كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

قال أبو مخنف: فحدثني عطية بن الحارث أبو روق الهمداني؛ أن هانىء ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله وحال الناس بالكوفة وهيئتهم؛ فأخبره عنهم بصلاح واتساق على طاعة ابن الزبير، إلا أن طائفة من الناس إليهم عدد أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يومٍ ما؛ فقال له المختار: أنا أبو إسحاق أنا والله لهم! أنا أجمعهم على مر الحق. وأنفي بهم ركبان الباطل. وأقتل بهم كل جبار عنيد؛ فقال له هانىء بن أبي حية: ويحك يابن أبي عبيد! إن استطت ألا توضع في الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الفتنة أقرب شيء أجلاً، وأسوأ الناس عملاً؛ فقال له المختار: إني لا أدعو إلى الفتنة إنما أدعو إلى الهدى والجماعة، ثم وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الكوفة حتى إذا كان بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان - وكان من أشجع العرب، وكان ناسكاً - فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار؛ ثم قال لسلمة بن مرثد: حدثني عن الناس بالكوفة؛ قال: هم كغنمٍ ضل راعيها؛ فقال المختار بن أبي عبيد: أنا الذي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها؛ فقال له سلمة: اتق الله واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزيٌّ بعملك إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر، ثم افترقا. وأقبل المختار حتى انتهى إلى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فيه، وادهن دهناً يسيراً، ولبس ثيابه واعتم. وتقلد سيفه، ثم ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة؛ لا يمر بمجلس إلا سلم على أهله. وقال: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم ما تحبون، وأقبل حتى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثم أحداً، ووجد الناس قد راحوا إلى الجمعة، فأقبل حتى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عمرو البدي من كندة، فسلم عليه، ثم قال: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عمرو على رأي حسن، لن يدع الله لك معه مأثماً إلا غفره، ولا ذنباً إلا ستره - قال: وكان عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حباً لعلي رضي الله عنه، وكان لا يصبر عن الشراب - فلما قال له المختار هذا القول قال له عبيدة: بشرك الله بخير إنك قد بشرتنا، فهل أنت مفسرٌ لنا؟ قال: نعم، فالقني في الرحل الليلة ثم مضى.
قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عمرو قال: قال لي المختار هذه المقالة، ثم قال لي: القني في الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هذا عني أنهم قومٌ أخذ الله ميثاقهم على طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثم مضى فقال لي: كيف الطريق إلى بني هند؟ فقلت له: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وقد أسرج لي فركبته؛ قال: ومضيت معه إلى بني هند، فقال: دلني على منزل إسماعيل بن كثير. قال: فمضيت به إلى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب به، وصافحه وبشره، وقال له: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عمرو فإني قد أتيتكم بكل ما تحبون؛ قال: ثم مضى ومضينا معه حتى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثم مضى إلى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد واستشرف له الناس، وقالوا: هذا المختار قد قدم، فقام المختار إلى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حتى أقيمت الصلاة، فصلى مع الناس ثم ركد إلى سارية أخرى فصلى ما بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف.
قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن المختار مر على حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فقال: أبشروا، فإني قد قدمت عليكم بما يسركم، ومضى حتى نزل داره، وهي الدار التي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إليها وإليه فيها.
قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيد بن عمرو، وإسماعيل بن كثير من بني هند، قالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عليه وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا له: إن الشيعة قد اجتمعت لسليمان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيراً حتى يخرج؛ قال: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، فإن المهدي ابن الوصي، محمد بن علي، بعثني إليكم أميناً ووزيراً ومنتخباً وأميراً، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.

قال أبو مخنف: قال فضيل بن خديج: فحدثني عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق الله إجابةً وضرباً على يده، وبايعاه. قال: وأقبل المختار يبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد، فيقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء؛ إن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو عشمة من العشم وحفشٌ بالٍ، ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علمٌ بالحروب؛ إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم. إني إنا أعمل على مثال قد مثل لي، وأمرٍ قد بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا؛ فإني لكم بكل ما تأملون خير زعيم. قال: فوالله ما زال بهذا القول ونحوه حتى استمال طائفةً من الشيعة، وكانوا يختلفون إليه ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يومئذ ورؤساؤهم مع سليمان بن صرد، وهو شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون به أحداً؛ إلا أن المختار قد استمال منهم طائفةً ليسوا بالكثير، فسليمان بن صرد أثقل خلق الله على المختار، وقد اجتمع لابن صرد يومئذ أمره، وهو يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، ولا أن يهيج أمراً حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان، رجاء أن يستجمع له أمر الشيعة، فيكون أقوى له على درك ما يطلب، فلما خرج سليمان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربيع ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله ابن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله: إن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد، إن سليمان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وقد خرج عن بلادكم؛ وإن المختار إنما يريد أن يثب عليكم في مصركم، فسيروا إليه فأوثقوه في الحديد، وخلدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إليه في الناس، فما شعر بشيء حتى أحاطوا به وبداره فاستخرجوه، فلما رأى جماعتهم قال: ما بالكم! فوالله بعد ما ظفرت أكفكم! قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله لعبد الله بن يزيد: شده كتافاً، ومشه حافياً؛ فقال له عبد الله بن يزيد: سبحان الله! ما كنت لأمشيه ولا لأحفيه ولا كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا عدواةً ولا حرباً، وإنما أخذناه على الظن. فقال له إبراهيم بن محمد: ليس بعشك فادرجي، ما أنت وما يبلغنا عنك يابن أبي عبيد! فقال له: ما الذي بلغك عني إلا باطلٌ، وأعوذ بالله من غشٍّ كغش أبيك وجدك! قال: قال فضيل: فوالله إني لأنظر إليه حين أخرج وأسمع هذا القول حين قال له، غير أني لا أدري أسمعه منه إبراهيم أم لم يسمعه؛ فسكت حين تكلم به؛ قال: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فقال إبرهيم لعبد الله بن يزيد: ألا تشد عليه القيود؟ فقال: كفى له بالسجن قيداً.
قال أبو مخنف: وأما يحيى بن أبي عيسى فحدثني أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيداً؛ قال: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهندٍ بتار، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدنيا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
قال: فكان إذا أتيناه وهو في السجن ردد علينا هذا القول حتى خرج منه؛ قال: وكان يتشجع لأصحابه بعد ما خرج ابن صرد.
ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت قد مال حيطانها مما رميت به من حجارة المجانيق، فذكر محمد بن عمر الواقدي أن إبراهيم بن موسى حدثه عن عكرمة بن خالد، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه، وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إلى موضع، وجعل الركن الأسود عنده في تابوت في سرقةٍ من حرير، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت، حتى أعادها لما أعاد بناءه.
قال محمد بن عمر: وحدثني معقل بن عبد الله، عن عطاء؛ قال: رأيت ابن الزبير هدم البيت كله حتى وضعه بالأرض.

وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير.
وكان عامله على المدينة فيها أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله ابن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال فيما ذكر عنه: أنا لا أقضي في الفتنة. وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم.
ثم دخلت سنة خمس وستين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
فمن ذلك ما كان من أمر التوابين وشخوصهم للطلب بدم الحسين بن علي إلى عبيد الله بن زياد.
قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني أبو يوسف، عن عبد الله بن عوف الأحمري، قال: بعث سليمان بن صرد إلى وجوه أصحابه حين أراد الشخوص وذلك في سنة خمس وستين، فأتوه، فلما استهل الهلال هلال شهر بيع الآخر، خرج في وجوه أصحابه، وقد كان واعد أصحابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حتى أتى عسكره، فدار في الناس ووجوه أصحابه، فلم يعجبه عدة الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني في خيل، وقال: اذهبا حتى تدخلا الكوفة فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم فناديا بذلك، فخرجا، وكانا أول خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين! قال: فأقبل حكيم بن منقذ الكندي في خيل والوليد بن غصين في خيل، حتى مرا ببني كثير، وإن رجلاً من بني كثير من الأزد يقال له عبد الله بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عمرو من بني كثير، وكانت من أجمل الناس وأحبهم إليه، سمع الصوت: يا لثارات الحسين! وما هو ممن كان يأتيهم، ولا استجاب لهم. فوثب إلى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، فقالت له امرأته: ويحك! أجننت! قال: لا والله، ولكني سمعت داعي الله، فأنا مجيبه، أنا طالبٌ بدم هذا الرجل حتى أموت، أو يقضي الله من أمري ما هو أحب إليه، فقالت له: إلى من تدع بنيك هذا؟ قال: إلى الله وحده لا شريك له؛ اللهم إني أستودعك أهلي وولدي، اللهم احفظني فيهم؛ وكان ابنه ذلك يدعى عزره، فبقي حتى قتل بعد مع مصعب بن الزبير؛ وخرج حتى لحق بهم، فقعدت امرأته تبكيه واجتمع إليها نساؤها، ومضى مع القوم، وطافت تلك الليلة الخيل بالكوفة، حتى جاءوا المسجد بعد العتمة، وفيه ناسٌ كثير يصلون، فنادوا: يا لثارات الحسين! وفيهم أبو عزة القابضي وكرب بن نمران يصلي، فقال: يا لثارات الحسين! أين جماعة القوم؟ قيل: بالنخيلة، فخرج حتى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءته ابنته الرواع - وكانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي. فقالت: يا أبت، ما لي أراك قد تقلدت سيفك، ولبست سلاحك! فقال لها: يا بنية، إن أباك يفر من ذنبه إلى ربه، فأخذت تنتحب وتبكي، وجاءه أصهاره وبنو عمه، فودعهم، ثم خرج فلحق بالقوم؛ قال: فلم يصبح سليمان بن صرد حتى أتاه نحوٌ ممن كان في عسكره حين دخله؛ قال: ثم دعا بديوانه لينظر فيه إلى عدة من بايعه حتى أصبح، فوجدهم ستة عشر ألفاً، فقال: سبحان الله! ما وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفاً.

قال أبو مخنف: عن عطية بن الحارث، عن حميد بن مسلم، قال: قلت لسليمان بن صرد: إن المختار والله يثبط الناس عنك، إني كنت عنده أول ثلاث، فسمعت نفراً من أصحابه يقولون: قد كملنا ألفي رجل؛ فقال: وهب أن ذلك كان؛ فأقام عنا عشرة آلاف، أما هؤلاء بمؤمنين! أما يخافون الله! أما يذكرون الله، وما أعطونا من أنفسنا من العهود والمواثيق ليجاهدن ولينصرن! فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث ثقاته من أصحابه إلى من تخلف عنه يذكرهم الله وما أعطوه من أنفسهم، فخرج إليه نحوٌ من ألف رجل، فقام المسيب بن نجبة إلى سليمان بن صرد، فقال: رحمك الله، إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا ننتظرن أحداً، واكمش في أمرك. قال: فإنك والله لنعما رأيت! فقام سليمان بن صرد في الناس متوكئاً على قوس له عربية. فقال: أيها الناس، من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حياً وميتاً، ومن كان إنما يريد الدنيا وحرثها فوالله ما نأتي فيئاً نستفيئه، ولا غنيمةً نغنمها، ما خلا رضوان الله رب العالمين، وما معنا من ذهب ولا فضة، ولا خز ولا حرير، وما هي إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا، وزادٌ قدر البلغة إلى لقاء عدونا، فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا.
فقم صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، فقال: آتاك الله رشدك، ولقاك حجتك؛ والله الذي لا إله غيره ما لنا خيرٌ في صحبة من الدنيا همته ونيته. أيها الناس، إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا، والطلب بدم من نبينا، صلى الله عليه وسلم ليس معنا دينارٌ ولا درهم، إنما نقدم على حد السيوف وأطراف الرماح؛ فتنادى الناس من كل جانب: إنا لا نطلب الدنيا، وليس لها خرجنا.

قال أبو مخنف: عن إسماعيل بن يزيد الأزدي، عن السري بن كعب الأزدي، قال: أتينا صاحبنا عبد الله بن سعد بن نفيل نودعه، قال: فقام فقمنا معه، فدخل على سليمان ودخلنا معه، وقد أجمع سليمان بالمسير، فأشار عليه عبد الله بن سعد بن نفيل أن يسير إلى عبيد الله بن زياد، فقال هو ورءوس أصحابه: الرأي ما أشار به عبد الله بن سعد بن نفيل أن نسير إلى عبيد الله بن زياد قاتل صاحبنا، ومن قبله أتينا، فقال له عبد الله بن سعد وعنده رءوس أصحابه جلوس حوله: إني قد رأيت إن يكن صواباً فالله وفق، وإن يكن ليس بصواب فمن قبلي، فإني ما آلوكم ونفسي نصحاً؛ خطأ كان أم صواباً، إنما خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فأنى نذهب ها هنا وندع الأقتال والأوتار! فقال سليمان بن صرد: فماذا ترون؟ فقالوا: والله لقد جاء برأيٍ، وإن ما ذكر لكما ذكر، والله ما نلقى من قتلة الحسين إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا إلا ها هنا بالمصر؛ فقال سليمان بن صرد: لكن أنا ما أرى ذلك لكم، إن الذي قتل صاحبكم، وعبأ الجنود إليه، وقال: لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد؛ فسيروا إلى عدوكم على اسم الله؛ فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكةً منه، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية، فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تغشموا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عند الله خيرٌ للأبرار والصديقين؛ إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين. والله لو قاتلتم غداً أهل مصركم ما عدم رجلٌ أن يرى رجلاً قد قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلاً لم يكن يريد قتله؛ فاستخيروا الله وسيروا. فتهيأ الناس للشخوص. قال: وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد وأصحابه، فنظرا في أمرهما، فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدةً، فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حتى يعبوا معهم جيشاً فيقاتلوا عدوهم بكثفٍ وحدٍّ؛ فبعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة سويد بن عبد الرحمن إلى سليمان ابن صرد، فقال له: إن عبد الله وإبراهيم يقولان: إنا نريد أن نجيئك الآن لأمر عسى أن يجعل لنا ولك فيه صلاحاً؛ فقال: قل لهما فليأتيانا، وقال سليمان لرفاعة بن شداد البجلي: قم أنت فأحسن تعبئة الناس؛ فإن هذين الرجلين قد بعثا بكيت وكيت، فدعا رءوس أصحابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعةً حتى جاء عبد الله بن يزيد في أشراف أهل الكوفة والشرط وكثير من المقاتلة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة في جماعة من أصحابه، فقال عبد الله بن يزيد لكل رجل معروف قد علم أنه قد شرك في دم الحسين: لا تصحبني إليهم مخافة أن ينظروا إليه فيعدوا عليه؛ وكان عمر بن سعد تلك الأيام التي كان سليمان معسكراً فيها بالنخيلة لا يبيت إلا في قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم في داره، ويذمروا عليه في بيته وهو فاعل لا يعلم فيقتل. وقال عبد الله بن يزيد: يا عمرو بن حريث، إن أنا أبطأت عنك فصل بالناس الظهر.
فلما انتهى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد إلى سليمان بن صرد دخلا عليه، فحمد الله عبد الله بن يزيد وأثنى عليه ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يغشه، وأنتم إخواننا، وأهل بلدنا، وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا؛ أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم. وتكلم إبراهيم بن محمد بنحو من هذا الكلام. قال: فحمد الله سليمان بن صرد وأثنى عليه ثم قال لهما: إني قد علمت أنكما قد محضتما في النصيحة، واجتهدتما في المشورة، فنحن بالله وله، وقد خرجنا لأمر، ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد والتسديد لأصوبه، ولا نرانا إلا شاخصين إن شاء الله ذلك. فقال عبد الله بن يزيد: فأقيموا حتى نعبىء معكم جيشاً كثيفاً، فتلقوا عدوكم بكثف وجمع وحدٍّ. فقال سليمان: تنصرفون، ونرى فيما بيننا، وسيأتيكم إن شاء الله رأيٌ.

قال أبو مخنف: عن عبد الجبار - يعني ابن عباس الهمداني - عن عون ابن أبي جحيفة السوائي، قال: ثم إن عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد ابن طلحة عرضا على سليمان أن يقيم معهما حتى يلقوا جموع أهل الشأم على أن يخصاه وأصحابه بخراج جوخي خاصة لهم دون الناس، فقال لهما سليمان: إنا ليس للدنيا خرجنا؛ وإنما فعلا ذلك لما قد كان بلغهما من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق. وانصرف إبراهيم بن محمد وعبد الله بن يزيد إلى الكوفة، وأجمع القوم على الشخوص واستقبال ابن زياد، ونظروا فإذا شيعتهم من أهل البصرة لم يوافوهم لميعادهم ولا أهل المدائن، فأقبل ناس من أصحابه يلزمونهم، فقال سليمان: لا تلزموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم، لو قد انتهى إليهم خبركم وحين مسيركم، ولا أراهم خلفهم ولا أقعدهم إلا قلة النفقة وسوء العدة، فأقيموا ليتيسروا ويتجهزوا ويلحقوا بكم وبهم قوة، وما أسرع القوم في آثاركم. قال: ثم إن سليمان بن صرد قام في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله قد علم ما تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجاراً، وللآخرة تجاراً، فأما تاجر الآخرة فساعٍ إليها، منتصب بتطلابها، لا يشتري بها ثمناً، لا يرى إلا قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، لا يطلب ذهباً ولا فضة، ولا دنيا ولا لذة، وأما تاجر الدنيا فمكبٌّ عليها، راتع فيها، لا يبتغي بها بدلاً؛ فعليكم يرحمكم الله في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل، وبذكر الله كثيراً على كل حال، وتقربوا إلى الله جل ذكره بكل خير قدرتم عليه، حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه، فإن تتوسلوا إلى ربكم بشيء هو أعظم عنده ثواباً من الجهاد والصلاة؛ فإن الجهاد سنام العمل. جعلنا الله وإياكم من العباد الصالحين، المجاهدين الصابرين على اللأواء! وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله فادلجوا.
فادلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر بيع الآخر سنة خمس وستين للهجرة.
قال: فلما خرج سليمان وأصحابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم ابن منقذ فنادى في الناس: ألا لا يتبين رجل منكم دون دير الأعور. فبات الناس بدير الأعور، وتخلف عنه ناسٌ كثير، ثم سار حتى نزل الأقساس؛ أقساس مالك على شاطىء الفرات، فعرض الناس، فسقط منهم نحوٌ من ألف رجل، فقال ابن صرد: ما أحب أن من تخلف عنكم معكم، ولو خرجوا معكم ما زادوكم إلا خبالاً؛ إن الله عز وجل كره انبعاثهم فثبطهم، وخصكم بفضل ذلك، فاحمدوا ربكم. ثم خرج من منزله ذلك دلجةً، فصبحوا قبر الحسين، فأقاموا به ليلةً ويوماً يصلون عليه، ويستغفرون له؛ قال: فلما انتهى الناس إلى قبر الحسين صاحوا صيحةً واحدة، وبكوا؛ فما رئي يومٌ كان أكثر باكياً منه.
قال أبو مخنف: وقد حدث عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن ابن غزية، قال: لما انتهينا إلى قبر الحسين رضي الله عنه بكى الناس بأجمعهم، وسمعت جل الناس يتمنون أنهم كانوا أصيبوا معه؛ فقال سليمان: اللهم ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم. ثم انصرف ونزل، ونزل أصحابه.
قال أبو مخنف: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، قال: لما انتهى سليمان بن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحةً واحدةً: يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين؛ قال: فأقاموا عنده يوماً وليلة يصلون عليه ويبكون ويتضرعون؛ فما انفك الناس من يومهم ذلك يترحمون عليه وعلى أصحابه، حتى صلوا الغداة من الغد عند قبره، وزادهم ذلك حنقاً. ثم ركبوا، فأمر سليمان الناس بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الحسين فيقوم عليه، فيترحم عليه، ويستغفر له، قال: فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود.

قال: ووقف سليمان عند قبره، فكلما دعا له قوم وترحموا عليه قال لهم المسيب بن نجبة وسلمان بن صرد: الحقوا بإخوانكم رحمكم الله! فما زال كذلك حتى بقي نحو من ثلاثين من أصحابه، فأحاط سليمان بالقبر هو وأصحابه، فقال سليمان: الحمد لله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين، اللهم إذ حرمتناها معه فلا تحرمناها فيه بعده.
وقال عبد الله بن وال: أما والله إني لأظن حسيناً وأباه وأخاه أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسيلةً عند يوم القيامة، أفما عجبتم لما ابتليت به هذه الأمة منهم! إنهم قتلوا اثنين، وأشفوا بالثالث على القتل؛ قال: يقول المسيب بن نجبة: فأنا من قتلهم ومن كان على رأيهم بريءٌ، إياهم أعادي وأقاتل. قال: فأحسن الرءوس كلهم المنطق، وكان المثنى بن مخربة صاحب أحد الرءوس والأشراف، فساءني حيث لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو ما تكلموا به؛ قال: فوالله ما لبث أن تكلم بكلمات ما كن بدون كلام أحد من القوم، فقال: إن الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم صلى الله عليه وسلم أفضل ممن هو دون نبيهم، وقد قتلهم قوم نحن لهم أعداء، ومنهم براء، وقد خرجنا من الديار والأهلين والأموال إرادة استئصال من قتلهم؛ فوالله لو أن القتال فيهم بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حتى نناله، فإن ذلك هو الغنم، وهي الشهادة التي ثوابها الجنة، فقلنا له: صدقت وأصبت ووفقت.
قال: ثم إن سليمان بن صرد سار من موضع قبر الحسين وسرنا معه، فأخذنا على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم على الصدود، ثم على القيارة.
قال أبو مخنف: عن الحارث بن حصيرة وغيره: إن سليمان بعث على مقدمته كريب بن يزيد الحميري.
قال أبو مخنف: حدثني الحصين بن يزيد، عن السري بن كعب، قال: خرجنا مع رجال الحي نشيعهم، فلما انتهينا إلى قبر الحسين وانصرف سليمان بن صرد وأصحابه عن القبر، ولزموا الطريق، استقدمهم عبد الله ابن عوف بن الأحمر على فرس له مهلوب كميت مربوع، يتأكل تأ:لاً، وهو يرتجز ويقول:
خرجن يلمعن بنا أرسالا ... عوابساً يحملننا أبطالا
نريد أن نلقي به الأقتالا ... القاسطين الغدر الضلالا
وقد رفضنا الأهل والأموالا ... والخفرات البيض والحجالا
نرضي به ذا النعم المفضالا
قال أبو مخنف: عن سعد بن مجاهد الطائي، عن المحل بن خليفة الطائي، أن عبد الله بن يزيد كتب إلى سليمان بن صرد، أحسبه قال: بعثني به، فلحقته بالقيارة، واستقدم أصحابه حتى ظن أن قد سبقهم، قال: فوقف وأشار إلى الناس، فوقفوا عليه، ثم أقرأهم كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين. سلامٌ عليكم، أما بعد فإن كتابي هذا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء، وكم من ناصح مستغش، وكم من غاش مستنصح محب، إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وهو مذموم العقل والفعل. يا قومنا لا تطمعوا عدوكم في أهل بلادكم، فإنكم خيارٌ كلكم، ومتى ما يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم، فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم يا قومنا، " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً " ، يا قوم، إن أيدينا وأيديكم اليوم واحدة، وإن عدونا وعدوكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدونا، ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا؛ يا قومنا لا تستغشوا نصحي، ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حتى يقرأ عليكم كتابي. أقبل الله بكم إلى طاعته، وأدبر بكم عن معصيته، والسلام.

