إنك لغوي مبين " ، أن يكون إياه أراد - ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني - فخاف الإسرائيلي فحاجز الفرعوني، وقال: يا موسى " أتريد أنْ تقتُلَني كما قتلْتَ نفْساً بالأمسِ " ! وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: " أتريد أن تقتلني كما قتلْت نفْساً بالأمْسِ " ! فأرسل فرعون الذباحين، وسلك موسى الطريق الأعظم وطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا بن جبير.ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندِم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: " إنّك لغويٌ مبينٌ " . فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له: " إنك لغوي مبين " ، أن يكون إياه أراد - ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني - فخاف الإسرائيلي فحاجز الفرعوني، وقال: يا موسى " أتريد أنْ تقتُلَني كما قتلْتَ نفْساً بالأمسِ " ! وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: " أتريد أن تقتلني كما قتلْت نفْساً بالأمْسِ " ! فأرسل فرعون الذباحين، وسلك موسى الطريق الأعظم وطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا بن جبير.
ثم رجع الحديث إلى حديث السديّ. قال: " فلما وردَ ماء مدْينَ وجدَ عليهِ أمَّهُ من الناس يسقُونَ " يقول: كثرة من الناس يسقون.
وقد حدثنا أبو عمار المروزيّ، قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: خرج موسى من مصر إلى مدين، وبينهما مسيرة ثمان ليال - قال: وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة - ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فخرج حافياً، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه.
حدثنا أبو كريب، حدثنا عثّام، قال: حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه.
رجع الحديث إلى حديث السديّ. " ووجد من دونهمُ امرأتين تذودانِ " يقول: تحبسان غنمهما، فسألهما: " ما خطبُكما قالتا لا نسقي حتى يُصدِر الرِّعاءُ وأبونا شيخٌ كبيرٌ " ، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة على البئر، كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلواً فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، ثم تولّى موسى إلى ظلّ شجرة من السَّمُر فقال: " رب إني لِما أنْزلْتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٌ " ، قال: قال ابن عباس: لقد قال موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خُضْرة أمعائه من شدة الجوع ما يسأل الله إلا أكلة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكّام بن سلْم، عن عنبسة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله عز وجل: " ولمّا وردَ ماءَ مدْينَ " ، قال: ورد الماء وإنه ليتَراءى خضرة البقل في بطنه من الهُزال فقال: " ربّ إني لِما أنزلْتَ إليّ من خيرٍ فقيرٌ " قال: شبْعة.

رجع الحديث إلى حديث السديّ. فلما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعاً، سألهما فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إحداهما فأتته " تمشي على استحياءٍ " - وهي تستحيي منه - ، " قالت إنّ أبي يدعوكَ ليجزيَك أجْر ما سقيتَ لَنا " فقام معها، وقال لها: امضي، فمشتْ بين يديه، فضربتْها الريح فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، فلما أتى الشيخ " وقصَّ عليه القَصَصَ قال لا تخفْ نجوْتَ من القوْمِ الظَّالمينَ، قالت إحداهما يا أبتِ استأجرْه إنّ خيرَ من استأجرْتَ القويُّ الأمينُ " . وهي الجارية التي دعته. قال الشيخ: هذه القوة قد رأيت حين اقتلع الصخرة، أرأيت أمانته ما يدريك ما هي؟ قالت: إني مشيت قدامه فلم يحبّ أن يخونني في نفسي، وأمرني أن أمشيَ خلفه، قال له الشيخ: " إني أريدُ أن أنكحك إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني " - إلى - " أيَّما الأجلين قضيْتَ " ، إما ثمانياً وإما عشراً، " واللهَ على ما نقولُ وكيل " .
قال ابن عباس: الجارية التي دعته هي التي تزوج بها. فأمر إحدى ابنتيه أن تأتيَه بعصا فأتته بعصا، كانت تلك العصا عصا استودعها إياه ملَك في صورة رجل، فدفعها إليه. فدخلت الجارية فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها الشيخ قال لها: لا، ائتيه بغيرها، فألقتها، فأخذت تريد أن تأخذ غيرَها فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها، فكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فلما رأى ذلك عمد إليها فأخرجها معه، فرعى بها. ثم إن الشيخ قدم وقال: كانت وديعة. فخرج يتلقى موسى فلما لقيه قال: أعطني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يعطيَه، فاختصما بينهما ثم تراضيا أن يجعل بينهما أولَ رجُل يلقاهما، فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال: ضعاها في الأرض فمن حمَلها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها، فتركها له الشيخ، فرعى له عشر سنين.
قال عبد الله بن عباس: كان موسى أحقّ بالوفاء.
حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ، قال: حدثنا الحُميديّ عبد الله ابن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سألت جبرئيل: أيّ الأجلين قّضّى موسى؟ قال أتمهما وأكملهما " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني اين إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي يهوديّ بالكوفة - وأنا أتجهز للحج - : إني أراك رجلاً يتبع العلم، أخبرني أيّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم وأنا الآن قادم على حَبْر العرب - يعني ابن عباس - فسأسأله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول البهوديّ، فقال ابن عباس: قضى أكثرَهما وأطيبَهما؛ إن النبيّ إذا وعد لم يُخلف. قال سعيد: فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته، فقال: صدق، وما أنزل الله على موسى هذا. والله العالم.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا الأصبع بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: سألني رجل من أهل النصرانية: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم - وأنا يومئذ لا أعلم - فلقيت ابن عباس، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني، فقال: أما كنت تعلم أن ثمانياً واجبة عليه، لم يكن نبي لينقص منها شيئاً، وتعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدتَه التي وعده، فإنه قضى عَشر سنين.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان الذماريّ، عن شعيب الجَبَاني قال: اسم الجاريتين ليا وصفورة، وامرأة موسى ابنة يترون، كاهن مدين، والكاهن حَبْر.
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو ابن مرّة، عن أبي عُبيدة، قال: كان الذي استأجر موسى يترون، ابن أخي شعيب النبيّ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمْرة، عن ابن عباس، قال: الذي استأجر موسى اسمه يثرى صاحب مدين.
حدثني إسماعيل بن الهيثم أبو العالية، قال: حدثنا أبو قتيبة، عن حماد بن سلمة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: اسم أبي امرأة موسى يثرى.

رجع الحديث إلى حديث السدي. " فلما قضَى مُوسى الأجَلَ وسار بأهله " فضلّ الطريق. قال عبد الله بن عباس: كان في الشتاء، ورفعت له نار، فلما ظن أنها نار 0وكانت من نور الله - " قال لأهله امكُثوا إنّي آنستُ ناراً لعلِّي آتيكمْ منها بخبرِ " ، فإن لم أجد خبراً أتيتُكم منها بشهاب قَبَس، " لعلّكم تصطَلون " - قال: من البرد - فلما أتاها نُودِيَ من شاطئِ الوادي الأيْمن في البُقْعَةِ المُبارَكة من الشجرة " . " أَنْ بُورِك مِنْ في النَّار ومَنْ حولها " . فلما سمع موسى النداء فزع وقال: الحمد لله رب العالمين. فنودي: " يا موسى إني أنا اللهُ ربّ العالمين " . وما تلك بيمينك يا موسى، قال هيَ عصايَ أتوكأ عليْها وأهُشُّ بها على غنمي " ، يقول أضرب بها الورق، فيقع للغنم من الشجر " وليَ فيها مآرِبُ أُخْرى " ، يقول: حوائج أخرى أحمل عليها المزود والسقاء، فقال له: " ألقِها يا موسى، فألقاها فإذا هيَ حيّةٌ تسْعى " . " فلما رآها تهتزُّ كأنّها جانٌ ولَّى مُدْبِراً ولم يعقّب " ، يقول: لم ينتظر. فنوديّ: " يا موسى لا تخف إني لا يخافُ لديَّ المرسَلون " . " أقْبِل ولا تخَفْ إنّك من الآمنين " ، " واضمُم إليكَ جَناحَك من الرَّهْبِ فذانِكَ بُرهانانِ مِنْ ربِّك " العصا واليد آيتان، فذلك حين يدعو موسى ربه، فقال: " ربّ إني قتلْت منهُم نفساً فأخاف أنْ يقتُلونِ، وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معيَ رِدءاً يُصَدِّقُني " ، يقول: كما يصدقني " إني أخافُ أن يكذّبونِ " قال " " ولهم عليّ ذنبٌ فأخافُ أن يقتلونِ " - يعني بالقتيل - " سنشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك ونجعلُ لكُما سلْطاناً " - والسلطان الحجة - " فلا يَصِلُونَ إليكما بآياتنا ومَنْ اُتَّبعَكُما الغالِبونَ " ، " فاْتيا فرعونَ فقولا إنّا رسولُ الله ربِّ العالمينَ " .
حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة: " فلمّا قضَى موسى الأجَلَ " ، خرج - فيما ذكر لي ابن إسحاق، عن وهب بن منبّه اليمانيّ - فيما ذكر له - عنه، ومعه غنم له، ومعه زند له وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهاره، فإذا أمسى اقتدح بزنده ناراً، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح إذا بأهله وبغنمه يتوكأ على عصاه، وكانت - كما وُصف لي عن وهب بن منبّه - ذات شعبتين في رأسها، ومحجن في طرفها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتّهم من أصحابه، أن كعب الأحبار قدم مكة وبها عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم فإنه عالم، سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ما وضع في الأرض؟ وما أول شجرة غرست في الأرض؟ فسئل عبد الله عنها فقال: أما الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض من الجنة فهو هذا الركن الأسود، وأما أول ما وضع في الأرض فبرهوت باليمن يردُه هام الكفار، وأما أول شجرة غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه. فلما بلغ ذلك كعباً قال: صدق الرجل، عالم والله!

قال: فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامَته، وابتدأه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد عليه زنده فلا يورى له ناراً، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها، " فقال لأهله امكُثوا إني آنست ناراً لعلي أتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدىً " ، بقبس تصطلون، وهدى: عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبير. فخرج نوها، فإذا هي في شجرة من العُلَّيق. وبعض أهل الكتاب يقول: في عوْسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة منتْ منه، ثم كلّم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال الله: يا موسى " اخلعْ نعليك إنك بالوادِ المقدَّس طُوىً " . فألقاهما ثم قال: " ما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهُشُّ بها على غنمي ولي فيها مآربُ أخرى " ، أي منافع أخرى، " قال ألقها يا موسى، فألقاها فإذا هي حية تسعى " قد صار شعبتاها فمها وصار محجنها عُرفاً لها، في ظهر تهتز، لها أنياب، فهي كما شاء الله أن تكون. فرأى أمراً فظيعاً فولى مدبراً ولم يعقّب، فناداه ربه: أن يا موسى أقبل ولا تخف، " سنعيدها سيرتَها الأولى " ، أي سيرتها عصا كما كانت. قال: فلما أقبل قال: " خذها ولا تخف " ، وأدخل يدك في فمها، وعلى موسى جبّة من صوف، فلفّ يده بكمّه وهو لها هائب، فنودي أن ألق كمك عن يدك، فألقاه عنها، ثم أدخل يده بين لحيَيْها، فلما أدخلها قبض عليها فإذا هي عصاه في يده، ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ومحجنها بموضعه الذي كان لا ينكر منها شيئاً. ثم قيل: " أدخلْ يدَك في جيبك تخرُجْ بيضاءَ من غير سوء " أي من غير بَرَص - وكان موسى عليه السلام رجلاً آدم أقنى جَعْداً طُوالاً - فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردّها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه، ثم قال: " فذانِكَ بُرهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوْماً فاسقين، قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أنْ يقتلونِ، وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معيَ رداءً يُصدِّقني " ، أي يبين لهم عني ما أكلّمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون. " قال سنشدُّ عَضُدَكَ بأخيكَ ونجعلُ لكما سلطاناً فلا يَصِلون إليكما بآياتنا أنتما ومَنِ اتبعَكُما الغالبون " .

رجع الحديث إلى حديث السُّديّ. فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً، فتضيّف على أمه وهو لا يعرفهم، فأتاهم في ليلة كانوا يأكلون الطَّفَيْشَل، فنزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه معه فأكل معه، فلما قعدا تحدّثا، فسأله هارون: منْ أنت؟ قال: أنا موسى، فقام كلّ واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه، فلما أن تعارفا قال له موسى: يا هارون انطلق معي إلى فرعون، إن الله قد أرسلنا إليه، فقال هارون: سمعٌ وطاعة، فقامت أمّهما فصاحت وقالت: أنشدكما الله ألاّ تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا. فانطلقا إليه ليلاً، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون، وفزع البواب، وقال فرعون: مَنْ هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب، فكلّمهما، فقال له موسى: " إني رسولُ ربّ العالمين " ففزع البواب فأتى فأخبره فقال: إن ها هنا إنساناً مجنوناً يزعم أنه رسول ربّ العالمين، قال: أدخله، فدخل فقال: إني رسول رب العالمين؛ أن أرسل معي بني إسرائيل، فعرفه فرعون فقال: " ألم نربّك فينا وليداً ولبِثْت فينا من عُمُرِكَ سنين، وفعلْت فَعْلَتك التي فعلت وأنت مِنَ الكافرين " . معنا على ديننا هذا الذي تعيب! " قال فعلْتُها إذاً وأنا من الضّالّين، ففرَرْتُ منكم لمّا خِفْتُكُم فوهبَ لي ربّي حُكماً " - والحكم النبوة - " وجعلني مِنَ المرسَلين، وتلك نِعْمةٌ تمِنُّها عليَّ أن عبَّدْتَ بني إسرائيل " وربيتني قبل وليداً! " قال فرعونُ وما رب العالمينَ " . " فمَنْ ربُّكما يا موسى، قال ربُّنا الَّذي أعطى كلَّ شيء خلْقَهُ ثمَّ هدى " . يقول: أعطى كل دابة زوجها ثم هدى للنكاح، ثم قال له: " إنْ كنْت جِئْتَ بآيةٍ فأت بها إنْ كنت من الصادقينَ " ، وذلك بعدما قال له من الكلام ما ذكر الله تعالى. قال موسى: " أوَ لوْ جئتك بشيءٍ مبينٍ، قال فأت به إن كنْتَ من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثُعبانٌ مبينٌ " - والثعبان الذكر من الحيّات - قاتحة فاها، واضعة لحْيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب، فأحدث - ولم يكن يُحدث قبل ذلك - وصاح: يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى فعادت عصا، ثم نزع يده وأخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين. فخرج موسى من عنده على ذلك، وأبى فرعون أن يؤمن به، أو يرسل معه بني إسرائيل، وقال لقومه: " يا أيها الملأُ ما علمْتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري فأوقِدْ لِيَ يا هامان على الطين فاجعلْ لي صَرْحاً لعلِّي أطَّلعُ إلى إله موسى " . فلما بني له الصرح ارتقى فوقه؛ فأمر بنُشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه، وهي ملطخة دماً، فقال: قد قتلت إله موسى.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: :فأوقد لي يا هامان على الطينِ " ، قال: كان أول مَنْ طبخ الآجرّ يبني به الصرح.

وأما ابن إسحاق، فإنه قال ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرج موسى لما بعثه الله عز وجل حتى قدم مصر على فرعون هو وأخوه هارون، حتى وقفا على باب فرعون يلتمسان الإذن عليه، وهما يقولان : إنا رسولا رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل. فمكثا - فيما بلغنا - سنتين يغدوان على بابه، ويروحان لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بطّال له يلعّبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك، إنّ على الباب رجلاً يقول قولاً عجيباً، يزعم أن له إلهاً غيرُك، قال: أدْخلوه، فدخل ومعه هارون أخوه، وبيده عصاه، فلما وقف على فرعون قال له: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون فقال: " ألم نربِّك فينا وليداً ولبِثْت فينا من عُمُرك سنين، وفعلْتَ فَعْلَتَكَ التي فعلْتَ وأنْتَ من الكافرين، قال فَعْلتُها إذاً وأنا من الضّالّين " أي خطأ لا أريد ذلك. ثم أقبل عليه موسى ينكر عليه ما ذكر من يده عنده، فقال: " وتلك نِعمةٌ تمُنُّها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل " ! أي اتخذتهم عبيداً تنزع أبناءهم من أيديهم، فتسْترقّ منْ شئت، وتقتل من شئت. إني إنما صيّرني إلى بيتك وإليك ذلك. " قال فرعون وما رب العالمين " ، أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي ما إلهك هذا! " قال رب السموات والأرض وما بينهما إنْ كنْتُم موقِنين، قال لمن حولَهُ " مٍنْ ملئه " ألا تَسْمعونَ " أي إنكاراً لما قال: ليس له إله غيري. " قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوّلين " الذي خلق آباءكم الأولين وخلفكم من آبائكم. قال فرعون: " إن رسولَكم الذي أُرسِل إليكُم لمجنونٌ " ، أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن لكم إلهاً غيري، " قال ربُّ المشْرِق والمغْرب وما بينَهُما إنْ كُنْتُم تعقِلون " أي خالق المشرق والمغرب وما بينهما من الخلق إن كنتم تعقلون. " قال لئِن اُتَّخذْت إلهاً غيري " لتعبد غيري وتترك عبادتي " لأجعلنَّك مِنَ المسجونين، قال أو لوْ جئتُك بشيء مبينٌ " ، أي بما تعرف بها صدقي وكذبك وحقي وباطلك! " قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاهُ فإذا هي ثُعبانٌ مُبينٌ " ، فملأت ما بين سَماطَي فرعون، فاتحة فاها، قد صار محجنها عرْفاً على ظهرها. فارفضّ عنها الناس، وحال فرعون عن سريره يُنشده بربه. ثم أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها كهيئتها، وأدخل موسى يده في جيبه فصارت عصا في يده، يده بين شعبتيها، ومحجنها في أسفلها كما كانت، وأخذ فرعون بطنه، وكان فيما فرعون يمكث الخمس والست ما يلتمس المذهب - يريد الخلاء - كما يلتمسه الناس، وكان ذلك مما زيّن له أن يقول ما يقول: إنه ليس من الناس بشبه.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمَة، عن ابن إسحاق، قال: حدِّثت عن وهب بن منبّه اليمانيّ، قال: فمشى بضعاً وعشرين ليلة، حتى كادت نفسه أن تخرج، ثم استمسك فقال لملئه: " إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ " أي ما ساحر أسحر منه، " يريد أن يخرِجَكم من أرضكم بسحره فماذا تأمُرُون " أقتله؟ فقال مؤمن من آل فرعون - العبد الصالح وكان اسمه فيما يزعمون حبرك: " أتقتلون رجلاً أَنْ يقولَ ربيَ الله وقد جاءَكم بالبيّنات من ربّكم " بعصاه ويده! ثم خوّفهم عقاب الله وحذرهم ما أصاب الأمم قبلهم، وقال: " يا قومِ لكمُ المُلْكُ اليومَ ظاهرين في الأرض فمَنْ يًنصُرنا من بأس اللهِ إنْ جاءَنا قال فرعون ما أرِيكم إلا ما أرى وما أهديُكم إلا سبيلَ الرَّشادِ " . وقال الملأ من قومه - وقد وهنهم من سلطان الله وما وهَنهم: " أرْجِهْ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوكَ بكلِّ سحّارٍ عليمٍ " ، أي كاثِرْه بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من جاء بمثل ما جاء به. وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم، وبعث فرعون مكانه في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحراً إلا أتى به؛ فذكر لي - والله أعلم - أنه جمع خمسةَ عشرَ ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، فقال لهم: قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قطّ، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضّلتكم وقرّبتكم على أهل مملكتي، قالوا: إن لنا ذلك عليك إن غلَبْناه! قال؟: نعم، قالوا: فعدْ لنا موعداً نجتمع نحن وهو، فكان رؤوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى: ساتور، وعادور، وحطحط، ومصفى؛ أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله، فآمنت السحرة جميعاً وقالوا لفرعون حيت توعدهم القتلَ والصلب: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاْقضِ ما أنت قاضٍ " . فبعث فرعون إلى موسى: أن اجعل " بيننا وبينك موعداً لا تُخْلِفه نحن ولا أنت مكاناً سُوىً، قال موعدكم يومُ الزينة " ، يوم عيد كان فرعون يخرج إليه، " وأن يُحْشرَ الناسُ ضحىً " ، حتى يحضروا أمري وأمرك، فجمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: " ائتوا صفاً وقد أفلح اليومَ مَنِ استعلى " ، أي قد أفلح من استعلى اليوم على صاحبه. فصف خمسة عشر ألف ساحراً، مع كلّ ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى ومعه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه ومعه أشراف أهل مملكته، وقد استكفَّ له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءكم: " ويلكم لا تَفتروا على الله كذِباً فيُسحِتَكم بعذابٍ وقد خاب منِ افترى " ، فترادّ السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ثم قالوا وأشار بعضهم إلى بعض بتناجٍ: " إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكمُ المُثلى " . ثم قالوا: " يا موسى إما أن تلقيَ وإما أن نكون أوّلَ مَنْ ألقى، قال بلْ ألقًوا فإذا حبالهم وعِصيُّهُم يُخَّل إليه من سحرهم أنها تسعى " . فكان اول ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كلُّ رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال، فإذا هي حيّات كأمثال الجبال، قد ملأت الواديَ يركب بعضها بعضاً. " فأوجسَ في نفْسِه خَيفةً موسى " ، وقال: والله إن كانت لعصيّاً في أيديهم، ولقد عادت حيّات، وما تعدو عصايَ هذه - أو كما حدّث نفسه - فأوحى الله إليه: " وألقِ ما في يمينك تلْقفْ ما صنعوا إنما صنعوا كيدُ ساحرٍ ولا يفلح الساحر حيثُ أنى " . وفُرج عن موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألْقوا من حبالهم وعصيهم - وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى - فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يُرى في الوادي قليل ولا كثير مما ألْقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت، ووقع السَّحرة سجداً " قالوا آمنا برب هارونَ وموسى " ، لو كان هذا سحراً ما غلَبنا. قال لهم فرعون - وأسف ورأى الغلبة البيّنة: " آمنتم له قبل أن آذنَ لكم إنه لكبيرٌكم الذي علّمكمُ السِّحرَ " ، أي لعظيم السَّحّار الذي علمكم " فلأقطِّعنّ أيديَكم وأرجُلَكُم مِنْ خلاف " - إلى قوله - " فاقض ما أنت قاضٍ " ، أي لن نؤثرك على الله وعلى ما جاءنا من الحجج مع نبيه فاقض ما أنت قاض، أي فاصنع ما بدا لك، " إنّما تقضي هذه الحياةَ الدنيا " التي ليس لك سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدها، " إنّا آمنّا بربّنا ليغفرَ لنا خَطايانا

وما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى " ، أي خير منك ثواباً، وأبقى عقاباً. فرجع عدوُّ الله مغلوباً وملعوناً ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان.ما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى " ، أي خير منك ثواباً، وأبقى عقاباً. فرجع عدوُّ الله مغلوباً وملعوناً ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان.
رجع الحديث إلى حديث السديّ. وأما السديّ فإنه قال في خبره: ذُكِرَ أن الآيات التي ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال: لما رجع إليهم ملطخاً بالدم قال: قد قتلنا إله موسى. ثم إن الله أرسل عليهم الطوفان - وهو المطر - فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفْ عنا، ونحن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنا لم نُمْطَر. فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعوَ ربَّه فيكشفه ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدّبا - وهو القُمّل - ، فلحس الأرض كلَّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان أحدُهم يأكل الطعام فيمتلئ دباً حتى إنّ أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ والآجرّ فيُزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها الطعام؛ فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دباً، فلم يصبهم بلاء كان أشدّ عليهم من الدبا؛ وهو الرِّجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم. فسألوا موسى أن يدعوَ ربه فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كُشف عنهم أبوّا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الإسرائيليّ يأتي هو والقبطي فيستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دماً، ويخرج للإسرائيلي ماء. فلما اشتدّ ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكُشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول الله: " فلمّا كشفْنا عنهمُ العذابَ إذا همْ يَنْكُثُون " ما أعطوْا من العهود، وهو حين يقول: " ولقد أخذْنا آل فرعون بالسنين " - وهو الجوع - " ونقصٍ من الثَّمرات لعلّهم يذّكّرون " .

