كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والدائم بلا زوال، والقائم على كل شيء بغير انتقال، والخالقِ خلقه من غير أصلٍ ولا مثال فهو الفردُ الواحد من غير عدد، وهو الباقي بعد كل أحد، إلى غير نهاية ولا أمد. له الكبرياءُ والعظمة، والبهاء والعزة، والسلطان والقدرة، تعالى عن أن يكون له شريك في سلطانه أو في وحدانيته نديد، أو في تدبيره مُعين أو ظهير، أو أن يكون له ولد، أو صاحبة أو كُفء أحد، لا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، حمد من أفرده بالحمد، وشكر من رجا بالشكر منه المزيد، وأستهديه من القول والعمل لما يقربني منه ويرضيه، وأومنُ به إيمانً مخلص له التوحيد، ومفرد له التمجيد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده النجيب، ورسوله الأمين، اصطفاه لرسالته، وابتعثه بوحيه، داعياً خلقه إلى عبادته، فصدع بأمره، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، وعبده حتى أتاه اليقين من عنده، غير مقصر في بلاغ، ولا وانٍ في جهاد، صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها، وسلّم.
أما بعد، فإنّ الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، خلقّ خلقه من غير ضرورة كانت به إلى خلقهم، وأنشأهم من غير حاجة كانت به إلى إنشائهم، بل خلق من خصّه منهم بأمره ونهيه، وامتحنه بعبادته، ليعبدوه فيجود عليهم بنعمه، وليحمدوه على نعمه فيزيدهم من فضله ومننه، ويسبغ عليهم فضله وطوله، كما قال عز وجل: " وما خلقت الجن والإنس إلى ليعبدون. ما أزيد منهم من رزق وما أريدُ أن يطعمونِ إنَّ الله هوَ الرزاقُ ذو القوةِ المتين " .
فلم يزده خلقهُ إياهم - إذ خلقهم - في سلطانه على ما لم يزل قبل خلقه إياهم مثقالَ ذرة، ولا هو إن أفناهم وأعدمهم ينقصه إفناؤه إياهم ميزان شعرة، لأنه لا تغيره الأحوال ، ولا يدخلُه الملال، ولا ينقصُ سلطانه الأيام والليال، لأنه خالق الدهور والأزمان، فعم جميعهم في العاجل فضله وجودهُ، وشملهم كرمه وطوله فجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، وخصهم بعقول يصلون بها إلى التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها المنافع والمضار، وجعل لهم الأرض بساطاً ليسلكوا منها سبُلاً فجاجاً، والسماء سقفاً محفوظاً وبناء مسموكاً، وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاق بالمقدار، وأجرى لهم فيها قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباساً، والنهار معاشاً، وخالف - منّاً منه عليهم وتطولاً - بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا آية الليل وجعل أية النهار مبصرةً، كما قال جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا أية الليلِ وجعلنا أية النهار مبصرةً لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناهُ تفصيلاً " .
وليصلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين، من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم، وحين حل ديونهم وحقوقهم، كما قال عز وجل: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج " ، وقال: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدرهُ منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلقَ الله ذلك إلى بالحق يفصلُ الآياتِ لقومٍ يعلمونَ. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقونَ " .
إنعاماً منه بكل ذلك على خلقه، وتفضلاً منه به عليهم وتطولا، فشكره على نعمه التي أنعمها عليهم من خلقه خلق عظيم، فزاد كثيراً منهم من آلائه وأياديه، على ما ابتدأهم به من فضله وطوله، كما وعدهم جل جلاله بقوله: " وإذا تأذنَ ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنِّ عذابي لشديدٌ " ، وجمع لهم إلى الزيادة التي زادهم في عاجل دنياهم، الفوز بالنعيم المقيم، والخلود في جنات النعيم، في آجل آخرتهم. وأخر لكثير منهم الزيادة التي وعدهم فمدهم إلى حين مصيرهم إليه. ووقت قدومهم عليه، توفيراً منه كرامته عليهم يوم تبلى السرائر. وكفر نعمه خلق منهم عظيم، فجحدوا آلاءه وعبدوا سواه، فسلب كثراً منهم ما ابتدأهم به من الفضل والإحسان، وأحل بهم النقمة المهلكة في العاجل، وذخر لهم العقوبة المخزية في الآجل، ومتع كثيراً منهم بنعمه أيام حياتهم استدراجاً منه لهم، وتوقيراً منه عليهم أو زارهم، ليستحقوا من عقوبته في الآجل ما قد أعد لهم.
نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونسأله التوفيق لما يدنى من رضاه ومحبته.
قال أبو جعفر: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتدأ ربنا جلّ جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم، من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل، أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف، فزاده إلى ما ابتدأه به من نعمه في العاجل نعماً، وإلى ما تفضل به عليه فضلاً، ومن أخر ذلك له منهم، وجعله له عنده ذخراً. ومن كفر منهم نعمه فسلبه ما ابتدأه به من نعمه، وعجل له نقمه. ومن كفر منهم نعمه فمتعه فما أنعم به عليه إلى حين وفاته وهلاكه، مقروناً وذكرُ كل من أنا ذاكره منهم في كتابي هذا بذكر زمانه، وجمل ما كان من حوادث الأمور في عصره وأيامه إذ كان الاستقصاء في ذلك يقصر عنه العمر وتطولُ به الكبت، مع ذكرى مع ذلك مبلغ مدة أكله، وحين أجله، بعد تقديمي أمام ذلك ما تقديمه بنا أولى، والابتداء به قبله أحجى، من البيان عن الزمان: ما هو؟ وكم قدر جميعه، وابتداء أوله، انتهاء آخره؟ وهل كان قبل خلق الله تعالى إياه شيء غيره؟ وهل هو فانٍ؟ وهل بعد فنائه شيء غير وجه المسبح الخلاق، تعالى ذكره؟ وما الذي كان قبل خلق الله إياه؟ وما هو كائن بعد فنائه وانقضائه؟ وكيف كان ابتداء خلق الله تعالى إياه، وكيف يكون فناؤه؟ والدلالة على أن لا قديم إلا الله الواحد القهار، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى بوجيزٍ من الدلالة غير طويل، إذ لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج لذلك، بل لما ذكرنا من تأريخ الملوك الماضين وجمل من أخبارهم، وأزمان الرسل والأنبياء ومقادير أعمارهم، وأيام الخلفاء السالفين وبعض سيرهم، ومبالغ ولاياتهم، والكائن الذي كان من الأحداث في أعصارهم، ثم أنا متبع آخر ذلك كله - إن شاء الله أيد منه بعون وقوة - ذكر صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأسمائهم وكناهم ومبالغ أنسابهم ومبالغ أعمارهم، ووقت وفاة كل إنسان منهم، والموضع الذي كانت به وفاته. ثم متبعهم ذكر من كان بعدهم من التابعين لهم بإحسان، على محو ما شرطنا من ذكرهم. ثم ملحق بهم ذكر من كان بعدهم من الخلف لهم كذلك، وزائد في أمورهم للإبانة ممن حمدت منهم روايته، وتقبلت أخباره، ومن رفضت منهم روايته ونبذت أخباره، ومن وهن منهم نقله، وضعف خبره. وما السببُ الذي من أجله نُبذ منهم خبره، والعلة التي من أجلها وهن من وهن منهم نقله.
وإلى الله عز وجل أنا راغب في العون ما أقصده وأنويه، والتوفيق لما ألتمسه وأبغيه، فإنه ولي الحول والقوة، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليماً.
وليعلم الناظر في كتابنا هذا أنّ اعتمادي في كلّ ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أبناء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بإخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا.
القول في الزمان ما هوقال أبو جعفر: فالزمانُ هو ساعات الليل والنهار، وقد تعال ذلك للطويل من المدة والقصر منها، والعرب تقول: " أتيتك زمانَ الحجاج أمير، وزمن الحجاج أمير " - تعنى به: إذ الحجاج أمير. وقول: " أتيتك زمان الصرام " وزمن الصرام - تعني به وقت الصرام. ويقولن أيضاً: " أتيتك أزمان الحجاج أمير " فيجمعون الزمان، يريدون بذلك أن يجعلوا كل وقت من أوقات إمارته زماناً من الأزمنة كما قال الراجز:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شرازم بضحك منه التواق
فجعل القميص أخلاقاً، يريد بذلك وصف كل قطعة منه بالأخلاق، كما يقولون: أرض سباسب، ونحو ذلك.
ومن قولهم للزمان: زمن قولُ أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وكنت أمرأً زمناً بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن
يريد بقوله: زمناً وزماناً فالزمان اسم لما ذكرت من ساعات الليل والنهار على ما قد بينت ووصفت.
القول في كم قدر جميع الزمان
من ابتدائه إلى انتهائه وأوله إلى آخره
اختلف السلف قبلنا من أهل العلم في ذلك، فقال بعضهم: قدر جميع ذلك سبعة آلاف سنة.ذكر من قال ذلك حدثنا بان حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا يحيى بن يعقوب، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة، فقد مضى ستة آلاف سنة ومائتا سنة، وليأتين عليها مئون من سنين ليس عليها موحد.
وقال آخرون: قدر جميع ذلك ستة آلاف سنة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن الأعمش، قال: قال كعب: الدنيا ستة آلاف سنة.
حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا سماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بم معقل، أنه سمع وهباً يقول: قد خلا من الدنيا خمسة آلاف سنة وستمائة سنة، وإني لأعرف كل زمان منها، ما كان فيه من الملوك والأنبياء. قلت لوهب بن منبه: كم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما دل على صحته الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار وعلي بن سهل، قالا: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: " أجلكم من أجل من كان قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس " .
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثني عمار بن محمد، ابن أخت سفيان الثوري، أبو اليقظان، عن ليث بن أبي سليم، عن مغيرة بن حكيم، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " وما بقي لأمتي من الدنيا إلى كمقدار الشمس إذا صُليت العصر " .
حدثني محمد بن عوف، قال: حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا شريك، قال: سمعتُ سلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس مرتفعة على قعيقعان بعد العصر، فقال: " ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه " .
حدثنا ابن بشار ومحمد بن المثنى - قال ابن بشار: حدثني خلف بن موسى، وقال ابن المثنى: حدثنا خلف بن موسى - قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه يوماً - وقد كادت الشمس أن تغيب، ولم يبقى منها إلا شق يسير - فقال: " والذي نفس محمد بيده ما بقي من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وما ترون من الشمس إلا اليسير " .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عنيننة، عن علي بن زيد، عن أبي نضر، عن أبي سعيد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس: " إنما مثلُ ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه " .
حدثنا هناد بن السرى وأبو هشام الرفاعي، قالا: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " - وأشار بالسبابة والوسطى.
حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه.
حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة، قالك كأني أنظر إلى إصبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأشار بالمسبحة والتي تليه - وهو يقول: " بعثت أنا والساعة كهذه من هذه " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثني يحيى بن واضح، قال: حدثنا فطر، عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت من الساعة كهاتين " - وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى. حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، قال حدثنا أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " . قال شعبة: سمعت قتادة يقول في قصصه: كفضل إحداهما على الأخرى، قال: لا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد في حديثه: وأشار بالوسطى والسبابة.
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، قال: حدثنا إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: ماذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنتم و الساعة كهاتين " وأشار بإصبعيه.
حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنتم والساعة كتين " .
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمر وبن آبي سلمة، عن الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بين عبد الملك، فذكر مثله.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: حدثني معبد، حدث أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وقال بإصبعيه: هكذا.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " : السبابة والوسطى. قال أبو موسى: وأشار وهب بالسبابة والوسطى.
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح وقتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وقرن بين إصبعيه.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا أبو حازم، قال: حدثنا سهل بن سعد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا، الوسطى والتي تلي الإبهام: " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
حدثنا محمد بن يزيد الآدمي، قال: حدثنا أبو ضمرة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه ولسم قال: " بعثت والساعة كهاتين " - وضم بين إصبعيه الوسطى، والتي تلي الإبهام - وقال: " ما مثلي ومثل الساعة إلى كفرسي رهان " ، ثم قال: " ما مثلي ومثل الساعة إلا كمثل رجل بعثه قوم طليعة، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أتيتم، أتيتم، أنا ذاك أنا ذاك " .
حدثنا أبو كريب، قال حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وجمع بني إصبعيه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة هكذا " وقرن بين إصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وجمع بين إصبعية.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن بشير بن المهاجر، قال: حدثني عبد الله بين بريدة، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بعثت أنا والساعة جميعاً، إن كادت لتسبقني " .
حدثني محمد بن عمر بن هياج، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبيدة بن الأسود، عن مجالد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد الفهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت في نفس الساعة، سبقتُها كما سبقت هذه هذه " لإصبعيه السبابة والوسطى، ووصف لنا أبو عبد الله، وجمعهما.
حدثني أحمد بن محمد بن حبيب، قال: حدثنا أبو نصر، قال: حدثنا المسعودي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن أبي جبيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثتُ مع الساعة كهاتين " ، - وأشار بإصبعيه الوسطى والسبابة - " كفضل هذه على هذه " .
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن شبيل بن عوف، عن أبي جبيرة، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " جئت أنا والساعة هكذا " - قال الطبري: وأرانا تميم، وضم السبابة والوسطى وقال لنا: أشار يزيد بإصبعيه السبابة والوسطى وضمهما - وقال: " سبقتُها كما سبقت هذه هذه في نفس من الساعة " ، أو في نفس الساعة " .
فمعلوم إذ كان اليوم أوله طلوع الفجر وآخره غروب الشمس، وكان صحيحاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ما رويناه عنه قبل، أنه قال بعد ما صلى العصر: " ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلى كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه " .
وأنه قال لأصحابه: " بعثت أنا والساعة كهاتين " - وجمع بين السبابة والوسطى - " سبقتها بقدر هذه من هذه " ، يعني الوسطى من السبابة، وكان قدر ما بين أوسط أوقات صلاة العصر - وذلك إذا صار ظل كل شيء مثليه - على التحري إنما يكون قدر نصف سبع اليوم، يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً، وكذلك فضل ما بين الوسطى والسبابة، إنما يكون نحواً من ذلك وقريباً منه.
وكان صحيحاً مع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب قال حدثني معاوية بن صالح بن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه جبير بن نفير، أنه سمع أبا ثعلبة الخشي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم " ، وكان معنى قول النبي ذلك أن " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم " الذي مقداره ألف سنة - كان بيناً أن أولى القولين - اللذين ذكرتُ من مبلغ قدر مدة جميع الزمان، اللذين أحمدهما عن ابن عباس، والآخر منهما عن كعب - بالصواب، وأشبههما بما دلت عليه الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُ ابن عباس، الذي روينا عنه أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً أنه أخبر عن الباقي من ذلك في حيانه أنه نصف يوم، وذلك خمسمائة عام، إذا كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام - كان معلوماً أن الماضي من الدنيا إلى وقت قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رويناه عن أبي ثعلبة الخشي عنه، كان قدر ستة آلاف سنة وخمسمائة سنة، أو نحواً من ذلك وقريباً منه. والله أعلم.
فهذا الذي قلنا - في قدر مدة أزمان الدنيا، من مبدأ أولها إلى منهى آخرها - من أثبت ما قيل في ذلك عندنا من القول، للشواهد الدالة التي بيناها على صحة ذلك، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يدل على صحة قول من قال: إن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، لو كان صحيحاً سنده لم نعدُ القوم به إلى غيره، وذلك ما حدثني به محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا عبد الصمت ابن عبد الوارث، حدثنا زبان، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحقب ثمانون عاماً، اليوم منها سدس الدنيا " .
فبين من هذا الخبر أن الدنيا كلها ستة آلاف سنة، وذلك أن اليوم الذي هو من أيام الآخرة إذا كان مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وكان اليوم الواحد من ذلك سدس الدنيا، كان معلوماً بذلك أن جميعها ستة أيام من أيام الآخرة، وذلك ستة آلاف سنة.
وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم - على ما في التوراة مما هو فيها من لدن خلق الله آدم إلى وقت الهجرة، وذلك في التوراة التي هي في أيديهم اليوم - أربعة آلاف سنة وستمائة واثنتان وأربعون سنة، وقد ذكروا تفصيل ذلك بولادة رجل رجل، ونبي نبي، وموته من عهد آدم إلى هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وسأذكر تفصيلهم ذلك إن شاء الله، وتفصيل غيرهم ممن فصله من علماء أهل الكبت وغيرهم من أهل العلم بالسير وأخبار الناس إذا انتهيت إليه إن شاء الله.
أما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعته اليهود من ذلك باطل، وأن الصحيح من القوم في قدر مدة أيام الدنيا - من لتدن خلق الله آدم إلى وقت هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سياق ما عنهم في التوراة التي هي في أيديهم - خمسة آلاف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر. وذكروا تفصيل ما ادعوه من ذلك بولادة نبي نبي، وملك ملك، ووفاته من عهد آدم إلى وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعموا أن اليهود إنما تقصوا ما تقصوا من عدد مسني ما بين تاريخهم وتاريخ النصارى دفعاً منهم لنبوة عيسى بن مريم عليه السلام إذا كانت صفته ووقت مبعثه مثبتة في التوراة، وقالوا: لم يأت الوقت الذي وقت لنا في التوراة أن الذي صفته صفة عيسى يكون فيه، وهم ينتظرون - بزعمهم - خروجه ووقته.
وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدعون أن صفته في التوراة مثبتة هو الدخال الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وذكر لهم أن عامة أتباعه اليهود، فإن كان ذلك هو عبد الله بني صياد، فهو من نسل اليهود.
وأما المجوس فإنهم يزعمون أن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرت إلى وقت هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلفة سنة ومائة سنة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك نسباً يعرف فوق جيومرت، ويزعمون أنه آدم أبو البشر، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أنبياء الله ورسله.
ثم أهلُ الأخبار بعد في أمره مختلفون، فمن قائل منهم فيه مثل قول المجوس، ومن قائل منهم أنه تسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة، وأنه إنما هو جامر بن يافت بن نوح، كان بنوح لعيه السلام براً ولخدمته ملازماً، وعليه حدباً شفيقاً، فدعا الله له ولذريته نوح - لذلك من بره به وخدمته له - بطول العمر والتمكين في البلاد، والنصر على من ناوأه وإياهم، واتصال الملك له ولذريته، ودوامه له ولهم، فاستجيب له فيه، فأعطى جيومرت ذلك وولده، فهو أبو الفرس، ولم يزل الملك فيه وفي ولده إلى أن زال عنهم بدخول المسلمين مدائن كسرى، وغلبه أهل الإسلام إياهم على ملكهم.
ومن قائل غير ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما انتهى إلينا من القول فيه إذا انهينا إلى ذكرنا تأريخ الملوك ومبالغ أعمارهم، وأنسابهم وأسباب ملكهم.
القول في الدلالة على حدوث الأوقات
والأزمان والليل والنهار
قد قلنا قبل إن الزمان إنما هو اسم لساعات الليل والنهار، وساعات الليل والنهار إنما هي مقادير من جرى الشمس والقمر في الفلك، كما قال الله عز وجل: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابقُ النهار وكل في فلك يسبحون " .فإذا كان الزمان ما ذكرنا من ساعات الليل والنهار، وكانت ساعات الليل والنهار إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك، كان بيقين معلوماً أن الزمان محدث والليل والنهار محدثان، وأن محدث ذلك الله الذي تفرد بإحداث جميع خلقه، كما قال: " وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " .
ومن جهل حدوث ذلك من خلق الله فإنه لن يجهل اختلاف أحوال الليل والنهار، بأن أحدهما يرد على الخلق - وهو الليل - بسواد وظلمة، وأن الآخر منهما يرد عليهم بنور وضياء، ونسخٍ لسواد الليل وظلمته، وهو النهار.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان من المحال اجتماعهما مع اختلاف أحوالهما في وقت واحد في جزء واحد - كان معلوماً يقيناً أنه لا بد من أن يكون أحدهما كان قبل الآخر منهما، وأيهما كان منهما قبل صاحبه فإن الآخر منهما كان لا شك بعده، وذلك إبانة ودليل على حدوثهما، وأنهما خلقان لخالقهما.
ومن الدلالة أيضاً على حدوث الأيام والليالي أنه لا يوم إلى وهو بعد يوم كان قبله، وقبل يوم كائن بعده، فمعلوم أن ما لم يكن ثم كان، أنه محدث مخلوق، وأن له خالقاً ومحدثاً.
وأخرى، أنا الأيام والليالي معدودة، وما عد من الأشياء فغير خارج من أحد العددين: شفع أو وتر، فإن يكن شفعاً فإن أولهما اثنان، وذلك تصحيح القول بأن لها ابتداء وأولاً، وإن كان وتراً فإن أولها واحد، وذلك دليل على أن لها ابتداء وأولاً، وما كان له ابتداء فإنه لا بد له من مبتدئ، وهو خالقه.
القول في
هل كان الله خلق قبل خلقه الزمان
والليل والنهار شيئاً غير ذلك من الخلققد قلنا قبل: إن الزمان إنما هو ساعات الليل والنهار، وإن الساعات إنما هي قطع الشمس والقمر درجات الفلك.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال هناد: وقرأت سائر الحديث على أبي بكر - أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والحراب، فهذه أربعة، ثم قال: " قل أثنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، لمن سأل قال: وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث الساعات الآجال من يحيا ومن يموت، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة، ثم قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت: قالوا: ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فنزل: " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوبٍ، فاصبر على ما يقولون " .
حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي الصدائي، قالا، حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق أدم بعد العصر من يوم الجمعة، آخر خلق خلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثني محمد بن زيد، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أخبرني ابن سلام وأبو هريرة، فذكرا عن النبي صلى الله عليه وسلم الساعة التي في يوم الجمعة، وذكرا أنه قالها، قال عبد الله بن سلام: أنا أعلم أي ساعة هي، بدأ الله في خلق السموات والأرض يوم الأحد في آخر ساعة من يوم الجمعة، فهي في آخر ساعة من يوم الجمعة. حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يوم الأحد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله فيه الأرض وبسطها، قالوا فالاثنين؟ قال: خلق الله فيه آدم، قالوا: فالثلاثاء؟ قال: خلق فيه الجبال والماء وكذا وكذا وما شاء الله، قالوا: فيوم الأربعاء؟ قال: الأقوات، قالوا: فيوم الخميس؟ قال: خلق السموات، قالوا: فيوم الجمعة؟ قال: خلق الله في ساعتين الليل والنهار، ثم قالوا: السبت - وذكروا الراحة - قال: سبحان الله! فأنزل الله: " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مستا من لغوب " .
فقد بين هذان الخبران اللذان رويناهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر خلقا بعد خلق الله أشياء كثيرة من خلقه، وذلك أن حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله خلق الشمس والقمر، وكان ذلك كله ولا ليل ولا نهار، إذ كان الليل والنهار إنما هو اسم لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر درج الفلك.
إذا كان صحيحاً أن الأرض والسماء وما فيهما، سوى ما ذكرنا، قد كانت ولا شمس ولا قمر - كان معلوماً أن ذلك كله كان ولا ليل ولا نهار.
وكذلك حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر عنه أنه قال: " خلق الله النور يوم الأربعاء " يعني بالنور الشمس إن شاء الله.
فإن قال لنا قائل: قد زعمت أن اليوم إنما هو اسم لميقات ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم زعمت الآن أن الله خلق الشمس والقمر بعد أيام من أول ابتدائه خلق الأشياء التي خلقها، فأثبت مواقيتَ، وسميتها بالأيام، ولا شمس ولا قمر، وهذا إن لم تأت ببرهان على صحته، فهو كلام ينقض بعضه بعضاً! قيل: إن الله سمى ما ذكرته أياماً، فسميته بالاسم الذي سماه به، وكان وجه تسمية ذلك أياماً، ولا شمس ولا قمر، نظير قوله عز وجل: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً " ولا بكرة ولا عشي هنالك، إذ كان لا ليل في الآخرة ولا شمس ولا قمر، كما قال عز وجل: " ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " .
فسمى تعالى ذكره يوم القيامة يوماً عقيماً، إذ كان يوماً لا ليل بعد مجيئه، وإنما أريد بتسمية ما سمي أياماً قبل خلق الشمس والقمر قدرُ مدة ألف عام من أعوام الدنيا، التي العام منها اثنا عشر شهراً من شهور أهل الدنيا، التي تعد ساعاتها وأيامها بقطع الشمس والقمر درج الفلك، كما سمي بكرة وعشياً لما يرزقه أهل الجنة في قدر المدة التي كانوا يعرفون ذلك من الزمان في الدنيا بالشمس ومجراها في الفلك، ولا شمس عندهم ولا ليل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم.
ذكر بعض من حضرنا ذكره ممن قال ذلك: حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج، عن أبي جريج، عن مجاهد أنه قال: يقضي الله عز وجل أمر كل شيء ألف سنة إلى الملائكة، ثم كذلك حتى يمضي ألف سنة، ثم يقضي أمر كل شيء ألفاً، ثم كذلك أبداً، قال: " في يوم كان مقداره ألف سنة " قال: اليوم أن يقول لما يقضي إلى الملائكة ألف سنة: " كن فيكون " ولكن سماه يوماً، سماه كما شاء كل ذلك عن مجاهد، قال: وقوله تعالى: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " قال: هو هو سواء.
وبنحو الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر، بأن الله جل جلاله خلق الشمس والقمر بعد خلقه السموات والأرض وأشياء غير ذلك، ورد الخبر عن جماعة من السلف أنهم قالوه.
ذكر الخبر عمن قال ذلك منهم:حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا ابن يمان، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " .
قال: قال الله عز وجل للسموات: " أطلعي شمسي وقمري، وأطلعي نجومي " .
وقال للأرض: " شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك " ، فقالتا: أتينا طائعين.
حدثنا بشر بن معاذ: قال حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " وأوحى في كل سماء أمرها " ، خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها.
فقد بينت هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن ذكرناها عنه أن الله عز وجل خلق السموات والأرض قبل خلقه الزمان والأيام والليالي، وقبل الشمس والقمر. والله أعلم.
القول في الإبانة عن فناء الزمان والليل والنهار
وأن لا شيء يبقى غير الله تعالى ذكره
والدلالة على صحة ذلك قول الله تعالى ذكره: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " وقوله تعالى: " لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجه " فإن كان كل شيء هالك غير وجهه - كما قال جل وعز - وكان الليل والنهار ظلمة أو نوراً خلقهما لمصالح خلقه، فلا شك أنهما فانيان هالكان، كما أخبر، وكما قال: " إذا الشمس كورت " يعني بذلك أنها عميت فذهب ضوءها، وذلك عند قيام الساعة، وهذا ما لا يحتاج إلى الإكثار فيه، إذ كان مما يدين بالإقرار به جميع أهل التوحيد من أهل الإسلام وأهل التوراة والإنجيل والمجوس، وإنما ينكره قومً من غير أهل التوحيد، لم نقصد بهذا الكتاب قصد الإبانة عن خطأ قولهم. فكل الذين ذكرنا عنهم أنهم مقرون بفناء جميع العالم حتى لا يبقى غير القديم الواحد، مقرون بأن الله عز وجل محييهم بعد فنائهم، وباعثهم بعد هلاكهم، خلا قوم من عبدة الأوثان، فإنهم يقرون بالفناء، وينكرون البعث.القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول
قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره
فمن الدلالة على ذلك أنه لا شيء في العالم مشاهد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا متفرق أو مجتمع، وأنه لا مفترق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أنّ اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن، وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع، فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن.