قال: فلما قرىء الكتاب على ابن صرد وأصحابه قال للناس: ما ترون؟ قالوا: ماذا ترى؟ قد أبينا هذا عليكم وعليهم، ونحن في مصرنا وأهلنا، فالآن خرجنا ووطنا أنفسنا على الجهاد، ودنونا من أرض عدونا! ما هذا برأي. ثم نادوه أن أخبرنا برأيك، قال: رأيي والله أنكم لم تكونوا قط أقرب من إحدى الحسنيين منكم يومكم هذا؛ الشهادة والفتح، ولا أرى أن تنصرفوا عما جمعكم الله عليه من الحق، وأردتم به من الفضل؛ إنا وهؤلاء مختلفون؛ إن هؤلاء لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلا ضلالاً، وإنا إن نحن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا، تائبين من ذنوبنا، إن لنا شكلاً، وإن لابن الزبير شكلاً؛ وإن وإياهم كما قال أخو بني كنانة:
أرى لك شكلاً غير شكلي فأقصري ... عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل
قال: فانصرف الناس معه حتى نزل هيت، فكتب سليمان: بسم الله الرحمن. للأمير عبد الله بن يزيد، من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين، سلامٌ عليك، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت، فنعم والله الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة، أنت والله من نأمنه بالغيب، ونستنصحه في المشورة، ونحمده على كل حال؛ إنا سمعنا الله عز وجل يقول في كتابه: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " - إلى قوله: " وبشر المؤمنين " . إن القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا، إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم، وقد توجهوا إلى الله، وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله، " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير " ، والسلام عليك فلما أتاه هذا الكتاب قال: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم، وايم الله ليقتلن كراماً مسلمين، ولا والذي هو ربهم لا يقتلهم عدوهم حتى تشتد شوكتهم، وتكثر القتلى فيما بينهم.
قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، وعبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن بن غزية، قالا: خرجنا من هيت حتى انتهينا إلى قرقيسيا، فنزلنا قريباً منها، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها من القوم، ولم يخرج إليهم، فبعث سليمان المسيب بن نجبة، فقال: ائت ابن عمك هذا فقل له: فليخرج إلينا سوقاً، فإنا لسنا إياه نريد، إنما صمدنا لهؤلاء المحلين. فخرج المسيب بن نجبة حتى انتهى إلى باب قرقيسيا، فقال: افتحوا، ممن تحصنون؟ فقالوا: من أنت؟ قال: أنا المسيسب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر أباه فقال: هذا رجلٌ حسن الهيئة، يستأذن عليك، وسألناه من هو؟ فقال: المسيب بن نجبة - قال: وأنا إذ ذاك لا علم لي بالناس، ولا أعلم أي الناس هو - فقال لي أبي: أما تدري أي بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجلٌ ناسكٌ له دين، ائذن له. فأذنت له، فأجلسه أبي إلى جانبه، وساءله وألطفه في المسألة، فقال المسيب ابن نجبة: ممن تتحصن؟ إنا والله ما إياكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلي، فاخرج لنا سوقاً، فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يوماً أو بعض يوم. فقال له زفر بن الحارث: إنا لم نغلق أبواب هذه المدينة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا! إنا والله ما بنا عجزٌ عن الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحب أنا بلينا بقتالكم؛ وقد بلغنا عنكم صلاح، وسيرةٌ حسنة جميلة.

ثم دعا ابنه فأمره أن يضع لهم سوقاً، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فقال له المسيب: أما المال فلا حاجة لي فيه، والله ما له خرجنا، ولا إياه طلبنا، وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إليه إن ظلع فرسي، أو غمز تحتي. فخرج به حتى أتى أصحابه وأخرجت لهم السوق، فتسوقوا، وبعث زفر بن الحارث إلى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق والأعلاف والطعام الكثير بعشرين جزوراً، وبعث إلى سليمان بن صرد مثل ذلك، وقد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمي له عبد الله بن سعد بن نفيل وعبد الله بن والٍ ورفاعة بن شداد، وسمي له أمراء الأرباع. فبعث إلى هؤلاء الرءوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيراً عظيمة وشعيراً كثيراً، فقال غلمان زفر: هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم، وهذا دقيق فتزودوا منه ما أطقتم، فظل القوم يومهم ذلك مخصبين لم يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت، وقد كفوا اللحم والدقيق والشعير إلا أن يشتري الرجل ثوباً أو سوطاً. ثم ارتحلوا من الغد، وبعث إليهم زفر: إني خارج إليكم فمشيعكم؛ فأتاهم وقد خرجوا على تعبيةٍ حسنة، فسايرهم، فقال زفر لسليمان: إنه قد بعث خمسة أمراء قد فصلوا من الرقة فيهم الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي كلاع، وأدهم بن محرز الباهلي وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي؛ وقد جاءوكم في مثل الشوك والشجر، أتاكم عدد كثير، وحدٌّ حديد، وايم الله لقل ما رأيت رجالاً هم أحسن هيئةً ولا عدةً، ولا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك؛ ولكنه قد بلغني أنه قد أقبلت إليكم عدة لا تحصى؛ فقال ابن صرد: على الله توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكلون، ثم قال زفر: فهل لكم في أمر أعرضه عليكم؛ لعل الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيراً؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحداً وأيدينا واحدةً، وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إلى جانبكم، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعاً. فقال سليمان لزفر: قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه، وذكروا مثل الذي ذكرت، وكتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذلك، فلسنا فاعلين؛ فقال زفر: فانظروا ما أشير به عليكم فاقبلوه، وخذوا به، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادٌّ، أحب أن يحوطكم الله بالعافية؛ إن القوم قد فصلوا من الرقة، فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والماد في أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم له آمنون، والله لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة؛ فإن القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله لقل ما رأيت جماعة خيل قط أكرم منها؛ تأهبوا لها من يومكم هذا فإني أرجو أن تسبقوهم أليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فإنهم أكثر منكم فلا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لهم ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفوا لهم حين تلقونهم، فإني لا أرى معكم رجالةً، ولا أراكم كلكم إلا فرساناً، والقوم لا قوكم بالرجال والفرسان؛ فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وأنتم ليس لكم رجال تحمي فرسانكم، فالقوهم في الكتائب والمقانب، ثم بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبةً إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم في صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة؛ ثم وقف فودعهم، وسأل الله أن يصحبهم وينصرهم. فأثنى الناس عليه، ودعوا له، فقال له سليمان بن صرد: نعم المنزول به أنت! أكرمت النزول، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة. ثم إن القوم جدوا في المسير، فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة؛ قال: فمررنا بالمدن حتى بلغنا ساعا. ثم إن سليمان بن صرد عبى الكتائب كما أمره زفر، ثم أقبل حتى انتهى إلى عين الوردة فنزل في غربيها، وسبق القوم إليها، فعسكروا، وأقام بها خمساً لا يبرح، واستراحوا واطمأنوا، وأراحوا خيلهم.

قال هشام: قال أبو مخنف، عن عطية بن الحارث، عن عبد الله بن غزية، قال: أقبل أهل الشأم في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، قال عبد الله بن غزية: فقام فينا سليمان فحمد الله فأطال، وأثنى عليه فأطنب، ثم ذكر السماء والأرض، والجبال والبحار وما فيهن من الآيات، وذكر آلاء الله ونعمه، وذكر الدنيا فزهد فيها، وذكر الآخرة فرغب فيها، فذكر من هذا ما لم أحصه، ولم أقدر على حفظه، ثم قال: أما بعد، فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل والنهار، تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح، ولقاء الله معذرين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا يولينهم امرؤٌ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة. لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً من أهل دعوتم، إلا أن يقاتلوكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة الله عليهم؛ فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة. ثم قال سليمان: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب بن نجبة فإن أصيب المسيب فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل عبد الله ابن سعد فأمير الناس عبد الله بن والٍ، فإن قتل عبد الله بن وال فأمير الناس رفاعة بن شداد، رحم اله امرأً صدق ما عاهد الله عليه! ثم بعث المسيب ابن نجبة في أربعمائة فارس، ثم قال: سر حتى تلقى أول عسكر من عساكرهم فشن فيهم الغارة، فإذا رأيت ما تحبه وإلا انصرفت إلي في أصحابك؛ وإياك أن تنزل أو تدع أحداً من أصحابك أن ينزل، أو يستقبل آخر ذلك، حتى لا تجد منه بداً.
قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن حميد بن مسلم أنه قال: أشهد أني في خيل المسيب بن نجبة تلك، إذ أقبلنا نسير آخر يومنا كله وليلتنا، حتى إذا كان في آخر السحر نزلنا فعلقنا على دوابنا مخاليه، ثم هومنا تهويمةً بمقدار تكون مقدار قضمها ثم ركبناها، حتى إذا انبلج لنا الصبح نزلنا فصلينا، ثم ركب فركبنا. فبعث أبا الجويرية العبدي بن الأحمر في مائة من أصحابه، وعبد الله بن عوف بن الأحمر في مائة وعشرين، وحنش بن ربيعة أبا المعتمر الكناني في مثلها، وبقي هو في مائة؛ ثم قال: انظروا أول من تلقون فأتوني به، فكان أول من لقينا أعرابي يطرد أحمرةً وهو يقول:
يا مال لا تعجل إلى صحبي ... واسرح فإنك آمن السرب
قال: يقول عبد الله بن عوف بن الأحمر: يا حميد بن مسلم، أبشر بشرى ورب الكعبة، فقال له ابن عوف بن الأحمر: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: أنا من بني تغلب؛ قال: غلبتم ورب الكعبة إن شاء الله. فانتهى إلينا المسيب بن نجبة، فأخبرناه بالذي سمعنا من الأعرابي وأتيناه به، فقال المسيب ابن نجبة. أما لقد سررت بقولك: أبشر، وبقولك: يا حميد بن مسلم، وإني لأرجو أن تبشروا بما يسركم، وإنما سركم أن تحمدوا أمركم، وأن تسلموا من عدوكم، وإن هذا الفأل لهو الفأل الحسن، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل. ثم قال المسيب بن نجبة للأعرابي: كم بيننا وبين أدنى هؤلاء القوم منا؟ قال: أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر ابن ذي الكلاع، وكان بينه وبين الحصين اختلاف، ادعى الحصين أنه على جماعة الناس، وقال ابن ذي الكلاع: ما كنت لتولي علي، وقد تكاتبا إلى عبيد الله بن زياد، فهما ينتظران أمره، فهذا عسكر ابن ذي الكلاع منكم على رأس ميل؛ قال: فتركنا الرجل، فخرجنا نحوهم مسرعين، فوالله ما شعروا حتى أشرفنا عليهم وهم غارون، فحملنا في جانب عسكرهم فوالله ما قاتلوا كثير قتال حتى انهزموا، فأصبنا منهم رجالاً، وجرحنا فيهم فأكثرنا الجراح، وأصبنا لهم دواب، وخرجوا عن عسكرهم وخلوه لنا، فأخذنا منه ما خف علينا، فصاح المسيب فينا: الرجعة، إنكم قد نصرتم، وغنمتم وسلمتم، فانصرفوا، فانصرفنا حتى أتينا سليمان.

قال: فأتى الخبر عبيد الله بن زياد، فسرح إلينا الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً، فخرجنا إليهم يوم الأربعاء لثمانٍ بقين من جمادى الأولى؛ فجعل سليمان بن صرد عبد الله بن سعد بن نفيل على ميمنته، وعلى ميسرته المسيب بن نجبة، ووقف هو في القلب، وجاء حصين بن نمير وقد عبأ لنا جنده، فجعل على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي، ثم زحفوا إلينا، فلما دنوا دعونا إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان وإلى الدخول في طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزبير، ثم نرد هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا الذين آتانا الله من قبلهم بالنعمة والكرامة؛ فأبى القوم وأبينا.
قال حميد بن مسلم: فحملت ميمنتنا على ميسرتهم وهزمتهم، وحملت ميسرتنا على ميمنتهم، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم، فهزمناهم حتى اضطررناهم إلى عسكرهم. فما زال الظفر لنا عليهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، ثم انصرفنا عنهم وقد حجزنا في عسكرهم، فلما كان الغد صبحهم ابن ذي الكلاع في ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله ابن زياد، وبعث إليه يشتمه، ويقع فيه، ويقول: إنما عملت عمل الأغمار، تضيع عسكرك ومسالحك! سر إلى الحصين بن نمير حتى توافيه وهو على الناس، فجاءه، فغدوا علينا وغاديناهم، فقاتلناهم قتالاً لم ير الشيب والمرد مثله قط يومنا كله، لا يحجز بيننا وبين القتال إلا الصلاة حتى أمسينا فتحاجزنا، وقد والله أكثروا فينا الجراح، وأفشيناها فيهم؛ قال: وكان فينا قصاصٌ ثلاثة: رفاعة بن شداد البجلي، وصحير بن حذيفة بن هلال بن مالك المري، وأبو الجويرية العبدي، فكان رفاعة يقص ويحضض الناس في الميمنة، لا يبرحها، وجرح أبو الجويرية اليوم الثاني في أول النهار، فلزم الرحال، وكان صحير ليلته كلها يدور فينا ويقول: أبشروا عباد الله بكرامة الله ورضوانه، فحق والله لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة والراحة من إبرام الدنيا وأذاها إلا فراق هذه النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخياً، وبلقاء ربه مسروراً. فمكثنا كذلك حتى أصبحنا، وأصبح ابن نمير وأدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف، فخرجوا إلينا، فاقتتلنا اليوم الثالث يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى. ثم إن أهل الشأم كثرونا وتعطفوا علينا من كل جانب، ورأى سليمان بن صرد ما لقي أصحابه، فنزل فنادى: عباد الله، من أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي؛ ثم كسر جفن سيفه، ونزل معه ناسٌ كثير، فكسروا جفون سيوفهم، ومشوا معه، وانزوت خيلهم حتى اختلطت مع الرجال، فقاتلوهم حتى نزلت الرجال تشتد مصلتةً بالسيوف، وقد كسروا الجفون، فحمل الفرسان على الخيل ولا يثبتون، فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشأم مقتلةً عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلما رأى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم، بعث الرجال ترميهم بالنبل، واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان بن صرد رحمه الله، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب ثم وقع؛ قال: فلما قتل سسليمان بن صرد أخذ الراية المسيب بن نجبة، وقال لسليمان بن صرد: رحمك الله يا أخي! فقد صدقت ووفيت بما عليك، وبقي ما علينا، ثم أخذ الراية فشد بها، فقاتل ساعةً ثم رجع، ثم شد بها فقاتل ثم رجع، ففعل ذلك مراراً يشد ثم يرجع، ثم قتل رحمه الله.
قال أبو مخنف: وحدثنا فروة بن لقيط، عن مولىً للمسيب بن نجبة الفزاري، قال: لقيته بالمدائن وهو مع شبيب بن يزيد الخارجي، فجرى الحديث حتى ذكرنا أهل عين الوردة.
قال هشام عن أبي مخنف؛ قال: حدثنا هذا الشيخ، عن المسيب بن نجبة، قال: والله ما رأيت أشجع منه إنساناً قط، ولا من العصابة التي كان فيها، ولقد رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالاً شديداً، ما ظننت أن رجلاً واحداً يقدر أن يبلي مثل ما أبلى، ولا ينكأ في عدوه مثل ما نكأ، لقد قتل رجالاً؛ قال: وسمعته يقول قبل أن يقتل وهو يقاتلهم:
قد علمت ميالة الذوائب ... واضحة اللبات والترائب
أني غداة الروع والتغالب ... أشجع من ذي لبدٍ مواثب
قطاع أقرانٍ مخوف الجانب

قال أبو مخنف: حدثني أبي وخالي، عن حميد بن مسلم وعبد الله بن غزية. قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف، قال: لما قتل المسيب بن نجبة أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل، ثم قال رحمه الله: أخوي منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. وأقبل بمن كان معه من الأزد، فحفوا برايته، فوالله إنا لكذلك إذ جاءنا فرسان ثلاثة: عبد الله بن الخضل الطائي، وكثير بن عمرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، كانوا خرجوا مع سعد بن حذيفة بن اليمان في سبعين ومائة من أهل المدائن، فسرحهم يوم خرج في آثارنا على خيول مقلمة مقدحة، فقال لهم: اطووا المنازل حتى تلحقوا بإخواننا فتبشروهم بخروجنا إليهم لتشتد بذلك ظهروهم، وتخبروهم بمجيء أهل البصرة أيضاً، كان المثنى بن مخربة العبدي أقبل في ثلثمائة من أهل البصرة، فجاء حتى نزل مدينة بهرسير بعد خروج سعد بن حذيفة من المدائن لخمس ليال، وكان خروجه من البصرة قبل ذلك قد بلغ سعد بن حذيفة قبل أن يخرج من المدائن، فلما انتهوا إلينا قالوا: أبشروا فقد جاءكم إخوانكم من أهل المدائن وأهل البصرة؛ فقال عبد الله بن سعد بن نفيل: ذلك لو جاءونا ونحن أحياء؛ قال: فنظروا إلينا، فلما رأوا مصارع إخوانهم وما بنا من الجراح، بكى القوم وقالوا: وقد بلغ منكم ما نرى! إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: فنظروا والله إلى ما ساء أعينهم؛ فقال لهم عبد الله بن نفيل: إنا لهذا خرجنا، ثم اقتتلنا فما اضطربنا إلا ساعةً حتى قتل المزني، وطعن الحنفي فوقع بين القتلى، ثم ارتث بعد ذلك فنجا، وطعن الطائي فجزم أنفه، فقاتل قتالاً شديداً، وكان فارساً شاعراً، فأخذ يقول:
قد علمت ذات القوم الرود ... أن لست بالواني ولا الرعديد
يوماً ولا بالفرق الحيود
قال: فحمل علينا ربيعة بن المخارق حملةً منكرة، فاقتتلنا قتالاً شديداً. ثم إنه اختلف هو وعبد الله بن سعد بن نفيل ضربتين، فلم يصنع سيفاهما شيئاً، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض، ثم قاما فاضطربا، ويحمل ابن أخي ربيعة بن المخارق على عبد الله بن سعد، فطعنه في ثغرة نحره، فقتله، ويحمل عبد الله بن عوف بن الأحمر على ربيعة بن المخارق، فطعنه فصرعه. فلم يصب مقتلاً؛ فقام فكر عليه الثانية، فطعنه أصحاب ربيعة فصرعوه؛ ثم إن أصحابه استنقذوه. وقال خالد بن سعد بن نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي ربيعة بن المخارق؛ فحمل عليه فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر فخر إلى الأرض، فحمل أصحابه وحملنا، وكانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم، وقتلوا صاحبنا، وبقيت الراية ليس عندها أحدٌ. قال: فنادينا عبد الله بن والٍ بعد قتلهم فرساننا، فإذا هو قد استلحم في عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليه رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثم أقبل إلى رايته وقد أمسكها عبد الله بن خازم الكثيري، فقال لابن وال: أمسك عني رايتك؛ قال: امسكها عني رحمك الله، فإني بي مثل حالك فقال له: أمسك عني رايتك، فإني أريد أن أجاهد؛ قال: فإن هذا الذي أنت فيه جهاد وأجر؛ قال: فصحنا: يا أبا عزة، أطع أميرك يرحمك الله! قال: فأمسكها قليلاً، ثم إن ابن والٍ أخذها منه.
قال أبو مخنف: قال أبو الصلت التيمي الأعور: حدثني شيخ للحي كان معه يومئذ، قال: قال لنا ابن وال: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت، والراحة التي ليس بعدها نصبٌ، والسرور الذي ليس بعده حزنٌ، فليتقرب إلى ربه بجهاد هؤلاء المحلين، والرواح إلى الجنة رحمكم الله! وذلك عند العصر؛ فشد عليهم، وشددنا معه، فأصبنا والله منهم رجالاً، وكشفناهم طويلاً، ثم إنهم بعد ذلك تعطفوا علينا من كل جانب، فحازونا حتى بلغوا بنا المكان الذي كنا فيه، وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فيه إلا من وجه واحد، وولي قتالنا عند المساء أدهم بن محرز الباهلي؛ فشد علينا في خيله ورجاله، فقتل عبد الله بن وال التيمي.