ثم إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وهارون أن " قُولاَ قولاً ليِّناً لعلّه يتذَكّرُ أو يخشى " ، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيَك شبابك ولا تهرم، وملكك ولا ينزع منك، ويردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا متّ دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت حتى يأتي هامان. فلما جاء هامان قال له: أشعرت أن ذلك الرجل أتاني؟ قال: من هو؟ - وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمّه الساحر - قال فرعون: موسى، قال: وما قال لك؟ قال: قال لي: كذا وكذا، قال هامان: وما رددت عليه؟ قال: قلت: حتى يأتيَ هامان فأستشيره، فعجّزه هامان وقال: قد كان ظنّي بك خيراً من هذا، تصير عبداً يعبد بعد أن كنتَ رباً يُعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم فقال: " أنا ربُّكُمُ الأعلى " . وكان بين كلمته " ما علمت لكم من إلهٍ غيري " وبين قوله: " أنا ربُّكُمُ الأعلى " أربعون سنة. وقال لقومه: " إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ، يريد أن يُخرجَكُم من أرضِكم بسحرِهِ فماذا تأمرون، قالوا أرْجِهِ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحّار عليم " . قال فرعون: " أجئتنا لتُخرجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحرٍ مثلَه فاجعل بيننا وبينك موعداً لا تُخلفه نحن ولا أنت مكانا سُوىً " - يقول: عدلاً، قال موسى: " موعدكم يومُ الزينة وان يُحشرَ الناس ضُحىً " - وذلك يوم عيد لهم - " فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى " . وأرسل فرعون في المدائن حاشرين؛ فحشَروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: " هل أنتم مجتمِعون، لعلّنا نتبع السحرة إنْ كانوا همُ الغالبين " - إلى قوله: " أئن لنا لأجْراً إنْ كنّا نحن الغالبين " - يقول: عطية تعطينا - " قال نعمْ وإنّكم إذاً لمِنَ المقرّبين " . فقال لهم موسى: " ويلكم لا تفتروا على الله كذِباً فيُسْحِتكُم بعذابٍ " ، يقول: يهلككم بعذاب. " فتنازعوا أمرَهم بينهم وأسرّوا النّجوى " ، من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: " إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضِكم بسحرهما ويذهبا بطريقتِكمُ المثلى " ، يقول: يذهبا بأشراف قومكم.
فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال: نعم، قال الساحر: لآتينّ غداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومننّ بك، ولأشهدنّ أنك على حق - وفرعون ينظر إليهما - وهو قول فرعون: " إنْ هذا لمكرٌ مكرتُموه في المدينةِ " ، إذ التقيتما لتتظاهرا " لتُخرجوا منها أهلها " فقالوا: " يا موسى إما أن تُلقيَ وإما أن نكون نحن المُلقينَ " ، قال لهم موسى: ألقوا فألقوا حبالهم وعصيَّهم - وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم إلا ومعه حبل وعصا - " قلما ألقوا سحروا أعينَ الناس واسترهبهم " يقول: فرّقوهم. " فأوجَسَ في نفسِهِ خيفةً موسى " ، فأوحى الله إليه: ألا تخف، " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا " . فألقى موسى عصاه فأكلت كلَّ حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: " آمنا برب العالمين موسى وهارون " . قال فرعون: " فلأقطِّعنّ أيديكم وأرجلكم من خِلافٍ ولأصلّبنّكم في جُذوع النخل " فقتلهم وقطَّعهم - كما قال عبد الله بن عباس - حين قالوا: " ربّنا أفرغْ علينا صَبْراً وتوفّنا مسلمين " . قال: كانوا في أول النهار سَحرة، وفي آخر النهار شهداء.
ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: " أتذَرُ موسى وقوْمَهُ ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك " ، وآلهتُه - فيما زعم ابن عباس - كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلاً بقرة.
ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: " أنْ أسْر بعبادي " ليلاً " إنّكم متّبَعون " . فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحليّ من القبط، وامر ألا ينادي إنسان صاحبَه، وأن يُسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأنّ من خرج إذا قال: موسى، قال: " عمرو " وأمر من خرج يلطخ بابه بكفّ من دم حتى يعلم أنه قد خرج. وإن الله أخرج كل ولد زنا في القبْط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كلّ ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوْا آباءهم.

ثو خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبْل ذلك على القبط، فقال موسى: " ربنا إنك آتيْتَ فرعون وملأه زينةً وأمْوالاً في الحياة الدُّنيا " إلى قوله: " حتى يروا العذاب الأليم " ، فقال الله تعالى: " قد أُجِيبت دعْوتُكما " فزعم السديّ أن موسى هو الذي دعا وأمّن هارون، فذلك حين يقول الله: " قد أُجِيبت دعْوتُكما " .
وقوله: " ربّنا اطْمِسْ على أموالِهم " فذكِرَ أم طمْس الأموال أنه جعل دراهمهم ودنانيرهم حجارة، ثم قال لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألفِّيَ على القبط الموتَ، فمات كل بِكْر رجل، فأصبحوا يَدفنونهم، فشُغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس؛ فذلك حين يقول الله: " فأَتبَعوهم مُشرِفينَ " .
وكان موسى على سَاقه بني إسرائيل، وكان هارون أمامَهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمِرت؟ قال: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى. وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يُعدُّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لِكبَره، وإنما عدّواً ما بين ذلك سوى الذريّة، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في ألف ألف وسبعمائة حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: " فأرْسلَ فرعون في المدائنِ حاشرينَ، إن هؤلاء لشرذمةٌ، وإنهم لنا لغائظون " - يعني بني إسرائيل - " وإنا لجميعٌ حاذرون " - ، يقول: قد حذرنا فأجمعنا أمرنا، " فلمّا تراءى الجمعان " ، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا: " إنا لمدرِكون " . قالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبّحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قال موسى: " كلاَّ إنّ معيَ ربي سيهدينِ " ، يقول: سيكفيني، " قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرضِ فينظُرَ كيف تعملون " . فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال: مَنْ هذا الجبّار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، " فانْفَلَقَ فكانَ كُلُّ فِرقٍ كالطُّودِ العظيمِ " ، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقاً، في كل طريق سِبط، وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران. فقال كلّ سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر أخرُهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعاً؛ ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتّح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: " وأزلفنا ثمّ الآخرين " ، يقول: قرّبنا ثمَّ الآخرين؛ هم آل فرعون.

فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيلُه أن تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانة، فشمّت الحُصْن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أوّلُهم أن يخرج ودخل آخرُهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم، وتفرد جبرئيل بفرعون بمَقْلةٍ من مَقل البحر، فجعل يُدسُّها فيه، فقال حين أدركه الغرق: " آمنتُ أنه لا إله إلا الذي أمنتْ بنو إسرائيل وأنا من المُسلمين " ، فبعث الله إليه ميكائيل يعيّره، قال: " آلآن وقد عصيْتَ قبلُ وكنت من المُفْسِدين " . فقال جبرئيل: يا محمد، ما أبغضت أحداً من الخلق ما أبغضتُ رجلين: أما أحدهما فمن الجنّ وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون حين قال: " أنا ربُّكُمُ الأعلى " ، ولو رأيتني يا محمد، وأنا آخذ مَقْل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فأخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفاً، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثّلون به، وذلك قول الله لفرعون: " فاليوم ننجّيك ببدَنك لتكون لمن خلفَك آية " ؛ يقول: لبني إسرائيل آية. فلما أرادوا أن يسيروا ضُرب عليهم تيهٌ، فلو يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالُنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر أخذ على إخوته عهداً ألاّ تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم: أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشِد الله كلَّ منْ كان يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمَّتْ أذناه عن قولي! وكان يمرّ بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أسأل ربي، فأمره الله عز وجل أن يعطيَها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزلَ غُرْفة من الجنة إلا نزلتُها معك، قال: نعم، قالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشِيَ فاحملْني، فلما دنا من النيل، قالت: إنه في جوف الماء، فادعُ الله أن يُحسِر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر، فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح لهم الطريق، فساروا، " فأَتَوْا على قومٍ يعْكفُون على أصنامٍ لهُم قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ قال إنّكم قومٌ تَجْهَلون، إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه " - يقول: مهلك ما هم فيه - " وباطلٌ ما كانوا يَعمَلون " .
فأما ابنُ إسحاق، فإنه قال: - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن سلمة عنه - فتابع الله عليه بالآيات - يعني على فرعون - وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمَّل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصّلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضاً، فأرسل الطوفانَ وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئاً، حتى جهدوا جوعاً. فلما بلغهم ذلك قالوا: يا موسى ادع لنا ربك، " لئن كشَفْتَ عنّا الرِّجْزَ لنَومِننَّ لكَ ولنُرسِلنَّ مَعَكَ بني إسرائيل " . فدعا موسى ربع فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر - فيما بلغني حتى أنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا لي بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمّل. فذكر لي أن موسى أمِر أن يمشيَ إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيَل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قمَّلاً حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربّه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوباً ولا طعاماً ولا إناء إلا وجدَ فيه الضفادع قد غلبتْ عليه، فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفُوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دماً، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دماً عبيطاً.

حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظيّ أنه حدّث أن المرأة من آل فرعون كانت تأتِي المرأةَ من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جَرتها أو تصُبّ لها من قربتها، فيعود في الإناء دماً، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجّيه في فيّ، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجّته في فمها صار دماً، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: " ادْعُ لنا ربّك بما عهِد عندَك لئن كشفت عنا الرِّجْزَ لنؤمننّ لك ولنُرسِلنّ معك بني إسرائيل " . فلما كشِف عنهم الرجز نكثوا ولم يفُوا بشيء مما قالوا، فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك، فرعون وجنوده، وقد دعا موسى عليهم بالطَّمْسة؛ فقال: " ربنا إنك آتيْتَ فرعون ومَلأَهُ زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلّوا عن سبيلك " - إلى - " ولا تتَّبعانَّ سبيل الذين لا يعلمون " . فمسخ الله أموالهم حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت إحدى الآيات التي أراهنَّ الله فرعون.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بُرَيدة ابن سفيان بن فروة الأسلميّ، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع الآيات التي أراهنّ الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، عصاه، ويده والطمسة، والبحر. فقال عمر: فأنّى عرفت أن الطمسة إحداهنّ؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمّن هارون، فمسخ الله أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم دعا بخريطة فيها أشياء مما كان أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر؛ إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج البيضة مقْشورة نصفين؛ وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمُصة، والعدسة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد، عن رجل من أهل الشأم كان بمصر، قال: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجّر، وقد رأيت إنساناً ما شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل: " ولقد أتيْنا موسى تسع آياتٍ بيّناتٍ " إلى قوله " مثبوراً " يقول: شقياً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمرَه أن يحتمل يوسفَ معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمّن يعرف موضعَ قبره، فما وجد إلا عجوزاً من بني إسرائيل، فقالت: يا نبيّ الله، أنا أعرف مكانه. إن أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قال: أفعل، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقاً من مرمر، فاحتمله معه. قال عروة: فمن ذلك تحمِل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان - فيما ذُكر لي - أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم المتعة والحُليّ والثياب فإني منفِّلكم أموالَهم مع هلاكهم؛ فلما أذّن فرعون في الناس كان مما يحرّض به على بني إسرائيل أن قال حين ساروا: لم يرضُوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظيّ، عن محمد عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكِرَ لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفاً دُهم الخيل سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف طلع فرعون في جنده من خلفهم، " فلمّا تراءى الجمْعانِ قال أصحابُ موسى إنّا لمدركون، قال كلاَّ إن معيَ ربي سيهدينِ " ، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خُلف لموعوده.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: فأوحى الله تبارك وتعالى - فيما ذكر لي - إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانْفلق له، فبات البحر يضربُ بعضه بعضاً فرَقاً من الله وانتظاراً لأمره، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، " فانفلق فكان كلُّ فِرقِ كالطُّودِ العظيم " ، أي كالجبل على نَشَز من الأرض. يقول الله لموسى عليه السلام: " فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دّرَكاً ولا تخشى " . فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يبسَ سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظيّ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليْثي، قال: حُدّثت أنه لما دخلتْ بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحدٌ أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن يتقدم، فغرض له جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقرّبها منه فشمّها الفحل، ولما شمّها قدمها، فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون أن فرعون قد دخل دخلوا معه، وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحدٌ، ووقف ميكائيل على الناحية الأخرى ليس خلفه أحد، طبّق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذلّه وخذلته نفسه، نادى: أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو داود البصريّ، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: جاء جبرئيل إلى النبي عليه السلام فقال: يا محمد، لقد رأيتني وأنا أدسّ من حمأِ البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة! يقول الله: " آلآن وقد عصيْت قبلُ وكنتَ من المفسِدين، فاليوم ننجّيك ببدنِك " ، أي سواءٌ لم يذهب منك شيء، " لتكون لمن خلْفَكَ آيةً " أي عبرة وبينة. فكان يقال: لو لم يخرجه الله ببدنه حتى عرفوه لشطَّ فيه بعضُ الناس.
ولما جاوز ببني إسرائيل البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، " قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنّكم قومٌ تجْهَلون، إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، قال أغيرَ الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين " . ووعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومَه ونجاه وقومَه ثلاثين ليلة.
رجع الحديث إلى حديث السديّ. ثم إن جبرئيل أتى موسى يذهب به إلى الله عز وجل فأقبل على فرس فرآه السامريّ فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: إن لهذا لشأناً، فأخذ من تربة الحافِر الفرس، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إنّ الغنيمة لا تحلّ لكم، وإن القِبْط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعاً فاحفروا لها حفرة فادفنوها فيها، فإن جاء موسى فأحلّها أخذتموها، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه، فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة، وجاء السامريّ بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحليّ عجلاً له خُوار، وعدّت بنو إسرائيل موعدَ موسى، فعدوا الليلة يوماً واليوم يوماً، فلما كان العشر خرج لهم العجلُ فلما رأوه قال لهم السامريّ: :هذا إلهُكُم وإلهُ موسى فنسِيَ " . يقول: ترك موسى إلهه ها هنا، وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: " يا بنِي إسرائيل إنّما فُتنتم به " يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل، " وإنّ ربَّكم الرحمنُ فاتّبعوني وأطيعوا أمري " ، فأقام هارون ومن معَه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلّمه قال له: " وما أعجلَك عنْ قومِكَ يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجِلْتُ إليك ربّ لترضى، قال فإنا فد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامريّ " . فلما أخبره خبرهم قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروحَ منْ نفخها فيه؟ قال الربّ: أنا. قال: رب أنت إذاً أضللتهم.

ثم أن موسى لما كلمه ربّه أحبّ أن ينظر إليه، " قال ربِّ أرِنِي أنظُر إليكَ قال لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني " ، فحَفّ حول الجبل الملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، وحُفّ حول النار بملائكة، وحول الملائكة بنار، ثم يتجلّى ربه للجبل.
فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، قال: حدثني السديّ، عن عكْرمة، عن ابن عباس، أنه قال: تجلّى منه مثل طَرف الخنِصر، فجعل الجبلَ دكّاً وخرّ موسى صعقاً، فلم يزل صَعِقاً ما شاء الله، ثم أنه أفاق فقال: " سبحانك تُبت إليكَ وأنا أوّل المؤمنين " ، يعني أول المؤمنين من بني إسرائيل، فقال: " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن مِنَ الشاكرين، وكتبْنا له في الألواح من كُلِّ شيءٍ موْعِظَةً وتفصيلاً لكل شيء " من الحلال والحرام " فخذها بقوةٍ " ، يعني بجدّ واجتهاد " وأْمُرْ قومك يأخذوا بأحسنِها " أي بأحسن ما يجدون فيها. فكان موسى بعد ذلك لا يستطيع أحدَ أن ينظر في وجهه، وكان يُلْبِس وجهه بحريرة، فأخذ الألواح ثم رجع إلى مومه " غضبانَ أَسِفاً " يقول: حزيناً " قال يا قومِ ألم يعدْكم ربُّكم وعداً حسناً " - إلى - " قالوا ما أخلفْنا موعدَك بملكِنا " يقولون: بطاقتنا، " ولكنّا حُمّلنا أوزاراً من زينةِ القوم " يقول: من حُليّ القبط " فقذفناها فكذلك ألقَى السامريُّ " ، ذلك حين قال لهم هارون: احفِروا لهذا الحلْي حُفرة، واطْرحوه فيها، فطرحوه فقذف السامري تربته، فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، " قال يا بن أمَّ لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقولَ فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي " . فترك موسى هارون، ومال إلى السامريّ، فقال: " فما خطْبُكَ يا سامريُّ " ، قال السامريّ: " بصُرتُ بما لم يبْصِروا به " إلى: " في اليمِّ نسْفاً " . ثم أخذه فذبحه، ثم حرفَهُ بالمبرد ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب، فلذلك حين يقول: " وأُشرِبوا في قلوبِهِم العِجْلَ بكُفرهم " . قلما سُقِط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى " ورأوا أنهُم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويفغِرْ لنا لنكوننّ من الخاسرين " . فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهُمْ حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: " يا قومِ إنكم ظَلمْتم أنفُسَكم باتِّخاذِكُمُ العجلَ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفُسُكُم " ، فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيداً، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفاً، حتى دعا موسى وهارون: رَبّنا هلكتْ بنو إسرائيل! ربّنا البقية البقية! فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قُتِل كان شهيداً، ومن بقيَ كان مُكفَّراً عنه، فذلك قوله: " فتاب عليكم إنه هو التوّاب الرّحيم " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان السامريّ رجلاً من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، فكان حبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد اظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما فصل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى معهم إلى ربه تبارك وتعالى قال لهم هارون: إنكم قد تحمّلتم أوزاناً من زينة القوم آل فرعون، وأمتعة وحليّاً، فتطهّروا منها فإنها نجس، وأوقد لهم ناراً، وقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها، قالوا: نعم، فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الحليّ وتلك الأمتعة فيقذفون به فيها، حتى انكسرت الحليّ فيها، رأى السامري أثر فرس جَيْرَئيل، فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلى الحفرة فقال لهارون: يا نبي الله، ألقى ما في يدك؟ قال: نعم، ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من تلك المتعة والحليّ، فقذفه فيها، وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة، فقال: هذا إلهُكم وإله موسى، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا مثله شيئاً قطّ، فقال الله عز وجل " " فنسي " ، أي ترك ما كان عليه من الإسلام؛ - يعني السامريّ - " أفلا يرون ألاَّ يرجِعُ إليهم قولاً ولا يملك لهم ضَراً ولا نفعاً " .

قال: وكان اسم السامريّ موسى بن ظفر، فوقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل، فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: " يا قومِ إنّما فُتنْتم به " - إلى قوله - " حتى يرجِع إلينا موسى " . فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام مَنْ يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: " فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقُبْ قولي " ، وكان هائباً له مطيعاً، ومضى موسى ببني إسرائيل إلى الطور، وكان الله عز وجل وعد بني إسرائيل حين أنجاهم واهلك عدوّهم جانب الطور الأيمن، وكان موسى حين سار ببني إسرائيل من البحر قد احتاجوا إلى الماء، فاستسقى موسى لقومه، فأمِر أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سِبْط عين يشربون منها قد عرفوها، فلما كلم الله موسى طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال له: إنك " لن تَراني ولكنِ انظر إلى الجبل " إلى قوله: " وأنا أوّل المؤمنين " .
ثم قال الله لموسى: " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتُكَ " إلى قوله: " سأُريكم دارَ الفاسقين " . وقال له: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " إلى قوله: " فرجَع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفاً " ، ومعه عهد الله في ألواحه.
ولما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل ألقى الألواح من يده، وكانت - فيما يذكرون - من زبرجد أخضر، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته ويقول: " ما منعك إذ رأيْتهم ضلّوا، ألاّ تتبعني " إلى قوله: " ولم ترقُب قولي " . فقال: " يا بن أُمَّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداءَ ولا تجعلْني مع القوم الظالمين " ، فارعوي موسى وقال: " رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " .
وأقبل على قومه فقال: " يا قومِ ألم يعِدْكم ربُّكم وعداً حسناً " إلى قوله: " عجْلاً جَسَداً له خُوارٌ " . وأقبل على السامريّ فقال: " فما خطبُكَ يا سامريّ، قال بصُرتُ بما لم يَبصُرُوا به " إلى قومه: " وسِع كُلَّ شيْء عِلماً " . ثم أخذ الألواح، يقول الله: " أخذ الألواح. وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين همْ لربهم يرهبون " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقة ابن يسار، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان الله تعالى قد كتب لموسى فيها موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء وهدى ورحمة، فلما ألقاها رفع الله ستة أسباعها وأبقى سبعاً، يقول الله عز وجل: " وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين هم لربهم يَرْهَبون " ، ثم أمر موسى بالعجل فأحرِق، حتى رجع رماداً، ثم أمر به فقذف في البحر.
قال ابن إسحاق: فسمعت بعض أهل العلم يقول: إنما كان أحرقه ثم سحله ثم ذرّاه في البحر. والله أعلم.