وإذا كان الأمر فيما في العالم من شيء كذلك، وكان حكم ما لم يشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحدث لا شك أنه محدث بتأليف مؤلف له إن كان مجتمعاً، وتفريق مفرق له إن كان مفترقاً وكان معلوماً بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعاً ومفرقه إن كان مفترقاً من لا يشبهه، ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات، الذي لا يشبهه شيء، وهو على كل شيء قدير - فبين بما وصفنا أن بارئ الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات وأن محدثها الذي يدبرها ويصرفها قبلها، إذ كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئاً إلى ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذكره: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت " ، لأبلغُ الحجج، وأدل الدلائل - لمن فكر بعقل، واعتبر بفهم - على قدم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأن لها خالقاً لا يشبهها.
وذلك أن كل ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال و الأرض و الإبل فإن ابن آدم يعالجه ويدبره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم، غير ممتنع عليه شيء من ذلك. ثم إن ابن آدم مع ذلك غير قادر على إيجاد شيء من ذلك من غير أصل، فمعلوم أن العاجز عن إيجاد ذلك لم يحدث نفسه، وان الذي هو غير ممتنع ممن أراد تصريفه وتقليبه لم يوجده من هو مثله، ولا هو أوجد نفسه، وأن الذي أنشأه وأوجد عينه هو الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يمتنع عليه إحداث شيء شاء إحداثه، وهو الله الواحد القهار.
فإن قال قائل: فما تنكر أن تكون الأشياء التي ذكرت من فعل قديمين؟ قيل: أنكرنا ذلك لوجودنا اتصال التدبير وتمام الخلق، فقلنا: لو كان المدبر اثنين، لم يخلوا من اتفاق أو اختلاف، فإن كانا متفقين فمعناهما واحد، وإنما جعل الواحد اثنين من قال بالاثنين. وإن كانا مختلفين كان محالاً وجودُ الخلق على التمام والتدبير على الاتصال. لأن المختلفين فعل كل واحد منهما خلاف فعل صاحبه بأن أحدهما إذا أحيا أمات الأخر وإذا أوجد أحدهما أفنى الآخر فكان محالاً وجود شيء من الخلق على ما وجد عليه من التمام والاتصال وفي قول الله عز وجل ذكره: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " ، وقوله عز وجل: " ما انخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " أبلغ حجة، وأوجز بيان، وأدل دليل على بطول ما قاله المبطلون من أهل الشرك بالله، وذلك أن السموات والأرض لو كان فيها إله غير الله، لم يخلُ أمرهما مما وصفت من اتفاق واختلاف. وفي القول باتفاقهما فساد القول بالتثنية، وإقرار بالتوحيد، وإحالة في الكلام بأن قائله سمي الواحد اثنين. وفي القول باختلافهما، القول بفساد السموات والأرض، كما قال ربنا جل وعز: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " لأن أحدهما كان إذا أحدث شيئاً وخلقه كان من شأن الآخر إعدامه وإبطاله، وذلك أن كل مختلفين فأفعالهما مختلفة، كالنار التي تسخن، والثلج الذي يبرد ما أسخنته النار.
وأخرى، أن ذلك لو كان كما قاله المشركون بالله لم يخلُ كل واحد من الاثنين اللذين أثبتوهما قديمين من أن يكونا قويين أو عاجزين، فإن كانا عاجزين فالعاجز مقهور وغير كائن إلهاً. وإن كانا قويين فإن كل واحد منهما بعجزه عن صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها. وإن كان كل واحد منهما قوياً على صاحبه، فهو بقوة صاحبه عليه عاجز، تعالى ذكرهُ عما يشرك المشركون!
فتبين إذاً أن القديم بارئ الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء، وهو الكائن بعد كل شيء، والأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان، ولا ليل ولا نهار، ولا ظلمة ولا نور. إلا نور وجهه الكريم. ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع، انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير، سبحانه من قادر قاهر! وقد حدثني علي بن سهل الرملي، قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تسألون بعدي عن كل شيء، حتى يقول القائل: هذا الله خلق كل شيء فمن ذا خلقه! " .
حدثني علي، حدثنا زيد، عن جعفر، قال: قال يزيد بن الأصم حدثني نجبة بن صبيغ، قال: كنت عند أبي هريرة فسألوه عن هذا فكبر وقال: ما حدثني خليلي بشيء إلا قد رأيته - أو أنا أنتظره. قال جعفر: فبلغني أنه قال: إذا سألكم الناس عن هذا فقولوا: الله خالق كل شيء، والله كان قبل كل شيء، والله كائن بعد كل شيء.
فإذا كان معلوماً أن خالق الأشياء وبارئها كان ولا شيء غيره، وأنه أحدث الأشياء فدبرها، وأنه قد خلق صنوفاً من خلقه قبل خلق الأزمنة والأوقات، وقبل خلق الشمس والقمر اللذين يجريهما في أفلاكهما، وبهما عرفت الأوقات والساعات، وأرخت التأريخات، وفصل بين الليل والنهار، فلنقل: فيم ذلك الخلق الذي خلق قبل ذلك؟ وما كان أوله؟
القول في ابتداء الخلق ما كان أولهصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا أبن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح - وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح - عن أيوب بن زياد، قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: أخبرني أبي، قال: قال أبي عبادة بن الصامت: يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن " .
حدثني أحمد بن محمد بن حبيب، قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: اخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وإن أول شيء خلق الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء " .
حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثني محمد بن معاوية الأنماطي، حدثنا عباد بن العوام، حدثنا عبد الواحد بن سليم، قال: سمعت عطاء، قال: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: دعاني فقال: أي بني، اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده والقدر خيره وشره، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: " إن أول ما خلق الله عز وجل خلق القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد " .
وقد اختلف أهل السلف قبلنا في ذلك، فنذكر أقوالهم، ثم نتبع البيان عن ذلك إن شاء الله تعالى.
فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
ذكر من قال ذلك:حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أولُ ما خلق الله من شيء القلم فقال له: اكتب فقال، وما أكتب يا رب؟ قال: أكتب القدر، قال فجري القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات.
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن أبي عباس نحوه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أولُ ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن.
حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش عن أبي ظبيان - أو مجاهد - ، عن ابن عباس بنحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، قال: حدثنا معمر، حدثنا الأعمش أن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق القلم.
حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي الضحا مسلم بن صبيح، عن ابن عباس، قال: إن أول شيء خلق ربي عز وجل القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
وقال آخرون: بل أول شيء خلق الله عز وجل من خلقه النورُ والظلمة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال ابن إسحاق: كان أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، وجعل النور نهاراً مضيئاً مبصراً.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قولُ ابن عباس، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، أنه قال: أول شيء خلق الله القلم.
فإن قال لنا قائل: فإنك قلت: أولى القولين - اللذين أحدهما أن أول شيء خلق الله من خلقه القلم، والآخر أنه النور والظلمة - قولُ من قال: إن أول شيء خلق الله من خلقه القلم، فما وجهُ الرواية عن ابن عباس التي حدثكموها ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال: قلت لابن عباس: إن ناساً يكذبون بالقدر، فقال: إنهم يكذبون بكتاب الله، لآخذن بشعر أجدهم فلأنفضن به، إن الله تعالى ذكره كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فكان أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه؟.
وعن ابن إسحاق، التي حدثكموها ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يقول الله عز وجل: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، فكان كما وصف نفسه عز وجل، إذ ليس إلا الماء عليه العرش، وعلى العرش ذو الجلال والإكرام، فكان أولُ ما خلق الله النور والظلمة؟ قيل: أما قولُ ابن عباس: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئاً، فكان أول ما خلق الله القلم - إن كان صحيحاً عنه أنه قاله - فهو خبر منه أن الله خلق القلم بعد خلقه عرشه، وقد روى عن ابي هاشم هذا الخبر شعبةُ، ولم يقل فيه ما قال سفيان، من أن الله عز وجل كان على عرشه، فكان أول ما خلق القلم، بل روى ذلك كالذي رواه سائر من ذكرنا من الرواة عن ابن عباس أنه قال: أول ما خلق الله عز وجل القلم.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن المثنى، قال: حدثني عبد الصمد ، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو هاشم، سمع مجاهداً قال: سمعت عبد الله - لا يدري ابن عمر أو ابن عباس - قال: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اجرِ، فجرى القلم بما هو كائن، وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فرغ منه.
وكذلك قول ابن إسحاق الذي ذكرناه عنه معناه أنّ الله خلق النورَ والظلمة بعد خلقه عرشه، والماء الذي عليه عرشه. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رويناه عنه أولى قول في ذلك بالصواب، لأنه كان أعلم قائل في ذلك قولاً بحقيقته وصحته، وقد روينا عنه عليه السلام أنه قال: " أولُ شيء خلقه الله عز وجل القلم " من غير استثناء منه شيئاً من الأشياء أنه تقدم خلق الله إياه خلق القلم، بل عم بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أول شيء خلقه الله القلم " كل شيء، وأن القلم مخلوق قبله من غير استثنائه من ذلك عرشاً ولا ماء ولا شيئاً غير ذلك.
فالرواية التي رويناها عن أبي ظبيان وأبي الضحا، عن ابن عباس، أولى بالصحة عن ابن عباس من خبر مجاهد عنه الذي رواه عنه أبو هاشم، إذ كان أبو هاشم قد اختلف في رواية ذلك عنه شعبة وسفيان، على ما قد ذكرت من اختلافهما فيها.
وأما ابن إسحاق فإنه لم يسند قولهُ الذي قاله في ذلك إلى أحد، وذلك من الأمور التي لا يدركُ علمها إلى بخير من الله عز وجل، أو خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت الرواية فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول في الذي ثنى خلق القلمثم إن الله جل جلاله خلق بعد القلم - وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة - سحاباً رقيقاً، وهو الغمام الذي ذكره جل وعز ذكره في محكم كتابه فقال: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمامِ " ، وذلك قبل أن يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن وكيع ومحمد بن هارون القطان، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: " في عماء، فوقه هواء، وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء " .
حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر بن شميل، قال: حدثنا المسعودي، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: أتى قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا عليه، فجعل يبشرهم ويقولون: أعطنا، حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون، فدخلوا عليه فقالوا: جئنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر، قال: فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا، قالوا: قبلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان الله لا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سموات " . ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السراب، ولوددتُ أني تركتها.
حدثني أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن جامع ابن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن الحصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقبلوا البشرى يا بني تميم " ، فقالوا: قد بشرتنا فأعطنا، فقال: " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن " ، فقالوا " قد قبلنا، فأخبرنا عن هذا الأمر كيف كان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان الله عز وجل على العرش، وكان قبل كل شيء، وكتب في اللوح كل شيء يكون " . قال: فأتاني آت فقال: يا عمران، هذه ناقتك قد حلت عقالها، فقمت، فإذا السراب ينقطع بيني وبينها، فلا أدري ما كان بعد ذلك.
ثم اختلف في الذي خلق تعالى ذكره بعد العماء، فقال بعضهم: خلق بعد ذلك عرشه.
ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سنان حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا حيان ابن عبيد الله، عن الضحاك بن مزاحم، قال، قال ابن عباس: إن الله عز وجل خلق العرش أول ما خلق، فاستوى عليه.
وقال آخرون: خلق الله عز وجل الماء قبل العرش، ثم خلق عرشه فوضعه على الماء.
ذكر من قال ذلك:حدثنا موسى بن هارون الهمذاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدى في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالوا: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء.
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل أن يخلق السموات والأرض قبض من صفاة الماء قبضة ثم فتح القبضة فارتفعت دخاناً على الماء، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض ثم قضاهن سبع سموات في يومين، ودحا الأرض في يومين، وفرغ من الخلق اليوم السابع.
وقد قيل: إن الذي خلق ربنا عز وجل بعد القلم الكرسي، ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم بعد ذلك خلق الهواء والظلمات، ثم خلق الماء، فوضع عرشه عليه.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قولُ من قال: إن الله تبارك وتعالى خلق الماء قبل العرش، لصحة الخبر الذي ذكرتُ قيل عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حين سئل: أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء " ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله خلق عرشه على الماء. ومحال إذا كان خلقه على الماء أن يكون خلقه عليه، والذي خلقه غيرُ موجود، إما أن يكون قبله أو معه فإذا كان كذلك فالعرش لا يخلو من أحد أمرين خلق بعد خلق الله الماء، وإما أن يكون خلق هو والماء معاً، فإما أن يكون خلقه قبل خلق الماء، فذلك غير جائز صحته على ما روي عن أبي رزين، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق عرشه عليه، فإن كان ذلك كذلك، فقد كان الماء والريح خلقاً قبل العرش.
ذكر من قال كان الماء على متن الريححدثني ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: سئل ابن عباس عن قوله عز وجل: " وكان عرشه على الماء " : على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الأعمش عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله عز وجل: " وكان عرشه على الماء " على أي شيء كان الماء قال: على متن الريح حدثنا القاسم بن الحسن، حدثنا الحسين بن داود، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
قال: والسموات والأرض وكل ما فيهن من شيء يحيط بها البحار، ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل - فيما قيل - الكرسي.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد أنه سمع وهباً يقول - وذكر من عظمته - فقال: إن السموات والأرض والبحار لفي الهيكل، وإن الهيكل لفي الكرسي، وإن قدميه عز وجل لعلى الكرسي، وهو يحمل الكرسي، وقد عاد الكرسي كالنعل قي قدميه.
وسئل وهب: ما الهيكل؟ قال شيء من أطراف السموات محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط.
وسئل وهب عن الأرضين: كيف هي؟ قال: هي سبع أرضين ممهدة جزائر، بين كل أرضين بحر، والبحر محيط بذلك كله، والهيكل من وراء البحر.
وقد قيل: إنه كان بين خلقه القلم وخلقه سائر خلقه ألف عام.
ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا مبشر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر، قال:سمعتُ ضمرة يقول: إن الله خلق القلم، فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من الخلق، فلما أراد جل جلاله خلق السموات والأرض خلق - فيما ذكر - أياماً ستة، فسمى كل يوم منهن باسم غير الذي سمى به الآخر.
وقيل: إن اسم أحد تلك الأيام الستة أبجد، واسم الآخر منهن هوز، واسم الثالث منهن حطّي واسم الرابع منهم كلمن، واسم الخامس منهن سعفص واسم السادس منهن قرشت.
ذكر من قال ذلك: حدثني الحضرمي، قال: حدثنا مصرف بن عمر واليامي، حدثنا حفص ابن غياث، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من كندة، قال: سمعت الضحاك ابن مزاحم يقول: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، ليس منها يوم إلا له اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت.
وقد حدث به عن حفص غير مصرف وقال: عنه، عن العلاء بن المسيب، قال حدثني شيخ من كندة قال: لقيت الضحاك بن مزاحم، فحدثني قال: سمعت زيد بن أرقم قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، لكل يوم منها اسم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت.
وقال آخرون: بل خلق الله واحداً فسماه الأحد، وخلق ثانياً فسماه الاثنين، وخلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ورابعاً فسماه الأربعاء، وخامساً فسماه الخميس.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق يوماً واحداً فسماه الأحد، ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء، ثم خلق خامساً فسماه الخميس. وهذان القولان غير مختلفين، إذ كان جائزاً أن تكون أسماء ذلك بلسان العرب على ما قاله عطاء، وبلسان آخرين، على ما قاله الضحاك بن مزاحم.
وقد قيل إن الأيام سبعة لا ستة.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه: يقول: الأيام سبعة.
وكلا القولين - اللذين روينا أحدهما عن الضحاك وعطاء، من أن الله خلق الأيام الستة، والآخر منهما عن وهب بن منبه من أن الأيام سبعة - صحيح مؤتلف غير مختلف، وذلك أن معنى قول عطاء والضحاك في ذلك كان أن الأيام التي خلق الله فيهن الخلق من حين ابتدائه في خلق السماء والأرض وما فيهن إلى أن فرغ من جميعه ستة أيام، كما قال جل ثناؤه: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " ، وأن معنى قول وهب بن منبه في ذلك كان أن عدد الأيام التي هي أيام الجمعة سبعة أيام لا ستة.
واختلف السلف في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل فيه في خلق السموات والأرض، فقال بعضهم: ابتدأ في ذلك يوم الأحد.
ذكر من قال ذلك: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن الشيباني، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قال عبد الله بن سلام: إن الله تبارك وتعالى ابتدأ الخلق، فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين.
حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله عز وجل بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب، قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين.
حدثني محمد بن أبي منصور الآملي، حدثنا علي بن الهيثم، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله تعالى: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة، أبتدأ الخلق يوم الأحد.
حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: بدأ الخلق يوم الأحد.
وقال آخرون: اليوم الذي ابتدأ الله فيه في ذلك يوم السبت.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد ابن أبي إسحاق، قال: يقول أهل التوراة: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد: وقال أهل الإنجيل: أبتدأ الله الخلق يوم الاثنين. ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتدأ الله الخلق يوم السبت.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال كل فريق من هذين الفريقين اللذين قال أحدهما: ابتدأ الله الخلق في يوم الأحد، وقال الآخر منهما: ابتدأ في يوم السبت، وقد مضى ذكرنا الخبرين، غير أنا نعيد من ذلك في هذا الموضع بعض ما فيه من الدلالة على صحة قول كل فريق منهما.
فأما الخبر عنه بتحقيق ما قال القائلون: كان ابتداء الخلق يوم الأحد، فما حدثنا به هناد بن السري قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال هناد: وقرأت سائر الحديث - أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال: " خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين " .
وأما الخبر عنه بتحقيق ما قاله القائلون من أن ابتداء الخلق كان يوم السبت، فما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه بيدي، فقال: " خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد " .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله تعالى ذكره فيه خلق السموات والأرض يوم الأحد، لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك.
فأما ما قال ابن إسحاق في ذلك، فإنه إنما استدل - بزعمه - على أن ذلك كذلك، لأن الله عز ذكره فرغ من خلق جميع خلقه يوم الجمعة، وذلك اليوم السابع، وفيه استوى على العرش، وجعل ذلك اليوم عيداً للمسلمين، ودليله على ما زعم أنه استدل به على صحة وقوله فيما حكينا عنه من ذلك هو الدليل على خطئه فيه، وذلك أن الله تعالى أخبر عباده في غير موضع من محكم تنزيله، أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فقال " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون " . وقال تعالى ذكره: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم " .
ولا خلاف بين جميع أهل العلم أن اليومين اللذين ذكرهما الله تبارك وتعالى في قوله: " فقضاهن سبع سموات في يومين " داخلان في الأيام الستة اللاتي ذكرهن قبل ذلك، فمعلوم إذا كان الله عز وجل إنما خلق السموات والأرضين وما فيهن في ستة أيام، وكانت الأخبار مع ذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن آخر ما خلق الله من خلقه آدم، وأن خلقه إياه كان في يوم الجمعة، أن يوم الجمعة الذي فرغ فيه من خلق خلقه داخل في الأيام الستة التي أخبر الله تعالى ذكره أنه خلق خلقه فيهن لأن ذلك لو لم يكن داخلاً في الأيام الستة كان إنما خلق خلقه في سبعة أيام، لا في ستة، وذلك خلاف ما جاء به التنزيل، فتبين إذاً - إذا كان الأمر كالذي وصفنا في ذلك - أن أول الأيام التي ابتدأ الله فيها خلق السموات والأرض وما فيهن من خلقه يوم الأحد، إذ كان الآخر يوم الجمعة، وذلك ستة أيام، كما قال ربنا جل جلاله.
فأما الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بأن الفراغ من الخلق كان يوم الجمعة، فسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
القول فيما خلق الله في كل يوم من الأيام الستة
التي ذكر الله في كتابه أنه خلق فيهن السموات والأرض وما بينهما
اختلف السلف من أهل العلم في ذلك: فقال بعضهم ما حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام، أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقواتَ والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.حدثني موسى بن هارون، حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: جعل - يعنون ربنا تبارك وتعالى - سبع أرضين في يومين: الأحد والاثنين، وجعل فيها رواسي أن تميد بكم، وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها، وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في الثلاثاء والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين: الخميس والجمعة.
حدثنا تميم بن المنصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب ابن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: خلق الله الأرض في يومين. والأحد والاثنين.
ففي قول هؤلاء خلقت الأرض قبل السماء، لأنها خلقت عندهم في الأحد والاثنين.
وقال آخرون: خلق الله عز وجل الأرض قبل السماء بأقواتها من غير أن يدحوها، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله عز وجل حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى: " والأرض بعد ذلك دحاها " .
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها " يعني أنه خلق السموات والأرض، فلما فرغ من السماء قبل أن يخلق أقوات الأرض بث أقوات الأرض فيها بعد خلق السماء، وأرسى الجبال - يعني بذلك دحوها - ولم تكن تصلح أقواتُ الأرض ونباتها إلا بالليل والنهار، فذلك قوله عز وجل: " والأرض بعد ذلك دحاها " ، ألم تسمع أنه قال: " أخرج منها ماءها ومرعاها " ؟ قال أبو جعفر: والصوابُ من القول في ذلك عندنا ما قاله الذين قالوا: إن الله خلق الأرض يوم الأحد، وخلق السماء يوم الخميس، وخلق النجوم والشمس والقمر يوم الجمعة لصحة الخبر الذي ذكرنا قبل عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وغير مستحيل ما روينا في ذلك عن ابن عباس من القول، وهو أن يكون الله تعالى ذكره خلق الأرض ولم يدحها، ثم خلق السموات فسواهن، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، بل ذلك عندي هو الصواب من القول في ذلك، وذلك أن معنى الدحو غير معنى الخلق، وقد قال الله عز وجل: " أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها مرعاها والجبال أرساها " .
فإن قال قائل فإنك قد علمت أن جماعة من أهل التأويل قد وجهت قول الله: " والأرض بعد ذلك دحاها " إلى معنى " مع ذلك دحاها " فما برهانك على صحة ما قلت، من أن ذلك بمعنى بعد التي هي خلاف قبل؟ قيل: المعروف من معنى بعد في كلام العرب هو الذي قلنا من أنها بخلاف معنى قبل لا بمعنى مع ولا بمعنى مع، وإنما توجه معاني الكلام إلى الأغلب عليه من معانيه المعروفة في أهله، لا إلى غير ذلك.
وقد قيل: إن الله خلق البيت العتيق على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحته.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر، قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، ومنه دحيت الأرض.
وإذا كان الأمر كذلك كان خلق الأرض قبل خلق السموات، ودحو الأرض وهو بسطها بأقواتها ومراعيها ونباتها، بعد خلق السموات، كما ذكرنا عن ابن عباس.
وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثني مهران، عن أبي سنان، عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا: ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء، وخلق السموات والملائكة يوم الخميس، إلى ثلاث ساعات بقين من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن أتممت، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون، فغضب، فأنزل الله تعالى: " وما مسنا من لغوبٍ، فاصبر على ما يقولون " .
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أن الله تعالى خلق الأرض قبل السماء، فما معنى قول ابن عباس الذي حدثكموه واصل ابن عبد الأعلى الأسدي، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله تعالى من شيء القلم، فقال له: أكتب، فقال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكبت القدر، قال: فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات، ثم خلق النون، فدحيت الأرض على ظهره، فاضطرب النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض.
حدثني واصل، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس نحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السموات، ثم خلق النون، فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرك النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض. قال: وقرأ: " ن والقلم وما يسطرون " .
حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان - أو مجاهد - عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال: ففتقت منه السموات.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني سليمان، عن ابي ظبيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: اكبت، فقال: ما أكبت؟ قال: اكبت القدر، قال: فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. ثم خلق النون، ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، قال: فإنها لتفخر على الأرض.
حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس قال: أول شيء خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكبت، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم خلق النون فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه.
قيل: ذلك صحيح على ما روى عنه وعن غيره من معنى ذلك مشروحاً مفسراً غير مخالف شيئاً مما رويناه عنه في ذلك.
فإن قال: وما الذي روى عنه وعن غيره من شرح ذلك الدال على صحة كل ما رويت لنا في هذا المعنى عنه؟ قيل له: حدثني موسى بن هارون الهمذاني وغيره، قالوا: حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سمواتٍ " قال: إن الله تعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماءً، ثم أيبس الماء، فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله عز وجل في القرآن: " ن والقلم " - والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة، والصخرة على الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " .
قال أبو جعفر: فقد أنبأ قولُ هؤلاء الذين ذكرتُ: إن الله تعالى أخرج من الماء دخاناً حين أراد أن يخلق السموات والأرض، فسما عليه - يعنون بقولهم: فسما عليه علا على الماء، وكل شيء كان فوق شيء عالياً عليه فهو له سماء - ثم أيبس بعد ذلك الماء، فجعله أرضاً واحدة أن الله خلق السماء غير مسواة قبل الأرض، ثم خلق الأرض.
وإن كان الأمر كما قال هؤلاء، فغير محال أن يكون الله تعالى أثار من الماء دخانا فعلاّه على الماء، فكان له سماء، ثم أيبس الماء فصار الدخان الذي سما عليه أرضاً، ولم يدحها، ولم يقدر فيها أقواتها، ولم يخرج منها ماءها ومرعاها،حتى استوى إلى السماء، التي هي الدخان الثائر من الماء العالي عليه، فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض التي كانت ماء فيبسه ففتقه، فجعلها سبع أرضينن، وقدر فيها أقواتها، و " أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها " ، كما قال عز وجل. فيكون كل الذي روي عن ابن عباس في ذلك - على ما رويناه - صحيحاً معناه.
وأما يوم الاثنين فقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما خلق فيه، وما روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل.
وأما ما خلق في يوم الثلاثاء والأربعاء فقد ذكرنا أيضاً بعض ما روي فيه، ونذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر منه قبل.
فالذي صح عندنا أنه خلق فيهما ما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم: وخلق الجبال فيها - يعني في الأرض - وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول الله عز وجل: " قل أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " ، يقول: من سأل. فهكذا الأمر، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صلاح، قال: حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام، قال: إن الله تعالى خلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء.
حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى خلق الجبال يوم الثلاثاء. فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله تعالى خلق يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب. حدثنا بذلك هناد، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق الجبال يوم الأحد، والشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، حدثني به القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والخبرُ الأولُ أصح مخرجاً، وأولى بالحق، لأنه قول أكثر السلف.
وأما يوم الخميس فإنه خلق فيه السموات، ففتقت بعد أن كانت رتقاً، كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدى، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس وجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة.
وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض " وأوحى في كل سماء أمرها " قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائك، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لم يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظاً، تحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش. فذلك حين يقول: " خلق السموات والأرض في ستة أيام " ، ويقول " كانتا رتقاً ففتقناهما " .
حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام، قال: إن الله تعالى خلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها أدم على عجل، فتلك الساعةُ التي تقوم فيها الساعة.
حدثني تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى خلق مواضع الأنهار والشجر يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحوش والهوام والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، ففرغ من خلق كل شيء يوم الجمعة.
وهذا الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن الله عز وجل خلق السموات والملائكة وآدم في يوم الخميس والجمعة، هو الصحيح عندنا، للخبر الذي حدثنا به هناد بن السري قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: هناد، وقرأت سائر الحديث - قال: وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال، من يحيا ومن يموت، وفي الثاني ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود وأخرجه منها في آخر ساعة.
حدثني القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، قالا: حدثنا حجاج، قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب ابن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: " وبث فيها - يعني في الأرض - الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر خلق في آخر ساعة، من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " .
فإذا كان الله تعالى ذكره خلق الخلق من لدن ابتداء خلق السموات والأرض إلى حين فراغه من خلق جميعهم في ستة أيام، وكان كل يوم من الأيام الستة التي خلقهم فيها مقدارهُ ألف سنة من أيام الدنيا، وكان بين ابتدائه في خلق ذلك القلم الذي أمره بكتابة كل ما هو كائن إلى قيام الساعة ألف عام، وذلك يوم من أيام الآخرة التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام من أيام الدنيا - كان معلوماً أن قدر مدة ما بين أول ابتداء ربنا عز وجل في خلق ما خلق من خلقه إلى الفراغ من آخرهم سبعة آلاف عام. يزيد إن شاء الله شيئاً أو ينقص شيئاً، على ما قد روينا من الآثار والأخبار التي ذكرناها، وتركنا ذكر كثير منها كراهة إطالة الكتاب بذكرها.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان صحيحاً أن مدة ما بين فراغ ربنا تعالى ذكره - من خلق جميع خلقه إلى وقت فناء جميعهم بما قد دللنا قبل، واستشهدنا من الشواهد، وبما سنشرح فيما بعد - سبعة آلاف سنة، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً - كان معلوماً بذلك أن مدة ما بين أول خلقٍ خلقه الله تعالى إلى قيام الساعة وفناء جميع العالم، أربعة عشر ألف عام من أعوام الدنيا، وذلك أربعة عشر يوماً من أيام الآخرة، سبعة أيام من ذلك - وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا - مدة ما بين أول ابتداء الله جل وتقدس في خلق أول خلقه إلى فراغه من خلق آخرهم - وهو آدم أبو البشر صلوات الله عليه، وسبعة أيام أخر، وهي سبعة آلاف عام من أعوام الدنيا، من ذلك مدة ما بين فراغه جل ثناؤه من خلق آخر خلقه - وهو آدم - إلى فناء آخرهم وقيام الساعة، وعود الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يكون غير القديم البارئ الذي له الخلقُ الأمر الذي كان قبل كل شيء فلا شيء كان قبله، والكائن بعد كل شيء فلا شيء يبقى غير وجهه الكريم.
فإن قال قائل: وما دليلك على أن الأيام الستة التي خلق الله فيهن خلقه كان قدر كل يوم منهن قدر ألف عام من أعوام الدنيا دون أن يكون ذلك كأيام أهل الدنيا التي يتعارفونها بينهم، وإنما قال الله عز وجل في كتابه: " الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام " ، فلم يعلمنا أن ذلك كما ذكرت، بل أخبرنا أنه خلق ذلك في ستة أيام، والأيام المعروفة عند المخاطبين بهذه المخاطبة هي أيامهم التي أول اليوم منها طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومن قولك: إن خطاب الله عباده بما خاطبهم به في تنزيله إنما هو موجه إلى الأشهر والأغلب عليه من معانيه، وقد وجهتَ خبرَ الله في كتابه عن خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام إلى غير المعروف من معاني الأيام، وأمرُ الله عز وجل إذا أراد شيئاً أن يكونه أنفذُ وأمضى من أن يوصف بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، مقدارهن ستة آلاف عام من أعوام الدنيا، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، وذلك كما قال ربنا تبارك وتعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " .
قيل له: قد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا إنا إنما نعتمد في معظم ما نرسمه في كتابنا هذا على الآثار والأخبار عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالحين قبلنا دون الاستخراج بالعقول والفكر، إذ أكثره خبرٌ عما مضى من الأمور، وعما هو كائن من الأحداث، وذلك غير مدرك علمه بالاستنباط الاستخراج بالعقول.
فإن قال: فهل من حجة على صحة ذلك من جهة الخبر؟ قيل: ذلك ما لا نعلم قائلاً من أئمة الدين قال خلافه.
فإن قال: فهل من رواية عن أحد منهم بذلك؟ قيل: علم ذلك عند أهل العلم من السلف كان أشهر من أن يحتاج فيه إلى رواية منسوبة إلى شخص منهم بعينه، وقد روي ذلك عن جماعة منهم مسمين بأعيانهم.
فإن قال: فاذكرهم لنا.
قيل: حدثنا ان حميد، قال حدثنا حكام: عن عنبسة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، فكل يوم من هذه الأيام كألف سنة مما تعدون أنتم.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: " في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " قال: الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
حدثنا عبدة، حدثني الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: " في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " : يعني هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهن السموات والأرض وما بينهما.
حدثني المثنى، حدثنا علي، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " .
قال: من أيام الآخرة، كل يوم كان مقداره ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح: عن كعب، قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة، قال: فجعل مكان كل يوم ألف سنة.
حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، قال: يوم من الستة الأيام، كألف سنة مما تعدون.
فهذا هذا. وبعد، فلا وجه لقول قائل: وكيف يوصف الله تعالى ذكره بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام قدر مدتها من أيام الدنيا ستة آلاف سنة، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، لأنه لا شيء يتوهمه متوهم في قول قائل ذلك إلا وهو موجود في قول قائل: خلق ذلك كله في ستة أيام مدتها مدة ستة أيام من أيام الدنيا، لأن أمره جل جلاله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
القول في الليل والنهار أيهما خلق قبل صاحبه
وفي بدء خلق الشمس والقمر وصفتهما إذ كانت الأزمنة بهما تعرف
قد قلنا في خلق الله عز ذكره ما خلق من الأشياء قبل خلقه الأوقات والأزمنة، وبينا أن الأوقات والأزمنة إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك فلنقل الآن: بأي ذلك كان الابتداء، بالليل أم بالنهار؟ إذ كان الاختلاف في ذلك موجوداً بين ذوي النظر فيه، بأن بعضهم يقول فيه: خلق الله الليل قبل النهار، ويستشهد على حقيقة قوله ذلك بأن الشمس إذا غابت وذهب ضوءها الذي هو نهار هجم الليل بظلامه، فكان معلوماً بذلك أن الضياء هو المتورد على الليل، وأن الليل إن لم يبطله النهار المتورد عليه هو الثابت، فكان بذلك من أمرهما دلالة على أن الليل هو الأول خلقاً، وأن الشمس هو الآخر منهما خلقاً، وهذا قولٌ يروي عن ابن عباس.حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سئل: هل الليل كان قبل النهار؟ قال: أرأيتم حين كانت السموات والأرض رتقاً، هل كان بينهما إلا ظلمة! ذلك لتعلموا أن الليل كان قبل النهار.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الليل قبل النهار، ثم قال: " كانتا رتقاً ففتقناهما " .
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد ابن عبد الله اليزني، قال: لم يكن عقبة بن عامر إذا رأى الهلال - هلال رمضان - يقوم تلك الليله حتى يصوم يومها، ثم يقوم بعد ذلك. فذكرتُ ذلك لابن حجيرة فقال: الليل قبل النهار أم النهار قبل الليل؟ وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستشهدوا لصحة قولهم هذا بأن الله عز ذكره كان ولا ليل ولا نهار ولا شيء غيره، وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه بعدما خلقه حتى خلق الليل.
ذكر من قال ذلك:حدثني علي بن سهل، حدثنا الحسن بن بلال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهار، نور السموات من نور وجهه، وإن مقدار كل يوم من أيامكم هذه عنده اثنتا عشرة ساعة.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: كان الليل قبل النهار، لأن النهار هو ما ذكرتُ من ضوء الشمس، وإنما خلق الله الشمس وأجراها في الفلك بعد ما دحا الأرض فبسطها، كما قال عز وجل: " أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " ، فإذا كانت الشمس خلقت بعد ما سمكت السماء، وأغطش ليلها، فمعلوم أنها كانت - قبل أن تخلق الشمس، وقبل أن يخرج الله من السماء ضحاها - مظلمة لا مضيئة.
وبعد، فإن في مشاهدتنا من أمر الليل والنهار ما نشاهده دليلاً بيناً على أن النهار هو الهاجم على الليل لأن الشمس متى غابت فذهب ضوءها ليلاً أو نهاراً أظلم الجو، فكان معلوماً بذلك أن النهار هو الهاجم على الليل بضوئه ونوره. والله أعلم.
فأما القول في بدء خلقهما فإن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقت خلق الله الشمس والقمر مختلف.
فأما ابن عباس فروي عنه أنه قال: خلق الله يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، حدثنا بذلك هناد بن السري، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خلق الله النور يوم الأربعاء " ، حدثني بذلك القاسم بن بشر والحسين بن علي، قالا: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأي ذلك كان، فقد خلق الله قبل خلقه إياهما خلقاً كثيراً غيرهما، ثم خلقهما عز وجل لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، فجعلهما دائبي الجرى، ثم فصل بينهما، فجعل إحداهما آية الليل، والأخرى آية النهار، فمحا آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب اختلاف حالتي آية الليل وآية النهار أخبار أنا ذاكر منها بعض ما حضرني ذكره. وعن جماعة من السلف أيضاً نحو ذلك.
فمما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ما حدثني محمد بن أبي منصور الآملي، حدثنا خلف بن واصل، قال: حدثنا عمر بن صبح أو نعمي البلخي، عن مقاتل بن حيان، عن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبي ذر الغفاري، قال: كنتُ آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحنُ نتماشى جميعاً نحو المغرب، وقد طفلت الشمس، فما زلنا ننظر إليها حتى غابت، قال: قلتُ: يا رسول الله، أين تغربُ؟ قال: تغرب في السماء، ثم ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش، فتخر ساجدة، فتسجد معها الملائكة الموكلون بها، ثم تقول: يارب، من أين تأمرني أن أطلع، أمن مغربي أم من مطلعي؟ قال: فذلك قوله عز وجل: " والشمس تجري لمستقرٍ لها " حيث تحبس تحت العرش، " ذلك تقديرُ العزيز العليم " قال: يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه العليم بخلقه. قال: فيأتيها جبرئيل بحلة ضوء من نور العرش، على مقادير ساعات النهار، في طوله في الصيف، أو قصره في الشتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع. قال: فتلبس تلك الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه، ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فكأنها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا تكسى ضوءاً، وتؤمر أن تطلع من مغربها، فذلك قوله عز وجل: " إذا الشمس كورت " .
قال: والقمر كذلك في مطلعه ومجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة العليا، ومحبسه تحت العرش وسجوده واستئذانه، ولكن جبرائيل عليه السلام يأتيه بالحلة من نور الكرسي. قال: فذلك قوله عز وجل: " جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً " . قال أبو ذر: ثم عدلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا المغرب. فهذا الخبر عن رسول الله ينبئ أن سبب اختلاف حالة الشمس والقمر إنما هو أن ضوء الشمس من كسوة كسيتها من ضوء العرش، وأن نور القمر من كسوة كسيها من نور الكرسي.
فأما الخبر الآخر الذي يدل على غير هذا المعنى، فما حدثني محمد ابن أبي منصور، قال: حدثنا خلف بن واصل، قال: حدثنا أبو نعيم، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل، فقال: يا بن عباس، سمعتُ العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر. قال: وكان متكئاً فاحتفز ثم قال: وما ذاك؟ قال: زعم أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران، فيقذفان في جهنم. قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شقة ووقعت أخرى غضباً، ثم قال: كذب كعب! كذب كعب! كذب كعب! ثلاث مرات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، الله أجل وأكرم من أن يعذب على طاعته، ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " ، وإنما يعني دؤبهما في الطاعة، فكيف يعذب عبدين يثني عليهما، إنهما دائبان في طاعته! قاتل الله كعب الحبر وقبح حبريته! ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله! قال: ثم استرجع مراراً، وأخذ عويداً من الأرض، فجعل ينكته في الأرض، فظل كذلك ما شاء الله، ثم إنه رفع رأسه، ورمى بالعويد فقال: ألا أحدثكم بما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في الشمس والقمر وبدء خلقهما ومصير أمرهما؟ فقلنا: بلى رحمك الله! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: إن الله تبارك وتعالى لما أبرم خلقه إحكاماً فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسين من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علمه أنه يدعها شمساً، فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وأما ما كان في سابق علمه أنه يطمسها ويحولها قمراً، فإنه دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض.
قال: فلو ترك الله الشمسين كما كان خلقهما في بدء الأمر لم يكن يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، وكان لا يدري الأجير إلى متى يعمل، ومتى يأخذ أجره. ولا يدري الصائم إلى متى يصوم، ولا تدري المرأة كيف تعتد، ولا يدري المسلمون متى وقت الحج، ولا يدري الديان متى تحل ديونهم، ولا يدري الناس متى ينصرفون لمعايشهم، ومتى يسكنون لراحة أجسادهم.
وكان الرب عز وجل. أنظر لعباده وأرحم بهم، فأرسل جبرئيل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر - وهو يومئذ شمس - ثلاث مرات، فطمس عنه الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قوله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا أية النهار مبصرة " . قال: فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه فهو أثرُ المحو. ثم خلق الله للشمس عجلة من ضوء نور العرش لها ثلثمائة وستون عروة، ووكل بالشمس وعجلتها ثلثمائة وستين ملكاً من الملائكة من أهل السماء الدنيا، قد تعلق كل ملك منهم بعروة من تلك العرا، ووكل بالقمر وعجلته ثلثمائة وستين ملكاً من الملائكة من أهل السماء، قد تعلق بكل عروة من تلك العرا ملك منهم.
ثم قال: وخلق الله لهما مشارق ومغارب في قطري الأرض وكنفى السماء ثمانين ومائة عين في المغرب، طينة سوداء، فذلك قوله عز وجل: " وجدها تغربُ في عين حمئةٍ " إنما يعني حمأة سوداء من طين، وثمانين ومائة عين في المشرق مثل ذلك طينة سوداء تفور غلياً كغلي القدر إذا ما اشتد غليها. قال: فكل يوم وكل ليلة لها مطلعٌ جديد، ومغرب جديد ما بين أولها مطلعاً، وآخرها مغرباً أطول ما يكون النهار في الصيف إلى آخرها مطلعاً، وأولها مغرباً أقصر ما يكون النهار في الشتاء، فذلك قوله تعالى: " رب المشرقين ورب المغربين " يعني آخرها هاهنا وآخرها ثم، وترك ما بين ذلك من المشارق والمغارب، ثم جمعهما فقال: " برب المشارق والمغارب " ، فذكر عدة تلك العيون كلها.
قال: وخلق الله بحراً، فجرى دون السماء مقدار ثلاث فراسخ، وهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله عز وجل لا يقطر منه قطرة، والبحار كلها ساكنة، وذلك البحر جارٍ في سرعة السهم ثم انطلاقه في الهواء مستوياً، كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في لجة غمر ذلك البحر، فذلك قوله تعالى: " كل في فلك يسبحون " ، والفلك دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر. والذي نفس محمد بيده، لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت كل شيء في الأرض، حتى الصخور والحجارة، ولو بدا القمر في ذلك لافتتن أهلُ الأرض حتى يعبدوه من دون الله، إلا من شاء الله أن يعصم من أوليائه.
قال ابن عباس: فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يأبى أنت وأمي يا رسول الله! ذكرت مجرى الخنس مع الشمس والقمر، وقد أقسم الله بالخنس في القرآن إلى ما كان من ذكرك، فما الخنس؟ قال: يا علي، هن خمسة كواكب، البرجيس، وزحل وعطارد، وبهرام، والزهرة، فهذه الكواكب الخمسة الطالعات الجاريات، مثل الشمس والقمر، العاديات معهما، فأما سائر الكواكب فمعلقات من السماء كتعليق القناديل من المساجد، وهي تحوم مع السماء دوراناً بالتسبيح والتقديس والصلاة لله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن أحببتم أن تستبينوا ذلك، فانظروا إلى دوران الفلك مرة هاهنا ومرة هاهنا، فذلك دوران السماء، ودوران الكواكب معها كلها سوى هذه الخمسة، ودورانها اليوم كما ترون، وتلك صلاتها، ودورانها إلى يوم القيامة في سرعة دوران الرحا من أهوال يوم القيامة وزلازله، فذلك قوله عز وجل: " يوم تمور السماء موراً، وتسيرُ الجبالُ سيراً، فويل يومئذٍ للمكذبين " .
قال: فإذا طلعت الشمس فإنها تطلع من بعض تلك العيون على عجلتها ومعها ثلثمائة وستون ملكاً ناشري أجنحتهم، يجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات الليل وساعات النهار ليلاً كان أو نهاراً، فإذا أحب الله أن يبتلي الشمس والقمر فيرى العباد آية من الآيات فيستعتبهم رجوعاً عن معصيته وإقبالاً على طاعته، خرت الشمس من العجلة فتقع في غمر ذلك البحر وهو الفلك، فإذا أحب الله أن يعظم الآية ويشدد تخويف العباد وقعت الشمس كلها فلا يبقى منها على العجلة شيء، فذلك حين يظلم النهار وتبدو النجوم، وهو المنهى من كسوفها. فإذا أراد أن يجعل أية دون آية وقع منها النصف أو الثلث أو الثلثان في الماء ويبقى سائر ذلك على العجلة، فهو كسوف دون كسوف، وبلاء للشمس أو للقمر، وتخويف للعباد، واستعتاب من الرب عز وجل، فأي ذلك كان صارت الملائكة الموكلون بعجلتها فرقتين: فرقة منها يقبلون على الشمس فيجرونها نحو العجلة، والفرقة الأخرى يقبلون على العجلة فيجرونها نحو الشمس، وهم في ذلك يقرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات النهار أو ساعات الليل، ليلاً كان أو نهاراً، في الصيف كان ذلك أو في الشتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع، لكيلا يزيد في طولهما شيء، ولكن قد ألهمهم الله علم ذلك، وجعل لهم تلك القوة، والذي ترون من خروج الشمس أو القمر بعد الكسوف قليلاً قليلاً من غمر ذلك البحر الذي يعلوهما، فإذا أخرجوها كلها اجتمعت الملائكة كلهم، فاحتملوها حتى يضعوها على العجلة، فيحمدون الله على ما قواهم لذلك، ويتعلقون بعرا العجلة، ويجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله حتى يبلغوا بها المغرب، فإذا بلغوا بها المغرب أدخلوها تلك العين، فتسقط من أفق السماء في العين.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، وعجب من خلق الله: وللعجب من القدرة فيما لم نر أعجب من ذلك، وذلك قول جبرئيل عليه السلام لسارة " أتعجبين من أمر الله " وذلك أن الله عز وجل خلق مدينتين: إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، أهل المدينة التي بالمشرق من بقايا عاد من نسل مؤمنيهم، وأهل التي بالمغرب من بقايا ثمود من نسل الذين آمنوا بصالح، اسم التي بالمشرق بالسريانية مرقيسيا وبالعربية جابلق واسم التي بالمغرب بالسريانية برجيسيا وبالعربية جابرس ولكل مدينة منهما عشرة آلاف باب، ما بين كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم على كل باب من أبواب هاتين المدينتين عشرة آلاف رجل من الحراسة، عليهم السلاح، لا تنوبهم الحراسة بعد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فوالذي نفس محمد بيده، لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاثة أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج ومأجوج.
وإن جبرئيل عليه السلام أنطلق بي إليهم ليلة أسرى بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فدعوتُ يأجوج ومأجوج إلىعبادة الله عز وجل فأبوا أن يجيبوني، ثم انطلق بي إلى أهل المدينتين، فدعوتهم إلى دين الله عز وجل وإلى عبادته فأجابوا وأنابوا، فهم في الدين إخواننا، من أحسن منهم فهو مع محسنكم، ومن أساء منهم فأولئك مع المسيئين منكم. ثم انطلق بي إلى الأمم الثلاث، فدعوتهم إلى دين الله وإلى عبادته فأنكروا ما دعوتهم إليه، فكفروا بالله عز وجل وكذبوا رسله، فهم مع يأجوج ومأجوج وسائر من عصى الله في النار، فإذا ما غربت الشمس رفع بها من سماء إلى سماء في سرعة طيران الملائكة، حتى يبلغ بها إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش فتخر ساجدة، وتسجد معها الملائكة الموكلون بها، فيحدرُ بها من سماء إلى سماء، فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الفجر، فإذا انحدرت من بعض تلك العيون، فذاك حين يضئ الصبح، فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذاك حين يضيء النهار.
قال: وجعل الله عند المشرق حجاباً من الظلمة على البحر السابع، مقدار عدة الليالي منذ يوم خلق الله الدنيا إلى يوم تصرم، فإذا كان عند الغروب أقبل ملك قد وكل بالليل فيقبض قبضة من ظلمة ذلك الحجاب، ثم يستقبلُ المغرب، فلا يزال يرسل من الظلمة من خلل أصابعه قليلاً قليلاً وهو يراعي الشفق فإذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها ثم ينشر جناحيه، فيبلغان قطري الأرض وكنفي السماء، ويجاوزان ما شاء الله عز وجل خارجاً في الهواء، فيسوق ظلمة الليل بجناحيه بالتسبيخ والتقديس والصلاة الله حتى يبلغ المغرب، فإذا بلغ المغرب انفجر الصبح من المشرق، فضم جناحيه، ثم يضم الظلمة بعضها إلى بعض بكفيه، ثم يقبض عليها بكف واحدة نحو قبضته إذا تناولها من الحجاب بالمشرق، فيضعها عند المغرب على البحر السابع من هناك ظلمة الليل. فإذا ما نقل ذلك الحجاب من المشرق إلى المغرب نفخ في الصور، وانقضت الدنيا، فضوء النهار من قبل المشرق، وظلمة الليل من قبل ذلك الحجاب، فلا تزال الشمس والقمر كذلك من مطالعهما إلى مغاربهما إلى ارتفاعهما، إلى السماء السابعة العليا، إلى محبسهما تحت العرش، حتى يأتي الوقت الذي ضرب الله لتوبة العباد، فتكثر المعاصي في الأرض ويذهب المعروف، فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد.
فإذا كان ذ لك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش، فكلما سجدت وأستأذنت: من أين تطلع؟ لم يحر إليها جواب، حتى يوافيها القمر ويسجد معها، ويستأذن: من أين يطلع؟ فلا يحار إليه جواب، حتى يحبسهما قدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض، وهم حينئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين، في هوان من الناس وذلة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثم يقوم فيتوضأ ويدخل مصلاه فيصلي ورده، كما كان يصلي قبل ذلك، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون من الشر ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت قبل حيني! قال: ثم يعود أيضاً فيصلي ورده كمثل ورده، الليلة الثانية، ثم يخرج فلا يرى الصبح، فيزيده ذلك إنكاراً، ويخالطه الخوف، ويظن في ذلك الظنون من الشر ثم يقول: فلعلي خففت قراءتي، أو قصرت صلاتي، أو قمت من أول الليل! ثم يعود أيضاً الثالثة وهو وجل مشفق لما يتوقع من هول تلك الليلة، فيصلي أيضاً مثل ورده، الليلة الثالثة، ثم يخرج فإذا هو بالليل مكانه والنجوم قد استدارت وصارت إلى مكانها من أول الليل. فيشفق عند ذلك شفقة الخائف العارف بما كان يتوقع من هول تلك الليلة فيستلحمه الخوف، ويستخفه البكاء، ثم ينادي بعضهم بعضاً، وقبل ذلك كانوا يتعارفون ويتواصلون، فيجتمع المتهجدون من أهل كل بلدة إلى مسجد من مساجدها، ويجأرون إلى الله عز وجل بالبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، والغافلون في غفلتهم،حتى إذا ما تم لهما مقدارُ ثلاث ليال للشمس وللقمر ليلتين، أتاهما جبرئيل فيقول: إن الرب عز جل يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منها، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور. قال: فيبكيان عند ذلك بكاء يسمعه أهل سبع سموات من دونهما وأهل سرادقات العرش وحملة العرش من فوقهما، فيبكون لبكائهما مع ما يخالطهم من خوف الموت، وخوف يوم القيامة.
قال: فبينا الناس ينتظرون طلوعهما من المشرق إذا هما قد طلعا خلف أقفيهم من المغرب أسودين مكورين كالغرارتين، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك، فيتصايح أهلُ الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، والأحبة عن ثمرة قلوبها، فتشتغل كل نفس بما أتاها. قال: فأما الصالحون والأبرار فإنه ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك لهم عبادة. وأما الفاسقون والفجار فإنه لا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك عليهم خسارة. قال: فيرتفعان مثل البعيرين القرينين، ينازع كل واحد منهما صاحبه استباقاً، حتى إذا بلغا سرة السماء - وهو منصفها - أتاهما جبرئيل فأخذ بقرونهما ثم ردهما إلى المغرب، فلا يغربهما في مغاربهما من تلك العيون، ولكن يغربهما في باب التوبة.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فما باب التوبة؟ قال: يا عمر، خلق الله عز وجل باباً للتوبة خلف المغرب، مصراعين من ذهب، مكللاً بالدر والجوهر، ما بني المصراع إلى المصراع الآخر مسيرة أربعين عاماً للراكب المسرع، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما، ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحاً من لدن آدم إلى صبيحة تلك الليلة إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب، ثم ترفع إلى الله عز وجل.
قال معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما التوبة النصوح؟ قال: إن يندم المذنب على الذنب الذي أصابه فيعتذر إلى الله ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال: فيرد جبرئيل بالمصراعين فيلأم بينهما ويصيرهما كأنه لم يكن فيما بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل بعد ذلك توبة، ولم ينفع بعد ذلك حسنة يعملها في الإسلام إلا من كان قبل ذلك محسناً، فإنه يجري لهم وعليهم بعد ذلك ما كان يجري قبل ذلك، قال فذلك قوله عز وجل: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفعُ نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيراً " .
فقال أبي بن كعب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا! فقال: يا أبي، إن الشمس والقمر بعد ذلك يكسيان النور والضوء، ويطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس فإنهم نظروا إلى ما نظروا إليه من فظاعة الآية، فيلحون على الدنيا حتى يجروا فيها الأنهار، ويغرسوا فيها الشجر، ويبنوا فيها البنيان. وأما الدنيا فإنه لو أنتج رجل مهراً لم يركبه من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى يوم ينفخ في الصور.