قال أبو مخنف، عن فروة بن لقيط، قال: سمعت أدهم بن محرز الباهلي في إمارة الحجاج بن يوسف وهو يحدث ناساً من أهل الشأم، قال: دفعت إلى أحد أمراء العراق؛ رجل منهم يقولون له عبد الله بن وال وهو يقول: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين.... " ، الآيات الثلاث، قال: فغاظني، فقلت في نفسي: هؤلاء يعدوننا بمنزلة أهل الشرك، يرون أن من قتلنا منهم كان شهيداً. فحملت عليه أضرب يده اليسرى فأطنتها، وتنحيت قريباً، فقلت له: أما إني أراك وددت أنك في أهلك، فقال: بئسما رأيت! أما والله ما أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فيها من الأجر مثل ما في يدي؛ قال: فقلت له: لم؟ قال: لكيما يجعل الله عليك وزرها، ويعظم لي أجرها؛ قال: فغاظني فجمعت خيلي ورجالي؛ ثم حملنا عليه وعلى أصحابه، فدفعت إليه فطعنته فقتلته، وإنه لمقبل إلي ما يزول؛ فزعموا بعد أنه كان من فقهاء أهل العراق الذين كانوا يكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس.
قال أبو مخنف: وحدثني الثقة، عن حميد بن مسلم وعبد الله بن غزية قال: لما هلك عبد الله بن والٍ نظرنا، فإذا عبد الله بن خازم قتيل إلى جنبه، ونحن نرى أنه رفاعة بن شداد البجلي، فقال له رجل من بني كنانة يقال له الوليد بن غضين: أمسك رايتك؛ قال: لا أريدها؛ فقلت له: إنا لله! ما لك! فقال: ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شر لهم، فوثب عبد الله بن عوف بن الأحمر إليه، فقال: أهلكتنا، والله لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك من عند آخرنا، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى، فتقربوا إليهم به فيقتل صبراً، أنشدك الله أن تفعل، هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليل قد غشينا، فنقاتلهم على خيلنا هذه فإنا الآن ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بها، فكان ذلك الشأن حتى نصبح ونسير ونحن على مهل، فيحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه. وتسير العشرة معاً، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتبع فيه بعضهم بعضا. ولو كان الذي ذكرت لم تقف أمٌّ على ولدها، ولم يعرف رجل وجهه، ولا أين يسقط، ولا أين يذهب! ولم نصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور. فقال له رفاعة بن شداد: فإنك نعم ما رأيت. قال: ثم أقبل رفاعة على الكناني فقال له: أتمسكها أم آخذها منك؟ فقال له الكناني: إني لا أريد ما تريد، إني أريد لقاء ربي، واللحاق بإخواني، والخروج من الدنيا إلى الآخرة، وأنت تريد ورق الدنيا، وتهوى البقاء، وتكره فراق الدنيا، أما والله إني لأحب لك أن ترشد، ثم دفع إليه الراية، وذهب ليستقدم. فقال له ابن أحمر: قاتل معنا ساعةً رحمك الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فما زال به يناشده حتى احتبس عليه، وأخذ أهل الشأم يتنادون: إن الله قد أهلكهم؛ فأقدموا عليهم فافرغوا منهم قبل الليل. فأخذوا يقدمون عليهم، فيقدمون على شوكة شديدة؛ ويقاتلون فرساناً شجعاناً ليس فيهم سقط رجل، وليسوا بمضجرين فيتمكنوا منهم، فقاتلوهم حتى العشاء قتالاً شديداً، وقتل الكناني قبل المساء، وخرج عبد الله بن عزيز الكندي ومعه ابنه محمد غلام صغير، فقال: يا أهل الشأم، هل فيكم أحدٌ من كندة؟ فخرج إليه منهم رجال، فقالوا: نعم، نحن هؤلاء. فقال لهم: دونكم أخوكم فابعثوا به إلى قومكم بالكوفة، فأنا عبد الله بن عزيز الكندي، فقالوا له: أنت ابن عمنا، فإنك آمن؛ فقال لهم: والله لا أرغب عن مصارع إخواني الذين كانوا للبلاد نوراً، وللأرض أوتاداً، وبمثلهم كان الله يذكر؛ قال: فأخذ ابنه يبكي في أثر أبيه، فقال: يا بني، لو أن شيئاً كان آثر عندي من طاعة ربي إذاً لكنت أنت، وناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه وبكائه في أثره، وأروا الشأميون له ولابنه رقة شديدة حتى جزعوا وبكوا، ثم اعتزل الجانب الذي خرج إليه منه قومه، فشد على صفهم عند المساء، فقاتل حتى قتل.

قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: حدثني مسلم بن زحر الخولاني، أن كريب بن زيد الحميري مشى إليهم عند المساء ومعه راية بلقاء في جماعة، قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت، وقد كانوا تحدثوا بما يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى، فقام لهم الحميري وجمع إليه رجالاً من حمير وهمدان، فقال: عباد الله! روحوا إلى ربكم، والله ما في شيء من الدنيا خلف من رضاء الله والتوبة إليه، إنه قد بلغني أن طائفة منكم يريدون أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه إلى دنياهم، وإن هم ركنوا إلى دنياهم رجعوا إلى خطاياهم، فأما أنا فوالله لا أولي هذا العدو ظهري حتى أرد موارد إخواني؛ فأجابوه وقالوا: رأينا مثل رأيك، ومضى برايته حتى دنا من القوم، فقال ابن ذي الكلاع: والله إني لأرى هذه الراية حميرية أو همدانية، فدنا منهم فسألهم، فأخبروه، فقال لهم: إنكم آمنون. فقال له صاحبهم: إنا قد كنا آمنين في الدنيا، وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة؛ فقاتلوا القوم حتى قتلوا، ومشى صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني في ثلاثين من مزينة، فقال لهم: لا تهابوا الموت في الله، فإنه لاقيكم، ولا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم منها إلى الله فإنها لا تبقى لكم، ولا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب الله فإن ما عند الله خيرٌ لكم؛ ثم مضوا فقاتلوا حتى قتلوا، فلما أمسى الناس ورجع أهل الشأم إلى معسكرهم، نطر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به، وإلى كل جريح لا يعين على نفسه؛ فدفعه إلى قومه، ثم سار بالناس ليلته كلها حتى أصبح بالتنينير فعبر الخابور، وقطع المعابر، ثم مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه، وأصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قد ذهبوا، فلم يبعث في آثارهم أحداً، وسار بالناس فأسرع، وخلف رفاعة وراءهم أبا الجويرية العبدي في سبعين فارساً يسترون الناس؛ فإذا مروا برجل قد سقط حمله، أو بمتاع قد سقط قبضه حتى يعرفه، فإن طلب أو ابتغى بعث إليه فأعلمه، فلم يزالوا كذلك حتى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعث إليهم في المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطباء وقال: أقيموا عندنا ما أحببتم، فإن الكرامة والمواساة؛ فأقاموا ثلاثاً، ثم زود كل امرىء منهم ما أحب من الطعام والعلف؛ قال: وجاء سعد بن حذيفة بن اليمان حتى انتهى إلى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بما لقي الناس، فانصرف، فتلقى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حتى جاءهم الخبر: إن رفاعة قد أظلكم، فخرجوا حتى دنا من القرية، فاستقبلوه فسلم الناس بعضهم على بعض، وبكى بعضهم إلى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بها يوماً وليلة؛ فانصرف أهل المدائن إلى المدائن، وأهل البصرة إلى البصرة، وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة، فإذا المختار محبوس.
قال هشام: قال أبو مخنف، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أدهم بن محرز الباهلي، أنه أتى عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح، قال: فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله قد أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة، سليمان بن صرد، ألا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، ألا وقد قتل الله من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عبد الله بن سعد أخا الأزد، وعبد الله بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هؤلاء أحدٌ عنده دفاع ولا امتناع.
قال هشام، عن أبي مخنف: وحدثت أن المختار مكث نحواً من خمس عشرة ليلةً، ثم قال لأصحابه: عدوا لغازيكم هذا أكثر من عشر، ودون الشهر. ثم يجيئكم نبأ هتر، من طعن نتر، وضرب هبرن وقتل جم، وأمر رجم. فمن لها؟ أنا لها، لا تكذبن، أنا لها.

قال أبو مخنف: حدثنا الحصين بن يزيد، عن أبان بن الوليد، قال: كتب المختار وهو في السجن إلى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة: أما بعد، فمرحباً بالعصب الذين أعظم الله لهم الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا. أما ورب البنية التي بنى ما خطا خاطٍ منكم خطوةً، ولا رتا رتوة، إلا كان ثواب الله له أعظم من ملك الدنيا. إن سليمان قد قضى ما عليه، وتوفاه الله فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وأمير الجيش، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا، وأبشروا واستبشروا؛ أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلين؛ والسلام.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو زهير العبسي، أن الناس تحدثوا بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد، فخرجا في الناس حتى أتيا المختار، فأخذاه.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: لما تهيأنا للانصراف قام عبد الله بن غزية ووقف على القتلى فقال: يرحمكم الله، فقد صدقتم وصبرتم، وكذبنا وفررنا؛ قال: فلما سرنا وأصبحنا إذا عبد الله بن غزية في نحو من عشرين قد أرادوا الرجوع إلى العدو والاستقتال، فجاء رفاعة وعبد الله بن عوف بن الأحمر وجماعة من الناس فقالوالهم: ننشدكم الله ألا تزيدونا فلولاً ونقصاناً، فإنا لا نزال بخير ما كان فينا مثلكم من ذوي النيات، فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حتى ردوهم غير رجل من مزينة يقال له عبيدة بن سفيان، رحل مع الناس، حتى إذا غفل عنه انصرف حتى لقي أهل الشأم، فشد بسيفه يضاربهم حتى قتل.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد الأزدي، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: كان ذلك المزني صديقاً لي، فلما ذهب لينصرف ناشدته الله، فقال: أما إنك لم تكن لتسألني شيئاً من الدنيا إلا رأيت لك من الحق علي إيتاءكه، وهذا الذي تسألني أريد الله به؛ قال: ففارقني حتى لقي القوم فقتل؛ قال: فوالله ما كان شيء بأحب إلي من أن ألقى إنساناً يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم! قال: فلقيت عبد الملك بن جزء بن الحدرجان الأزدي بمكة، فجرى حديثٌ بيننا، جرى ذكر ذلك اليوم، فقال: أعجب ما رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلاً أقبل حتى شد علي بسيفه، فخرجنا نحوه، قال: فانتهى إليه وقد عقر به وهو يقول:
إني من الله إلى الله أفر ... رضوانك الله أبدي وأسر
قال: فقلنا له: ممن أنت؟ قال: من بني آدم؛ قال: فقلنا: ممن؟ قال: لا أحب أن أعرفكم ولا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام؛ قال: فنزل إليه سليمان بن عمرو بن محصن الأزدي من بني الخيار؛ قال: وهو يومئذ من أشد الناس؛ قال: فكلاهما أثخن صاحبه؛ قال: وشد الناس عليه من كل جانب، فقتلوه؛ قال: فوالله ما رأيت واحداً قط هو أشد منه؛ قال: فلما ذكر لي، وكنت أحب أن أعلم علمه، دمعت عيناي، فقال: أبينك وبينه قرابة؟ فقلت له: لا، ذلك رجل من مضر كان لي وداً وأخاً، فقال لي: لا أرقأ الله دمعك، أتبكي على رجل من مضر قتل على ضلالة! قال: قلت: لا، والله ما قتل على ضلالة، ولكنه قتل على بينة من ربه وهدىً؛ فقال لي: أدخلك الله مدخله؛ قلت: آمين، وأدخلك الله مدخل حصين بن نمير، ثم لا أرقأ الله لك عليه دمعاً؛ ثم قمت وقام.
وكان مما قيل من الشعر في ذلك قول أعشى همدان، وهي إحدى المكتمات، كن يكتمن في ذلك الزمان:
ألم خيالٌ منك يا أم غالب ... فحييت عنا من حبيبٍ مجانب
وما زلت لي شجواً وما زلت مقصداً ... لهمٍّ عراني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى ... إلينا مع البيض الوسام الخراعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ... لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مبتلةً غراء، رؤدٌ شبابها ... كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله ... بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب
فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى ... فأجيب بها من خلةٍ لم تصاقب

ولا يبعد الله الشباب وذكره ... وحب تصافي المعصرات الكواعب
ويزداد ما أحببته من عتابنا ... لعاباً وسقياً للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكرٌ ... رزيئة مخباتٍ كريم المناصب
توسل بالتقوى إلى الله صادقاً ... وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلي عن الدنيا فلم يلتبس بها ... وتاب إلى الله الرفيع المراتب
تخلى عن الدنيا وقال أطرحتها ... فلست إليها ما حييت بآيب
وما أنا فيما يكبر الناس فقده ... ويسعى له الساعون فيها براغب
فوجهه نحو الثوية سائراً ... إلى ابن زياد في الجموع الكباكب
بقوم هم أهل التقية والنهى ... مصاليت أنجادٌ سراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبه ... ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم من بين ملتمس التقى ... وآخر مما جر بالأمس تائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلاً ... إليهم فحسوهم ببيضٍ قواضب
يمانيةٍ تذري الأكف وتارةً ... بخيلٍ عتاقٍ مقرباتٍ سلاهب
فجاءهم جمعٌ من الشأم بعده ... جموعٌ كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حتى أبيدت سراتهم ... فلم ينج منهم ثم غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ... تعاورهم ريح الصبا والجنائب
فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلاً ... كأن لم يقاتل مرةً ويحارب
ورأس بني شمخٍ وفارس قومه ... شنوءة والتيمي هادي الكتائب
وعمرو بن بشرٍ والوليد وخالدٌ ... وزيد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيعٍ ... إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قومٍ قد أصيب زعيمهم ... وذو حسبٍ في ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضربٍ يفلق الهام وقعه ... وطعنٍ بأطراف الأسنة صائب
وإن سعيداً يوم يدمر عامراً ... لأشجع من ليثٍ بدرني مواثب
فيا خير جيشٍ للعراق وأهله ... سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدن فرساننا وحماتنا ... إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب
فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتةٍ ... وكل فتىً يوماً لإحدى الشواعب
وما قتلوا حتى أثاروا عصابةً ... محلين ثوراً كالليوث الضوارب
وقتل سليمان بن صرد ومن قتل معه بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر.
ذكر الخبر عن بيعة عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان وفي هذه السنة أمر مروان بن الحكم أهل الشأم بالبيعة من بعده لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد.
ذكر الخبر عن سبب عقد مروان ذلك لها قال هشام، عن عوانة قال: لما هزم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله إلى فلسطين وانصرف راجعاً إلى مروان، ومروان يومئذ بدمشق، قد غلب على الشأم كلها ومصر، وبلغ مروان أن عمراً يقول: إن هذا الأمر لي من بعد مروان، ويدعي أنه قد كان وعده وعداً، فدعا مروان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه من بعده، وأخبره بما بلغه عن عمرو بن سعيد، فقال: أنا أكفيك عمراً، فلما اجتمع الناس عند مروان عشياً قام ابن بحدل فقال: إنه قد بلغنا أن رجالاً يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ولعبد العزيز من بعده؛ فقام الناس، فبايعوا من عند آخرهم.
ذكر الخبر عن موت مروان بن الحكم وفي هذه السنة مات مروان بن الحكم بدمشق مستهل شهر رمضان.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث، قال: لما حضرت معاوية ابن يزيد أبا ليلى الوفاة، أبى أن يستخلف أحداً، وكان حسان بن مالك بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بعد معاوية بن يزيد لأخيه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان صغيراً، وهو خال أبيه يزيد بن معاوية، فبايع لمروان، وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد بن يزيد، فلما بايع لمروان وبايعه معه أهل الشأم قيل لمروان: تزوج أم خالد - وأمه أم خالد ابنة أبي هشام بن عتبة - حتى تص شأنه، فلا يطلب الخلافة؛ فتزوجها، فدخل خالد يوماً على مروان وعنده جماعةٌ كثيرة، وهو يمشي بين الصفين، فقال: إنه والله ما علمت لأحمق، تعال يابن الرطبة الاست - يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشأم - فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت له أمه: لا يعرفن ذلك منك، واسكت فإني أكفيكه؛ فدخل عليها مروان، فقال لها: هل قال لك خالد في شيئاً؟ فقالت: وخالد يقول فيك شيئاً! خالد أشد لك إعظاماً من أن يقول فيك شيئاً؛ فصدقها، ثم مكثت أياماً، ثم إن مروان نام عندها، فغطته بالوسادة حتى قتلته.
قال أبو جعفر: وكان هلاك مروان في شهر رمضان بدمشق، وهو ابن ثلاث وستين سنة في قول الواقدي؛ وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال: كان يوم هلك ابن إحدى وستين سنة؛ وقيل: توفي وهو ابن إحدى وسبعين سنة؛ وقيل: ابن إحدى وثمانين سنة؛ وكان يكنى أبا عبد الملك، وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت علقمة ابن صفوان بن أمية الكناني، وعاش بعد أن بويع له بالخلافة تسعة أشهر؛ وقيل: عاش بعد أن بويع له بالخلافة عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وكان قبل هلاكه قد بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة القيني، والآخر منهما إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد، فأما عبيد الله ابن زياد فسار حتى نزل الجزيرة، فأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه التوابون من أهل الكوفة طالبين بدم الحسين، فكان من أمرهم ما قد مضى ذكره، وسنذكر إن شاء الله باقي خبره إلى أن قتل.
ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجة وفي هذه السنة قتل حبيش بن دلجة. وأما حبيش بن دلجة؛ فإنه سار حتى انتهى - فيما ذكر عن هشام، عن عوانة بن الحكم - إلى المدينة، وعليهم جابر ابن الأسود بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف؛ من قبل عبد الله بن الزبير، فهرب جابر من حبيش. ثم إن الحارث بن أبي ربيعة - وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة - وجه جيشاً من البصرة، وكان عبد الله بن الزبير قد ولاه البصرة، عليهم الحنيف بن السجف التميمي لحرب حبيش ابن دلجة، فلما سمع حبيش بن دلجة سار إليهم من المدينة، وسرح عبد الله ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد الأنصاري على المدينة، وأمره أن يسير في طلب حبيش بن دلجة حتى يوافي الجند من أهل البصرة الذين جاءوا ينصرون ابن الزبير، عليهم الحنيف، وأقبل عباس في آثارهم مسرعاً حتى لحقهم بالربذة، وقد قال أصحاب ابن دلجة له: دعهم، لا تعجل إلى قتالهم؛ فقال: لا أنزل حتى آكل من مقندهم، - يعني السويق الذي فيه القند - فجاءه سهم غرب فقتله، وقتل معه المنذر بن قيس الجذامي، وأبو عتاب مولى أبي سفيان، وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم، والحجاج بن يوسف، وما نجوا يومئذ إلا على جمل واحد، وتحرز منهم نحوٌ من خمسمائة في عمود المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمي، فنزلوا على حكمه فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إلى الشأم.
حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد أنه قال: الذي قتل حبيش ابن دلجة يوم الربذة يزيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابة فقتله، فلما دخلوا المدينة وقف يزيد بن سياه على برذون أشهب وعليه ثيابٌ بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه، ورأيته مما مسح الناس به ومما صبوا عليه من الطيب.
ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع بالبصرة الطاعون الذي يقال له الطاعون الجارف، فهلك به خلقٌ كثير من أهل البصرة.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، عن المصعب بن زيد أن الجارف وقع وعبيد الله بن عبيد الله بن معمر على البصرة، فماتت أمه في الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة علوج فحملوها إلى حفرتها وهو الأمير يومئذ.

مقتل نافع بن الأزرق واشتداد أمر الخوارج وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل فيها نافع بن الأزرق.
ذكر الخبر عن مقتلهحدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن الزبير، أن عبيد الله بن عبيد الله بن معمر بعث أخاه عثمان بن عبيد الله إلى نافع بن الأزرق في جيش، فلقيهم بدولاب، فقتل عثمان وهزم جيشه.
قال عمر: قال زهير: قال وهب: وحدثنا محمد بن أبي عيينة، عن سبرة بن نخف، أن ابن معمر عبيد الله بعث أخاه عثمان إلى ابن الأزرق، فهزم جنده وقتل؛ قال وهب: فحدثنا أبي أن أهل البصرة بعثوا جيشاً عليهم حارثة بن بدر، فلقيهم، فقال لأصحابه:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
حدثنا عمر، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا وهب، قال: حدثنا أبي ومحمد بن أبي عيينة، قالا: حدثنا معاوية بن قرة، قال: خرجنا مع ابن عبيس فلقيناهم، فقتل ابن الأزرق وابنان أو ثلاثة للماحوز، وقتل ابن عبيس.
قال أبو جعفر: وأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف، عن أبي المخارق الراسبي من قصة ابن الأزرق، وبني الماحوز قصةً هي غير ما ذكره عمر، عن زهير بن حرب، عن وهب بن جرير؛ والذي ذكر من خبرهم أن نافع بن الأزرق اشتدت شوكته باشتغال أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم بن مسعود بن عمرو، وكثرت جموعه، فأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم ابن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة، ويدفعه عن أرضها، حتى بلغ مكاناً من أرض الأهواز يقال له: دولاب، فتهيأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميمي، ثم الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي؛ ثم التقوا فاضطربوا، فاقتتل الناس قتالاً لم ير قتال قط أشد منه، فقتل مسلم ابن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الأزارقة عليهم عبد الله ابن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا أشد قتال، فقتل الحجاج بن باب الحميري أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثم إن أهل البصرة أمروا عليهم ربيعة الأجذم التميمي، وأمرت الخوارج عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا، وقد كره بعضهم بعضاً، وملوا القتال، فإنهم لمتواقفون متحاجزون حتى جاءت الخوارج سرية لهم جامة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس من قبل عبد القيس، فانهزم الناس، وقاتل أمير البصرة ربيعة الأجذم، فقتل، وأخذ راية أهل البصرة حارثة بن بدر، فقاتل ساعةً وقد ذهب الناس عنه، فقاتل من وراء الناس في حماتهم، وأهل الصبر منهم، ثم أقبل بالناس حتى نزل بهم منزلاً بالأهواز ففي ذلك يقول الشاعر من الخوارج:
يا كبدا من غير جوعٍ ولا ظمإٍ ... ويا كبدي من حب أم حكيم
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان امرىءٍ في الحرب غير لئيم
غداة طفت في الماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان لعبد القيس أول حدنا ... وذلت شيوخ الأزد وهي تعوم
وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم وأفزعهم، وبعث ابن الزبير الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي على تلك الحرة، فقدم، وعزل عبد الله ابن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصر، وقدم المهلب بن أبي صفرة على تلك من حال الناس من قبل عبد الله بن الزبير، معه عهده على خراسان، فقال الأحنف للحارث بن أبي ربيعة وللناس عامة: لا والله، ما لهذا الأمر إلا المهلب بن أبي صفرة، فخرج أشراف الناس، فكلموه أن يتولى قتال الخوارج؛ فقال: لا أفعل، هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان، فلم أكن لأدع عهده وأمره، فدعاه ابن أبي ربيعة فكلمه في ذلك، فقال له مثل ذلك، فاتفق رأي ابن أبي ربيعة فكلمه في ذلك، فقال له مثل ذلك، فاتفق رأي ابن أبي ربيعة ورأي أهل البصرة على أن كتبوا على لسان ابن الزبير:

بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الحارث بن عبد الله كتب إلي أن الأزارقة المارقة أصابوا جنداً للمسلمين كان عددهم كثيراً، وأشرافهم كثيراً، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهداً، وقد رأيت حيث دكر هذه الخوارج أن تكون أنت تلي قتالهم، فقد رجوت أن يكون ميموناً طائرك، مباركاً على أهل مصرك، والأجر في ذلك أفضل من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشداً، فقاتل عدو الله وعدوك، ودافع عن حقك وحقوق أهل مصرك، فإنه لن يفوتك من سلطاننا خراسان ولا غير خراسان إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله.
فأتى بذلك الكتاب، فلما قرأه قال: فإني والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أقوي به من معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت؛ فقال جميع أهل البصرة: ذلك لك؛ قال: فاكتبوا لي على الأخماس بذلك كتاباً ففعلوا، إلا ما كان من مالك بن مسمع وطائفة من بكر بن وائل، فضطغنها عليهم المهلب، وقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلب: وما عليك ألا يكتب لك مالك بن مسمع ولا من تابعه من أصحابه، إذا أعطاك الذي أردت من ذلك جميع أهل البصرة! من تابعه من أصحابه، إذا أعطاك الذي أردت من ذلك جميع أهل البصرة! ويستطيع مالك خلاف جماعة الناس أوله ذلك! انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوك؛ ففعل ذلك المهلب، وأمر على الأخماس، فأمر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمر الحريش ابن هلال السعدي على خمس بني تميم، وجاءت الخوارج حتى انتهت إلى الجسر الأصغر، عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم في أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحازهم عن الجسر، ودفعهم عنه، فكان أول شيء دفعهم عنه أهل البصرة، ولم يكن بقي لهم إلا أن يدخلوا؛ فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثم إنه عبأ لهم، فسار إليهم في الخيل والرجال، فلما أن رأوا أن قد أظل عليهم، وانتهى إليهم، ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم ويرفعهم مرحلةً بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له سلى وسلبرى، فأقاموا به؛ ولما بلغ حارثة بن بدر الغداني أن المهلب قد أمر على قتال الأزارقة، قال لمن معه من الناس:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
قد أمر المهلب
فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى المهلب؛ ولما نزل المهلب بالقوم خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند على مصافهم، والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلب وجدوا أمراً محكماً، فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسانٌ قط كان أشد عليهم ولا أغيظ لقلوبهم منه.
قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن رجلاً كان في تلك الخوارج حدثه أن الخوارج بعثت عبيدة ابن هلال والبير بن الماحوز في خيلين عظيمين ليلاً إلى عسكر المهلب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وجاء عبيدة من جانبه الأيسر، ثم كبروا وصاحوا بالناس، فوجدوا على تعبيتهم ومصافهم حذرين مغذين، فلم يصيبوا للقوم غرةً، ولم يظفروا منهم بشيء، فلما ذهبوا ليرجعوا ناداهم عبيد الله ابن زياد بن ظبيان فقال:
وجتمونا وقراً أنجادا ... لا كشفاً خوراً ولا أوغادا

هيهات! إنا إذا صيح بنا أتينا، يا أهل النار، ألا ابكروا إليها غداً، فإنها مأواكم ومثواكم؛ قالوا: يا فاسق، وهل تدخر النار إلا لك ولأشباهك! إنها أعدت للكافرين وأنت منهم؛ قال: أتسمعون! كل مملوك لي حر إن دخلتم أنتم الجنة إن بقي فيما بين سفوان إلى أقصى حجر من أرض خراسان مجوسيٌّ ينكح أمه وابنته وأخته إلا دخلها؛ قال له عبيدة: اسكت يا فاسق فإنما أنت عبد للجبار العنيد، ووزيرٌ للظالم الكفور؛ قال: يا فاسق، وأنت عدو المؤمن التقي، ووزير الشيطان الرجيم؛ فقال الناس لابن ظبيان: وفقك الله يابن ظبيان؛ فقد والله أجبت الفاسق بجوابه، وصدقته. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلب على تعبيتهم وأخماسهم، ومواقفهم الأزد، وتميم ميمنة الناس، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة الناس، وأهل العالية في القلب وسط الناس.
وخرجت الخوارج على ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز، وجاءوا وهم أحسن عدة، وأكرم خيولاً، وأكثر سلاحاً من أهل البصرة؛ وذلك لأنهم مخروا الأرض وجردوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا عليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، وعليهم دروعٌ يسحبونها، وسوق من زرد يشدونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، فالتقى الناس فاقتتلوا كأشد القتال، فصبر بعضهم عامة النهار. ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدةً منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا تلوي أمٌّ على ولد حتى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السباء، وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب عن سنن المنهزمين.
ثم إنه نادى الناس: إلي إلي عباد الله، فثاب إليه جماعةٌ من قومه، وثابت إليه سرية عمان فاجتمع إليه منهم نحوٌ من ثلاثة آلاف، فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراضٍ؛ وإنكم لأنتم أهل الصبر، وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحداً ممن انهزم معكم، فإنهم لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً. عزمت على كل امرىءٍ منكم لما أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا نحو عسكرهم، فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم؛ فوالله إني لأرجوا ألا ترجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم. ففعلوا، ثم أقبل بهم راجعاً، فلا والله ما شعرت الخوارج إلا بالمهلب يضاربهم بالمسلمين في جانب عسكرهم. ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه، وعليهم الدروع والسلاح كاملاً، فأخذ الرجل من أصحاب المهلب يستقبل الرجل منهم، فيستعرض وجهه بالحجارة فيرميه حتى يثخنه، ثم يطعنه بعد ذلك برمحه، أو يضربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلا ساعة حتى قتل عبيد الله ابن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه؛ وأخذ المهلب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلاً ذريعاً، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة منهم راجعاً؛ وقد وضع لهم المهلب خيلاً ورجالاً في الطريق تختطفهم وتقتلهم، فانكفئوا راجعين مفلولين، مقتولين محروبين، مغلوبين؛ فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصفهان، وأقام المهلب بالأهواز، ففي ذلك اليوم يقول الصلتان العبدي:
بسلى وسلبرى مصارع فتيةٍ ... كرامٍ وقتلى لم توسد خدودها
وانصرفت الخوارج حين انصرفت؛ وإن أصحاب النيران الخمس والست ليجتمعون علىالنار الواحدة من الفلول وقلة العدد، حتى جاءتهم مادةٌ لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وأصبهان؛ فأقام المهلب بالأهواز فلم يزل ذلك مكانه حتى جاء مصعب البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عنها.
ولما ظهر المهلب على الأزارقة كتب:

بسم الله الرحمن الرحيم. للأمير الحارث بن عبد الله، من المهلب بن أبي صفرة. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فالحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين، وهزم الفاسقين، وأنزل بهم نقمته، وقتلهم كل قتلة، وشردهم كل مشرد. أخبر الأمير أصلحه الله أنا لقينا الأزارقة بأرض من أرض الأهواز يقال لها سلى وسلبرى؛ فزحفنا إليهم ثم ناهضناهم، فاقتتلنا كأشد القتال ملياً من النهار. ثم إن كتائب الأزارقة اجتمع بعضها إلى بعض، ثم حملوا على طائفة من المسلمين فهزموهم؛ وكانت في المسلمين جولة قد كنت أشفقت أن تكون هي الأصرى منهم. فلما رأيت ذلك عمدت إلى مكان يفاع فعلوته، ثم دعوت إلي عشيرتي خاصة والمسلمين عامة، فثاب إلي أقوام شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله من أهل الدين والصبر والصدق والوفاء، فقصدت بهم إلى عسكر القوم؛ وفيه جماعتههم وحدهم وأميرهم قد أطاف به أولو فضلهم فيهم، وذوو النيات منهم؛ فاقتتلنا ساعة رمياً بالنبل، وطعناً بالرماح. ثم خلص الفريقان إلى السيوف؛ فكان الجلاد بها ساعة من النهار مبالطةً ومبالدةً. ثم إن الله عز وجل أنزل نصره على المؤمنين، وضرب وجوه الكافرين ونزل طاغيتهم في رجال كثير من حماتهم وذوي نياتهم، فقتلهم الله في المعركة. ثم اتبعت الخيل شرادهم فقتلوا في الطريق والآخاذ والقرى، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله.
فلما أتى هذا الكتاب الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بعث به إلى الزبير فقرىء على الناس بمكة.
وكتب الحارث بن أبي ربيعة إلى المهلب: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك، تذكر فيه نصر الله إياك، وظفر المسلمين، فهنيئاً لك يا أخا الأزد بشرف الدنيا وعزها، وثواب الآخرة وفضلها، والسلام عليك ورحمة الله.
فلما قرأ المهلب كتابه ضحك ثم قال: أما تظنونه يعرفني إلا بأخي الأزد! ما أهل مكة إلا أعرابٌ.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو المخارق الراسبي أن أبا علقمة اليحمدي قاتل يوم سلى وسلبرى قتالاً لم يقاتله أحدٌ من الناس؛ وأن أخذ ينادي في شباب الأزد وفيتان اليحمد: أعيرونا جماجمكم ساعةً من نهار؛ فأخذ فتيانٌ منهم يكرون، فيقاتلون ثم يرجعون إليه؛ يضحكون ويقولون: يا أبا علقمة، القدور تستعار! فلما ظهر المهلب ورأى من بلائه ما رأى وفاه مائة ألف.
وقد قيل: إن أهل البصرة قد كانوا سألوا الأحنف قبل المهلب أن يقاتل الأزارقة، وأشار عليهم بالمهلب، وقال: هو أقوى على حربهم مني، وإن المهلب إذ أجابهم إلى قتالهم شرط على أهل البصرة أن ما غلب عليه من الأرض فهو له ولمن خف معه من قومه وغيرهم ثلاث سنين، وأنه ليس لمن تخلف عنه منه شيء. فأجابوه إلى ذلك، وكتب بذلك عليهم كتاباً، وأوفدوا بذلك وفداً إلى ابن الزبير.
وإن ابن الزبير أمضى تلك الشروط كلها للمهلب وأجازها له، وإن المهلب لما أجيب إلى ما سأل وجه ابنه حبيباً في ستمائة فارس إلى عمرو القنا، وهو معسكر خلف الجسر الأصغر في ستمائة فارس، فأمر المهلب بعقد الجسر الأصغر، فقطع حبيب الجسر إلى عرمو ومن معه؛ فقاتلهم حتى نفاهم عما بين الجسر، وانهزموا حتى صاروا من ناحية الفرات، وتجهز المهلب فيمن خف من قومه معه، وهم اثنا عشر ألف رجل، ومن سائر الناس سبعون رجلاً، وسار المهلب حتى نزل الجسر الأكبر، وعمرو القنا بإزائه في ستمائة. فبعث المغيرة بن المهلب في الخيل والرجالة، فهزمتهم الرجالة بالنبل، واتبعتهم الخيل، وأمر المهلب بالجسر فعقد، فعبر هو وأصحابه، فلحق عمرو القنا حينئذ بابن الماحوز وأصحابه؛ وهو بالمفتح، فأخبروهم الخبر، فساروا فعسكروا دون الأهواز بثمانية فراسخ، وأقام المهلب بقية سنته، فجبى كور دجلة، ورزق أصحابه، وأتاه المدد من أهل البصرة لما بلغهم ذلك؛ فأثبتهم في الديوان وأعطاهم حتى صاروا ثلاثين ألفاً.
قال أبو جعفر: فعلى قول هؤلاء كانت الوقعة التي كانت فيها هزيمة الأزارقة وارتحالهم عن نواحي البصرة والأهواز إلى ناحية أصبهان وكرمان في سنة ست وستين. وقيل: إنهم ارتحلوا عن الأهواز وهم ثلاثة آلاف، وإنه قتل منهم في الوقعة التي كانت بينهم وبين المهلب بسلى وسلبرى سبعة آلاف.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمداً إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر.

وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة، وولاها عبد الله بن مطيع، ونزع عن المدينة أخاه عبيدة بن الزبير، وولاها أخاه مصعب بن الزبير، وكان سبب عزله أخاه عبيدة عنها أنه - فيما ذكر الواقدي - خطب الناس فقال لهم: قد رأيتم ما صنع بقوم في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة؛ وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: إن هذا لهو التكلف.
ذكر خبر بناء عبد الله بن الزبير البيت الحرام وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير البيت الحرام، فأدخل الحجر فيه.
أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثني عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني أبو محمد، قال: حدثني زياد بن جيل أنه كان بمكة يوم غلب ابن الزبير، فسمعه يقول: إن أمي أسماء بنت أبي بكر حدثتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: لولا حداثة عهد قومك بالكفر رددت الكعبة على أساس إبراهيم؛ فأزيد في الكعبة من الحجر. فأمر به ابن الزبير فحفر، فوجدوا قلاعاً أمثال الإبل، فحركوا منها صخرة، فبرقت بارقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها ابن الزبير، وجعل لها بابين: يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة أخوه مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة في آخر السنة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ وهو الذي يقال له القباع. وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
خروج بني تميم بخراسان على عبد الله بن خازم وفي هذه السنة خالف من كان بخراسان من بني تميم عبد الله بن خازم حتى وقعت بينهم حروب.
ذكر الخبر عن سبب ذلكوكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن من كان بخراسان من بني تميم أعانوا عبد الله بن خازم على من كان بها من ربيعة، وعلى حرب بن أوس بن ثعلبة حتى قتل من قتل منهم، وظفر به؛ وصفا له خراسان، فلما صفا له ولم ينازعه به أحد جفاهم. وكان قد ضم هراة إلى ابنه محمد واستعمله عليها؛ وجعل بكير بن وشاح على شرطته، وضم إليه شماس بن دثار العطاردي؛ وكانت أم ابنه محمد امرأةً من تميم تدعى صفية، فلما جفا ابن خازم بني تميم من دخول هراة؛ فأما شماس بن دثار فأبى ذلك، وخرج من هراة، فصار من بني تميم، وأما بكير فمنعهم من الدخول.
فذكر علي بن محمد أن زهير بن الهنيد حدثه أن بكير بن وشاح لما منع بني تميم من دخول هراة أقاموا ببلاد هراة، وخرج إليهم شماس بن دثار فأرسل بكير إلى شماس: إني أعطيك ثلاثين ألفاً، وأعطى كل رجل من بني تميم ألفاً على أن ينصرفوا، فأبوا، فدخلوا المدينة، وقتلوا محمد بن عبد الله ابن خازم. قال علي: فأخبرنا الحسن بن رشيد، عن محمد بن عزيز الكندي قال: خرج محمد بن عبد الله بن خازم يتصيد بهراة، وقد منع بني تميم من دخولها، فرصدوه، فأخذوه فشدوه وثاقاً، وشربوا ليلتهم، وجعل كلما أراد رجل منهم البول بال عليه، فقال لهم شماس بن دثار: أما إذ بلغتم هذا منه فاقتلوه بصاحبيكما اللذين قتلهما بالسياط. قال: وقد كان أخذ قبيل ذلك رجلين من بني تميم، فضربهما بالسياط حتى ماتا. قال: فقتلوه، قال: فزعم لنا عمن شهد قتله من شيوخهم أن جيهان بن مشجعة الضبي نهاهم عن قتله، وألقى نفسه عليه، فشكر له ابن خازم ذلك، فلم يقتله فيمن قتل يوم فرتنا. قال: فزعم عامر بن أبي عمر أنه سمع أشياخهم من بني تميم يزعمون أن الذي ولي قتل محمد بن عبد الله بن خازم رجلان من بني مالك بن سعد، يقال لأحدهما: عجلة، وللآخر كسيب. فقال ابن خازم: بئس ما اكتسب كسيبٌ لقومه، ولقد عجل عجلة لقومه شراً.
قال علي: وحدثنا أبو الذيال زهير بن هنيد العدوي، قال: لما قتل بنو تميم محمد بن عبد الله بن خازم انصرفوا إلى مرو، فطلبهم بكير بن وشاح فأدرك رجلاً من بني عطارد يقال له شميخ؛ فقتله، وأقبل شماس وأصحابه إلى مرو، فقالوا لبني سعد: قد أدركنا لكم بثأركم؛ قتلنا محمد بن عبد الله ابن خازم بالجشمي الذي أصيب بمرو، فأجمعوا على قتال ابن خازم، وولوا عليهم الحريش بن هلال القريعي.

قال: فأخبرني أبو الفوارس عن طفيل بن مرداس، قال: أجمع أكثر بني تميم على قتال عبد الله بن خازم، قال: وكان مع الحريش فرسان لم يدرك مثلهم؛ إنما الرجل منهم كتيبة؛ منهم شماس بن دثار، وبحير بن ورقاء الصريمي، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، والحجاج بن ناشب العدوي - وكان من أرمى الناس - وعاصم بن حبيب العدوي، فقاتل الحريش بن هلال عبد الله بن خازم سنتين.
قال: فلما طالت الحرب والشر بينهم ضجروا؛ قال: فخرج الحريش فنادى ابن خازم، فخرج إليه فقال: قد طالت الحرب بيننا؛ فعلام تقتل قومي وقومك! فأينا قتل صاحبه صارت الأرض له؛ فقال ابن خازم؛ وأبيك لقد أنصفتني؛ فبرز له، فتصاولا تصاول الفحلين، لا يقدر أحدٌ منهما على ما يريد. وتغفل ابن خازم غفلة، وضربه الحريش على رأسه، فرمى بفروة رأسه على وجهه، وانقطع ركابا الحريش، وانتزع السيف. قال: فلزم ابن خازم عنق فرسه راجعاً إلى أصحابه وبه ضربة قد أخذت من رأسه، ثم غاداهم القتال، فمكثوا بذلك بعد الضربة أياماً؛ ثم مل الفريقان فتفرقوا ثلاث فرق؛ فمضى بحير بن ورقاء إلى أبرشهر في جماعة، وتوجه شماس بن دثار العطاردي ناحيةً أخرى، وقيل: أتى سجستان، وأخذ عثمان بن بشر بن المحتفز إلى فرتنا، فنزل قصراً بها، ومضى الحريش إلى ناحية مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم؛ فلحقه بقرية من قراها يقال لها قرية الملحمة - أو قصر الملحمة - والحريش بن هلال في اثني عشر رجلاً؛ وقد تفرق عنه أصحابه؛ فهم في خربة؛ وقد نصر رماحاً كانت معه وترسةً.
قال: وانتهى إليه ابن خازم؛ فخرج إليه في أصحابه، ومع ابن خازم مولىً له شديد البأس، فحمل على الحريش فضربه فلم يصنع شيئاً، فقال رجل من بني ضبة للحريش: أما ترى ما يصنع العبد! فقال له الحريش: عليه سلاح كثير، وسيفي لا يعمل في سلاحه، ولكن انظر لي خشبةً ثقيلة؛ فقطع له عوداً ثقيلاً من عناب - ويقال: أصابه في القصر - فأعطاه إياه؛ فحمل به على مولى ابن خازم؛ فضربه فسقط وقيذاً. ثم أقبل على ابن خازم؛ فقال: ما تريد إلي وقد خليتك والبلاد! قال: إنك تعود إليها، قال: فإني لا أعود، فصالحه على أن يخرج له من خراسان ولا يعود إلى قتاله، فوصله ابن خازم بأربعين ألفاً. قال: وفتح له الحريش باب القصر، فدخل ابن خازم، فوصله وضمن له قضاء دينه، وتحدثا طويلاً. قال: وطارت قطنة كانت على رأس ابن خازم ملصقة على الضربة التي كان الحريش ضربه، فقام الحريش فتناولها، فوضعها على رأسه، فقال له ابن خازم: مسك اليوم يا أبا قدامة ألين من مسك أمس، قال: معذرة إلى الله وإليك؛ أما والله لولا أن ركابي انقطعا لخالط السيف أضراسك. فضحك ابن خازم، وانصرف عنه، وتفرق جمع بني تميم، فقال بعض شعراء بني تميم:
فلو كنتم مثل الحريش صبرتم ... وكنتم بقصر الملح خير فوارس
إذاً لسقيتم بالعوالي ابن خازمٍ ... سجال دمٍ يورثن طول وساوس
قال: وكان الأشعث بن ذؤيب أخو زهير بن ذؤيب العدوي قتل في تلك الحرب، فقال له أخوه زهير وبه رمق: من قتلك؟ قال: لا أدري؛ طعنني رجل على برذون أصفر، قال: فكان زهير لا يرى أحداً على برذون أصفر إلا حمل عليه؛ فمنهم من يقتله، ومنهم من يهرب؛ فتحامى أهل العسكر البراذين الصفر؛ فكانت مخلاةً في العسكر لا يركبها أحد. وقال الحريش في قتاله ابن خازم:
أزال عظم يميني عن مركبه ... حمل الردينى في الإدلاج والسحر
حولين ما اغتمضت عيني بمنزلةٍ ... إلا وكفي وسادٌ لي على حجر
بزي الحديد وسربالي إذا هجعت ... عني العيون محال القارح الذكر
الجزء السادس

بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست وستين
ذكر الخبر عن الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة

فمما كان فيها من ذلك وثوب المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالباً بدم الحسين بن علي بن أبي طالب وإخراجه منها عامل ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوى . ذكر الخبر عما كان من أمرهما في ذلك وظهور المختار للدعوة إلى ما دعا إليه الشيعة بالكوفة: ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن فضيل بن خديج، حدثه عن عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير من بنى هند، أن أصحاب سليمان بن صرد لما قدموا كتب إليهم المختار: أما بعد، فإن الله أعظم لكم الأجر، وحط عنكم الوزر، بمفارقة القاسطين، وجهاد المحلين؛ إنكم لم تنفقوا نفقة، ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خطوة إلا رفع الله لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، إلى مالا يحصيه إلا الله من التضعيف؛ فأبشروا فإني لو قد خرجت إليكم قد جردت فما بين المشرق و المغرب في عدوكم السيف بإذن الله، فجعلتهم بإذن الله ركاماً؛ وقتلتهم فذاً وتؤاماً؛ فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى؛ ولا يبعد الله إلا من عصى وأبى؛ و السلام يا أهل الهدى. فجاءهم بهذا الكتاب سيحان بن عمرو، من بنى ليث من عبد القيس قد أدخله في قلنسوته يبين الظهارة و البطانة؛ فأتى بالكتاب رفاعة بن شداد والمثنى بن مخربة العبدى وسعد بن حذيفة بن اليمان ويزيد بن أنس وأحمر بن شميط الأحمسى وعبد الله بن شداد البجلى وعبد الله بن كامل؛ فقرأ عليهم الكتاب؛ فبعثوا إليه ابن كامل؛ فقالوا:قل له: قد قرأنا الكتاب؛ ونحن حيث يسرك؛ فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا. فأتاه؛ فدخل عليه السجن؛ فأخبره بما أرسل إليه به؛ فسر باجتماع الشيعة له؛ وقال لهم: لا تريدوا هذا؛ فإني أخرج في أيامي هذه. قال: وكان المختار قد بعث غلاماً يدعى زربياً إلى عبد الله بن عمر ابن الخطاب، وكتب إليه: أما بعد: فإني قد حبست مظلوماً، وظن بي الولاة ظنوناً كاذبة؛ فاكتب في يرحمك الله إلى هذين الظالمين كتاباً لطيفاً؛ عسى الله أن يخلصني من أيديهما بلطفك وبركتك ويمنك؛ والسلام عليك. فكتب إليهما عبد الله بن عمر: أما بعد؛ فقد علمتما الذي بيني وبين المختار بن أبى عبيد من الصهر، و الذي بيني وبينكما من الود؛ فأقسمت عليكما بحق ما بيني وبينكما لما خليتما سبيله حين تنظران في كتابي هذا، و السلام عليكما ورحمة الله. فلما أتى عبد الله بن يزيد و إبراهيم بن محمد بن طلحة كتاب عبد الله ابن عمر دعوا للمختار بكفلاء يضمنونه بنفسه، فأتاه أناس من أصحابه كثير، فقال يزيد بن الحارث بن يزيد بن رؤيم لعبد الله بن يزيد: ما تصنع بضمان هؤلاء كلهم! ضمنه عشرة منهم أشرافاً معروفين، ودع سائرهم. ففعل ذلك، فلما ضمنوه، دعا به عبد الله بن يزيد و إبراهيم بن محمد بن طلحة فحلفاه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم؛ لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان؛ فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة؛ ومما ليكه كلهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهما بذلك، ثم خرج فجاء داره فنزلها. قال أبومخنف: فحدثني يحيى بن أبى عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: سمعت المختار بعد ذلك يقول: قاتلهم الله! ما أحمقهم حين يرون أنى أفي لهم بأيمانهم هذه! أما حلفي لهم بالله؛ فإنه ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتى الذي هو خير؛ وأكفر يميني، وخروجي عليهم خير من كفى عنهم؛ و أكفر يميني؛ وأما هدى ألف بدنة فهو أهون علي من بصقة؛ وماثمن ألف بدنة فيهولني! وأما عتق مما ليكي فوالله لو ددت أنه قد استتب لي أمري، ثم لم أملك مملوكاً أبداً. قال: ولما نزل المختار داره عند خروجه من السجن، اختلف إليه الشيعة واجتمعت عليه؛ واتفق رأيها على الرضا به، وكان الذي يبايع له الناس وهو في السجن خمسة نفر: السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن شداد الفتياني، وعبد الله بن شداد الجشمي. قال: فلم تزل أصحابه يكثرون، وأمره يقوى ويشتد حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، قال: دعا ابن الزبير عبد الله بن مطيع أخا بنى عدى ابن كعب و الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ فبعث عبد الله بن مطيع على الكوفة، وبعث الحارث بن عبد الله