ثم اختار موسى منهم سبعين رجلاً: الخيّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهِّروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلّمه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا لموسى: " لن نؤْمنَ لك حتى نرى الله جَهْرةً " ، " فأخذتْهمُ الرَّجْفَةُ " ، وهي الصاعقة، فانفلتت أرواحهم فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: " ربِّ لو شئت أهلكْتهم من قبلُ وإياي " قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا! إن هذا هلاك لهم. اخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد، فما الذي يصدقونني به! فلم يزل موسى يناشد ربَّه، ويسأله ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى مَنْ لم يكن عبد العجل أن يقتل مَنْ عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلتَ عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبهش إليه الصبيان والنساء يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف.
وأما السديّ فإنه ذكر في خبره الذي ذكرت إسناده قبلُ أن مصير موسى إلى ربه بالسبعين الذين اختارهم من قومه بعد ما تاب الله على عبدة العجل من قومه، وذلك انه ذكر بعد القصة التي قد ذكرتها عنه بعد قوله: " إنه هو التوّاب الرحيم " . قال: ثم إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلم أتوا ذلك المكان قالوا: " لأن نؤمن لك حتى نرى الله جَهْرة " ، فإنك قد كلّمته فأرِناه، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله يقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارَهم! رب لو شئت أهلكتَهم من قبل إياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممّن اتّخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: " إن هِيَ إلاّ فِتنتُك تُضِلُّ بها من تشاء وتهذي من تشاء " إلى قوله: " إنا هُدْنا إليك " ، يقول تبنا إليك، وذلك قوله تعالى: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن حتى نرى الله جَهرة فأخذتكُمُ الصاعقة " ، والصاعقة نار. ثم إن الله أحياهم، فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً، ينظر بعضُهم إلى بعض: كيف يحيَوْن؟ فقالوا: يا موسى، أنتَ تدعو الله فلا تسأله شيئاً إلا أعطاك، فادعُه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: " ثم بعثناكم من بعد موتِكم " ، ولكنّه قدّم حرفاً وأخّر حرفاً.

ثم أمرهم بالسير إلى أرِيحا، وهي ارض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريباً منها بعث موسى اثني عشر نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبّارين، فلقيَهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حُجْزته وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق به إلى امرأته فقال: انظري إى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنُهم برجلي! فقالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوْا، ففعل ذلك، فلما خرج القومُ قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم أخبرتُم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدّوا عن نبي الله، ولكن اكتموهم وأخبروا نبيَّ الله، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة فنكثوا العهد، فجعل الرجل منهم يخبر أخاه وأباه بما رأوا من أمر عاج، وكتَم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون فأخبرهما الخبر، فذلك حين يقول الله: " ولقد أخذ اللهُ الميثاق بني إسرائيل وبعثْنا منهمُ اثني عشر نقيباً " . فقال لهم موسى: " يا قوم اذْكُروا نِعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ وجعلَكم مُلُوكاً " يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. " يا قومِ ادخلوا الأرضَ المقدَّسة الني كتبَ الله لكم " ، يقول: التي أمركم الله بها " ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا " مما سمعوا من العشرة: " إن فيها قوماً جبّارين وإنا لن ندخلَها حتى يخرجوا منها فإنْ يَخرجوا منها فإنا داخِلون، قال رجُلانِ من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، وهما اللذان كتما، وهما يوشع بن نون فتى موسى وكالوب بن يوفنّة - وقيل: كلاب بن يوفنّة ختن موسى - فقالا: يا قوم " ادخُلوا عليهِمُ الباب " . " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " . فغضب موسى، فدعا عليهم، فقال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين " وكانت عجَلة من موسى عجِلها، فقال الله: " فأنها محرّمة عليهِمْ أربعين سنة يتيهون في الأرض " . فلما ضُرب عليهم التيه، ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم أوحى الله عز وجل إليه: ألا تأسَ، أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. فلم يحزن، فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بماء ها هنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، فكان يَسقط على الشجر الترنجبين والسلوى - وهو طير يشبه السُّمانيّ - فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذَبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، يشرب كل سِبْط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظلّ؟ فظلل الله عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظلّ، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: " وظلّلْنا عليهِمُ الغَمامَ وأنزلْنا عليهِمُ المَنَّ والسلوى " . وقوله: " وإذ استسقى موسى لقومه فقُلنا اضرِب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهُم " ، فأجمعوا ذلك، فقالوا: " يا موسى لن نصبِر على طعام واحدٍ فادع ربك يُخرِجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومِها " - وهي الحنطة - " وعدسها وبصلها " . قال: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبِطوا مصْراً " من الأمصار، " فإنّ لكم ما سألتم " . فلما خرجوا من التيه رفع المن والسلوى، وأكلوا البقول، والتقى موسى وعاج فنزا موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله.
حدثنا ابن بشار، حدثنا مُؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوْف، قال: كان طول عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجاً فأصاب كعبه فسقط ميتاً، فكان جِسْراً للناس يمرّون عليه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: أخبرنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبتُه عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسراً لأهل النيل. وقيل إن عوج عاش ثلاثة آلاف سنة.
ذكر وفاة موسى وهارون

ابني عمران عليهما السلام
حدثنا موسى بن هارون الهمْذاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّديّ في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى، أنى مُتَوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هما بشجرة لم يرَ مثلها، وإذا هما ببيت مبنيّ، وإذا هما فيه بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريحٌ طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، فقال: يا موسى إني لأحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنمْ عليه، قال: إني أخاف أن يأتي ربُّ هذا البيت فيغضب عليّ، قال له موسى: لا ترهب أنا أكفيك ربُّ هذا البيت فنم؛ قال: يا موسى بل نم معي، فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعاً، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قُبِض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورُفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتلَ هارون وحسده لحبّ بني إسرائيل له، وكان هارون أكفّ عنهم وأليَن لهم من موسى، وكان في موسى بعضُ الغلظ عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم! كان أخي أفتروْنني أقتله! فلما أكثروا عليه قلم فصلى ركعتين ثم دعا إلى الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدّقوه. ثم إن موسى بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذا أقبلت ريح سوداء، فلما نظر يوشع إليها ظنّ أنها الساعة والتزم موسى، وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبيّ الله، فاستُلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يد يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل، وقالوا: قتلت نبي الله! قال: لا والله ما قتلتُه، ولكنه استُلَّ مني، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله. قال: فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتِي كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وأنا قد رفعناه إلينا، فتركوه ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبّارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان صفيُّ الله قد كره الموت وأعظمه، فلما كرهه أراد الله تعالى أن يحبِّب إليه الموت ويكرّه إليه الحياة، فحوّلت النبوّة إلى يوشع بن نون، فكان يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبي الله، ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع بن نون: يا نبي الله، ألمْ أصحبْك كذا وكذا سنة، فهل كنتُ أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ فلا يذكر له شيئاً، فلما رأى موسى ذلك كرِه الحياة وأحبّ الموت.
قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان صفيّ الله - فيما ذكر لي وهب بن منبّه - إنما يستظلّ في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجَر؛ إذا أراد أن يشرب بعد ان أكل كرع كما تكرع الدابة في ذلك النقير، تواضعاً لله حين أكرمه الله بما أكرمه به من كلامه.
قال وهب: فذكر لي أنه كان من أمر وفاته أنه صفيّ الله خرج يوماً من عريشه ذلك لبعض حاجته لا يعلم به أحدٌ من خلق الله، فمرّ برهط من الملائكة يحفِرون قبراً فعرفهم وأقبل إليهم، حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبراً لم ير شيئاً قط أحسنَ منه، ولم ير مثل ما فيه من الحضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكةَ الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، قال: إن هذا العبد من الله المنزل! ما رأيت مضجعاً ولا مدخلاً! وذلك حين حضر من أمر الله ما حضر من قبضه، فقالت له الملائكة: يا صفيّ الله، أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت قالوا: فانزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط. فنزل فاضطجع فيه، وتوجّه إلى ربه، ثم تنفس فقبض الله تعالى روحه، ثم سوّت عليه الملائكة، وكان صفيّ الله زاهداً في الدنيا راغباً فيما عند الله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ملَك الموت كان يأتي الناس عِياناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه، قال: فرجَع فقال: يا ربّ، إن عبدَك موسى فقأ عيني، ولولا كرامَته لشققت عليه، فقال: ائت عبدي موسى، فقل له: فليضع كفه على متن ثور، فله بكل شعرة وارت يدُه سنة؛ وخيّره بين ذلك وبين ان يموت الآن، قال: فأتاه فخيّره، فقال له موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذاً، فشمّه شمة قبض روحه. قال: فجاء بعد ذلك إلى الناس خُفية " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي سنان الشيبانيّ، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: مات موسى وهارون جميعاً في التيه، مات هارون قبل موسى، وكانا خرجا جميعاً في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا إياه، وكان محبباً في بني إسرائيل، فتضرع موسى إلى ربه، وشكا ما لقي من بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى موضع قبره، فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتاً ولم تقتله. قال: فانطلق بهم إلى قبر هارون، فنادى: يا هارون، فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال: انا قتلتك؟ قال: لا والله، ولكني متّ، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا.
فكان جميع مدة عمر موسى عليه السلام كلها مائة وعشرين سنة، عشرون من ذلك في ملك أفريدون، ومائة منها في ملك منوشهر، وكان ابتدأه من لدن بعثه الله نبياً إلى أن قبضه إليه في ملك منوشهر.
ذكر يوشع بن نون عليه السلامثم ابتعث الله عز وجل بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيّاً، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب مَنْ فيها من الجبارين. فاختلف السلفُ من أهل العلم في ذلك، وعلى بد مَنْ كان ذلك؟ ومتى سار يوشع إليها؟ في حياة موسى بن عمران كان مسيره إليها أم بعد وفاته؟ فقال بعضهم: لم يسِرْ يوشع إلى أريحا، ولا أمِر بالمسير إليها إلاّ بعد موت موسى، وبعد هلاك جميع من كان أبى المسيرَ إليها مع موسى بن عمران، حين أمرهم الله تعالى مَنْ فيها من الجبارين، وقالوا: مات موسى وهارون جميعاً في التيه قبل خروجهما منه.
ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان، قال: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى: لما دعا موسى - يعني بدعائه قوله: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافْرق بيننا وبين القومِ الفاسقين، قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " . قال: فدخلوا التيه، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه، قال: فمات موسى في التيه، مات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وناهض يوشعُ بمن معه مدينة الجبّارين فافتتح يوشع المدينة.
حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة. قال: قال الله تعالى: " إنها محرَّمة عليهم أربعين سنة... " الآية، حرّمت عليهم القرى، فكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك أربعين سنة.
وذكر لنا أنّ موسى مات في الأربعين سنة، ولم يدخل بيتَ المقدس منهم إلا أبناؤهم، والرجلان اللذان قالا ما قالا.
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في الخبر الذي ذكرت إسناده فيما مضى: لم يبق أحدٌ ممن أبى أن يدخل مدينة الجبّارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. ثم إن الله عز وجل لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبياً فأخبرهم أنه نبي وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا عليهم، فقتلوهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سليمان بن حرب، عن هلال، عن قتادة في قول الله تعالى: " فإنها محرّمة عليهم " ، قال: أبداً.
حدثني المثنّى قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن هارون النحويّ، عن الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " ، قال: التحريم التِّيه.

وقال آخرون: إنما فتح أريحا موسى؛ ولكن يوشع كان علة مقدمة موسى حين سار إليهم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما نشأت النواشي من ذراريّهم - يعني من ذراريّ الذين أبوا قتال الجبارين مع موسى - وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُبّهوا فيها؛ سار بهم موسى ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنّة، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، فكان لهم صهراً، فلما انتهوا إلى أرض كنعان، وبها بلعم بن باعور العروف، وكان رجلاً قد آتاه الله علماً، وكان فيما أوتي من العلم اسم الله الأعظم - فيما يذكرون - الذي إذا دعِي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضْر، أنه حدّث أن موسى لما نزل أرض بني كنعان من أرض الشأم، وكان بلعم ببالعة - قرية من قرى البلْقاء - فلما نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل، أتى قومُ بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويُحلّها بني إسرائيل، ويسكنها، وإنا قومك وليس لنا منزلٌ، وأنت رجل مُجابُ الدعوة، فاخرج فادعُ الله عليهم، فقال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون! كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! قالوا: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرقّقونه، ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسبان، فما سار عليها غير قليل، حتى ربضت به، فنزل عليها فضربها حتى أذلقها فقامت فركبها، فلم تسرْ به كثيراً حتى ربضت به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها الله أذن لها فكلمتْه حُجّة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب! ألا ترى الملائكة أمامي تردّني عن وجهي هذا! أتذهب إلى نبيّ الله والمؤمنين تدعو عليهم! فلم ينزع عنها يضربها، فخلّى الله سبيلَها حين فعل بها ذلك، فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حُسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غَلب الله عليه، واندلع لسانه فرفع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسَها من رجل أرادها؛ فإنه إن زنى رجل واحد منهم كُفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العساكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كسّى ابنة صور - رأس أمته وبني أبيه من كان منهم في مديّن، هو كان كبيرهم - برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمري بن شلوم، رأس سِبْط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالُها، ثم أقبل حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول: هذه حرام عليك! قال: أجلْ هي حرام عليك لا تقربْها، قال: فو الله لا نُطيعك في هذا، ثم دخل بها قبّته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلاً قد أعطِيَ بسطة في الخلق، وقوة في البطش، كان غائباً حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبِر الخبر، فأخذ حربته - وكانت من حديد كلّها - ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته - وكان بِكْر العيزار - فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمَنْ يعصيك! ورُفع الطاعون فحُسب مَنْ يهلك من بني إسرائيل في الطاعون - فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص - فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفاً، والمقلّل لهم يقول: عشرون ألفاً، في ساعة من النهار، فمن هنالك تُعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القِبَة والذراع واللَّحْى، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبِكْر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار، ففي بلعم بن باعور، أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه: " واتل عليهِم نبأَ الذي آتيناه آياتنا فانسلخَ منها " - يعني بلعم بن باعور، " فأتْبعه الشيطانُ " إلى قوله: " لعلهم يتفكرون " يعني بني إسرائيل؛ أنى قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عمّا مضى فيهم إلا نبي يأتيه خبر من السماء.

ثم إن موسى قدّم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يُعجزوه، فاستوقف الشمس، ودعا الله أن يحبسها، ففعل الله عز وجل حتى استأصلهم؛ ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم بقبره أحد من الخلائق.
فأما السّديّ في الخبر الذي ذكرت عنه إسناده فيما مضى؛ فإنه ذكر في خبره ذلك أن الذي قاتل الجبارين يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون، وقصّ من أمره وأمرهم ما أنا ذاكره، وهو أنه ذكر فيه أن الله بعث يوشع نبياً بعد أن انقضت الأربعون سنة، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبيّ، وأنّ الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدّقوه، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم - وكان يعلم الاسم الأعظم المكتوم - فكفر وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل؛ فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون؛ فكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهنّ، فكان ينكح أتاناً له، وهو الذي يقول الله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتينا آياتنا " أي فبصر " فانسلخ منها فأتْبعه الشيطان فكان من الغاوين " إلى قوله: " ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثلُهُ كمثِل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " ، فكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب، فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس، وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه، وهو يريد أن يلعنَ بني إسرائيل، فكلّما أراد أن يدعو على بني إسرائيل جاء على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا، فيقول: إنما أردت بني إسرائيل، فلما بلغ المدينة أخذ ملَك بذنَب الأتان فأمسكها، وجعل يحركها فلا تتحرك، فلما أكثر ضرْبها تكلّمت، فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار! ويل منك! ولو أني أطقت الخروج لخرجت بك؛ ولكن هذا الملَك يحبسني، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالاً شديداً حتى أمسوا وغربت الشمس، ودخل السبت. فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله، اللهم اردد عليّ الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد في النهار يومئذ ساعة، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها. وجمعوا غنائمهم، وأمرهم يوشع أن يقرّبوا الغنيمة فقرّبوها، فلم تزل النار تأكلها، فقال يوشع: يا بني إسرائيل إن الله عز وجل عندكم طِلْبة، هلموا فبايعوني، فبايعوه فلصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت والجوهر، كان قد غلّه، فجعله في القربان، وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان.

وأما أهل التوراة؛ فإنهم يقولون: هلك هارون وموسى في التَّيه، وإن الله أوحى إلى يوشع بعد موسى، وأمره أن يعبر الأردنّ إلى الأرض التي أعطاها بني إسرائيل، ووعدهم إياهم، وأن يوشع جَدَّ في ذلك ووجّه إلى أريحا من تعرّف خبرها، ثم سار ومعه تابوت الميثاق، حتى عبر الأردنّ، وصار له ولأصحابه فيه طريق، فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القرون، وضجّ الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فأباحوها واحرقوها، وما كان فيها ما خلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فإنهم أدخلوه بيت المال. ثم إن رجلاً من بني إسرائيل غلّ شيئاً، فغضب الله عليهم وانهزموا، فجزع يوشع جزعاً شديداً، فأوحى الله إلى يوشع أن يُقرِع بين الأسباط، ففعل حتى انتهت القُرعة إلى الرجل الذي غلّ، فاستخرج غُلوله من بيته، فرجَمه يوشع وأحرق كل ما كان له بالنار، وسمّوا الموضع باسم صاحب الغلول، وهو عاجز فالموضع إلى هذا اليوم غور عاجز. ثم نهض بهم يوشع إلى ملك عايى وشعبه، فأرشدهم الله إلى حربه، وأمر يوشع أن يكمن لهم كميناً ففعل، وغلب على عايى وصلَب ملكها على خشبة، وأحرق المدينة وقتل مِنْ أهلها اثني عشر ألفاً من الرجال والنساء، واحتال أهلُ عماق وجيعون ليوشع حتى جعل لهم أماناً، فلما ظهر على خديعتهم دعا الله عليهم أن يكونوا حطّابين وسقائين، فكانزا كذلك، وأن يكون بازق ملك أورشليم يتصدق، ثم أرسل ملوك الأرمانيين، وكانوا خمسة بعضهم إلى بعض، وجمعوا كلمتهم على جيعون، فاستنجد أهل جيعون يوشع، فأنجدهم وهزموا أولئك الملوك حتى حدّروهم إلى هَبْطة حَوران، ورماهم الله بأحجار البرَد، فكان من قتله البرد أكثر ممن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وسأل يوشع الشمسَ أن تقف والقمر أن يقوم حتى ينتقم من أعدائه قبل دخول السبت، ففعلا ذلك وهرب الخمسة ملوك فاختفوا في غار، فأمر يوشع فسُدّ باب الغار حتى فرغ من الانتقام من أعدائه، ثم أمر بهم فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم من الخشب، وطرحهم في الغار الذي كانوا فيه، وتتبع سائر الملوك بالشأم؛ فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً، وفرق الأرض التي غلب عليها. ثم مات يوشع، فما مات دفن في جبل أفراييم، وقام بعده سِبْطُ يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين، فاستباحوا حريمهم، وقتلوا منهم عشرة آلاف ببازق، وأخذوا ملك بازق فقطعوا إبهامَيْ يديه ورجليه، فقال عند ذلك ملك بازق: قد كان يلقط الخبز من تحت مائدتي سبعون ملكاً مُقطّعي الأباهيم، فقد جزاني الله بصنيعي، وأدخلوا ملك بازق أورشليم، فمات بها. وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم، وكان عُمر يوشع مائة وستاً وعشرين سنة. وتدبيره أمر بني إسرائيل منذ توفي موسى إلى أن توفي يوشع بن نون شبعاً وعشرين سنة.
وقد قيل إن أول من ملك من ملوك اليمن، ملك كان لهم في عهد موسى بن عمران من حمير، يقال له: شمير بن الأملول، وهو الذي بنى مدينة ظَفار باليمن، وأخرج مَنْ كان بها من العماليق، وإن شمير بن الأملول الحميريّ هذا كان من عُمّال ملك الفرس يومئذ على اليمن ونواحيها.
وزعم هشام بن محمد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع مَنْ قتل منهم، وأن إفريقيس بن قيس بن صيفيّ بن سبأ بن كعب ابن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجهاً إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم معه من سواحل السام. قال: فهم البرابرة، قال: وإنما سُموا بربراً، لأن إفريقيس قال لهم: ما أكثر بربرتكم! فسموا بربراً، وذكر أن إفريقيس قال في ذلك من أمرهم شعراً، وهو قوله:
بربرَتْ كنعانُ لما سُقتها ... من أراضي الهُلْك للعيش العجَب
قال: وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكُتامة، فهم فيهم إلى اليوم.
ذكر أمر قارون بن يصهر قاهثوكان قارون ابن عم موسى عليه السلام. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: " إن قارون كان من قوم موسى " ، قال: ابن همع، أخي أبيه. فإن: قارون ابن يصفر - هكذا قال القاسم، - وإنما هو يصهر - بن قاهث، وموسى بن عمرر بن قاهث، وعمرر بالعربية عمران؛ هكذا قال القاسم، وإنما هو عمرم.

