كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليه كتاب عبد الملك قال القارىء: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله. فقال له: اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: " أما بعد سلام عليكم " ، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمى، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابىء البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني - وكذب عليه. فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابىء، فأتي به شيخاً كبيراً، فقال له: ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلاً فهو أجلد مني جلداً، وأحدث مني سناً، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقاً وإلا فعاقبني. قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلاً؛ فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه. قال عمرو بن سعيد: فوالله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزاً مضرياً، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين، أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابىء فضرب عنقه.
ولما قتل الحجاج عمير بن ضابىء لقى إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر. فقال ابن الزبير:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى منصباً متشعباً
تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابىء ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
فكائن ترى من مكره العدو ممسن ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا
وكان قدوم الحجاج الكوفة - فيما قيل - في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أبي الشقفي على البصرة أميراً، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالداً الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة. وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف. وعلى خراسان أمية بن عبد الله. وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة ابن أوفى. وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ.
ذكر الخبر عن ثورة الناس بالحجاج بالبصرة

وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة.ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به: ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابىء في فوره ذلك حتى قدم البصرة. فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتى برجل من بني يشكر فقيل: هذا عاص، فقال: إن بي فتقاً. وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب: جاء الناس رجل ذكر. وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأساً فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة. وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريباً من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها. فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا. فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه وبرءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج؛ والسلام. نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز وفي هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهم في هذه السنة: ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهروز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل؛ وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا. وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلاً ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم:
لمن العسكر المكلل بالصر ... عى فهم بين ميت وقتيل
فتراهم تسفى الرياح عليهم ... حاصب الرمل بعد جر الذيول

وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف؛ أن ناهضاً الخوارج حين يأتيكما كتابي. فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالاً شديداً لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالاً من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقى المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله. فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجئ من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديداً. ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقى في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتشته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلط العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنىً، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بداً من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شئ. فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالاً من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيره، فأغراهم بعتاب. قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب بسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالاً فيه غلظة وتحبهم، قال: فقال له المهلب: وإنك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك، قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له. فإنه لذلك منك أهل، ففعل، وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقى أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب. وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
إن يقتلوك أبا حكيم غدوة ... فلقد تشد وتقتل الأبطالا
أو يثكلونا سيدا لمسود ... سمح الخليقة ماجداً مفضالا
فلمثل قتلك هد قومك كلهم ... من كان يحمل عنهم الأثقالا
من كان يكشف غرمهم وقتالهم ... يوماً إذا كان القتال نزالا!
أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه ... حتى تدرع من دم سربالا
وتناجز الأبطال تحت لوائه ... بالمشرفية في الأكف نصالاً
يوماً طويلاً ثم آخر ليلهم ... حين استبانوا في السماء هلالا
وتكشفت عنه الصفوف وخيله ... فهناك نالته الرماح فمالا
وقال سراقة بن مرداس البارقي:
أعيني جودا بالدموع السواكب ... وكونا كواهي شنة مع راكب

على الأزد لما أن أصيب سراتهم ... فنوحا لعيش بعد ذلك خائب
نرحي الخلود بعدهم وتعوقنا ... عوائق موت أو قراع الكتائب
وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف ... وكل امرئ يوماً لبعض المذاهب
أمار دموع الشيب من أهل مصره ... وعجل في الشبان شيب الذوائب
وقاتل حتى مات أكرم ميتة ... وخر على خد كريم وحاجب
وضارب عنه المارقين عصابة ... من الأزد تمشي بالسيوف القواضب
فلا ولدت أنثى ولا آب غائب ... إلى أهله إن كان ليس بآيب
فيا عين بكى مخنفاً وابن مخنف ... وفرسان قومي قصرةً وأقاربي
وقال سراقة أيضاً يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ... وأزد عمان رهن رمس بكازر
وضارب حتى مات أكرم ميتة ... بأبيض صاف كالعقيقة باتر
وصرع حول التل تحت لوائه ... كرام المساعي من كرام المعاشر
قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف ... وأدبر عنه كل ألوث داثر
أمد فلم يمدد فراح مشمراً ... إلى الله لم يذهب بأثواب غادر
وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحواً من سنة. وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأى الصفرية، وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية.
ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج

وما كان منه في هذه السنة
ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد و البطين وأشباههم. وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها.
دخلت سنة ست وسبعين
ذكر الكائن من الأحداث فيها فمن ذلك
خروج صالح بن مسرح
ذكر الخبر عن خروج صالح بن مسرح وعن سبب خروجه وكان سبب خروجه - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي - أن صالح بن مسرح التميمي كان رجلا ناسكاً مخبتاً مصفر الوجه، صاحب عبادة، و أنه كان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن وفقههم وقص عليهم، فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل. وكان قصصه: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " . اللهم إنا لا نعدل بك. ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير. ونشهد أن محمداً عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين. وجاهد المشركين، حتى توفاه الله صلى الله عليه وسلم. أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت يخيف العبد من

ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: " ولا تصل على أحد منهم مات أبداً و لا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون " وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين. ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولى الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله - رحمه الله - واستخلف عمر، فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة الله عليه، وولى المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفئ، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين؛ وولى أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم. ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة، قال: بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما أدري ما تنتظرون! حتى متى أنتم مقيمون! هذا الجوار قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعداً عن الحق، وجرأة على الرب؛ فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل و الدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون. قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبيناهم في ذلك إذ قدم عليهم المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوعتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحداً، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني؛ فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر مني المنية ولما أجاهد الظالمين، فياله غبناً، وياله فضلا متروكاً! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك، قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه صالح: أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطآ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأً من المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا. وقد قدم على رسولك بكتابك، فكل ما فيه فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا إنتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن لا يستغني عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور. والسلام عليك، فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه؛ منهم أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير بن بني

محلم، والفضل بن عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بداراً، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروساً، ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً، فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين، فاجتمع بعضهم إلى بعض، وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعاً عنده في تلك الليلة لميعاده. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أتقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك؛ أما أن فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا فريباً كان أو بعيداً، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم الشيطان. فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم. قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. وقال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا. قال أبو مخنف: فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس غلا أن يكونوا قوماً يريدونكم، وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضباً لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حفها، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها فرساناً، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين - وقيل في مائة وعشرة - قال: وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدى بن عدى بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل، قال له: فإني أزيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في ألف رجل، فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة؛ يقال له: زياد بن عبد الله، فقال: إن عديا بعشي إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلداً آخر فتقاتل أهله؛ فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا، فإن شئنا بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك، فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدي بن عدي بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل صالح شبيباً في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا منهم رآهم على غير تعبية، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيباً فحمل عليهم، ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتى عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح

ابن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعاهما، فقال: اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه؛ فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فيخندقا وانتهيا إليه وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيباً إلى الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء السلمي.
قال أبو مخنف: فحدثني المحلمي، قال: انتهوا إلينا في أول وقت العصر، فصلى بنا صالح العصر، ثم عبانا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط، وجعلنا والله نرى الظفر يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم، وعلى العشرين فكذلك، وجعلت خليهم لا تثبت لخيلنا.
فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من معهما فترجل، فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد، إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم، وقد أفشوا فينا الجراحة، وأفشيناها فيهم، وقد قتلوا منا نحواً من ثلاثين رجلاً، وقتلنا منهم أكثر من سبعين، ووالله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا وما نقدم عليهم، فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم، ورجعنا إلى عسكرنا فصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر. ثم إن صالحاً دعا شبيباً وروءس أصحابه فقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: أرى أنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم، وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم، فقال صالح: وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم سائرين، فمضوا حتى قطعوا أرض الجزيرة، ثم دخلوا أرض الموصل فساروا فيها حتى قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني في ثلاثة آلاف رجل من أهل الكوفة، ألف من المقاتلة الأولى، وألفين من الفرض الذي فرض لهم الحجاج. فسار حتى إذا دنا من الدسكرة خرج صالح بن مسرح نحو جلولاء وخانقين، وأتبعه الحارث ابن عميرة حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج من أرض الموصل على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى، وصالح يومئذ في تسعين رجلا، فعبي الحارث ابن عميرة يومئذ أصحابه، وجعل على ميمنته أبا الرواغ الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، ثم شد عليهم - وذلك بعد العصر

وقد جعل أصحابه ثلاثة كراديس؛ فهو في كردوس، وشبيب في كردوس في ميمنته، وسويد بن سليم في كردوس في الميسرة، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد ابن سليم، وثبت صالح وثبت صالح بن مسرح فقتل، وضارب شبيب حتى صرع، فوقع رجالة، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح ابن مسرح فأصابه قتيلا، فنادى: إلى يا معشر المسلمين؛ فلاذوا به، فقال لأصحابه: ليعجل كل واحد منكم ظهره إلى ظهره صاحبه، وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا، ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا بشبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسياً، وقال لأصحابه: احرقوا الباب، فإذا صار حمراً فدعوه فإنهم لا يقدرون على أن يخرجوا منه حتى نصبحهم فنقتلهم، ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى عسكرهم، فأشرف شبيب عليهم وطائفة من أصحابه، فقال بعض أولئك الفرض: يا بني الزواني، ألم يخزكم الله! فقالوا: يافساق، نعم تقاتلوننا لقتالنا إياكم إذ أعماكم الله عن الحق الذي نحن عليه، فما عذركم عند الله في الفري على أمهاتنا! فقال له حلماؤهم إنما هذا من قول شباب فينا سفهاء، والله ما يعجبنا قولهم ولا نستحله. وقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنظرون! فو الله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم : إن الليل أخفى للويل، بايعوني ومن شئم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون، وأنا أرجوا أن ينصركم الله عليهم. قالوا: فابسط يدك فلنبايعك، فبايعوه، ثم جاءوا ليخرجوا، وقد صار بابهم جمراً، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم قطعوا عليها، فلم يشعر الحارث بن عميرة ولا أهل العسكر إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب، وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى من سنته.
خبر دخول شبيب الكوفة وما كان من أمره مع الحجاجوفي هذه السنة دخل الكوفة ومعه زوجته عزالة ذكر الخبر عن دخوله الكوفة وما كان من أمره وأمر الحجاج بها و السبب الذي دعا شبيباً إلى ذلك: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخشعمي - أن شبيباً لما قتل صالح بن مسرح بالمدبج وبايعه أصحاب صالح، ارتفع إلى أرض الموصل فلقى سلامة بن سيار بن المضاء التيمي تيم شيبان، فدعاه إلى الخروج معه، وكان يعرفه قبل ذلك إذ كانا في الديوان والمغازي، فاشترط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارساً، ثم لا يغيب عنه إلا ثلاث ليال عدداً. ففعل، فانتخب ثلاثين فارساً، فانطلق بهم نحو عنزة، وإنما أرادهم ليشفي نفسه منهم لقتلهم أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج قبل ذلك في ثمانية عشر نفساً حتى نزل ماء يقال له الشجرة من أرض الجبال عليه أثلة عظيمة، وعليه عنزة، فلما رأته عنزة قال بعضهم لبعض: نقتلهم ثم نغدو بهم إلى الأمير فنعطي ونجى، فأجمعوا على ذلك، فقال بنو نصر أخواله: لعمر الله لا نساعدكم على قتل ولدنا. فنهضت عنزة إليهم فقاتلوهم فقتلوهم، وأتوا برءوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا، وفرض لهم، ولم تكن لهم فرائض قبل ذلك إلا قليلة، فقال سلامة بن سيار، أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه:
وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ... لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر

قال: وكان خروج أخيه فضالة قبل خروج صالح بن مسرح وشبيب. فلما بايع سلامة شبيباً اشترط عليه هذا الشرط، فخرج في ثلاثين فارساً حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة منهم بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته، وقد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فقالت و أخرجت ثديها إليه: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: لا و الله، ما رأيت فضالة مذ أناخ بعمر الشجرة - يعني أخاه - لتقومن عنه، أو لأجمعن حافتك بالرمح، فقامت عن ابنها عند ذلك فقتله. قال أبو مخنف: فحدثني المفضل بن بكر من بني تيم بن شيبان أن شبيباً أقبل في أصحابه نحو راذان. فلما سمعت به طائفة من بني تيم ابن شيبان خرجوا هراباً منه، ومعهم ناس من غيرهم قليل، فأقبلوا حتى نزلوا دير خرزاد إلى جنب حولايا، وهم نحو من ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو من سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم؛ فهابوه وتحصنوا منه، ثم إن شبيباً سرى في اثنى عشر فارساً من أصحابه إلى أمه، وكانت في سفح ساتيد ما نازلة في مظلة من مظال الأعراب: فقال: لأتين بأمي فلأجعلنها في عسكري فلا تفارقني أبداً حتى أموت أو تموت. وخرج رجلان من بني تيم بن شيبان تخوفا على أنفسهما فنزلا من الدير، فلحقا بجماعة من قومهما وهم نزول بالجال منهم على مسيرة ساعة من النهار، وخرج شبيب، في أولئك الرهط في أولهم وهم اثنا عشر، يريد أمه بالسفح، فإذا هو بجماعة من بني تيم بن شيبان غارين في أموالهم مقيمين، لا يرون أن شبيباً يمر بهم لمكانهم الذي هم به، ولا يشعر بهم، فحمل عليهم في فرسانه تلك، فقتل منهم ثلاثين شيخاً؛ فيهم حوثرة بن أسد ووبرة بن عاصم الذان كانا نزلا من الدير، فلحقا بالجبال. ومضى شبيب إلى أمه فحملها من السفح، فأقبل بها، وأشرف رجل من أصحاب الدير من بكر بن وائل على أصحاب شبيب، وقد استخلف شبيب أخاه على أصحابه مصاد بن يزيد، ويقال لذلك الرجل الذي أشرف عليهم سلام بن حيان، فقال لهم: يا قوم، القرآن بيننا وبينكم. ألم تسمعوا قول الله: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " قالوا: بلى، قال لهم: فكفوا عنا حتى نصبح، ثم نخرج إليكم على أمان لنا منكم، لكيلا تعرضوا لنا بشئ نكرهه حتى تعرضوا علينا أمركم هذا، فإن نحن قبلناه حرمت عليكم أموالنا ودماؤنا، وكنا لكم إخواناً وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم فيما بيننا وبينكم؛ قالوا لهم: فهذا لكم. فلما أصبحوا خرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، ووصفوا لهم أمرهم، فقبلوا ذلك كله، وخالطوهم ونزلوا إليهم، فدخل بعضهم إلى بعض، وجاء شبيب وقد اصطلحوا، فأخبره أصحابه خبرهم، فقال: أصبتم ووفقتم وأحسنتم. ثم إن شبيباً ارتحل فخرجت معه طائفة وأقامت طائفة جانحة، وخرج يومئذ معه إبراهيم بن حجر المحلمي أبو الصقير كان مع بني تيم بن شيبان نازلاً فيهم، ومضى شبيب في أداني أرض الموصل وتخوم أرض جوخى، ثم ارتفع نحو أذربيجان، وأقبل سفيان بن أبي العالية الخشعمي في خيل قد كان أمر أن يدخل بها طبرستان، فأمر بالقفول، فأقبل راجعاً في نحو من ألف فارس، فصالح صاحب طبرستان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة عن سفيان بن أبي العالية الخثعمي أن كتاب الحجاج أتاه: أما بعد، فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك، ثم أقيم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه، فلما أتاه الكتاب أقبل حتى نزل الدسكرة، ونودي في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن: أن برئت الذمة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف سفيان بن أبي العالية بالدسكرة

قال: فخرجوا حتى أتوه، وأتته خيل المناظر، وكانوا خمسمائة، عليهم سورة بن أبجر التميمي من بني أبان بن دارم، فوافوه إلا نحواً من خمسين رجلا تخلفوا عنه، وبعث إلى سفيان بن أبي العالية ألا تبرح العسكر حتى آتيك. فعجل سفيان فارتحل في طلب شبيب، فلحقه بخانقين في سفح جبل على ميمنته خازم بن سفيان الخثعمي من بني عمر بن شهران، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الشيباني، وأصحر لهم شبيب، ثم ارتفع عنهم حتى كأنه يكره لقاءه، وقد أكن له أخاه مصاداً معه خمسون في هزم من الأرض، فلما رأوه جمع أصحابه ثم مضى في سفح الجبل مشرفاً فقالوا: هرب عدو الله فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونسير بها، فإن يكونوا قد أكمنوا لنا كميناً كنا قد حذرناه، وإلا فإن طلبهم لن يفوتنا. فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم ولما رأى الكمين أن قد جاوزهم خرجوا إليهم، فحمل عليهم شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم، فلم يقاتلهم أحد، وكانت الهزيمة، فثبت ابن أبي العالية في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديداً حسناً؛ حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه، فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟ فو الله لئن عرفته لأجهدن نفسي في قتله، فقال شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية! فإنه ذلك، فإن كنت تريده فأمهله قليلاً، ثم قال: يا قعنب، اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا يتنقضون ويتسسللون، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية فطاعنه، فلم تصنع رمحاهما شيئاً، ثم اضطربا بسيفهما ثم اعتنق كل منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض يعتركان؛ ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له يقال له غزوان، فنزل عن برذونة، وقال: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان فقتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبي العالية حتى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني أتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيباً عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم، حتى خررت بين القتلى، فحملت مرتثاً، فأتى بي بابل مهروذ، فهأنذا بها والجند الذين وجههم إلى الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: من صنع كما صنع هذا، وأبلى كما أبلى فقد أحسن. ثم كتب إليه: أما بعد: فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجوراً إلى أهلك والسلام.
وكتب إلى سورة بن أبحر: أما بعد فيا بن أم سورة، ما كنت خليقاً أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليباً إلى الخيل التي بالمدائن، فلينتخب منهم خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة. واحزم في أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة. والسلام. فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عميرة إلى المدائن. وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير - وهو أمير المدائن في إمارته الأولى - فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله على فرس، وكساه أثواباً. ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم

بهم على سورة بن أبجر ببابل مهروذ، فخرج في طلب شبيب، وشبيب يجول في جوخى وسورة في طلبه، فجاء شبيب حتى انتهى إلى المدائن فتحصن منه أهل المدائن وتحرزوا. وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن، فأصاب بها دواب جند كثيرة فقتل من ظهر له ولم يدخلوا البيوت. فأتى فقيل له: هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك. فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرءوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه فأخبرته بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا رءوس أصحابه فقال: إنهم قلما يلقون مصحرين أو على ظهر إلا انتصفوا منكم، وظهروا عليكم، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل إلا قليلا، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير في ثلثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فآتيهم الآن إذ هم آمنون لبياتكم؛ فو الله إلى لأرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم الذين صرعوا منهم بالنهروان من قبل فقالوا: اصنع ما أحببت. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة الخثعمي، وانتخب من أصحابه ثلثمائة رجل من أهل القوة والجلد الشجاعة، ثم أقبل بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم، فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا واستعدوا فحمل عليهم سورة وأصحابه فثبتوا لهم، وضاربوهم حتى صد عنهم سورة وأصحابه، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة، وحملوا عليهم معه، وجعل شبيب يضرب ويقول:
من ينك العير ينك نياكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي فيه شبيب، واتبعه شبيب وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل المعسكر، فأخذ السير في طلبهم، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن. فدفع إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن فرماهم الناس بالنبل، ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن، فمر على كلواذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها، ثم خرج يسير في أرض جوخى، ثم مضى نحو تكريت، فبينا ذلك الجند في المدائن إذ أرجف الناس بينهم، فقالوا: هذا شبيب قد دنا، وهو يريد أن يبيبت أهل المدائن الليلة، فارتحل عامة الجند. فلحقوا بالكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة الخثعمي، قال: والله لقد هربوا من المدائن وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيباً لبتكبريت، قال: ولما قدم الفل على الحجاج سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي. قال أبو مخنف: حدثنا النضر بن صالح العبسي وفضيل بن خديج الكندي أن الحجاج لما أتاه الفل قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر والجند، وخرج يبيت الخوارج، أما والله لأسوءنه، وكان بعد قد حبسه ثم عفا عنه.

قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج أن الحجاج دعا الجزل - وهو عثمان بن سعيد - فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق، ول تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت؟ لله أنت يا أخا بني عمرو بن معاوية! فقال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت؛ قال له: فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس، فقال: أصلح الله الأمير! لاتبعثن معي أحداً من أهل هذا الجند المفلول المهزوم، فإن الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت ألا ينفعك والمسلمين منهم أحد؛ قال له: فإن ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت. ثم دعا أصحاب الدواووين فقال: اضربوا على الناس البعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس، من كل ربع ألف رجل، وعجلوا ذلك، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف، فأمرهم بالعسكر فعسكروا، ثم نودى فيهم بالرحيل، ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفاً؛ قال: فمضى الجزل بن سعيد، وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته، فخرج حتى أتى المدائن، فأقام فيها ثلاثاً، وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وبغلين وألفي درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام حتى ارتحلوا، فأصاب الناس ما شاؤوا من تلك الجزر والعلف الذي وضع لهم ابن عصيفير. ثم إن الجزل بن سعيد خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج، ولا يقيم له إرادة أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبية، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقاً، فلما طال ذلك على شبيب أمر أصحابه ذات ليلة فسروا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيباً دعانا ونحن بدير بيرما ستون مائة رجل، فجعل على كل أربعين من أصحابه رجلاً، وهو في أربعين، وجعل أخاه مصاداً في أربعين، وبعث سويد بن سليم في أربعين، وبعث المحلل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل دير يزيد جرد، قال: فدعانا عند ذلك فعبانا هذه التعبئة، وأمرنا على دوابنا، وقال لنا: تيسروا فإذا قضمت دوابكم فاركبوا، وليسر كل امرئ منكم مع أميره الذي أمرناه عليه، ولينظر كل امرئ منكم ما يأمره أميره فليتبعه. ودعا أمرائنا فقال لهم: إني أريد أن أبيت هذا العسكر الليلة، ثم قال لأخيه مصاد: إيتهم فارتفع من فوقهم حتى تأتيهم من ورائهم من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامي من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت من قبل المغرب، وليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم، تحملون وتكرون عليهم، وتصيحون بهم حتى يأتيكم أمري. فلم نزل على تلك التعبئة، وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، حتى إذا قضمت دوابنا - وذلك أول الليل أول ما هدأت العيون - خرجنا حتى انتهينا إلى دير الحرارة، فإذا القوم مسلحة، عليهم عياض بن أبي لينة، فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شبيب في أربعين رجلاً، وكان أمام شبيب، وقد كان أراد أن يسبق شبيباً حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائهم كما أمره، فلما لقى هؤلاء قاتلهم فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثم إنا دفعنا إليهم جميعاً، فحملنا عليهم فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير جرد إلا قريب من ميل. فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم؛ فأتبعناهم والله ملظين بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم، فانتهوا إلى عسكرهم، ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقوا بالنبل، وكانت عيون لهم قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليه، وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الحرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان على الطريق

فلما أن دفعنا إلى هذه المسلحة التي كانت بدير الحرارة فألحقناهم بعسكر جماعتهم ورجعت المسالح الأخر حتى اجتمعت، منعها أهل العسكر دخول العسكر وقالوا لهم: قاتلوا، وانضحوا عنكم بالنبل. قال أبو مخنف: وحدثني جرير بن الحسين الكندي، قال: كان على المسلحتين الأخريين عاصم بن حجر على التي تلي حلوان، وواصل ابن الحارث السكوني إلى الأخرى. فلما اجتمعت المسالح جعل شبيب يحمل عليها حتى اضطرها إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل حتى ردوهم عنهم. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم قال لأصحابه: سيروا ودعوهم، فمضى على الطريق نحو حلوان حتى إذا كان قريباً من موضع قباب حسين بن زفر من بني بدر بن فزارة - وإنما كانت قباب حسين بن زفر بعد ذلك - قال لأصحابه: انزلوا فاقضموا وأصلحوا نبلكم وتروحوا وصلوا ركعتين، ثم اركبوا؛ فنزلوا ففعلوا ذلك. ثم إنه أقبل بهم راجعاً إلى عسكر أهل الكوفة أيضاً، وقال: سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها بدير بيرما أول الليل، ثم أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم، فأقبلوا. قال: فأقبلنا معهم وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إلهم، وقد أمنونا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا قريباً منهم، فانتهينا إليهم قبيل الصبح فأحطنا بعسكرهم، ثم صحنا بهم من كل جانب، فإذا هم يقاتلوننا من كل جانب، ويرموننا بالنبل. ثم إن شبيباً بعث إلى أخيه مصاب وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم سبيل الطريق إلى الكوفة، فأقبل إليه، وترك ذلك الوجه، وجعلنا نقاتلهم من تلك الوجوه الثلاثة، حتى أصبحنا، فأصبحنا ولم نستفل منهم شيئاً، فسرنا وتركناهم، فجعلوا يصيحون بنا: أين يا كلاب النار! أين أيتها العصابة المارقة! أصبحوا نخرج إليكم، فارتفعنا عنهم نحواً من ميل ونصف، ثم نزلنا فصلينا الغداة، ثن أخذنا الطريق على براز الروذ، ثم مضينا إلى جسر جسرايا وما يليها، فأقبلوا في طلبنا. قال أبو مخنف: فحدثني مولى لنا يدعى غاضرة أو قيصر، قال: كنت مع الناس تاجراً وهم في طلب الحرورية، وعلينا الجزل بن سعيد، فجعل يتبعهم فلا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إليه كتاباً، فقر على الناس: أما بعد، فأني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك بإتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها، فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم. والسلام. فقرئ الكتاب علينا ونحن بقطراثا ودير أبي مريم، فشق ذلك على الجنرال. وأمر الناس بالسير. فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل.
قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمذاني ثم البرسمي أن الحجاج بعث سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وعهد إليه أن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم وواقفهم واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع. وأقبل الجزل في طلب شبيب حتى انتهوا إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره، وخندق عليه. وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميراً، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ياأهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم.

وكسروا خراجكم، وأتنم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلداً سوى بلدكم، فأخرجوا على اسم الله إليهم. فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقم أنت في جماعة الجيش، فارسهم وراجلهم، وأصحر له، فوالله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك. فقال له: قف أنت في الصف، فقال: يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين. فقال: هو رأيي إن أصبت، فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه براء، قال: فوقف الجزل في صف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق، وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الرواسي، ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل فطفتا، وأمر دهقانها أن يشتري لهم ما يصلحهم، ويتخذ لهم غداء، ففعل، ودخل مدينة قطفتا وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل ذلك العسكر، فصعد الدهقان السور فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من حصنه، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: ما لي أراك متغير اللون! فقال له الدهقان: قد جاءتك الجنود من كل ناحية، قال: لا بأس، هل أدرك غداءنا؟ قال: نعم، قال: فقربه، وقد أغلق الباب، وأتى بالغداء، فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه. ثم إنهم اجتمعوا على باب المدينة، فأمر بالباب ففتح، ثم خرج على بغله فحمل عليهم. وقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، أثبتوا إن شئتم. وجعل سعيد يجمع قومه وخيله، ويزلفها في أثره، ويقول: ما هؤلاء! إنما هم أكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطعوا وانتشروا لف خيله كلها، ثم جمعها، ثم قال: استعرضوهم استعراضاً، وانظروا إلى أميرهم، فو الله لأقتلنه أو يقتلني. وحمل عليهم مستعرضاً لهم، فهزمهم وثبت سعيد بن المجالد، ثم نادى أصحابه: إلي إلي، أنا ابن ذا مران! وأخذ قلنسوته فوضعها على قربوص سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه بالسيف، فخالط دماغه، فخر ميتاً، وانهزم ذلك الجيش، وقتلوا كل قتلة، حتى انتهوا إلى الجزل، ونزل الجزل ونادى: أيها الناس، إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن كان أميركم القادم قد هلك فأميركم الميمون النقيبة المبارك حي لم يمت فقاتل الجزل قتالاً شديداً حتى حمل من بين القتلى، فحمل إلى المدائن مرتثاً، وقدم فل أهل ذلك العسكر الكوفة، وكان من أشد الناس بلاءً يومئذ خالد بن

نهيك من بني ذهل بن معاوية وعياض بن أبي لينة، حتى استنقذاه وهو مرتث. هذا حديث طائفتك من الناس، والحديث الأخر قتالهم فيما بين دير أبي مريم إلى براز الروز. ثم إن الجزل كتب إلى الحجاج. قال: وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فأمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، فأحب أن يأمنهم، وكان أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثياب وأشياء ليس لهم منها بد، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، وساروا أول الليل حتى نزلوا عقر الملك الذي يلي قصر ابن هبيرة، ثم أغذ السير من الغد، فبات بين حمام عمر بن سعد وبين قبين. فلما بلغ الحجاج مكانه بعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فبعثه في ألفي فارس نقاوة، وقال له: اخرج إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم أنزل إليه في الرجال فإن استطرد ذلك فدعه ولا تتبعه. فخرج فعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيب قد أقبل، فأقبل نحوه وكأنما يساقون إلى الموت، وأمر الحجاج عثمان ابن قطن فعسكر بالناس بالسبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة! وأمر سويد بن عبد الرحمن أن يسير في الألفين الذين معه حتى يلقى شبيباً فعبر بأصحابه إلى زرارة وهو يعبئهم ويحرضهم إذ قيل له: قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، وقدم رايته ومضى إلى أقصى زرارة، فأخبر أن شبيباً قد أخبر بمكانك فتركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات وهو يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به. ثم قيل له: أما تراهم! فنادى: في أصحابه، فركبوا في آثارهم. وإن شبيباً أتى دار الرزق. فنزلها، فقيل: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون بالسبخة، فلما بلغهم مكان شبيب صاح بعضهم ببعض وجالوا، وهموا أن يدخلوا الكوفة حتى قيل لهم: إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. قال هشام: وأخبرني عمر بن بشير، قال: لما نزل شبيب الدير أمر بغنم تهيأ له، فصعد الدهقان، ثم نزل وقد تغير لونه، فقال: مالك! قال: قد والله جاءك جمع كثير؛ قال: أبلغ الشواء بعد! قال: لا، قال: دعه. قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال: قد والله أحاطوا بالجوسق، قال: هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث لهم، فلما فرغ توضأ وصلى بأصحابه الأولى، ثم تقلد سيفين بعدما لبس درعه، وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فقال أخوه مصاد: أفي هذا اليوم تسرج بغلة! قال: نعم أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة وأنت يا فلان على الميسرة، وقال لمصاد: أنت في القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم. قال: فخرج إليهم وهو يحكم، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير نحو من ميل. قال: وجعل سعيد يقول: يا معشر همدان، أنا ابن ذي مران، إلي إلي. ووجه سرباً مع ابنه وقد أحس أنها تكون عليه، فنظر شبيب إلى مصاد فقال: أثكلينك الله إن لم أثكله ولده. قال: ثم علاه بالعمود، فسقط ميتاً، وانهزم أصحابه وما قتل بينهم يومئذ إلا قتيل واحد. قال: وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى أتوا الجزل، فناداهم الجزل: أيها الناس، إ لي إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم قد هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، وقاتلوا معه؛ فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزماً، وقاتل الجزل قتالاً شديداً حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض ابن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتث، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، فأتى بالجزل حتى أدخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف. قال أبو مخنف: حدثني بذلك ثابت مولى زهير: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه، فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك، وقد أرادني العدو بكل ريدة فلم

يصب مني غرة، حتى قدم على سعيد بن مجالد رحمة الله عليه، ولقد أمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني، وتعجل إليهم في الخيل، فأشهد عليه أهل المصرين أني بريئ من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع. فمضى فأصيب تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلي، فنزلت ودعوتهم إلي، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها. فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له عند ذلك أني قد صدقته ونصحت له. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، وفهمت كل ما ذكرت فيه، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم، وقد أصبت وأحسنت البلاء، وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيان ابن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك. والسلام. فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني من بني فراس - وهم يعالجون الكي وغيره - فكان يداويه، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفير بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللطف والهدية. قال: وأقبل شبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وبعث إلى أهل سوق بغداد وهو بالكرخ أن اثبتوا في سوقكم فلا بأس عليكم - وكان ذلك يوم سوقهم - وقد كان بلغه أنهم يخافونه قال: ويخرج سويد حتى جعل بيوت مزينة وبني سليم في ظهره وظهور أصحابه، وحمل عليهم شبيب حملةً منكرة، وذلك عند المساء، فلم يقدر منهم على شئ، فأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وأتبعه سويد لا يفارقه حتى قطع بيوت الكوفة كلها إلى الحيرة، وأتبعه سويد حتى انتهى إلى الحيرة، فيجده قد قطع قنطرة الحيرة ذاهباً، فتركه وأقام حتى أصبح. وبعث إليه الحجاج أن أتبعه فأتبعه، ومضى شبيب حتى أغار في أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع في البر من وراء خفان في أرض يقال لها الغلظة، فيصيب رجالا من بني الورثة، فحمل عليهم، فاضطرهم إلى جدد من الأرض، فجعلوا يرمونه وأصحابه بالحجارة من حجارة الأرحاء كانت حولهم، فلما نفدت وصل إليهم فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم حنظلة بن مالك ومالك بن حنظلة وحمران بن مالك؛ كلهم من بني الورثة. قال أبو مخنف: حدثني بذلك عطاء بن عرفجة بن زياد بن عبد الله الورثي. ومضى شبيب حتى يأتي بني أبيه على اللصف ماء لرهطه وعلى ذلك الماء الفرز بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وهو الذي كان ينهي شبيباً عن رأيه، وأن يفسد بني عمه وقومه، فكان شبيب يقول: والله لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون الفزر. فلما غشيهم شبيب في الخيل سأل عن الفزر فاتقاه الفزر، فخرج على فرس لا تجارى من وراء البيوت، فذهب عليها في الأرض، وهرب منه الرجال، ورجع وقد أخاف أهل البادية حتى أخذ على القطقطانة؛ ثم على قصر مقاتل، ثم أخذ على شاطئ الفرات حتى أخذ على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم مضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان. فتركه الحجاج وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة،فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب من ماذرواسب دهقان بابل مهروذ وعظيمها إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجراً من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني فذكر أن شبيباً يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك، ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي فحدثاني أنه قد نزل خانيجار. فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج بالبصرة، فلما قرأه الحجاج أقبل جواداً إلى الكوفة، وأقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية يقال لها حربى على شاطئ دجلة فعبر منها، فقال: مااسم هذه القرية؟ فقالوا: حربى؛ فقال: حربى يصلى بها

عدوكم، وحرب تدخلونه بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف، ثم ضرب رايته وقال لأصحابه: سيروا؛ فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو تحولت بنا من هذه القرية المشؤومة الاسم! قال: وقد تطيرت أيضاً! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوي منها، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم تحملون عليهم فيها، فالعقر لهم. ثم قال لأصحابه: يا هؤلاء، إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون الكوفة إن شاء الله شيء، فسيروا بنا. فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى الحجاج أن شبيباً قد أٌقبل مسرعاً يريد الكوفة، فالعجل العجل. فطوى الحجاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة، ونزلها الحجاج صلاة الظهر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، فصلى المغرب والعشاء، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئاً يسيراً، ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة، فجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق، ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده قال أبو المنذر: رأيت ضربة شبيب بباب القصر قد أثرت أثراَ عظيماً، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة، ثم قال:
وكأن حافرها بكل خميلة ... كيل يكيل به شحيح معدم
عبد دعى من ثمود أصله ... لا بل يقال أبو أيهم يقدم
ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيراً لا يفارقه قوم يصلون به فقتل عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمر الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعوا حوشباً، فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك. فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب لينصرف، فجعلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميموناً، وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له سويد: إنزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد ديناً لا يصلح ولا يتم إلا بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة. قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بن ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفاً إلى منزله، فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم.
اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة. قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هاني بن قبيصة بن الشيباني فأبطره حين نظر إليه - قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه - فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله؛ قال له سويد مبادراً: أمير المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين. حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي و أبشري، وهو فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني، فيليأمر بأمره، فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح. ثم إن الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والية في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من الموالي، وأعين - صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان - في ألف رجل، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك محمد بن موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه. وأمر عبد الملك محمد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم محمد ابن موسى جعل يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير

إلى عملك؛ فإنك لا تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له. فأقام على حاله، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى شبيباً وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء الأمراء أيضاَ عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزيادة بن عمرو العشكي. وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة. فأتى المردمة وبها رجل من حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور - وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه وراءه - فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يانضر بن القعقاع، لاحكم إلا لله - وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه. فلم يفهم النضر - فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين؛ كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه. فشدوا على نضر فقتلوه.
قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات. فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القواد. وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له: أتبع شبيباً حتى تواقعه حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقاً ذاهباً فاتركه ما لم يعطف عليك أو ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيباً مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعاً، وعلى ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف، فوجف وجيفاً، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة ما بين ضربة وطعنة، فمكث أياماً، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحة القطن، فأجلسه الحجاج معه على السرير وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو شهيد فينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحراً: قد هزمنا لهم جنداً. وقتلنا لهم أميراً من أمرائهم عظيماً. انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل، وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شئ وأخذ الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك قال: فانقض بهم جواداً حتى يأتي نجران - وهي نجران الكوفة ناحية عين التمر - ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة. فبلغ الحجاج مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل - وكان على الحجاج كريماً - فقال له: الحق بجماعتهم - يعني جماعة الأمراء - فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك وانصرف عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه. فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على الناس وهو على فرس له كميت أغر. فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القلب. قال: وخرج زائدة ابن قدامة يسير في الناس فيما بن ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول: يا عباد الله أنتم الكثيرون الطيبون وقد نزل بكم القليلون الخبيثون

فاصبروا - جعلت لكم الفداء - لكرتين أو ثلاث تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شئ ألا ترون إليهم والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس ، إنما هم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيثكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم انصرف إلى موقفه. قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلاً، ثم كر عليهم ثانيةً، ثم اطعنوا ساعة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال: اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديداً، وجعل ينادي: ياخيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديداً، فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالاً وما يعرض له. قال: ثم إنا ارتفعنا عنهم آخراً فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه: ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا، فتركوهم قليلاً، ثم حمل عليهم الثالثة فانهزموا. فنظرت إلى زياد ابن عمرو وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفاً فما ضره من ذلك شئ ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة. وذلك عند المساء قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلناه قتالاً شديداً وصبر لنا. ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصاداً حمل على بشر بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم. وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زارة امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعاً فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إ ليه نزل ونادى: يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إلى إلى! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إمانكم؛ فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر. ثم إن شبيباً شد عليه في جماعة من أصحابه فقتله وأصحابه وتركهم ربضةً حوله من أهل الحفاظ.
قال أبو مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: سمعت زائدة ابن قدامة ليلتئذ رافعاً صوته يقول: يأيها الناس، اصبروا وصابروا، " يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل. قال أبو مخنف: وحدثني فروة بن لقيط أن أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر. قال: ولما قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقاً عظيماً، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة عند الفجر. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله. قال: وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومحمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر، معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الأذان قال: ماهذا؟ فقال: هذا محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله لم يبرح؛ فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا؛ نحواً هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل. قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، فقرأ:

" ويل لكل همزة لمزة " ، و " أرأيت الذي يكذب بالدين " ، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه وهو يقول: " آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " قال: وضارب حتى قتل. قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيباً هو الذي قتله. ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شئ، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيباً، فلم يبق منهم أحد. وقد ذكر من أمر محمد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمراً غير الذي ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولي محمد بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: إنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك. فعدل إليه محمد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد، فأبى إلا شبيباً، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جواراً. فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد فيها أثنا عشر رطلا بالشأمى، فهشم بها بيضه عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة. قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان ميمنته، وشهر بالنجدة وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان - فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه؛ قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيباً في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. ففعل، فعدل إليه محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب: إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك؛ فأطعني وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت؛ فأبى محمد بن موسى، فبارزه شبيب فقتله. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. قال عبد الرحمن: لقد كان فيمن بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى؛ قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا أحد الحكمين، فقالوا: ألا نقتل هذا؟ فقال: إن هذا لاذنب له فيما صنع أبوه؛ قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو الضريس وأعين فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: مادون الكوفة أحد يمنعنا؛ فنظر فإذا أصحابه قد جرحوا؛ فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد ، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها. قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيباً قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن - وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر - فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان.
فخرج مسرعاً حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير؛ وكان بها الجزل مقيماً أشهراً يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده بكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشئ، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جوداً وكرماً وفضلا وزد عثمان بن قطن ضيقاً وبخلا، قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن

محمد بن الأشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف، فنتخب فرسان الناس ووجوههم، وأخرج من قومه ستمائة من كندة وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمنن فلما أراد الحجاج إشخاصهم كتب إليهم: أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء. ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم بالله قسماً صادقاً لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إ يقاعاً أكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية و الشعاب، وتسترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلاً، وقد أعذر من أنذر :
وقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
و السلام عليكم. قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فأتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة من رجل من هذا البعث وجدناه متخلفاً. فخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يوماً وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه. ثم إن الجزل قال له: يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم إنتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت علي وقاتلتهم في مديق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبية أو في خندق. ثم إنه ودعه، فقال له الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجارى. فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الله في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف: أما بعد، فاطلب شبيباً واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. والسلام. فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وأدنى المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة، فيمضي ويدعه. قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل إليه، جعل يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخاً، ثم يقيم في أرض غليظة حزنة، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب أرتحل شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخاً، فنزل منزلاً غليظاً خشناً، ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. قال أبو مخنث: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيباً كان قد عذب ذلك العسكر وشق عليهم، وأخفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامراً، ثم أقبل حتى نزل البت - قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا - قال: وجاء عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن. قال: وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا، فقال له عبد الرحمن: نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة. قال: وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخى كلها خندقاً واحداً، وخلى شبيباً وكسر خراجها

وهو يأكل أهلها. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليه. والسلام. قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن بن محمد ومعه من أهل الكوفة وهم معسكرون على نهر حولايا قريباً من البت. عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس، أخرجوا إلى عدوكم. فوثب إليه الناس، فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبية. فجعل يقول: لأجازنهم، ولتكون الفرصة لي أولهم. فأتلهم عبد الرحمن فأخذ بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غداً، وهو غداً خيراً لك وللناس. إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة. فنزل، فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب - وكان قد نزل بيعتهم - فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية، ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت جانب القرية ولا تجعل لهم علينا مقالاً، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل جانب القرية. قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم؛ فلما أصبح - وذلك يوم الأربعاء - خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا إليه أقام، فلما كان ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: أخرجوا على هذه التعبية، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما: قفا مواقفكما التي كنتما بها، وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى يزول نخل راذان على أصوله. فقالا: ونحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيراً. ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم وهمدان نحو نهر حولايا في المسيرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في الميمنة، ونزل يمشي في الرجال. وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلاً، فقطع إليهم النهر، فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما بعضهم لبعض.قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان يقول فيكثر: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لاتمتعون إلا قليلاً " . أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار. ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما ياي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولايبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري، وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم:
لأضربن بالحسام الباتر ... ضرب غلام من سلول صابر
ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك بن قيس الكندي، فنزل خالد فقاتل قتالاً شديداً، وحمل عليه شبيب من ورائه وهو على ربع كندة وربيعة يومئذ، وهو صاحب الميمنة، فلم ينثني شبيب حتى علاه

بالسيف فقتله، ومضى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين راجلاً، فلما دنا منهم عثمان بن قطن شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضاً في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقد كان شبيب رجلهم، فاضطربوا ساعة، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن القتال. ثم إنهم شدوا عليهم فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف استدار لها، ثم قال: " وكان أمر الله مفعولاً " . ثم إن الناس قتلوه، وقتل يومئذ الأبرد بن ربيعة الكندي، وكان على تل، فألقى سلاحه إلى غلامه وأعطاه فرسه، وقاتل حتى قتل. ووقه عبد الرحمن فرآه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغلة فعرفه، فنزل إليه فناوله الرمح وقال له: اركب، فقال عبد الرحمن ابن محمد: أينا الرديف؟ قال ابن أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب وقال لابن أبي سبرة: ناد في الناس: الحقوا بدير أبي مريم، فنادى، ثم انطلقا ذاهبين، ورأى واصل بن الحارث السكوني فرس عبد الرحمن الذي حمل عليه الجزل يجول في المعسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قد هلك، فطلبه في القتلى فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: قد رأينا رجلاً قد نزل عن دابته فحمله عليها، فما أخلقه أن يكون إياه؛ وقد أخذ هاهنا آنفاً. فأتبعه واصل بن الحارث على برذونه ومع واصل غلامه على بغل، فلما دنوا منهما قال محمد بن أبي سبرة لعبد الرحمن: قد والله لحق بنا فارسان، فقال عبد الرحمن: فهل غير اثنين؟ فقال: لا، فقال عبد الرحمن: فلا يعجز اثنان عن اثنين. قال: وجعل يحدث ابن أبي سبرة وكأنه لا يكترث بهما، حتى لحقهما الرجلان، فقال له ابن أبي سبرة: رحمك الله! قد لحقنا الرجلان، فقال له: فانزل بنا، فنزلا فانتضيا سيفهما، ثم مضيا إليهما، فلما رآهما واصل عرفهما، فقال لهما: إنكما قد تركما النزول في موضعه، فلا تنزلا الآن، ثم حسر العمامة عن وجهه، فعرفاه فرحبا به، وقال لابن الأشعث: إني لما رأيت فرسك يجول في العسكر ظننتك رجلاً، فأتيتك ببردوني هذا لتركبه، فترك لابن أبي سبرة بغلته، وركب البرذون، وانطلق عبد الرحمن بن الأشعث حتى نزل دير اليعار، وأمر شبيب أصابه فرفعوا عن الناس السيف، ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجالة فبايعوه، وقال له أبو الصقير المحملي: قتلت من الكوفيين سبعة في جوف النهر كان آخرهم رجلاً تعلق بثوبي وصاح، ورهبني حتى رهبته، ثم إني أقدمت عليه فقتلته. وقتل من كندة مائة وعشرون يومئذ وألف من سائر الناس أو ستمائة، وقتل عظم العرفاء يومئذ. قال أبو مخنف: حدثني قدامة بن حازم بن سفيان الخثعمي أنه قتل منهم يومئذ جماعة، وبات عبد الرحمن بن محمد تلك الليلة بدير اليعار، فأتاه فارسان فصعدا إليه فوق البيت، وقام آخر قريباً منهما فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلاً يناجيه، ثم نزل هو وأصابه، وقد كان الناس يتحدثون أن ذلك كان شبيباً، وأنه قد كان كاتبه، ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة صبر الشعير وألقت بعضه على بعض

كأنه القصور، ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، فأكلوا يومئذ، وعلفوا دوابهم، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد ذهب الناس وتفرقوا وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة. فخرج إلى الكوفة ورجع الناس أيضاً، وجاء فاختبأ من الحجاج حتى أخذ منه الأمان بعد ذلك. نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن مروان وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم. ذكر الواقدي: أن سعد بن راشد حدثه عب صالح بن كيسان بذلك. قل: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ، وهو أول من أحدث ضربها. قال: وحدثني خالد بن أبي ربيعة، عن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة، وكان العشرة وزن السبعة. قال: وحدثني عبد الرحمن بن جرير الليثي عن هلال بن أسامة قال: سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالاً بالشأمى نصف مثقال، قلت: ما بال الشأمي من المصري؟ قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير. وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير، كانت اثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة، قال سعيد. قد عرفته، قد أرسلت بدنانير إلى دمشق فضربت على ذلك. وفي هذه السنة: وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك بن مروان وولي أبان بن عثمان المدينة في رجب. وفيها استقضي أبان بن نوفل بن مساحق بن عمرو بن خداش من بني عامر بن لؤي. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس في هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى.
عن أبي معشر،وكذلك قال الواقدي. وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين

محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية
وقتلهما
ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية ذكر الخبر عن سبب مقتلهما: مكان سبب ذلك فيما ذكر هشام عن أبي مخنف، عن عبد الرحمن ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيباً لما هزم الجيش الذي كان الحجاج وجهه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إليه، وقتل عثمان ابن قطن، ذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه. فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا فلحقوا به. وناس ممن كان الحجاج يطلبهم الحجاج بمال أو تباعات؛ كان منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف. وكان دهقانان من أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل. فلما آمن الحجاج كل من كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات - و1لك بعد يوم السبخة - خرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج. فأتى به فدخل. وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج. يا عدو الله. قتلت رجلين من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا. فقال: وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة. ثم آمنت كل من خرج إليك، فهذا أماني وكتابك لي. فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى سبيله. قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة. فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيباً قد أقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأبصر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم.

فقام إليه الناس من كل جانب، وقالوا نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليند بنا الأمير إليهم فإنا حيث سره. وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستم قائماً حتى يؤخذ بيده. فقال له: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا إليهم كافة، وأبعث عليهم رجلاً ثبتاً شجاعاً مجرباً للحرب ممن يرى الفرار هضماً وعاراً والصبر مجداً وكرماً. فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئاً، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إما أثبت على الراحلة فأكون نع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي. فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيراً، وجزاك الله عن الإسلام في آخر الإسلام خيراً،فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة. ألا فسيروا أيها الناس. فانصرف الناس وليس يدرون من هو أميرهم! وكتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن شبيباً قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم. ويفل جنودهم؛ فإن رأي أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فليفعل. والسلام. فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين . فسرحهم حين أتاه الكتاب إلى الحجاج. وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلاناً أو فلاناً، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى قطري. فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحواً من شهرين حتى قدم الحجاج على العراق. فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج إلا رجب وشعبان. وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان. فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج عتاباً بطاعة المهلب، فكأن ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن جاء كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك، قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة؛ فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم : من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقلوا: رأيك أيها الأمير أفضل؛ قال: فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء؛ وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة فيكون هو الذي يسير في الناس؛ قال زهرة بن حوية: أصلح الله الأمير! رميتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل وقال له قبيصة بن والق: إني مشير عليك برأيي، فإن يكن خطأ فبعد اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير ولعامة المسلمين، وإن يك صواباً فا لله سد دني له؛ إنا قد تحدثنا وتحدث الناس أن جيشاً قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون فعلت، فإنك تحارب حولا قلباً، ظعاناً رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة ولست واثقاً بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام، إن شبيباً بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهو غارون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق، فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل إلى من أقبل من أهل الشام. فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج: أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير. والسلام. فأقبل القوم سراعاً. قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج

إنه قادم عليكم فيها. فأمره الحجاج فخرج بالناسفعسكر بهم بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهر سير الدنيا. فصار بينه وبين مطرف بن المغيرة ابن شعبة جسر دجلة. فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث إلى رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه، فبعث إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه؛ فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا أن ينزلوا في السفينة بعث إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلى رسول من عند مطرف، فرجع الرسول، وبعث إلى مطرف أن ابعث إلى من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهناً في يدي حتى ترد علي أصحابي. فقال مطرف لرسوله: القه وقل له: كيف آمنك أنا على أصحابي إذا أنا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فرجع الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحب حرمه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا مطرف فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شئ، فلما تبين لشبيب أن مطرفاً غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء وإلى أهل الشام. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شعيباً دعا رءوس أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر كالكوفة يعتصمون به؛ وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء. قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب. فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة أمثل. فخرج ونزل المدائن؛ فعقد شبيب الجسر، وبعث إلى المدائن أخاه مصاداً، وأقبل إليه عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم، ومن نشيط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفاً سوى الشباب، ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفاً من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب بسوق حكمة فكانوا خمسين ألفاً، ولم يدع الحجاج قرشياً ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على منبر حين وجه عتاباً إلى شبيب في الناس وهو يقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا، ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة.
والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفاً خشناً، ولأعركنكم بكلكل ثقيل. ثم نزل، وتوافى الناس مع عتاب بسوق حكمة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، ألا إني مصل الظهر ثم سائر بكم، فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في

الدنيا، ورغبنا في الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذن فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بناعلى عتاب بن روقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب، وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني. وكانت عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيباً، فقال: أسير إليه أحب إلى من أن يسير إلى، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر، فقال: أما أنا فوالله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق - وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: اكفني الميسرة فقال: أنا شيخ كبير، كثير من أن أثبت تحت رايتي، قد أنيت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام؛ ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان - وكان كل واحد منهما على ثلثي من أثلاث تغلب - فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلبتعثن ذا حزم وعزم وغناء. فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي - وهو ابن عم عتاب شيخ أهل بيته - على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية، ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية؛ فيحثهم على تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال: وقف علينا فقص علينا قصصاً كثيراً، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات؛ قال: يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيباً في الجنة الشهداء. وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: " واصبروا إن الله مع الصابرن " ! فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي؛ ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين القصاص؟ قال ذلك فلم يجيبه والله أحد منا؛ فلما رآى ذلك، قال: أين من يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله مرد عليه إنسان كلمةً، فقال: إنا لله! كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث وأبو بكر من محمد بن أبي جهم العدوي، وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا. فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذا الريات؟ قالوا: رايات ربيعة، فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسباً للخير في

جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدله، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق. فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله: " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان منا الغاوين " ، هذا مثل ابن عمكم قبيصة بن والق، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتل في الميمنة رجال من بني تميم وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب بن ورقان، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالساً على طنفسة في القلب وزهرة بن حورية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلاً، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا؛ فقال له: جزاك الله خيراً من جزى آمراً بمعروف وحاثاً على تقوى. فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يميناً وشمالاً، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن عبد الرحمن بن محمد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو يقول:ما رأيت كاليوم قط موطناً لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلاً ولا أكثر هارباً خاذلاً؛ فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دماً في قومه، فلحق بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله. ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لايستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعاً فعرفه، فقال: من قتل هذا؟ فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهرة حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصراً للظالمين! قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين! قال: إنك لست بأعرف بضلالهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم مالا تعرف؛ ما لو ثبتوا عليه كانوا إخواناً. وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي، وقتل أبو خثيمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول إلى ساعة يهربون. وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إليه أخيه، فأتاه من المدائن، فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين، ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة، وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا للحجاج

ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملاً، ومن لم يكن شهد قتل عتاب بن ورقاء. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار الناس، فانتهى إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلاُ طيناً، فصددت عنهما، وكرهت أن أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي: لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي؛ وأقبل شبيب حتى نزل الصراة. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيباً خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سوار، فندب الناس، فقال: أيكم يأتي برأس عامل سوار؟ فانتدب له بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا: أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟ قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيباً، فاغتر بذلك العامل منهم. ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء. ثم خرج إليه سفيان بن الأبرد مع الحجاج، وكان اتاه قبل خروجه معه، فقال: إبعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا. ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفة مرة ثانية وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة دخلته الثانية ذكر الخبر عن ذلك وما كان من حربه بها الحجاج قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن موسى بن سوار، قال: قدم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف من الدسكرة الكوفة بعدما قدم جيش الشام الكوفة، وكان مطرف بن المغيرة كتب إلى الحجاج: إن شبيباً قد أطل علي، فابعث إلى المدائن بعثاً. فبعث إليه سيرة بن عبد الرحمن ابن مخنف في مائتي فارس، فلما خرج مطرف يريد الجبل خرج بأصحابه معه وقد أعلمهم ما يريد، وكتم ذلك سبرة، فلما انتهى إلى دسكرة الملك دعا سبرة فأعلمه ما يريدن ودعا إلى أمره، فقال له: نعم أنا معك، فلما خرج من عنده بعث إلى أصحابه فجمعهم، وأقبل بهم فصادف عتاب ابن ورقاء قد قتل وشبيباً قد مضى إلى الكوفة، فأقبل حتى انتهى إلى قرية يقال لها بيطرى، وقد نزل شبيب حمام عمر، فخرج سبرة حتى يعبر الفرات في معبر قرية شاهي، ثم أخذ الظهر حتى قدم على الحجاج، فوجد أهل الكوفة مسخوطاً عليهم، فدخل على سفيان بن الأبرد، فقص قصته عليه وأخبره بطاعته وفراقه مطرفاً، وانه لم يشهد عتاباً ولم يشهد هزيمة في مواطن أهل الكوفة، ولم أزل للأمير عاملاً، ومعي مائتا رجل لم يشهدوا معي هزيمة قط، وهم على طاعتهم ولم يدخلوا في فتنة. فدخل سفيان إلى الحجاج فخبره بخبر ما قص عليه سبرة بن عبد الرحمن، فقال: صدق وبر! قل له: فليشهد معنا لقاء عدونا، فخرج إليه فأعلمه ذلك. وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتاب، ورجال كانوا عمالاً في نحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في نحو من ألف، فنزل زرارة، وبلغ ذلك شبيباً، فتعجل إليه في أصحابه، فلما أنتهى إليه حمل عليه فقتله، وهزم أصحابه، وجاءت المنهزمة فدخلوا الكوفة. وجاء شبيب حتى قطع الجسر، وعسكر دونه إلى الكوفة، وأقام شبيب في عسكره ثلاثة أيام؛ فلم يكن في أول يوم إلا قتل الحارث بن معاوية، فلما كان في اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه وغلمانه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواه السكك مما يلي الكوفة، وخرج أهل الكوفة فأخذوا بأفواه سككهم، وخشوا إن لم يخرجوا موجدة الحجاج وعبد الملك بن مروان. وجاء شبيب