بن أي ربيعة على البصرة. قال: فبلغ ذلك بحير بن ريسان الحميري؛ فلقيهما، فقال لهما: ياهذان؛ إن القمر الليلة بالناطح، فلا تسيرا. فأما ابن أبى ربيعة؛ فأطاعه؛ فأقام يسيرا ثم شخص إلى عمله فسلم؛ عبد الله بن مطيع فقال له: وهل نطلب إلا النطح! قال: فلقي والله نطحاً وبطحاً، قال: يقول عمر: والبلاء موكل بالقول. قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالاً على البلاد؛ فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل: بعث عليها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة؛ قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفاً وجلس! ثم فال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيراً ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك؛ وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين. وقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين؛ فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الحراج؛ وقال: إنما كانت فتنة؛ فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة و الخراج؛ وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلى، وأمره أن يحسن السيرة و الشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدى - وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير - قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرني بحباية فيئكم؛ وألا أحمل فضل فيئكم عنكم إلى برضاً منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين؛ فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم؛ وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني؛ فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي؛ ولأقيمن درء الأصعر المرتاب.فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما امر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عن إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا؛ وألا يقسم إلا فينا؛ وألا يسار فينا إلا بسيرة على بن أبي طالب التي سار بها في بلادناهذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا؛ فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا؛ وإن كانت أهون السيرتين علينا ضراً؛ وقد كان لا يألو الناس خيراً. فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله.فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل. فقال: يزيد بن أنس الأسدى: ذهبت بفضلها يا سائب؛ لا يعدمك المسلمون!أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحواً من مقالتك، وما أحب أن الله ولي الرد عليه رجلاً من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع. فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار؛ فابعث إليه فليأتك؛ فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس؛ فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له؛ وكأنه قد وثب بالمصر. قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمى من همدان. فدخلا عليه،فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتحشخش للذهاب معهما؛ فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله و الله خير الماكرين " ، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا على القطيفة؛ ما أراني إلا قد وعكت؛ إني لأجد قفقفة شديدة ، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدى:بن أي ربيعة على البصرة. قال: فبلغ ذلك بحير بن ريسان الحميري؛ فلقيهما، فقال لهما: ياهذان؛ إن القمر الليلة بالناطح، فلا تسيرا. فأما ابن أبى ربيعة؛ فأطاعه؛ فأقام يسيرا ثم شخص إلى عمله فسلم؛ عبد الله بن مطيع فقال له: وهل نطلب إلا النطح! قال: فلقي والله نطحاً وبطحاً، قال: يقول عمر: والبلاء موكل بالقول. قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالاً على البلاد؛ فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل: بعث عليها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة؛ قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفاً وجلس! ثم فال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيراً ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك؛ وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين. وقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين؛ فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الحراج؛ وقال: إنما كانت فتنة؛ فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة و الخراج؛ وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلى، وأمره أن يحسن السيرة و الشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدى - وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير - قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرني بحباية فيئكم؛ وألا أحمل فضل فيئكم عنكم إلى برضاً منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين؛ فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم؛ وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني؛ فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي؛ ولأقيمن درء الأصعر المرتاب.فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما امر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عن إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا؛ وألا يقسم إلا فينا؛ وألا يسار فينا إلا بسيرة على بن أبي طالب التي سار بها في بلادناهذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا؛ فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا؛ وإن كانت أهون السيرتين علينا ضراً؛ وقد كان لا يألو الناس خيراً. فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله.فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل. فقال: يزيد بن أنس الأسدى: ذهبت بفضلها يا سائب؛ لا يعدمك المسلمون!أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحواً من مقالتك، وما أحب أن الله ولي الرد عليه رجلاً من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع. فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار؛ فابعث إليه فليأتك؛ فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس؛ فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له؛ وكأنه قد وثب بالمصر. قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمى من همدان. فدخلا عليه،فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتحشخش للذهاب معهما؛ فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله و الله خير الماكرين " ، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا على القطيفة؛ ما أراني إلا قد وعكت؛ إني لأجد قفقفة شديدة ، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدى:

إذا ما معشر تركوا نداهم ... ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا
ارجعا إلى ابن مطيع، فأعلماه حالي التي أنا عليها. فقال له زائدة بن قدامة: أما أنا ففاعل؛ فقال: وأنت ياأخا همدان فاعذرني عنده فإنه خير لك.قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني، عن حسين بن عبد الله، قال: قلت في نفسي: والله إن أنا لم أبلغ عن هذا يرضيه ما أنا بآمن من أن يظهر غداً فيهلكني. قال: فقلت له، نعم، أنا أضع عند ابن مطيع عذرك،وأبلغه كل ما تحب؛ فخرجنا من عنده؛ فإذا أصحابه على بابه، وفي داره منهم جماعة كثيرة. قال: فأقبلنا نحو ابن مطيع، فقلت لزائدة بن قدامة: أما إني قد فهمت قولك حين قرأت تلك الآية؛ وعلمت ما أردت بها، وقد علمت أنها هي ثبطته عن الخروج معنا بعد ما كان قد لبس ثيابه، وأسرج دابته؛ وعلمت حين تمثل البيت الذي تمثل أنما أراد يخبرك أنه قد فهم عنك ما أردت أن تفهمه، وأنه لن يأتيه. قال: فجاحدني أن يكون أراد شيئاً من ذلك؛ فقلت له: لا تحلف؛ والله ما كنت لأبلغ عنك ولا عنه شيئاً تكرهانه؛ ولقد علمت أنك مشفق عليه، تجد له ما يجد المرء

لابن عمه. فأقبلنا إلى ابن مطيع؛ فأخبرناه بعلته وشكواه؛ فصدقنا ولها عنه. قال: وبعث المختار إلى أصحابه؛ فأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم؛ فجاء رجل من أصحابه من شبام - وكان عظيم الشرف يقال له عبد الرحمن بن شريح - فلقى سعيد بن منقذ الثوري وسعر ابن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك جشمي؛ فاجتمعوا في منزل سعر الحنفي، فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أمابعد؛ فإن المختار يريد أن يخرج بنا، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا؛ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به وبما دعانا إليه؛ فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه؛ وإن نهانا عنه اجتنبناه؛ فوالله ما ينبغي أن يكون شئ من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا.فقالوا له: أرشدك الله! فقد أصبت ووفقت؛ اخرج بنا إذا شئت .فأجمع رأيهم على أن يخرجوا من أيامهم، فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفية؛ وكان إمامهم عبد الرحمن بن شريح، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فخبروه عن حالهم وما هم عليه. قال أبو مخنف: فحدثني خليفة بن ورقاء، عن الأسود بن جراد الكندي قال: قلنا لابن الحنفية؛ إن لنا إليك حاجة؛ قال: فسر هي أم علانية؟ قال: قلنا: لا؛ بل سر، قال: فرويداً إذاً؛ قال: فمكث قليلاً، ثم تنحى جانباً فدعانا فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم على هذه الأمة؛ فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي، مخسوس النصيب؛ قد أصبتم بحسين رحمة الله عليه. عظمت مصيبة اختصصتم بها، بعد ما عم بها المسلمون، وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ والطلب بدماء أهل البيت،والدفع عن الضعفاء؛ فبايعناه على ذلك. ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، وندبنا له؛ فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه إجتنبناه. ثم تكلمنا واحداً واحداً بنحو مما تكلم به صاحبنا؛ وهو يسمع، حتى إذا فرغنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد؛ فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل؛ فإن الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ فلله الحمد!وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين؛ فإن ذلك كان في الذكر الحكيم وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله مفعولا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا؛ فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.قال: فخرجنا من عنده، ونحن نقول:قد أذن لنا ؛ قد قال: لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال: لا تفعلوا. قال: فجئنا وأناس من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنا قد أعلمناه بمخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا؛ ممن كان على رأينا من إخواننا؛ وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشق ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذل الشيعة عنه،فكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل قدومنا؛ فلم يتهيأ ذلك له؛ فكان المختار يقول: إن نفيراً منكم ارتابوا وتحيروا وخابوا؛ فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا وإن هم كبوا وهابوا، واعترضوا وانجابوا، فقد ثبروا وخابوا؛ فلم يكن إلا شهراً وزيادة شئ؛ حتى أقبل القوم على رواحلهم؛ حتى دخلواعلى المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم فقالوا له: قد أمرنا بنصرتك فقال: الله أكبر! أن أبو إسحاق، اجمعوا إلى الشيعة، فجمع له منهم من كان منه قريباً فقال: يا معشر الشيعة؛ إن نفراً منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى؛ حاشا النبي المجتبى؛ فسألوه عما قدمت به عليكم؛ فنبأهم أني وزيره وظهيره. ورسوله وخليله؛ وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، و الطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين.فقام عبد الله بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا معشر الشيعة؛ فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة؛ فقدمنا على

المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا هذه، وعما دعانا إليه المختار منها فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه،فأقبلنا طيبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشك والغل والريب، واستقامت لنا في قتال عدونا؛ فليبلغ ذلك شاهد كم،غائبكم، واستعدوا وتأهبوا. ثم جلس وقمنا رجلاً فرجلاً؛ فتكلمنا بنحو من كلامه؛ فاستجمعت له الشيعة وحدبت عليه. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة والمشرقي،عن عامر الشعبي،قال: كنت أنا وأبي أول من أجاب المختار. قال: فلما تهيأ أمره ودنا خروجه؛ قال له احمر بن شميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شداد: إن أشرف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع؛ فإن جامعنا على أمرنا إبراهيم بن الأشر رجونا بإذن الله القوة علىعدونا، وألا يضرتا خلاف من خالفنا، فإنه فتى بئيس، وابن رجل شريف بعيد الصيت؛ وله عشيرة ذات عز وعدد. قال لهم المختار: فالقوه فادعوه،وأعلموه الذي أمرنا به من الطلب بدم الحسين وأهل بيته. قال الشعبى: فخرجوا إليه وأنا فيهم، وأبى، فتكلم يزيد بن أنس، فقال له: إنا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك.وندعوك إليه؛ فإن قبلته كان خيراً لك،وإن تركته فقد أدينا إليك فيه النصيحة؛ ونحن نحب أن يكون عندك مستوراً.فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: وإن مثلي لا تخاف غائلته ولا سعايته؛ ولاالتقرب إلى سلطانه باغتياب الناس، إنما أولئك الصغار الأخطار الدقاق همماً. فقال له: إنما ندعوك إلى أمر أجمع عليه رأي الملإ من الشيعة؛إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه، والطلب بدماء أهل البيت، وقتال المحلين، والدفع عن الضعفاء. قال: ثم تكلم أحمر بن شميط، فقال له: إني لك ناصح، ولحظك محب، وإن أباك قد هلك وهو سيد الناس وفيك منه إن رعيت حق الله خلف؛ قد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس، وأحييت من ذلك أمراً قد مات؛ إنما يكفي مثلك اليسير حتى تبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها، إنه قد بنى لك أولك مفتخراً. وأقبل القوم كلهم عليه يدعونه إلى أمرهم ويرغبونه فيه. فقال لهم إبراهيم بن الأشتر:فإني قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته، علىأن تولوني الأمر،فقالوا: أنت لذلك أهل؛ ولكن ليس إلى ذلك سبيل؛ هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي؛ وهو الرسول والمأمور بالقتال؛ وقد أمرنابطاعته. فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم. فانصرفنا من عنده إلى المختار فأخبرناه بما رد علينا؛ قال: فغبر ثلاثاً؛ ثم إن المختار دعا بضعة عشر رجلاً من وجوه أصحابه - قال الشعبي: أنا وأبي فيهم - قال: فسار بنا ومضى أمامنا يقد بنا بيوت الكوفة قداً لا ندري أين يريد؛ حتى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر؛ فاستأذنا عليه فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد؛ فجلسنا عليها وجلس المختار معه على فراشه؛ فقال المختار: الحمد لله، وأشهد أن لا اله إلا الله، وصلى الله على محمد، والسلام عليه،أما بعد، فإن هذا كتاب إليك من المهدي محمد بن أمير المؤمنين الوصى؛ وهو خير أهل الأرض اليوم، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله؛ وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت،وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك، وسيغني الله المهدي محمداً وأولياءه عنك.قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلى حين خرج من منزله؛فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعته إليه، فدعا بالمصباح وفض خاتمه، وقرأه فإذا هو: " بسم الله الرحمن الرحيم " . ن محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا اله إلا هو؛ أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي؛ فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك؛ فإنك إن تنصرني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري كانت لك عندي بذلك فضيلة؛ ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة ة وأقصى بلاد أهل الشأم،على الوفاء بذلك على عهد الله؛ فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكاً لا تستقيله أبداً، والسلام عليك. فلما قضى إبراهيم قراءة الكتاب، قال: لقد كتب إلى ابن الحنفية؛ وقد كتبت إليه قبل اليوم؛ فما كان يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه، قال له المختار: إن

ذلك زمان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلى؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم - قال الشعبي: إلا أنا وأبي - فقالوا نشهد أن هذا كتاب محمد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عن ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال أبسط يدك أبايعك؛ فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنابفاكهة، فأصبنا منها؛ ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا؛ وخرج معنا ابن الأشتر؛ فركب مع المختار حتى دخل رحله؛ فلما رجع إبراهيم منصرفاً اخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك؛ أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقاً. قال: فقلت له هذه المقالة؛ وأنا والله لهم على شهادتهم متهم؛ غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم؛ وأحب تمام ذلك الأمر؛ فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك؛ فقال لي ابن الأشتر: أكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف. ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري،ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي؛ حتى على أسماء القوم؛ ثم كتب: شهدوا أن محمد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بموآزرة المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهادة شراحيل ابن عبد - وهو أبو عامر الشعبي الفقيه - وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي. فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال:دعه يكون. ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار.مان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلى؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم - قال الشعبي: إلا أنا وأبي - فقالوا نشهد أن هذا كتاب محمد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عن ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال أبسط يدك أبايعك؛ فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنابفاكهة، فأصبنا منها؛ ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا؛ وخرج معنا ابن الأشتر؛ فركب مع المختار حتى دخل رحله؛ فلما رجع إبراهيم منصرفاً اخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك؛ أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقاً. قال: فقلت له هذه المقالة؛ وأنا والله لهم على شهادتهم متهم؛ غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم؛ وأحب تمام ذلك الأمر؛ فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك؛ فقال لي ابن الأشتر: أكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف. ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري،ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي؛ حتى على أسماء القوم؛ ثم كتب: شهدوا أن محمد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بموآزرة المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهادة شراحيل ابن عبد - وهو أبو عامر الشعبي الفقيه - وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي. فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال:دعه يكون. ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار.
قال هشام بن محمد: قال أبومخنف: حدثني يحيى بن أبي عيسى الأزدي،قال: كان حميد بن مسلم الأزدي صديقاً لإبراهيم بن الأشتر؛ وكان يختلف إليه، ويذهب به معه؛ وكان أبراهيم يروح في كل عشية عند المساء،فيأتي المختار، فيمكث عنده حتى تصوب النجوم، ثم ينصرف؛ فمكثوا بذلك يدبرون أمورهم؛ حتى أجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع

عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين، ووطن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم.فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر؛ فأذن؛ ثم إنه استقدم، فصلى بنا المغرب، ثم خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أوالذئب - وهو يريد المختار، - فأقبلنا علينا السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين؛ قال: فخرج إياس في الشرط، فبعث ابنه إلى الكناسة، وأقبل يسيرحول السوق في الشرط.
ثم إن إياس بن مضارب دخل على ابن مطيع، فقال له: إني قد بعثت ابني إلى الكناسة، فلو بعث في كل جبانة في الكوفة عظيمة رجلاً من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة؛ هاب المريب الخروج عليك. وقال:فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبانة السبيع، وقال: أكفني قومك،لا أوتين من قبلك، وأحكم أمر الجبانة التي وجهتك إليها،لا يحدثن بها حدث؛ فأوليك العجز والوهن. وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة كندة، وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم، وبعث عبد الرحمن بن مخنف بن سليم إلى جبانة الصائديين، وبعث يزيد بن الحارث بن رؤيم أبا حوشب إلى جبانة مراد، وأوصى كل رجل أن يكفيه قومه، وألا يؤتى من قبله، وأن يحكم الوجه الذي وجهه فيه؛ وبعث شبث بن ربعى إلى السبخة، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم؛ فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين؛ فنزلوا هذه الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار؛وقد بلغه ان الجبابين قد حشيت رجالاً، وأن الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى،عن حميد بن مسلم، قال: خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتى مررنا بدارعمرو بن حريث، ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو من مائة، علينا بالدروع،قد كفرنا عليها بالأقبية، ونحن متقلدو السيوف؛ ليسي معنا سلاح إلا السيوف في عواتقنا، والدروع قد سترناها بأقبيتنا؛ فلما مررنا بدار سعيد بن قيس فجزناها إلى دار أسامة، قلنا: مر بنا على دار خالد بن عرفطة، ثم امض بنا إلى بجيلة، فلنمر في دورهم حتى نخرج إلى دار المختار - وكان إبراهيم فتىً حدثاً شجاعاً؛ فكان لا يكره أن يلقاهم - فقال والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق، ولأرعبن به عدونا ولأرينهم هوانهم علينا. قال: فأخذنا على باب الفيل على دار ابن هبار؛ ثم أخذ ذات اليمين على دار عمرو بن حريث؛ حتى إذا جاوزها ألفيناإياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح فقال لنا: من أنتم؟ ما أنتم؟ فقال له إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال له ابن مضارب: ما هذا الجمع معك؟وما تريد؟ والله إن أمرك لمريب وقد بلغني أنك تمر كل عشية هاهنا، وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه. فقال إبراهيم: لا أباً لغيرك!

خل سبيلنا، فقال: كلا والله لا أفعل - ومع إياس بن مضارب رجل من همدان، يقال له أبو قطن، كان يكون مع إمرة الشرطة فهم يكرمونه ويؤثرونه، وكان لابن الأشتر صديقاً - فقال له ابن الأشتر: يا أبا قطن،أدن مني - ومع أبي قطن رمح له طويل - ؛ فدنا منه أبو قطن؛ ومعه الرمح؛ هو يرى أن ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب ليخلىسبيله؛ فقال إبراهيم - وتناول الرمح من يده: إن رمحك هذا لطويل؛ فحمل به إبراهيم على ابن مضارب، فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، وقال لرجل من قومه: انزل عليه فاحتز رأسه،فنزل إليه فاحتز رأسه، وتفرق أصحابه ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنه راشد بن إياس مكان أبيه على الشرطة، وبعث مكان راشد بن إياس إلى الكناسة تلك الليلة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلىالمختار ليلة الأربعاء. فدخل عليه فقال له إبراهيم: إنا اتعدنا للخروج للقابلة ليلة الخميس. وقد حدث أمر لا بد من الخروج الليلة، قال المختار: ماهو؟ قال: عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه، فقتلته؛ وهذا رأسه مع أصحابي على الباب. فقال المختار: فبشرك الله بخير! فهذا طير صالح، وهذا أول الفتح إن شاء الله. ثم قال المختار: قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم أنت يا عبد الله بن شداد؛ فناد " يا منصور أمت " ؛ وقم أنت ياسفيان بن ليل، وأنت يا قدامة ابن مالك، فناد: يا لثأرات الحسين! ثم قال المختار: على بدرعي وسلاحي، فأتى به؛ فأخذ يلبس سلاحه ويقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل
أنى غداة الروع مقدام بطل
ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الرؤس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم؛ فلو أنى خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتى قومي؛ فيأتيني كل من قد بايعني من قومي، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا؛ فخرج إلى من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس؛ فمن أتاك حبسته عندك إلى من معك ولم تفرقهم؛ فإن عوجلت فأتيت كان معك من تمتنع به؛ وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك في الخيل و الرجال. قال له. إمالا فاعجل وإياك أن بسير إلى أميرهم تقاتله. ولا تقاتل أحداً وأنت تستطيع ألا تقاتل،واحفظ ما أوصيتك به إلا أن يبدأك أحد بقتال. فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها؛ حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان بايعه وأجابه. ثم إنه سار بهم في سكك الكوفة طويلاً من الليل؛ وهو في ذلك يتجنب السكك التي فيها الأمراء، فجاء إلى الذين معهم الجماعات الذين وضع ابن مطيع في الجبابين وأفواه الطرق العظام، حتى انتهى إلى مسجد السكون، وعجلت إليه خيل من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس لهم قائد ولا عليهم أمير. فشد عليهم إبراهيم بن الأشتر وأصحابه،فكشفوهم حتى دخلوا جبانة كندة. فقال إبراهيم: من صاحب الخيل في جبانة كندة؟ فشد إبراهيم وأصحابه عليهم، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك، وثرنا لهم. فانصرنا عليهم، وتمم لنا دعوتنا؛ حتى أنتهى إليهم هو وأصحابه. فخالطوهم وكشفوهم فقيل له: زحر بن قيس؛ فقال: انصرفوا بنا عنهم. فركب بعضهم بعضاً كلما لقيهم زقاق دخل منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون.
ثم خرج إبراهيم يسير حتى انتهى إلى جبانة أثير، فوقف فيها طويلاً،ونادى أصحابه بشعارهم، فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم في جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلا وهم معه في الجبانة، فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه: يا شرطة الله، انزلوا فإنكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا

دماء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلوا ثم شد عليهم إبراهيم،فضربهم حتى أخرجهم من الصحراء، ولوا منهزمين يركب بعضهم بعضاً،وهم يتلاومون،فقال قائل منهم: إن هذا الأمر يراد؛ ما يلقون لنا جماعة إلا هزموهم! فلم يزل يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة. وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم: اتبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلىمن ندعو وما نطلب. وإلى من يدعون وما يطلبون! قال: لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتى يؤمن الله بنا وحشته، ونكون من أمره على علم،ويعلم هو أيضاً ما كان من عنائنا، فيزداد هو وأصحابه قوة وبصيرة إلى قواهم وبصيرتهم، مع أنى لا آمن أن؟؟؟ يكون قد أتى. فأقبل إبراهيم في أصحابه حتى مر بمسجد الأشعث، فوقف به ساعة،ثم مضى حتى أتى دار المختار، فوجد الأصوات عالية، والقوم يقتلون،وقد جاء شبث بن ربعى من قبل السبخة، فعبى له المختار يزيد بن أنس،وجاء حجار بن أبجر العجلي. فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط،فالناس يقتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجاراً وأصحابه أن إبراهيم قد جاءهم من ورائهم، فتفرقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم، وذهبوا في الأزقة و السكك، وجاء قيس بن طهفة في قريب من مائة رجل من بني نهد من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا جميعاً. ثم إن شبث بن ربعي ترك لهم السكة، وأقبل حتى لقي ابن مطيع، فقال: ابعث إلى أمراء الجبابين فمرهم فليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإن أمر القوم قد قوي، وقد خرج المختار وظهر، واجتمع له أمره. فلما بلغ ذاك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع خرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة. قال: وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم،يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب بن أبي كعب الخثمعي منهم، وكان كعب في جبانة بشر، فلما بلغه أن شاكراً تخرج جاء يسير حتى نزل بالميدان،وأخذ عليهم بأفواه سككهم وطرقهم. قال: فلما أتاهم أبو عثمان النهدي في عصابة من أصحابه، نادى: يا لثأرات الحسين! يا منصور أمت! يا أيها الحي المهتدون، ألا إن أمير آل محمد ووزيرهم. قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعياً ومبشراً، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! قال:فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثأرات الحسين! ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قراد الخثمعي في جماعة من خثعم نحو المائتين حتى لحق بالمختار، فنزلوا معه في عسكره، وقد كان عرض له كعب بن أبي كعب فصافه. فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلى عنهم. ولم يقاتلهم. وخرجت شبام من آخر ليلتهم فاجتمعوا إلى جبانة مراد، فلمابلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد بن قيس بعث إليهم: إن كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا تمروا على جبانة السبيع، فلحقوا بالمختار. فتوافى إلى المختارثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفاً كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر. فأصبح قد فرغ من تعبيتة. قال أبو مخنف: فحدثني الوالي قال: خرجت أنا وحميد بن مسلم؛والنعمان بن أبي الجعد إلى المختار ليلة خرج. فأتيناه في داره، وخرجنا معه إلى معسكره؛ قال: فو الله ما انفجر الفجر حتى فرغ من تعبيته؛ فلماأصبح استقدم، فصلى بنا الغداة بغلس، ثم قرأ " والنازعات " و " عبس وتولى " قال: فما سمعنا إماماً أم قوماً أفصح لهجة منه.
قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين. فأمرهم أن ينضموا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب: ناد في الناس فليأتوا المسجد، فنادى المنادي: ألا برئت الذمة من رجل لم يحضر المسجد الليلة! فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو من ثلاثة ألاف إلى المختار، وبعث

راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت التيمي عن أبي سعيد الصيقل،قال: لما صلى المختار الغداة ثم انصرف سمعنا أصواتاً مرتفعة فيما بين بني سليم وسكة البريد، فقال المختار: من يعلم لنا علم هؤلاء ما هم؟ فقلت له: أنا أصلحك الله! فقال المختار: إما لا فألق سلاحك وانطلق حتى تدخل فيهم كأنك نظار، ثم تأتيني بخبرهم. قال: ففعلت، فلما دنوت منهم إذا مؤذنهم يقيم، فجئت حتى دنوت منهم فإذا شبث بن ربعي معهم خيل عظيمة، وعلى خيله شيبان بن حريث الضبي، وهو في الرجالة معهم منهم كثرة، فلما أقام مؤذنهم تقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: " إذا زلزلت الأرض زلزالها " ، فقلت في نفيس: أما والله إني لأرجو أن يزلزل الله بكم، وقرأ: " والعاديات ضبحاً " ، فقال أناس من أصحابه: لو كنت قرأت سورتين هما أطول من هاتين شيئاً! فقال شبث: ترون الديلم قد نزلت بساحتكم، وأنتم تقولون: لو قرأت سورة البقرة وآل عمران! قال: وكانوا ثلاثة آلاف قال: فأبلت سريعاً حتى أتيت المختار فأخبرته بخبر شبث و أصحابه، وأتاه معي ساعة أتيته سعر بن أبي سعر الحنفي يركض من قبل مراد، وكان ممن بايع المختار فلم يقدر على الخروج معه ليلة خرج مخافة الحرس، فلما أصبح أقبل على فرسه، فمر بجبانة مراد؛ وفيها راشد بن إياس، فقالوا: كما أنت! ومن أنت؟ فراكضهم حتى جاء المختار، فأخبره خبر راشد، وأخبرته أنا خبر شبث، قال: فسرح إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس في تسعمائة - ويقال ستمائة فارس وستمائة راجل - وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلثمائة فارس وستمائة راجل، وقال لهما:امضيا حتى تلقيا عدوكما، فإذا لقيتماهم فانزلا في الرجال وعجلا الفراغ وابدآهم بالإقدام، ولا تستهدفا لهم؛ فإنهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلي حتى تظهرا أن تقتلا. فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة أمامه. وتوجه نعيم بن هبيرة قبل شبث.قال أبو مخنف: قال أبو سعيد الصيقل: كنت أنا فيمن توجه مع نعيم ابن هبيرة إلى شبث ومعي سعر بن أبي سعر الحنفي، فلما انتهينا إليه قاتلناه قتالاً شديداً، فجعل نعيم بن هبيرة سعر بن أبي سعر الحنفي على الخيل، ومشى هو في الرجال فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فضربناهم حتى أدخلناهم البيوت؛ ثم إن شبث بن ربعي ناداهم: يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن عبيدكم تهربون! قال: فثابت إليه منهم جماعة فشد علينا وقد تفرقنا فهزمنا، وصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر فأسروأسرت أنا وخليد مولى حسان بن محدوج، فقال شبث لخليد - وكان وسيماً جسيماً: من أنت؟ فقال: خليد مولى حسان بن محدوج الذهلي، فقال له شبث:يا بن المتكاء، تركت بيع الصحناة بالكناسة وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليه بسيفك تضرب رقابه! اضربوا عنقه، فقتل، ورأى سعراً الحنفي فعرفه، فقال: أخو بني حنيفة؟ فقال له: نعم، فقال: ويحك! ما أردت إلى اتباع هذه السبيئة! قبح الله رأيك، دعوا ذا. فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربي؛ إن علم و الله إني مولى قتلني.فلما عرضت عليه قال:من أنت؟ فقلت: من بني تيم الله؛ قال: أعربي أنت أو مولى؟ فقلت: لا بل عربي، أنا من آل زياد بن خصفة، فقال: بخ بخ! ذكرت الشريف المعروف، الحق بأهلك. قال: فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء،وكانت لي في قتال القوم بصيرة، فجئت حتى انتهيت إلى المختار؛ وقلت في نفسي: والله لآتين أصحابي فلأواسينهم بنفسي، فقبح الله العيش بعدهم! قال: فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي، وأقبلت إليه خيل شبث،وجاءه قتل نعيم بن هبيرة، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير؛ قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بالذي كان من أمري، فقال لي: اسكت، فليس هذا بمكان الحديث. وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بي رؤيم في ألفين من قبل سكة لحام جرير،فوقفوا في أفواه تلك السكك. وولى المختار يزيد بن أنس خيله، وخرج هو في الرجالة. قال أبو مخنف: فدثني الحارث بن كعب الوالي؛ والبة الأزد، قال: حملت علينا خيل شبث بن ربعي حملتين. فما يزول من رجل من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا: يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم، وتسمل أعينكم، وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم؛ وأنتم مقيمون في بيوتكم، وطاعة عدوكم. فما

ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذاً والله لا يدعون منكم عيناً تطرف، وليقتلنكم صبراً، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلى الصدق و الصبر. و الطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم. فتيسروا للشدة. وتهيئوا للحملة، فإذا ركت رايتي مرتين فاحملوا. قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجشوناً على الركب، وانتظرنا أمره. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتركان حين توجه إلى راشد بن إياس، مضى حتى لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غلبت فئة كثيرةً بإذن الله و الله مع الصابرين، ثم قال: يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قدماً قدماً، واقتتل الناس،فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشداً ورب الكعبة. وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد بيشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين. فاعترض إبراهيم بن الأشتر فوبق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشي إبراهيم نحوه في الرجال.فقال:والله ما اطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف، حتى، انهزموا. وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة بن نصر،فلما رآه عرفه، فقال له: يا حسان بن فائد، أما و الله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء، فعثر بحسان فرسه فوقع.فقال: تعساً لك؛ أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به. فضاربهم ساعةً بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر، قال: إنك آمن يا أبا عبد الله، لا تقتل نفسك، وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه، ومر به إبراهيم، فقال لهنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذاً والله لا يدعون منكم عيناً تطرف، وليقتلنكم صبراً، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلى الصدق و الصبر. و الطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم. فتيسروا للشدة. وتهيئوا للحملة، فإذا ركت رايتي مرتين فاحملوا. قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجشوناً على الركب، وانتظرنا أمره. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتركان حين توجه إلى راشد بن إياس، مضى حتى لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غلبت فئة كثيرةً بإذن الله و الله مع الصابرين، ثم قال: يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قدماً قدماً، واقتتل الناس،فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشداً ورب الكعبة. وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد بيشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين. فاعترض إبراهيم بن الأشتر فوبق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشي إبراهيم نحوه في الرجال.فقال:والله ما اطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف، حتى، انهزموا. وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة بن نصر،فلما رآه عرفه، فقال له: يا حسان بن فائد، أما و الله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء، فعثر بحسان فرسه فوقع.فقال: تعساً لك؛ أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به. فضاربهم ساعةً بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر، قال: إنك آمن يا أبا عبد الله، لا تقتل نفسك، وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه، ومر به إبراهيم، فقال له

خزيمة: هذا ابن عمي وقد آمنته؛ فقال له إبراهيم: أحسنت، فأمر خزيمة بطلب فرسه حتى أتى به، فحمله عليه. وقال: الحق بأهلك. قال: وأقبل إبراهيم نحو المختار، وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس.فلما رآه يزيد بن الحارث وهو على أفواه سكك الكوفة التي تلي السبخة،وإبراهيم مقبل نحو شبث، أقبل نحوه ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفةً من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال: أغن عنا يزيد بن الحارث. وصمد هو في بقية أصحابه نحو شبث بن ربعي. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب أن إبراهيم لما أقبل نحونارأينا شبشاً وأصحابه ينكصون وراءهم رويداً، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه. حمل عليهم. وأمرنا يزيد بن أنس بالحملة عليهم،فحملنا عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة

ابن نصر على يزيد بن الحارث بن رؤيم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك،وقد كان يزيد بن الحارث وضع راميةً على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى أفواه السكك رمته تلك الرامية بالنبل، فصدوهم عن دخول الكوفة من ذلك الوجه، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس. فأسقط في يده. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن هانئ، قال: قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لا بن مطيع: أيها الرجل لا يسقط في خلدك، ولا تلق بيدك، اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوك فاغزهم، فإن الناس كثيرعددهم، وكلهم معك إلى هذه الطاغية التي خرجت على الناس، والله مخزيها ومهلكها، وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة، ومع غيري طائفة. قال: فخرج ابن مطيع، فقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس، إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها، خبيث دينها. ضالة مضلة. اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم وقاتلوهم عن مصركم، وامنعوا منهم فيئكم، وإلى و الله ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه. والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرريكم عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم وتغير دينكم حين يكثرون. " ثم نزل. قال: ومنعهم يزيد بن الحارث أن يدخلوا الكوفة. قال: ومضى المختارمن السبخة حتى ظهر على الجبانة، ثم ارتفع إلى البيوت؛ بيوت مزينة وأحمس وبارق، فنزل عند مسجدهم وبيوتهم، وبيوتهم شاذة منفردةمن بيوت أهل الكوفة، فاستقبلوه بالماء، فسقى أصحابه، وأبى المختار أن يشرب. قال: فظن أصحابه أنه صائم، وقال أحمر بن هديج من همدان لابن كامل: أترى الأمير صائماً؟ فقال له: نعم، هو صائم، فقال له: فلو أنه كان في هذا اليوم مفطراً كان أقوى له: إنه معصوم،وهو أعلم بما يصنع؛ فقال له: صدقت. أستغفر الله. وقال المختار: نعم مكان المقاتل هذا، فقال له: إبراهيم بن الأشتر: قد هزمهم الله وفلهم، وأدخل الرعب قلوبهم، وتنزل هاهنا! سر بنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع،ولا يمتنع لبير امتناع؛ فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذي علة. وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتى تسيروا إلى عدونا. ففعلوا، فاستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم بن الأشتر أماه، وعبى أصحابه على الحال التي عليها في السبخة. قال: وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فخرج عليهم من سكة الثوريين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه. فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، وذهب المختار في إبراهيم، فمضوا جميعاً حتى إذا انتهى المختار إلى موضع مصلى خالد بن عبد الله وقف، وأمر إبراهيم أن يمضى على وجهه حتى يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى، فخرج إليه من سكة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح المختارإليه سعيد بن منقذ الهمداني فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن اطوه، وامض على وجهك. فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في نحو من ألفين - أو قال: خمسة آلاف.وهو الصحيح - وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس: أن الحقوا بابن مساحق. قال: واستخلف شبث بن ربعي على القصر،وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، قال: إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتى إذا دنا منهم قال لهم: انزلوا، فنزلوا، فقال:قربوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثم امشوا إليهم مصلتين بالسيوف،ولا يهولنكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعي وآل عتيبة بن النهاس وآلاالأشعث وآل فلان وآل يزيد بن الحارث قال: فسمى بيوتات من بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو قد وجدوا لهم حر السيوف قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزي عن الذئب. قال حصيرة: فإني لأنظر إليه وإلى أصحابه حين قربوا خيولهم وحين أخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فرفعه فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرود، وقد شد بها على القباء،وقد كفر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فدى لكم عمي وخالي! قال: فو الله ما لبثهم أن هزمهم؛ فركب بعضهم بعضاً على فم السكة وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بلجام دابته، ورفع

السيف عليه، فقال له ابن مساحق: يابن الأشتر،لسيف عليه، فقال له ابن مساحق: يابن الأشتر

أنشدك الله، أتطلبني بثأر! هل بيني وبينك من إحنة! فخلى ابن الأشتر سبيله،وقال له: اذكرها؛ فكان بعد ذلك ابن مساحق يذكرها لابن الأشتر،وأقبلوا يسيرون حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتى دخلوا السوق والمسجد،وحصروا ابن مطيع ثلاثاً. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أن ابن مطيع مكث ثلاثاً،يرزق أصحابه في القصر حيث حصر الدقيق، ومعه أشراف الناس، إلاما كان من عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ولم يلزم نفسه الحصار، ثم خرج حتى نزل البر، وجاء المختار حتى نزل جانب السوق، وولى حصارالقصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنسن وأحمر بن شميط، فكان ابن الأشتر مما يلي المسجد وباب القصر، ويزيد بن أنس مما يلي بني حذيفةوسكة دار الروميين، وأحمر بن شميط مما يلي دار عمارة ودار أبي موسى.فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلمه الأشراف، فقام إليه شبث فقال: أصلح الله الأمير! انظر لنفسك ولمن معك، فو الله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم. قال ابن مطيع: هاتوا، أشيروا علي برأيكم؛قال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أماناً ولنا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك. قال ابن مطيع: والله إني لأكره أن آخذ منه أماناً و الأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كله وبأرض البصرة؛ قال: فتخرج لا يشعر بك أحد حتى تنزل منزلا بالكوفة عند من تستنصحه وتثق به، ولا يعلم بمكانك حتى تخرج فتلحق بصاحبك؛ فقال لأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشراف أهل الكوفة: ما ترون في هذا الرأي الذي أشار به على شبث؟ فقالوا: مانرى الرأي إلا ما أشار به عليك ، قال: فرويداً حتى أمسي. قال أبو مخنف: فحدثني أبو المغلس الليثي، أن عبد الله بن عبد الله الليثي أشرف على أصحاب المختار من القصر من العشي يشتمهم، وينتحي له مالك بن عمرو أبو نمران النهدي بسهم، فيمر بحلقه، فقطع جلدةً من حلقه فمال فوقع؛ قال: ثم إنه قام وبرأ بعد؛ وقال النهدي حين أصابه: خذها من مالك، من فاعل كذا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صاح، عن حسان بن فائد بن بكير، قال لما أمسينا في القصر في اليوم الثالث، دعانا ابن مطيع، فذكرالله بما هو أهله. وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد،فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم؛ وقد علمت أنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم، ما عدا الرجل أو الرجلين، وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مناصحين، وأنا مبلغ ذلك صاحبي،ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوه، حتى كان الله الغالب على أمره، وقد كان من رأيكم وما أشرتم به على ما قد علمتم، وقد رأيت أن أخرج الساعة. فقال له شبث: جزاك الله من أمير خيراً! فقد و الله عففت عن أموالنا، أكرمت أشرافنا، ونصحت لصاحبك، وقضيت الذي عليك، والله ما كنا لنفارقك أبداً إلا ونحن منك في إذن، فقال: جزاكم الله خيراً، أخذ امرؤ حيث أحب، ثم خرج من نحو دروب الروميين حتى أتى دار أبي موسى، وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، فقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون؛ فخرجوا فبايعوا المختار. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر العدوى؛ من عدى جهينة - وهو أبو الأشعر - أن المختار جاء حتى دخل القصر، فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه، فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه آخر الدهر، وعداً مفعولاً، وقضاءً مقضياً، وقد خاب من افترى. أيها الناس، إنه رفعت لنا راية، ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها،فسمعنا دعوة الداعي، ومقالة الواعي؛ فكم من ناع وناعية، لقتلي في الواعية! وبعداً لمن طغى وأدبر، وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى، فلا و الذي جعل السماء سقفاً مكفوفاً، والأرض فجاجاً سبلا، ما بايعتم بعد على بن أبي طالب وآل على أهدى منها .ثم نزل فدخل، ودخلنا عليه وأشراف الناس، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه،وجعل يقول: تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نستقيلكم؛ فإذا قال الرجل: نعم، بايعته. قال: فكأني والله أنظر إلى

المنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذأتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفاً عن المصطبة،فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح به سعيد بنالمنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذأتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفاً عن المصطبة،فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح به سعيد بن منقذ: لا تعجلوا، لاتعجلوا حتى ننظر مارأى أميركم فيه، قال: وبلغ المختار ذلك ، فكرهه حتى رئى ذلك في وجهه، وأقبل المختار يمني الناس ، ويستجر مودتهم ومودة الأشراف، ويسحن السيرة جهده. قال: وجاءه ابن كامل فقال للمختار، أعلمت أن ابن مطيع في دار أبي موسى؟ فلم يجبه بشئ، فأعادها عليه ثلاث مرات فلم يجبه، ثم أعادها فلم يجيبه، فظن ابن كامل أن ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقاً، فلما أمسى بعث إلى أبن مطيع بمائة ألف درهم فقال له: تجهز بهذه واخراج؛ فإني قد شعرت بمكانك، وقد ظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلى أنه ليس في يديك ما يقويك على الخروج. وأصاب المختار تسعة آلاف ألف في بيت مال الكوفة، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر - وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل - كل رجل خمسمائة درهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، فأقاموا معه تلك الليلة وتلك الثلاثة الأيام حتى دخل القصر مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومناهم العدل وحسن السيرة، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه وحداثه، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة مولى عربته؛ فقام ذات يوم على رأسه، فرأى الأشراف يحدثونه، ورآه قد أقبل بوجهه وحديثه عليهم، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترىأبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا! فدعاه المختار فقال له: ما يقول لك أولئك الذين رأيتهم يكلمونك؟ فقال له - وأسر إليه: شق عليهم أصلحك الله صرفك وجهك عنهم إلى العرب، فقال له : قل لهم: لايشقن