فقال حذيفة بن اليمان: أنا وأهلي فداؤك يا رسول الله! فكيف هم عند النفخ في الصور! فقال: يا حذيفة، والذي نفس محمد بيده، لتقومن الساعة ولينفخن في الصور والرجل قد لط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة والثوب بين الرجلين فلا يطويانه، ولا يتبايعانه. ولتقومن الساعة والرجل قد رفع لقمته إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومن الساعة الرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها فلا يشربه، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: " وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " .
فإذا نفخ في الصور، وقامت الساعة، وميز الله بين أهل الجنة وأهل النار ولما يدخلوهما بعد، إذ يدعو الله عز وجل بالشمس والقمر، فيجاء بهما أسودين مكورين قد وقعا في زلزال وبلبال، ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم ومخافة الرحمن، حتى إذا كانا حيال العرش خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا ودؤبنا في عبادتك، وسرعتنا للمضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فإنا لم ندع إلى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك! قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: صدقتما، وإني قضيت على نفسي أن أبدئ وأعيد، وإني معيدكما فيما بدأتكما منه، فارجعا إلى ما خلقتما منه، قالا: إلهنا، ومم خلقتنا؟ قال: خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه. قال: فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نوراً، فتخلط بنور العرش فذلك قوله عز وجل: " يبديء ويعيد " .
قال عكرمة: فقمت مع النفر الذين حدثوا به، حتى أتينا كعباً فأخبرناه بما كان من وجد ابن عباس من حديثه، وبما حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام كعب معنا حتى أتينا ابن عباس، فقال: قد بلغني ما كان من وجدك من حديثي، وأستغفر الله وأتوب إليه، وإني إنما حدثت عن كتاب دارسٍ قد تداولته الأيدي، ولا أدري ما كان فيه من تبديل اليهود، وإنك حدثت عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن عز وجل وعن سيد الأنبياء وخير النبيين، فأنا أحب أن تحدثني الحديث فأحفظه عنك، فإذا حدثت به كان مكان حديثي الأول.
قال عكرمة: فأعاد عليه ابن عباس الحديث، وأنا أستقريه في قلبي باباً باباً، فما زاد شيئاً ولا نقص، ولا قدم شيئاً ولا أخر، فزادني ذلك في ابن عباس رغبة، وللحديث حفظاً.
ومما روى عن السلف في ذلك ما حدثناه ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، قال: قال ابن الكواء لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك! أما تقرأ القرآن " فمحونا آية الليل " ! فهذه محوه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق، عن زائدة عن عاصم، عن عليّ بن ربيعة، قال: سأل ابن الكواء علياً عليه السلام فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرةً " ، هو المحو.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبيد بن عمير، قال: كنت عند علي عليه السلام، فسأله ابن الكواء عن السواد الذي في القمر فقال: ذاك آية الليل محيت.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال:حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عمران بن حدير، عن رفيع، أبي كثيرة، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سلوا عما شئتم، فقال ابن الكواء فقال: ما السواد الذي في القمر، فقال: قاتلك الله! هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك! ثم قال ذاك محو الليل.
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قال: حدثنا ابن عفير، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن حيّيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رجلاً قال لعليّ رضي الله عنه: ما السوادُ الذي في القمر؟ قال: إن الله يقول: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " .
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل " ، قال: هو السواد بالليل.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار، " فمحونا آية الليل " ، السواد الذي في القمر.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: ذكر ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: " وجعلنا الليل والنهار آيتين " ، قال: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، " فمحونا آية الليل " ، قال: السواد الذي في القمر، كذلك خلقه الله.
حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " وجعلنا الليل والنهار آيتين " ، قال: ليلاً ونهاراً كذلك خلقهما الله عز وجل.
قال ابن جريج: وأخبرنا عبد الله بن كثير، قال: " فمحونا آية الليل جعلنا آية النهار مبصرة " ، قال: ظلمة الليل وسد ف النهار.
حدثنا بشر بن معاذ، قال : حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، قوله عز وجل: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل " ، كنا نحدث أن محو آية الليل سوادُ القمر الذي فيه، " وجعلنا آية النهار مبصرة " ، منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى. وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وجعلنا الليل والنهار آيتين " ، قال: ليلاً ونهاراً، كذلك جعلهما الله عز وجل.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره خلق شمس النهار وقمر الليل آيتين، فجعل آية النهار التي هي الشمس مبصرة يبصر بها، ومحا آية الليل التي هي القمر بالسواد الذي فيه.
وجائز أن يكون الله تعالى ذكره خلقهما شمسين من نور عرشه، ثم محا نور القمر بالليل على نحو ما قاله من ذكرنا قوله، فكان ذلك سبب اختلاف حالتيهما.
وجائز أن يكون إضاءة الشمس للكسوة التي تكساها من ضوء العرش، ونور القمر من الكسوة التي يكساها من نور الكرسي.
ولو صح سند أحد الخبرين اللذين ذكرتهما لقلنا به، ولكن في أسانيدهما نظرا فلم نستجز قطع القول بتصحيح ما فيهما من الخبر عن سبب اختلاف حال الشمس والقمر، غير أنا بيقين نعلم أن الله عز وجل خالف بين صفتيهما في الإضاءة لما كان أعلم به من صلاح خلقه باختلاف أمريهما، فخالف بينهما، فجعل أحدهما مضيئاً مبصراً به، والأخر ممحو الضوء.
وإنما ذكرنا قدر ما ذكرنا من أمر الشمس والقمر في كتابنا هذا، وإن كنا قد أعرضنا عن ذكر كثير من أمرهما وأخبارهما، مع إعراضنا عن ذكر بدء خلق الله السموات والأرض وصفة ذلك، وسائر ما تركنا ذكره من جميع خلق الله في هذا الكتاب، لأن قصدنا في كتابنا هذا ذكرُ ما قدمنا الخبر عنه أنا ذاكروه فيه من ذكر الأزمنة وتأريخ الملوك والأنبياء والرسل، على ما قد شرطنا في أول هذا الكتاب، وكانت التأريخات والأزمنة إنما توقث بالليالي والأيام التي إنما هي مقادير ساعات جري الشمس والقمر في أفلاكهما على ما قد ذكرنا في الأخبار التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما كان قبل خلق الله عز ذكره إياهما من خلقه في غير أوقات ولا ساعات ولا ليل ولا نهار.
وإذ كنا قد بينا مقدار مدة ما بين أول ابتداء الله عز وجل في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعهم من سني الدنيا ومدة أزمانها بالشواهد التي استشهدنا بها من الآثار والأخبار، وأتينا على القول في مدة ما بعد أن فرغ من خلق جميعه إلى فناء الجميع بالأدلة التي دللنا بها على صحة ذلك من الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وغيرهم من علماء الأمة، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينا أنا ذاكروه من تأريخ الملوك الجبابرة العاصية ربها عز وجل والمطيعة ربها منهم، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنا قد أتينا على ذكر ما به تصح التأريخات، وتعرف به الأوقات والساعات، وذلك الشمس والقمر اللذان بأحدهما تدرك معرفة ساعات الليل وأوقاته، وبالآخر تدرك علم ساعات النهار وأوقاته. فلنقل الآن في أول من أعطاه الله ملكاً، وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيته، وعنا على ربه واستكبر، فسلبه الله نعمته، وأخزاه وأذله. ثم نتبعه ذكر من استن في سنته، واقتفى فيه أثره، فأحل الله به نقمته، وجعله من شيعته، وألحقه به في الخزي والذل. ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها، أو من الرسل والأنبياء إن شاء الله عز وجل.
فأولهم وإمامهم في ذلك ورئيسهم وقائدهم فيه إبليس لعنه الله.
وكان الله عز وجل قد أحسن خلقه وشرفه وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك من خزان الجنة، فاستكبر على ربه وادعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده فيما ذكر إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطاناً رجيماً،وشوه خلقه، وسلبه ما كان حوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن أبتاعه وشيعته في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله من غضبه، ومن عمل يقرب من غضبه،ومن الحور بعد الكور.
ونبدأ بذكر جمل من الأخبار الواردة عن السلف بما كان الله عز وجل أعطاه من الكرامة قبل استكباره عليه، وادعائه ما لم يكن له ادعاؤه، ثم نتبع ذلك ما كان من الأحداث في أيام سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه، والسبب الذي به زال عنه ما كان فيه من نعمة الله عليه، وجميل آلائه وغير ذلك من أموره، إن شاء الله مختصراً.
ذكر الأخبار الواردة عن إبليس
بأنه كان له ملك السماء الدنيا والأرض وما بين ذلك
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوءمة وشريك بن أبي نمر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائمة قبيلة من الجن وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض.
حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً.
حدثني عبدان المروزي، حدثني الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان،قال: سمعت الضحاك ابن مزاحم يقول في قوله عز وجل: " فسجدوا إلا إبليس كان من الجن " ، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن صالح مولى التوءمة، عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن، فكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى، فمسخه الله شيطاناً رجيماً.
ذكر الخبر عن غمط عدو الله نعمة ربه
واستكباره عليه وادعائه الربوبية
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: " ومن يقل منهم إني إله من دونه " قال: قال، ابن جريج: من يقل من الملائكة إن إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " ، وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيماً، فقال: " فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم " ، قال: هي خاصة لإبليس.
القول في الأحداث التي كانت في أيام ملك إبليس
وسلطانه والسبب الذي به هلك وادعى الربوبية
فمن الأحداث التي كانت في ملك عدو الله - إذ كان لله مطيعاً - ما ذكر لنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدثناه أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت،قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه.حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقتلهم، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض.
ذكر السبب الذي به هلك عدو الله
وسولت له نفسه من أجله الاستكبار على ربه عز وجل
اختلف السلف من الصحابة والتابعين في ذلك، وقد ذكرنا أحد الأقوال التي رويت في ذلك عن ابن عباس، وذلك ما ذكر الضحاك عنه، أنه لما قتل الجن الذين عصوا الله، وأفسدوا في الأرض وشردهم، أعجبته نفسه ورأى في نفسه أن له بذلك من الفضيلة ما ليس لغيره.والقول الثاني من الأقوال المروية في ذلك عن ابن عباس، أنه كان ملك سماء الدنيا وسائسها، وسائس ما بينها وبين الأرض، وخازن الجنة، مع اجتهاده في العبادة، فأعجب بنفسه، ورأى أن له بذلك الفضل، فاستكبر على ربه عز وجل.
ذكر الرواية عنه بذلك: حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما فرغ الله عز وجل من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيةٍ، هكذا حدثني موسى بن هارون.
وحدثني به أحمد بن أبي خيشمة، عن عمرو بن حماد، قال: لمزية لي على الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه أطلع الله عز وجل على ذلك منه، فقال الله للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن خلاد بن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فذلك الذي دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً.
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد بن عطاء، عن طاوس - أو مجاهد أبي الحجاج - عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكاً من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض وعمارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجن من بين الملائكة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا سلام ابن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
والقول الثالث من الأقوال المروية عنه أنه كان يقول: السبب في ذلك أنه كان من بقايا خلق خلقهم الله عز وجل، فأمرهم بأمر فأبوا طاعته.
ذكر الرواية عنه بذلك: حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقاً فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا لا نفعل، قال: فبعث الله عليهم ناراً تحرقهم، ثم خلق خلقاً آخر فقال: إني خالق بشراً من طين فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقهم، قال: ثم خلق هؤلاء فقال: ألا تسجدوا لآدم! قالوا: نعم، قال: وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم.
وقال آخرون: بل السبب في ذلك أنه كان من بقايا الجن الذين كانوا في الأرض، فسفكوا فيها الدماء، وأفسدوا فيها، وعصوا ربهم، فقاتلتهم الملائكة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثني سوار بن الجعد اليحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: " كان من الجن " ، قال: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء.
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد ابن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس، وكان صغيراً، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا أن يسجدوا لآدم سجدوا وأبى إبليس، فلذلك قال الله عز وجل: " إلا إبليس كان من الجن " . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال كما قال الله عز وجل: " وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " ، وجائز أن يكون فسوقه عن أمر ربه كان من أجل أنه كان من الجن، وجائز أن يكون من أجل إعجابه بنفسه لشدة اجتهاده كان في عبادة ربه،وكثرة علمه، وما كان أوتى من ملك السماء الدنيا والأرض وخزن الجنان. وجائز أن يكون كان لغير ذلك من الأمور، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبرٍ تقوم به الحجة، ولا خبر في ذلك عندنا كذلك، والاختلاف في أمره على ما حكينا ورويناه.
وقد قيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن الأرض كان فيها قبل آدم الجن، فبعث الله إبليس قاضياً يقضي بينهم، فلم يزل يقضي بينهم بالحق ألف سنة حتى سمى حكماً، وسماه الله به، وأوحى إليه اسمه، فعند ذلك دخله الكبر، فتعظم وتكبر، وألقى بين الذين كان الله بعثه إليهم حكماً البأس والعداوة والبغضاء، فاقتتلوا عند ذلك في الأرض ألفي سنة فيما زعموا، حتى إن خيولهم تخوض في دمائهم، قالوا: و ذلك قول الله تبارك وتعالى: " أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " ، وقول الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ! فبعث الله تعالى عند ذلك ناراً فأحرقتهم، قالوا: فلما رأى إبليس ما نزل بقومه من العذاب عرج إلى السماء، فأقام عند الملائكة يعبد الله في السماء مجتهداً لم يعبده شيء من خلقه مثل عبادته، فلم يزل مجتهداً في العبادة حتى خلق الله آدم، فكان من أمره ومعصيته ربه ما كان.
القول في خلق آدم عليه السلام
وكان مما حدث في أيام سلطانه وملكه خلق الله تعالى ذكره أبانا آدم أبا البشر، وذلك لما أراد جل جلاله أن يطلع ملائكته على ما قد علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة، وأراد إظهار أمره لهم حين دنا أمره للبوار، وملكه وسلطانه للزوال، فقال عز ذكره لما أراد ذلك للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة " ، فأجابوه بأن قالوا له: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ! فروي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك كذلك للذين قد كانوا عهدوا من أمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك، فقالوا لربهم جل ثناؤه لما قال لهم: " إني جاعل في الأرض خليفة " أتجعلُ فيها من يكون فيها مثل الجن الذين كانوا فيها، فكانوا يسفكون فيها الدماء ويفسدون فيها ويعصونك، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، فقال ا لرب تعالى ذكره لهم: " إني أعلم ما لا تعلمون " ، يقول: أعلم ما لا تعلمون من انطواء إبليس على التكبر، وعزمه على خلافه أمري، وتسويل نفسه له بالباطل واغتراره، وأنا مبدٍ ذلك لكم منه لتروا ذلك منه عياناً.
وقيل أقوال كثيرة في ذلك، قد حكينا منها جملاً في كتابنا المسمى: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، فكرهنا إطالة الكتاب بذكر ذلك في هذا الموضع.
فلما أراد الله عز وجل أن يخلق آدم عليه السلام أمر بتربته أن تؤخذ من الأرض، كما حدثنا أبو كريب، قال حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: ثم أمر - يعني الرب تبارك وتعالى - بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب اللزج الطيب - من حمأ مسنون، منتن، قال: وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب، قال: فخلق منه آدم بيده.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدى - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " يعني من شأن إبليس، فبعث الله جبرئيل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني شيئاً وتشيني، فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها. فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع، ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو أدم مختلفين، فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً - واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض - ثم ترك حتى تغير وأنتن، وذلك حين يقول: " من حمأ مسنونٍ " ، قال منتن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بعث رب العزة عز وجل إبليس، فأخذ من أديم الأرض، من عذبها وملحها، فخلق منه آدم، ومن ثم سمي آدم، لأنه خلق من أديم الأرض، ومن ثم قال إبليس: " أأسجد لمن خلقت طيناً " ، أي هذه الطينة أنا جئت بها.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض.
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: خلق آدم من أديم الأرض فسمي آدم.
حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه، قال: إن آدم خلق من أديم الأرض، فيه الطيب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راء في ولده الصالح والرديء.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن عوف - وحدثنا محمد بن بشار وعمر بن شبة، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف. وحدثنا ابن بشار، قال حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف. وحدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا عنبسة، عن عوف الأعرابي - عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوا آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأسود، والأبيض، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب، ثم بلت طينته حتى صارت طيناً لازباً، ثم تركت حتى صارت حمأ مسنوناً، ثم تركت حتى صارت صلصالاً كما قال الله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون " .
وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق آدم من ثلاثة: من صلصال، ومن حمأ، ومن طين لازب. فأما اللازب فالجيد، وأما الحمأ فالحمئة، وأما الصلصال فالتراب المدقق، ويعني تعالى ذكره بقوله: " من صلصالٍ " ، من طين يابس له صلصلة، والصلصلة: الصوت.
وذكر أن الله تعالى ذكره لما خمر طينة آدم تركها أربعين ليلة، وقيل أربعين عاماً جسداً ملقى.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أمر الله تبارك وتعالى بتربة آدم فرفعت، فخلق آدم من طين لازب من حمأ مسنون. قال: وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب، قال: فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل فيصوت، قال: فهو قول الله تبارك وتعالى: " من صلصال كالفخار " ، يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل في دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً للصلصلة، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله للملائكة: " إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ، فخلقه الله عز وجل بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول حين يتكبر تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه! فخلقه بشراً، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم فزعاً إبليس، فكان يمر به فيضر به فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة، فذلك حين يقول: " من صلصال كالفخار " ، ويقول: لأمر ما خلقت. ودخل من فيه وخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربك صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكته.
وحدثنا عن الحسن بن بلال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن سلميان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، قال: خمر الله تعالى طينة آدم عليه السلام أربعين يوماً، ثم جمعه بيديه، فخرج طيبه بيمينه، وخبيثه بشماله، ثم مسح يديه إحداهما على الأخرى، فخلط بعضه ببعض، فمن ثم يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يقال - والله أعلم: خلق الله آدم، ثم وضعه ينظر إليه أربعين يوماً قبل أن ينفخ فيه الروح، حتى عاد صلصالاً كالفخار، ولم تمسه نار، قال: فلما مضى له من المدة مامضى وهو طين صلصال كالفخار، وأراد عز وجل أن ينفخ فيه الروح، تقدم إلى الملائكة فقال لهم: إذا نفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فلما نفخ فيه الروح أتته الروح من قبل رأسه، فيما ذكر عن السلف قبلنا أنهم قالوه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فلما بلغ الحين الذي أراد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من روحي فاسجدوا له قلما نفخ فيه الروح في رأسه عطس فقالت: الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله عز وجل له: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول: " خلق الإنسان من عجل " ، " فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون في الساجدين " ، " أبى واستكبر وكان من الكافرين " ، فقال الله له: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " لما خلقتُ بيدي، قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: " فاهبط منها فما يكون لك " - يعني ما ينبغي لك - " أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " ، والصغار الذل.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال قلما نفخ الله عز وجل فيه - يعني في آدم - من روحه أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله عز وجل " خلق الإنسان من عجل " ، قال: ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام الله، فقال: يرحمك الله يا آدم، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد، وأنا خير منه وأكبر سناً، وأقوى خلقاً، " خلقتني من نار وخلقته من طين " ، يقول إن النار أقوى من الطين، قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله تعالى، أيئسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته.
حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فيقال - والله أعلم - : إنه لما أنتهى الروح إلى رأسه عطس فقال: الحمد لله، قال: فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقعت الملائكة حين استوى سجوداً له، حفظاً لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به، وقام عدو الله إبليس من بينهم، فلم يسجد متكبراً متعظماً بغياً وحسداً، فقال: " يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي " إلى قوله: " لأملأن جهنم منكَ وممن تبعك منهم أجمعين " ، قال: فلما فرغ الله تعالى من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع الله عليه اللعنة، وأخرجه من الجنة.
حدثني محمد بن خلف، قال: حدثنا آدم بن أبي أياس، قال: حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان، قال: حدثني محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي، عليه السلام، قال أبو خالد: وحدثني الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو خالد: وحدثني داود بن أبي هند عن الشعبي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله لعيه وسلم. قال أبو خالد: وحدثني ابن أبي ذباب الدوسي، قال: حدثني سعيد المقبري، ويزيد بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خلق الله عز وجل آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملأ من الملائكة فسجدوا له، فجلس فعطس فقال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك ربك، إيت أولئك الملأ من الملائكة فقل لهم: السلام عليكم. فأتاهم فقال: السلام عليك، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه عز وجل فقال له: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم. فلما أظهر إبليس من نفسه ما كان له مخفياً فيها من الكبر والمعصية لربه، وكانت الملائكة قد قالت لربها عز وجل حين قال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. فقال لهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، تبين لهم ما كان عنهم مستتراً، وعلموا أن فيهم من منه المعصية لله عز وجل والخلاف لأمره.
ثم علم الله عز وجل آدم الأسماء كلها، واختلف السلف من أهل العلم قبلنا في الأسماء التي علمها آدم: أخاصاً من الأسماء عُلم، أم عاماً؟ فقال بعضهم: علم اسم كل شيء.
ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر ابن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: علم الله تعالى آدم الأسماء كلها، وهي الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
حدثني احمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن عاصم بن كليب، عن الحسن بن سعد، عن ابن عباس، في قوله: " وعلم آدم الأسماء كلها " ، قال: علمه اسم كل شيء، حتى الفسوة والفسية.
حدثني علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجرمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " قال: علمه اسم كل شيء حتى الهنة والهنية، والفسوة والضرطة.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى ابن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " قال: ما خلق الله تعالى كله.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: " وعلم آدم الأسماء كلها " قال: علمه اسم كل شيء.
حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: علمه اسم كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " ، قال: علمه اسم كل شيء: هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا، وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرضهم على الملائكة، فقال: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " .
حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " حتى بلغ " إنك أنت العليم الحكيم " ، قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه وألجأه إلى جنسه.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالا: علمه اسم كل شيء، هذا الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن،والوحش، وجعل يسمي كل شيء برسمه.
وقال آخرون: بل إنما علم اسماً خاصاً من الأسماء، قالوا: والذي علمه أسماء الملائكة.
ذكر من قال ذلك:حدثني عبدة المروزي، قال: حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها " ، قال: أسماء الملائكة.
وقال آخرون مثل قول هؤلاء في أن الذي علم آدم من الأسماء اسماً خاصاً من الأشياء، غير أنهم قالوا الذي علم من ذلك أسماء ذريته.
ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال: حدثنا أبن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله عز وجل: " وعلم آدم الأسماء كلها " ، قال: أسماء ذريته، فلما علم الله آدم الأسماء كلها عرض الله عز وجل أهل الأسماء على الملائكة، فقال لهم: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " ، وإنما قال ذلك عز وجل للملائكة - فيما ذكر - لقولهم إذ قال لهم: " إني جاعل في الأرض خليفة " : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " فعرض - بعد أن خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح، وعلمه أسماء كل شيء - مما خلق من الخلق - عليهم، فقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أني إن جعلت منكم خليفتي في الأرض أطعتموني وسبحتموني وقدسمتموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك، فإنكم إن لم تعلموا ما أسماؤهم وأنتم مشاهدوهم ومعاينوهم، فأنتم بألا تعلموا ما يكون من أمركم - إن جعلتُ خليفتي في الأرض منكم، أو من غيركم إن جعلته من غيركم، فهم عن أبصاركم غيب لا ترونهم ولا تعاينونهم ولم تخبروا بما هو كائن منكم ومنهم - أحرى.
وهذا قول روي عن جماعة من السلف
ذكر بعض من روى ذلك عنه
حدثني موسى بن هارون، قال حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود - وعن ناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " إن كنتم صادقين " أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " إن كنتم صادقين " ، إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة.
وقد قيل: إن الله جل جلاله قال ذلك للملائكة لأنه جل جلاله لما ابتدأ في خلق آدم قالوا فيما بينهم: ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقاً إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه، فلما خلق آدم عليه السلام وعلمه أسماء كل شيء عرض الأشياء التي علم آدم أسماءها عليهم، فقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في قيلكم: إن الله لم يخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه، وأكرم عليه منه.
ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: " وإذ قال ربك الملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " ، فاستشار الملائكة في خلق آدم عليه السلام فقالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ، وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكرهُ إلى الله عز وجل من سفك الدماء والفساد في الأرض، " ونحن نسبح بحمدك ونقدسُ لك قال إني أعلمُ مالا تعلمون " فكان في علم الله عز وجل أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة.
قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله تعالى بخالق خلقاً أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم عليه السلام - وكل خلق مبتلى، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة - فقال الله تعالى: " ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: قال الله عز وجل للملائكة: " إني جاعل في الأرض خليفة " قال لهم: إني فاعل، فعرضوا برأيهم، فعلمهم علماً وطوى منهم علماً علمه لا يعلومونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " - وقد كانت الملائكة علمت من علم الله تعالى أنه لا ذنب عند الله تعالى أعظم من سفك الدماء - " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون " ، فلما أخذ تعالى في خلق آدم عليه السلام همست الملائكة فيما بينهم، فقالوا: ليخلق ربنا عز وجل ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقاً إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه، فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيراً منه، فنحن أعلم منه، لأنا كنا قبله، وخلقت الأمم قبله، فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين أتى لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالا: ففزع القوم إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، فقالوا: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " . لقولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا، ولا أعلم منا، قال: علمه أسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة، قال: " ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ، قال: أما ما أبدوا فقولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ، وأما ما كتموا فقولهم بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم.
حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: " ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " إلى قوله: " إنك أنت العليم الحكيم " ، قال: وذلك حين قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " إلى قوله " ونقدس لك " . قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله تعالى خلقاً إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم أدم، وعلمه الأسماء كلها، وقال للملائكة: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " إلى " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ، فكان الذي أبدوا حين قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله عز وجل فضل عليهم آدم في العلم والكرم.
فلما ظهر للملائكة من استكبار إبليس ما ظهر، ومن خلافه أمر ربه ما كان مستتراً عنهم من ذلك، عاتبه ربه على ما أظهر من معصيته إياه لعنه بتركه السجود لآدم، فأصر على معصيته، وأقام على غيه وطغيانه - لعنه الله - فأخرجه من الجنة، وطرده منها، وسلبه ما كان أتاه من ملك السماء الدنيا والأرض، وعزله عن خزن الجنة فقال له جل جلاله: " فأخرج منها " ، يعني من الجنة " فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " ، وهو بعد في السماء لم يهبط إلى الأرض.
وأسكن الله عز وجل حينئذ آدم جنته، كما حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأخرج إبليس من الجنة حين لعن وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشياً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي، فقال الله تعالى: " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله تعالى من معاتبة إبليس أقبل على آدم عليه السلام وقد علمه الأسماء كلها، فقال: " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " إلى " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " ، قال: ثم ألقى السنة على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم - عن عبد الله بن العباس وغيره، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانها لحماً، وآدم عليه السلام نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله تعالى من ضلعه تلك زوجه حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجي، فسكن إليها، فلما زوجه الله عز وجل وجعل له سكناً من نفسه، قال له قبلاً: " يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " .
حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجبح، عن مجاهد في قوله عز وجل: " وخلق منها زوجها " . قال: حواء من قصيري آدم، وهو نائم فاستيقظ فقال أثا بالنبطية، امرأة.
حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: " وخلق منها زوجها " يعني حواء، خلقت من آدم من ضلع من أضلاعه.
القول في ذكر امتحان الله تعالى أبانا آدم
عليه السلام
وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته، وذكر ركوب آدم معصية ربه بعد الذي كان أعطاه من كرامته وشريف المنزلة عنده، ومكنه في جنته من رغد العيش وهنيئه، وما أزال ذلك عنه، فصار من نعيم الجنة ولذيذ رغد العيش إلى نكد عيش أهل الأرض وعلاج الحرائة والعمل بالمساحي والزراعة فيها.فلما أسكن الله عز وجل آدم عليه السلام وزوجه أطلق لهما أن يأكلا كل ما شاء أكله من كل ما فيها من ثمارها، غير ثمر شجرة واحدة ابتلاءً منه لهما ذلك، وليمضي قضاء الله فيهما وفي ذريتهما، كما قال عز وجل: " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلاً منها رغداً حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " ، فوسوس لهما الشيطان حتى زين لهما أكل ما نهاهما ربهما عن أكله من ثمر تلك الشجرة، وحسن لها معصية الله في ذلك، حتى أكلا منها، فبدت لهما من سوأتهما ما كان موارى عنهما منها.
فكان وصول عدو الله إبليس إلى تزيين ذلك لهما ما ذكر في الخبر الذي حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما قال الله عز وجل لآدم: " اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعه الخزنة، فأتى الحية، وهي دابة لها أربع قوائم، كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فمها، فمرت الحية على الخزنة فدخلت وهم لا يعلمون، لما أراد الله عز وجل من الأمر، فكلمه من فمها ولم يبال كلامه، فخرج إليه فقال: " يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " ، يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت ملكاً مثل الله تبارك وتعالى أو تكونا من الخالدين فلا تموتان أبداً. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين، وإنما أراد بذلك أن يبدي لهما ما تواري عنهما من سوءاتهما بهتك لباسهما، وكان قد علم أن لهما سوءة لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك،وكان لباسهما الظفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل، فإني قد أكلتُ، فلم يضرني، فلما أكل بدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث ابن أبي سليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض: أيها تحمله حتى تدخل به الجنة حتى يكلم آدم وزوجه، فكل الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلم الحية، فقال لها: أمنعك من بني آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، فكلمهما من فمها وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله تعالى وجعلها تمشي على بطنها، قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، وأخفروا ذمة عدو الله فيها.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله تعالى آدم وزوجته الجنة، ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكان للحية أربع قوائم، كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوأتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم، أين أنت؟ قال: أنا هذا يا رب قال: ألا تخرج قال: أستحي منك يا رب ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة حتى يتحول ثمارها شوكاً! قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كانت أفضل من الطلح والسدر. ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملته كرهاً، فإذا أردت أن تصغي ما في بطنك حتى غر عبدي، قال: أشرفت على الموت مراراً وقال: للحية أنت التي دخل الملعون في بطنك حتى غر عبدي ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحداً منهم أخذتٍ بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.
قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله تعالى آدم وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رغداً حيث شاءا، فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس إلى آدم فقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " قال: فقطعت حواء الشجرة فدميت الشجرة، وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، " وطفقا يخصفانِ عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين " لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء، قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية، قال للحية: لم أمرتها؟ قالت أمرني إبليس، قال: ملعون مدحور! أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين في كل هلال، وأما أنتِ يا حية، فأقطع قوائمك فتمشين جرياً على وجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدث أن الشيطان دخل ا لجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير، قال: فلعن، فسقطت قوائمه فصار حية.
حدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: وحدثني أبو العالية، قال: إن من الإبل ما كان أولها من الجن. قال: فأبيحت له الجنة كلها - يعني آدم - إلا الشجرة، وقبل لهما: " لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " ، قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: نهيتما عن شيء؟ قالت: نعم، عن هذه الشجرة، فقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " . قال فبدت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرة، من أكل منها أحدث، قال: لا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، قال: " فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه " ، قال: فأخرج آدم من الجنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم أن آدم عليه السلام حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة، وما أعطاه الله منها، قال: لو أنا خلدنا! فاغتمز فيها من الشيطان لما سمعها منه، فأتاه من قبل الخلد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أخزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟ وقال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " ، أي تكونا ملكين أو تخلدان، أي إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان يقول الله عز وجل: " فدلاهما بغرور " .
حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله سبحانه وتعالى: " فوسوس " : وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسنها في عين آدم، قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت لا: إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما. قال: وذهب آدم هارباً في الجنة، فناداه ربه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك، قال: يا آدم، أني أتيت؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله عز وجل: فإن لها على أن أدميها في كل مرة، كما أدمت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حيلة وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً، وقد كنت جعلتها تحمل يسراً وتضع يسراً. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء أهل الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، ولكن يحملن يسراً ويضعن يسراً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها، فأكل منها. فلما واقع آدم وحواء الخطيئة، أخرجهما الله تعالى من الجنة وسلبهما ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وأهبطهما وعدوهما إبليس والحية إلى الأرض، فقال لهم ربهم: اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
وكالذي قلنا في ذلك قال السلف من أهل العلم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: " اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو " ، قال: آدم وحواء وإبليس والحية.
حدثنا سفيان بن وكيع، وموسى بن هارون، قالا: حدثنا عمرو ابن حماد، عن أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو " ، فلعن الحية فقطع قوائمها، وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب، وأهبط إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو " ، قال: آدم وحواء وإبليس والحية.
القول في قدر مكث آدم في الجنة
ووقت خلق الله عز وجل إياه ووقت إهباطه إياه من السماء إلى الأرض
قد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة، وأنه أخرجه فيه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض فيه، وأنه فيه تاب عليه، وفيه قبضه.ذكر الأخبار عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذلك
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل عن سعيد بن سعد بن عبادة، عن سعد بن عبادة، عن رسول اله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن في الجمعة خمس خلال فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها ربه شيئاً إلا أعطاه الله إياه، ما لم يسأل إثماً أو قطيعة، وفيه: تقوم الساعة، وما من ملك مقرب، ولا سماء ولا جبل ولا أرض ولا ريح، إلا مشفق من يوم الجمعة " .حدثني محمد بن بشار ومحمد بن معمر، قالا: حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبي لبابة بن عبد المنذر، أن البني صلى الله عليه وسلم قال: " سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم النحر، وفيه خمس خلال: خلق الله تعالى فيه آدم، وآهبطه فيه إلى الأرض، وفيه توفي الله تعالى آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد شيئاً إلا أعطاه إياه ما لم يكن حراماً. وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا رياح ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة، أن تقوم فيه الساعة " .
واللفظ لحديث ابن بشار.
حدثنا محمد بن معمر، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا زهير ابن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن عبادة، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن يوم الجمعة، ماذا فيه من الخير: فقال: " فيه خلق آدم، وفيه أهبط آدم، وفيه توفي آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئاً إلا أعطاه الله إياه، ما لم يسأل مأثماً أو قطيعة، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا ريح إلا هن يشفقن من يوم الجمعة " .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبو زرعة، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت الشمس عليه يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وأخرج منها " .
حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة " .
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، أنه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم تطلع الشمس على يوم مثل يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، وفيه أعيد فيها " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور ومغيرة، عن زياد بن كليب أبي معشر، عن إبراهيم، عن القرثع الضي - وكان القرثع من القراء الأولين - قال: قال سلمان: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، يقولها ثلاثاً: " يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ فيه جمع أبوك " ، أو " أبوكم " .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا شيبان ، عن يحيى، عن أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة يحدث أنه سمع كعباً يقول: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.
حدثني الحسين بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: إن أول يوم طلعت فيه شمسه يوم الجمعة، وهو أفضل الأيام: فيه خلق الله تعالى ذكره آدم، خلقه على مثل صورته، فلما فرغ عطس آدم فألقى الله تعلى عليه الحمد، فقال الله: يرحمك ربك.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن أبي كدينة، عن مغيرة، عن زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن القرثع، عن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدري ما يوم الجمعة؟ هو يوم جمع فيه أبوك " ، أو " أبوكم آدم " عليه السلام.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن أبي الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال سلمان. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ " مرتين أو ثلاثاً، قال: " هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم " ، أو " جمع فيه أبوكم " .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا قيس، عن الأعمش، عن إبراهيم. عن القرثع، عن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدري ما الجمعة " ؟ أو قال: كذا، " فيها جمع أبوكم آدم " .
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن منصور، عن إبراهيم، عن القرثع، عن سلمان، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: لا، قال: " فيه جمع أبوك " .
ذكر الوقت الذي فيه خلق آدم عليه السلام
من يوم الجمعة والوقت الذي أهبط إلى الأرض
اختلف في ذلك، فروي عن عبد الله بن سلام وغيره في ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا بن إدريس، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة - يقللها - لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيراً إلا آتاه الله إياه " ، فقال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، قال الله عز وجل: " خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون " .حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي وعبدة بن سلمان وأسد بن عمرو، عن محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وذكر فيه كلام عبد الله بن سلام بنحوه.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: " خلق الإنسان من عجل " ، قال: قول آدم حين خلق بعد كل شيء آخر النهار من يوم الجمعة، خلق الخلق، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: " خلق الإنسان من عجل " ، قال: آدم حين خلق بعد كل شيء، ثم ذكره نحوه، غير أنه قال في حديثه: استعجل بخلقي، قد غربت الشمس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " خلق الإنسان من عجل، قال: على عجل خلق آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين - يريد يوم الجمعة وخلقه على عجلة وجعله عجولاً.
وقد زعم بعضهم أن الله عز وجل أسكن آدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة، وقيل لثلاث ساعات مضين منه، وأهبطه إلى الأرض لسبع ساعات مضين من ذلك اليوم، فكان مقدار مكثهما في الجنة خمس ساعات منه. وقيل: كان ذلك ثلاث ساعات. وقال بعضهم: أخرج آدم عليه السلام من الجنة الساعة التاسعة أو العاشرة.
ذكر من قال ذلك:قال أبو جعفر: قرأتُ على عبدان بن محمد المروزي، قال: حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أنس عن أبي العالية، قال: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فقال لي: نعم، لخمسة أيام مضين من نيسان.
فإن كان قائل هذا القول أراد الله أو تبارك وتعالى أسكن أدم وزوجته الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من أيام أهل الدنيا التي هي على ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب في ذلك، لأن الأخبار إذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم، بأن آدم خلق في آخر ساعة من اليوم السادس من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة وسنيننا. فمعلوم أن الساعة الواحدة من ساعات اليوم الواحد منها ألف سنة من سنينا. فمعلوم أن الساعة الواحدة من ساعات ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاماً من أعوامنا، وقد ذكرنا أن آدم بعد أن خمر ربنا عز وجل طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاماً، وذلك لا شك أنه عني به من أعوامنا وسنيننا، ثم من بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره، وأسكن الفردوس، وأهبط إلى الأرض - غير مستنكر أن يكون كان مقداره من سنيننا قدر خمس وثلاثين سنة. فإن كان أراد أنه أسكن الفردوس لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم الواحد منها ألف سنة من سنيننا، فقد قال غير الحق، وذلك أن جميع من حفظ له قول من ذلك من أهل العلم، فإنه كان يقول إن آدم نفخ فيه الروح في آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس من ذلك اليوم. ثم الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متظاهرة بأن الله تبارك وتعالى أسكنه الجنة فيه، وفيه أهبطه إلى الأرض. فإن كان ذلك صحيحاً. فمعلوم أن آخر ساعة من نهار يوم من أيام الآخرة ومن الأيام التي اليوم الواحد منها مقداره ألف سنة من سنيننا، إنما هي ساعة بعد مضي إحدى عشرة ساعة. وذلك ساعة من اثنتى عشرة ساعة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر من سنيننا، فآدم صلوات الله عليه إذ كان الأمر كذلك، إنما خلق لمضي إحدى عشرة ساعة من نهار يوم الجمعة من الأيام التي اليوم الواحد منها ألف سنة من سنينا، فمكث جسداً ملقى لم ينفخ فيه الروح أربعين عاماً من أعوامنا. ثم نفخ فيه الروح. فكان مكثه في السماء بعد ذلك ومقامه في الجنة، إلى أن أصاب الخطيئة وأهبط إلى الأرض ثلاثاً وأربعين سنة من سنيننا وأربعة أشهر، وذلك ساعة من ساعات يوم من الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الخلق.
وقد حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: خرج آدم من الجنة بين الصلاتين: صلاة الظهر وصلاة العصر، فأنزل إلى الأرض وكان مكثه في الجنة نصف يوم يوم من أيام الآخرة، وهو خمسمائة سنة، من يوم كان مقداره اثنتى عشرة ساعة، واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا، وهذا أيضاً قول خلاف ما وردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن السلف من علمائنا.
القول في الموضع الذي أهبط آدم وحواء
إليه من الأرض حين أهبط إليها
ثم إن الله عز وجل أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه وذلك يوم الجمعة - من السماء مع زوجته، وأنزل آدم - فيما قال علماء سلف أمة نبينا صلى الله عليه وسلم - بالهند.ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك منهم:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عمران بن عيينة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن أول ما أهبط الله تعالى آدم أهبطه بدهنا أرض الهند.
حدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: أهبط آدم إلى الهند.
حدثني ابن سنان، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أطيب أرضٍ في الأرض ريحاً أرض الهند، أهبط بها آدم، فعلق شجرها من ريح الحنة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فجاء في طلبها حتى اجتمعا، فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات، فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعاً. قال: وأهبط آدم على جبل بالهند يقال له بوذ.
حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القتّ، قال: قال لي مجاهد: لقد حدثنا عبد الله بن عباس آن آدم نزل حين نزل بالهند.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وأما أهل التوراة فإنهم قالوا: أهبط آدم بالهند على جبل يقال له واسم، عند واد يقال له بهيل بين الدهنج والمندل: بلدين بأرض الهند. قالوا: وأهبطت حواء بجدة من أرض مكة.
وقال آخرون: بل أهبط آدم بسر نديب، على جبل يدعى بوذ، وحواء بجدة من أرض مكة، وإبليس بميسان، والحية بأصبهان. وقد قيل: أهبطت الحية بالبرية، وإبليس بساحل بحر الأبلة.
وهذا مما لا يوصل إلى علم صحته إلى بخبر يجيئ مجيء الحجة، ولا يعلم خبرٌ في ذلك ورد كذلك، غير ما ورد من خبر هبوط آدم بأرض الهند، فإن ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام وأهل التوراة والإنجيل، والحجة قد ثبتت بأخبار بعض هؤلاء.
وذكر أن الجبل الذي أهبط عليه آدم عليه السلام ذروته من أقرب ذراً جبال الأرض إلى السماء، وأن آدم حين أهبط عليه كانت رجلاه عليه ورأسه في السماء يسمع دعاء الملائكة وتسبيحهم، فكان آدم يأنس بذلك، وكانت الملائكة تهابه، فنقص من طول آدم لذلك.
ذكر من قال ذلك:حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله عز وجل آدم من الجنة كان رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى عز وجل في دعائه وصلاته، فوجه إلى مكة فصار موضع قدمه قرية، وخطوته مفازة، حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله تعال ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله تعالى الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله تعالى إبراهيم الخليل عليه السلام فبناه، فذلك قوله تعالى " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم، فكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعاً، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله، فقال الله: يا آدم، إني أهبط لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي. فانطلق إليه آدم عليه السلام، فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوة مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فأتى آدم عليه السلام البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما خط من طول آدم عليه السلام إلى ستين ذراعا أنشأ يقول: رب، كنتُ جارك في دارك، ليس لي رب غيرك ولا رقيب دونك، آكل فيها رغداً، وأسكن حيث أحببت ، فأهبطتني إلى هذا الجبل المقدس، فكنت أسمع أصوات الملائكة، وأراهم كيف يحفون بعرشك، وأجد ريح الجنة وطيبها، ثم أهبطتني إلى الأرض، وحططتني إلى ستين ذراعاً، فقد انقطع عني الصوت والنظر، وذهب عني ريح الجنة، فأجابه الله عز وجل: لمعصيتك يا آدم فعلتُ ذلك بك، فلما رأى الله تعالى عري آدم حواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل من الجنة، فأخذ كبشاً فذبحه، ثم أخذ صوفه فغزلته حواء، ونسجه هو وحواء، فنسج أدم جبة لنفسه، وجعل لحواء درعاً وخماراً، فلبسا ذلك وأوحى الله تعالى إلى آدم إن لي حرماً بحيال عرشي، فانطلق فابن لي فيه بيتاً ثم حف به كما رأيت ملائكي يحفون بعرشي، فهنالك أستجيبُ لك ولولدك، من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: أي رب، فكيف لي بذلك، لست أقوى عليه ولا أهتدي له! فقيض الله له ملكاً، فانطلق به نحو مكة، فكان آدم إذ أمر بروضة ومكان يعجبه قال للملك: انزل بنا ها هنا، فيقول له الملك: مكانك، حتى قدم مكة، فكان كل مكان نزل به صار عمراناً، وكل مكان تعداه صار مفاوز وقفاراً، فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتون ولبنان والجودي، وبنى قواعده من حراء، فلما فرغ من بنائه خرج به الملكُ إلى عرفات، فأراه المناسك كلها التي تفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة، فطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى أرض الهند، فمات على بوذ.
حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت، قال: قال لي مجاهد: لقد حدثني عبد الله ابن عباس أن آدم عليه السلام نزل حين نزل بالهند، ولقد حج منها أربعين حجة على رجليه، فقلت له: يا أبا الحجاج، ألا كان يركب؟ قال: فأي شيء كان يحمله! فوالله إن خطوه مسيرة ثلاثة أيام، وإن كان رأسه ليبلغ السماء، فاشتكت الملائكة نفسه، فهمزه الرحمن همزة، فتطأطأ مقدار أربعين سنة.
حدثني صالح بن حرب أبو معمر مولى بني هاشم، قال: حدثنا ثمامة بن عبيدة السلمى، قال: أخبرنا أبو الزبير، قال: قال نافع: سمعت ابن عمر، يقول: إن الله تعالى أوحى إلى أدم عليه السلام وهو ببلاد الهند: أن حج هذا البيت. فحج أدم من بلاد الهند، فكان كلما وضع قدمه صار قرية، وما بين خطوتيه مفازة، حتى انتهى إلى البيت فطاف به، وقضى المناسك كلها، ثم أراد الرجوع إلى بلاد الهند فمضى، حتى إذا كان بمأزمى عرفات، تلقته الملائكة، فقالوا: برحجك يا آدم! فدخله من ذلك عجب، فلما رأت الملائكة ذلك منه قالوا: يا آدم، إنا قد حججنا هذا البيت قبل أن تخلق بألفي سنة، قال: فتقاصرت إلى آدم نفسه.
وذكر أن آدم عليه السلام أهبط إلى الأرض، وعلى رأسه إكليل من شجر الجنة، فلما صار إلى الأرض، ويبس الإكليل، تحات ورقه فنبت منه أنواع الطيب.
وقال بعضهم: بل كان ذ لك ما أخبر الله عنهما، أنهما جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فلما يبس ذلك الورق الذي خصفاه عليهما تحات فنبت من ذلك الورق أنواع الطيب. والله أعلم.
وقال آخرون: بل لما علم آدم أن الله عز وجل مهبطه إلى الأرض، جعل لا يمر بشجرة من شجر الجنة إلا أخذ غصناً من أغصانها فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها تحات، فكان ذلك أصل الطيب.
ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو همام، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القتّ قال: قال لي مجاهد: لقد حدثني عبد الله ابن عباس، أن آدم حين خرج من الجنة كان لا يمر بشيء إلا عبث به، فقيل للملائكة: دعوه فليتزود منها ما شاء، فنزل حين نزل بالهند، وإن هذا الطيب الذي يجاء به من الهند مما خرج به آدم من الجنة.
ذكر من قال:كان على رأس آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة إكليل من شجر الجنة: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: خرج آدم من الجنة، فخرج منها ومعه عصا من شجر الجنة، وعلى رأسه تاج أو إكليل من شجر الجنة، قال: فأهبط إلى الهند، ومنه كل طيب بالهند.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: هبط آدم عليه - يعني على الجبل الذي هبط عليه - ومعه ورق من ورق الجنة، فبثه في ذلك الجبل، فمنه كان أصل الطيب كله، وكل فاكهة لا توجد إلا بأرض الهند.
وقال آخرون: بل زوده الله من ثمار الجنة، فثمارنا هذه من تلك الثمار.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قسامة بن زهير، عن الأشعري، قال: إن الله تبارك وتعالى لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة، وعلمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال آخرون: إنما علق بأشجار الهند طيب ريح آدم عليه السلام.
ذكر من قال إنما صار الطيب بالهند
لأن آدم حين أهبط إليها علق بأشجارها طيب رحيه
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نزل آدم عليه السلام معه ريح الجنة، فعلق بشجرها وأوديتها وامتلأ ما هنالك طيباً، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح الجنة.وقالوا: أنزل معه من طيب الجنة.
وقال: أنزل معه الحجر الأسود، وكان أشد بياضاً من الثلج، وعصا موسى، وكان من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، ومر ولبان، ثم أنزل عليه بعد ذلك العلاة والمطرقة والكلبتان، فنظر آدم حين أهبط على الجبل إلى قضيب من حديد نابت على الجبل، فقال: هذا من هذا، فجعل يكسر أشجاراً قد عتقت ويبست بالمطرقة، ثم أوقد على ذلك الغصن حتى ذاب، فكان أول شيء ضربه مدية، فكان يعمل بها ثم ضرب التنور، وهو الذي ورثه نوح، وهو الذي فار بالعذاب بالهند.
وكان آدم حين هبط يمسح رأسه السماء، فمن ثم صلع، وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر، فصارت وحشاً من يومئذ، وكان آدم عليه السلام وهو على ذلك الجبل قائم يسمع أصوات الملائكة،ويجد ريح الجنة، فحط من طوله ذلك إلى ستين ذراعاً، فكان ذلك طوله إلى أن مات. ولم يجمع حسنُ آدم عليه السلام لأحد من ولده إلا ليوسف عليه السلام.
وقيل: إن من الثمار التي زود الله عز وجل آدم عليه السلام حين أهبط إلى الأرض ثلاثين نوعاً: عشرة منها في القشور وعشرة لها نوى، وعشرة لا قشور لها ولا نوى. فأما التي في القشور منها فالجوز، واللوز، والفستق، والبندق، والخشخاش، والبلوط، والشاهبلوط، والرانج، والرمان، والموزُ. وأما التي لها نوى منها فالخوخ، والمشمش، والإجاص، والرطب، والغبيراء، والنبق، والزعرور، والعناب، والمقل، والشاهلوج. وأما التي لا قشور لها ولا نوى فالتفاح، والسفرجل، والكمثرى، والعنب، والتوت، والتين، والأترج، والخرنوب، والخيار، والبطيخ.
وقيل: كان مما أخرج آدم معه من الجنة صرة من حنطة، وقيل: إن الحنطة إنما جاءه بها جبرئيل عليه السلام بعد أن جاع آدم، واستطعم ربه، فبعث الله إليه مع جبرئيل عليه السلام بسبع حبات من حنطة، فوضعها في يد آدم عليه السلام، فقال آدم لجبرئيل: ما هذا؟ فقال له جبرئيل: هذا الذي أخرجك من الجنة، وكان وزن الحبة منها مائة ألف درهم وثمانمائة درهم، فقال آدم ما أصنع بهذا؟ قال: انثره في الأرض ففعل، فأنبته الله عز وجل من ساعته، فجرت سنة في ولده البذر في الأرض، ثم أمره فحصده، ثم أمره فجمعه وفركه بيده، ثم أمره أن يذريه، ثم أتاه بحجرين فوضع أحدها على الآخر فطحنه، ثم أمره أن يعجنه، ثم أمره أن يخبزه ملةً، وجمع له جبرئيل عليه السلام الحجر والحديد فقدحه، فخرجت منه النار، فهو أول من خبز الملة.
وهذا القول الذي حكيناه عن قائل هذا القول، خلاف ما جاءت به الروايات عن سلف أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المثنى بن إبراهيم حدثني أن إسحاق حدثه، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، وعن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة، فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوءاتهما أضفارهما،وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ورق التين يلصقان بعضها إلى بعض، فانطلق آدم مولياً في الجنة، فأخذت برأسه شجرة من الجنة فناداه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا، ولكني استحيتك يا رب، قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمتُ عليك! قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبتُ أن أحداً يحلف بك كاذباً، قال - وهو قول الله تبارك وتعالى: " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " - قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، فلا تنال العيش إلا كداً. قال: فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان فيها رغداً، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعلم صنعة الحديد،وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصده، ثم داسه، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحدث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو الذي قال الله عز وجل: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " ، فكان ذلك شقاؤه.
فهذا الذي قاله هؤلاء هو أولى بالصواب، وأشبه بما دل عليه كتاب ربنا عز وجل، وذلك أن الله عز ذكره لما تقدم إلى آدم وزوجته حواء بالنهي عن طاعة عدوهما، قال لآدم: " يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " ، فكان معلوماً أن الشقاء الذي أعلمه أنه يكون إن أطاع عدوه إبليس، هو مشقة الوصول إلى ما يزيل الجوع والعري عنه، وذلك هي الأسباب التي بها يصل أولاده إلى الغذاء، من حراثة وبذر وعلاج وسقي، وغير ذلك من الأسباب الشاقة المؤلمة. ولو كان جبرئيل أتاه بالغذاء الذي يصل إليه ببذره دون سائر المؤن غيره، لم يكن هناك من الشقاء الذي توعده به ربه على طاعة الشيطان ومعصية الرحمن كبير خطب، ولكن الأمر كان - والله أعلم - على ما روينا عن ابن عباس وغيره.
وقد قيل: إن أدم عليه السلام نزل معه السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا أبن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة.
ثم إن الله عز ذكره فيما ذكر أنزل آدم من الجبل الذي أهبطه عليه إلى سفحه، وملكه الأرض كلها، وجميع ما عليها من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك، وأن آدم عليه السلام لما نزل من رأس ذلك الجبل، وفقد كلام أهل السماء، وغابت عنه أصوات الملائكة، ونظر إلى سعة الأرض وبسطتها، ولم ير فيها أحداً غيره، استوحش فقال: يا رب، أما لأرضك هذه عامر يسبحك غيري!