وأما ابن إسحاق فإنه قال ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلَمة، عنه: تزوج يصهر بن قاهث شميت ابنة تباويت بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم. فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فقارون - على ما قال ابن إسحاق - عم موسى أخو لأبيه وأمه.
وأما أهلُ العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قال ابن جريج.
ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك من علمائنا الماضين:حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن إبراهيم في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى " ، قال: كان ابن عم موسى.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قال: " إن قارون كان من قوم موسى " ، كان قارون ابنَ عم موسى.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن سماك، عن إبراهيم: " إن قارون كان من قوم موسى " ، قال: كان ابن عمه فبغى عليه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قال: كان قارون ابن عم موسى.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن ابن أبي خالد، عن إبراهيم، قال: " إن قارون كان من قوم موسى " ، قال: كان ابنَ عمه.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " إن قارون كان من قوم موسى " ، كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامريّ، فأهلكه البغي.
حدثني بشر بن هلال الصواف، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ، عن مالك بن دينار، قال: بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عم قارون، وكان الله قد آتاه مالاً كثيراً، كما وصفه الله عز وجل، فقال: " وآتيناه من الكُنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة " ، يعني بقوله: " تنوء " تثقل.
وذكر أن مفاتيح خزائنه كانت كالذي حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن خيثمة في قوله: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة " قال: نجد مكتوباً في الإنجيل: نفاتيح قارون وَقْر ستين بغلاً غرّاً محجلة، ما يزيد مفتاح منها على إصبع؛ لكل مفتاح منها كنز.
حدثني أبو كريب، قال: حدثنا هُشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة " ، قال: كانت مفاتيح خزائنه تحمّل على أربعين بغلاً.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرَنا الأعمش عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون تحمَل على ستين بغلاً، كلّ مفتاح منها لباب كنزٍ معلوم، مثل الإصبع، من جلود.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة واحدة على حِدة، فإذا ركب حُمِلت المفاتيح على ستين بغلاً أغرّ محجّل.
فبغى عدو الله لما أراه الله به من الشقاء والبلاء على قومه بكثرة ماله.
وقيل إن بغيه عليهم كان بأن زاد عليهم في الثياب شبراً. كذلك حدثني على بن سعيد الكندي وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا حفص ابن غياث، عن ليث، عن شهر بن حَوْشب.
فوعظه قومه على ما كان من بغيه ونهوه عنه، وأمروه بإنفاق ما أعطاه الله في سبيله والعمل فيه بطاعته، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا له فقال: " إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرِحين، وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسِدين " . وعني بقوله: " ولا تنس نصيبك من الدنيا " : لا تنس في دنياك أن تأخذ نصيبك فيها لآخرتك، فكان جوابُه إياهم جهلاً منه، واغتراراً بحلم الله عنه، ما ذكر الله تعالى في كتابه أن قال لهم: إنما أوتيت ما أوتيت من هذه الدنيا على علم عندي قيل: معنى ذلك: على خير عندي، كذلك رُوي ذلك عن قتادة.

وقال غيره: عني بذلك: لولا رضاء الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، قال الله عز وجل مكذّباً قيله: " أوَ لم يعلم أن الله قد أهلك مِنْ قَبله من القُرون من هو أشدَّ منه قوّة واكثر جمعاً " للأموال. ولو كان الله إنما يُعطى الأموال والدنيا من يعطيه إياها لرضاه عنه، وفضلُه عنده، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الكثيرة قبله، مع كثرة ما كان أعطاهم منها، فلو يردعه عن جهله، وبغيه على قومه عظة من وعظه، وتذكير من ذكره بالله ونصيحته إياه؛ ولكنه تمادي في غيه وخسارته، حتى خرج على قومه في زينته راكباً بِرْذَوْناً أبيض مسرجاً بسرج الأرجُوان، قد لبس ثياباً معصفرة، قد حمل معه من الجواري بمثل هيئته وزينته على مثل بِرْذَوْنه ثلاثمائة جارية وأربعة آلاف من أصحابه.
وقال بعضهم: كان الذين حملهم على مثل هيئته وزينته من أصحابه سبعين ألفاً.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: " فخرج على قومه في زينته " ، قال: على بِرْاذيْن بيض، عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرة. فتمنى أهل الخسار من الذين خرج عليهم في زينته مثل الذي أوتيه، فقالوا: " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم " ، فأنكر ذلك من قوله عليهم أهل العلم بالله فقالوا لهم: ويلكم أيها المتمنّون مثل ما أوتي قارون! اتقوا الله، واعملوا بما أمركم الله به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإن ثواب الله وجزاءه أهل طاعته خيرٌ لمن آمن به وبرسله، وعمل بما أمره به من صالح الأعمال، يقول الله: " ولا يُلقّاها إلا الصابرون " ، يقول: لا يلقي مثل هذه الكلمة إلا الذين صبروا عن طلب زينة الحياة الدنيا، وآثروا جزيل ثواب الله على صالح الأعمال على لذات الدنيا وشهواتها، فعلموا له بما يوجب لهم ذلك.
فلما عتا الخبيث وتمادى في غيه، وبطر نعمة ربه ابتلاه الله عز وجل من الفريضة في ماله والحق الذي ألزمه فيه ما ساق إليه شحّه به أليم عقابه، وصار به عبرة للغابرين وعظة للباقين.
فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، قال: لما نزلت الزكاة أتى قارونُ موسى فصالحه عن كل ألف دينار ديناراً، وعلى كل ألف درهم درهماً، وعلى كل ألف شيء شيئاً، أو قال: وكل ألف شاة شاةً - قال أبو جعفر الطبريّ: أنا أشد - قال: ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيراً فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعمتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم. فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغيّ فتجعلوا لها جُعلاً فتقذفه بنفسها. فدعوْها فجعلوا لها جُعلاً على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى فقال: إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، قال: يا بني إسرائيل، منْ سرق قطعْنا يده، ومن افترى جلَدناه ثمانين، ومن زنى ولي سله امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت - أو قال: رجمناه حتى يموت - قال أبو جعفر أنا أشك - فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قال: وإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة، قالت: لبيك! قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، وكذبوا، ولكن جعلوا إليّ جُعلاً على أن أقذفك بنفسي، فوثب فسجد وهو بينهم، فأوحى إليه: مُر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم، ثم قال: يا أرض خُذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، قال: فجعلوا يقولون: يا موسى، ويتضرعون إليه، يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى يقول لك عبادي: يا موسى يا موسى، فلا ترحمهم، أما لو إياي دعوا لوجدوني قريباً مجيباً، قال: فذلك قوله: " فخرج على قومه في زينته " ، وكانت زينته أنه خرج على دوابّ شُقْر عليها سروج أرجوان، عليها ثياب مصبّغة بالبهرمان،: " قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " إلى قوله: " لا يُفلح الكافرون " . يا محمد " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلُواّ في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن المنهال، عن رجل، عن ابن عباس بنحوه، وزادني فيه: قال: فأصاب بني إسرائيل بعد ذلك شدة وجوع شديد، فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك، قال: فدعا لهم فأوحى الله إليه: يا موسى، أتكلمني في قوم قد أظلم ما بيني وبينهم من خطاياهم، وقد دعوك فلم تجبهم أما لو إياي دعوا لأجبتهم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن هاشم ابن البريد، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى " ، قال: كان ابن عمه، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل وقارون في ناحية، قال: فدعا بغيّة كانت في بني إسرائيل، فجعل لها جُعلاً على أن ترمي موسى بنفسها، فتركه، حتى إذا كان يوم يجتمع فيه بنو إسرائيل إلى موسى أتاه قارون فقال: يا موسى، ما حدُّ من سرق؟ قال: أن تقطع يده، قال: فإن كنت أنت؟ قال نعم، قال: فما حد من زنا؟ قال: أن يُرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قال: فإنك قد فعلت، قال: ويلك! بمن؟ قال: بفلانة، فدعاها موسى فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة، أصدق قارون؟ قالت: اللهمّ إذ نشدتني، فإني أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، وأن عدو الله قارون جعل لي جُعلاً على أن أرميك بنفسي، قال: فوثب موسى فخرّ ساجداً، فأوحى الله إليه أن أرفع رأسك فقد أمرت الأرض أن تطيعك، فقال موسى: خذيهم، فأخذتهم حتى بلغوا الحَقْوا، قال: يا موسى، قال: خذيهم فأخذتهم حتى بلغوا الصدور، قال: يا موسى، قال: خذيهم، قال: فذهبوا، قال: فأوحى الله إليه: يا موسى، استغاث بك فلم تُغثه، أما لو استغاثَ بي، لأجبتُه ولأغثته.
حدثنا بشر بن هلال الصواف، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ، قال: حدثنا على بن زيد بن جُدعان، قال: خرج عبد الله بن الحارث من الدار، ودخل المقصورة فلما خرج منها جلس وتساند عليها وجلسنا إليه، فذكر سليمان بن داود و " قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " إلى قوله: " إن ربي غنيٌ كريم " . قال: ثم سكت عن حديث سليمان، فقال: " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " ، وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكره الله في كتابه: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة " . فقال: إنما أوتيته على علم عندي قال: وعاد موسى وكان مؤذياً له، فكان موسى يصفح عنه، ويعفو للقرابة حتى بنى داراً، وجعل باب داره من ذهب، وضرب على جدر داره صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضكحونه، فلم تدعه شقوته والبلاء حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا مشهورة بالسب، فجاءت قال لها: هل لك أن أموّلك وأعطيك وأخلِطك بنسائي، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون أل تنهى عني موسى! قالت: بلى، فلما جلس قارون، وجاءه الملأ من بني إسرائيل أرسل إليها فجاءت، فقامت بين يديه، فقلب الله قلبها، وأحدث لها توْبة، فقالت في نفسها: لا أجد اليوم توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله وأعذب عدو الله، فقالت: إن قارون قال لي: هل لكِ أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي، فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! فلم أجد توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله، وأعذب عدو الله. فلما تكلمت بهذا الكلام سُقط في يدي قارون، ونكس رأسه، وسكت عن الملأِ، وعرف أنه قد وقع في هَلكة، فشاع كلامُها في الناس، حتى بلغ موسى، فلما بلغ اشتد غضبه فتوضأ من الماء وصلى وبكى، وقال: يا رب عدوك لي مؤذٍ، أراد فضيحتي وشيْتني، يا رب سلطني عليه. فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجه موسى له، فقال له: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، قال: فاضطربت داره، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فاضطربت دارُه وساخت، وخُسِف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسى: يا موسى، ارحمني! قال: يا أرض خذيهم، فخسف به وبداره وأصحابه، قال: وقيل لموسى: يا موسى، ما أفظك، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبتُه! حدثنا بشر بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوْنيّ، قال: بلغني أنه قيل لموسى: لا أعبِّد الأرض لأحد بعدك أبداً.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، " فخسفنا به وبداره الأرض " ، ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يجلجل فيها ولا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة.
قال أبو جعفر: فلما نزلت نقمة الله بقارون حمِد الله على ما أنعم به عليهم المؤمنون الذين وعظوه وأنذروه بأمر الله، ونصحوا له من المعرفة بحقّه والعمل بطاعته، وندم الذين كانوا يتمنون ما هو فيه من كثرة المال، والسعة في العيش على أمنيتهم، وعرفوا خطأ أنفسهم في أمنيتها، فقالوا ما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه: " ويكأن الله يبسُط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا " ، فصرف عنا ما ابتلى به قارون وأصحابه مما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا كما خسف به وبهم. فنجّى الله تعالى من كل هول وبلاء نبيه موسى والمؤمنين به المتمسكين بعهده من بني إسرائيل، وفتاه يوشع بن نون المتبعين له بطاعتهم ربهم، وأهلك أعداءه وأعداءهم: فرعون وهامان وقارون والكنعانيين بطفرهم وتمردهم عليه وعتوهم، بالغرق بعضاً، وبالخسف بعضاً، وبالسيف بعضاً، وجعلهم عبراً لمن اعتبر بهم، وعظة لمن اتعظ بهم، مع كثرة أموالهم وكثرة عدد جنودهم، وشدة بطشهم، وعظم خلقهم وأجسامهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أجسامهم ولا قواهم ولا جنودهم وأنصارهم عنهم من الله شيئاً؛ إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويسعوْن في الأرض فساداً، ويتّخذون عباد الله لأنفسهم خَوَلاً، وحاق بهم ما كانوا منه آمنين؛ نعوذ بالله من عمل يقرّب من سخطه، ونرغب إليه في التوفيق لما يدني من محبته، ويزلف إلى رحمته! وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمى، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخوْلاني، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى " . قال: قلت: يا رسول الله، ما كان في صحف موسى؟ قال: كانت عِبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالنار ثم يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لم يعمل! وكان تدبير يوشع أمر بني إسرائيل من لدن مات موسى، إلى أن توفي يوشع، كله في زمان منوشهر عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين.
ونرجع الآن إلى:
ذكر القائم بالملك ببابل من الفرس

بعد منوشهر
إذ كان التاريخ إنما تدرك صحته على سياق مدة أعمار ملوكهم.
ولما هلك منوشهر الملك بن منشخورنر، قهر فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك على خنيارث ومملكة أهل فارس وصار - فيما قيل - إلى أرض بابل، فكان يُكثر المقام ببابل وبمِهرجان قذَق، فأكثر الفساد في مملكة أهل فارس.
وقيل: إنه قال حين غلب على مملكتهم: نحن مسرعون في إهلاك البريّة، وإنه عظُم جوره وظلمه، وخرّب ما كان عامراً من بلاد خنيارث، ودفن الأنهار والفتيّ، وقَحِط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن خرج عن مملكة أهل فارس، ورُدّ إلى بلاد الترك، فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
ولم يزل الناس منه في أعظم البلية، إلى أن ظهر زوّ بن طهْماسب وقد يلفظ باسم " زوّ " بغير ذلك فيقول بعضهم: زاب بن طهْماسفان، ويقول بعضهم: زاغ، ويقول بعضهم: راسب بن طهماسَب بن كانجو بن زاب بن أرفس بن هراسف بن ونديج بن أريج بن نوذ وجوش ابم منسوا - بن نوذر بن منوشهر.
وأم زوّ مادول ابنة وامن بن واذرجا بن قود بن سَلْم بن أفريدون.
وقيل: إن منوشهر كان وجد في أيام ملكه على طهماسب بسبب جناية جناها، وهو مقيم في حدود الترك لحرب فراسياب، فأراد منوشهر قتله بسبب ذلك، فكلّمه في الصفح عنه عُظماء أهل مملكته. وكان من عدل منوشهر - فيما ذكر - أنه قد كان يسّوي بين الشريف والوضيع، والقريب والبعيد في العقوبة، إذا استوجبها بعض رعيته على ذنب أتاه - فأبى إجابتهم إلى ما سألوه من ذلك، وقال لهم: هذا في الدين وهَنٌ، ولكنكم إذ أبيتم عليّ، فإنه لا يسكن في شيء من مملكتي، ولا يُقيم به، فنفاه عن مملكته فشخص إلى بلاد الترك، فوقع إلى ناحية وامن، فاحتال لابنته وهي محبوسة في قصر من أجل المنجَمين كانوا ذكروا لوامن أبيها أنها تلد ولداً يقْتله، حتى أخرجها من القصر الذي كانت محبوسة فيه، بعد أن حملت منه بزوّ.

ثم إن منوشهر إذِن لطهماسب بعد أن انقضت أيام عُقوبته في العود إلى خينارث مملكة فارس، فأخرج مادول ابنة وامن بالحيلة منها ومنه في إخراجها من قصرها من بلاد الترك إلى مملكة أهل فارس، فولدت له زواّ بعد العود إلى بلاد إيرانكرد، ثم إن زواً - فيما ذكر - قتل جدّه، وامّن في بعض مغازيه الترك، وكطرد فراسياب عن مملكة أهل فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب جرت بينه وبينه وقتال، فكانت غَلبة فراسياب أهل فارس على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة، من لدن توفي منوشهر إلى أن طرده عنه، وأخرجه زوّ بن طهماسب إلى تركستان.
وذكر أن طَرْدَ زوّ فراسياب عما كان عليه من مملكة أهل فارس في روزأبان من شهر أبانماه، فاتخذ العجم هذا اليوم عيداً لما رفع عنهم فيه من شر فراسياب وعَسْفه وجعلوه الثالث من أعيادهم النوروز والمهرجان.
وكان زوّ محموداً في مُلكه، محسناً إلى رعيته، فأمر بإصلاح ما كان فراسياب أفسد من بلاد خنيارث، ومملكة بابل وبناء ما كان هُدم من حصون ذلك، ونثل ما كان طم وغوّر من الأنهار والقنى، وكرى ما كان اندفن من المياه حتى أعاد كل ذلك - فيما ذكر - إلى أحسن ما كان عليه، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، ودفعه عنهم، فعمرت بلاد فارس في ملكه، وكثُرت المياه فيها، ودرّت معايش أهلها، واستخرج بالسواد نهراً سماه الزّاب، وأمر فبنيت على حافتيه مدينة وهي التي تسمى المدينة العتيقة، كوّرها كورة، وسماها الزوابي، وجعل لها ثلاثة طَساسيج: منها طسّوج الزاب الأعلى، ومنها طسّوج الزاب الأوسط، ومنها طسّوج الزاب الأسفل؛ وأمر بحمل بُزور الرياحين من الجبال إليها وأصول الأشجار، وبذْر ما يبذر من ذلك، زغرس ما يغرس منه، وكان أولَ من اتُّخذ له ألوان الطبيخ وأمر بها بأصناف الأطعمة، وأعطى جنودَه مما غنِم من الخيل والرّكاب، مما أوْجَف عليه من أموال الترك وغيرهم. وقال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن متقدمون في عمارة ما أخْربه الساحر فراسياب.
وكان له كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان بن طورك بن شيراسب بن أروشسب بن طوج بن أفريدون الملك.
وقد نسبه بعض نسابي الفرس غير هذا النسب فيقول: هو كرشاسف بن أشنان بن طهموس بن أشك بن ترس بن رحر بن دودسرو بن منوشهر الملك - مؤازراً على ملكه.
ويقول بعضهم: كان زوّ وكرشاسب مشتركين في الملك، والمعروف من أمرهما أن الملْك كان لزو بن طهماسب وأن كرشاسب كان له مؤازراً وكان كرشاسب عظيم الشأن في أهل فارس، غير أنه لم يملك، فكان جميعُ ملْك زوّ إلى أن انقضى ومات - فيما قيل - ثلاث سنين.
ثم ملك بعد زوّ كيقباذ، وهو كيقياذ بن زاغ بن نوحباه بن منشو بن نوذر بن منوشهر. وكان متزوجاً بفرتك ابنة تدرسا التركي، وكان تدرسا من رؤوس الأتراك وعظمائهم، فولدت له كي إفنه، وكي كاوس، وكي أرش، وكيبه أرش، وكيفاشين وكيبية؛ وهؤلاء هم الملوك الجبابرة وآباء الملوك الجبابرة.
وقيل إن كيقباذ قال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن مدوّخون بلاد الترك ومجتهدون في إصلاح بلادنا، حدبون عليها، وأنه قدّر مباه الأنهار والعيون لشرب الأرضين، وسمى البلاد بأسمائها، وحدّها بحدودها، كوّر الكُور، وبيّن حير كل كورة منها وحريمها، وأمر الناس باتخاذ الأرض، وأخذ العُشْر عن غَلاتها لأرزاق الجند، وكان - فيما ذكر - كيقباذ يُشبّه في حرثه على العمارة، ومنعه البلاد من العدو، وتكبّره في نفسه بفرعون.
وقيل إن الملوك الكيية وأولادهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك وغيرهم حروب كثيرة، وكان مقيماً في حدّ ما بين مملكة الفرس والترك بالقرب من نهر بلْخ، لمنع الترك من تطرق شيء من حدود فارس، وكان ملكه مائة سنة، والله أعلم.
ونرجع الآن إلى:
ذكر أمر بني إسرائيلوالقوّام الذين كانوا بأمرهم بعد يوشع بن نون والأحداث التي كانت في عهد زوّ وكيقباذ
ولا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور الأمم السالفين من أمتنا وغيرهم أن القيّم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كال بو يوفنّا، ثم حِزْقيل بن بُوذي من بعده، وهو الذي يقال له ابن العجوز.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إنما سمي حِزقيل بن بوزي ابن العجوز؛ أنها سألت الله الولد، وقد كبرت وعقِمت، فوهبه الله لها، فبذلك قيل له: ابن العجوز؛ وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب عليه السلام كما بلغنا: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حَذَرَ الموْتِ " .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل؛ أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناساً من بني إسرائيل بلاءٌ وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قد مِتنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا، وأيّ راحة لهم في الموت! أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثَهم بعد الموت! فانطلقْ إلى جبانة كذا وكذا فإن فيها أربعة آلاف - قال وهب: وهم الذين قال الله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حَذَرَ الموت " - فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت؛ فرّقتها الطير والسباع، فناداها حزقيل، فقال: يا أيتها العظام النخرة، إن الله عز وجل بأمرك أن تجتمعي. فاجتمع عظام كل إنسان منهم معاً، ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلداً، فكانت أجساداً، ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك. فقاموا بإذن الله، وكبّروا تكبيرة واحدة.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمْذاني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارِهم وهمْ ألوفٌ حَذَرَ الموت فقال لهمُ الله موتوا ثم أحياهم " كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، فوقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزَم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ معهم. فوقع في قابل فهربوا وهم بضعة وثلاثين ألفاً، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيَح، فناداهم ملَك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه: أن موتوا، فماتوا حتى هلكوا، وبليت أجسادهم، فمر بهم نبيٌّ يقال له هزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم، ييلوي شِدقه وأصابعه، فأوحى الله إليه: يا هزقيل، أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وإنما كان تفكّره أنه تعجّب من قدرة الله عليهم، فقال: نعم، فقيل له: ناد، فنادى يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض؛ حتى كانت أجساداً من عظام، ثم أوحى الله أن ناد: يا أيتها العظام؛ إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها؛ وهي عليها، ثم قيل له: ناد، فنادى: يا أيتها الأجساد، إن الله بأمُرك أن تقومي، فقاموا.
حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحْيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت؛ فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنةُ الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلا عاد دسماً مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكّام، عن عنبسة، عن أشعث، عن سالم النّصري، قال: بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوّى، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: فلما انفتل عمر قال: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجد في كتابنا قرناً من حديد يعطى ما أعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله، فقال عمر: ما نجد في كتابنا حزقيل، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى ابن مريم، فقالا: أما تجد في كتاب الله " ورسلاً لم نقصصهم عليك " ، فقال عمر: بلى، قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك أن نبي إسرائيل وقه فيهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطاً، حتى إذا بليت عظامُهم بعث الله حزقيل فقام عليهم، فقال: ما شاء الله! فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذَرَ الموت... " ، والآية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن كالب بن يوفنّا لما قبضه الله بعد يوشع؟، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم... " الآية.
قال ابن حميد: قال سلمة قال ابن إسحاق: فبلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فراراً مهن بعض الأوباء من الطاعون، أو من سُقْم كان يصيب الناس حذراً من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله: موتوا، فماتوا جميعاً، فعمِد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركزهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيّبوا، فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاماً نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوذي، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم، ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب التي قد رمّت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه. فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تتواثب يأخذ بعضُها بعضاً، ثم قيل له: قل أيها اللحم والعصَب والجلد، اكسِ العظام بإذن ربك، قال فنظر إليها والعصب يأخذ العظام، ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلْقاً ليست فيهم الأرواح، ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كرَبَه، حتى غُشِيَ منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله فقد أحياهم الله! فلم يذكر لنا مدة مكْث حزقيل في بني إسرائيل.
الياس واليسع عليهما السلامولما قبض الله حزقيل كثرت الأحداث - فيما ذكر - في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله الذي عهد إليهم في التوراة، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم فيما قيل: إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق: ثم إن الله عز وجل قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونَسوا ما كان من عهدِ الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فِنْحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبياً؛ وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. فكان إلياسُ مع ملِك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمرَه، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه من دون الله، يقال له: بَعْلِ. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعْل إلا امرأة يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد " وإن إلياسَ لمنَ المرسَلين إذ قال لقومه ألا تتقون " - إلى قوله: " الله ربكم وربَّ آبائكُمُ الأولين " - فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئاً إلا ما كان من ذلك الملك، الذي كان إلياس معه، يقوم له بأمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يوماً يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، والله ما أرى فلاناً وفلاناً فعد ملوكاً من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون، مملَّكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل.

فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعرُ رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه ففعل ذلك الملك فعل أصحابه؛ عَبَدَ الأوثان، وصنع ما يصنعون. فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، والعبادة لغيرك، فغيّر ما بهم من نعمتك. أو كما قال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لي أنه أوحى إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك؛ حتى تكون أنت الذي تأمر في ذلك. فقال إلياس: اللهمّ فأمسك عنهم المطر. فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدوابّ والهوامّ والشجر، وجَهِد الناس جهداً شديداً.
وكان إلياس - فيما يذكرون - حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقاً على نفسه منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرّاً. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل، لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضُرّ، فآوته وأخفت أمرَه، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضُرّ الذي كان به، واتبع اليسع فآمن به وصدّقه ولزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبِر، وكان اليسع غلاماً شاباً. فيزعمون - والله أعلم - أن الله أوحى إلى إلياس أنك قد هلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعصِ، سوى بني إسرائيل ممن لم أكن أريد هلاكه بخطايا بني إسرائيل من البهائم والدوابّ والطير والهوامّ والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل. فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك. قيل له نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهداً، وهلكت البهائم والدوابّ والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وأنكم على باطل وغرور - أو كما قال لهم - فإنْ كنتم تحبون أن تعلموا ذلك وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحق، فاخرُجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه؛ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرّج عنكم ما أنتم فيه من البلاء. قالوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم التي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم. ولم تفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، ثم قالوا لإلياس: يا إلياس؛ إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يُسقَوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادُهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه. فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربه أن يقبِضه إليه فيريحه منهم، فقيل له - فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس، وخرج معه اليسع بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرسٌ من نار، حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم، والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسياً مَلكياً أرضياً سمائياً.
ثم قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل - يعني في بني إسرائيل - بعده يعني بعد إلياس - اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلُوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابراً عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزن الله ذلك العدو.
والسكينة فيما ذكر ابن إسحاق عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل رأس هرة ميتة، فإذا صرخَت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح.

ثم خلف فيهم ملِك يقال له إيلاف، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره، فكان أحدهم - فيما يذكرون - يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ في الحب، فيخرج الله له ما يأكل منه سنة، وهو وعياله، ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل؛ هو وعيالُه سنة، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استُلب من أيديهم، فأتى ملكهم إيلاف، فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب. فمالت عنقه فمات كمداًُ عليه، فمرج أمرهم بينهم واختلف ووطئهم عدوهم حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم، فمكثوا على اضطراب من أمرِهم، واختلاف من أحوالهم يتمادون أحياناً في غيهم وضلالهم، فسلط الله عليهم من ينتقم به منهم، ويراجعون التوبة أحياناً فيكفيهم الله عند ذلك شر مَنْ بَغَاهم سوءاً؛ حتى بعث الله فيهم طالوت ملكاً، وردّ عليهم تابوت الميثاق.
وكانت مدة ما بين وفاة يوشع بن نون - التي كان أمر بني إسرائيل في بعضها إلى القضاة منهم والساسة، وفي بعضها إلى غيرهم ممن يقهرهم فيتملّك عليهم من غيرهم إلى أن ثبت الملك فيهم، ورجعت النبوة إليهم بشمويل بن بالي - أربعمائة سنة وستين سنة. فكان أولَ من سُلِّط عليهم غيما قيل رجل من نسل لوط، يقال له: كوشان، فقهرهم وأذلهم ثمانيَ سنين، ثم تنقّذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل بن قيس - فقام بأمرهم فيما قيل - أربعين سنة، سُلِّط عليهم ملك يقال له جعلون فملكهم ثمانيَ عشرة سنة، ثم تنقّذهم منه - فيما قيل - رجل من سبط بنيامين يقال له أهود بن حيرا الأشلّ اليمنى، فقام بأمرهم ثمانين سنة، ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يا فين، فملكهم عشرين سنة، ثم تنقّذهم - فيما قيل - امرأة نبية من أنبيائهم يقال لها دبورا فدبر أمرهم - فيما قيل - رجل من قِبلها يقال له باراق أربعين سنة، ثم سُلط عليهم قوم من نسل لوط كانت لهم منازل في تخوم الحجاز فملكوهم سبع سنين، ثم تنقّذهم منهم رجل من ولد نفثالي بن يعقوب يقال له جدعون بن يواش، فدبر أمرهم أربعين سنة، ثم دبر أمرهم من بعد جدعون ابنه أبيملك بن جدعون ثلاث سنين، ثم دبرهم من بعد أبيملك تولغ بن فوا بن خال أبيملك. وقيل إنه ابن عمه - ثلاثاً وعشرين سنة، ثم دبر أمرهم بعد تولغ رجل من بني إسرائيل يقال له: ياثير اثنتين وعشرين سنة، ثم ملكهم بنو عمون، وهم قوم من أهل فلسطين ثمانيَ عشرة سنة، ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبرهم من بعده يجشون، وهو رجل من بني إسرائيل سنع سنين، ثم دبرهم بعده ألون عشر سنين، ثم من بعده كيرون - ويسميه بعضهم عكرون - ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملوكهم أربعين سنة، ثم وليهم شمسون وهو من بني إسرائيل عشرين سنة، ثم بقوا بغير رئيس ولا مدبّر لأمرهم بعد شمسون - فيما قيل - عشر سنين، ثم دبر أمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل غزّة وعسقلان على تابوت الميثاق، فلما مضى من وقت قيامه بأمرهم أربعين سنة، بعث سمويل نبياً فدبر شمويل أمرهم - فيما ذكر - عشر سنين. ثم سألوا شمويل حين نالهم بالذل والهوان بمعصيتهم ربهم أعداؤهم، أن يبعث لهم ملِكاً يجاهدون معه في سبيل الله، فقال لهم شمويل ما قد قصّ الله في كتابه العزيز.
ذكر خبر شمويل

ابن بالى بن علقمة بن يرخام بن اليهوا بن تهو بن صوف، طالوت وجالوت
كان من خبر شمويل بن بالى أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وأذلتهم الملوك من غيرهم، ووطئت بلادهم، وقتلوا رجالَهم، وسبوا ذراريّهم، وغلبوهم على التابوت الذي فيه السكينة والبقية مم اترك آل موسى وآل هارون، وبه كانوا ينصرون إذا لقوا العدو، ورغبوا إلى الله عز وجل في أن يبعث لهم نبياً يقيم أمرهم.

فحدثني موسى بن هارون الهمدانيّ، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السديّ، في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتَهم، فكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه، وكان سِبْط النبوّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حُبلى فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدِ له بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقَها غلاماً، فولدت غلاماً فسمته سمعون، تقول: الله سمع دعائي. فكبر الغلام فأسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائها وتبناه فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبياً، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه أحداً غَيره فدعاه بلحن الشيخ: يا شمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني! فكره الشيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بنيّ، ارجع فنم، فرجع الغلام فنام. ثم دعاه الثانية فلباه الغلام أيضاً، فقال: دعوتني! فقال ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبرئيل عليه السلام فقال: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوّة ولم يألك وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً يقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك، قال لهم سمعون: عسى إن كُتِبَ عليكم القتال ألاّ تقاتلوا.
قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا بأداء الجزية، فدعا الله فأتى بعصاً، تكون مقداراً على طول الرجل الذي يُبعث فيهم ملكاً، فقال: إن صاحبَكم يكون طوله طولَ هذه العصا، فقاسوا أنفسَهم بها، فلم يكونوا مثلَها، وكان طالوت رجلاً سقّاء يستقي على حمار له، فضلّ حمارُه، فانطلق يطلبه في الطريق، فلما رأوه دعوه فقاسوه بها فكان مثلها؛ وقال لهم نبيهم: " إن الله قد بعثَ لكم طالوتَ ملِكاً " قال القوم: ما كنت قطّ أكذبَ منك الساعة، ونحن من سِبْط المملكة، وليس هو من سِبْط المملكة، ولن يؤتَ أيضاً سعةً من المال فنتبعه لذلك، فقال النبي: " إن اللهَ اصطفاه عليكم وزادَه بَسْطةً في العلم والجسم " ، فقالوا: فأن كنت صادقاً فأتنا بآية أنّ هذا ملِك، قال: " إنّ آية مُلْكه أنْ يأتيكُمُ التابوتُ فيه سَكِينةٌ من ربّكم وبقيةٌ مما تَرَكَ أل موسى وأل هارون " .
والسكينة طِسْت من ذهب يُغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح، وكانت الألواح - فيما بلغنا - من در وياقوت وزبرجد، وأما البقية فإنها عصا موسى ورُضاضة الألواح، فأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوّة سمعون، وسلّموا الملك لطالوت.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعتْه عند طالوت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نزلت الملائكة بالتابوت نهاراً ينظرون إليه عياناً، حتى وضعوه بين أظهرهم، قال: فأقرّوا غير راضين، وخرجوا ساخطين.
رجع الحديث إلى حديث السديّ، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفاً، وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأساً يخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي، فلما خرجوا قال لهم طالوت: " إن الله مبتليكم بنهرٍ فمَنْ شرب منه فليس منّي ومَنْ لم يَطعمْهُ فإنه منّي " وهو نهر فلسطين، فشربوا منه هيبةً من جالوت، فعَبر معه منهم أربعة آلاف ورجَع ستة وسبعون ألفاً، فمن شرب منه عطِش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روى، فلما جاوزه هو والذين أمنوا معه، فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضاً وقالوا: " لا طاقةَ لنا اليومَ بجالوتَ وجُنودِه قال الذين يظنّون أنهم ملاقوا الله " ، الذين يستيقنون " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. فرجع عنه أيضاً ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلاثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر.

حدثني المثنّى، قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان لعيلى الذي ربى شمويل ابنان شابان، أحدثا في القُرْبان شيئاً لم يكن فيه كان مِسْوَط القُربان الذي كانوا يسوطونه به كلاّبَيْن، فما أخرجا كان للكاهن الذي يَسُوطه، فجعله ابناه كلاليب، وكانا إذا جاءت النساء يصلّين في القدس يتشبثان بهنّ. فبينما أشمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتاً يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى فقال: لبيك، فقال: مالك دعوتني؟ قال: لا! ارجع فنم، فنام، ثم سمع صوتاً آخر يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى أيضاً، فقال: لبيك؛ مالك دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئاً فقل: " لبيك " مكانك، " مرْني فافعل " ، فرجع فنام فسمع صوتاً أيضاً يقول: أشمويل، فقال: لبيك، أنا هذا فمرني أفعل، قال: انطلق إلى عيلى، فقل له: منعه حُبّ الولد من ان يرجُر ابنيه أن يُحدثا في قدسي وقُرباني، وأن يعصياني، فلأنزعنّ منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنّه وإياهما، فلما أصبح سأله عيلى فأخبره، ففزِع لذلك فزعاً شديداً، فسار إليهم عدوٌّ ممن حوله فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو، فخرجا وأخرجا معهم التابوت الذي فيه الألواح وعصا موسى لينتصروا به. فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم جعل عيلى يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: أنّ ابنيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا، قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو قال فشهِق ووقع على قفاه من كرسيه فمات، وذهب الذين سَبَوُا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم والصنم من فوقه، فأصبح من الغد الصنم تحته، وهو فوق الصنم، ثم أخذوه فوضعوه فوقه، وسمّروا قدميه في التابوت، فأصبح من الغد قد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقىً تحت التابوت، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء! فأخرجوه من بيت آلهتكم. فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوتَ وَجعٌ في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سني بني إسرائيل: لا تزالون تروْنَ ما تكرهون! ما كان هذا التابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم. قالوا: كذبت، قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين، لهما أولاد لم يوضع عليهما نِيرٌ قطّ، ثم تضعوا وراءهما العجل، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيّروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نِيَرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا تِيرهما وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل، وأقبلوا إليه فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات، فقال لهم نبيهم أشمويل اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوة فليدنُ منه، فعرضوا عليه الناس، فلم يقدِرْ أحد على أن يدنوَ منه؛ إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن لهما بأنْ يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة، فكان في بيت أمهما، حتى مَلك طالوت، فصلُح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. فقالت بنو إسرائيل لأشمويل ابعث لنا ملكاً يقاتل في سبيل الله، قال: قد كفاكم الله القتال، قالوا إنا نتخوّف مِنْ حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعثْ لهم طالوت ملكاً وادهُنه بدهن القدس، فضلت حمر لأني طالوت، فأرسله وغلاماً له يطلبانها فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، فقال إن الله قد بعثك ملكاً على بني إسرائيل، قال: أنا! قال: نعم، قال أو ما علمت أنّ سِبْطي أدنى أسباط بني إسرائيل! قال: بلى، قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سِبْطي! قال: بلى، قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال: بلى، قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حُمرَه، وإذا كنت في مكان كذا وكذا نزل عليك الوحي. فدهنَه بدُهْن القدس، وقال لبني إسرائيل: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملِكاً قالوا أنى يكون له المُلْك علينا ونحن أحقُّ بالمُلك منه ولم يؤتَ سَعَةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسْطة في العلم والجسم " .

رجع الحديث إلى حديث السديّ، " ولما برزوا لجالوت وجنودِه قالوا ربّنا أفْرِغ علينا صبراً " فعبر يومئذ أبو داود فيمن عبر في ثلاثة عشر ابناً له، وكان داود أصغَر بنيه وإنه أتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذّافتي شيئاً إلا صرعته، قال: أبشر يا بني، إن الله قد جعل رزقك في قذّافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خيرٌ يعطيكه الله، ثم أتاه يوماً آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح فلا يبقى جبل إلا سبّح معي، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خيرٌ أعطاكه الله - وكان داود راعياً، وكان أبوه خلّفه يأتي إلى أبيه وإلى إخوته بالطعام - فأتى النبي عليه السلام بقرن فيه دُهن وتَنوّر من حديد، فبعث به إلى طالوت، قال: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حتى يدّهن منه ولا يسيل على وجهه، ويكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه. فدعا طالوت بني إسرائيل، فجرّبهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرَغوا قال طالوت لأبي داود: هلْ بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مرّ في الطريق بثلاثة أحجار فكلّمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قال: فأخذهنّ وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قال: مِنْ قتل جالوت زوّجته ابنتي، وأجربت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادّهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلاً مسقاماً مصفارّاً، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبِسه داود تضايق التنّور عليه حتى تنقضّ، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجْسَم الناس وأشدَّهم، فلما نظر إلى داود قُذِفَ في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى، ارجع فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داود: لا بل أنا أقتلك. فأخرج الحجارة فوضعها في القَذّافة، كلما رفع منها حجراً سمّاه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذّافة فعادت الأحجار حجراً واحداً، ثم أرسلَه فصكّ به بين عيني جالوت فنقبَتْ رأسه، ثم قتلته؛ فلم تزل تقتل كلّ إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتَمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه.
فلما رأى ذلك طالوت وجَد في نفسه وحسده، وأراد قتله، فعلم داود أنه يريده بذلك، فسجّى له زِقَّ خمر في مضجعه، فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزقّ ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطرة من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان أكثر شَربه للخمرّ ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصُر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود، هو خيرٌ منّي، ظفرت به فقتلته وظفر بي فكفّ عني! ثم إنه ركب يوماً فوحدهُ يمشي في البريّة، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود - وكان داود إذا فزع لم يدرك - فركض على أثره طالوت، ففزع داود، فاشتدّ فدخل غاراً، فأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتاً، فلما انتهى طالوتُ إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل ها هنا لخرَق بيت العنكبوت، فخيّل إليه فتركه.

وطعن العلماء على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحدٌ عن داود إلا قتله، وأغراه الله بالعلماء يقتلهم، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم يُطيق قتله إلا قتله، حتى أُتِيَ بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر الخبّاز أن يقتلها، فرحمها الخباز، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم. فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي، وينادي: أنشد الله عبداً علم أن لي توبةً إلا أخبرني بها! فلما أكثر عليهم ليالِيَ ناداه منادي من القبور: أن يا طالوت، أما ترضى أن قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتاً! فازداد بكاء وحزناً، فرحمه الخباز فكلمه فقال: مالك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالماً أسأله: هل لي من توبة؟ فقال له الخباز: هل تدري ما مثلُك؟ إنما مثلُك مثلُ ملِك نزل قريةً عشاء فصاح الديك، فتطير منه، فقال: لا تتركوا في القرية ديكاً إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى نُدْلِج، فقالوا له: وهل تركتَ ديكاً يُسمع صوته! ولكن هل تركتَ عالماً في الأرض! فازداد حزناً وبكاء، فلما رأى الخباز منه الجدّ، قال: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله! قال: لا، فتوثق عليه الخباز، فأخبره أن المرأة العالمة عنده، قال: انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت؛ إذا فنَيت رجالهم علمت النساء، فقال: إنها إن رأتك غُشِيَ عليها، وفزعتْ منك، فلما بلغ الباب خلّفه خلفه، ثم دخل عليها الخباز، فقال لها: ألستُ أعظم الناس منّة عليك؟ أنجيتكِ من القتل، وآويتك عندي. قالت: بلى، قال: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسألكِ: هل له من توبة؟ فغشي عليها من الفَرَق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك: هل له من توبة؟ قالت: لا، والله ما أعلم لطالوت توبةً، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبيّ؟ قالوا: نعم هذا قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهما معها إليه، فدعتْ، فخرج يوشع بن نون ينفض رأسه من التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم قال: ما لكم؟ أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قال يوشع: ما أعلم لطالوت من توبة إلا أن يتخلّى من ملكه، ويخرج هو وولده فيقاتلون بين يديه في سبيل الله، حتى إذا قُتِلوا شدّ هو فقُتل؛ فعسى أن يكون ذلك له توبة، ثم سقط ميتاً في القبر.
ورجع طالوت أحزنَ ما كان، رهبة ألا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحَلَ جسمُه، فدخل عليه بنوه وهم ثلاثة عشر رجلاً فكلّموه وسألوه عن حاله، فأخبرهم خبره، وما قيل له في توبته، فسألهم أن يغزوا معه، فجهزهم فخرجوا معه، فشدّوا بين يديه حتى قتلوا، ثم شدّ بعدهم هو فقتل، وملك داود بعد ذلك، وجعله الله نبياً، فذلك قوله عز وجل: " وآتاه الله الملك والحكمة " ؛ قيل: هي النبوة؛ أتاه نبوة شمعون وملك طالوت.
واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن بحرت بن أفيح بن أيش بن بنيامين ين يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقال ابن إسحاق: كان النبي الذي بعث لطالوت من قبره حتى أخبره بتوبته اليسع بن أخطوب؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت أربعين سنة.
ذكر خبر داودابن إيشى بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان داود عليه السلام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبّه - قصيراً أزرق قليلَ الشعر، طاهر القلب نقيّه.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد في قول الله: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت " إلى قوله: " والله عليم بالظالمين " قال: أوحى الله إلى نبيّهم أن في ولد فلان رجلاً يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إليّ أنّ في وَلَدك رجلاً يقتل الله به جالوت. فقال: نعم يا نبي الله، قال: فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال السواري وفيهم رجلاً بارع عليهم، فجعل يعرِضهم على القرْن فلا يرى شيئاً، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صُورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولداً غيرهم. قال: قد صدق يا نبي الله إن لي ولداً قصيراً استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قال: فأين هو؟ قال: في شِعْب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الواديَ قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها. قال: ووجده يحمل شاتين شاتين، يُجيزُ بهما السيل ولا يخوض بهما السيل. فلما رآه قال: هذا هو، لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقِل، عن وهب بن منبّه قال: لما سلّمت بنو إسرائيل المُلك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت: فليغزُ أهلَ مدين، فلا يترك فيها حياً إلا قتله، فإني سأظهرُه عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل مَنْ كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجبُ من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيراً، وساق مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعنّ الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم منْ أطاعني، وأهين من هان عليه أمري. فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيراً، ولم سقت مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقرّبها، قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك المُلك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرِض عليك بنيه، فادهُن الذي آمرك بدُهْن القدس، يكُنْ ملكاً على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض عليّ بنيك، فدعا إيشى أكبرَ ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطّلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، اعرض علي غيره. فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول: ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم. قال: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر؛ فدهنه بدُهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطّلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يُقتل قومي وقومُك؟ ابرُز لي، أو أبرِز لي من شئت، فإن قتلتُك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحاً: من يبرز لجالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى داود.
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حوّل الملك له قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا عنه قولاً في ذلك، فإنهم قالوا: إنما مَلك داود بعدما قتل طالوت وولده.
وقد حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - فيما ذكر لي بعض أهل العلم - عن وهب بن منبّه قال: لما قتل داودُ جالوت، وانهزم جنده قال الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكْر.