ذلك عليكم، فأنتم مني وأنا منكم، ثم سكت طويلاً، ثم قرأ: " إنا من المجرمين منتقمون " قال: فحدثني أبو الأشعر موسى بن عامر قال: ماهو إلى أن سمعها الموالي منه، فقال بعضهم لبعض: أبشروا،كأنكم والله به قد قتلهم . قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله الأزدي وفضيل بن خديج الكندي والنضر بن صالح العبسي، قالوا: أول رجل عقد له المختارراية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية، وبعث محمد ابن عمير بن عطارد على آذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى،وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري، وهو حليف لثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعثحبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الأسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان مع سعد بن حذيفة ألفا فارس بحلوان. قال:ورزقه ألف درهم في كل شهر، وامره بقتال الأكراد، وبإقامة الطرق، وكتب إلى عماله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بحلوان،وكان عبد الله بن الزبير قد بعث محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل وأمر بمكاتبة ابن مطيع وبالسمع له والطاعة، غير أن ابن مطيع لا يقدر على عزله إلا بأمر ابن الزبير، وكان قبل ذلك في إمارة عبد الله بن يزيد،وإبراهيم بن محمد منقطعاً بإمارة الموصل، لا يكاتب أحداً دون ابن الزبير. فلما قدم عليه عبد الرحمنبن سعيد بن قيس من قبل المختار أميراً تنحى له عن الموصل، وأقبل حتى نزل تكريت، وأقام بها مع أناس من أشراف قومه وغيرهم، وهو معتزل ينظر ما يصنع الناس، وإلى ما يصير أمرهم، ثم شخص إلى المختار فبايع له، ودخل فيما دخل فيه أهل بلده. قال أبو مخنف: وحدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما ظهر المختار واستمكن، ونفى ابن مطيع وبعث عماله،أقبل يجلس للناس غدوةً وعشية، فيقضى بين الخصمين، ثم قال: والله إن لي فيما أزاول وأحاول لشغلا عن القضاء بين الناس، قال: فأجلس للناس شريحاً، وقضى بين الناس، ثم إنه خافهم فمارض، وكانوا يقولون: إنه عثماني، وإنه ممن شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هاني ابن عروة ما أرسله به - وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء - فلماأن سمع بذلك ورآهم يذمونه ويسندون إليه مثل هذا القول تمارض، وجعلالمختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود. ثم إن عبد الله مرض، فجعل مكانهعبد الله بن مالك الطائي قاضياً. قال مسلم بن عبد الله: وكان قبد الله بن همام سمع أبا عمرة يذكر الشيعة وينال من عثمان بن عفان، فقنعه بالسوط، فلما ظهر المختار كان معتزلاًحتى استأمن له عبد الله بن شداد، فجاء إلى المختار ذات يوم فقال:
ألا انتسأت بالود عنك وأدبرت ... معالنةً بالهجر أم سريع
وحملها واش سعى غير مؤتل ... فابت بهم في الفؤاد جميع
فخفض عليك الشأن لايردك الهوى ... فليس انتقال خلة ببديع
وفي ليلة المختارما يذهل الفتى ... ويلهيه عن رؤد الشباب شموع
دعا يالثأرات الحسين فأقبلت ... كتائب من همدان بعد هزيع
ومن مذحج جاء الئيس ابن مالك ... يقود جموعاً عبيت بجموع
ومن أسد وافى يزيد لنصره ... بكل فتى حامي الذمار منيع
وجاء نعيم خير شيبان كلها ... بأمر لدى الهيجا أحد جميع
وما ابن شميط إذ يحرض قومه ... هناك بمخذول ولا بمضيع
ولا قيس نهد لا ولا ابن هوزان ... وكل أخو إخباتة وخشوع
وسار أبو النعمان لله سعيه ... إلى ابن إياس مصحراً لوقوع
بخيل عليها يوم هيجا دروعها ... وأخرى حسوراً غير ذات دروع
فكر الخيول كرةً ثقفتهم ... وشد بأولاها على ابن مطيع
فولى بضرب يشدخ الهام وقعه ... وطعن غداة السكتين وجيع
فحوصر في دار الإمارة بائياً ... بذل وإرغام له وخضوع
فمن وزير ابن الوصى عليهم ... وكان له في الناس خير شفيع

وآب الهدى حقاً إلى مستقره ... بخير إياب آبه ورجوع
إلى الهاشمي المهتدى به ... فنحن له من سامع ومطيع
قال: فلما أنشدها المختار قال المختار لأصحابه: قد أثنى عليكم كما تسمعون، وقد أحسن الثناء عليكم، فأحسنوا له الجزاء. ثم قام المختار،فدخل وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى أخرج إليكم؛ قال: وقال عبد الله ابن شداد الجشمي: يابن همام: إن لك عندي فرساً ومطرفاً، وقال قيس بن طهفة النهدي - وكانت عنده الرباب بنت الأشعث: فإن لك عندي فرساً ومطرفاً، واستحيا أن يعطيه صاحبه شيئاً لا سعطى مثله، فقال ليزيد بن أنس: فما تعطيه؟ فقال يزيد: إن كان ثواب الله أراد بقوله فما عندالله خير له، وإن كان إنما اعترى بهذا القول أموالنا، فو الله ما في أموالنا ما يسعه؛ قد كانت بقيت من عطائي يقية فقويت بها إخواني؛ فقال أحمر بن شميط مبادراً لهم قبل أن يكلموه: يا بن همام، إن كنت أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله، وإن كنت إنما اعتريت به رضاالناس وطلب أموالهم، فاكدم الجندل؛ فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن ينحل، ولايوصل؛ فقال به : عضضت بأيرأبيك! فرفع يزيد بن أنس السوط وقلا لابن همام: تقول هذا القول يافاسق!وقال لابن شميط: اضربه بالسيف، فرفع ابن شميط عليه السيف ووثب ووثب أصحابهما يتفلتون على ابن همام. وأخذ بيده إبراهيم بن الأشتر فألقاه وراءه، وقال: أنا له جار، لم تأتون إليه ما أرى! فو الله إنه لواصل الولاية،راض بما نحن عليه، حسن الثناء، فإن أنتم لم تكافئوه بحسن ثنائه، فلا تشتموا عرضه، ولا تسفكوا دمه. ووثبت مذحج فحالت دونه، وقالوا:أجاره ابن الأشتر، لا والله لا يوصل إليه. قال: وسمع لغطهم المختار، فخرج إليهم، وأومأ بيده إليهم، أن اجلسوا، فجلسوا، فقال لهم: إذا قيل لكم خير فاقبلوه، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوا، وإن لم تقدروا على مكافأة فتنصلوا، واتقوا لسان الشاعر. فإن شره حاضر، وقوله فاجر،وسعيه بائر. وهو بكم غداً غادر. فقالوا: أفلا تقتله؟ قال: إنا قدآمناه وأجرناه، وقد أجاره أخوكم إبراهيم بن الاشتر، فجلس مع الناس.قال: ثم إن إبراهيم قام فانصرف إلى منزله فأعطاه ألفاً وفرساً ومطرفاً فرجع بها وقال: لا والله، لا جاورت هؤلاء أبداً وأقبلت هوازن وغضبت واجتمعت في المسجد غضباً لابن همام. فبعث إليهم المختار فسألهم أن يصفحوا عما اجتمعوا له، ففعاوا، وقال ابن همام لابن الأشتر يمدحه:
أطفأ عني نار كلبين ألبا ... على الكلاب ذو الفعال ابن مالك
فتى حين يلقى الخيل يفرق بينها ... بطعن دراك أو بضرب مواشك
وقد غضبت لي من هوازن عصبة ... طوال الذرا فيها عراض المبارك
إذا ابن شميط أو يزيد تعرضا ... لها وقعا في مستحار المهالك
وثبتم علينا يا موالي طيئ ... مع ابن شميط شر ماش وراتك
وأعظم ديار على الله فرية ... وما مفتر طاغ كآخر ناسك
فيا عجباً من أحمس اينة أحمس ... توثب حولي بالقنا والنيازك
كأنكم في العز قيس وخثعم ... وهل أنتم إلى لئام عوارك
وأقبل عبد الله بن شداد من الغد فجلس في المسجد يقول: علينا توثب بنو أسد وأحمس! والله لا نرضى بهذا أبداً. فبلغ ذلك المختار، فبعث إليه فدعاه، ودعا بيزيد بن أنس وبابن شميط، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يابن شداد، إن الذي فعلت نزغة من نزغات الشيطان، فتب إلى الله، قال: قد تبت، وقال: إن هذين أخواك، فأقبل إليهما، واقبل منهما، وهب لي هذا الأمر؛ قال: فهو لك، وكان ابن همام قد قال قصيدةً أخرى في أمر المختار، فقال:
أضحت سليمي بعد طول عتاب ... وتجرم ونفاد غرب شباب
قد أزمعت بصريمتي وتجنبي ... وتهوك مذ ذاك في إعتاب
لما رأيت القصر أغلق بابه ... وتوكلت همدان بالأسباب
ورأيت أصحاب الدقيق كأنهم ... حول البيوت ثعالب الأسراب
ورأيت أبواب الأزقة حولنا ... دربت بكل هراوة وذباب
أيقنت أن خيول شيعة راشد ... لم يبق منها فيش أير ذباب

ذكر الخبر عن أمر المختار مع قتلة الحسين بالكوفة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلةالحسين و المشايعين على قتله، فقتل من قدر عليه منهم، وهرب من الكوفةبعضهم، فلم يقدر عليه.

ذكر الخبر عن سبب وثوبه بهم وتسمية من قتل منهم ومن هرب فلم يقدر عليه منهم: وكان سبب ذلك - فيما ذكره هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم - أن مروان بن الحكم لما استوسقت له الشأم بالطاعة، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني - وقد ذكرنا أمره وخبر مهلكه قبل - والآخر منهما إلى العراق عليهم عبيد الله بن زياد - وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين من الشيعة بعين الوردة - وكان مروان جعل لعبيد الله بن زياد إذ وجهه إلى العراق ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا هوظفر بأهلها ثلاثاً. قال عوانة: فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبها قيس عيلان علىطاعة ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب قيساً يوم مرج راهط وهم مع الضحاك بن قيس مخالفين على مروان، وعلى ابنه عبد الملك من بعده،فلم يزل عبيد الله مشغلا بهم عن العراق نحواً من سنة. ثم إنه أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار: أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصلن وقد وجه قبلي خيله ورجاله. وأني انحزت إلى تكريت حتىيأتيني رأيك وأمرك، والسلام عليك. فكتب إليه المختار: أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كل ما ذكرت فيه، فقد أصبت بانحيازك إلى تكريت، فلا تبرحن مكانك الذي أنت به حتى يأتيك أمري إن شاء الله، والسلام عليك. قال هشام. عن أبي مخنف: حدثني موسى بن عامر، أن كتاب عبد الرحمن بن سعيد لما ورد على المختار بعث إلى يزيد بن أنس فدعاه، فقال له: يا يزيد بن أنس، إن العلم ليس كالجاهل، وإن الحق ليس كالباطل، وإني أخبرك خبر من لم يكذب ولم يكذب، ولم يخالف ولم يرتب، وإنا المؤمنون الميامين، الغالبون المساليم، وإنك صاحب الخيل التي تجر جعبها، وتضفر أذنابها، حتى توردها منابت الزيتون، غائرة عيونها،لاحقة بطونها. اخرج إلى الموصل حتى تنزل أدانيها، فإني ممدك بالرجال بعد الرجال. فقال له يزيد بن أنس: سرح معي ثلاثة آلاف فارس أنتخبهم، وخلني والفرج الذي توجهنا إليه، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك؛ قال له المختار: فاخرج فانتخب على اسم الله من أحببت فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف بن أبي جابر الأزدي، وعلى ربع تميم وهمدان عاصم بن قيس بن حبيب الهمداني، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي، وعلى ربع ربيعة وكندة سعر بن أبي سعر الحنفي. ثم إنه فصل من الكوفة، فخرج وخرج معه المختار والناس يشيعونه، فلما بلغ دير أبي موسى ودعه المختار وانصرف، ثم قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلى؛ مع أني ممدك ولو لم تستمدد، فإنه أشد لعضدك، وأعز لجندك، وأرعب لعدوك. فقال له يزيد بن أنس: لا تمدني إلى بدعائك، فكفى به مدداً. وقال له الناس: صحبك الله وأداك وأيدك. وودعوه فقال لهم يزيد: سلوا الله لي الشهادة وايم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفتني الشهادة إن شاء الله. فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك. فخرج يزيد بن أنس بالناس حتى بات بسوراً، ثم غدا بهم سائراً حتى بات بهم بالمدائن؛ فشكا الناس إليه ما دخلهم من شدة السير عليهم، فأقام بها يوماً وليلة. ثم إنه اعترض بهم أرض جوخى حتى خرج بهم في الراذانات، حتى قطع بهم إلى أرض الموصل، فنزلت ببنا تلى، وبلغ مكانه ومنزله الذي نزل به عبيد الله بن زياد،فسأل عن عدتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس، فقال عبيد الله: فأنا أبعث إلى كل ألف ألفين. ودعا ربيعة بن المخارق الغنوي وعبد الله بن حملة الخثعمي، فبعثهما في ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وبعث ربيعة بن المخارق أولا، ثم مكث يوماً، ثم بعث خلفه عبد الله بن حملة، ثم كتب إليهما: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه،وإن انتهيتما جميعاً فأكبركما سنا أمير على صاحبه والجماعة. قال: فسبق ربيعة بن المخارق فنزل بيزيد بن أنس وهو ببنات تلى، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: خرج علينا يزيد بن أنس وهو مريض على حمار يمشي معه الرجال يمسكونه عن يمينه وعن شماله، بفخذيه وعضديه

وجنبيه، فجعل يقف على الأرباع:ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. قال: و أنا والله فيمن يمشي معه ويمسك يعضده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به. قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقد موني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم،وإن شئتم ففروا عنه. قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحياناً بظهره فيقول: اصنعوا كذا ، اصنعوا كذا،وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس . قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهمزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الاسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم.ه، فجعل يقف على الأرباع:ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. قال: و أنا والله فيمن يمشي معه ويمسك يعضده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به. قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقد موني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم،وإن شئتم ففروا عنه. قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحياناً بظهره فيقول: اصنعوا كذا ، اصنعوا كذا،وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس . قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهمزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الاسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر العدوي، قال: انتهينا إلى ربيعة ابن المخارق صاحبهم، وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياءالحق، ويا أهل السمع والطاعة، إلى أنا ابن المخارق؛ قال موسى: فأما أنا فكنت غلاماً حدثاً، فهبته ووقفت، ويحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فقتلاه. قال أبو مخنف: وحدثني عمرو بي مالك أبو كبشة القيني؛ قال: كنت غلاماً حين راهقت مع أحد عمومي في ذلك العسكر، فلما نزلنا بعسكر الكوفيين عبأنا ربيعة بن المخارق فأحسن التعبئة، وجعل على ميمنته ابن أخيه، وعلى ميسرته عبد ربه السلمي، وخرج هو في الخيل و الرجال وقال: ياأهل الشأم، إنكم إنما تقاتلون العبيد الأباق، وقوماً قد تركوا الإسلام وخرجوا منه. ليست لهم تقية، ولا ينطقون بالعربية؛ قال: فو الله إن كنت لأحسب أن ذلك كذلك حتى قاتلناهم؛ قال: فو الله ما هو إلى أن اقتتل الناس إذا رجل من أهل العراق يعترض الناس بسيفه وهو يقول:
برئت من دين المحكمينا ... وذاك فينا شر دين دينا
ثم إن قتالنا وقتالهم اشتد ساعة من النهار، ثم إنهم هزمونا حين ارتفع الضحى فقتلوا صاحبنا. وحووا عسكرنا؛ فخرجنا منهزمين حتى تلقانا عبد الله بن حملة على مسيرة ساعة من تلك القرية التي يقال لها بنات تلى، فردنا، فأقبلنا معه حتى نزل بيزيد بن أنس، فبتنا متحارسين

حتى أصبحنا فصلينا الغداة، ثم خرجنا على تعبئة حسنة، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة؛ من خثعم، وعلى ميسرته ابن أقيصر القحافي من خثعم، وتقدم في الخيل والرجال، وذلك يوم الاضحى، فاقتتلنا قتالاً شديداً، ثم إنهم هزمونا هزيمة قبيحة، وقتلونا قتالاً ذريعاً، وحووا عسكرنا، وأقبلناحتى انتهينا إلى عبيد الله بن زياد فحدثناه بما لقينا. قال أيو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: أقبل إلينا عبد الله بن حملة الخثعمي؛ فاستقبل فل ربيعة بن المخارق الغنوي فردهم، ثم جاء حتى نزل ببنات تلى، فلما أصبح غادوا غادينا، فتطاردت الخيلان من أول النهار، ثم انصرفوا وانصرفنا؛ حتى إذا صلينا الظهر خرجنا فاقتتلنا، ثم هزمناهم.
قال: ونزل عبد الله بن حملة فأخذ ينادي أصحابه: الكرة بعد الفرة، ياأهل السمع والطاعة؛ فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوينا عسكرهم وما فيه، وأتى يزيد بن أنس بثلثمائة أسير وهو في السوق، فأخذ يومئ بيده أن اضربوا أعناقهم، فقتلوا من عند آخرهم.
وقال يزيد بن أنس: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فما أمسى حتى مات، فصلى عليه ورقاء بن عازب ودفنه، فلما رأى ذلك أصحابه أسقط في أيديهم، وكسر موته قلوب أصحابه، وأخذوا في دفنه، فقال لهم ورقاء: ياقوم. ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن عبيد الله بن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفاً من أهل الشأم، فأخذوا يتسللون ويرجعون. ثم إن ورقاء دعا رءوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم: ياهؤلاء، ماذا ترون فيما أخبرتكم؟ إنما أنا رجل منكم، ولست بأفضلكم رأباً. فأشيروا على. فإن ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشأم الأعظم، وبجلتهم فرسانهم وأشرافهم. ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرقت عنا طائفة منا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم، وقبل أن نبلغهم، فيعلموا أنا إنما ردنا عنهم هلاك صاحبنا، فلا يزالوا لنا هائبين لقتلنا منهم أميرهم! ولأنا إنما نعتل لانصرافنا بموت صاحبنا. وإنا لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمنا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم من قبل اليوم. قالوا: فإنك نعماً رأيت، انصرف رحمك الله. فانصرف، فبلغ منصرفهم ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس، ولم يعلموا كيف كان الأمر أن يزيد بن أنس هلك، وأن الناس هزموا، فبعث إلى المختار عامله على المدائن عيناً له من أنباط السواد فأخبره الخبر، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر فعقد له على سبعة آلاف رجل، ثم قال له: سر حتى إذا أنت لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثم سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم. فخرج إبراهيم فوضع عسكره بحمام أعين. قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير النضر بن صالح، قال: لما مات يزيد أنس التقى أشراف الناس بالكوفة فارجفوا بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس، ولم يصدقوا أنه مات، وأخذوا يقولون: والله لقد بأمر علينا هذا الرجل بغير رضاً منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا. فاتعدوا منزل شبث بن ربعي وقالوا: نجتمع في منزل شيخنا - وكان شبث جاهلياً إسلامياً - فاجتمعوا فأتوا منزله، فصلى بأصحابه، ثم تذاكروا هذا النحو من الحديث قال: ولم يكن فيما أحدث المختار عليهم شئ هو أعظم من أن جعل للموالي الفئ نصيباً - فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه؛ فذهب فلقيه، فلم يدع شيئاً مما أنكره أصحابه إلى وقد ذاكره إياه، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أرضيهم في هذه الخصلة، وآتى كل شئ أحبوا؛ قال: فذكر المماليك؛ قال: فأنا أرد عليهم عبيدهم، فذكر له الموالي، فقال: عمدت إلى موالينا، وهم فئ أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعاً فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك و الثواب و الشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاءنا في فيئنا، فقال لهم المختار: إن أنا تركت لكم موالينا، وجعلت فيئكم فيكم، أتقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطون على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الأيمان؟ فقال شبث: ما أدري حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك، فخرج فلم يرجع إلى المختار.قال: وأجمع رأى أشراف أهل الكوفة على قتال المختار.

قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن حوشب، قال: جاء شبث ابن ربعي وشمر بن ذي الجوشن ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بي قيس حتى دخلوا على كعب بن أبي الخثعمي، فتكلم شبث، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبره باجتماع رأيهم على قتال المختار، وسأله أن يجيبهم إلى ذلك، وقال فيما يعيب به المختار: إنه تأمر علينا بغير رضاً منا، وزعم أن ابن الحنفية بعثه إلينا، وقد علمنا أن ابن الحنفية لم يفعل، وأطعم موالينا فيئنا. وأخذ عبيدنا، فحرب بهم يتامانا وأراملنا، وأظهر هو وسبئيته البراءة من أسلافنا الصالحين. قال: فرحب بهم كعب بن أبي كعب، وأجابهم إلى ما دعوه إليه. قال أبو مخنف: حدثني أبي يحيى بن سعيد أن أشراف أهل الكوفة قد كانوا دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى أن يجيبهم إلى قتال المختار، فقال لهم: ياهؤلاء، إنكم إن أبيتم إلا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أنتم أطعتموني لم تخرجوا. فقالوا: لم؟ قال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا وتتخاذلوا؛ ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم؛ أليس معه فلان وفلان! ثم معه عبيد كم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم و مواليكم أشد حنقاً عليكم من عدوكم، فهو مقاتلكم بشجاعة العرب، وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشأم، أو بمجئ أهل البصرة، فتكونوا قد كفيتموه بغيركم، ولم تجعلوا بأسكم بينكم؛ قالوا: ننشدك الله أن تخالفنا، وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا. قال: فأنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا.فسار بعضهم إلى بعض وقالوا: انتظروا حتى يذهب عنه إبراهيم بن الأشتر؛ قال: فأمهلوا حتى إذا بلغ ابن الأشتر ساباط، وثبوا بالمختار. قال: فخرج عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس الهمداني في همدان في جبانة السبيع، وخرج زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن محمد بن الأشعث في جبانة كندة.
قال هشام: فحدثني سليمان بن محمد الحضرمي، قال: خرج إليهما جبير الحضرمي فقال لهما: أخرجا عن جبانتنا، فإنا نكره أن نعرى بشر؛ فقال له إسحاق بن محمد: وجبانتكم هي؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه؛ وخرج كعب بن أبي كعب الخثعمي في جبانة بشر، وسار بشير بن جرير بن عبد الله إليهم في بمجيلة، وخرج عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف، وسار إسحاق بن محمد وزحر بن قيس إلى عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس بجبانة السبيع، وسارت بجيلة وخشعم إلى عبد الرحمن ابن مخنف وهو بالأزد. وبلغ الذين في جبانة السبيع أن المختار قد عبأ لهم خيلا ليسير إليهم فبعثوا الرسل يتلو بعضها بعضاً إلى الأزد وبجيلةو ثعم، يسألونهم بالله والرحم لما عجلوا إليهم. فساروا إليهم واجتمعوا جميعاً في جبانة السبيع، ولما أن بلغ ذلك المختار سره اجتماعهم في مكان واحد، وخرج شمر بن ذي الجوشن حتى نزل بجبانة بني سلول في قيس، ونزل شبث بن ربعي وحسان بن فائد العبسي وربيعة بن ثروان الضبي في مضر بالكناسة، ونزل حجار بن أبحر ويزيد بن الحارث بن رؤيم في ربيعة فيما

بي التمارين والسبخة، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي في جبانة مراد بمن تبعه من مذحج، فبعث إليه أهل اليمن: أن ائتنا، فأبى أن يأتيهم وقال لهم: جدوا، فكأني قد أتيتكم. قال: وبعث المختار رسولا من يومه يقال له عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط ألا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلى قال: وبعث إليهم المختار في ذلك اليوم: أخبروني ما تريدون؟ فإني صانع كل ما أحببتم، فقالوا: فإنا نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك. فأرسل إليهم المختار أن ابعثوا إليه من قبلكم وفداً، وأبعث إليه من قبلي وفداً، ثم انظروا في ذلك حتى تتبينوه؛ وهو يريد أن يريثهم بهذه المقالة ليقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وقد أمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شئ يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلا القليل الوتح، يجيئهم إذا غفلوا عنه. قال: وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان، فقاتلته شاكر قتالاً شديداً، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى رد عاديتهم عنه، ثم أقبلا على حاميتهما يسيران حتى نزل عقبة بن طارق مع قيس في جبانة بني سلول، وجاء عبد الله بن سبيع حتى نزل مع أهل اليمن في جبانة السبيع. قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق، أن شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن فقال لهم: إن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنبتين ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم، وإلا فلا، والله لا أقاتل في مثل هذا المكان في سكك ضيقة، ونقاتل من غير وجه. وانصرف إلى جماعة قومه في جبانة بني سلول. قال: ولما خرج رسول المختار إلى ابن الأشتر بلغه من يومه عشية، فنادى في الناس: أن ارجعوا إلى الكوفة، فسار بقية عشيته تلك، ثم نزل حين أمسى، فتعشى أصحابه، وأراحوا الدواب شيئاً كلا شئ، ثم نادى في الناس، فسار ليلته كلها، ثم صلى الغداة بسورا، ثم سار من يومه فصلى العصر على باب الجسر من الغد، ثم إنه جاء حتى بات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة والجلد، حتى إذا كانت صبيحة اليوم الثالث من مخرجهم على المختار، خرج المختار إلى المنبر فصعده. قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب الكلبي أن شبث بن ربعي بعث إليه أبنه عبد المؤمن فقال: إنما نحن عشيرتك، وكف يمينك، لا والله لا نقاتلك، فثق بذلك منا؛ وكان رأيه قتاله، ولكنه كاده. ولما أن اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة. فكره كل رأس من رءوس أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الإختلاف، قدموا الرضا فيكم فإن في عشيرتكم سيد قراء أهل مصر، فيلصل بكم رفاعو بن شداد الفتياني من بجيلة، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة. قال أبو مخنف: وحدثني وازع بن السرى أن أنس بن عمرو الأزدي انطلق فدخل في أهل اليمن، وسمعهم وهم يقولون: إن سار المختار إلى إخواننا من مضر سرنا إليهم، وإن سار إلينا ساروا إلينا، فسمعها منهم رجل، وأقبل جواداً حتى صعد إلى المختار على المنبر، فاخبره بمقالتهم، فقال: أما هم فخلقاء لو سرت إلى مضر أن يسيروا إليهم، وأما أهل اليمن فأشهد لئن سرت إليهم لا تسير إليهم مضر، فكان بعد ذلك يدعو ذلك الرجل ويكرمه . ثم إن المختار نزل فعبأ أصحابه في السوق - والسوق إذ ذاك ليس فيها هذا البناء - فقال لإبراهيم بن الأشتر: إلى أي الفريقين أحب إليك أن تسير؟ فقال: إلى أي الفريقين أحببت، فنظر المختار - وكان ذا رأي، فكره أن يسير إلى قومه فلا يبالغ في قتالهم - فقال: سر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومحمد بن عمير بن عطارد، وأنا أسير إلى أهل اليمن.