فأجيب بما حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد ابن معقل، أنه سمع وهباً يقول: إن آدم لما أهبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحداً غيره قال: يا رب، أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدس لك غيري! قال الله: إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري، ويسبح فيها خلقي، ويذكر فيها أسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتاً أخصه بكرامتي، وأوثره باسمي، وأسميه بيتي أنطقه بعظمتي، وعليه وضعت جلالي. ثم أنا مع ذلك في كل شيء ومع كل شيء، أجعل ذلك البيت حرماً آمناً يحرمُ بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه، فمن حرمه بحرمتي استوجب بذلك كرامتي، ومن أخاف أهله فيه فقد أخفر ذمتي، وأباح حرمتي. أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركاً، يأتونه شعثاً غبراً على كل ضامر، من كل فج عميق، يرجون بالتلبية رجيجاً، ويثجون بالبكاء ثجيجاً، ويعجون بالتكبير عجيجاً، فمن اعتمده ولا يريد غيره فقد وفد إلي وزارني وضافني، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كلاً بحاجته. تعمره يا آدم ما كنت حياً، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة، وقرناً بعد قرن.
ثم أمر آدم عليه السلام - فيما ذكر - أن يأتي البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض، فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول عرش الله، وكان ذلك ياقوتة واحدة، أو درة واحدة كما حدثني الحسن ين يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبان، أن البيت أهبط ياقوتة واحدة أو درة واحدة، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي أساسه، فبوأه الله عز وجل لإبراهيم فبناه، وقد ذكرتُ الأخبار الواردة بذلك فيما مضى قبل.
فذكر أن آدم عليه السلام بكى واشتد بكاؤه على خطيئته، وندم عليها، وسأل الله عز وجل قبول توبته، وغفران خطيئته، فقال في مسألته إياه: ما سأل من ذلك، كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " قال: أي رب، ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال أي رب، ألم تنفح في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبتُ وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات " .
حدثني بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله تعالى " فتلقى آدم من ربه كلمات " ذكر لنا أنه قال: يا رب: أرأيت إن أنا تبتُ وأصلحت! قال: إذا أرجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وقيس، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله عز وجل: " فتلقى آدم من ربه كلمات " قال: قوله: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمد، قال: أخبرنا أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباسن قال: أنزل آدم معه حين أهبط من الجنة الحجر الأسود، وكان أشد بياضاً من الثلج، وبكى آدم وحواء على ما فاتهما - يعني من نعيم الجنة - مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً، ثم أكلا وشربا، وهما يؤمئذ على بوذ، الجبل الذي أهبط عليه آدم ولم يقرب حواء مائة سنة.
حدثنا أبو همام، قال: حدثني أبي، قال: حدثني زياد بن خيثمة، عن أبي يحيى بائع القت، قال: قال لي مجاهد، ونحن جلوس في المسجد: هل ترى هذا؟ قلتُ: يا أبا الحجاج، الحجر؟ قال: كذلك تقول؟ قلت: أو ليس حجراً؟ قال: فوالله لحدثني عبد الله بن عباس أنها ياقوتة بيضاء خرج بها آدم من الجنة، كان يمسح بها دموعه، و أن آدم لم ترقأ دموعه منذ خرج من الجنة حتى رجع إليها ألفي سنة، وما قدر منه إبليس على شيء، فقلت له: يا أبا الحجاج، فمن أي شيء اسود؟ قال: كان الحيض يلمسنه في الجاهلية، فخرج آدم عليه السلام من الهند يؤم البيت الذي أمره الله عز وجل بالمصير إليه، حتى أتاه، فطاف به، ونسك المناسك، فذكر أنه ألتقى هو وحواء بعرفات، فتعارفا بها، ثم ازدلف إليها بالمزدلفة، ثم رجع إلى الهند مع حواء، فاتخذا مغارة يأويان إليها في ليلهما ونهارهما، وأرسل الله إليهما ملكاً يعلمهما ما يلبسانه ويستتران به، فزعموا أن ذلك كان من جلود الضأن والأنعام والسباع. وقال بعضهم: إنما كان ذلك لباس أولادهما، فأما آدم وحواء فإن لباسهما كان ما كانا خصفاً على أنفسهما من ورق الجنة. ثم إن الله عز ذكره مسح ظهر آدم عليه السلام بنعمان من عرفة، وأخرج ذريته، فنثرهم بين يديه كالذر، فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، كما قال عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " .
وقد حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً، وقال: " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة " إلى قوله: " بما فعل المبطلون " .
حدثني عمران بن موسى القزاز، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال:حدثنا كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " ، قال: مسح ربنا ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذه - وأشار بيده - فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
حدثنا ابن وكيع ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن علية، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " ، قال: مسح ظهر آدم فخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان، هذا الذي وراء عرفة، وأخذ ميثاقهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، واللفظ لحديث يعقوب.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم حين أهبط فمسح الله ظهره، فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم تلى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " ، فجف القلم من يومئذ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " ، قال: لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام أخذ ذريته من ظهره مثل الذر، فقبض قبضتين، فقال لأصحاب اليمين: أدخلوا الجنة بسلام، وقال للآخرين: ادخلوا النار ولا أبالي.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا روح بن عبادة وسعد بن عبد الحميد بن جعفر عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " ، فقال عمر:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه واستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العلم؟ قال: " إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عملٍ من عمل أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعملٍ أهل النار حتى يموت على عملٍ من عمل أهل النار فيدخله النار " .
وقيل: إنه أخذ ذرية آدم عليه السلام من ظهره بدحنا.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " قال: لما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره بدحنا فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قال: فيرون يومئذ، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقال بعضهم: أخرج الله ذرية آدم من صلبه في السماء قبل أن يهبطه إلى الأرض، وبعد أن أخرجه من الجنة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " ، قال: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء، ثم إنه مسح من آدم صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية كهيئة الذر بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه كهيئة الذر سوداً، فقال: أدخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: " أصحاب اليمين " و " أصحاب الشمال " . ثم أخذ الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فأعطاه طائفة طائعين، وطائفة على وجه التقية.
ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم
عليه السلام بعد أن أهبط إلى الأرض
فكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، وأهل العلم يختلفون في اسم قابيل، فيقول بعضهم: هو قين بن آدم، ويقول بعضهم: هو قايين ابن آدم.ويقول بعضهم: هو قاين: ويقول بعضهم: هو قابيل.واختلفوا أيضاً في السبب الذي من أجله قتله:
فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي - في خبر ذكره - عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان لا يولد لآدم مولودٌ إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان، يقال لهما قابيل وهابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوجها، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قرباناً إلى الله أيهما أحق بالجارية، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما وأتى مكة ينظر إليها، قال الله لآدم: يا آدم، هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض؟ قال: اللهم لا، قال: فإن لي بيتاً بمكة فأته، فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل، فقال نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك، فلما انطلق آدم قربا قرباناً، وكان قابيل يفخر عليه فيقول: أنا أحق بها منك هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي، فلما قربا، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل: " إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت لي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " ، إلى قوله: " فطوعت له نفسه قتل أخيه " ، فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنمه في جبل وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه، فمات وتركه بالعراء، لا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قال: " يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي " ، فهو قوله عز وجل: " فبعث الله غراباً يبحثُ في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه " . فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل آخاه، فذلك حين يقول الله عز وجل: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال " - إلى آخر الآية - " إنه كان ظلوماً جهولاً " . يعني قابيل حين حمل أمانة آدم، ثم لم يحفظ له أهله.
وقال آخرون: كان السبب في ذلك أن آدم كان يولد له من حواء في كل بطن ذكر وأنثى فإذا بلغ الذكر منهما زوج منه ولده الأنثى التي ولدت مع أخيه الذي ولد في البطن الآخر، قبله أو بعده.
فرغب قابيل بتوءمته عن هابيل.
كما حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجمرة، وهو متقنع متوكئ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سمرة الصواف، وقف يحدثني عن ابن عباس، قال: نهى أن تنكح المرأة أخاها توءمها، وينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد في كل بطن رجل وامرأة، فولدت امرأة وسيمة وولدت امرأة قبيحة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، قال: لا، أنا أحق بأختي، فقربا قرباناً فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله، فلم يزل ذلك الكبش محبوساً عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصفا، في ثبير، عند منزل سمرة الصواف، وهو على يمينك حين ترمي الجمار.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول، أن آدم عليه السلام كان يغشي حواء في الجنة قبل أن تصيب الخطيئة، فحملت له بقين بن آدم وتوءمته، فلم تجد عليهما وحماً لا وصباً، ولم تجد عليهما طلقاً حين ولدتهما، ولم تر معهما دماً لظهر الجنة، فلما أكلا من الشجرة وأصابا المعصية، وهبطا إلى الأرض واطمأنا بها تغشاها، فحملت بهابيل وتوءمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب، ووجدت حين ولدتهما الطلق ورأت معهما الدم، وكانت حواء - فيما يذكرون - لا تحمل إلا توءماً ذكراً وأنثى، فولدت حواء لآدم أربعين ولداً لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطناً، وكان الرجل منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توءمته التي تولد معه، فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن نساء يومئذ إلا أخواتهم وأمهم حواء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول أن آدم أمر ابنه قيناً أن ينكح توءمته هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توءمته قينا، فسلم لذلك هابيل ورضي وأبى ذلك قين وكره تكرماً عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال، نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي - ويقول بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول: بل كانت أخت قين من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه، وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان - فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك فأبى قين أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه يا بني فقرب قرباناً، ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها، وكان قين على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قين قمحاً، وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه - وبعضهم يقول: قرب بقرة - فأرسل الله جل وعز ناراً بيضاء، فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قين. وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله عز وجل، فلما قبل الله قربان هابيل - وكان في ذلك القضاء له بأخت قين - غضب قين، وغلب غليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان، فاتبع أخاه هابيل، وهو في ماشيته فقتله، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: " واتل عليهم " يعني أهل الكتاب " نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما " إلى آخر القصة، قال: فلما قتله سقط في يديه، ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنه كان - فيما يزعمون - أول قتيل من بني آدم: " فبعث الله غراباً يبحثُ في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي " إلى قوله: " ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " .
قال: ويزعم أهل التوراة أن قيناً حين قتل أخاه هابيل، قال الله له: أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيباً، فقال الله له: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض! الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض، فقال قين: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض وأتوارى من قدامك، وأكون فزعاً تائهاً في الأرض، وكل من لقيني، قتلني. فقال الله عز وجل: ليس ذلك كذلك، فلا يكون كل من قتل قتيلاً يجزى بواحد سبعة، ولكن من قتل قيناً يجزى سبعة، وجعل الله في قين آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قين من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة.
وقال آخرون في ذلك: إنما كان قتل القاتل منهما أخاه أن الله عز وجل أمرهما بتقريب قربان، فتقبل قربان أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فبغاه الذي لم يتقبل قربانه فقتله.
ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو، قال إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وأنهما أمرا أن يقربا قرباناً، وأن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبة بها نفسه، وأن صاحب الحرث قرب، شر حرثه: الكوزر والزوان، غير طيبة بها نفسه، وأن الله عز وجل تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه وقال: إيم الله، إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن ينبسط إلى أخيه.
وقال آخرون بما حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا: لو قربنا قرباناً! وكان الرجلُ إذا قرب قرباناً فرضية الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته، وإن لم يكن رضيه الله خبت النار، فقربا قرباناً، وكان أحدهما راعياً والآخر حراثاً، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتمشي في الناس، وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد علي قرباني! فلا والله لا ينظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني، فقال: لأقتلنك، فقال له أخوه ما ذنبي! إنما يتقبل الله من المتقين.
وقال آخرون: لم تكن قصة هذين الرجلين في عهد آدم، ولا كان القربان في عصره، وقالوا: إنما كان هذان رجلين من بني إسرائيل، وقالوا: إن أول ميت مات في الأرض آدم عليه السلام، لم يمت قبله أحد.
ذكر من قال ذلكحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو، عن الحسن، قال: كان الرجلان اللذان في القرآن قال الله عز وجل فيهما: " واتل عليهما نبأ ابني آدم بالحق " من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كانا القربان من بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات.
وقال بعضهم: إن آدم غشي حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل وتوءمته قليماً في بطن واحد، ثم هابيل وتوءمته في بطن واحد، فلما شبوا أراد آدم عليه السلام أن يزوج أخت قابيل التي ولدت معه في بطن واحد من هابيلن فامتنع من ذلك قابيل، وقربا بهذا السبب قرباناً فتقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده قابيل، فقتله عند عقبة حرى ثم نزل قابيل من الجبل، آخذاً بيد أخته قليما، فهرب بها إلى عدن من أرض اليمن.
حدثني بذلك الحارس، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما قتل قابيل أخاه هابيل أخذ بيد أخته ثم هبط بها من جبل بوذ إلى الحضيض، فقال آدم لقابيل: اذهب فلا تزال مرعوباً لا تأمن من تراه، فكان لا يمر به أحد من ولده إلا رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى،ومعه ابن له، فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل، فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله، فقال ابن الأعمى: قتلت يا أبتاه أباك، فرفع الأعمى يده، فلطم ابنه فمات ابنه، فقال الأعمى: ويل لي! قتلت أبي برميتي، وقتلت ابني بلطمتي! وذكر في التوراة أن هابيل قتل وله عشرون سنة، وأن قابيل كان له يوم قتله خمس وعشرون سنة.
والصحيح من القول عندنا أن الذي ذكر الله في كتابه أنه قتل أخاه من ابني آدم هو ابن آدم لصلبه، لنقل الحجة أن ذلك كذلك، وأن هناد بن السري حدثنا، قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع جميعاً عن الأعمش. - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير وأبو معاوية عن الأعمش - عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها " ، وذلك لأنه أول من سن القتل.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي - وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي - جميعاً عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن البني صلى الله عليه وسلم نحوه.
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحة قول من قال: إن اللذين قص الله في كتابه قصتهما من ابني آدم كانا ابنيه لصلبه، لأنه لا شك أنهما لو كانا من بني إسرائيل - كما روي عن الحسن - لم يكن الذي وصف منهما بأنه قتل أخاه أول من سن القتل، إذ كان القتل في بني آدم قد كان قبل إسرائيل وولده.
فإن قال قائل: فما برهانك على أنهما ولدا آدم لصلبه، وأن لم يكونا من بني إسرائيل؟ قيل: لا خلاف بين سلف علماء أمتنا في ذلك، إذا فسد قول من قال: كانا من بني إسرائيل.
وذكر أن قابيل لما قتل أخاه هابيل بكاه آدم عليه السلام فقال - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لما قتل ابن آدم آخاه بكاه آدم، فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
قال: فأجيب آدم عليه السلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعاً ... وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرةٍ قد كان منها ... على خوفٍ فجاء بها يصيح
وذكر أن حواء ولدت لآدم عليه السلام عشرين ومائة بطن، أولهم قابيل وتوءمته قليما، وآخرهم عبد المغيث وتوءمته أمة المغيث.
وأما ابن إسحاق فذكر عنه ما قد ذكرتُ قبل، وهو أن جميع ما ولدته حواء لآدم لصلبه أربعون من ذكر وأنثى في عشرين بطناً، وقال: قد بلغنا أسماء بعضهم ولم يبلغنا بعض.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فكان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلاً وأربع نسوة، منهم قين وتوءمته، وهابيل وليوذا وأشوث بنت آدم وتوءمتها، وشيث وتوءمته، وحزورة وتوءمها، على ثلاثين ومائة سنة من عمره. ثم أباد بن آدم وتوءمته، ثم بالغ بن آدم وتوءمته، ثم أثاثى بن أدم وتوءمته، ثم توبة بن آدم وتوءمته، ثم بنان ابن آدم وتوءمته، ثم شبوبة بن آدم وتوءمته، ثم حيان بن آدم وتوءمته، ثم ضرابيس بن آدم وتؤءمته، ثم هدز بن آدم وتوءمته، ثم يحود بن آدم وتوءمته، ثم سندل بن آدم وتوءمته، ثم بارق بن آدم وتوءمته، كل رجل منهم تولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه.
وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيو مرت هو أدم، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء.
وقال فيه غيرهم أقوالاً كثيرة، يطول بذكر أقوالهم الكتاب، وتركنا ذكر ذلك إذ كان قصدنا من كتابنا هذا ذكر الملوك وأيامهم، وما قد شرطنا في كتابنا هذا أنا ذاكروه فيه،ولم يكن ذكرُ اختلاف المختلفين في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له صنعة الكتاب، فإن ذكرنا من ذلك شيئاً فلتعرف من ذكرنا، ليعرفه من لم يكن به عارفاً، فأما ذكر الاختلاف في نسبة فإنه غير المقصود به في كتابنا هذا.
وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنه آدم، ووافق علماء الفرس على اسمه وخالفه في عينه وصفته، فزعم أن جيومرت الذي زعمت الفرس أنه آدم عليه السلام إنما هو جامر بن يافث ابن نوح، وأنه كان معمراً سيداً نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق، وتملك بها وبفارس، ثم عظم أمره وأمر ولده، حتى ملكوا بابل وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها، وأن جيومرت منع من البلاد ما صار إليه، وابتنى المدن والحصون وعمرها، وأعد السلاح، واتخذ الخيل، وأنه تجبر في آخر عمره، وتسمى بآدم، وقال: من سماني بغير هذا الاسم ضربتُ عنقه، وأنه تزوج ثلاثين امرأة، فكثر منهن نسله، وأن ماري ابنه وماريانة أخته ممن كان ولد له في آخر عمره، فأعجب بهما وقدمهما، فصار الملوك بذلك السبب من نسلهما، وأن ملكه اتسع وعظم.
وإنما ذكرت من أمر جيومرت في هذا الموضوع ما ذكرت، لأنه لا تدافع بين علماء الأمم أن جيومرت هو أبو الفرس من العجم، وإنما اختلفوا فيه: هل هو آدم أبو البشر على ما قاله الذين ذكرنا قولهم أم هو غيره؟ ثم مع ذلك فلأن ملكه وملك أولاده لم يزل منتظماً على سياق، متسقاً بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزد جرد بن شهريار من ولد ولده بمرور - أبعده الله - أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتأريخ ما مضى من سنى العالم على أعمار ملوكهم أسهل بياناً، وأوضح مناراً منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم، إذ لا تعلم أمة من الأمم الذين ينتسبون إلى آدم عليه السلام دامت لها المملكة، واتصل لهم الملك، وكانت لهم ملوك تجمعهم، ورؤس تحامى عنهم من ناوأهم، وتغالب بهم من عازَّهم، وتدفع ظالمهم عن مظلومهم، وتحملهم من الأمور على ما فيه حظهم على اتصال ودوام ونظام، يأخذ ذلك آخرهم عن أولهم، وغابرهم عن سالفهم سواهم، فالتأريخ على أعمار ملوكهم أصحّ مخرجاً، وأحسن وضوحاً.
وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم عليه السلام وأعمار من كان بعده من ولده الذين خلفوه في النبوة والملك، على قول من خالف قول الفرس الذين زعموا أنه جيومرت، وعلى قول من قال: إنه هو جيومرت أبو الفرس، وذاكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال التي اجتمعوا عليها، فاتفقوا على من ملك منهم في زمان بعينه أنه كان هو الملك في ذلك الزمان إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم سائق ذلك كذلك إلى زماننا هذا.
ونرجع الآن إلى الزيادة في الإبانة عن خطأ قول من قال: إن أول ميت كان في أول الأرض آدم، وإنكاره الذين قص الله نبأهما في قوله: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً " ، أن يكونا من صلب آدم من أجل ذلك.
فحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام قال: " كانت حواء لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسمينه عبد الحارث، فعاش لها ولد فسمته عبد الحارث، وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان " .
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت حواء تلد لآدم فتعبدهم الله عز وجل وتسميهم: عبد الله، وعبيد الله، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليس وآدم عليه السلام، فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له ذكراً فسمياه عبد الحارث، ففيه أنزل الله عز ذكره، يقول الله عز وجل: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " ، إلى قوله: " جعلا له شركاء فيما آتاهما " إلى آخر الآية.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن سعيد بن جبير: " فلما أثقلت دعوا الله ربهما " إلى قوله: " فتعالى الله عما يشركون " .
قال: ولما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت أتاها إبليس قبل أن تلد فقال: يا حواء، ما هذا في بطنك؟ فقالت: ما أدري من؟ فقال: أين يخرج؟ من أنفك؟ أو من عينك؟ أو من أذنك؟ قالت: لا أدري، قال: أرأيت إن خرج سليماً أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم، قال: سميه عبد الحارث - وقد كان يسمى إبليس لعنه الله الحارث - فقالت: نعم، ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال لي: كذا وكذا، فقال: إن ذاك الشيطان فاحذريه، فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، ثم أتاها إبليس لعنه الله فأعاد عليها، فقالت: نعم، فلما وضعته أخرجه الله سليماً فسمته عبد الحارث، فهو قوله: " جعلا له شركاء فيما آتاهما " إلى قوله: " فتعالى الله عما يشركون " .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم عليه السلام أشرك! ولكن حواء لما أثقلت أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سوياً - قال ابن وكيع: زاد ابن فضيل: " لم يضرك ولم يقتلك " - أتطيعيني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت - زاد جرير: فإنما كان شركه في الاسم.
حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: فولدت - يعني حواء - غلاماً، فأتاها إبليس فقال: سموه عبدي، وإلا قتلته، قال له آدم: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة، فأبى أن يطيعه، فسماه " عبد الرحمن " فسلط عليه إبليس لعنه الله فقتله، فحملت بآخر فلما ولدته، قال: سميه عبدي وإلا قتلته، قال له آدم عليه السلام: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة. فأبى فسماه صالحاً، فقتله، فلما كان الثالث قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه عبد الحارث، وكان اسم إبليس الحارث، - وإنما سمي إبليس حين أبلس تحير - فذلك حين يقول الله عز وجل: " جعلا له شركاء فيما آتاهما " - يعني في الأسماء.
فهؤلاء الذين ذكرت الرواية عنهم بما ذكرت، من أنه مات لآدم وحواء أولاد قبلهما، ومن لم نذكر أقوالهم ممن عددهم أكثر من عدد من ذكرت قوله والرواية عنه، قالوا خلاف قول الحسن الذي روى عنه أنه قال: أول من مات آدم عليه السلام.
وكان آدم مع ما كان الله عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه، وجعله رسولاً إلى ولده، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم عليه السلام بخطه، علمه إياها جبرئيل عليه السلام.
وقد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه فقال لي: " يا أبا ذر، إن للمسجد تحية وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما " ، فلما ركعتهما جلست إليه فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة؟ قال: " خيرُ موضوع، استكثر أو استقل " ، ثم ذكر قصة طويلة قال فيها: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " ، قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسل من ذلك؟ قال " ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً " ، يعني كثيراً طيباً، قال: قلت يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: " آدم " ، قال: قلت يا رسول الله، وآدم نبي مرسل؟ قال: " نعم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلاً " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن أبي ذر قال: قلت، يا نبي الله، أنبياً كان آدم؟ قال: " نعم، كان نبياً، كلمه الله قبلا " .
وقيل: إنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة.
ذكر ولادة حواء شيثاً
ولما مضى لآدم صلى الله عليه وسلم من عمره مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل قابيل هابيل بخمس سنين، ولدت له حواء ابنه شيثاً، فذكر أهل التوراة أن شيثاً ولد فرداً بغير توأم، وتفسير شيث عندهم هبة الله ومعناه أنه خلف من هابيل.
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولدت حواء لآدم شيئاً وأخته عزورا، فسمى هبة الله، اشتق له من هابيل، قال لها جبرئيل حين ولدته: هذا هبة الله بدل هابيل، وهو بالعربية شِث، وبالسريانية شاث، وبالعبرانية شيث، وإليه أوصى آدم، وكان آدم يوم ولد له شيث ابن ثلاثين ومائة سنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: لما حضرت آدم الوفاة - فيما يذكرون والله أعلم - دعا ابنه شيثاً فعهد إليه عهده، وعلمه ساعات الليل والنهار، وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منهن، فأخبره أن لكل ساعة صنفاً من الخلق فيها عبادته، وقال له: يا بني إن الطوفان سيكون في الأرض يلبث فيها سبع سنين. وكتب وصيته، فكان شيث - فيما ذكر - وصى أبيه آدم عليه السلام، وصارت الرياسة من بعد وفاة آدم لشيث، فأنزل الله عليه فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين صحيفة.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله، كم كتاب أنزل الله عز وجل؟ قال: " مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة " .
وإلى شيث أنسابُ بني آدم كلهم اليوم، وذلك أن نسل سائر ولد آدم غير نسل شيث، انقرضوا وبادوا فلم يبقى منهم أحد، فأنساب الناس كلهم اليوم إلى شيث عليه السلام.
وأما الفرس الذين قالوا إن جيومرت هو آدم، فإنهم قالوا: ولد الجيومرت ابنه ميشى، وتزوج ميشى أخته ميشانه فولدت له سيامك بن ميشى، وسيامي ابنة ميشى، فولد لسيامك بن ميشى بن جيومرت أفرواك، وديس، وبراسب، وأجوب، وأوراش بنو سيامك، وأفري، ودذي، ويرى وأوراشى بنات سيامك، أمهم جميعاً سيامي بنت ميشى، وهي أخت أبيهم.
وذكروا أن الأرض كلها سبعة أقاليم، فأرض بابل وما يوصل إليه مما يأتيه الناس براً أو بحراً فهو إقليم واحد، وسكانه نسل ولد أفرواك بن سيامك وأعقابهم، وأما الأقاليم الستة الباقية التي لا يوصل إليها اليوم براً أو بحراً فنسلُ سائر ولد سيامك،من بنيه وبناته.
فولد لأفرواك بن سيامك من أفري بنت سيامك هوشنك بيشداذ الملك، وهو الذي خلف جده جيومرت في الملك، وأول من جمع له ملك الأقاليم السبعة، وسنذكر أخباره إن شاء الله إذا أنتهينا إليه. وكان بعضهم يزعم أن أوشهنج هذا، هو ابن آدم لصلبه من حواء.
وأما هشام الكلبي فإنه فيما حدثتُ عنه قال: بلغنا والله أعلم - أول ملك ملك الأرض أو شهنق بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. قال: والفرس تدّعيه وتزعم أنه كان بعد وفاة آدم بمائتي سنة، قال: وإنما كان هذا الملك فيما بلغنا بعد نوح بمائتي سنة، فصيره أهل فارس بعد آدم بمائتي سنة، ولم يعرفوا ما كان قبل نوح.
وهذا الذي قاله هشام قول لا وجه له، لأن هوشهنك الملك في أهل المعرفة بأنساب الفرس أشهر من الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام، وكل قوم فهم بآبائهم وأنسابهم ومآثرهم أعلم من غيرهم، وإنما يرجع في كل أمر التبس إلى أهله.
وقد زعم بعض نسابة الفرس أن أوشهنج بيشداذ الملك هذا هو مهلائيل، وأن أباه فرواك هو قينان أبو مهلائيل، وأن سيامك هو أنوش أبو قينان، وأن ميشى هو شيث أبو أنوش، وأن جيومرت هو آدم صلى الله عليه وسلم.