حتى ابتنى مسجداً في أقصى السبخة مما يلي موقف أصحاب القت عند الإيوان، وهو قائم حتى الساعة، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج ابا الورد مولىً له عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة وغلماناُ له، وقالوا له: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحمتكم منه. ثم إن الحجاج أ خرج له غلامه طهمان في مثل تلك العدة على مثل تلك الهيئة، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال إن كان هذا الحجاج فقد أرحمتكم منه. ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فقال: ائتوني ببغل أركبه ما بينى وبين السبخة، فأتى ببغل محجل، فقيل له: إن الأعاجم أصلحك الله تطير أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل، فقال: أدنوه منى، فإن اليوم يوم أغر محجل؛ فركبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثم خرج في أعلى السبخة، فلما نظر الحجاج إلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فلما رأى الحجاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبرة بن عبد الرحمن إلى الحجاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قف على أفواه السكك، فإن جاءوكم فكان فيكم قتال فقاتلوا، فانطلق حتى وقف في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء. وأقبل إليهم شبيب حتى إذا دنى منهم عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم، وكتيية مع المحلل بن وائل، فقال لسويد. احمل عليهم في خيلكن فحمل عليهم، فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدماً حتى انصرف، وصاح الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا. قدم كرسي يا غلام، وأمر شبيب المحلل. فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعلوا بسويد، فناداهم الحجاج: يا أهل السمع والطاعة؛ هكذا فافعلوا، قدم كرسي يا غلام. ثم إن شبيباً حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له، حتى إذا غشى أطراف الرماح وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلاً. ثم إن أهل الشام طعنوه قدماً حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد، احمل في خيلك على أهل هذه السكة - يعني سكة لحام جرير - لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه. فانفرد سويد بن سليم فحمل على أهل تلك السكة؛ فرمى من فوق البيوت رأفواه السكك، فانصرف، وقد كان الحجاج جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلثمائة رجل من أهل الشام ردءاً له ولأصحابه لئلا يؤتوا من ورائه. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط: إن شبيباً قال لنا يومئذ: يا أهل الإسلام إنما شرينا الله. ومن شرى الله لم يكبر عليه ما أصابه من أذى والألم في جنب الله. الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة. ثم جمع أصحابه، فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه:

يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة. ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح. فجثوا على الركب. وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه. فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس. فوثبوا في وجه، فما زالوا يطعنون ويضربون قدماً ويدفعون شبيباً وأصابه وهو يقاتلهم حتى بلغوا موضع بستان زائدة. فلما بلغ ذلك المكان نادى شبيب أصحابه: يا أولياء الله، الأرض الأرض. ثم نزل وأمر أصحابه فنزل نصفهم وترك نصفهم مع سويد بن سليم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبث، ثم قال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، هذا أول الفتح والذي نفس الحجاج بيده! وصعد المسجد معه نحو من عشرين رجلاً معهم النبل، فقال: إن دنوا منا فارشقوهم، فاقتتلوا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه. ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: إئذن لي في قتالهم فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحة، قال: فإني قد أذنت لك، قال: فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم، فقال له: افعل ما بدا لك، قال: فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصاداً أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، قتلها فروة بن الدفان الكلبي، وحرق في عسكره، وأتى ذلك الخبر الحجاج وشبيباً، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا تكبيرة واحدة، وأما شبيب فوثب هو وكل راجل معه على خيولهم، وقال الحجاج لأهل الشام: شدوا عليهم فإنه قد أتاهم ما أرعب قلوبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب قال: لما انهزم الناس فخرج من الجسر تبعه خيل الحجاج، قال: فجعل يخفق برأسه، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك؛ قال: فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه؛ قال: ودنوا منا؛ فقلنا يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك، قال: فالتفت والله غير مكترث، ثم جعل يخفق برأسه. قال: فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق الله وناره، فتركوه ورجعوا. قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني أبو عمرو العذرى، قال: قطع شبيب الجسر حين عبر.قال: وقال لي فروة: كنت معه حين انهزمنا فما حرك الجسر، ولا اتبعونا حتى قطعنا الجسر. ودخل الحجاج الكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله، ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هارباً، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. وقد قيل في قتال الحجاج شبيباً بالكوفة ما ذكره عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن المغيرة بن عطية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مزاحم بن زفر بن جساس التيمي، قال: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه وهو على سرير عليه لحاف، فقال: إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشير علي؛ إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم، ودخل حريمكم، وقتل مقاتلتكم، فأشيروا على؛ فأطرقوا. وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: إن أذن لي الأمير تكلمت، فقال: تكلم، فقال: إن الأمير والله ما راقب الله، ولا حفظ أمير المؤمنين. ولا نصح للرعية. ثم جلس بكرسيه في الصف. قال: وإذا هو قتيبة، قال: فغضب الحجاج وألقى اللحاف، ودلى قدميه من السرير كأني أنظر إليهما؛ فقال: من المتكلم؟ قال: فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج إليه فتحاكمه؛ قال: فارتد لي معسكراً ثم اغد إلى، قال: فخرجنا نلعن عنسبة بن سعيد، وكان كلم الحجاج في قتيبة، فجعله من أصحابه، فلما أصيحنا وقد أوصينا جميعاً. غدونا في السلاح، فصلى الحجاج الصبح ثم دخل، فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة فيقول: أجاء بعد؟ أجاء بعد؟ ولا ندري من يريد! وقد أفعمت المقصورة بالناس، فخرج الرسول فقال: أجاء بعد؟ وإذا قتيبة يمشي في المسجد عليه قباء هروى أصفر، وعمامة خز أحمر، متقلداً سيفاً عريضاً قصير الحمائل كأنه في إبطه، قد أدخل بركة قبائه في منطقته، والدرع يصفق ساقيه وفتح له الباب فدخل ولم يحجب، فلبث طويلاً ثم خرج، وأخرج معه لواءً منشوراً. فصلى الحجاج ركعتين، ثم قام فتكلم، وأخرج اللواء من باب الفيل. وخرج الحجاج يتبعه، فإذا بالباب بغلة شقراء غراء

محجلة فركبها، وعارضه الوصفاء بالدواب، فأبى غيرها. وركب الناس. وركب قتيبة فرساً أغر محجلا كوميتاً كأنه في سرجه رمانة من عظم السرج، فأخذ في طريق دار السقاية حتى خرج إلى السبخة وبها عسكر شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، ثم غدوا يوم الخميس للقتال، ثم غادوهم يوم الجمعة. فلما كان وقت الصلاة انهزمت الخوارج. قال أبو زيد: حدثني خلاد بن يزيد، قال: حدثنا الحجاج بن قتيبة، قال: جاء شبيب وقد بعث إليه الحجاج أميراً فقتله، ثم آخر فقتله. أحدهما أعين صاحب حمام أعين، قال: فجاء حتى دخل الكوفة ومعه غزالة، وقد كانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران. قال: ففعلت. قال: واتخذ شبيب في عسكره أخصاصاً، فقام الحجاج فقال: لا أراكم تناصحون في قتال هؤلاء القوم يا أهل العراق! وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين ليمدني بأهل الشام. قال: فقام قتيبة فقال: إنك لم تنصح لله ولا لأمير المؤمنين في قتالهم. قال عمر بن شبة: قال خلاد: فحدثني محمد بن حفص بن موسى ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان التميمي أن الحجاج خنق قتيبة بعمامته خنقاً شديداً. ثم رجع الحديث إلى حديث الحجاج وقتيبة. قال: فقال: وكيف ذاك؟ قال: تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعاً من الناس فينهزمون عنه. ويستحي فيقاتل حتى يقتل؛ قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيؤاسونك بأنفسم. قال: فلعنه من ثم. وقال: والله لأبرزن له غداً؛ فلما كان الغد حضر الناس، فقال قتيبة: اذكر يمينك أصلح الله الأمير! فلعنوه أيضاً. وقال الحجاج: اخرج فارتد لي معسكراً، فذهب فتهيأ وهو وأصحابه فخزجوا، ف أتى على موضع فيه بعض القذر: موضع كناسة، فقال: ألقوا لي هاهنا. فقيل: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعونني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقه طيبة. قال: فنزل وصف الناس وخالد بن عتاب بن ورقاء مسخوط عليه فليس في القوم، وجاء شبيب وأصحابه فقربوا دوابهم، وخزجوا يمشون، فقال لهم شبيب: الهوا عن رميكم، ودبوا تحت تراسكم، حتى إذا كانت أسنتهم فوقها، فأصدقوها صعداً، ثم ادخلوا تحتها لتستقلوا فتقطعوا أقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله. فأقبلوا يدبون إليهم. وجاء خالد بن عتاب في شاكريته، فدار من وراء عسكرهم، فأضرم أخصاصهم بالنار. فلما رأوا ضوء النار وسمعوا معمعتها التفتوا فرأوها في بيوتهم، فولوا إلى خيلهم وتبعهم الناس، وكانت الهزيمة. ورضي الحجاج عن خالد، وعقد له على قتالهم. قال: ولما قتل شبيب عتاباً أراد دخول الكوفة ثانية، فأقبل حتى شارفها فوجه إليه الحجاج سيف بن هانىء ورجلاً معه ليأتياه بخبر شبيب، فأتيا عسكره، ففطن بهما، فقتل الرجل، وأفلت سيف، وتبعه رجل من الخوارج، فأوثب سيف فرسه ساقية، ثم سأل الرجل الأمان على أن يصدقه، فآمنه، فأخبره ان الحجاج بعثه وصاحبه ليأتياه بخبر شبيب. قال: فأخبره أنا نأتيه يوم الاثنين. فأتى سيف الحجاج فأخبره؛ فقال: كذب وماق، فلما كان يوم الاثنين توجهوا يريدون الكوفة، فوجه إليهم الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي، فلقيه شبيب بزرارة فقتله، وهزم أصحابه ودنا من الكوفة فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلاً على شاطىء الفرات في دار الرزق. فأقبل البطين وقد وجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقوى عليهم، فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه ونجا، ومضى البطين إلى دار الرزق، وعسكر على شاطىء الفرات

وأقبل شبيب فنزل دون الجسر، فلم يوجه إليه الحجاج أحداً، فمضى فنزل السبخة بين الكوفة والفرات، فأقام ثلاثاً لا يوجه إليه الحجاج أحداً، فأشير على الحجاج ان يخرج بنفسه، فوجه قتيبة بن مسلم، فهيأ له عسكراً ثم رجع، فقال: وجدت المآتي سهلاً، فسر على الطائر الميمون؛ فنادى في أهل الكوفة فخرجوا، وخرج معه الوجوه حتى نزلوا في ذلك العسكر وتواقفوا، وعلى ميمنة شبيب البطين. وعلى ميسرته قعنب مولى بني أبي ربيعة بن ذهل، وهو في زهاء مائتين. وجعل الحجاج على ميمنته مطر بن ناجية الرياح. وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء الرياح في زهاء أربعة آلاف. وقيل له: لاتعرفه موضعك، فتنكر وأخفي مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب، فحمل عليه، فضربه بعمود وزنه خمسة عشر رطلاً فقتله، وشبه له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، وهو مولىً لبكر بن وائل فقتله، فركب الحجاج بغلة غراء محجلة، وقال: إن الدين أغر محجل، وقال لأبي كعب: قدم لواءك، أنا ابن أبي عقيل. وحمل شبيب على خالد بن عتاب وأصحابه، فبلغ بهم الرحبة، وحملوا على مطر بن ناجية فكشفوه، فنزل عند ذلك الحجاج وأمر أصحابه فنزلوا، فجلس على عباءة ومع عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلول الضبي لجام شبيب؛ فقال: ما تقول في صالح بن مسرح؟ وبم تشهد عليه؟ قال: أعلى هذا الحال، وفي هذه الحزة؟؟! والحجاج ينظر، قال: فبرىء من صالح، فقال مصقلة: برىء الله منك. وفلرقوه إلا أربعين فارساً هم أشد أصحابه، وانحاز الآخرون إلى دار الرزق؛ وقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتاهم فقاتلهم، فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج فارس فعرفه شبيب، فأمر علوان فشد على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ودفنه وقال: هي أقرب إليكم رحماً - يعني غزالة.
ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف القوم. فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم. وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتى شبيب في موقفه بخطوط بني عمير السدوسي. فقال له شبيب: يا خوط، لاحكم إلا لله، فقال: لاحكم إلا لله، فقال شبيب: خوط من أصحابكم. ولكنه كان يخاف، فأطلقه. وأتى بعمير بن القعقاع، فقال له: لاحكم إلا لله يا عمير، فجعل لايفقه عنه، ويقول: في سبيل الله شبابي. فردد عليه شبيب: لاحكم إلا لله. ليتخلصه، فلم يفقه، فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تيعوا خالداً فأبطئوا. ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لايقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد إلى الحجاج فأمرهما فأتبعا الرهط الثمانية. واتبع الرهط شبيباً، فمضوا جميعاً حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديراً هناك وخالد يقفوهم. فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحواً من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارساً وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض؛ فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة؛ والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف، عن أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى الله هارباً، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. ثم دعا حبيب بن

عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه. فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن؛ فكان كل من ليست تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: عن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيباً منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب بيتنا. قال: فلما أمسينا جميعاً حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعاً. وقال لكل ربع منا: ليجزي كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون؛ فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلاً، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعيدبن بحل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعيد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلاً، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، لايفارقنا، ثم نازلنا راجلاً طويلاً، فسقط والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحواً من ثلاثين، وقتلوا منا نحواً من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم، ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شئ من الإعياء والضعف، ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالساً ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يأسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: أركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفاً عنا. قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه: صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقاتلته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، ولآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفاً، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟ قال: بلغني أنه قد نزل منا قريباً، وايم الله لوددت اني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتاً، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو مات، فانصرفت راجعاً، فأستقبل الآخر خارجاً من القرية، قال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: ما لك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضربنا بسيفنا ساعة، فوالله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته؛ قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم إلى فارس، ثم ارتفعنا إلى كرمان.
ذكر الخبر عن مهلك شبيبوفي هذه السنة في قول هشام بن محمد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين.

ذكر سبب هلاكه: قال هشام: عن أبي مخنف: قال: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه - يعني إلى شبيب - فقسم فينا مالاً عظيماً، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعاً، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة. أما بعد، فابعث رجلاً شجاعاً شريفاً من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، وهو كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره. قال: قلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلاً من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه. فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا. وقال لنا سفيان بن الأبرد: لاتنصرفوا. ولكن لتزحف الرجال إليهم زحفاًن فوالله لازلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما اتنهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من اطعن والضرب شيئاً ما رأينا مثله من قوم قط. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن من ذلك ظفرهم. دعا الرماة فقال: ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل عند المساء، وقد صفهم سفيان بم الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلاً، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامداً نحونا؛ فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا. فقال سفيان لأصحابه: أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة. قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس انثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " . فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: " ذلك تقدير العزيز العليم " . قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث - وكان ممن يقاتله من أهل الشام. وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهخد مواطنه - فأما رجل من بني رهطة من بني مرة بن همام فإنه حدثني انه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالاً كثيراً، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم؛ وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالاً من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلاً، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري!

فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال بلى، قال: فإنما فعلت ما كان ينبغي، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت م رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين؛ قال: إني لا أجد من ذلك. وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا انه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق. قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضاً؛ وأما حديث العامة فالحديث الأول. قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين اميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! عن رجلاً منهم وقع في الماء فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر ولا آثر. فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيراً، وأصبحنا فطلبنا شبيباً حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه ثق شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعاً صلباً كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ فقال سفيان: إحمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا.
قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال: كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني أعلم أني لما ولدته أنه خرج مني شهاب من نار، فعلمت إنه لا يطفئه إلا الماء. قال هشام عن أبي مخنف: حدثني فروة بن لقيط الأزدي ثم الغامري أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سليمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مدداً لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين اول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه، فضربها فلم تزدد إلا عصياناً، فلما رأى ذلك امر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيباً، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت. وأحبت مولاها حباً شديداً - وكانت حدثة - وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الإسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيباً وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم انه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهرقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه إني أرى ولدي هذا غلاماً، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعاً. قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف. قتال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن أن جند أهل الشام الذين جاؤوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لانفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر؛ فبلغ شبيباً امرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة. أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، وعه غلام له يقال له حيان، وأمره

أنيحمل معه إدواة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من المعسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرساً، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حره ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة؛ وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكماً فضرب الناس بعضهم بعضاً، فقام صحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود وأوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه لا أجد لي مكرمة ولا ذكراً أرفع من قتلي هذا، وهو أماني عند الحجاج، فاستقبلته الرعدة حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإدواة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موجزه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه الماء. فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به. ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره. خروج مطرف بن المغيرة على الحجاج وعبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل. ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان: قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافاً بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم. قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همذان.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد بن عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني فأنا أسعد الناس، وإن لم أفعل فنفسي أوبقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلى حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيراً ماستطعت.ثم نزل. وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيتوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، عن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد استعمله بعد ذلك على بيت المال - فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائياً حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ماذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سرته برضا الله والناس، فقال له مطرف: هاهنا إلي؛ فأوسع له وجلس في جنبه. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد انه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكاراً للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعراً فقال:
إني كلفت بخود غير فاحشة ... غراء وهنانة حسانة الجيد
كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت ... تمشي مع الآنس الهيف الأماليد
سل الهوى بعلنداة مذكرة ... عنها إلى المجتدي ذي العرف والجود
إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه ... في الناس ساعة يحلى كل مردود
من الأكارم أنساباً إذا نسبوا ... والحامل الثقل يوم المغرم الصيد
إني أعيذك بالرحمن من نفر ... حمر السبال كأسد الغابة السود
فرسان شيبان لم نسمع بمثلهم ... أبناء كل كريم النجل صنديد

شدوا على ابن حصين في كتيبته ... فغادره صريعاً ليلة العيد
وابن المجالد أردته رماحهم ... كأنما زل عن خوصاء صيخود
وكل جمع بروذابار كان لهم ... قد فيض بالطعن بين النخل والبيد
فقال له: ويحك! ما جئت إلا لترغبنا. وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيباً قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فقل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها. فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فأقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى و القصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلى رجالا من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدنى منهم المعبر وأرداوا أن ينزلوا فيه أرسل إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف أمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه. فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة - وكان على حرس مطرف - فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه. قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف بن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: إني كنت في الجند الذين كانوا معهم، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي وداً مكرماً، ولم يكن ليستر منا شيئاً، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم مطرف: قصوا على أميركم، وخبروني ماالذي تطلبون؟ وإلام تدعون؟ فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعوا إليه كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفئ وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية. فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جوراً ظاهراً، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر فإن يكن ما تدعون إليه حقاً نجبك؛ قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوه، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب؛

فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون. قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبداً، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال: يا بن المغيرة لو كان القوم عداةً غدراً كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى. قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم: إن أصبحتم فليأته أحدكم؛ فلما أصبحوا بعث إليه سويداً وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن أنصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر؛ فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذي ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إن لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن إختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإن قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا إضطلاعاً لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا. وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: إن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشاً كان أكثر لتبعكم منهم؛ فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيراً أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشاً أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب. وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فإن قال: لقرابة محمد صلى الله عليه وسلم بهم فقولوا له: فوالله ما كان ينبغي إذاً لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة محمد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبقى غيرهم؛ ولو لا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعاً بحمل أمورهم ما تولى أمور الناس. ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين وإلا يفعل، فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين. فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا.
فرجع، ودعا مطرف رجالاً من أهل ثقاته وأهل نصائحه؛ منهم سليمان بن حذيفة المزني، والربيع بن يزيد الأسدي. قال النضر بن صالح: وكنت أنا ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة قائمين على رأسه بالسيف، وكان على حرسه، فقال لهم مطرف: يا هؤلاء، إنكم نصحائي

وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، والله مازلت لأعمال هؤلاء الظلمة كارهاً، أنكرها بقلبي، وأغيرها ما استطعت بفعلي وأمري، فلما عظمت خطيئتهم، ومر بي هؤلاء القوم يجاهدونهم، لم أر أنه يسعني إلا مناهضتهم وخلافهم إن وجدت أعواناً عليهم، وإني دعوت هؤلاء القوم فقلت لهم كيت وكيت، وقالوا لي كيت وكيت، فلست أرى القتال معهم، ولو تابعوني على رأيي وعلى ما وصفت لهم لخلعت عبد الملك والحجاج، ولسرت إليهم أجاهدهم . فقال له المزني: إنهم لن يتابعوك، وإنك لن تتابعهم فأخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد، وقال له الأسدي مثل ذلك، فجثا مولاه ابن أبي زياد على ركبتيه ثم قال: والله لا يخفى مما كان بينك وبينهم على الحجاج كلمة واحدة، وليزادن على كل كلمة عشرة أمثالها، والله أن لو كنت في السحاب هارباً من الحجاج ليلتمسن أن يصل إليك حتى يهلكك أنت ومن معك؛ فالنجاء النجاء من مكانك هذا، فإن أهل المدائن من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وأهل عسكر شبيب يتحدثون بما كان بينك وبين شبيب، ولا تمس من يومك هذا حتى يبلغ الخبر الحجاج؛ فاطلب داراً غير المدائن. فقال له صاحباه: ما نرى الرأي إلا كما ذكر لك، قال لهما مطرف: فما عندكما؟ قالا: الإجابه إلى ما دعوتنا إليه والمؤاساة لك بأنفسنا على الحجاج وغيره. قال: ثم نظر إلي، فقال: ما عندك؟ فقلت: قتال عدوك، والصبر معك ما صبرت، فقال لي: ذاك الظن بك. قال: ومكث حتى إذا كان في اليوم الثالث أتاه قعنب فقال له: إن تابعتنا فأنت منا، وإن أبيت فقد نابذناك، فقال: لا تعجلوا اليوم فإنا ننظر. قال: وبعث إلى أصحابه أن ارحلوا الليلة من عندي آخركم حتى توفوا الدسكرة معي لحدث حدث هنالك. ثم أجدلج وخرج أصحابه معه حتى مر بدير يزد جرد فنزله، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن القحافي من خثعم، فدعاه إلى صحبته، فصحبه فكساه وحمله. وأمر له بنفقة، ثم سار حتى نزل الدسكرة، فلما أراد أن يرتحل منها لم يجد بداً من أن يعلم أصحابه ما يريد، فجمع إليه رؤوس أصحابه، فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله، ثم قال لهم: أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب " وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجود، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا. قال: فوثب إليه أصحابه فبايعوه، ثم إنه دخل رحله وبعث إلى سبر بن عبد الرحمن بن مخنف وإلى عبد الله بن كناز النهدي فاستخلاهما، ودعاهما إلى مثل ما دعا إليه عامة أصحابه، فأعطياه الرضا، فلما ارتحل انصرفا بمن معهما من أصحابه حتى أتيا الحجاج فوجداه قد نازل شبيباً، فشهدا معه وقعة شبيب. قال: وخرج مطرف بأصحابه من الدسكرة موجهاً نحو حلوان، وقد الحجاج بعث في تلك السنة سويد بن عبد الرحمن السعدي على حلوان وماسبذان؛ فلما بلغه أن مطرف بن المغيرة قد أقبل نحو أرضه عرف أنه إن رفق في أمره أو داهن لا يقبل ذلك منه الحجاج، فجمع له سويد أهل البلد والأكراد، فأما الأكراد فأخذوا عليه ثنية حلوان، وخرج إليه سويد وهو يحب أن يسلم من قتاله، وأن يعافى من الحجاج، فكان خروجه كالتعذير. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقم الخثعمي أن

الحجاج بن جارية الخثعمي حين سمع بخروج مطرف من المدائن نحو الجبل أتبعه في نحو من ثلاثين رجلا من قومه وغيرهم. قال: وكنت فيهم فلحقناه بحلوان، فكنا ممن شهد معه قتال سويد بن عبد الرحمن. قال أبو مخنف: وحدثني بذلك أيضاً النضر. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة. قال: ما هو إلا أن قدمنا على مطرف بن المغيرة، فسر بمقدمنا عليه. وأجلس الحجاج ابن جارية معه على مجلسه. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح. وعبد الله بن علقمة، أن سويداً لما خرج إليهم بمن معه وقف في الرجال ولم يخرج بهم من البيوت، وقدم ابنه القعقاع في الخيل، وما خيله يومئذ بكثير. قال أبو مخنف: قال النضر بن صالح: أراهم كانوا مائتين، وقال ابن علقمة: أراهم كانوا ينقصون عن الثلثمائة. قال: فدعا مطرف الحجاج بن جارية فسرحه إليهم في نحو من عدتهم، فأقبلوا نحو القعقاع وهم جادون في قتاله، وهم فرسان متعالمون، فلما رآهم سويد قد تيسروا نحو ابنه أرسل إليهم غلاماً يقال له رستم - قتل معه بعد ذلك بدير الجماجم - وفي يده راية بني سعد، فانطلق وغلامه حتى انتهى إلى الحجاج بن جارية، فأسر إليه: إن كنتم تريدون الخروج من بلادنا هذه إلى غيرها فاخرجوا عنا، فإنا لا نريد قتالكم، وإن كنتم إيانا تريدون فلا بد من منع ما في أيدينا. فلما جاءه بذلك قال له الحجاج بن جارية: إئت أميرنا فاذكر له ماذكرت لي، فخرج حتى أتى مطرفاً فذكر له مثل الذي ذكر للحجاج بن جارية، فقال له مطرف: ما أريدكم ولا بلادكم، فقال له: فالزم هذا الطريق حتى تخرج من بلادنا، فإنا لا نجد بداً من أن يرى الناس وتسمع بذلك أنا قد خرجنا

إليك. قال: فبعث مطرف إلى الحجاج فأتاه، ولزموا الطريق حتى مروا بالثنية فإذا الأكراد بها، فنزل مطرف ونزل معه عامة أصحابه وصعد إليهم في الجانب الأيمن الحجاج بن جارية، وفي الجانب الأيسر سليمان بن حذيفة، فهزماهم وقتلاهم، وسلم مطرف وأصحابه فمضوا حتى دنوا من همذان، فتركها وأخذ ذات اليسار إلى ما دينار، وكان أخوه حمزة بن المغيرة على همذان، فكره أن يدخلها فيتهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرض ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة: أما بعد، فإن النفق قد كثرت والمؤنة قد اشتدت، فامدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح. وبعث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلاً، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! أنت قتلت مطرفاً؟ فقال له: ما أنا قتلته جعلت فداك! ولكن مطرفاً قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، فقال له: ويحك! من سول له هذا الأمر! فقال: نفسه سولت هذا له. ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه ثم قال: نعم، وأنا باعث إليه بمال وسلاح، ولكن أخبرني ترى ذلك يخفى لي؟ قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزة: فوالله لئن أنا خذلته في أنفع النصرين له نصر العلانية، لا أخذله في أيسر النصرين نصر السريرة. قال: فسرح إليه مع يزيد بن أبي زياد بمال وسلاح، فأقبل به حتى أتى مطرفاً ونحن نزول في رستاق من رساتيق ماه دينار، يقال له: سامان متاخم أرض أصبهان، وهو رستان كانت الحمراء تنزله. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، قال: والله ما هو إلا أن مضى يزيد بن أبي زياد، فسمعت أهل العسكر يتحدثون أن الأمير بعث إلى أخيه يسأله النفقة والسلاح، فأتيت مطرفاً فحدثته بذلك ، فضرب بيده على جبهته ثم قال: سبحان الله! قال الأول: ما يخفى إلا ما لا يكون، قال: وما هو إلا أن قدم يزيد بن أي زياد علينا. فسار مطرف بأصحابه حتى نزل قم وقاشان وأصبهان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة أن مطرفاً حين نزل قم وقاشان واطمئن، دعا الحجاج بن جارية فقال له: حدثني عن هزيمة شبيب يوم السبخة أكانت وأنت شاهدها، أم كنت خرجت قبل الوقعة؟ قال : لا. بل شهدتها؛ قال: فحدثني حديثهم كيف كان؟ فحدثه، فقال: إني كنت أحب أن يظفر شبيب وإن كان ضالاً فيقتل ضالاً. قال: فظننت أنه تمنى ذلك لأنه كان يرجوا أن يتم له الذي يطلب لو هلك الحجاج، قال: ثم إن مطرفاً بعث عماله. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أن مطرفاً عمل عملاً حازماً لو لا أن الأقدار غالبة. قال: كتب مع الربيع بن يزيد إلى سويد ابن سرحان الثقفي، وإلى بكير بن هارون البجلي: أما بعد، فإنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى جهاد من عند عن الحق، واستأثر بالفئ، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحق ودمغ الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمة يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمن قبل هذا منا كان أخانا في ديننا. وولينا في محيانا ومماتنا، ومن رد ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه فكفى بنا عليه حجة، وكفى بتركه الجهاد في سبيل الله غبناُ، وبمداهنة الظالمين في أمر الله وهناً! إن الله كتب القتال على المسلمين وسماه كرهاً، ولن ينال رضوان الله إلا بالصبر على أمر الله، وجهاد أعداء الله، فأجيبوا رحمتكم الله إلى الحق. وادعوا إليه من ترجون إجابته، وعرفوه ما لا يعرفه، وليقبل إلى كل من رأى رأينا، وأجاب دعوتنا، ورأى عدوه عدونا. أرشدنا الله وإياكم، وتاب علينا وعليكم، إنه هو التواب الرحيم. والسلام. فلما قدم الكتاب على ذينك الرجلين دباً في رجال من أهل الري ودعوا من تابعهما، ثم خرجا في نحو من مائة من أهل الري سراً لا يفطن بهم، فجاءوا حتى وافوا مطرفاً. وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان: أما بعد، فإن كان للأمير أصلحه الله حاجة في أصبهان فليبعث إلى مطرف جيشاً كثيفاً يسأصله ومن معه، فإنه لا تزلا عصابة قد انتفحت له من بلدة من البلدان حتى توافيه بمكانه الذي هو به، فإنه قد استكشف وكثر تبعه، والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، إذا أتاك رسولي فعسكر بمن معك، فإذا مر بك عدي

ابن وتاد فاخرج معه في أصحابك، واسمع له وأطع. والسلام. فلما قرأ كتابه خرج فعسكر، وجعل الحجاج بن يوسف يسرح إلى البراء بن قبيصة الرجال على دواب البريد عشرين عشرين. وخمسة عشر خمسة عشر، وعشرة وعشرة، حتى سرح إليه نحواً من خمسمائة، وكان في ألفين. وكان الأسود بن سعد الهمذاني أتى الري في فتح الله على الحجاج يوم لقي شبيباً بالسبخة، فمر بهمذان والجبال، ودخل على حمزة فاعتذر إليه، فقال الأسود: فأبلغت الحجاج عن حمزة، فقال: قد بلغني ذاك، وأراد عزله، فخشي أن يمكر به، وأن يمتنع منه، فبعث إلى قيس بن سعيد العجلي - وهو يومئذ على شرطة حمزة بن المغيرة ولبني عجل وربيعة عدد بهمذان - فبعث إلى قيس بن سعد بعهده على همذان،وكتب إليه أن أوثق حمزة ابن المغيرة في الحديد، واحبسه قبلك حتى يأتيك أمري. فلما أتاه عهده وأمره أقبل ومعه ناس من عشيرته كثير، فلما دخل المسجد وافق الإقامة لصلاة العصر. فصلى حمزة، فلما انصرف حمزة انصرف معه قيس بن سعد العجلي صاحب شرطة، فأقرأه كتاب الحجاج إليه، وأراه عهده، فقال حمزة. سمعاً وطاعةً؛ فأوثقه وحبسه في السجن، وتولى أمر همذان، وبعث عماله عليها، وجعل عماله كلهم من قومه؛ وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أني قد شددت حمزة بن المغيرة في الحديد، وحبسته في السجن وبعث عمالي على الخراج، ووضعت يدي في الجباية، فإن رأي الأمير أبقاه الله أن يأذن لي في المسير إلى مطرف أذن لي حتى أجاهده في قومي، ومن أطاعني من أهل بلادي؛ فإني أرجو أن يكون الجهاد أعظم أجراً من جباية الخراج. والسلام. فلما قرأ الحجاج كتابه ضحك ثم قال: هذا جانب آثراً ما قد أمناه. وقد كان حمزة بهمذان أثقل ما خلق الله على الحجاج مخافة أن يمد أخاه بالسلاح والمال، ولا يدري لعله يبدو له فيعق، فلم يزل يكيده حتى عزله؛ فاطمأن وقصد قصد مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثل أن الحجاج لما قرأ كتاب قيس بن سعد العجلي وسمع قوله: إن أحب الأمير سرت إليه حتى أجاهده في قومي، قال: ما أبغض إلى أن تكثر العرب في أرض الخراج. قال: فقال لي ابن الغرق: ما هو إلا أن سمعتها من الحجاج فعلمت أنه لو قد فرغ له قد عزله. قال: وحدثني النضر بن صالح أن الحجاج كتب إلى عدي بن وتاد الإيادي وهو على الري يأمره بالمسير إلى مطرف بن المغيرة وبالممر على البراء ابن قبيصة، فإذا اجتمعوا فهو أمير الناس. قال أبو مخنف: وحدثني أبي عند عبد الله بن زهير، عن عبد الله بن سليم الأزدي، قال: إني لجالس مع عدي بن وتاد على مجلسه بالري إذ أتاه كتاب الحجاج، فقرأه ثم دفعه إلي، فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فانهض بثلاثة أرباع من معك من أهل الري، ثم أقبل حتى تمر بالبراء بن قبيصة بجي، ثم سيرا جميعاً، فإذا لقيتهما فأنت أمير الناس حتى يقتل الله مطرفاً، فإذا كفى الله المؤمنين مؤنته فانصرف إلى عملك في كنف من الله وكلاءته وستره، فلما قرأته قال لي: قم وتجهز. قال: وخرج فعسكر، ودعا الكتاب فضربوا البعث على ثلاثة أرباع الناس، فما مضت جمعة حتى سرنا فانتهينا إلى جي، ويوافينا بها قبيص القحافي تسعمائة من أهل الشام، فيهم عمر بن هبيرة، قال: ولم نلبث بجي إلا يومين حتى نهض عدي بن وتاد بمن أطاعه من الناس ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من أهل الري وألف مقاتل مع البراء بن قبيص بعثهم إليه الحجاج من الكوفة، وسبعمائة من أهل الشام، ونحو ألف رجل من أهل أصبهان والأكراد، فكان في قريب من ستة آلاف مقاتل، ثم أقبل حتى دخل على مطرف بن المغيرة. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، عن عبد الله بن علقمة. أن مطرفاً لما بلغه مسيرهم إليه خندق على أصحابه خندقاً، فلم يزالوا فيه

حتى قدموا عليه. قال أبو مخنف: وحدثني يزيد مولى عبد الله بن زهير، قال: كنت مع مولاي إذ ذاك؛ قال: خرج عدي بن وتاد فعبى الناس، فجعل على ميمنته عبد الله بن زهير، ثم قال للبراء بن قبيصة: قم في الميسرة، فغضب البراء، وقال: تأمرني بالوقوف في الميسرة وأن أمير مثلك! تلك خيلي في الميسرة، وقد بعثت عليها فارس مصر الطفيل بن عامر بن واثلة، قال: فأنهي ذلك إلى عدي بن وتاد، وقال لابن أقيصر الخثعمي: إنطلق فأنت على الخيل، وانطلق إلى البراء بن قبيص فقل له: إنك قد أمرت بطاعتي، ولست من الميمنة والميسرة والخيل والرجالة في شئ، إنما عليك أن تؤمر فتطيع، ولا تعرض لي في شئ أكرهه فأتنكر لك - قد كان له مكرماً. ثم إن عدياً بعث على الميسرة عمر بن هبيرة، وبعث في مائة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطفيل بن عامر: خل رايتك وتنح عنا، فإنما نحن أصحاب هذا الموقف، فقال الطفيل: إني لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البراء من قبيصة، وهو أميرنا، وقد علمنا أن صاحبكم على جماعة الناس، فإن كان قد عقد لصاحبكم هذا فبارك الله له، ما أسمعنا وأطوعنا! فقال لهم عمر بن هبيرة: مهلاً، كفوا عن أخيكم وابن عمكم، رايتنا رايتك، فإن شئت آثرناك بها. قال: فما رأينا رجلين كانا أحلم منهما في موقفهما ذلك. قال: ونزل عدي بن وتاد ثم زحف نحو مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح وعبد الله بن علقمة أن مطرفاً بعث على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، وعلى الحامية سليمان بن صخر المزني، ونزل هو يمشي في الرجال، ورأيته مع يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة. قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانوا قال لبكير بن هارون البجلي: اخرج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبكتم بأعماله الخبيثة. فخرج إليهم بكير بن هارون على فرس لهم أدهم أرح ذنوب عليه الدرع والمغفر والساعدان، في يده الرمح، شد درعه بعصابة حمراء من حواشي البرود، فنادى بصوت عال رفيع: يا أهل قبلتنا، وأهل ملتنا، وأهل دعوتنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تسرون مثل علمه بما تعلنون لما أنصفتمونا وصدقتمونا، وكانت نصيحتكم لله لا لخلقه، وكنتم شهداء لله على عباده بما يعلمه الله من عباده. خبروني عن عبد الملك بن مروان، وعب الحجاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبارين مستأثرين يتبعان الهوى، فيأخذان بالظنة، ويقتلان على الغضب. قال: فتنادوا من كل جانب: يا عدو الله كذبت، ليسا كذلك، فقال لهم: ويلكم " لا تفترون على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " ويلكم، أو تعلمون من الله ما لا يعلم، إني قد استشهدتكم وقد قال الله في الشهادة: " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " .
فخرج إليه صارم مولى عدي بن وتاد وصاحب رايته، فحمل على بكير ابن هارون البجلي، فاضربا بسيفهما، فلم تعمل ضربة مولى عدي شيئاً، وضربه بكير بالسيف فقتله، ثم استقدم، فقال: فارس لفارس، فلم يخرج إليه أحد، فجعل يقول:
صارم قد لاقيت سيفاً صارماً ... وأسداً ذا لبدة ضارماً
قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسرة، وفيها الطفيل بن عامر بن واثلة، فالتقى هو والطفيل - وكانا صديقين متؤاخيين - فتعارفا، وقد رفع كل منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلاً، ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه. ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلاً، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشف ميسرة مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه. ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالاً طويلاً، ثم إنه حذره حتى اتنهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سليمان بن صخر المزني فقتله، وانكشف خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه جعل يناديهم يومئذ: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا

أشهدوا بأنا مسلمون " . قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده إلى عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسناً. قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف. قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحاً ناسكاً عفيفاً. أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأساً مع ابن أقيصر الخثعمي، فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله قد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيراً. قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت ؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ماله؟ قال: فأخبره بمقالتي؛ فقال إنه ضعيف العقل؛ قال: ثم انصرفنا إلى الري بن عدي بن وتاد. قال: وبعث رجالاً من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم. قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال مكن أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا. فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناساً كثيراً فخلى عنهم.
قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلى فيه. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير، قال: كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف: أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعداً له. فذاك ما هو أهوى وأحب؛ وإن كان حياً فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلى إن شاء الله. والسلام.
قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولابد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه. وقمنا من عنده. قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفاً حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنته. وقال حبيب بن خدرة مولى لبنى هلال بن عامر:
هل أتى فائد عن أيسارنا ... إذ خشينا من عدو خرقا
إذ أتاني الخوف من مأمننا ... فطوينا في سواد أفقا
وسلي هدية يوم هل رأيت ... بشراً أكرم منا خلقا!
وسليها أعلى العهد لنا ... أو يصيرون علينا حنقا!
ولكم من خلة من قبلها ... قد صرمنا حبلها فانطلقا
قد أصبنا العيش عيش ناعماً ... وأصبنا العيش عيشاً رنقا
وأصبت الدهر دهراً اشتهى ... طبقاً منه وألوى طبقا
وشهدت الخيل في ملومة ... ما ترى منهن إلا الحدقا
يتساقون بأطراف القنا ... من نجيع الموت كأسا دهقا
فطراد الخيل قد يؤنقني ... ويرد اللهو عني الأنقا
بمشيح البيض حتى يتركوا ... لسيوف الهند فيها طرقا
فكأني من غد وافقتها ... مثل ما وافق شن طبقا
ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الأزارقة