قال: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلّمه صنعة الحديد، وألانَه له، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه إذا سبّح، ولم يعطِ الله - فيما يذكرون - أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور - فيما يذكرون - ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لَمُصِيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد عليه السلام فقال: " واذكر عبدنا داود ذا الأيدِ إنه أوّابٌ، إنا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعَشيِّ والإشراق، يعني بذلك ذا القوة.
وقد حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب " ، وقال: أعطيَ قوة في العبادة، وفقهاً في الإسلام. وقد ذُكر لنا أن داود عليه السلام كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر. وكان يحرسه - فيما ذكر - في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: " وشددنا ملكَه " ، قال: كان يحرسُه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذُكر أنه تمنى يوماً من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيَه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.

فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، قال: قال: السديّ: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه، ويوماً يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قال: يا رب أرى الخير كلّه قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم. قال: فأوحى الله إليه أن آباءك ابتُلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء. قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم. قال: فأوحى الله إليه أنك مبتلىً فاحترس. قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلّي، قال: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعدا حتى وقع في كُوّة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر أين يقع فيبعث في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلْقاً، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، قال: فسأل عنها فأخبِر أن لها زوجاً، وأن زوجها غائب بمسلَحة كذا وكذا، قال: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدوّ كذا وكذا. قال: فبعثه ففتح له، قال: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضاً: أن ابعثه إلى عدوّ كذا وكذا، أشد منهم بأساً. قال: فبعثه ففتح له أيضاً، قال: فكتب إلى داود بذلك، قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. قال: فبعثه، قال: فقتل المرّة الثالثة، قال: وتزوّج داود امرأته، فلما دخلتْ عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسوّرا عليه المحراب، قال: فما شعُر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قال: ففزع منهما، فقالا: لا تخف، إنما نحن " خصمان بغى بعضُنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " يقول: لا تحِف، " واهدنا إلى سواء الصراط " إلى عدل القضاء. قال: قُصّا علي قصتكما، قال: فقال: أحدهما: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " . فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمّل بها نعاجه مائة، قال: فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعاً وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمّل بها نعاجي مائة، قال: وهو كاره! قال: وهو كاره، قال: إذاً لا ندعك وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر! قال: فإن ذهبت تَرُوم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا - وفسّر أسباط طَرف الأنف والجبهة - فقال: يا داود، أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة. فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قُتِل، وتزوجت امرأته. قال: فنظر فلم ير شيئاً، قال: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتُلي به، قال: فخرّ ساجداً فبكى، قال: فمكث يبكي ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجداً يبكي، ثم يدعو حتى نبت العُشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله إليه عز وجل إليه أربعين يوماً: يا داود، ارفع رأسك قد غفرتُ لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرتَ لي وأنت حكَمٌ عدل لا تحيف في القضاء؛ إذا جاء أهريا يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه أو بشماله تشخَبُ أوداجه دماً في قِبَل عرشك: يقول يا رب، سل هذا فيم قتلني! قال فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياءً من ربه حتى قبض.
حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراساني، قال: نقَش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها؛ فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.
وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتُحن به، أن نفسه حدثته أنه يُطيق قطْع يوم من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرَض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء.
ذكر من قال ذلك:

جدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، أن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوماً لنسائه، ويوماً لعبادته، ويوماً لقضاء بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل؛ يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يومٌ لا يصيب فيه ذنباً! فأضمر داود في نفسه أنه سيُطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلّق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبّ على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذَها، قال: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤئِسَه من نفسها، قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خَلْقها وحسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضاً إعجاباً بها، وكان قد بعث زوجَها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا - مكان إذا سار إليه لم يرجع - قال: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوّجها - قال: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان - قال: فبينما هو في المحراب إذ تسوّر الملَكان عليه، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوّروا المحراب، فقالوا: " لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " حتى بلغ :ولا تُشطِطْ " أي ولا تملْ " واهدنا إلى سواء الصراط " أي أعدله وخيره، " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " - وكان لداود تسع وتسعون امرأة - " ولي نعجة واحدة " قال: وإنما كان للرجل امرأةٌ واحدة " فقال أكفلنيها وعزّني في الخِطاب " ، أي ظلمني وقهرني. " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " - إلا " وظن داود " ، فعلم أنما أضمِر له، أي عُني بذلك، " فخرّ راكعاً وأناب " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثاً يذكر عن مجاهد، قال: لما أصاب داودَ الخطيئة، خر لله ساجداً أربعين يوماً، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطّى رأسه، ثم نادى: يا رب قرِح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يُرجع إليه من خطيئته شيء. فنودي: أجائع فتطعَم؟ أم مريض فتُشفى؟ أم مظلوم فيُنتصر لك! قال: فنحِب نحْبةً هاج كل شيء كان نبت، فعند ذلك غُفِر له. وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتي بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثُلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبة تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه. وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة أدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق. قال: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: رب ذنبي ذنبي قدِّمْني! قال: فيقدَّم فلا يأمن، فيقول رب أخرني، قال: فيؤخر فلا يأمن.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرّقاشيّ، عن أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فأهمّ، قطَع على بني إسرائيل بعثاً، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلاناً بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يَستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقُتل زوج المرأة، ونزل الملَكان على داود يقصّان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجداً، حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، وأكلت الأرض من جبينه، وهو يقول في سجوده - فلم أحص من الرقاشيّ إلا هؤلاء الكلمات: رب زلّ داود زلة أبعد مما بين المشرق والمغرب! ربي إن لم ترحم ضُعف داود، وتغفر ذنبه جعلتَ ذنبه حديثاً في الخُلوف من بعده. فجاءه جبرائيل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله قد غفر لك الهمّ الذي هممتَ به، فقال داود: قد علمتُ أن الله قادر على أن يغفر ليَ الهم الذي هممتُ به، وقد عرفتُ أن الله عدْلٌ لا يمول، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة؛ فقال: يا رب دمي الذي عند داود! فقال جبرئيل: ما سألتُ ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وسجد داود، فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألتُ الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل له: يا داود، إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عِوَضاً.

ويزعم أهل الكتاب أن داود لم يزل قائماً بالملك بعد طالوت إلى أن كان من أمره وأمر امرأة أوريا ما كان، فلما واقع ما واقع من الخطيئة اشتغل بالتوبة منها - فيما زعموا - واستخفّ به بنو إسرائيل، ووثب عليه ابن له يقال له إيشى، فدعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهلُ الزيغ من بني إسرائيل، قالوا: فلما تاب الله على داود ثابتْ إليه ثائبة من الناس، فحارب ابنه حتى هزمه، ووجّه في طلبه قائداً من قواده، وتقدّم إليه أن يتوقى حتفه، ويتلطف لأسره، فطلبه القائد وهو منهزم، فاضطره إلى شجرة فركض فيها - وكان ذا جُمة - فتعلّق بعض أغصان الشجرة بشعرة فحبسه، ولحقه القائد فقتله مخالفاً لأمر داود، فحزِن داود عليه حزناً شديداً، وتنكر للقائد، وأصاب بني إسرائيل في زمانه طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون الله ويسألونه كشف ذلك البلاء عنهم، فاستجيب لهم، فاتخذوا ذلك الموضع مسجداً، وكان ذلك - فيما قيل - لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه. وتوفي قبل أن يستتم بناءه، فأوصى إلى سليمان باستتمامه، وقتْل القائد الذي قتل أخاه، فلما دفنه سليمان نفّذ لأمره في القائد وقتله، واستتم بناء المسجد.
وقيل في بناء داود ذلك المسجد في ما حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثني إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبّه يقول: إن داود أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم هم؟ فبعث لذلك عُرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب الله عليه ذلك، وقال: قد علمت أني وعدتُ إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلهم معدد نجوم السماء، وأجعلهم لا يحصى عددُهم، فأردتَ أن تعلم عدد ما قلت: إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين، أو أسلّط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو الموت ثلاثة أيام! فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبر، ولا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإن كان لا بدّ فالموت بيده ولا بيد غيره. فذكر وهب بن منبه أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كبيرة لا يدرى ما عددهم، فلما رأى ذلك داود، شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى الله ودعاه فقال: يا رب، أنا آكل الحُمّاض وبنو إسرائيل يَضرَسون! أنا طلبت ذلك فأمرتُ به بني إسرائيل، فما كان من شيء فبي واعف عن بني إسرائيل. فاستجاب الله له ورفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة سالّين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يُبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وأنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست ببانيه، ولكن ابنٌ لك أملّكه بعدك أسميه سليمان، أسلّمه من الدماء.
فلما ملك سليمان بناءه وشرّفه، وكان عمر داود - فيما وردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - مائة سنة.
وأما بعض أهل الكتب، فإنه زعم أن عمره كان سبعاً وسبعين سنة، وأن مدة ملكه كانت أربعين سنة.
ذكر خبر سليمان بن داود عليهما السلامثم ملك سليمان بن داود بعد أبيه داود أمر بني إسرائيل، وسخر الله له الجن والإنس والطير والريح، وآتاه مع ذلك النبوة وسأل ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له فأعطاه ذلك وكان فيما حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره، وكان - فيما يزعمون - أبيض جسيماً وضيئاً، كثير الشعر يلبس من الثياب البياض، وكان أبوه في أيام ملكه بعد أن بلغ سليمان مبلغ الرجال يشاوره - فيما ذكر - في أموره. وكان من شأنه وشأن أبيه داود الحكم في الغنم التي نفشت في حرث القوم، الذين قص الله في كتابه خبرهم و خبرهما فقال: " وداود و سليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً " .

فحدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم، قالا: حدثنا المحاربي، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود في قوله: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرْث إذ نفشت فيه غنم القوم " ، قال: كَرْم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله؟ قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرْم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرْم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرْم كما كان، دفعت الكرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها. فذلك قوله: " ففهّمناها سليمان " . وكان رجلاً غَزّاء لا يكاد يعقد عن الغزو، وكان لا يسمع بملِك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يُذلّه. وكان فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - فيما يزعمون - إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلّت به أمر الرُّخاء فمرّ به شهراً في روْحته، وشهراً في غدوته إلى حيث أراد ويقول الله عز وجل: " فسخّرنا له الريحَ تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب " ، أي حيث أراد، وقال الله: " ولسليمان الريحَ غُدُوُّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ " .
قال: وذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه: كتاب كتبه بعض أصحاب سليمان، إما من الجن، وإما من الإنس: " نحن نزلناه وما بنيناه، ومبنياً وجدناه، غدوْنا من اصطخر فقلْناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله، فبائتون بالشام " .
قال: وكان - فيما بلغني - لتمرّ بعسكره الريح، والرُّخاء تهوى به إلى ما أراد، وإنها لتمرُّ بالمزرعة فما تحرّكها.
وقد حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرّية، فأمر الريح العاصف فرفعته وأمر الرخاء فسيّرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: أنى قد زدتُ في ملكك، أنه لا يتكلم أحدٌ من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك.
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود يوضَع له ستمائة كرسيّ، ثم يجيء أشرافُ الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، قال: ثم يدْعو الطير فتظلّهم، ثم يدعو الريح فتحملهم، قال: فتسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر.
ذكر ما انتهى إلينا من مغازي سليمان

عليه السلام
فمن ذلك غزوته التي راسل فيها بلقيس - وهي فيما يقول أهل الأنساب - يلمقة ابنة اليشرح - ويقول بعضهم: ابنة أيلى شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرح - بن ذي جَدَن بن أيلى شرح بن الحارث بن قيس بن صيفيّ بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم صارت إليه سِلْماً بغير حرب ولا قتال. وكان سبب مراسلته إياها - فيما ذكر - أنه فَقَد الهدهد يوماً في مسير كان يسيره، واحتاج إلى الماء فلم يعلم منْ حضره بُعْدَه، وقيل له علْم ذلك عند الهدهد، فسأل عن الهدهد فلم يجده وقال بعضهم: بل إنما سأل سليمان عن الهدهد لإخلاله بالنّوبة.

فكان من حديثه وحديث مسيره ذلك وحديث بلقيس، ما حدثني العباس بن الوليد الآمليّ، قال: حدثنا علي بن عاصم، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: حدثني مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود إذا سافر أو أراد سفراً قَعَد على سريره، ووضعت الكراسي يميناً وشمالاً، فيأذن للإنس، ثم يأذن للجنّ عليه بعد الإنس، فيكونون خلْف الإنس، ثم يأذن للشياطين بعد الجنّ فيكونون خلْف الجنّ، ثم يرسل إلى الطير فتظلّهم من فوقهم، ثم يرسل إلى الريح فتحملهم وهو على سريره، والناس على الكراسيّ فتسير بهم، غدوُّها شهر ورواحُها شهر، رخاء حيث أصاب، ليس بالعاصف ولا الليّن، وسطا بين ذلك. فبينما سليمان يسير - وكان سليمان اختار من كل طير طيراً؛ فجعله رأس تلك الطير، فإذا أراد أن يسائل شيئاً من تلك الطير عن شيء سأل رأسها - فبينما سليمان يسير إذ نزل مفازةً فسأل عن بُعْد الماء ها هنا، فقال الإنس: لا ندري، فسأل الجنّ فقالوا: لا ندري، فسأل الشياطين، فقالوا: لا ندري، فغضب سليمان فقال: لا أبرح حتى أعلم كم بُعْد مسافة الماء ها هنا! فقالت له الشياطين: يا رسول الله لا تغضب، فإن يك شيئاً يُعلم فالهدهد يعلمه، فقال سليمان: عليّ بالهدهد، فلم يوجدْ، فغضب سليمان فقال: " ما ليّ لا أرى الهدهدَ أمْ كان من الغائبين، لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيَني بسلطانٍ مبينٍ " ، يقول: بعذر مبيّن لم غاب عن مسيري هذا؟ وكان عقابُه للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه فلا يستطيع أن يطير، ويكون من هوام الأرض إن أراد ذلك، أو يذبحه، فكان ذلك عذابه.
قال: ومر الهدهد على قصر بلقيس، فرأى بستاناً لها خلْف قصرها، فمال إلى الخضرة فوقع عليها، فإذا هو بهدهد لها في البستان، فقال هدهد سليمان: أين أنت عن سليمان؟ وما تصنع ها هنا؟ قال له هدهد بلقيس: ومن سليمان؟ فقال: بعث الله رجلاً يقال له سليمان رسولاً، وسخّر له الريح والجنّ والإنس والطير. قال: فقال له هدهد بلقيس: أي شيء تقول! قال: أقول لك ما تسمع، قال: إن هذا لعجب، وأعجبُ من ذاك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة، " أوتيَت من كل شيءٍ ولها عرشٌ عظيم " ، جعلوا الشكر لله أن يسجدوا للشمس من دون الله. قال: وذكر الهدهد سليمان فنهض عنه، فلما انتهى إلى العسكر تلقّته الطير وقالوا: توعّدك رسول الله، فأخبروه بما قال. قال: وكان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمّسه فلا يطير أبداً، فيصير من هوامّ الأرض، أو يذبحه فلا يكون له نسل أبداً. قال: فقال: الهدهد: أو ما استثنى رسول الله؟ قالوا: بل قال: أو ليأتيني بعذر مبين، قال: فلما أتى سليمانَ، قال: ما غيّبك عن مسيري؟ قال: " أحطْت بما لم تُحط به وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين " حتى بلغ " فانظر ماذا يرجعون " . قال: فاعتلّ له بشيء، وأخبره عن بلقيس وقومها وما أخبره الهدهد، فقال له سليمان: قد اعتللت، " سننظر أصدقْت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم " ، قال: فوافقها وهي في قصرها، فألقى إليها الكتاب فسقط في حِجْرها أنه كتاب كريم، وأشفقت منه، فأخذته وألقت عليه ثيابها، وأمرت بسريرها فأخرج، فخرجت فقعدت عليه، ونادت في قومها؛ فقالت لهم: " يأيها الملأ إني أُلقيَ إليّ كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين " ولم أكن لأقطع أمراً حتى تشهدون، " قالوا نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديد والأمر إليكِ فانظري ماذا تأمرين " - إلى - " وإني مرسلةٌ إليهم بهدية " ، فإن قبلها فهذا ملك من ملوك الدنيا وأنا أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبْلها فهذا شيء من الله.
فلما جاء سليمان الهدية قال لهم سليمان: " أتمدّوننِ بمالٍ فما آتانيَ الله خيرٌ مما آتاكم " - إلى قوله: " وهم صاغرون " ، يقول: وهم غير محمودين. قال: بعثت إليه بخرزة غير مثقوبة، فقالت: اثقب هذه، قال: فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذاك، ثم سأل الجن فلم يكن عندهم علم ذاك، قال: فسأل الشياطين، فقالوا: ترسل إلى الأرَضة، فجاءت الأرَضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها فنقبتها بعد حين، فلما رجع إليها رسولها خرجت فزِعة في أول النهار من قومها وتبعها قومها. قال ابن عباس: وكان معها ألفَ قيْل.
قال ابن عباس: أهل اليمن يسمّون القائد قيْلاً، مع كل قَيْل عشرة آلاف. قال العباس: قال عليّ: عشرة آلاف ألف.

قال العباس: قال عليّ: فأخبرنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: فأقبلت بلقيس إلى سليمان ومعها ثلاثمائة قَيْل واثنا عشر قَيْلاً، مع كل قيل عشرة آلاف.
قال عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس: وكان سليمان رجلاً مَهيباً لا يُبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يُسأل عنه، فخرج يومئذ فجلس على سريره، فرأى رهجاً قريباً منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس يا رسول الله، قال: وقد نزلت منا بهذا المكان! قال مجاهد: فوصف لنا ذلك ابن عباس فحزَرْته ما بين الكوفة والحيرة قدْر فرسخ، قال: فأقبل على جنوده فقال: " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " الذي أنت فيه إلى الحين الذي تقوم إلى غدائك. قال: قال سليمان: من يأتيني به قبل ذلك؟ " قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفُك " ، فنظر إلى سليمان، فلما قطع كلامه ردّ سليمان بصره على العرش، فرأى سريرها قد خرج ونبع من تحت كرسيه، " فلما رآه مستقرّاً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر " إذ أتاني به قبل أن يرتد إليّ طرفي " أم أكفُر " إذ جعل من تحت يدي أقدَر على المجيء به منّي. قال: فوضعوا لها عرشها، قال: فلما جاءت قعدتْ إلى سليمان، قيل لها: " أهكذا عرشُكِ " ؟ فنظرت إليه فقالت: " كأنه هو " ! ثم قالت: لقد تركتُه في حصوني، وتركت الجنود محيطة به، فكيف جيء بهذا يا سليمان! إني أريد أن أسألك عن شيء فأخبرنيه، قال: سلي، قالت: أخبرْني عن ماء رواء، لا من سماء ولا من أرض - قال: وكان إذا جاء سليمان شيء لا يعلمه بدأ فسأل الأنس عنه، فإن كان عند الإنس فيه علم وإلا سأل الجن، فإن لم يكن عند الجن علم به سأل الشياطين: قال: فقالت له الشياطين: ما أهون هذا يا رسول الله! مُرِ الخيل فلتجْر ثم تملأ الآنية من عَرَقها، فقال لها سليمان: عرق الخيل، قالت: صدقت. قالت: أخبرني عن لون الربّ. قال: قال ابن عباس: فوثب سليمان عن سريره فخرّ ساجداً. قال العباس: قال عليّ: فأخبرني عمرو بن عبيد، عن الحسن، قال: صعِق فغُشي عليه، فخرّ عن سريره.
ثم رجع، إلى حديثه قال: فقامت عنه، وتفرّقت عنه جنوده، وجاءه الرسول فقال: يا سليمان، يقول لك ربك: ما شأنُك؟ قال: سألتني عن أمر يكابرني - أو يكابدني - أن أعيدَه، قال: فإن الله يأمرك أن تعود إلى سريرك فتعقد عليه، وترسل إليها وإلى منْ حضرها من جنودها، وترسِل إلى جميع جنودك الذين حضروا فيدخلوا عليك فتسألها وتسألهم عما سألتك عنه. قال: ففعل، فلما دخلوا عليه جميعاً، قال لها: عم سألتني؟ قالت: سألتك عن ماء رواء، لا من سماء ولا من أرض، قال: قلت لكِ: عرق الخيل، قالت: صدقت، قال: وعن أي شيء سألتِني؟ قالت: ما سألتك عن شيء غير هذا. قال: قال لها سليمان، فلأي شيء خررتُ عن سريري؟ قالت: قد كان ذاك لشيء لا أدري ما هو - قال العباس: قال عليّ: نسيتْه - قال: فسأل جنودها فقالوا مثل ما قالت، قال: فسأل جنوده من الإنس والجن والطير وكل شيء كان حضره من جنوده، فقالوا: ما سألتك يا رسول الله إلا عن ماء رواء، قال: - وقد كان قال له الرسول: يقول الله لك: عدْ إلى مكانك فإني قد كفيتهم - قال: وقال سليمان: للشياطين: ابنوا لي صرْحاً تدخل عليّ فيه بلقيس، قال: فرجع الشياطين بعضُهم إلى بعض، فقالوا: سليمان رسول الله سخّر الله ما سخر، وبلقيس ملكة سبأ ينكِحها فتلد له غلاماً، فلا ننفكّ من العبودية أبداً.