فإن كان الأمر كما قال، فلا شك أن أوشهنج كان في زمان آدم رجلاً، وذلك أن مهلائيل فيما ذكر في الكتاب الأول كانت ولادة أمه دينة ابنة براكيل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم إياه بعد ما مضى من عمر آدم صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة، فقد كان له حين وفاة آدم ستمائة سنة وخمس سنين، على حساب ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمر آدم أنه كان عمره ألف سنة.
وقد زعمت علماء الفرس أن ملك أوشهنج هذا كان أربعين سنة. فإن كان الأمر في هذا الملك كالذي قاله النسابة الذي ذكرت عنه ما ذكرت فلم يبعد من قال: إن ملكه كان بعد وفاة آدم صلى الله عليه وسلم بمائتي سنة.
ذكر وفاة آدم عليه السلاماختلف في مدة عمره، وابن كم كان يوم قبضه الله عز وجل إليه.
فأما الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها واردة بماحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان، قال: حدثني محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن البني صلى الله عليه وسلم 0 قال أبو خالد: وحدثني الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو خالد: وحدثني داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو خالد: وحدثني ابن أبي ذباب الدوسي، قال: حدثنا سعيد المقبري ويزيد بن هرمز، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فجلس فعطس فقال: الحمد الله، فقال له ربه: يرحمك ربك، إيت أولئك الملأ من الملائكة فقل لهم: السلام عليكم، فأتاهم فقال لهم: السلام عليكم قالوا له: وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال له: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم، ثم قبض له يديه، فقال له: خذ واختر، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين، ففتحها له، فإذا فيها صورة آدم وذريته كلهم، فإذا كل رجل مكتوب عنده أجله، وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة، وإذا قوم عليهم النور، فقال: يا رب من هؤلاء الذين عليهم النور، فقال: هؤلاء الأنبياء والرسل الذين أرسل إلى عبادي، وإذ فيهم رجل هو أضوءهم نوراً، ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة، فقال: يا رب ما بال هذا، من أضوئهم نوراً ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة؟ فقال: ذاك ما كتب له، فقال: يا رب، أنقص له من عمري ستين سنة " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أسكنه الله الجنة ثم أهبط إلى الأرض كان يعد أيامه، فلما أتاه ملك الموت ليقبضه قال له آدم: عجلت علي يا ملك الموت! فقال: ما فعلت، فقال: قد بقي من عمري ستون سنة، فقال له ملك الموت: ما بقي من عمرك شيء، قد سألت ربك أن يكتبه لابنك داود، فقال: ما فعلت " . فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فنسي آدم، فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، فيومئذ وضع الله الكتاب،وأمر بالشهود " .
حدثني ابن سنان، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم عليه السلام ثلاث مرات، وإن الله تبارك وتعالى لما خلقه مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة، فجعل يعرضهم على آدم، فرأى فيهم رجلاً يزهر، فقال: أي رب، أي نبي هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب، زده في عمره، قال: لا، إلا أن تزيده أنت من عمرك، وكان عمر آدم آلف سنة، فوهب له من عمره أربعين عاماً، فكتب الله عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم أتته الملائكة لتقبض روحه، قال: إنه قد بقي من عمري أبعون سنة، قالوا:إنك قد وهبتها لأبنك داود، قال: ما فعلت ولا وهبت له شيئاً، فأنزل الله عليه الكتاب وأقام عليه الملائكة شهوداً، فأكمل لآدم ألف سنة، وأكمل لداود مائة سنة " .
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله عز وجل: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " إلى قوله: " قالوا بلى شهدنا " ، قال ابن عباس: إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره، وأخرج ذريته كلهم كهيئة الذر، فأنطقهم فتكلموا، وأشهدهم على أنفسهم، وجعل مع بعضهم النور، وأنه قال لآدم: هؤلاء ذريتك أخذ عليهم الميثاق: أني أنا ربهم لئلا يشركوا بي شيئاً، وعلى رزقهم. قال آدم: فمن هذا الذي معه النور؟ قال: هو داود، قال: يا رب، كم كتبت له من الآجل؟ قال: ستين سنة، قال:كم كتبت لي؟ قال: ألف سنة، وقد كتبت لكل إنسان منهم: كم يعمر، وكم يلبث، قال: يا رب زده، قال: هذا الكتاب موضوع فأعطه إن شئت من عمرك، قال: نعم، وقد جف القلم عن سائر بني آدم، فكتب له من أجل آدم أربعين سنة فصار أجله مائة سنة، فلما عمر تسعمائة سنة وستين سنة جاءه ملك الموت، فلما آن رآه آدم قال: مالكَ؟ قال له: قد استوفيت أجلك، قال له آدم: إنما عمرت تسعمائة سنة وستين سنة، وبقي لي أربعون سنة، فلما قال ذلك للملك، قال الملك: قد أخبرني بها ربي، قال:فارجع إلى ربك فسله، فرجع الملك إلى ربه فقال: مالك؟ قال: يا رب رجعتُ إليك لما كنت أعلم من تكرمتك إياه، قال الله عز وجل: أرجع فأخبره، أنه قد أعطى ابنه داود أربعين سنة.
حدثنا بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم " ، قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف سنة، قال: فعرضوا على آدم، فرأى رجلاً من ذريته له نور، فأعجبه فسأله عنه فقال: هو داود، وقد جعل عمره ستين سنة فجعل له من عمره أربعين سنة فلما احتضر أدم عليه السلام جعل يخاصمهم في الأربعين السنة، فقيل له: إنك قد أعطيتها داود قال: فجعل يخاصمهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله عز وجل: " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم " قال: أخرج ذريته من ظهره في صورة كهيئة الذر، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، قال: فعرض عليه روح داود في نور ساطع، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك، نبي خلقته، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: زيدوه من عمري أربعين سنة، قال: والأقلام رطبة تجري، وأثبتت لداود عليه السلام الأربعون، وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكملها إلا الأربعين سنة بعث إليه ملك الموت قال: يا آدم أمرتُ أن أقبضك، قال: ألم يبقى من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع ملك الموت إلى ربه عز وجل فقال: إن آدم يدعي من عمره أربعين سنة، قال: أخبر آدم أنه جعلها لابنه داود. والأقلام رطبة، وأثبتت لداود الأربعون.
حدثنا ابن وكيع، قال حدثنا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه.
وذكر أن آدم عليه السلام مرض قبل موته أحد عشر يوماً، وأوصى إلى ابنه شيث عليه السلام وكتب وصيته، ثم دفع كتاب وصيته إلى شيث، وأمره أن يخفيه من قابيل وولده، لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسداً منه حين خصه آدم بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولد ه علم ينتفعون به.
ويزعم أهل التوراة أن عمر آدم عليه السلام كله كان تسعمائة سنة وثلاثين سنة.
وحدثنا الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام ابن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان عمر آدم تسعمائة سنة وستاً وثلاثين سنة، والله أعلم.
والأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء من سّلفنا ما قد ذكرت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق بذلك.
وقد ذكرت الأخبار الواردة عنه أنه قال: كان عمره ألف سنة، وأنه بعد ما جعل لأبنه داود من ذلك ما جعل له، أكمل الله له عدة ما كان أعطاه من العمر قبل أن يهب لداود ما وهب له من ذلك، ولعل ما كان جعل من ذلك آدم عليه السلام لداود عليه السلام لم يُحسب من عمر آدم في التوراة، فقيل: كان عمره تسعمائة وثلاثين سنة.
فإن قال قائل: فإن الأمر وإن كان كذلك، فإن آدم إنما كان جعل لأبنه داود من عمره أربعين سنة، فكان ينبغي أن يكون في التوراة تسعمائة سنة وستون، ليوافق ذلك ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: قد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أن الذي كان جعل آدم لأبنه داود من عمره ستون سنة، وذلك في رواية لأبي هريرة عنه، وقد ذكرناها قبل، فإن يكن ذلك كذلك، فالذي زعموا أنه في التوراة من الخبر عن مدة حياة آدم عليه السلام موافق لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما كتب آدم الوصية مات صلوات الله عليه، واجتمعت عليه الملائكة من أجل أنه كان صفى الرحمن، فقبرته الملائكة، وشيث وإخوته في مشارق الفردوس، عند قرية هي أول قرية كانت في الأرض، وكسفت عليه الشمس والقمر سبعة أيام ولياليهن، فلما اجتمعت عليه الملائكة وجمع الوصية، جعلها في معراج، ومعها القرن الذي أخرج أبونا آدم من الفردوس، لكيلا يغفل عن ذكر الله عز وجل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، قال: سمعته يقول: بلغني أن آدم عليه السلام حين مات بعث الله إليه بكفنه وحنوطه من الجنة، ثم وليت الملائكة قبره ودفنه حتى غيبوه.
حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا روح بن أسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما توفي آدم غسلته الملائكة بالماء وتراً، وألحدوا له، وقالت هذه سنة آدم في ولده " .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن ذكوان، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي ابن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أباكم آدم كان طوالا كالنخلة السحوق، ستين ذراعاً، كثير الشعر، مواري العورة، وأنه لما أصاب الخطيئة بدت له سوءته فخرج هارباً من الجنة فتلقاه شجرة، فأخذت بناصيته، وناداه ربه: أفراراً مني يا آدم! قال: لا والله يا رب ولكن حياءً منك مما قد جنيت، فأهبطه الله إلى الأرض، فلما حضرته الوفاة بعث الله إليه بحنوطه وكفنه من الجنة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم إليه، فقال: خلي عني وعن رسل ربي، فإني ما لقيت ما لقيتُ إلا منك، ولا أصابني ما أصابني إلا فيك. فلما قبض غسلوه بالسدر والماء وتراً، وكفنوه في وتر من الثياب، ثم لحدوا له فدفنوه، ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده.
حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: قال أبي: - وزعم قتادة عن صاحب له حدث عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان آدم رجلاً طوالا كأنه نخلة سحوق " .
حدثنا الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام بن محمد قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما مات آدم عليه السلام قال شيث لجبرئيل صلى الله عليهما: صلّ على آدم، قال: تقدم أنت فصل على أبيك، وكبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس فهي الصلاة، وأما خمس وعشرون فتفضيلاً لآدم صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف في موضع قبر آدم عليه السلام، فقال ابن إسحاق ما قد مضى ذكره، وأما غيره فإنه قال: دفن بمكة في غار أبي قبيس، وهو غار يقال له غار الكنز.
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام قال: أخبرنا أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما خرج نوح من السفينة دفن آدم عليه السلام ببيت المقدس وكانت وفاته يوم الجمعة، وقد مضى ذكرنا الرواية بذلك، فكرهنا إعادته.
وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مات آدم عليه السلام على بوذ - قال أبو جعفر يعني الجبل الذي أهبط عليه - وذكر أن حواء عاشت بعده سنة ثم ماتت رحمهما الله، فدفنت مع زوجها في الغار الذي ذكرت، وأنهما لم يزالا مدفونين في ذلك المكان، حتى كان الطوفان، فاستخرجهما نوح، وجعلهما في تابوت، ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردهما إلى مكانهما الذي كانا فيه قبل الطوفان، وكانت حواء قد عزلت - فيما ذكر - ونسجت وعجنت وخبزت، وعملت أعمال النساء كلها.
ونرجع الآن إلى قصة قابيل وخبره وأخبار ولده وأخبار شيث وخبر ولده - إذا كنا قد أتينا من ذكر آدم وعدوه إبليس وذكر أخبارهما، وما صنع الله بإبليس إذ تجبر وتعظم وطغى على ربه عز وجل فأشر وبطر نعمته التي أنعمها الله عليه، وتمادى في جهله وغيه، وسأل ربه النظرة، فأنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وما صنع الله بآدم صلوات الله عليه إذ خطئ ونسي عهد الله من تعجيل عقوبته له في خطيئته، ثم تغمده إياه بفضله ورحمته، إذ تاب إليه من زلته فتاب عليه وهداه، وأنقذه من الضلالة والردى - حتى تأتي على ذكر من سلك سبيل كل واحد منهما، ثم تابع آدم عليه السلام على منهاجه وشيعة إبليس والمقتدين به في ضلالته، إن شاء الله، وما كان من صنع الله تبارك وتعالى بكل فريق منهم.
فأما شيث عليه السلام فقد ذكرنا بعض أمره، وأنه كان وصي أبيه آدم عليه السلام في مخلفيه بعد مضيه لسبيله، وما أنزل الله عليه من الصحف.
وقيل: إنه لم يزل مقيماً بمكة بحج ويعتمر إلى أن مات، وأنه كان جمع ما أنزل الله عز وجل عليه من الصحف إلى صحف أبيه آدم عليه السلام، وعمل بما فيها، وأنه بنى الكعبة بالحجارة والطين.
وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم في مكان البيت إلى أيام الطوفان، وإنما رفعها الله عز وجل حين أرسل الطوفان. وقيل: إن شيثاً لما مرض أوصى ابنه أنوش ومات، فدفن مع أبويه في غار أبي قبيس، وكان مولده لمضي مائتي سنة وخمس وثلاثين سنة، من عمر آدم عليه السلام. وكانت وفاته وقد أتت له تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة وولد لشيث أنوش، بعد أن مضى من عمره ستمائة سنة وخمس سنين، فيما يزعم أهل التوراة.
وأما ابن إسحاق، فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عنه: نكح شيث بن آدم أخته حزورة ابنة آدم، فولدت له يانش بن شيث، ونعمة ابنة شيث، وشيث يومئذ ابن مائة سنة وخمس سنين، فعاش بعد ما ولد له يانش ثمانمائة سنة وسبع سنين.
وقام أنوش بعد مضي أبيه شيث لسبيله بسياسة الملك، وتدبير من تحت يديه من رعيته مقام أبيه شيث، ولم يزل - فيما ذكر - على منهاج أبيه، لا يوقف منه على تغيير ولا تبديل. وكان جميعُ عمر أنوش - فيما ذكر أهل التوراة - تسعمائة سنة وخمس سنين.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد شيث أنوش ونفراً كثيراً، وإليه أوصى شيث، ثم ولد لأنوش بن شيث بن آدم ابنه قينان من أخته نعمة ابنة شيث بعد مضي تسعين سنة من عمر أنوش، ومن عمر آدم ثلثمائة سنة وخمس وعشرين سنة.
وأما ابن إسحاق فإنه قال فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نكح يانش بن شيث أخته نعمة ابنة شيث، فولدت له قينان، ويانش يومئذ ابن تسعين سنة، فعاش يانش بعدما ولد له قينان ثمانمائة سنة وخمس عشرة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يانش تسعمائة سنة وخمس سنين. ثم نكح قينان بن يانش - وهو ابن سبعين سنة - دينة ابنه براكيل بن محويل بن خنوح بن قين بن آدم، فولدت له مهلائيل بن قينان، فعاش قينان بعد ما ولد له مهلائيل ثمانمائة سنة وأربعين سنة، فكان كل ما عاش قينان تسعمائة سنة وعشر سنين.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد أنوش قينان، ونفراً كثيراً، وإليه الوصية، فولد قينان مهلائيل ونفراً معه، وإليه الوصية، فولد مهلائيل نرد - وهو اليارد - ونفراً معه، وإليه الوصية، فولد يرد أخنوخ وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم ونفراً معه، فولد أخنوخ متوشلخ ونفراً معه وإليه الوصية، فولد متوشلخ لمك ونفراً معه وإليه الوصية.
وأما التوراة فما ذكر أهل الكتاب أنه فيها أن مولد مهلائيل بعد أن مضت من عمر آدم ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة، ومن عمر قينان سبعون سنة.
ونكح مهلائيل بن قينان - وهو ابن خمس وستين سنة وفيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - خالته سمعن ابنة براكيل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له يرد بن مهلائيل، فعاش مهلائيل بعد ما ولد له يرد ثمانمائة سنة وثلاثين سنة، فولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش مهلائيل ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة، ثم مات.
وأما التوراة فإنه ذكر أن فيها أن يرد ولد لمهلائيل بعد ما مضي من عمر آ دم أربعمائة سنة وستون سنة، وأنه كان على منهاج أبيه قينان، غير أن الأحداث بدت في زمانه.
ذكر الأحداث التي كانت في أيام بني آدم
من لدن ملك شيث بن آدم إلى أيام يرد
ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس، فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها.حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: إن قيناً نكح أخته أشوث بن آدم، فولدت له رجلاً وامرأة: خنوخ بن قين، وعذب بنت قين، فنكح خنوخ بن قين أخته عذب بنت قين، فولدت له ثلاثة نفر وامرأة: عيرد بن خنوخ ومحويل بن خنوخ وأنوشيل بن خنوخ، وموليث بنت خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ موليث ابنة خنوخ، فولدت لأنوشيل رجلاً اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين: اسم إحداهما عدي واسم الآخر صلى، فولدت له عدي تولين بن لامك، فكان أول من سكن القباب، واقتنى المال، وتوبيش، وكان أول من ضرب بالونج والنج، وولدت رجلاً اسمه توبلقين، فكان أول من عمل النحاس والحديد، وكان أولادهم جبابرة وفراعنة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، كان الرجل فيما يزعمون يكون ثلاثين ذراعاً. قال: ثم انقرض ولد قين، ولم يتركوا عقباً إلا قليلاً، وذرية آدم كلهم جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم، إلا ما كان من شيث بن آدم فمنه كان النسل، وأنسابُ الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، فهو أبو البشر، إلا ما كان من أبيه وإخوته ممن لم يترك عقباً.
قال: ويقول أهل التوراة: بل نكح قين أشوث، فولدت له خنوخ، فولد لخنوخ عيرد، فولد عيرد محويل، فولد محويل أنوشيل، فولد أنوشيل، لامك، فنكح لامك عدي وصلى، فولدتا له من سميتُ، والله أعلم.
فلم يذكر ابن إسحاق من أمر قابيل وعقبه إلا ما حكيتُ.
وأما غيره من أهل العلم بالتوراة فإنه ذكر أن الذي اتخذ الملاهي من ولد قابين رجل يقال له توبال، اتخذ في زمان مهلائيل بن قينان آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان والطنابير والمعازف، فانهمك ولد قاين في اللهو، وتناهى خبرهم إلى من بالجبل من نسل شيث، فهو منهم مائة رجل بالنزول إليهم، وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم، وبلغ ذلك يارد، فوعظهم ونهاهم، فأبوا إلا تمادياً، ونزلوا إلى ولد قاين، فأعجبوا بما رأوا منهم، فلما أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم، فلما أبطئوا بمواضعهم، ظن من كان في نفسه زيغ ممن كان بالجبل أنهم أقاموا اعتباطاً، فتساللوا ينزلون عن الجبل، ورأوا اللهو فأعجبهم، ووافقوا نساء من ولد قايين متسرعات إليهم، وصرن معهم، وانهمكوا في الطغيان، وفشت الفاحشة وشرب الخمر.
قال أبو جعفر: وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أن قول قد روي عن جماعة من سلف علماء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث ذلك في ملكه، سوى ذكرهم أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح صلى الله عليهما وسلم.
ذكر من روي ذلك عنه:
حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا داود - يعني ابن أبي الفرات - قال: حدثنا علباء بن أحمر، ابن عكرمة عن ابن عباس، أنه تلا هذه الآية: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " .
قال: كانت فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم، كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام فآجر نفسه منه، وكان يخدمه، واتخذ إبليس لعنه الله شيئاً مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج النساء للرجال، قال: وينزل الرجال لهن. وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن، فنزلوا عليهن، فظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله عز وجل: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن أبي غنيمة، عن أبيه، عن الحكم: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " ، قال: كان بين آدم ونوح ثمانمائة سنة،وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء،ورجالهم حسان، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها، فأنزلت هذه الآية: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً ببوذ.
ورأى آدم فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد، فأوصى ألا يناكح بنو شيث بني قابيل، فجعل بنو شيث آدم في مغارة، وجعلوا عليه حافظاً، لا يقربه أحد من بني قابيل، وكان الذين يأتونه ويستغفر لهم من بني شيث، فقال مائة من بين شيث صباح: لو نظرنا إلى ما فعل بنو عمنا! يعنون بني قابيل، فهبطت المائة إلى نساء صباح من بني قابيل، فاحتبس النساء والرجال، ثم مكثوا ما شاء الله، ثم قال مائة آخرون: لو نظرنا ما فعل إخوتنا! فهبطوا من الجبل إليهم، فاحتبسهم النساء، ثم هبط بنو شيث كلهم، فجاءت المعصية، وتناكحوا واختلطوا، وكثر بنو قابيل ملئوا الأرض، وهم الذين غرقوا أيام نوح.
وأنا نسابو الفرس فقد ذكرت ما قالوا في مهلائيل بن قينان، وأنه هو أوشهنج الذي ملك الأقاليم السبعة، وبينت قول من خالفهم في ذلك من نسابي العرب.
فإن كان الأمر فيه كالذي قاله نسابو الفرس، فإني حدثت عن هشام ابن محمد بن السائب، أنه هو أول من قطع الشجر، وبنى البناء، وأول من استخرج المعادن وفطن الناس لها، وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد، وبين مدينتين كانتا أول ما بني على ظهر الأرض من المدائن، وهما مدينة بابل التي بسواد الكوفة، ومدينة السوس. وكان ملكه أربعين سنة.
وأما غيره فإنه قال: هو أول من استنبط الحديد في ملكه، فاتخذ منه الأدوات للصناعات، وقدر المياه في مواضع المنافع، وحض الناس على الحراثة والزراعة والحصاد واعتمال الأعمال، وأمر بقتل السباع الضارية، واتخاذ الملابس من جلودهم والمفارش، وبذبح البقر والغنم والوحش والأكل من لحومها، وأن ملكه كان أربعين سنة، وأنه بنى مدينة الري. قالوا وهي أول مدينة بنيت بعد مدينة جيومرت التي كان يسكنها بدنباوند من طبرستان.
وقالت الفرس: إن أوشهنج هذا ولد ملكاً، وكان فاضلاً محموداً في سيرته وسياسة رعيته، وذكروا أنه أول من وضع الأحكام والحدود، وكان ملقياً بذلك، يدعي فيشداذ ومعناه بالفارسية أولُ من حكم بالعدل، وذلك أن فاش معنا أول، وأن داذ عدل وقضاء، وذكروا أنه نزل الهند، وتنقل في البلاد، فلما استقام أمره واستوثق له الملك عن جده جيومرت، وإنه عذاب ونقمة على مردة الإنس والشياطين. وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده، ومنعهم الاختلاط بالناس، وكتب عليهم كتاباً في طرس أبيض أخذ عليهم فيه المواثيق ألا يعرضوا لأحد من الإنس، وتوعدهم على ذلك، وقتل مردتهم وجماعة من الغيلان، فهربوا من خوفه إلى المفاوز والجبال والأودية، وأنه ملك الأقاليم كلها، وأنه كان بين موت جيومرت إلى مولد أوشهنج وملكه مائتا سنة وثلاث وعشرون سنة.
وذكروا أن إبليس وجنوده فرحوا بموت أوشهنج، وذلك أنهم دخلوا بموته مساكن بني آدم، ونزلوا إليهم من الجبال والأودية.
ونرجع الآن إلى ذكر يرد - وبعضهم يقول هو يارد - وفولد يرد لمهلائيل من خالته سمعن ابنة باركيل بن محويل بن خنوخ بن قين، بعد ما مضي من عمر آدم أربعمائة وستون سنة، فكان وصى أبيه وخليفته فيما كان والد مهلائيل أوصى إلى مهلائيل، واستخلفه عليه بعد وفاته، وكانت ولادة أمه إياه بعد ما مضى من عمر أبيه مهلائيل - فيما ذكروا - خمس وستون سنة، فقام من بعد مهلك أبيه من وصية أجداده وآبائه بما كانوا يقومون به أيام حياتهم.
ثم نكج يرد - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، وهو ابن مائة سنة واثنتين وستين سنة - بركنا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم. فولدت له أخنوخ بن يرد - وأخنوخ إدريس النبي، وكان أول بني آدم أعطي النبوة - فيما زعم ابن إسحاق - وخط بالقلم، فعاش يرد بعد ما ولد له أخنوخ ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش يرد تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة ثم مات.
وقال غيره من أهل التوراة: ولد ليرد أخنوخ - وهو إدريس - فنبأه الله عز وجل، وقد مضى من عمر آدم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، وأنزل عليه ثلاثون صحيفة.وهو أول من خط بعد آدم وجاهد في سبيل الله، وقطع الثياب وخاطها، وأول من سبى من ولد قابيل، فاسترق منهم، وكان وصي والده يرد فيما كان آباؤه أوصوا به إليه، وفيما أوصى به بعضهم بعضاً، وذلك كله من فعله في حياة آدم.
قال: وتوفي آدم عليه السلام بعد أن مضى من عمر أخنوخ ثلاثمائة سنة وثماني سنين، تتمةُ تسعمائة وثلاثين سنة التي ذكرنا أنها عمر آدم. قال: ودعا أخنوخ قومه ووعظهم، وأمرهم بطاعة الله عز وجل ومعصية الشيطان، وألا يلابسوا ولد قابيل، فلم يقبلوا منه، وكانت العصابة بعد العصابة من ولد شيث تنزل إلى ولد قايين.
قال: وفي التوراة: إن الله تبارك وتعالى رفع إدريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة مضت من عمره، وبعد خمسمائة سنة وسبع وعشرين سنة مضت من عمر أبيه، فعاش أبوه بعد ارتفاعه أربعمائة وخمساً وثلاثين سنة تمام تسعمائة واثنتين وستين سنة، وكان عمر يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وولد أخنوخ وقد مضت من عمر يارد مائة واثنتان وستون سنة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: في زمان يرد عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام.
وقد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي، قال: حدثني الماضي بن محمد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر " ، أربعة - يعني من الرسل - سريانيون: أدم، وشيث، ونوح، وأخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل الله تعالى على أخنوخ ثلاثين صحيفة " .
وقد زعم بعضهم أن الله بعث إدريس إلى جميع أهل الأرض في زمانه، وجمع له علم الماضين، وأن الله عز وجل زاده مع ذلك ثلاثين صحيفة، وقال: فذلك قول الله عز وجل: " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " .
وقال: يعني بالصحف الأولى الصحف التي أنزلت على ابن آدم هبة الله وإدريس عليهما السلام.
وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وقد كان وقع إليه كلام من كلام آدم صلوات الله عليه، فاتخذه، في ذلك الزمان سحراً، وكان بيوراسب يعمل به، وكان إذا أراد شيئاً من جميع مملكته أو أعجبته دابة أو امرأة نفخ بقصبة كانت له من ذهب، وكان يجيء إليه كل شيء يريده، فمن ثم تنفخ اليهود في الشبورات.
وأما الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد موت أو شهنج طهمورث بن ويونجهان ابن خبانداذ بن خيايذار بن أوشهنج.
وقد اختلف في نسب طهمورث إلى أوشهنج، فنسبه بعضهم النسبة التي ذكرت. وقال بعض نسابة الفرس: هو طهمورث بن أيونكهان بن أنكهد ابن أسكهد بن أوشهنج.