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري. ذكر الخبر عن ذلك، وعن السبب الذي من أجله حدث الأختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك: ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطرياً وأصحابه من الأزارقة بعدما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحواً من سنة. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالاً شديداً، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت - وجيرفيت مدينة كرمان - فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالاً شديداً. وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يد المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عند عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فساودرابجرد. وكورة إصطخر. فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول الشاعر الأزد وهو يعاتب المهلب:
نقاتل عن قصور درابجرد ... ونجبي للمغيرة والرقاد
وكان الرقاد بن زياد بن همام - رجل من العتيك - كريماً على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة. وكتب إلى المهلب: أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما أرى لقد اصطلمت هذه الخارجة المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك. وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، قم جاهدهم أشد الجهاد. وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة؛ والسلام.
فأخرج المهلب بنيه؛ كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم وأخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم. فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا. فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرساناً قط، ولا كفرسانك من العرب فرساناً قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور. فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة. قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم؛ وقال هؤلاء: نحن من بني تميم؟ فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء: كيف رأيت؟ قال: رأيت قوماً والله ما يعينك عليهم إلا الله. فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه. وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصر إلى الحجاج فآتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فقد آتاني كتاب الأمير أصلحه الله. واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فأما أنا فوالله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير - أصلحه الله - فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام. ثم إن الهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهراً لا يستقل منهم شيئاً، ولا

يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يردعونهم به ويكفونهم عنهم. ثم إن رجلاً منهم كان عاملاً لقطرى على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بني ضبة، فقتل رجلاً قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطرى، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم: ما أرى أن أفعل! رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى! قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد ربه الكبير، وخلعوا قطرياً، وبايع قطرياً منهم عصابة نحواً من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحواً من شهر غدوة وعشية. فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطرياً وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضأ غدواً وعشياً، وقد رجزت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله! والسلام. فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا آتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مأونتهم عليك أشد، والسلام. فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضاً، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً. فأناهضهم على تفئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام. فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم. ثم إن قطرياً خرج بمن اتبعه نحو طبرستان. وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالاً شديداً. ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين. وقال كعب الأشقري - والأشقر بطن من الأزد - يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور. وأيام جيرفت:
يا حفص إن عداني عنكم السفر ... وقد أرقت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية ... والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
أممسك أنت عنها بالذي عهدت ... أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر
علقت خوداً بأعلى الطف منزلها ... في غرفة دونها الأبواب والحجر
درماً مناكبها ريا مآكمها ... تكاد إذ نهضت بالمشي تنبتر
وقد تركت بشط الزابيين لها ... داراً بها يسعد البادون والحضر
واخترت داراً بها حي أسر بهم ... ما زال فيهم لمن تختارهم خير
لما نيت بي بلادي سرت منتجعاً ... وطالب الخير مرتاد ومنتظر
أبا سعيد فإني جئت منتجعاً ... أرجو نوالك لما مسني الضرر
لولا المهلب ما زرنا بلادهم ... ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
فما من الناس من حي علمتهم ... إلا يرى فيهم من سيبكم أثر
أحييتهم بسجال من نداك كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
إني لأرجو إذا ما فاقه نزلت ... فضلا من الله في كفيك يبتدر
فاجبر أخاً لك أوهى الفقر قوته ... لعله بعد وهي العظم ينجبر
جفا ذوو نسبي عني وأخلقني ... ظني فلله دري كيف آتمر
يا واهب القينة الحسناء سنتها ... كالشمس هر كولة في طرفها فتر
وما تزال بدور منك رائحة ... وآخرون لهم من سيبك الغرر
نماك للمجد أملاك ورثتهم ... شم العرانين في أخلاقهم يسر
ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ... في حين لاحدث في الحرب يتئر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ... فما لأمرهم ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الجسر من أحد ... وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا
وأدخل الخوف أجواف البيوت على ... مثل النساء رجال ما بهم غير

واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ... أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض معصمين بهم ... فشمر الشيخ لما أعظم الخطر
كنا نهون قبل اليوم شأنهم ... حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ... واستنفر الناس تارات فما نفروا
نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ... عنه وليس به في مثله قصر
أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ... فيهم صنائع مما كان يدخر
تلبسوا لقراع الحرب بزتها ... فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا
ساروا بألوية للمجد قد رفعت ... وتحتهن ليوث في الوغى وقر
حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ... برامهرمز وافاهم بها الخبر
نعي بشر فجال اليوم وانصدعوا ... إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا
ثم استمر بنا راض ببيعته ... ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا
حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ... شبت لنا ولهم نار لها شرر
نلقي مساعير أبطالاً كأنهم ... جن نقارعهم ما مثلهم بشر
نسقى ونسقيهم سماً على حنق ... مستأنفي الليل حتى أسفر السحر
قتلى هنالك لا عقل ولا قود ... منا ومنهم دماء سفكها هدر
حتى تنحوا لنا عنها تسوقهم ... منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا
لم يغن عنهم غداة التل كيدهم ... عند الطعان ولا المكر الذي مكروا
باتت كتائبنا تردى مسومةً ... حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولوا حزاناً بعدما فرحوا ... وحال دونهم الأنهار والجدر
عبوا جنودهم بالسفح إذ نزلوا ... بكازرون فما عزوا ولا ظفروا
وقد لقوا مصدقاً منا بمنزلة ... ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا
بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ... أسد بسفك دماء الناس قد زئروا
لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهم ... فيهم على من يقاسي حربهم صعر
المقدمين إذ ما خيلهم وردت ... والعاطفين إذا ما ضيع الدبر
وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهم ... ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا
والله ما نزلوا يوماً بساحتنا ... إلا أصابهم من حربنا ظفر
ننفيهم با لقنا عن كل منزلة ... تروح منا مساعير وتبتكر
ولوا حذاراً وقد هزوا أسنتنا ... نحو الحروب فما نجاهم الحذر
صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ... ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر
مجرب الحرب ميمون نقيبته ... لا يستخف ولا من رأيه البطر
وفي ثلاث سنين يستديم بنا ... يقارع الحرب أطواراً ويأتمر
يقول إن غداً مبد لناظره ... وفي الليالي وفي الأيام معتبر
دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ... إن المحارب يستأني وينتظر
حتى أتته أمور عندها فرج ... وقد تبين ما يأتي وما يذر
لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ... وقد تقاربت الآجال والقدر
سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ... وقبل ذلك كانت بيننا مئر
وزادنا حنقاً قتلى نذكرها ... لا تستفيق عيون كلما ذكروا
إذا ذكرنا جروزاً والذين بها ... قتلى مضى لهم حولان ما قبروا
تأتي علينا حزازات النفوس فما ... نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا
ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ... ولا نقيلهم يوماً إذا عثروا
لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ... ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا
صفان بالقاع كالطودين بينهما ... كالبرق يلمع حتى يشخص البصر

على بصائر كل غير تاركها ... كلا الفريقين تتلى فيهم السور
يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ... مشي الزوامل تهدي صفهم زمر
وشيخنا حوله منا ململمة ... حي من الأزد فيما نابهم صبر
في موطن يقطع الأبطال منظره ... تشاط فيه نفوس حين تبتكر
مازال منا رجال ثم نضربهم ... بالمشرفي ونار الحرب تستعر
وباد كل سلاح يستعان به ... في حومة الموت إلا الصارم الذكر
ندوسهم بعناجيج مجففة ... وبيننا ثم من صم القنا كسر
يغشين قتلي وعقري ما بها رمق ... كأنما فوقها الجادي يعتصر
قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ... تشفي صدور رجال طالما وتروا
مجاوين بها خيلاُ معقرة ... للطير فيها وفي أجسادهم جزر
في معرك تحسب القتلى بساحته ... أعجاز نخل زفته الريح ينعقر
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ... قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
في كل يوم تلاقى الأزد مفظعةً ... يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار القوم قد علنوا ... إذا قرومهم يوم الوغى خطر
فيهم معاقل من عز يلاذ بها ... يوماً إذا شمرت حرب لها درر
حي بأسيافهم يبغون مجدهم ... إن المكارم في المكروه تبتدر
لولا المهلب للجيش الذي وردوا ... أنهار كرمان بعد الله ما صدروا
إن اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ... بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ... ديناً يخالف ما جاءت به النذر
قالت طفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه،
ذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم:
لقد مس منا عبد رب وجنده ... عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ... بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة ... طريد يدوي ليله غير نائم
إذا فر منا هارب كان وجهه ... طريقاً سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ... به الفلك في لج من البحر دائم
ذكر الخبر عن هلاك قطري وأصحابه

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة ذكر سبب مهلكهم : وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلف الذي حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف. عن يونس بن يزيد - سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشاً من أهل الشام عظيماً في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم، وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطيع لسفيان. فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتد هدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازة وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزاً فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد. فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي فقطعت المغفر، وقطعت جلدةً من حلقي وأختلج السيف فأضرب به وجهها. فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتةً، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز. وقال: ما أردت إلى قتل هذه أخزاها الله - فقلت: أو ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله إن كادت لتقتلني؛ قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطرياً حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني من الماء - وقد كان اشتد عطشه - فقال: أعطني شيئاً حتى أسقيك، فقال: ويحك؛ والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتني بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجراً عظيماً من فوقه دهداه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه. والعلج حينئذ لا يعرف قطرياً، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سورة بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله. فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي - وكلهم يزعم أنه قاتله - فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصتلحوا، فدفعوه إليه. فأقبل به إلى إسحاق بن محمد - وهو على أهل الكوفة - ولم يأته جعفر لشئ كان بينه وبينه قبل ذلك - وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق. وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج. فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا به إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما - يعني أنه يفرض للصغار في الديوان - وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطرياً كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره. فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربةً فصرعته، ثم جاؤوني بعد، فأقبلوا يضربونهم بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه، قال: جئت الآن وقد سرحنا بالرأس. فانصرف عنه فقال له أصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه. ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفاً إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أياماً. ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال:
لعمري لقد قام الأصم بخطبة ... لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لأن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني إنني لجهول

إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانب ... بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كنا مما إن يقدن على الوجى ... لهن بأبواب القباب صهيل
فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم، ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند و طبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
ذكر الخبر عن

مقتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه. وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد - أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيراً غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقةً كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام. فلما ولاه غزو ماوراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو. قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على الخراسان ابنه زياداً، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أياماً، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقيل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس. قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: إقطع يا بكير؛ فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! إعبر ثم يعبر الناس بعدك. فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت ألا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره. فانتخب بكير فرساناً من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى أمية إلى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة. فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إن قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميراً من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: إحرق هذه السفن. وامض إلى مرو فخلع أمية، وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما؛ قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي مارأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلون؛ قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفاً من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع؛ قال: فيهلك أمية ومن معه؛ قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية،فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالاً أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحد من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظراً له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون. فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتاباً، فقال عتاب في ذلك:
إن الحواضن تلقاها مجففة ... غلب الرقاب على المنسوبة النجب
تركت أمرك من جبن ومن خور ... وجئتنا حمقاً يا ألأم العرب

لما رأيت جبال السغد معرضةً ... وليت موسى ونوحاً عكوة الذنب
وجئت ذيخاً مغذى ما تكلمنا ... وطرت من سعف البحرين كالخرب
أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ... تحت الخوافق دون العارض اللجب
يخب بي مشرف عار نواهقه ... يغشى الكتيبة بين العدو والخبب
قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه. فقال شماس بن دثار - وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله. فقدمه أمية في ثمانمائة، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه. فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيع مني، لم تفي لأمية ولم تشكر له صنيعه بك؛ قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك. قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحداً، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتاً وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده. قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية بالناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة - وعارمة جارية بكير - فأحجم، فقال له بكير: لا أبالك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارم فحل يمنعها، فقدم لوائك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يوماً، فحماهم بكير، ثم التقوا يوماً آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم: لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس. قال: ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش؛ فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يوماً آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح؛ فحمل حريث من قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، وأتبع حريث بكيراً حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة. قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله؛ فلا يرميهم أحد. قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلحة، وأحب ذلك أيضاً أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه - وكان أمية يحب العافية - فصالحه على أن يقضي عنه أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أيضاً أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يوماً حتى يخرج عن مرو، فأخذ الآمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتاباً على باب سنجان، ودخل أمية بالمدينة. قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازياً، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير. وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل

إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة؛ فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرامائي؛ قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فاستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفاً؛ قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك. فأدى عنه عشرين ألفاً. وكان أمية سهلاً ليناً سخياً، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه؛ قال: وكان مع ذلك ثقيلاُ عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول : ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي. وعزل أمية بحيراً عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه. فضرب عبد الملك بعثاً إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليل الأسدي جعالته رجلاً من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه فجلس بكير يوماً في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: صلت علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاح بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحماً فسأله فقال: إنما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيراً والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لو لا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان؛ فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل؛ فآمنته ووصلته. قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيراً قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك. فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وإن تكركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز؛ وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذ دخل بكير، وبدل وشمردل ابنا أخيه، فنهضت فخذوهم. وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام أمية عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال : أنت القائل كذاوكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع. فلما كان من الغد أخرج بكيراً فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعك والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة - وهو رأس أهل العالية - ولابن والآن العدوى - وهو يومئذ من رؤساء بني تميم - ليعقوب بن خالد الذهلي: أتقتلونه؟ فلم يجيبوه؛ فقال لبحير: أتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه

فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه - وكان صديقاً لبكير - فاحتضن أمية، وقال: أذكرك الله أيها الأمير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال: عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير؛ قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيراً ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك؛ قال: يا بعقوب، ما أعطيته ذمة، ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من أسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني أسد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد؛ فقال بحير: لا والله يابن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة. وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت من أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء. قال: ثم وجه أمية رجلاً من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه؛ فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم إلى أمية. وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك؛ فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو. وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية:
ألا أبلغ أمية أن سيجزي ... ثواب الشر إن له ثوابا
ومن ينظر عتابك أو يرده ... فلست بناظر منك العتابا
محا المعروف منك خلال سوء ... منحت صنيعها باباً فبابا
ومن سماك إذا قسم الأسامي ... أمية إذ ولدت فقد أصابا
قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وحدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين وسنة سبع وسبعين. وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير. وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين

ذكر الخبر عن الكائن في هذه المدينة
من الأحداث الجليلة
في ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف. فلم ضم ذلك إليه فرق فيه عماله. ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان وذكر سبب في توليته من ولاه ذلك وشيئاً منه ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل - وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله - فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من أمر الأزارقة. فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج - وذلك سنة ثمان وسبعين - فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاء من أصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلاً من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء. قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن أبي إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: إلا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابا وزابل، وجباهم وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة. ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن هبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وكان عاملاً لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج

فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي يكرة بقية سنته. فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق، وأما علي بن محمد فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنو ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد طارق العبشمي - وكان على شرطة الحجاج - فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان؛ قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني؛ فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده؛ قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالداً ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض؛ قال: فكلم أبا معاوية مولى عبد الله بن عامر - وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر - فأسلف المهلب ثلثمائة ألف، فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك؛ فباعت حلياً لها ومتاعاً، فأكمل خمسمائة ألف، وحمل المغيرة إلى أبيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيباً على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال: فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوماً، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعدذلك التعب وشدة السير. فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وامير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى فضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة - فيما قيل - موسى بن أنس. وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين

ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة
في ذلك ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد - فيما قيل - للطاعون الذي كان بها وكثرة الموت. وفيها - فيما قيل - : أصابت الروم أهل أنطاكية.
ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن أبي بكرة رتبيلوفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل.
ذكر الخبر عن غزوته إياه: قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته. ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحاً، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجاً، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته. فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضباني، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ماشاء

وهدم قلاعاً وحصوناً، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخاً، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالاً، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شئ إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا؛ قال شريح: والله لقد بلغت سناً، وقد هلكت لداتي، ما تأتي على ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما إخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم؛ فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس و أهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز مومئذ ويقول:
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمت أدركت النبي المنذرا ... وبعده صيقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع في صفينهم والنهرا
وبا جميرات مع المشقرا ... هيهات ما أطول هذا عمرا
فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطمعة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا. وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذي بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جنداً كثيفاً من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله.
وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميراً، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة. وحج بالناس في هذه السنة - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر - أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير.
وكان أبان هذه السنة أميراً على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس
ثم دخلت سنة ثمانين

ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة
وفي هذه السنة جاء - فيما حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر الواقدي - سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمى ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شئ مر به. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمى لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه.

وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدي ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهرئ وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر على بن محمد، عن المفضل بن محمد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة. قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك - وكان الملك يومئذ اسمه السبلي في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر عي عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه. إلى الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله. قال: فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعة إخوة قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: إن الأسد تقل أولادها، والخنازير كثير أولادها. ووجه المهلب ابنه حبيباً إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفاً، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة. ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب قال: فمكث المهلب سنتين مقيماً بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين. قال: وخرج رجل من العدو بوماً فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عد لوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قوماً من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم؛ وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فقال المهلب: خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري. ثم صالح المهلب أهل كس على فدية ، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج تسيير الجنود مع ابن الأشعث لحرب رتبيل وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك؛ وقد اختلف أهل السير في سبب توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل؛ فأما يونس بن أبي إسحاق - فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه - فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم وأما ما أردت أن يأتيك فيه من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذي أصيب فيه المسلمون أو كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشداً موفقاً. وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالساً حين دخل عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه. قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثاً هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له؛ فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم

أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء. ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملاً وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال عباد: ما رأيت فرساً أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغلة علنداة، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج؛ يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمي فعسكر بالأهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب. ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطاناً. فقال الحجاج: ليس هنالك، هولى أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي؛ فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان ينة ثمانين؛ فجمع أهلها حين قدمها.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي - رجل من همدان كان معه - أنه صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسركهم ووضعت له الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارهاً، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقاً رستاقاً، وحصناً حصناً، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلداً بعث إليه عاملا، وبعث معه أعواناً، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.
ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم. وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدى السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج بن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه. ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملاً على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشاً أنفق عليهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثن أجمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان على المدينة في هذه السنة آبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين

ذكر ما كان فيها من الأحداث
ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن محمد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا. ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله: وكان سبب قتله أن بحيراً كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر:
لعمري لقد أغضبت عيناً على القذى ... وبت بطينا من رحيق مروق
وخليت ثأراً طل واخترت نومة ... ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيراً في دم متر قرق
فقل لبحير نم ولا تخش ثائراً ... بعوف فعوف أهل شاة حبلق
دع الضأن يوماً قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثاً بين غرب ومشرق
وهبوا فلوا أمسى بكير كعهده ... صحيحاً لغاداهم بجأواء فيلق
وقال أيضاً:
فلو كان بكر بارزاً في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير
ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير
وبلغ بحيراً أن الأنباء يتوعدونه، فقال:
توعدني الأنباء جهلاً كأنما ... يرون فنائي مقفراً من بني كعب
رفعت له كفي بحد مهند ... حسام كلون الملح ذي رونق عضب
فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفاً، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل. ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حماراً، ومضى إلى سجستان فجاور قرابةً لبحير هنالك ولا طفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثاً قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيراً عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتاباً يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز. قال: فلقي قوماً من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجراً، فعمل له خنجراً وأحماه وغمسه في لبن أتان مراراً، ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بأخرون يومئذ، فلقى بحيراً بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهراً أو نحواً من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به، قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحداً، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يوماً وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه يكلمه، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثارات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤساً لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكني ما صنعت خالياً غير مرة، فكرهت أن أقتله سراً؛ فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفساً بالموت

صبراً من هذا؛ وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبجير، فقال له أنس بن طلق: ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشمه أنس وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل أن يموت، فقال له أنس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيراً، فاستحي هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إنا لله وإنا إليه راجعون، غزوة أصيب فيها بحير؛ فغضب عوف بن كعب والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجي: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواءً ببكير فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتى تجاوز همه ... دون العراق مفاوزاً وبحوراً
ما زال يدأب نفسه ويكدها ... حتى تناول في خرون بحيرا
قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فأخذ لصعصعة ديتين. ذكر الخبر عن خلاف ابن الأشعث على الحجاج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق، وأقبلوا إليه لحربه في قول أبي مخنف، وروايته لذلك عن أبي المخارق الراسبي، وأما الواقدي فإنه زعم أن ذلك كان في سنة اثنتين وثمانين. ذكر الخبر عن السبب الذي دعا عبد الرحمن بن محمد إلى ما فعل من ذلك وما كان من صنيعه بعد خلافه الحجاج في هذه السنة: قد ذكرنا فيما مضى قبل ما كان من عبد الرحمن بن محمد في بلاد رتبيل، وكتابه إلى الحجاج بما كان منه هناك، وبما عرض عليه من الرأي فيما يستقبل من أيامه في سنة ثمانين، ونذكر الآن ما كان من أمره في سنة إحدى وثمانين في رواية أبي مخنف، عن أبي المخارق. ذكر هشام عن أبي مخنف قال: قال أبو المخارق الراسبي: كتب الحجاج إلى عبد الرحمن بن محمد جواب كتابه: أما بعد، فإن كتابك أتاني، وفهمت ما ذكرت فيه، وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدواً قليلاً ذليلاً، قد أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً، وغناؤهم في الإسلام عظيماً. لعمرك يا بن أم عبد الرحمن؛ إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخى النفس عمن أصيب من المسلمين. إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأى مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك، والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم. ثم أردفه كتاباً فيه: أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتاباً آخر فيه: أما بعد، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، وإلا فإن إسحاق ابن محمد أخاك أمير الناس، فخله وما وليته. فقال حين قرأ كتابه: أنا أحمل ثقل إسحاق؛ فعرض له، فقال:

لا تفعل، فقال: ورب هذا - يعني المصحف - لئن ذكرته لأحد لأقتلنك. فظن أنه يريد السيف، فوضع يده على قائم السيف، ثم دعا الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأى استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولى التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأياً، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحاً، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج، فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني أن أباه كان أول متكلم يومئذ، وكان شاعراً خطيباً، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد، فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك، إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلاداً كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب، فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله، وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانياً - وكان على شرطته حين أقبل - فقال: عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعوني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء قال أبو مخنف: حدثني عمر بن ذر القاص أن أباه كان معه هنالك، وأن ابن محمد كان ضربه وحبسه لا نقطاعه كان إلى أخيه القاسم بن محمد، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف دعاه فحمله وكساه وأعطاه، فأقبل معه فيمن أقبل، وكان قاصاً خطيباً قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي أن ابن محمد لما أقبل من سجستان أمر على بست عياض ابن هميان البكري، من بني سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي ثم الدارمي، ثم بعث إلى رتبيل، فصالحه على أن ابن الأشعث إن ظهر فال خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراده ألجأه عنده.
قال أبو مخنف: حدثني خشينة بن الوليد العبسي أن عبد الرحمن لما خرج من سجستان مقبلا إلى العراق سار بين يديه الأعشى على فرس، وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان
من عاشق أمسى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكذابان
كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان
يوماً إلى الليل يسلى ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان
حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبى من قحطان ... ومن معد قد أتى ابن عدنان
بجحفل جم شديد الإرنان ... فقل لحجاج ولي الشيطان
يثبت لجمع مذحج وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيقان
وملحقوه بقرى ابن مروان
قال: وبعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلا هزمها، فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل له: عطية ، فذلك قول الأعشى:
فإذا جعلت دروب فا ... رس خلفهم درباً فدربا
فابعث عطية في الخيو ... ل يكبهن عليك كباً

ثم إن عبد الرحمن أقبل يسير بالناس، فسأل عن أبي إسحاق السبيعي، وكان قد كتبه في أصحابه، وكان يقول: أنت خالي، فقيل له: ألا تأتيه فقد سأل عنك! فكره أن يأتيه، ثم أقبل حتى مر بكرمان فبعث عليهم خرشة ابن عمرو التميمي، ونزل أبو إسحاق بها، فلم يدخل في فتنته حتى كانت الجماجم، ولما دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس. قال أبو مخنف فيما حدثني أبو الصلت التيمي: خلع عبد الملك بن مروان تيحان بن أبجر من تيم الله بن ثعلبة، فقام فقال: أيها الناس، إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي، فخلعه الناس إلا قليلاً منهم، ووثبوا إلى ابن محمد فبايعوه، وكانت بيعته: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ويسأله أن يعجل بعثه الجنود إليه، وبعث كتابه إلى عبد الملك يتمثل في آخره بهذه الأبيات، وهي للحارث بن وعلة:
سائل مجاور جرم جنيت لهم ... حرباً تفرق بين الجيرة الخلط
وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط
وهل تركت نساء الحي ضاحية ... في ساحة الدار يستوقدون بالغبط
وجاء حختى نزل البصرة. وقد كان بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن وهو بسجستان، فكتب إليه: أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها؛ ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم والسلام عليك. وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، و ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويثموا أولادهم، ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إنا شاء الله. فلما قرأ كتابه قال: فعل الله به وفعل، لا والله مالي نظر. ولكن لابن عمه نصح. لما رقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد ين معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته. قال: فخرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري. اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل. وأقام الحجاج بالبصرة وتجهز ليلقى ابن محمد. وترك رأي المهلب وفرسان الشام يسقطون إلى الحجاج، في كل يوم مائة وخمسون وعشرة وأقل على البرد من قبل عبد الملك، وهو في كل يوم تسقط إلى عبد الملك كتبه ورسله بخبر ابن محمد أي كورة نزل، ومن أي كورة يرتحل، وأي الناس إليه أسرع. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج أن مكتبه كان بكرمان، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة، فلما مر بهم ابن محمد بن الأشعث، انجلفوا معه، وعزم الحجاج رأيه على استقبال ابن الأشعث، فسار بأهل الشام حتى نزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حر العكي - أو الجذامى - وعبد الله بن رميشه الطائي، ومطهر على الفريقين، فجاءوا حتى انتهوا إلى دجيل، وقد قطع عبد الرحمن بن محمد خيلا له، عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلثمائة فارس - وكانت مسلحةً له وللجند - فلما انتهى إليه مطهر بن حر أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم، فهزمت خيل عبد الله حتى انتهت إليه، وجرح أصحابه. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في

أصحاب ابن محمد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ثم قال: اعبروا إليه من هذا المكان، فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذي أمرهم به. فوالله ما كان بأسرع من أن عبر عظم خيولنا، فما تكاملت حتى حملنا على مطهر بن حر والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة إحدى وثمانين وقتلناهم قتلا ذريعاً، وأصبنا عسكرهم، وأتت الحجاج الهزيمة وهو يخطب، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فأخبره بهزيمة الناس، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة، فإن هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند، ثم انصرف راجعاً وتبعته خيول أهل العراق، فكلما أدركوا منهم شاذاً قتلوه، وأصابوا ثقلا حووه، ومضى الحجاج لا يلوي على شيء حتى نزل الزاوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلاء فأخذه فحمله إليه، وخلى البصرة لأهل العراق. وكان عامله عليها الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة. وقد كان الحجاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعاً دعا بكتاب المهلب، فقرأه ثم قال: لله أبوه! أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي، ولكنا لم نقبل.
وقال غير أبي مخنف: كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط، فسار الحجاج في جيشه حتى نزل رستقباذ وهي من دستوري من كور الأهواز، فعسكر بها، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر، وبينهما نهر، فوجه الحجاج مطهر ابن حر العكي في ألفي رجل، فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث، وسار ابن الأشعث مبادراً، فواقعهم، وهي عشية عرفة من سنة إحدى، وثمانين فيقال: إنهم قتلوا من أهل الشام ألفاً وخمسمائة، وجاءه الباقون منهزمين، ومعه يومئذ مائة وخمسون ألف ألف، ففرقها في قواده، وضمنهم إياها، وأقبل منهزماً إلى البصر. وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه، فرشاه الحكم ابن أيوب مائة ألف، فكف عنه. ودخل الحجاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المائة الألف منه. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف عن أبي الزبير الهمداني. فلما دخل عبد الرحمن بن محمد البصرة بايعه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قراءها وكهولها، وكان رجل من الأزد من الجهاضن يقال له عقبة بن عبد الغافر له صحابة، فننزا فبايع عبد الرحمن مستبصراً في قتال الحجاج، وخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة. وكان دخول عبد الرحمن البصرة فر آخر ذي الحجة من سنة إحدى وثمانين. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك، كذا حدثني أحمد ابن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي، وقال: في هذه السنة ولد ابن أبي ذئب. وكان العامل في هذه السنة على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن المهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين

ذكر الخبر عن الكائن من الأحداث فيها
خبر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث بالزاوية فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد من الحروب بالزاوية، ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم. ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه:
فر البراء وابن عمه مصعب ... وفرت قريش غير آل سعيد

ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحواً من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لايريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزةً شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو. فقال لي: قم فانظر؛ قال: فقمت فنظرت؛ فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر؛ قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقيناً قد هزموا، فخر ساجداً، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي. وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة أبو سفيان النهمي، وقتل عقبة ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضي، في أولئك القراء في ربضة واحدة وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتى الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه؛ وبارز سعيد بن يحيى ين سعيد بن العاص رجلاً يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعاً يدعى نصيراً، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية أبداً. وقتل الطفيل بن عامر بن واثلة، وقد كان وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج:
ألا طرقتنا بالغريين بعدما ... كللنا على شحط المزار جنوب
أتوك يقودون المنايا وإنما ... هدتها بأولانا إليك ذنوب
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار القرار نصيب
ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ... عذاب بأيدي المؤمنين مصيب
متى نهبط المصرين يهرب محمد ... وليس بمنجي ابن اللعين هروب
قال: منيتنا أمراً كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة. وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة. ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمن ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة - وكان جريحاً - إلى سفوان فمات من جراحته، وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت:
وحامي زياد على رايته ... وفر جدي بني العنبر
فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمناً بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال:
علام تلومين من لم يلم ... تطاول ليلك من معصر!
فإن كان أردى أباك السنان ... فقد تلحق الخيل بالمدير
وقد تنطح الخيل تحت العجا ... ج غير البرى ولا المعذر
ونحن منعنا لواء الحريش ... وطاح لواء بني جحدر
فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا:
خلى طفيل على الهم فانشعبا ... وهد ذلك ركني هدة عجبا
وابني سمية لا أنساهما أبداً ... فيمن نسيت وكل كان لي نصبا
وأخطأتني المنايا لا تطالعني ... حتى كبرت ولم يتركن لن نشبا
وكنت بعد طفيل كالذي نضبت ... عنه المياه وفاض الماء فأنقضبا
فلا بعير له في الأرض يركبه ... وإن سعى إثر من قد فاته لغبا
وسار من أرض خاقان التي غلبت ... أبناء فارس في أربائها غلبا
ومن سجستان أسباب تزينها ... لك المنية حيناً كان مجتلبا

حتى وردت حياض الموت فانكشفت ... عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا
وغادروك صريعاً رهن معركة ... ترى النسور على القتلى بها عصبا
تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا ... وأسلموا للعدو السبي والسلبا
يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم ... وهم كثير يرون الخزي والحربا
قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقم بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصرة أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، حليف حرب ابن أمية على الكوفة. قال أبو مخنف - كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: إنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام قالأبو مخنف: فحدثن سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح ين يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائنن وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم. قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فألقى جحفلته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم. قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها. وأقبل ابن الأشعث منهزماً إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها.
وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعثقال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم. قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها: ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعدما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق - فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى - فافعل. فعدلت ودخل الناس، فلما دخلى الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند

دار عمرو بن حريث إلا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس. فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتى به عبد الرحمن بن محمد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك وأعظمهم عنك غناء؛ فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه. وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثاً، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدى الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثاً. وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعاً على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مئة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت الحجاج أيضاً أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا. فنزل فكان في عسكره مخندقاً وابن محمد في عسكره مخندقاً، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضاً، وأدنى خندقه من صاحبه. واشتد القتال بينهم. فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضى أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماهم. فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعنا جميعاً عنده؛ كلاهما في جند بهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطائهم كما تجري على أهل الشام، وأن ينزل ابن محمد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه والياً ما دام حياً، وكان عبد الملك والياً؛ فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولى القتال، محمد بن مروان وعبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح. خار الله لك فيما ارتأيت. والسلام عليك. فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية

من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذاو كذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا. وقال محمد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. قالوا: نرجع العشية، فرجعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد أعطيتم أمراً انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غداً حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبداً ما بقيتم. فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل. فأعادوا خلعه ثانية. وكان عبد الله بن ذواب السلمي وعمير بن تيجان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس، فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة. وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضاً يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن محمد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله مالهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعنى فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس - ومد بها صوته يسمع الناس - وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد ابن جبير، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون؛ وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، وق غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر. ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلاً ركيناً وقوراً عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن محمد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم. قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات؛ كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئاً.
ذكر الخبر عن وفاة المغيرة بن المهلبوفي هذه السنة توفى المغيرة بن المهلب بخراسان.

ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات فر رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ماهذا؟ فقيل: مات المغيرة، فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعى يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته. وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيداً، وكان المهلب يوم مات المغيرة مقيماً بكس وراء النهر لحرب أهلها.
قال: فسار يزيد في ستين فارساً - ويقال: سبعين - فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن منخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم - وكان أسلم على يد المهلب - وأبو محمد الزمى، وعطية - مولى العتيك - فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار؛ قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها؛ قالوا: فأعطونا شيئاً، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوباً وكرابيس وقوساً، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبصقني! فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من وراءهم وقد قتل رجلاً، ثم كر فخالطهم حتى تقدمه وقتل رجلاً ثم رجع إلى يزيد. وقتل يزيد عظيماً من عظمائهم. ورمى يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو محمد الزمى، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعاً أو تموتوا أو تعطونا شيئاً، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئاً، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم! قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدوا أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو محمد الزمى بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا محمد؛ فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز:
يزيد يا سيف أبا سعيد ... قد علم الأقوام والجنود
والجمع يوم المجمع المشهود ... أنك يوم الترك صلب العود
وقال الأشقري:
والترك تعلم إذ لاقى جموعهم ... أن قد لقوه شهاباً يفرج الظلمى
بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ... غير التأسى وغير الصبر معتصما
نرى شرائج تغشى القوم من علق ... وما أرى نبوة منهم ولا كزمى
وتحتهم قرح يركبن ماركبوا ... من الكريهة حتى ينتلعن دما
في حازة الموت حتى جن ليلهم ... كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما
وفي هذه السنة صالح المهلب أهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو.
ذكر الخبر عن سبب إنصراف المهلب عن كسذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن المهلب اتهم قوماً من مضر فحبسهم وقفل من كس وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن. وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلى الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم. وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذاً أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء. وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذاً، فقال: يا أنف العبد أن تلده رحمه! وغضب. فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ماعليهم وخليتهم، قال: ألم أكتب إليك ألا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت؛ قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك. وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن

المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين صوتاً. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلثمائة صوت ولم يجردني، أنفاً واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب فركب المهلب يوماً وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال: الإشفاق والله عليك، ووالله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته. قال: فترك حريث إتيان المهلب وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب، أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان من إليه إلا نظراً له وأدباً، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه. فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب. إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعاً؛ فخرجا في ثلثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليها من العرب.
خبر وفاة المهلب بن أبي صفرةقال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة. ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته: قال علي بن محمد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة - وقوم يقولون: الشوكة - فدعا حبيباً ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفتروكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم؛ قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتشري المال، وتكثر العدد؛ وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم؛ إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإن أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك. إعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإن كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيباً على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه. ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو.
وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيباً. قال: وتوفى في ذي الحجة سنة إثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقام بمرو الروذ رهني ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ... على الناس؟ قلناه ولم نتهيب
أبح لنا سهل البلاد وحزنها ... بخيل كأرسال القطا المتسرب
يعرضها للطعن حتى كأنما ... يجللها بالأرجوان المخضب
تطيف به قحطان قد عصبت به ... وأحلافها من حي بكر وتغلب
وحيا معد عوذ بلوائه ... يفدونه بالنفس والأم والأب

وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب. وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة؛ قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخر. قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة. وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها أبان ابن عثمان أقره على قضائها؛ وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عم إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد ابن المهلب من قبل الحجاج.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين

ذكر الأحداث التي كانت فيها
خبر هزيمة ابن الأشعث بدير الجماجم فمما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب انهزامه: ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في خيل جبلة بن زحل، فلما حمل عليه أهل الشام مرة بعد مرة، نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم؛ إني سمعت علياً - رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين - يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدواناً يعمل به، ومنكراً يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه، وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم. وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فوالله ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار. وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة. قال أبو مخنف، قال أبو الزبير: فتهيأنا للحملة عليهم، فقال لنا جبلة: إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم. قال: فحملنا عليهم حملة بجد منا في قتالهم، وقوة منا عليهم، فضربنا الكتائب الثلاث حتى اشفترت، ثم مضينا حتى واقعنا صفهم فضربناهم حتى أزلناهم عنه، ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعاً لا ندري كيف قتل. قال: فهدنا ذلك وجبنا فوقفنا موقفنا الذي كنا به، وإن قراءنا لمتوافرون، ونحن نتناعى جبلة بن زحر بيننا، كأنما فقد به كل واحد منا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقداً، فقال لنا أبو البختري الطائي: لا يستبينن فيكم قتل جبلة بن زحر، فإنما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، فلم يكن ليتقدم يومه ولا ليتأخر عنه، وكلكم ذائق ما ذاق، ومدعو فمجيب. قال: فنظرت إلى وجوه القراء فإذا الكآبة على وجوههم بينة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل فيهم قد ظهر، وإذا أهل الشام قد سروا وجذلوا، فنادوا: يا أعداء الله، قد هلكتم، وقد قتل الله طاغوتكم. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي أن جبلة حين حمل هو وأصحابه علينا انكشفنا، وتبعونا، وافترقت منا فرقة فكانت ناحية، فنظرنا فإذا أصحابه يتبعون أصحابنا، وقد وقف لأصحابه ليرجعوا إليه على رأس رهوة، فقال بعضنا، هذا والله جبلة بن زجر، إحملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال عنه لعلكم تصيبونه. قال: فحملنا عليه، فأشهد ما ولى، ولكن حنل علينا بالسيف. فلما هبط من الرهوة شجرناه بالرماح فأذريناه عن فرسه فوقع قتيلاً، ورجع أصحابه، قلما رأيناهم مقبلين تنحينا عنهم، فلما رأوه قتيلاً رأينا من إسترجاعهم وجزعهم ما قرت به أعيننا؛ قال: فتبينا ذلك في قتالهم إيانا وخوجهم إلينا