قال: وكانت امرأة شَعراء الساقين، فقالت الشياطين: ابنوا له بنياناً ليرى ذلك منها، فلا يتزوجها، فبنوا له صرحاً من قوارير أخضر، وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنه الماء، وجعلوا في باطن الطوابيق كل شيء يكون من الدوابّ في البحر من السمك وغيره، ثم أطبقوه، ثم قالوا لسليمان: ادخل الصرح، قال: فألقِي لسليمان كرسيّ في أقصى الصّرح، فلما دخله ورأى ما رأى أتى الكرسي، فقعد عليه، ثم قال: أدخلوا علي بلقيس، فقيل لها: ادخلي الصرح، فلما ذهبت تدخله رأت صورة السمك وما يكون في الماء من الدواب، فحسبته لُجّة - حسبته ماء - وكشفت عن ساقيها لتدخل، وكان شعرُ ساقيها ملتوياً على ساقيها، فلما رآها سليمان، ناداها - وصرف بصره عنها: إنه صرح ممرّد من قوارير، فألقت ثوبها فقالت: " رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " قال: فدعا سليمان الإنس فقال: ما أقبح هذا! ما يُذهب هذا؟ قالوا: يا رسول الله الموسى. قال: المواسي تقطع ساقي المرأة. قال: ثم دعا الجن فسألهم فقالوا: لا ندري، ثم دعا الشياطين فقالوا ما يُذهب هذا؟ قالوا مثل ذلك: الموسى، فقال: المواسي تقطع ساقي المرأة. قال: فتلكّؤوا عليه، ثم جعلوا له النُّورة - قال ابن عباس: فإنه لأول يوم رئيت فيه النورة - فاستنكحها سليمان.
حدثنا ابن حميد: قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب ابن منبه، قال: لما رجعتِ الرسل إلى بلقيس بما قال سليمان، قالت: قد والله عرفتُ ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئاً، وبعثت إليه أنّى قادمة عليك بملوك قومي حتى انظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بسرير مُلْكها الذي كانت تجلس عليه - وكان من ذهب مفصّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ - فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض، ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما تخدُمها النساء، معها ستمائة امرأة تخدُمها. ثم قالت لمن خلّفت على سلطانها: احتفظ بما قبَلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا يرينّه حتى آتيك. ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيْل معها من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جَمَع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يديه، فقال: " يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " . قال: وأسلمتْ فحسُن إسلامها. قال: فزُعم أن سليمان قال لها حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلاً من قومك أوزّجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان لي! قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت، زوجني إن كان لا بد ذا تُبّع ملك همدان، فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك لقومه. قال: فصنع لذي تبّع الصنائع باليمن، ثم لم يزل بها ملكاً يُعمل له فيها ما أراد؛ حتى مات سليمان بن داود عليه السلام.
فلما حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم، فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجِن، إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديَكم. قال: فعمدت الشياطين إلى حجريْن عظيمين، فكتبوا فيهما كتاباً بالمسند: نحن بنينا سَلْحين، سبعة وسبعين خريفاً، دائبين، وبنينا صِرْواح ومراح وبَينون برحاضة أيْدين، وهندة وهنيدة، وسبعة أمجِلة بقاعة، وتلثوم برَيْدة، ولولا صارخ بتهامة، لتركنا بالبون إمارة.
قال: وسَلْحين وصِرْواح ومَراح وبَيْنون وهندة وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن، عملتها الشياطين لذي تبّع، ثم رفعوا أيديهم، ثم انطلقوا، وانقضى ملك ذي تُبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان بن داود عليهما السلام.
ذكر غزوته أبا زوجته

جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض العلماء، قال قال وهب بن منبّه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس إليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع منه شيء في برّ ولا بحر، إنما يركب إليه إذا ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنةٌ لذلك الملك لم يُر مثلُها حسناً وجمالاً، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبّها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه، ووقعت نفسُه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنُها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحكِ ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكرُه وأذكر ملكَه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدَلك الله به ملكاً هو أعظم من ملكه، وسلطاناً هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك لكذلك؛ ولكني إذا ذكرتُه أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوّروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشية لرجوت أن يُذهب ذلك حزني، وأن يسلّيَ عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشيطان، فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئاً، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه، إلا انه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزّرته وقمّصته وعممتْه وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صَباحاً، وبلغ ذلك آصف بن برخيا - وكان صديقاً، وكان لا يُرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضراً كان سليمان أو غائباً - فأتاه فقال: يا نبي الله، كبِرت سِني، ودق عظمي، ونفِذ عمري، وقد حان مني ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه مَنْ مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناسَ بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيباً، فذكر مَنْ مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضّله الله به، حتى انتهى إلى سليمان وذكَره، فقال: ما كان أحلمَك في صغرك، وأورعَك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يُكرَه في صغرك! ثم انصرف فوجَد سليمان في نفسه حتى ملأه غضباً، فلما دخل سليمان دارَه أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتَني جعلت تُثني عليّ بخيرٍ في صغري، وسكتّ عما سِوى ذلك من أمري في كِبَري، فما الذي أحدثتُ في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليُعبد في دارك منذ أربعين صباحاً في هوى امرأة، فقال: في داري! قال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد عرفتُ أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتِيَ بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، ولا تمسّها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائباً إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد، فتمعّك فيه بثيابه تذللاً لله عز وجل وتضرّعاً إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول فيما يقول - فيما ذكر لي والله أعلم: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرَك، وأن يُقِرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرَك! فلم يزلْ كذلك يومه حتى أمسى، يبكي إلى الله ويتضرّع إليه ويستغفره، ثم رجع إلى داره - وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبَه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهّر، وكان لا يمسّ خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكُه في خاتمه، فوضعه يوماً من تلك الأيام عندها كما كان يضعه. ثم دخل مذهبه وأتاه

الشيطان صاحب البحر - وكان اسمه صخراً - في صورة سليمان لا تنكر منه شيئاً، فقال: خاتَمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكَفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غُيّرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتَمي! فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبتَ، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتَمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمانُ أن خطيئته قد أدركته، فخرج يقَف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثّون عليه الترابَ ويسبّونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود. فلما رأى سليمان ذلك عمَد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيُعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلَها، فمكث بذلك أربعين صباحاً، عِدّة ما عُبِد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حُكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحاً، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهنّ: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشدُّه ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامّة، فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشيّ أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويَها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً لله، وعكَفَ عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبتْه له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر.ن صاحب البحر - وكان اسمه صخراً - في صورة سليمان لا تنكر منه شيئاً، فقال: خاتَمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكَفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غُيّرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتَمي! فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبتَ، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتَمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمانُ أن خطيئته قد أدركته، فخرج يقَف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثّون عليه الترابَ ويسبّونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود. فلما رأى سليمان ذلك عمَد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيُعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلَها، فمكث بذلك أربعين صباحاً، عِدّة ما عُبِد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حُكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحاً، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهنّ: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكنّ! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشدُّه ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامّة، فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشيّ أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويَها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً لله، وعكَفَ عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبتْه له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: " ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيّه جسداً " ، قال: الشيطان جسداً " ، قال: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوماً، قال: كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وأمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحداً من الناس غيرها، فجاءته يوماً من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضيَ له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتُلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهاً، قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً. قال: فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم، وجاؤوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان، فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه! قال: فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوْه، فأحدقوا به ثم نشروا فقرؤوا التوراة، قال: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر، قال: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع، وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضُهم فضربه بعصاً فشجّه، قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبَهم الذي ضربه وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته! قال: إنه زعم أنه سليمان، قال: فأعطوه سمكتين مما قد ضُرب عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام على شطّ البحر، فشقّ بطونهما، وجعل يغسلهما، فوجد خاتَمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فرد الله عليه بهاءه ومُلكه، وجاءت الطير حتى حامتْ عليه، فعرف القومُ أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عُذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه.
قال: فجاء حتى أتى مُلكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسُخّرت له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سُخّرت له قبل ذلك، وهو قوله: " وهبْ لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهّاب " .
وبعث إلى الشيطان فأتى به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقُفل، وختم عليه بخاتَمه، ثم أمر به فألقِيَ في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقيق.
قال أبو جعفر: ثم لبث سليمان بن داود في ملكه بعد أن ردّه الله إليه، تعمل له الجن ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وغير ذلك من أعماله، ويعذّب من الشياطين من شاء، ويطلق من أحبّ منهم إطلاقه، حتى إذا دنا أجله، وأراد الله قبضه إليه، كان من أمره - فيما بلغني - ما حدثني به أحمد بن منصور قال: حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة قال حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان نبي الله إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غُرِست، إن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخُرّوب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عمّ على الجن موتى حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصاً، فتوكأ عليها حولاً ميتاً، والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فسقط، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
قال: وكان ابن عباس يقرؤها " حولاً في العذاب المهين " قال: فشكرت الجن الأرضة، فكانت تأتيها بالماء.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السديّ في حديث ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس 0وعن مرة الهمذاني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان سليمان يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يومُ يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: لأي شيء نبتّ؟ فتقول نبتّ لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت: نبتّ دواء لكذا وكذا، فيجعلها لذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها: ما اسمك؟ قالت: أنا الخروبة، قال: ولأي شيء نبتّ؟ قالت: نبتّ لخراب هذا المسجد. قال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات، ولا تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حولَ المحراب، وكان المحراب له كوىً بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك، فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق - ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقف في البيت فلم يحترق ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه، ووجدوا مِنْسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرَضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي في قراءة ابن مسعود: " فمكثوا يدينون له من بعد موته حولاً كاملاً " ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا موت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذاك في قول الله عز وجل: " ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض " - إلى قوله - " في العذاب المُهين " يقول: بيّن أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم. ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين. قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشياطين شكراً لها! وكان جميع عمر سليمان بن داود فيما ذكر نيفاً وخمسين سنة، وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر.
؟؟

ذكر من ملك إقليم بابل والمشرق
من ملوك الفرس بعد كيقباذ
قال أبو جعفر: ونرجع الآن إلى الخبر عمّن ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ.
وملك بعد كيقباذ بن زاغ بن يوجياه كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ الملك. فذُكر أنه قال يوم مَلَكَ: إن الله تعالى إنما خَوّلنا الأرض وما فيها لنسعى فيها بطاعته، وأنه قتل جماعة من عظماء البلاد التي حولَه، وحمى بلاده ورعيّته ممن حواليهم من الأعداء أن يتناولوا منها شيئاً، وأنه كان يسكن بَلْخ، وأنه وُلد له ابن لم يُر مثله في عصره في جماله وكماله وتمام خلْقه، فسمّاه سياوخش، وضمّه إلى رستم الشديد بن دستان بن بريمان بن جودنك بن كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان.

وكان إصبهبذ سِجِسْتان وما يليه من قِبَله يربّيه ويكفلُهُ، وأوصاه به فأخذه منه رستم، فمضى به معه إلى موضع عمله سِجِسْتان، فرباه رستَم ولم يزل في حِجره يجمع له وهو طفلٌ الحواضن والمرضعات، ويتخيرهنّ له، حتى إذا ترعرع جمع له المعلّمين، فتخيّر له منهم من اختاره لتعليمه، حتى إذا قدَر على الركوب علّمه الفروسية حتى إذا تكاملت فيه فنون الآداب، وفاق في الفروسية قدم به على والده رجلاً كاملاً، فامتحنه والده كيقاوس، فوجده نافذاً في كلّ ما أراد بارعاً، فسُرّ به، وكان كيقاوس تزوج - فيما ذكر - ابنة فراسياب ملك الترك، وقيل: بل إنها بنتُ ملك اليمن، وكان يقال لها سوذابة، وكانت ساحرةً، فهويت سياوخش، ودعته إلى نفسها، وأنه امتنع عليها، وذكرتْ لها ولسياوخش قصة يطول بذكرها الكتاب، غير أن آخر أمرهما صار في ذلك - فيما ذكر لي - أن سوذابة لم تزل لما رأت من امتناع سياوخش عليها فيما أرادت منه من الفاحشة بأبيه كيقاوس حتى أفسدته عليه، وتغيّر لابنه سياوخش، فسأل سياوخش رستم أن يسأل أباه كيقاوس توجيهه لحرب فراسياب لسبب منعه بعض ما كان ضمن له عنه إنكاحه ابنته إياه، وصلْح جرى بينه وبينه، مريداً بذلك سياوخش البُعْد عن والده كيقاوس، والتنحي عما تكيد به عنده زوجته سوذابة، ففعل ذلك رستم، واستأذن له أباه فيما سأله، وضم إليه جنداً كثيفاً، فشخص إلى بلاد الترك للقاء فراسياب، فلما صار إليه سياوَخش، جرى بينهما صلح، وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب من الصلْح، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة فراسياب ومناجزته الحرب، إن هو لم يُذْعن له بالوفاء بما كان فارقه عليه، فرأى سياوخش أم في فعله ما كتب به إليه أبوه من محاربة فراسياب بعد الذي جرى بينه وبينه من الصلح والهدنة من غير نقض فراسياب شيئاً من أسباب ذلك عليه عاراً ومنقصة ومأثماً، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك، ورأى في نفسه أنه يؤتَى في كل ذلك من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها فامتنع عليها، ومال إلى الهرب من أبيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به، وترك والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك - وكان السفير بينهما في ذلك - فيما قيل - رجلاً من الترك من عظمائهم يقال له: فيران بن ويسغان - فلما فعل ذلك سياوخش انصرف عنه مَنْ كان معه من جند أبيه كيقاوس.
فلما صار سياوخش إلى فراسياب بوّأه وأكرمه وزوّجه ابنة له يقال لها: وسفافريد، وهي أم كيخسرونَه، ثم لم يزل مُكْرِماً حتى ظهر له أدب سياوخش وعقله وكماله وفروسيته ونجْدته ما أشفق على ملكه منه، فأفسده ذلك عنده، وزاده فساداً عليه سعيُ ابنين له وأخ يقال له: كندر بن فشنجان عليه بإفساد أمر سياوخش عنده، حسداً منهم له، وحذراً على ملكهم منه، حتى مكّنهم من قتله، فذكر في سبب وصولهم إلى قتله أمرٌ يطول بشرحه الخطْب، إلا أنهم قتلوه ومثّلوا به وامرأته ابنة فراسياب حامل منه بابنه كيخسرونه، فطلبوا الحيلة لإسقاطها ما في بطنها فلم يسقط، وأن فيران الذي سعى في عقد الصلح بين فراسياب وسياوخش لما صح عنده ما فعل فراسياب من قتله سياوخش، أنكر ذلك من فعله، وخوّفه عاقبة الغدر، وحذّره الطلب بالثأر من والده كيقاوس ومن رستَم، وسأله دفع ابنته وسفافريد إليه لتكون عنده إلى أن تضع ما في بطنها ثم يقتله.
ففعل ذلك فراسياب، فلما وضعت رقّ فيران لها وللمولود، فترك قتله وستر أمره، حتى بلغ المولود، فوجّه - فيما ذكر - كيقاوس إلى بلاد الترك بيّ بن جوذرز، وأمره بالبحث عن المولود الذي ولدته زوجة ابنه سياوخش، والتأنّي لإخراجه إليه، إذا وقف على خبرِه مع أمه، وأن بيّاً شخَص لذلك؛ فلم يزل يفحص عن أمر ذلك المولود، متنكراً حيناً من الزمان فلا يُعرف له خبر، ولا يدلّه عليه أحد.
ثم وقف بعد ذلك على خبره، فاحتال فيه وفي أمه حتى أخرجهما من أرض الترك إلى كيقاوس، وقد كان كيقاوس - فيما ذكر - حين اتصل به قتلُ ابنه أشخص جماعة من رؤساء قواده؛ منهم رستَم بن دستان الشديد، وطوس بن نوذران، وكانا ذوَي بأس ونجدة، فأثخنا الترك قتلاً وأسراً، وحاربا فراسياب حرباً شديدة وأن رستم قتل بيده شهر وشهرة ابني فراسياب وأن طوساً قتل بيده كندر أخا فراسياب.

وذكر أن الشياطين كانت مسخرة لكيقاوس، فزعم بعضُ أهل العلم بأخبار المتقدمين أن الشياطين الذين كانوا سُخّروا له إنما كانوا يُطيعونه عن أمر سليمان بن داود إياهم بطاعته، وأن كيقاوس أمر الشياطين فبنوا له مدينة سماها كنكدر، ويقال قيقذون؛ وكان طولها - فيما زعموا - ثمانمائة فرسخ، وأمرهم فضربوا عليها سوراً من صُفر، وسوراً من شَبَه، وسوراً من نحاس، وسوراً من فخار، وسوراً من فضة، وسوراً من ذهب. وكانت الشياطين تنقلها ما بين السماء والأرض وما فيها من الدواب والخزائن والأموال والناس. وذكروا أن كيقاوس كان لا يُحدث وهو يأكل ويشرب.
ثم إن الله تعالى بعث إلى المدينة التي بناها كذلك مَنْ يُخْرّبها، فأمر كيقاوس شياطينه بمنع من قصد لتخريبها، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأى كيقاوس الشياطين لا تطيق الدفع عنها، عطف عليها، فقتل رؤساءها. وكان كيقاوس - فيما ذكر - مظفّراً لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظفر عليه وقهره، ولم يزل ذلك أمرُه حتى حدثته نفسُه - لما كان من العز والملك وأنه لا يتناول شيئاً إلا وصل إليه - بالصعود إلى السماء.
فحدثت عن هشام بن محمد أنه شخص من خراسان حتى نزل بابل، وقال: ما بقي شيء من الأرض إلا قد ملكتُه، ولا بد من أن أعرف أمر السماء والكواكب وما فوقها، وأن الله أعطاه قوة ارتفع بها ومَنْ معه في الهواء حتى انتهوا إلى السحاب، ثم إن الله سلبَهم تلك القوة فسقطوا فهلكوا، وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ، وفسَد عليه ملكه، وتمزّقت الأرض، وكثرت الملوك في النواحي، فصار يغزوهم ويغزونه، فيظفر مرة ويُنْكَبُ أخرى.
قال: فغزا بلاد اليمن - والملك بها يومئذ الأذعار بن أبرهة ذي المنار ابن الرائش - فلما ورد بلاد اليمن خرج عليه ذو الأذعار بن أبرهة وكان قد أصابه الفالج؛ فلم يكن يغزو قبل ذلك بنفسه. قال: فلما أظله كيقاوس ووطئ بلاده في جموعه خرج بنفسه في جموع حِميْر وولد قحطان، فظفر بكيقاوس، فأسره، واستباح عسكره، وحبسه في بئر، وأطبق عليه طبقاً. قال: وخرج من سجستان رجل يقال له رستم، كان جباراً قوياً فيمن أطاعه من الناس. فزعمت الفرس أنه دخل بلاد اليمن، واستخرج قبوس من محبسه وهو كيقاوس. قال: وزعم أهلُ اليمن أنه لما بلغ ذا الأذعار إقبال رستم خرج إليه في جنوده وعدد، وخندق كل واحد منهما على عسكره، وأنهما أشفقا على جنديهما من البوار، وتخوفا إن تزاحفا إلا تكون لهما بقية، فاصطلحا على دفع كيقاوس إلى رستم، ووضع الحرب، فانصرف رستم بكيقاوس إلى بابل، وكتب كيقاوس لرستم عتقاً من عبودة الملك، وأقطعه سجستان وزابُلستان، وأعطاه قلنسوة منسوجة بالذهب وتوّجه، وأمر أن يجلس على سرير من فضة، قوائمه من ذهب، فلم تزل تلك البلاد بيد رستم حتى هلك كيقاوس وبعده دهراً طويلاً.
قال: وكان ملكه مائة وخمسين سنة.
وزعم علماء الفرس أن أول من سوّد لباسه على وجه الحداد شادوس بن جودرز على سياوخش، وأنه فعل ذلك يوم وَرَدَ على كيقاوس نعْيُ ابنه سياوخش وقتْل فراسياب إياه، وغدره به، وأنه دخل على كيقاوس، وقد لبس السواد، فأعلمه أنه فعل ذلك لأن يومه يوم إظلام وسواد.
وقد حقق ما ذكر ابن الكلبي من أسْر صاحب اليمن قابوس الحسن بن هانئ في شعر له فقال:
وقاظَ قابوسُ في سلاسلنا ... سنين سبعاً وقت لحاسِبِها
ثم ملك من بعد كيقاوس ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ.

وكان كيقاوس حين صار به وبأمه وسفافريد ابنه فراسياب - وربما قيل وسففره - بيّ بن جوذرز إليه من بلاد الترك، وملّكه، فلما قام بالملك بعد جدّه كيقاوس، وعقد التاج على رأسه خطب رعيته خطبة بليغة، أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب التركي، ثم كتب إلى جوذرز الأصبهبذ - كان - بأصبهان ونواحي خراسان - يأمره بالمصير إليه، فلما صار أعلمه ما عزم عليه من الطلب بثأره من قتْل والده، وأمره بعرض جُنده، وانتخاب ثلاثين ألف رجل منهم، وضمّهم إلى طوس بن نوذران، ليتوجّه بهم إلى بلاد الترك، ففعل ذلك جوذرز، وضمّهم إلى طوس، وكان فيمن أشخص معه برزافره بن كيقاوس، عم كيخسرو وبيّ بن جوذرز، وجماعة كثيرة من إخوته، وتقدم كيخسرو إلى طوس؛ أن يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وألا يمر بناحية من بلاد الترك، وكان فيها أخ له يقال له فروذ بن سياوخش، من امرأة يقال لها برزا فريد، كان سياوخش تزوجها في بعض مدائن الترك أيام سار إلى فراسياب، ثم شخص عنها وهي حُبلى، فولدت فروذ فأقام بموضعه، إلى أن شب فغلط في أمر فروذ - فيما قيل - وذلك أنه لما صار بحِذاء المدينة التي كان فيها فروذ هاج بينه وبينه حربٌ ببعض الأسباب، فهلك فروذ فيها، فلما اتصل خبرُه بكيخسرو كتب إلى برزافره عمّه كتاباً غليظاً، يعلِمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس بن نوذران ومحاربته فروذ أخاه، وأمره بتوجيه طوس إليه مقيّداً مَغلولاً، وتقدّم إليه في القيام بأمر العسكر والنفوذ به لوجهه، فلما وصل الكتاب إلى برزافره، جمع رؤساء الأجناد والمقاتلة، فقرأه عليهم، وأمر بغلّ طوس وتقييده، ووجّهه مع ثقات من رسله إلى كيخسرو، وتولى أمر العسكر، وعبر النهر المعروف بكاسبروذ، وانتهى الخبر إلى فراسياب، فوجّه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته لمحاربته، فالتقوا بموضع من بلاد الترك يقال له واشن، وفيهم فيران بن ويسغان وإخوته طراسيف بن جوذرز صهر فراسياب، وهماسف بن فشنجان، وقاتلوا قتالاً شديداً، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشلٌ لما رأى من شدّة الأمر وكثرة القتلى، حتى انحاز بالعلَم إلى رؤوس الجبال واضطرب على ولد جوذرز أمرُهم، فقتل منهم في تلك الملحمة في وقعة واحدة سبعون رجلاً، وقُتِل من الفريقين بشرٌ كثير، وانصرف برزافره ومن كان معه إلى كيخسرو، وبهم من الغمّ والمصيبة ما تمنوا معه الموت، فكان خوفهم من سطوة كيخسرو أشد، فلما دخلوا على كيخسرو أقبل على برزافره بلائمة شديدة، وقال: أتيتم في وجهكم لترككم وصيتي ومخالفة وصية الملوك، تورد مورد السوء، وتورِث الندامة، وبلغ ما أصيبوا به من كيخسرو حتى رئيت الكآبة في وجهه، ولم يلتذ طعاماً ولا نوماً. فلما مضت لموافاتهم أيام أرسل إلى جوذرز فلما دخل عليه أظهر التوجّع له، فشكا إليه جوذرز برزافره، وأعلمه أنه كان السبب للهزيمة بالعلم وخذلانه ولده، فقال له كيخسرو: إن حقك بخدمتك لآبائنا لازم لنا، وهذه جنودنا وخزائننا مبذولة لك في مطالبة ترتِكَ، وأمره بالتهيؤ والاستعداد والتوجه إلى فراسياب، والعمل في قتله وتخريب بلاده، فلما سمع جوذرز مقالة كيخسرو نهض مبادراً فقبّل يده، وقال: أيها الملك المظفّر، نحن رعيتك وعبيدك، فإن كانت آفة أو نازلة، فلتكن بالعبيد دوم ملوكها، وأولادي المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من مملكة الترك، فلا يغمنّ الملك ما كان، ولا يَدَ عنّ لهوه؛ فإن الحرب دُوَل، وأعلمه أنه على النفوذ لأمره. وخرج من عنده مسروراً.

فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عمّاله في الآفاق يُعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تُعرف بشاه أسطون، من كُوره بلْخ، في وقت وقّته لهم. فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمّه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده. فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرزابة، تولى كيخسرو بنفسه عرْض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان - وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش، يقال لها: شوماهان - فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برّاً وبحراً، وأنه قد قوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصيّر مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبيّ بم جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلَم الأكبر الذي كانوا يسمّونه درفش كابيان، وزعموا أن ذلك العلَم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القوّاد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك إذا وجّهوهم في الأمور العظام. وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كثيرة دون مَنْ ضمّ إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من ناحية الخزر في مثل مَنْ ضمّ إلى ميلاذ، وضمّ إلى شموهان إخوتها وبني عمها وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ.
ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت تذرت أن تطالب بدمه. فمضى جميعُ هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلادَ الترك من ناحية خُراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حَرْبٌ شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بيّ خُمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضاً، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل قصْده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس إصبهبذي فراسياب، والمرشّح للملك من بعده، وجماعة كثيرة من إخوته؛ مثل خُمان، وأوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاذ. ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعة من إخوة فراسياب، مثل: رتدراي، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست. وأسَربروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنِم من الكُراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفاً، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفاً وستين ألف رجل، ومن الكُراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند موافاته.
فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفّت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمرّ بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال: أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصْب نفسك لنا دون فراسياب في هذه المطالبة؟! ألم أبذل لك نفسي، وأعرِض عليك ملكي فلم تحسِن الاختيار؟ ألست الصدوق اللسان، الحافظَ للإخوان، الكاتم للأسرار؟! ألم أعلمْك مكْر فراسياب وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتُك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا؟ ما أغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويلٌ لحلمك وفهمِك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجَعون!

ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علْم بيّ جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيّاً أسيراً في يدي بيّ، فسأل عنه فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش المائل به عند قتله إياه. فقرّب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسَه بالسجود شكراً لربه، ثم قال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي قتلت سياوخش، ومثّلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلّفت من بين الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيّجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين ناراً موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيّبت أيها التركي جماله! ألا بقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتُك وقوتك اليوم! وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلُك لقتلك إياه؛ بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحاً لك ألا تتولاه، وسأقتل مَنْ قتله ببغيه وجرمه.
ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حياً ثم يذبح ففعل ذلك به بيّ، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علَم، وأصبهبذ أصبهبذ؛ فإذا صار إلى الواحد منهم قال له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرافره عمه، فلما دخل عليه أجلسَه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملّكه على كِرْمان ومُكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما دخل قال له: أيها الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك مذْخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها " بُزُرْجفر مذار " ؛ وهي الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجُرْجان وجبالهما، فأحسِنْ رعاية أهلها.
فشكر جوذرز ذلك، وخرَج من عنده بَهِجاً مسروراً، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان؛ مثل جرجين بن ميلاذان، وبيّ، وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بيّ، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان. فدخلوا عليه رجلاً رجلاً؛ فمنهم من ملّكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصّه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص شومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكراً بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سمّاه لهم من بلاد الترك. فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه مِنْ قتل مَنْ قتل، وأسْر مَنْ أسر، وخراب ما خرّب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده - وكان ساحراً - فوجّهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غلبته.

وقيل: إن كيخسرو أشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلاً من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبّى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدّت، وأيقن شيده ألا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربةً خرّ منها ميتاً، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنِعة، وغنم كيخسرو ما كانَ من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل بجميع طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال خنيارث برجال الترك، وامتدّ الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء، والأسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد بسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم أسود ضاربة، فانهزم مولّياً على وجهه هارباً، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ؛ فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو وأصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظُفِر به، فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضِعه ثلاثة أيام، ثم دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حُجّة، فأمر بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو وبدمه، فغَمس فيه يده، وقال هذا بِتِرة سياوخش، وظُلمكم إياه واعتدائكم عليه. ثم انصرف من أذربيجان ظافراً غانماً بهجاً.
وذُكر أن عدة من أولاد كيبيه جدّ كيخسرو الكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب الترك، وأن ممن كان معه كى أرش بن كيبيه، وكان مُمَلّكاً على خوزستان وما يليها من بابل وكى به أرش، وكان مملكاً على كرمان ونواحيها، وكى أوجى بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملّكاً على فارس، وكى أوجى هذا هو أبوكى لهراسف الملك؛ ويقال إن أخاً لفراسياب كان يقال له: كى شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جباراً عاتياً، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاع بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر.
فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوِتْره، واستقرّ في مملكته زهد في الملك، وتنسّك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد لذلك جزعُهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرّعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده في ذلك شيئاً، فلما يئِسوا قالوا بأجمعهم: فإذا قمتَ على ما أنت عليه فسمّ للملك رجلاً نقلّده إياه، وكان لهراسف حاضراً، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيّه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قَبُوله الوصية. وفُقِد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرَى أين مات، ولا كيف كانت منيته، وبعضٌ يقول غيرَ ذلك.
وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو: جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين.
وكان ملك كيخسرو ستين سنة.
أمر إسرائيل بعد سليمان

ابن داود عليهما السلام
رجع الحديث إلى الخبر عن أمر بني إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام.
ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رُحُبْعُم بن سليمان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع عشرة سنة. ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رُحُبْعُم، فكان أبياً بن رُحُبْعُم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط؛ وذلك أن سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قرّبته في داره، وكانت قرّبت فيها جُرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعضِ المُلك عن ولده، فكان ملك رُحُبْعُم إلى أن تُوفِيَ - فيما ذكر - ثلاث سنين.
ثم ملك أسا بن أبيّا أمر السِّبطين اللذيْن كان أبوه يملك أمرهما - وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين - إلى أن توفّى، إحدى وأربعين سنة.
؟؟ذكر خبر أسا بن أبيّا وزرح الهنديّ

حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم؛ قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبّه يقول: إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل يقال له أسا بن أبيّا، كان رجلاً صالحاً، وكان أعرجَ، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكاً جباراً فاسقاً يدعو الناس إلى عبادته، وكان أبيّا عابدَ أصنام؛ له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناسَ إلى عبادتهما؛ حتى أضلّ عامة بني إسرائيل، وكان يعبدُ الأصنام حتى توفّى. ثم ملك ابنه أسا من بعدِه، فلما ملكهم بعث فيهم منادياً ينادي: إلا إن الكفر قد مات وأهلُه، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتُها، وظهرت طاعة الله وأعمالُها، فليس كافر من بني إسرائيل يُطلع رأسه بعد اليوم بكُفْر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله. فإن الطوفان لم يُغرِق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته؛ فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقرّ لله معصية يُعمَل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدَنا، حتى نطهّر الأرض من نَجَسها، ونُنقِّبها من دنسها، ونجاهد مَنْ خالفَنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا.
فلما سمع ذلك قومُه ضجّوا وكرهوا، فأتوا أمّ أسا الملك فشكوْا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربِّهم، فتحمّلت لهم أمه أن تكلِّمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده؛ فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورؤوسهم وذوو طاعتهم؛ إذ أقبلت أمّ الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرَها أن تجلس فيه، معرفةً بحقها وتوقيراً لها. فأبت عليه وقالت: لستَ ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر؛ إن أطعتني فيه رَشَدت وأخذت بحظّك، وإن عصيتَني فحظَّك بخَست، ونفسَك ظلمت. إنه بلغني يا بنيّ أنك بدأت قومك بالعظيم؛ دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفرِ بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنّة، وأظهرت فيهم بدعة؛ أردت بذلك - فيما زعمت - تعظيماً لوقارك، ومعرفةً بمكانك، وتشديداً لسلطانك؛ وفي التقصير يا بنيّ دخلت، وبالشَّين أخذت. ودعوت جميعَ الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك؛ أردت بذلك أن تُعيد الأحرار لك عبيداً، والضعيف لك شديداً؛ سفّهت بذلك رأيَ العلماء، وخالفتَ الحكماء، واتّبعت رأي السفهاء، ولعمري ما حملك على ذلك يا بنيّ إلا كثرة طيشك، وحداثةُ سنك، وقلةُ علمك؛ فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلستَ من نسل والدك، ولا ينبغي الملْك لمثلك. يا بنيّ بأي شيء تُدلُّ على قومك؟ لعلك أوتيت من الحروف مثل ما أتى موسى إلى فرعون؛ أن غرّقه وأنجى قومه من الظَّلمة. أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود؛ أن قتلَ الأسد لقومه، ولحِق الذئب فشقّ شِدْقه، وقتل جالوت الجبّار وحده. أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضلَ مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء؛ إذ صارت حكمتُه مثلاً للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتِك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن لأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
فلما سمعها الملك اشتد غضبُه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمّه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي. هلّمي إلى أمر إن أطَعتني فيه رَشدت، وإن تركتِه غويت؛ أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يردّ هذا عليّ إلا هو لله عدو، وإنا ناصره لأني عبدُه.
قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دينَ آبائي وقومي. ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الربّ الذي تدعوني إليه.
فقال لها الملك: حينئذ يا أمّه، إن قولَك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحِمي.
وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجَها وغرّبوها، ثم أوصى إلى صاحب شُرطته وبابه أن يقتلها إن هي ألمّت بمكانه.

فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة، فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمّه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرَهم. فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام؛ ائتمروا بأن يهربوا من بلاده، ويسكنوا بلاداً غيرها؛ فخرجوا متوجّهين إلى زَرْح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على أسا ومن اتبعه؛ فلما دخلوا على زرْح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيدك، قال: وأي عبيد أنتم؟ قالوا: نحن من أرضك أرضِ الشام، وإنا كنا نعتز بملكك، حتى ظهر فينا ملك صبيّ حديث السن سفيه، فغيّر ديننا، وسفّه رأينا، وكفّر آباءنا، وهان عليه سخطُنا، فأتيناك لنُعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا؛ ونحن رؤوسهم، وهي أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيّبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملْك ثلاثين ملكاً، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه؛ فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحدٌ فيها يناصبك، هم دافعون أيديَهم إليك بغير قتال، بأموالهم وأنفسهم مسالمة.
قال: لهم زرح: لعمْري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة قوم لعلّهم أطوعُ لي منكم، حتى أبعثَ إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمرُ على ما تكلّمتم به قدّامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتُكم عليها ملوكاً، وإن كان كلامكم كذباً فإني منزِل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذَبني.
قال القوم: تكلّمت بالعدل، وحكمتَ بالقسط، ونحن به راضون. فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريَت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس، فأوصاهم بوصيته، وخوّفهم وحذّرهم بطشه إن هم كذَبوه، ووعدهم المعروف إن هم صدَقوه. وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحّكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا لي أرضاً من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتُعلموني علْم أهلها وملِكها وجنودها وعددها وعدد مياههَا، وفِجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها؛ حتى كأني شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره. وخذوا معَكم من الخزائن من الياقوت والمرجان والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوْه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه.
فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهّزهم لبرّهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين أتوهم الطرقَ، ودلّوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار؛ حتى نزلوا ساحلَ البحر، ثم ركبوا منه حتى أرسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلّفوا أثقالهم فيها، وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم؛ فلم يُفرغوا لبضاعتهم، وكسدت تجارتُهم، فجعلوا يُعطون بالشيء القليل الكثير؛ لكيلا يخرجوهم من قريتهم، حتى يعلموا أخبارَهم، ويحقّوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من أخبارهم.
وكان أسا الملك قد تقدّم إلى نساء بني إسرائيل ألا يُقْدّر على امرأة لا زوج لها بهيئة امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار؛ فإن إبليس لم يدخل على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء؛ فكانت المرأة التي لا زوج لها لا تخرج إلا منتقبة في رِثّة الثياب لئلا تعرف؛ فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنُه مئة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خُفية بالليل سراً، لا يعلم بهنّ أحد من أهل دينهن؛ حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رؤوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان والياقوت هديّة للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك وشأنه إذ لم يشترِ منهم شيئاً، ما شأن الملك لا يشتري منا شيئاً! إن كان غنياً فإن عندنا من طرائف البضاعات فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجاً فما يمنعه أن يشهدّنا فنعطيَه ما شاء بغير ثمن! قال لهم منْ حضرهم من أهل القرية: إن له من الغنى والخزائن وفنون المتاع ما لم يُقْدر على مثله؛ إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار بها من مصر، والحليّ الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفةُ موسى، وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدّر على مثلها.

قال الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكاً انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذاً قتالُه إياه؟ وما عدّته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم القوم وقالوا: إن أسا قليلةٌ عدّته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقاً لو دعاه واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها؛ فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلْق يطيقه.
قال لهم الأمناء: ومنْ صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتالُه؟ وكم عدد عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟ فأجابهم القوم: أما مسكنُه ففوق السموات العلا، مستوٍ على عرشه، لا يحصى عدد جنوده، وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطمّ على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في عنصرها ولا يُرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره.
فجعل الأمناء يكتبون كل شيء أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يأيها الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنُرخصه عليك.
قال لهم: أئتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قال لهم: هل يبقى هذا لأهله ويبقون له؟ قالوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله. قال لهم أسا: لا حاجة لي فيه، إنما طَلِبتي ما تبقى بهجتُه لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه.
فخرجوا من عنده، وردّ عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهنديّ ملكهم. فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه بصديق أسا. فلما سمع زرح كلامَهم استحلفهم بعزّته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما ولهما يصلّون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئاً. فصدّقوه.
فلما فرغوا من خبرهم وخبرُ أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون؛ أرادوا بذلك ترهيبكم. إن صديق أسا لا يطيق أن يأتيَ بأكثر من جندي، ولا بأكمل من عدّتي، ولا بأقسى قلوباً ولا أجرأ على القتال من قومي؛ إن لقيَني بألف لقيته بأكثر من ذلك.
ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهّزوا من كل مخلاف جنداً بعدّتهم حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مَنْ سواهم من الأمم ممن جرت عليه لزرح طاعة، كتب: من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضاً قد دنا حصادُها وأينع ثمرُها؛ وأردت أن تبعثوا إليّ بعمال أغنّمهم ما حصدوا منها، وهم قوم قصَوْا عني، وغلَبوا على أطراف من أرضي وقهروا مَنْ تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم مَنْ نهض إليهم معي، فإن قصّرت بكم قوّة فعندي قوّتكم، فإنه لا تتعطل خزائني.
فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدّوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة؛ فلما اجتمعوا عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ عددهم ألف ألف ومائة ألف سوى أهل بلادهم. وأمر بمائة مركب فقِرن له البغال، كل أربعة أبغُل جميعاً عليها سرير وقبّة، وفي كل قبّة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلَته، فبلغ في كل عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رؤوسهم، وجعل في كل عسكر عرفاء، وخطبهم وحرّضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزّز وتعظّم شأنه في قلوب مَنْ حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمَه مني؟ أو مَنْ يطيق غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إليّ وإلى جندي ما اجترأ على قتالي؛ لأن عندي بكل واحد من جنده ألفاً من جنودي، ليَدخُلنّ أسا أرضي أسيراً، ولأقدمنّ سُبِيّاً في جنودي.

فجعل زرح ينتقص أسا ويقول فيه ما لا ينبغي، فبلغ أسا صنيعُ زرح وجمعُه عليه، فدعا ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوّتك خلقت السموات والأرض ومَنْ فيهنّ حتى صار جميع ذلك في قبضتك، أنت ذو الأناة الرفيقة، والغضب الشديد، أسألك ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك؛ ولكن تذكرنا برحمتك التي جعلتَها للخلائق، فانظر إلى ضَعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلّتنا وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغمّ، وانظر إلى ما فيه عدوّنا من الفرح والراحة، فغرق زرحاً وجنوده في اليم بالقدرة التي غرّقت بها فرعون وجنوده، وأنجيت موسى وقومه. وأسألك أن تُحلّ على زرح وقومه عذابك بغتة! فأرِيَ أسا في المنام - والله أعلم - أني قد سمعت كلامَك، ووصل إلي جُؤارُك، وأني على عرشي، وأني إن غرّقت زرحاً الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا مَنْ كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن سأظهِر في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى أكفيك مؤنتهم، وأهبَ لك غنيمتهم، وأضعَ في أيديكم عساكرَهم؛ حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليّه، ولا يهزَم جنده، ولا يخيب مُطيعُه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبداً، وعساكره لك ولقومك خَوَلاً.
فسار زرح ومن معه حتى حلّوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومحوا مروجَها؛ حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرّق زرح عساكره منها إلى إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرضُ جبالها وسهولها، وامتلأت قلوبُ أهل الشام منهم رُعباً، وعاينوا هَلكتهم.
فسمع بهم أسا الملك؛ فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم. فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تلّ، ثم رجعوا إلى أسا فأخبروه أنه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلَهم ومثلَ أفيالهم وخيولهم وفرسانهم؛ وما ظننّا أن في الناس مثلَهم كثرة وعدة، فلَّت من إحصائهم عقولُنا، وفُلَّت من قتالهم حيلتنا، وانقطع بيننا وبينهم رجائنا فسمع بذلك أهلُ القرية فشقّوا ثيابهم، وذرّوا التراب على رؤوسهم، وعجّوا بالعويل في أزقّتهم وأسواقهم، وجعل بعضُهم يودّع بعضاً. ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم فدافعون إليهم أيديَنا، لعلهم أن يرحمونا فيقرّونا في بلادنا. قال لهم أسا الملك: معاذ الله أن نُلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نُخلّيَ بيت الله وكتابه للفجرة! قالوا: فاحتلْ لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدُنا بنصره وتدهونا إلى الإيمان به، فإن هو كشفَ عنا هذا البلاء؛ وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا نتخلّص بذلك من القتل.
قال لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة. قالوا: فابرز له لعله أن يجيبك فيرحم ضعيفنا، فإن الصديق لا يسلِم صديقه على مثل هذا. فدخل أسا المصلى، ووضع تاجه من رأسه، وخلّى ثيابه، ولبس المُسوح وافترش الرماد، ثم مدّ يده يدعو ربع بقلب حزين، وتضرّع كثير، ودموع سِجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ أنت المستخفى من خلْقك حيث شئت ولا يدرَك قرارك، ولا يطاق كنْهُ عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام؛ أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيُّك موسى فأنجيت بني إسرائيل من الظلَمة، وأعتقهم به من العبودية، وسيّرتهم في البر والبحر، وغرّقت فرعون ومن اتبعه. وبالتضرّع الذي تضرّع لك عبدك داود فرفعته، ووهبتَ له من بعد الضعف القوة، ونصرتَه على جالوت الجبار، وهزمتَه. وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملّكته على كل دابّة. أنت محيي الموتى، ومُفني الدنيا، وتبْقَى وحدك خالداً لا تفنى، وجديداً لا تبلى. أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرجُ مسكين من أضعف عبادك، وأقلهم حيلة، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء.

وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجاً وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع الخلائق إلا من أطاعك.
فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجداً، ثم أتاه من الله آت - والله أعلم - فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يُسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول إني قد ألقيت عليك محبتي ووجب لك نصري فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من توكل علي، ولا يضعف من تقوي بي. كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت تدعوني آمناً، وأنا أسلمك خائفاً، إن الله القوي يقول: أنا أقسم أن لو كايدتك السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجاً، فأنا الذي أبعث طرفاً من زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلُص إليك ولا إلى من معك أحد.
فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفراً وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض: إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقاً أن الله قد أجابه إذاً لأصلح رجله، ولكن يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه، وتكذيب بالله، وكتب فيها: أن أدعُ صديقك الذي أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره، لأني أنا زرح الهندي الملك.
فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قال: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف وعلمتُ ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيراً، غير أن عبدك زرحاً يكايدك ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده.
فأوحى الله إلى أسا - والله أعلم - أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل لأمري، فاخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا على نشز من الأرض.
فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلاً من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا إلى الدنيا. فوقفوا لزرح على رابية من الأرض، فأبصروا منها زرحاً وقومه، فلما أبصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعاً، وأسا في ذلك كثير تضرعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة وأرى ألا أقاتلهم.
فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضى فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول. ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلبُ شيء وأقهره، وعبادهُ أذل وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا ولن يغلب أحد كان الله معه فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35