وقال هشام بن محمد الكلبي - فيما حدثتُ عنه: ذكر أهل العلم أن أول ملوك بابل طهمورث، قال: وبلغنا - والله أعلم - أن الله أعطاه من القوة ما خضع له إبليس وشياطينه، وأنه كان مطيعاً لله، وكان ملكه أربعين سنة.
وأما الفرس فإنها تزعم أن طهمورث ملك الأقاليم كلها، وعقد على رأسه تاجاً، وقال يوم ملك: نحن دافعون بعون الله عن خليقته المردة الفسدة.
وكان محموداً في ملكه، حدباً على رعيته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها، وتنقل في البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه، فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه ومردة أصحابه حتى تطايروا وتفرقوا عليه، وأنه أول من اتخذ الصوف والشعر للباس والفرش، وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وحراستها من السباع والجوارح للصيد، وكتب بالفارسية، وأن بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه، ودعا إلى ملة الصابئين.
ثم رجعنا إلى ذكر أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام.
ثم نكح - فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أخنوخ بن يرد هدانة - ويقال: أدانة - ابنة باويل ابن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن أخنوخ، فعاش بعد ما ولد له متوشلخ ثلاثمائة سنة. وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش أخنوخ ثلاثمائة سنة وخمساً وستين سنة ثم مات.
وأما غيره من أهل التوراة فإنه قال فيما ذكر عن التوراة: ولد لأخنوخ بعد ستمائة سنة وسبع سنين وثمانين سنة خلت من عمر آدم متوشلخ، فاستخلفه أخنوخ على أمر الله، وأوصاه ببيته قبل أن يرفع، وأعلمهم أن الله عز وجل سيعذب ولد قابين ومن خالطهم ومال إليهم ونهاهم عن مخالطتهم، وذكر أنه كان أول من ركب الخيل، لأنه اقتفى رسم أبيه في الجهاد، وسلك في أيامه في العلم بطاعة الله طريق آبائه. وكان عمر أخنوخ إلى أن رفع ثلاثمائة سنة وخمساً وستين سنة. وولد له متوشلخ بعد ما مضي من عمره خمس وستون سنة.
ثم نكح - فيما حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق - متوشلخ بن أخنوخ عربا ابنة عزرائيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة. فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعدما ولد له لمك سبعمائة سنة، فولد له بنون وبنات، وكان كل ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وتسع عشرة سنة. ثم مات ونكح لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بتنوس ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم عليه السلام.
وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة فولدت له نوحاً النبي صلى الله عليه وسلم فعاش لمك بعدما ولد نوح خمسمائة سنة وخمساً وتسعين سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كل ما عاش سبعمائة سنة وثمانين سنة، ثم مات، ونكح نوح ابن لمك عمذرة ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قيم بن آدم، وهو ابن خمسمائة سنة، فولدت له بنيه: سام، وحام، ويافث، بني نوح.
وقال أهل التوراة: ولد لمتوشلخ بعد ثمانمائة سنة وأربع وسبعين سنة من عمر آدم لمك، فأقام على ما كان عليه أباؤه: من طاعة الله وحفظ عهوده. قالوا: فلما حضرت متوشلخ الوفاة استخلف لمك على أمره، وأوصاه بمثل ما كان آباؤه يوصون به. قالوا: وكان لمك يعظ قومه، وينهاهم عن النزول إلى ولد قايين فلا يتعظون، حتى نزل جميع من كان في الجبل إلى ولد قايين.
وقيل: إنه كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك، يقال له صابئ - وقيل: إن الصابئين به سموا صابئين - وكان عمر متوشلخ تسعمائة وستين سنة، وكان مولد لمك بعد أن مضى من عمر متوشلخ مائة وسبع وثمانون سنة. ثم ولد لمك نوحاً بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، وذلك لألف سنة وست وخمسين سنة مضت من يوم أهبط الله عز وجل آدم إلى مولد نوح عليه السلام، فلما أدرك نوح قال له لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الموضع غيرنا، فلا تستوحش ولا تتبع الأمة الخاطئة، فكان نوح يدعو إلى ربه، ويعظ قومه فيستخفون به، فأوحى الله عز وجل إليه أنه قد أمهلهم، فانظرهم ليراجعوا ويتوبوا مدة، فانقضت المدة قبل أن يتوبوا وينيبوا.
وقال أخرون غير من ذكرت قوله: كان نوح في عهد بيوراسب،وكان قومته يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى الله عز وجل تسعمائة وستة وخمسين سنة، كلما مضى قرن تبعهم قرن، على ملةٍ واحدة من الكفر، حتى أنزل الله عليهم العذاب فأفناهم.
حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد متوشلخ لمك ونفراً معه، وإليه الوصية، فولد لمك نوحاً، وكان للمك يوم ولد نوح اثنتان وثمانون سنة، ولم يكن أحد في ذلك الزمان ينهى عن منكر، فبعث الله إليهم نوحاً، وهو ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، ثم دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة، ثم أمره بصنعة السفينة فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ثم مكث بعد السفينة ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وأما علماء الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد طهمورث جم الشيذ - والشيذ معنا عندهم الشعاع، لقبوه بذلك فيما زعموا لجماله - وهو جم بن ويونجهان، وهو أخو طمهورث. وقيل إنه ملك الأقاليم السبعة كلها، وسخر له ما فيها من الجن والإنس، وعقد على رأسه التاج. وقال حين قعد في ملكه: إن الله تبارك وتعالى قد أكمل بهاءنا وأحسن تأييدنا، وسنوسع رعيتنا خيراً. وإنه ابتدع صنعة السيوف والسلاح، ودل على صنعة الإبريسم والقز وغيره مما يغزل، وأمر بنسج الثياب وصبغها، ونحت السروج والأكف وتذليل الدواب بها.
وذكر بعضهم أنه توارى بعد ما مضى من ملكه ستمائة سنة وست عشرة سنة وستة أشهر، فخلت البلادُ من سنة، وأن أمر لمضي سنة من ملكه إلى سنة خمس منه بصنعة السيوف والدروع والبيض وسائر صنوف الأسلحة وآلة الصناع من الحديد. ومن سنة خمسين من ملكه إلى سنة مائة بعزل الإبريسم والقز والقطن والكتان وكل ما يستطاع غزله وحياكة ذلك وصبغته ألواناً وتقطيعه أنواعاً ولبسه. ومن سنة مائة إلى سنة خمسين ومائة صنف الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة، وطبقة فقهاء، وطبقة كتاباً وصناعاً وحراثين، واتخذ طبقة منهم خدماً، وأمر كل طبقة من تلك الطبقات بلزوم العلم الذي ألزمها إياه. ومن سنة مائة وخمسين إلى سنة خمسين ومائتين حارب الشياطين والجن وأثخنهم وأذلهم وسخروا له وانقادوا لأمره. ومن سنة خمسين ومائتين إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة وكل الشياطين بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الرخام والجص والكلس،والبناء بذلك، وبالطين البنيان والحمامات، وصنعة النورة، والنقل من البحار والجبال والمعادن والفلوات كل ما ينتفع به الناس، والذهب والفضة وسائر ما يذاب من الجواهر، وأنواع الطيب والأدوية فنفذوا في كل ذلك لأمره. ثم أمر فصنعت له عجلة من زجاج، فصفد فيها الشياطين وركبها، وأقبل عليها في الهواء من بلده، من دنبساوند إلى بابل في يوم واحد، وذلك يوم هرمزأز فروردين ماه، فاتخذ الناس للأعجوبة التي رأوا من إجرائه ما أجرى على تلك الحال نوروز، وأمرهم باتخاذ ذلك اليوم وخمسة أيام بعده عيداً، والتنعم والتلذذ فيها، وكتب إلى الناس اليوم السادس، وهو خرداذوروز يخبرهم أنه قد سار فيهم بسيرة ارتضاها الله، فكان من جزائه إياه عليهم أن جنبهم الحر والبرد والأسقام والهرم الحسد، فمكث الناس ثلاثمائة سنة بعد الثلاثمائة والست عشرة سنة التي خلت من ملكه، لا يصيبهم شيء مما ذكر أن الله جل وعز وجنبهم إياه.
ثم إن جماً بطر بعد ذلك نعمة الله عنده، وجمع الإنس والجن، فأخبرهم أنه وليهم ومالكهم والدافع بقوته عنهم الأسقام والهرم والموت، وجحد إحسان الله عز وجل إليه، وتمادى في غيه فلم يحر أحد ممن حضره له جواباً، وفقد مكانه بهاءه وعزه، وتخلت عنه الملائكة الذين كان الله أمرهم بسياسة أمره، فأحس بذلك بيوراسب الذي يسمى الضحاك فابتدر إلىجم لنتهسه فهرب منه، ثم ظفر به بيوراسب بعد ذلك، فامتلخ أمعاءه واشترطها ونشره بمنشاره وقال بعض علماء النفس: إن جماً لم يزل محمود السيرة إلى أن بقي من ملكه مائة سنة فخلط حينئذ، وادعى الربوبية، فلما فعل ذلك اضطرب عليه أمره، ووثب عليه أخوه اسفتور وطلبه ليقتله، فتوارى عنه، وكان في تواريه ملكاً ينتقل من موضع إلى موضع، ثم خرج عليه بيوراسب فغلبه على ملكه، ونشره بالمنشار.
وزعم بعضهم أن ملك جم كان سبعمائة سنة وست عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرين يوماً.
وقد ذكرت عن وهب بن منبه، عن ملك من ملوك الماضين قصة شبيهة بقصة جم شاذ الملك، ولولا أن تاريخه خلاف تاريخ جم لقلت إنها قصة جم.
وذلك ما حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، أنه قال: إن رجلاً ملك وهو فتى شاب، فقال: إني لأجد للملك لذة طعماً، فلا أدري: أكذلك كل الناس أم أنا وجدته من بينهم؟ فقيل له بل الملك كذلك، فقال: ما الذي يقيمه لي؟ فقيل له: يقيمه لك أن تطيع الله فلا تعصيه. فدعا ناساً من خيار من كان في ملكه فقال لهم: كونوا بحضرتي في مجلسي، فما رأيتم أنه طاعة الله عز وجل فأمرني أن أعمل به، وما رأيتم أنه معصية لله فازجروني عنه أنزجر، ففعل ذلك هو وهم، واستقام له ملكه بذلك أربعمائة سنة مطيعاً لله عز وجل. ثم إن إبليس انتبه لذلك فقال: تركت رجلاً يعبد الله ملكاً أربعمائة سنة! فجاء فدخل عليه فتمثل له برجل، ففزع منه الملك، فقال: من أنت؟ قال إبليس: لا ترع، ولكن اخبرني من أنت؟ قال الملك: أنا رجل من بين آدم، فقال له إبليس: لو كنت من بني آدم لقدمت كما يموت بنو آدم ألم تر كم مات من الناس وذهب من القرون! لو كانت منهم لقد مت كما ماتوا، ولكنك إله. فادع الناس إلى عبادتك. فدخل ذلك في قلبه. ثم صعد المنبر، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إن قد كنت أخفيت عنكم أمراً بان لي إظهاره، لكم تعلمون أني ملكتكم منذ أربعمائة سنة، ولو كنت من بني آدم لقد مت كما ماتوا، ولكني إله فاعبدوني. فأرعش مكانه، وأوحى الله إلى بعض من كان معه فقال: أخبره أني قد استقمت له ما استقام لي، فإذا تحول عن طاعتي إلى معصيتي فلم يستقم لي، فبعزتي حلفتُ لأسلطن عليه بخت ناصر، فليضربن عنقه، وليأخذن ما في خزائنه، وكان في ذلك الزمان لا يسخط الله على أحد إلا سلط عليه بخت ناصر، فلم يتحول الملك عن قوله، حتى سلط الله عليه بخت ناصر، فضرب عنقه، وأوقر من خزائنه سبعين سفينة ذهباً.
قال أبو جعفر: ولكن بين بخث ناصر وجم دهر طويل،إلا أن يكون الضحاك كان يدعي في ذلك الزمان بخت ناصر.
وأما هشام بن الكلبي فإني حدثت عنه أنه قال: ملك بعد طهمورث جم، وكان أصبح أهل زمانه وجهاً، وأعظمهم جسماً، قال: فذكروا أنه غير ستمائة سنة تسع عشرة سنة مطيعاً لله مستعلياً أمره مستوثقه له البلاد. ثم إنه طغى وبغى، فسلط الله عليه الضحاك، فسار إليه في مائتي ألف، فهرب جم منه مائة سنة، ثم إن الضحاك ظفر به فنشره بمنشار. قال: فكان جميع ملك جم، منذ ملك إلى أن قتل سبعمائة وستع عشرة سنة.
وقد روي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على ملة الحق، وأن الكفر بالله إنما حدث في القرن الذين بعث إليهم نوح عليه السلام، وقالوا: إن أول نبي أرسله الله إلى قوم بالإنذار والدعاء إلى توحيده نوح عليه السلام.
ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: قوله عز وجل: " كان الناس أمة واحدة " ، قال: كانوا على الهدى جميعاً فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أول نبي بعث نوح عليه السلام.
ذكر الأحداث التي كانت في عهد نوح
عليه السلام
قد ذكرنا اختلاف المختلفين في ديانة القوم الذي أرسل إليهم نوح عليه السلام، وأن منهم من يقول: كانوا قد أجمعوا على العمل بما يكرهه الله، من ركوب الفواحش وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله عز وجل، وأن منهم من يقول: كانوا أهل طاعة بيوراسب، وكان بيوراسب أول من ظهر القول بقول الصابئين، وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح عليه السلام، وسأذكر إن شاء الله خبر بيوراسب فيما بعد.فأما كتاب الله فإنه ينبئ عنه أنهم كانوا أهل أوثان، وذلك أن الله عز وجل يقول مخبراً عن نوح: " قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً. ومكروا مكراً كباراً، وقالوا لا تدرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً، ولا يغوثُ ويعوق نسراً، وقد أضلوا كثيراً " . فبعث الله إليهم نوحاً مخوفهم بأسه، ومحذرهم سطوته، وداعياً لهم إلى التوبة والمراجعة إلى الحق، والعمل بما أمر الله به رسله وأنزله في صحف آدم وشيث وأخنوخ. ونوح يوم ابتعثه الله نبياً إليهم - فيما ذكر - ابن خمسين سنة.
وقيل أيضاً ما حدثنا به نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا عون بن أبي شداد، قال: إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحاً إلى قومه وهو إبن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلى خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: بعث الله نوحاً إليهم وهو ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، ثم دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة، وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة، ثم مكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة.
قال أبو جعفر: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً كما قال الله عز وجل يدعوهم إلى الله سراً وجهراً، يمضي قرن بعد قرن، فلا يستجيبون له، حتى مضى قرون ثلاثة على ذلك من حاله وحالهم، فلما أراد الله عز وجل إهلاكهم دعا عليهم نوح عليه السلام فقال: " رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً " ، فأمر الله تعالى ذكره أن يغرس شجرة فغرسها، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم أمره بقطعها من بعد ما غرسها بأربعين سنة، فيتخذ منها سفينة،كما قال الله له: " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " ، فقطعها وجعل يعملها.
وحدثنا صالح بن مسمار المروزي والمثنى بن إبراهيم، قالا: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا موسى بن يعقوب، قال: حدثني فائد مولى عبيد الله ابن علي بن أبي رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال " لو رحم الله أحداً من قوم نوح لرحم أم الصبي " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلى خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله عز وجل، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها، ثم جعل يعمل سفينة فيمرون فيسألونه فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر فكيف تجري! فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه - وكانت تحبه حباً شديداً - فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغث ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيدها ، حتى ذهب به الماء، فلو رحم الله منهم أحداً الرحمن أم الصبي " .
حدثني ابن أبي منصور، قال: حدثنا علي بن الهيثم، عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك، قال: قال سلمان الفارسي: عمل نوح السفينة أربعمائة سنة، وأنتب الساج أربعين سنة، حتى كان طوله ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب.
فعمل نوح بوحي الله إليه، وتعليمه إياه، عملها فكانت إن شاء الله كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون دراعاً، وبابها في عرضها.
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال الحواريون العيسى بن مريم: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها! فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك التراب بكفه، قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا قبر حام بن نوح، قال: فضرب الكثيب بعصاه وقال: ثم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، وقد شاب، فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكت؟ قال: لا،ولكني مت وأنا شاب، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثم شبتُ. قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفار يخرز السفينة يقرضه، أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت، قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت. قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت. قال: فطوقها الخضرة التي في عنقها، دعا لها أن تكون من أنس وأمان، فمن ثمن تألف البيوت. قال: فقالت الحواريون: يا رسول الله، ألا تنظلق به إلى أهلنا، فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لارزق له؟ قال: فقال له: عد بإذن الله، فعاد تراباً.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: اخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نجر نوح السفينة بجبل بوذ، من ثم تبدى الطوفان، قال: وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع بذراع جد أبي نوح، وعرضها خمسين ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، وخرج منها من الماء ستة أذرع، وكانت مطبقة، وجعل لها ثلاثة أبواب، بعضها أسفل من بعض.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن عبيد بن عمير الليثي، أنه كان يحدث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به - يعني قوم نوح بنوح - فيخنقونه حتى يغشي عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
قال ابن إسحاق: حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم الشأن، واشتد عليهم منه البلاء، وانتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن إلا كانت أخبث من الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا، هكذا مجنوناً! لا يقبلون منه شيئاً، حتى شكا ذلك منأمرهم نوح إلى الله عز وجل، فقال كما قص الله عز وجل علينا في كتابه: " رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلى فراراً " إلى أخر القصة، حتى قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " ، إلى آخر القصة. فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله عز وجل واستنصره عليهم أوحى الله إليه أن " اصنع الفلك بأعييننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " . فأقبل نوح على عمل الفلك، ولها عن قومه، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرون به، وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه، ويستهزئون به فيقول: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم " . قال: ويقولون - فيما بلغني - : يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة! قال: وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم.
قال: ويزعم أهل التوراة أن الله عز وجل أمره أن يصنع الفلك خشب الساج، وأن يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً، وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطاً وعلواً، وأن يجعل فيه كواً، ففعل نوح كما أمره الله عز وجل، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه: " إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " . وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه، فقال: إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها في كل زوجين اثنين واركب. فلما فار التنور حمل نوح في الفلك من أمره الله تعالى به - وكان قليلاً كما قال - وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكراً وأنثى. فحمل فيه بنية الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس من كان آمن به فكانوا عشرة نفر: نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره الله به من الدواب، وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافراً.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: سمعته يقول: كان أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذرة، وأخر ما حمل الحمار، فلما أدخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس لعنه الله بذنبه فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك! ادخل، فينهض فلا يستطيع، حتى قال نوح، ويحك! ادخل وإن كان الشيطان معك، قال كلمة زلت عن لسانه، فلما قالها نوح خلي الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك علي يا عدو الله! قال: ألم تقل: " ادخل وإن كان الشيطان معك! " قال: أخرج عني يا عدو الله، فقال: مالك بد من أن تحملني، فكان - فيما يزعمون - في ظهر الفلك، فلما اطمأن نوح في الفلك وأدخل فيه كل من آمن به، وكان ذلك في الشهر من السنة التي دخل فيها نوح بعد ستمائة سنة من عمره لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل وحمل معه من حمل، تحرك ينابيع الغوط الأكبر، وفتحت أبواب السماء، كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر " . فدخل نوح ومن معه الفلك وغطاه عليه وعلى من معه بطبقة، فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً وأربعون ليلة. ثم احتمل الماء كما يزعم أهل التوراة وكثر واشتد وارتفع، يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " وجعلناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر " .
والدسر: االمسامير، مسامير الحديد، فجعلت الفلك تجري به وبمن معه في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزل حين رأى نوح من صدق موعود ربه ما رأى، فقال: " يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين " ، وكان شقياً قد أضمر كفراً، " قال سأوي إلى جبل يعصمني من الماء " ، وكان عهد الجبال وهي حرز من الأمطار إذا كانت، فظن أن ذلك كما كان يكون، قال نوح: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين " .
وكثر الماء وطغى، وارتفع فوق الجبال - كما يزعم أهل التوراة - خمسة عشر ذراعاً، فباد ما على وجه الأرض من الخلق من كل شيء فيه الروح أو شجر، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك، وإلا عوج بن عنق - فيما يزعم أهل الكتاب - فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليال.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أرسل الله المطر أربعين يوماً وأربعين ليلة، فأقبلت الوحوش حين أصابها المصر والدواب والطير كلها إلى نوح، وسخرت له، فحمل منها كما أمره الله عز وجل: " من كل زوجين اثنين " ، وحمل معه جسد آدم، فجعله حاجزاً بين النساء والرجال، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء. وأخرج الماء نصفين، فذلك قول الله عز وجل " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " ، يقول: منصب، " وفجرنا الأرض عيوناً " ، يقول: شققنا الأرض، " فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر " فصار الماء نصفين: نصف من السماء ونصف من الأرض، وارتفع الماء على أطول جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، فسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعاً، ورفع البيت الذي بناه آدم عليه السلام، رفع من الغرق، - وهو البيت المعمور والحجر الأسود - على أبي قبيس، فلما دارت بالحرم ذهب في الأرض تسير بهم، حتى انتهت إلى الجودي - وهو جبل بالحضيض من أرض الموصل - فاستقرت بعد ستة أشهر لتمام السبع، فقيل بعد السبعة الأشهر: " بعداً للقوم الظالمين " ، فلما استقرت على الجودي " قيل يا أرض ابلعي ماءك " ، يقول: أنشفي ماءك الذي خرج منك، " ويا سماء أقلعي " ، يقول: احبسي ماءك، " وغيض الماء " نشفته الأرض، فصار ما نزل من السماء هذه البحور التي ترون في الأرض، فآخر ما بقي من الطوفان في الأرض ماء بحسمي بقي في الأرض أربعين سنة بعد الطوفان ثم ذهب.
وكان التنور الذي جعل الله تعالى ذكره آية ما بينه وبني نوح فوران الماء منه تنورا كان لحواء من حجارة، وصار إلى نوح.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن، قال: كان تنوراً من حجارة، كان لحواء حتى صار إلى نوح، قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك.
وقد اختلف في المكان الذي كان به التنور الذي جعل الله فوران مائة آية، ما بينه وبين نوح، فقال بعضهم: كان بالهند.
ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس: في " وفار التنور " . قال: فار بالهند.
وقال آخرون: كان ذلك بناحية الكوفة.
ذكر من قالك ذلك: حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد، قال: نبع الماء من التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته، قال: وكان ذلك في ناحية الكوفة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا القاسم: قال: حدثنا علي بن ثابت، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، أنه كان يحلف بالله، ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة.
واختلف في عدد من ركب الفلك من بنين آدم، فقال بعضهم: كانوا ثمانين نفساً.
ذكر من قال لك: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حثنا زيد بن الحباب، قال: حدثين حسين بن واقد الخراسياني، قال: حدثنا أبو نهيك، قال: سمعت ابن عباس يقول: كان في سفينة نوح ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريح: قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنساناً.
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: قال سفيان: كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين - يعني القليل الذين قال الله عز وجل: " وما آمن معه إلا قليل " .
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: حمل نوح في السفينة بنيه: سام، وحام، ويافث، وكنائنه، نساء بنيه هؤلاء، وثلاثة وسبعين من بين شيث، ممن آمن به، فكانوا ثمانين في السفينة.
وقال بعضهم: بل كانوا ثمانية أنفس.
ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه لم يتم في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، ونساؤهم، فجميعهم ثمانية.
حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة، قالا: حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنيمة، عن أبيه، عن الحكم: " وما آمن معه إلا قليلٌ " ، قال: نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنى حجاج، قال: قال ابن جريح: حدثتُ أن نوحاً حمل معه بنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم ثمانية بأزواجهم، وأسماءُ بنيه: يافث، وحام، وسام. فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح أن تغير نطفته، فجاء بالسودان.
وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس.
ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث، قال: حدثني عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش: " وما آمن معهُ إلا قليل " قال: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن، وثلاثة بنين له.
وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حمل بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر بنوح وبنيه وأزواجهم. وأرسل الله تبارك وتعالى الطوفان لمضي ستمائة سنة من عمر نوح - فيما ذكره أهل العلم من أهل الكتاب وغيرهم - ولتتمة ألفي سنة ومائتي سنة وست وخمسين من لدن أهبط آدم إلى الأرض.
وقيل: إن الله عز وجل أرسل الطوفان لثلاث عشرة خلت من آب، وإن نوحاً أقام في الفلك إلى أن غاض الماء واستوت الفلك على جبل الجودي بقردي، في اليوم السابع عشر من الشهر السادس. فملما خرج نوح منها اتخذ بناحية قردى من أرض الجزيرة موضعاً، وابتنى هناك قرية سماها ثمانين، لأنه كان بنى فيها بيتاً لكل إنسان ممن آمن معه وهم ثمانون فهي إلى اليوم تسمى سوق ثمانين.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي، عن صالح، عن ابن عباس، قال: هبط نوح عليه السلام إلى قرية، فبنى كل رجل منهم بيتاً، فسميت سوق ثمانين، فغرق بن قابيل كلهم، وما بين نوح إلى آدم من الآباء كانوا على الإسلام.
قال أبو جعفر: فصار هو وأهله فيه، فأوحى الله إليه أنه لا يعيدُ الطوفان إلى الأرض أبداً.
وقد حدثني عباد بن يعقوب الأسدي، قال: حدثنا المحاربي، عن عثمان ابن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفي أ ول يوم من رجب ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستة أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكراً لله عز وجل " .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: كانت السفينة أعلاها الطير، ووسطها الناس، وأسفلها السباع. وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعاً ودفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر ليال مضين من رجب، وأرست على الجودي يوم عاشوراء، ومرت بالبيت، فطافت به سبعاً، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، قال: هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان منكم صائماً فليتم صومه، ومن كان منكم مفطراً فليصم.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنها - يعني الفلك - استقلت بهم في عشر خلون من رجب، فكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهراً، وأهبط بهم في عشر خلون من المحرم يوم عاشوراء.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: ما كان زمان نوح شبر من الأرض إلا إنسان يدعيه.
ثم عاش نوح بعد الطوفان فيما حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرنا نوح بن قيس، قال: حدثنا عون بن أبي شداد، قال: عاش - يعني نوحاً - بعد ذلك - يعني بعد الألف سنة إلا خمسين عاماً التي لبثها في قومه - ثلاثمائة وخمسين سنة.
وأما ابن إسحاق، فإن ابن حميد حدثنا، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: وعمر نوح - فيما يزعم أهل التوراة - بعد أن أهبط من الفلك ثلاثمائة سنة وثمانياً وأربعين سنة، قال: فكان جميعُ عمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم قبضه الله عز وجل إليه.
وقيل: إن ساماً ولد لنوح قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة. وقال بعض أهل التوراة: لم يكن التناسل، ولا ولد لنوح ولدٌ إلا بعد الطوفان، وبعد خروج نوح من الفلك.