قال أبو مخنف: حدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني، قال: لما أصيب جبلة هد الناس مقتله، حتى قدم علينا بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع الناس مقدمه، وقالوا: هذا يقوم مقام جبلة، فسمع هذا القول من بعضهم أبو البختري، فقال: قبحتم! إن قتل منكم رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن ابن مصقلة ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقلتم: لم يبق أحد يقاتل معه! ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم! وكان مقدم بسطام من الري، فالتقى هو وقتيبة في الطريق، فدعاه قتيبة إلى الحجاج وأهل الشام، ودعاه بسطام إلى عبد الرحمن وأهل العراق، فكلاهما أبى على صاحبه، وقال بسطام: لأن أموت مع أهل العراق أحد إلي من أن أعيش مع أهل الشام، وكان قد نزل ماسبذان؛ فلما قدم قال لابن محمد: أمرني على خيل ربيعة؛ ففعل، فقال لهم: يا معشر ربيعة، إن في شرسفة عند الحرب فاحتملوها لي - وكان شجاعاً - فخرج الناس ذات يوم ليقتتلوا، فحمل في خيل ربيعة حتى دخل عسكرهم، فأصابوا فيهم نحواً من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فأقبل بهن حتى إذا دنا من عسكره ردهن، فجئن ودخلن عسكر الحجاج، فقال: أولى لهم! منع القوم نساءهم، أما لو لم يردوهن لسبيت نساؤهم غداً إذا ظهرت. ثم اقتتلوا يوماً آخر بعد ذلك، فحمل عبد الله بن مليل الهمداني في خيل له حتى دخل عسكرهم فسبا ثماني عشر امرأة، وكان معه طارق بن عبد الله الأسدي - وكان رامياً - فخرج شيخ من أهل الشام من فسطاطة، فأخذ الأسدي يقول لبعض أصحابه: استر مني هذا الشيخ لعلني أرميه أو أحمل عليه فأطعنه، فإذا الشيخ يقول رافعاً صوته: اللهم لمنا وإياهم بعافية؛ فقال الأسدي: ما أحب أن أقتل مثل هذا، فتركه، وأقبل ابن مليل بالنساء غير بعيد؛ ثم خلى سبيلهن أيضاً، فقال الحجاج مثل مقالته الأولى. قال هشام: قال أبي: أقبل الوليد بن نحيت الكلبي من بني عامر في كتيبة إلى جبلة بن زحر، فانحط عليه الوليد بن رابية - وكان جسيماً، وكان جبلة رجلا ربعة - فالتقيا، فضربه على رأسه فسقط، وانهزم أصحابه وجيء برأسه.
قال هشام: فحدثني بهذا الحديث أبو مخنف وعوانة الكلبي،قال: لما جيء برأس جبلة بن زحر إلى الحجاج حمله على رمحين ثم قال: يا أهل الشام، أبشروا؛ هذا أول الفتح، لا والله ما كانت فتنة قط فخبت حتى يقتل فيها عظيم من عظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم. ثم خرجوا ذات يوم فخرج رجل من أهل الشام يدعوا إلى المبارزة، فخرج إليه الحجاج ابن جارية، فحمل عليه، فطعنه فأذاره وحمل أصحابه فاستنقذوه، فإذا هو رجل من خثعمة يقال له أبو الدرداء فقال الحجاج بن جارية: أما إني لم أعرفه حتى وقع، ولو عرفته ما بارزته ما أحب أن يصاب من قومي مثله. وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ابن عم له من أهل الشام، فاضطربا بسيفيهما، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ فلما تساءلا تحاجزا. وخرج عبد الله بن رزام الحارثي إلى كتيبة الحجاج، وقال: اخرجوا لي رجلا رجلا، فأخرج إليه رجل، فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام، يقتل كل يوم رجلاً، حتى إذا كان اليوم الرابع أقبل، فقالوا: قد جاء لا جاء الله به! فدعا إلى المبارزة، فقال الحجاج للجراح: اخرج إليه، فخرج إليه، فقال له عبد الله بن رزام - وكان له صديقاً: ويحك يا جراح! ما أخرجك إلي! قال: قد ابتليت بك، قال: فهل لك في خير؟ قال: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فإني أحتمل مقالة الناس في إنهزامي عنك حباً لسلامتك، فإني لا أحب أن أقتل من قومي مثلك؛ قال: فافعل، فحمل عليه فأخذ يستطرد له - وكان الحارثي قد قطعت لهاته، وكان يعطش كثيراً، وكان معه غلامه له معه إدواة من ماء، فكلما عطش سقاه الغلام - فاطرد له الحارثي، وحمل عليه الجراح حملة بجد لا يريد إلا قتله، فصاح به غلامه: إن الرجل جاد في قتلك! فعطف عليه فضربه

بالعمود على رأسه فصرعه، فقال لغلامه: إنضح على وجهه من ماء الإدواة، واسقه؛ ففعل ذلك به، فقال: يا جراح، بئسما ما جزيتني، أردت بك العافية وأردت أن تزريني المنية! فقال: لم أرد ذلك، فقال: انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: قال سعيد الحرشي: أنا في صف القتال يومئذ إذ خرج رجل من أهل العراق، يقال له: قدامة بن الحريش التميمين فوقف بين الصفين، فقال: يا معشر جرامقة أهل الشام، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن أبيتم فليخرج إلي رجل، فخرج إليه رجل من أهل الشام فقتله، حتى قتل أربعة، فلما رأى ذلك الحجاج أمر منادياً فنادى: لا يخرج إلى هذا الكلب أحد، قال: فكف الناس. قال سعيد الحبشي: فدنوت من الحجاج فقلت: أصلح الله الأمير! إنك رأيت ألا يخرج إلى هذا الكلب أحد، وإنما هلك من هلك من هؤلاء النفر بآجالهم، ولهذا الرجل آجل، وأرجو أن يكون قد حضر، فأذن لأصحابي الذين قدموا معي فليخرج إليه رجل منهم، فقال الحجاج: إن هذا الكلب لم يزل هذا له عادة وقد أرعب الناس، وقد أذنت لأصحابك، فمن أحب أن يقوم فليقم. فرجع سعيد الحرشي إلى أصحابه فأعلمهم، فلما نادى ذلك الرجل بالبراز برز إليه رجل من أصحاب الحرشي، فقتله قدامة، فشق ذلك على سعيد، وثقل عليه لكلامه الحجاج، ثم نادى قدامة: من يبارز؟ فدنا سعيد من الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير! إئذن لي في ا لخروج إلى هذا الكلب. فقال: وعندك ذلك؟ قال سعيد: نعم، أنا كما تحب؛ فقال الحجاج: أرني سيفك، فأعطاه إياه، فقال الحجاج: معي سيف أثقل من هذا، فأمر له بالسيف، فأعطاه إياه، فقال الحجاج - ونظر إلى سعيد فقال: ما أجود درعك وأقوى فرسك! ولا أدري كيف تكون مع هذا الكلب! قال سعيد: أرجو أن يظفرني الله به؛ قال الحجاج: اخرج على بركة الله. قال سعيد: فخرجت إليه، فلما دنوت منه، قال: قف يا عدو الله، فوقفت، فسرني ذلك منه، فقال: إختر إما أن تمكني فأضربك ثلاثاً، وإما أن أمكنك فتضربني ثلاثاً، ثم تمكنني. قلت: أمكني، فوضع صدره على قربوسه ثم قال: إضرب، فجمعت يدي على سيفي، ثم ضربت على المغفر متمكناً، فلم يصنع شيئاً، فساءني ذلك من سيفي ومن ضربتي، ثم أجمع رأيي أن أضربه على أصل العاتق، فإما أن أقطع وإما أن أوهن يده عن ضربته، فضربته فلم أصنع شيئاً؛ فساءني ذلك ومن غاب عني ممن هو في ناحية العسكر حين بلغه ما فعلت، والثالثة كذلك. ثم اخترط سيفاً ثم قال: أمكني، فأمكنته، فضربني ضربةً صرعني منها، ثم نزل عن فرسه وجلس على صدري، وانتزع من خفيه خنجراً أو سكيناً فوضعها على حلقي يريد

ذبحي، فقلت له: أنشدك الله! فإنك لست مصيباً من قتلي الشرف والذكر مثل ما أنت مصيب من تركي، قال: ومن أنت؟ قلت: سعيد الحرشي، قال: أولى يا عدو الله! فانطلق فأعلم صاحبك ما لقيت. قال سعيد: فانطلقت أسعى حتى أنتهيت إلى الحجاج، فقال: كيف رأيت! فقلت: الأمير كان أعلم بالأمر. رجع الحديث إلى الحديث أبي مخنف، عن أبي يزيد، قال: وكان أبو البختري الطائي وسعيد بن جبير يقولان: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً " إلى آخر الآية، ثم يحملان حتى يواقعا الصف. قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم سواء أعدها عداً. قال: نزلنا دير الجماجم مع ابن محمد غداة الثلاثاء ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء بأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند إمتداد الضحى ومتوع النهار، وما كنا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. قال: خرجنا إليهم وخرجوا إلينا يوم الأربعاء، لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة، فقاتلناهم عامة النهار أحسن قتال قاتلناهموه قط، ونحن أمنون من الهزيمة، عالون بالقوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من قبل ميمنة أصحابه، حتى دنا من الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن بن محمد، فوالله ما قاتله كبير كبير قتال حتى انهزم، فأنكرها الناس منه، وكان شجاعاً ولم يكن الفرار له بعادة، فظن الناس أنه قد كان أومن، وصولح على أن ينهزم بالناس، فلما فعلها تقوضت الصفوف من نحوه، وركب الناس وجوههم وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن بن محمد المنبر، فأخذ ينادي الناس: عباد الله، إلي أنا ابن محمد؛ فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمي في خيل له، فوقف منه قريباً، وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: يا بن رزام، احمل على هذه الرجال والخيل، فحمل عليهم حتى أمعنوا. ثم جاءت خيل لهم أخرى ورجال، فقال: احمل عليهم يا بن ذؤاب، فحمل عليهم حتى أمعنوا، وثتب لا يبرح منبره، ودخل أهل الشام العسكر، فكبروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدي - وكانت مليكة ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن - فقال: إنزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعاً يهلكهم الله به بعد اليوم. فنزل وخلى أهل العراق العسكر، وانهزموا لا يلوون على شيء، ومضا عبد الرحمن بن محمد مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه أناس من أهل بيته؛ حتى إذا حاذوا قرية بني جعدة بالفلوجة دعوا بمعبر، فعبروا فيه، فانتهى إليهم بسطام بن مصقلة، فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن محمد؟ فلم يكلموه، وظن أنه فيهم، فقال: " لا وألت نفس عليها تحاذر "
ضرم قيس على البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما
ثم جاء حتى انتهى إلى بيته وعليه السلاح وهو على فرسه لم ينزل عنه، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج إليه أهله يبكون، فأوصاهم بوصية وقال: لا تبكوا، أرأيتم إن لم أترككم، كم عسيت أن أبقى معكم حتى أموت! وإن أنا مت فإن الذي رزقكم الآن حي لا يموت، وسيرزقكم بعد وفاتي كما رزقكم في حياتي؛ ثم ودع أهله وخرج من الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائد، أنهم لما هزموا ارتفاع النهار حين امتد ومتع، قال: جئت أشتد ومعي الرمح والسيف والترس حتى بلغت أهلي من يومي، ما ألقيت شيئاً من سلاحي، فقال الحجاج:

اتركوهم فليتبدلوا ولا تتبعوهم، ونادى المنادي من رجع فهو آمن. ورجع محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا الحجاج والعراق، وجاء الحجاج حتى دخل الكوفة، وأجلس مصقلة ابن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيباً فقال: إشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره، ولؤم عهده؛ ومن علمت منه عيباً فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه. وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم، بايعه وإلا قتله، فجاء إليه رجل من خثعم ق كان معتزلاً للناس جميعاً من وراء الفرات، فسأله عن حاله فقال: ما زلت معتزلاً وراء هذه النطفة، منتظراً أمر الناس حتى ظهرت، فأتيتك لأبايعك مع الناس؛ قال: أمتربص! أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر؛ قال: إذاً أقتلك؛ قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء، قال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبقى حوله قرشي ولا شامي ولا أحد من الحزبين إلا رحمه ورثى له من القتل.
ودعا بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلاً، فقال: والله ماأدري على أينا أشد غضباً؟ عليه حين أقاد من نفسه، أم على حين عفوت عنه؟ ثم قال: أيها الرجل من ثقيف، لا تصرف عن أنيابك، ولا تهدم على تهدم الكثيب، ولا تكثر كثران الذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، اقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب، قال الحجاج إن الحجة عليك، قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى كنت فيمن قتل عثمان، وخلعت أمير المؤمنين، اقتلوه. فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بم كنانة الكلبي من بني عامر بن عوف، ابن عم منثور بن جمهور. وأتى بآخر من بعده، فقال الحجاج: إني أرى رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي عن نفسي! أنا أكفر أهل الأرض، واكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله. وأقام بالكوفة شهراً، وعزل أهل الشام عن بيوت أهل الكوفة
هزيمة ابن الأشعث وأصحابه في وقعة مسكنوفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعدما انهزم من دير الجماجم.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها: قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال: خرج محمد بن سعيد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن شمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل، فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن محمد بن الأشعث، وقال له: إني لم أرد فراقك، وإنما أخذتها لك. وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها خمساً حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ محمد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعاً. وأقبل نحو الحجاج، فخرج الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبشق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من بعث الكوفة ، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك واصحابه هداً شديداً.
قال أبو مخنف: حدثني أبو جهضم الأزدي، قال: بات الحجاج ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم حسنة؛ ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم؛ قأصبحوا إليهم عادين جادين، فإني لست أشك في النصر إن شاء الله.

قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلناهموه قط، وقد جاءنا عبد الملك بن المهلب مجففاً، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج: ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، محمل الناس من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضاً، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقالا قبل أن يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح. فأصيبا. قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة: لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لابد منه! يا قوم إنكم محقون، فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيراً من حياة في ذل. فقاتل هو وأصحابه قتالاً شديداً كشفوا فيه أهل الشام مراراً، حتى قال الحجاج: علي بالرماة لايقاتلهم غيرهم، فلنا جاءتهم الرماة وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلاً، وأخذ بكير بن ربيعة بن ثروان الضبي أسيراً، فأتى به الحجاج فقتله. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل الشام، إنه من صنع الله لكم أن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيراً، اضرب عنقه، فقتله. قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه محمد بن الحجاج وعمارة أمير على القوم؛ فسار عمارة بن تميم إلى عبد الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن محمد الأكراد مع من كان من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالاً شديداً على العقبة حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن العقبة، ومضى عبد الرحمن مر بكرمان. قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين. قال أبو مخنف: حدثني سيف الله بن بشر العجلي، من المنخل بن حابس العبدي، قال: لما دخل عبد الرحمن بن محمد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي - وكان عامله فيها - فهيأ له نزلاً فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جباناً، فقال عبد الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت فارساً، وقاتلت راجلاً، وما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلاً ولا أرى معي مقاتلاً، ولكني زاولت ملكاً مؤجلاً. ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان. قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن محمد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصراً في المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جدة اليشكري، وهي قصيدة طويلة:
أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً ... ويا حر الفؤاد لما لقينا!
تركنا الدين والدنيا جميعاً ... وأسلمنا الحلال والبنينا
فما كنا أناساً أهل دين ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
وما كنا أناساً أهل ديناً ... فنمنعها ولو لم نرج دينا
تركنا دورنا لطغام عك ... وأنباط القرى والأشعرينا
ثم إن ابن محمد مضى حتى خرج من زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن محمد منهزماً أغلق باب المدينة دونه، ومنه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن أياماً رجاء افتتاحها ودخولها. فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، وقد كان استعمل عليها رجلاً من بكر بن وائل يقال له عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له: انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن به عند الحجاج. ويتخذ بها عنده مكاناً.وقد كان رتيبل سمع يمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده، فجاء رتيبل حتى

أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته بما يقذى عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلاً من شعر لاأبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم. فأرسل إليه البكري أن أعطانا أماناً على أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالماً، وما كان له من مال موفراً. فصالحهم على ذلك وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتيبل فقال له: إن هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقاً به، مطمئناً إليه. فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال: قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي دفعه ولهزه، والتصغير به، قال: أما هذا فنعم. ففعل به عبد الرحمن بن محمد، ثم مضى حتى دخل مع رتيبل بلاده، فأنزله رتيبل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل كثير. ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو الأمان من الرؤوس والقادة الذين نصبوا للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة، وجهدوا عليه الجهد كله، اقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهن من أهل سجستان وأهل البلد نحو من ستين ألفاً، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل. وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جنداً عظيماً، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة، وبها الرجال والحصون. فخرج إليهم عبد الرحمن بن محمد بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب وعذب وحبس. وأقبل نحو عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد الرحمن بن محمد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي خراسان، فقال عبد الرحمن بن محمد: على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه، ولوا دخلتموها وجدتموه إليكم سريعاً، ولن يدع أهل الشام أتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألا تنالوا ما تطلبون، فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها ان يكون من يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهو أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أونرى من رأينا. فقال لهم عبد الرحمن: سيروا على أسم الله.
فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقاً سوى طريقهم، فلما أصبح ابن محمد قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمناً فكنت فيه،فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم أنكم مجتمعون لي، وأنكم لن تفرقوا عني. ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني. ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله. فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقى عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه، ثم مضى ابن محمد إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة

فلقوا بها الرقاد الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب. وأما على بن محمد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن ابن الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال في عشرين ألفاً، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حداً وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن أمدك بمال لسفرك أعنتك به؛ فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت، فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج؛ فقدم المفضل في أربعة آلاف - ويقال في ستة آلاف - ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام، وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك، فاخرج فوالله ما أحب أن أقاتلك. قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر تعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي؛ فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقى ليزيد كريس فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي - يقال له خليد عينين من عبد القيس - على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال:
دعت يا يزيد بن المهلب دعوةً ... لها جزع ثم استهلت عيونها
ولو يسمع الداعي النداء أجابها ... بصم القنا والبيض تلقى جفونها
وقد فر أشراف العراق وغادروا ... بها بقرا للحين جما قرونها
وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد:
لبئس المنادي والمنوه باسمه ... تناديه أبكار العراق وعونها
يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة ... ولا يمنع السو آت إلا حصونها
فأني أراه عن قليل بنفسه ... يدان كما قد كان قبل يدينها
فلا حرة تبكيه لكن نوائح ... تبكي عليه البقع منها وجونها
فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها، وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة، فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى الطبسين، ثم حملهن إلى العراق. وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال: حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس. قال: فبلغ حليساً، فقال: كذب و الله، لأنا أشد منه فارساً وراجلاً. وهرب عبد الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم، قال: فكان في الأسرى محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35