قال: ولم يزل المختار يعرف بشدة النفس، وقلة البقيا على أهل اليمن وغيرهم إذا ظفر، فسار إبراهيم بن الأشتر إلى الكناسة، وسار المختار إلى جبانة السبيع، فوقف المختار عند دار عمر بن سعد بن أبي وقاص، وسرح بين أيديه أحمر بن شميط البجلي ثم الأحمسي، وسرح عبد الله بن كامل الشاكري، وقال لابن شميط: الزم هذه السكة حتى تخرج إلى أهل جبانة السبيع من بين دور قومك . وقال لعبد الله بن كامل: الزم هذه السكة حتى تخرج على جبانة السبيع من دار آل الأخنس بن شريق، ودعاهما فأسر إليهما أن شباماً قد بعثت تخبرني أنهم قد أتوا القوم من ورائهم، فمضيا فسلكا الطريقين اللذين أمرهما بهما، وبلغ أهل اليمن مسير هذين الرجلين إليهم، فاقتسموا تينك السكتين، فأما السكة التي في دبر المسجد أحمس فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وإسحاق بن الأشعث وزحر بن قيس، وأما السكة التي تلى الفرات فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف، وبشير بن جرير بن عبد الله، وكعب بن أبي كعب. ثم إن القوم اقتتلوا كأشد قتال اقتتله قوم. ثم إن أصحاب أحمر بن شميط انكشفوا وأصحاب عبد الله بن كامل أيضاً، فلم يرع المختار إلا وقد جاءه الفل قد أقبل؛ فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا؛ قال: فما فعل أحمر بن شميط؟ قالوا: تركناه قد نزل عند مسجد القصاص - يعنون مسجد ألي دواد في وادعة، وكان يعتاده رجال أهل ذلك الزمان يقصون

فيه، وقد نزل معه أناس من أصحابه - وقال أصحاب عبد الله: ما ندري ما فعل ابن كامل! فصاح بهم: أن انصرفوا. ثم أقبل بهم حتى انتهى إلى دار أبي عبد الله الجدلي، وبعث عبد الله بن قراد الخثعمي - وكان على أربعمائة رجل من أصحابه - فقال: سر في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يك هلك فأنت مكانه، فقاتل القوم بأصحابك وأصحابه، وإن تجده حياً صالحاً فسر في مائة من أصحابك كلهم فارس، وادفع إليه بقية أصحابك ومر بالجد معه والمناصحة له، فغنهم إنما يناصحونني، ومن ناصحني فليبشر، ثم امض في المائة حتى تأتي أهل جبانة السبيع مما يلي حمام قطن ابن عبد الله. فمضى فوجد ابن كامل واقفاً عند حمام عمرو بن حريث معه أناس من أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم. فدفع إليه ثلثمائة من أصحابه ثم مضى حتى نزل إلى جبانة السبيع. ثم أخذ في تلك السكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده وقال لأصحابه: ماترون؟ قالوا: أمرنا لأمرك تبع وكل من كان معه من حاشد من قومه وهم مئة؛ فقال لهم: والله إني لأحب أن يظهر المختار. ووالله إني لكاره أن يهلك أشراف عشيرتي اليوم، ووالله لأن أموت أحب إلى من أن يحل بهم الهلاك على يدي، ولكن قفوا قليلا فإني قد سمعت شباماً يزعمون أنهم سيأتونهم من ورائهم، فلعل شباماً تكون هي تفعل ذلك، ونعافى نحن منه. قال له أصحابه: فرأيك. فثبت كما هو عند مسجد عبد القيس، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي في مائتي رجل - وكان من أشد الناس بأساً - وبعث عبد الله بن شريك النهدي في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكشروه، فاقتتلوا عند ذلك كأشد القتال، ومضى ابن الأشتر حتى لقي شبث بن ربعي، وأناساً معه من مضر كثيراً ، وفيهم حسان بن فائد العبسي، فقال لهم إبراهيم : ويحكم! انصرفوا، فو الله ما أحب أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم، فأبوا، فقاتلوه فهزمهم، واحتمل حسان بن فائد إلى أهله، فمات حين أدخل إليهم، وقد كان وهو على فراشه قبل موته أفاق إفاقة فقال: أما والله ما كنت أحب أن أعيش من جراحتي هذه، وما كنت أحب أن تكون منيتي إلا بطعنة رمح، أو بضربة بالسيف؛ فلم يتكلم بعدها كلمة حتى مات. وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار البشرى من قبله إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل، فالناس على أحوالهم كل أهل سكة منهم قد أغنت ما يليها. قال: فاجتمعت شبام وقد رأسو عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا واجتمعوا بأن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: أما والله لو جعلتم جدكم هذا على من خالفكم من غيركم لكان أصوب، فسيروا إلى مضر أو إلى ربيعة فقاتلوهم - وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلم - فقالوا: يا أبا القلوص، مارأيك؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة " قوموا؛ فقاموا؛ فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة ثم قال لهم: اجلسوا فجلسوا. ثم مشى بهم أنفس من ذلك شيئاً، ثم قعد بهم، ثم قال لهم: قوموا، ثم مشى بهم الثالثة أنفس من ذلك شيئاً، ثم قعد بهم، فقالوا له: يا أبا القلوص، و الله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع! قال: إن المجرب ليس كمن لم يجرب، إني أردت أن ترجع إليكم أفئدتكم، وأن توطنوا على القتال أنفسكم، وكرهت أن أقحمكم على القتال وأنتم على حال دهش؛ قالوا: أنت أبصر بما صنعت. فلما خرجوا إلى جبانة السبيع استقبلهم على فم السكة الأعسر الشاكري، فحمل عليه الجندعي وأبو الزبير بن كريب فصرعاه، ودخلا الجبانة، ودخل الناس الجبانة في آثارهم، وهم ينادون: يالثارات الحسين! فأجابهم أصحاب ابن شميط يالثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران من همدان فقال: يالثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: مالنا ولعثمان! لاأقاتل مع قوم يبغون دم عثمان، فقال له أناس من قومه: جئت بنا وأطعناك. حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت: انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول:
أنا ابن شداد على دين علي ... لست لعثمان بن أروى بولى
لأصلين اليوم فيمن يصطلي ... بحر نار الحرب غير مؤتل

فقاتل حتى قتل، وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران، وقتل النعمان ابن صهبان الجرمي ثم الراسي - وكان ناسكاً - ورفاعة بن شداد بن عوسجة الفتياني عند حمام المهبذان الذي بالسبخة - وكان ناسكاً - وقتيل الفرات ابن زحر بن قيس الجعفي، وارتث بن قيس، وقتل عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس. وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى أرتث، وحملته الرجال على أيديها يشعر، وقاتل حوله رجال من الأزد، فقال حميد بن مسلم:
لأضربن عن أبي حكيم ... مفارق الأعبد و الصميم
وقال سراقة بن مرداس البارقي:
يا نفس إلا تصبري تليمي ... لا تتولى عن أبي حكيم

واستخرج من دور الوادعين خمسمائة أسير، فأتى بهم المختار مكتفين، فأخذ رجل من بني نهد وهو من رؤساء أصحاب المختار يقول له: عبد الله ابن شريك، لا يخلو بعربي إلا خلى سبيله، فرفع ذلك إلى المختار درهم مولى لبني نهد. فقال له المختار: اعرضوهم على، وانظروا كل من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يمر عليه برجل قد شهد قتل الحسين إلا قيل له: هذا ممن شهد قتله، فيقدمه فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلاً، وأخذ أصحابه كلما رأوا رجلاً قد كان يؤذيهم أو يماريهم أو يضربهم خلوا به فقتلوه حتى قتل ناس كثير منهم وما يشعر بهم المختار، فأخبر بذلك المختار بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم، وأخذ عليهم المواثيق ألا يجامعوا عليه عدوا، ولا أصحابه غائلة، إلا سراقة بن مرداس البارقي، فإنه أمر أن يساق معه إلى المسجد. قال: ونادى منادي المختار: إنه من أغلق بابه فهو آمن، إلا رجلاً شرك في دم آل محمد صلى عليه وسلم. قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عمامر الشعبي.، أن يزيد ابن الحارث بن يزيد بن رؤيم وحجار بن أبجر بعثا رسلا لهما، فقالا لهم: كونوا من أهل اليمن قريباً، فإن أيتموهم قد ظهروا فأيكم سبق إلينا فليقل صرفان، وإن كانوا هزموا فليقل جمزان، فلما عزم أهل اليمن أتتهم رسلهم، فقال لهم أول من انتهى إليهم: جمزان، فقام الرجلان فقالا لقومهما: انصرفوا إلى بيوتكم، فانصرفوا، وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي - وكان ممن شهد قتل الحسين - فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتى الساعة. ولا يدري أرض بخسته، أم سماء حصبته! وأما فرات بن زحر بن قيس فإنه لما قتل بعثت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية - وكانت امرأة الحسين بن علي - إلى المختار تسأله أن يأذن له أن تواري جسده، ففعل؛ فدفنته. وبعث المختار غلاماً له يدعى زريباً في طلب شمر بن ذي الجوشن قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: تبعنا زربي غلام المختار، فلحقنا وقد خرجنا من الكوفة على خيول لنا ضمر، فأقبل يتمطر به فرسه، فلما دنا منا قال لنا شمر: اركضوا وتباعدوا عني لعل العبد يطمع في؛ قال: فركضنا، فأمعنا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر ما يستطرد له، حتى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال: بؤساً لزربى، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة. قال أبو مخنف: حدثني أبو محمد الهمداني، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما خرج شمر بن ذي الجوشن وأنا معه حين هزمنا المختار، وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع، ووجه غلامه زربياً في طلب شمر، وكان من قتل شمر إياه ما كان، مضى شمر حتى ينزل ساتيدما، ثم مضى حتى ينزل إلى جانب قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر، إلى جانب تل، ثم أرسل إلى تلك القرية فأخذ منها علجاً فضربه، ثم قال: النجاء بكتابي هذا إلى المصعب بن الزبير وكتب عنوانه: للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن. قال: فمضى العلج حتى يدخل قرية فيها بيوت،وفيها أبو عمرة، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة، فلقى ذلك العلج علجاً من تلك القرية، فأقبل يشكو إلية ما لفي من شمر، فإنه لقائم معه يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة، فرأى الكتاب مع العلج، وعنوانه: لمصعب من شمر، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به، فأخبرهم، فإذا ليس بينهم وبينه إلا ثلاثة فراسخ. قال: فأقبلوا يسيرون إليه. قال أبو مخنف: فحدثني مسلم بن عبد الله قال: وأنا والله مع شمر تلك الليلة، فقلنا: لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنا نتخوف به! فقال: أو كل هذا فرقاً من الكذاب! والله لا أحول منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعباً! قال: وكان بذلك المكان الذي كنا فيه دبى كثير، فو الله إني لبين اليقظان والنائم، إذ سمعت وقع حوافر الخيل، فقلت في نفسي: هذا صوت الدبى، ثم سمعته أشد من ذلك، فانتبهت ومسحت عيني، وقلت: لا والله، ما هذا بالدبي. قال: وذهبت لأقوم، فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التل، فكبروا، ثم أحاطوا بأبياتنا، وخرجنا نشتد على أرجلنا، وتركنا خيلنا. قال: فأمر على شمر، وإنه لمتزر ببرد محقق - وكان أبرص - فكأني أنظر

إلى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعةً، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب للكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمراً؛ قال: قلت: هل سمعته يقول شيئاً ليلتئذ؟ قال: نعم، خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول:ى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعةً، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب للكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمراً؛ قال: قلت: هل سمعته يقول شيئاً ليلتئذ؟ قال: نعم، خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول:
نبهتم ليث عرين باسلا ... جهما محياه يدق الكاهلا
لم ير يوماً عن عدو ناكلا ... إلا كذا مقاتلاً أو قاتلا
يبرحهم ضرباً ويروي العاملا قال أبو مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر، أخذ سراقة بن مرداس يناديه بأعلى صوته:
امنن عليّ اليوم يا خير معد ... وخير من حل بشحر والجند
وخير من حيا ولبى وسجد فبعث به المختار إلى السجن، فحبسه ليلة، ثم أرسل إليه من الغد فأخرجه، فدعا إلى المختار وهو يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً ... وكان خروجنا بطراً وحينا
نراهم في مصافهم قليلاً ... وهم مثل الدبي حين التقينا
برزنا إذ رأيناهم فلما ... رأينا القوم قد برزوا إلينا
لقينا منهم ضرباً طلحفاً ... وطعناً صائباً حتى انثنينا
نصرت على عدوك كل يوم ... بكل كتيبة تنعى حسينا
كنصر محمد في يوم بدر ... ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا
قال: فلما انتهى إلى المختار، قال له: أصلحك الله أيها الأمير! سراقة ابن مرداس يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: فاصعد المنبر فأعلم ذلك المسلمين؛ فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار، فقال: فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد علي أصحابي. قال أبو مخنف: الحجاج بن علي البارقي عن سراقة بن مرداس، قال: ما كنت في أيمان حلفت بها قط إجتهاداً ولا مبالغةً في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة معهم تقاتل. فخلوا سبيله. فهرب، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج أشراف أهل الكوفة و الوجوه. فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج سراقة بن مرداس من الكوفة وهو يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... على قتالكم حتى الممات
أرى عيني ما لم تبصراه ... كلانا عالم بالترهات
إذا قالوا أقول لهم كذبتم ... وإن خرجوا لبست لهم أداتي
حدثني أبو السائب سلم بن جناده، قال حدثنا محمد بن براد، من ولد أبي موسى الأشعري، عن شيخ، قال: لما أسر سراقة البارقي، قال:وأنتم أسرتموني! ماأسرني إلا قوم على دواب بلق، عليهم ثياب بيض.قال: فقال المختار: أولئك الملائكة. فأطلقه، فقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات
أرى عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات

قال أبو مخنف: حدثني عمير بن زياد أن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال يوم جبانة السبيع: ويحكم! من هؤلاء الذين أتونا من ورائنا؟ قيل له: شبام؛ فقال: ياعجبا! يقاتلني بقومي من لاقوم له. قال أبو مخنف: وحدثني أبو روق أن شرحبيل بن ذي يقلان من الناعطيين قتل يومئذ، وكان من بيوتات همدان، فقال يومئذ قبل أن يقتل: يالها قتلةً، ما أضل مقتولها! قتال مع غير إمام، وقتال على غير نية، وتعجيل فراق الأحبة، ولو قتلناهم إذاً لم نسلم منهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! أما والله ما خرجت إلا مواسياً لقومي بنفسي مخافة أن يضطهدوا، وايم الله مانجوت من ذلك ولاأنجوا، ولا أغنيت عنهم ولا أغنوا. قال: ويرميه رجل من الفائشيين من همدان يقال له أحمر بن هديج بسهم فيقتله. قال: واختصم في عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني نفر ثلاثة: سعر ابن أبي سعر الحنفي، وأبو الزبير الشبامي: ورجل آخر، فقال سعر: طعنته طعنة، وقال أبو الزبير: لكن ضربته أنا عشر ضربات أو أكثر، وقال لي ابنه: يا أبا الزبير، أتقتل عبد الرحمن بن سعيد سيد قومك! فقلت: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم " فقال المختار: كلكم محسن. وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه.
قال أبو مخنف: حدثني النصر بن صالح أن القتل إذ ذاك كان استحر في أهل اليمن، وأن مضر أصيب منهم بالكناسة بضعة عشر رجلا، ثم مضو حتى مروا بربيعة، فرجع حجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رؤيم وشداد بن المنذر - أخو حضين - وعكرمة بن ربعى، فانصرف جميع هؤلاء إلى رحالهم، وعطف عليهم عكرمة فقاتلهم قتالا شديداً، ثم انصرف عنهم وقد خرج، فجاء حتى دخل منزله، فقيل له: قد مرت خيل في ناحية الحي؛ فخرج فأراد أن يثب من حائط داره إلى دار أخرى إلى جانبه فلم يستطع حتى حمله غلام له. وكانت وقعة جبانة السبيع يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين.
قال: وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة. وتجرد المختار لقتلة الحسين فقال: ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين يمشون أحياء في الدنيا آمنين؛ بئس ناصر آل محمد أنا إذاً في الدنيا! أنا إذاً الكذاب كما سموني، فإنى بالله أستعين عليهم، الحمد لله الذي جعلني سيفاً ضربهم به، ورمحاً طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقهم، إنه كان حقاً على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم لى ثم اتبعوهم حتى تفنوهم. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر أن المختار قال لهم: اطلبوا لى قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لى الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفى المصر منهم. قال أبو مخنف: وحدثني مالك بن أعين الجهنى أن عبد الله بن دباس، وهو الذي قتل محمد بن عمار بن ياسر الذي قال الشاعر: قتيل ابن دباس أصاب قذاله هو الذي دل المختار على نفر ممن قتل الحسين، منهم عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنى من حرقة، ومالك بن النسير البداى،وحمل بن مالك المحاربي؛ فبعث إليهم المختار أبا نمران مالك بن عمرو النهدي وكان من رؤساء أصحاب المختارفأتاهم وهم بالقادسية، فأخذهم فأقبل بهم حتى أدخلهم عليه عشاء، فقال لهم المختار: يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله، أين الحسين بن علي؟ أدوا إلى الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة، فقالوا: رحمك الله! بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا واستبقنا، قال المختار: فهلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسسقيتموه! ثم قال المختار للبدى: أنت صاحب برنسه؟ فقال له عبد الله بن كامل: نعم، هو هو؛ فقال المختار، اقطعوا يدي هذا ورجليه. ودعوه فليضطرب حتى يموت، ففعل ذلك به وترك، فلم يزل ينزف الدم حتى مات، وأمر بالآخرين فقدما، فقتل عبد الله بن

كامل عبد الله الجهني، وقتل سعر بن أبي سعر حمل بن مالك المحاربي. قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت التيمي، قال حدثني أبو سعيد الصيقل أن المختار دل على رجال من قتلة الحسين، دله عليهم سعر الحنفي؛ قال: فبعث المختار عبد الله بن كامل، خرجنا معه حتى مر ببني ضبيعة، فأخذ منهم رجلا يقال له زياد بن مالك؛ قال: ثم مضى إلى عنزة فأخذ منهم رجلا يقال له عمران بن خالد. قال: ثم بعثني في رجال معه يقال لهم الدبابة إلى دار في الحمراء، فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني، فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم: ياقتلة الصالحين، وقتلة سيد شباب أهل الجنة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس، بيوم نحس - وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين - أخرجوهم إلى السوق فضربوا رقابهم. ففعل ذلك بهم، فهؤلاء أربعة نفر. قال أبو مخنف: وحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: جاءنا السائب بن مالك الأشعري في خيل المختار، فخرجت نحو عبد القيس، وخرج عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب في أثري، وشغلوا بالاحتباس عليهما عني، فنجوت وأخذوهما، ثم مضوا بهما حتى مروا على منزل رجل يقال له عبد الله بن وهب بن عمرو ابن عم أعشى همدان من بني عبد، فأخذوه، فانتهوا بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق، فهؤلاء ثلاثة. فقال حميد بن مسلم في ذلك حيث نجا منهم:
ألم ترني على دهش ... نجوت ولم أكد أنجو
رجاء الله أنقذني ... ولم أك غيره أرجو
قال أبو مخنف: حدثني موسى ين عامر العدوي من جهينة - وقد عرف ذلك الحديث شهم بن عبد الرحمن الجهني - قال: بعث المختار عبد الله ابن كامل إلى عثمان بن خالد بن أسير الدهماني من جهينة، وإلى أبي أسماء بشر بن سوط القابضي - وكانا ممن شهدا قتل الحسين، وكانا اشتركا في دم عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه - فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بني دهمان، ثم قال: على مثل خطايا بني دهمان منذ يوم خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد بن أسير، إن لم أضرب أعناقكم من عند آخركم، فقلنا له: أمهلنا نطلبه، فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبانة - وكانا يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة - فأتى بهما عبد الله بن كامل، فقال: الحمد لله الذي كفى المؤمنين القتال، لو لم يجدوا هذا مع هذا عنانا إلى منزله في طلبه، فالحمد لله الذي حينك حتى أمكن منك. فخرج بهما حتى إذا كان في موضع بئر الجعد ضرب أعناقهما، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره أن يرجع إليهما فيحرقهما بالنار، وقال: لا يدفنان حتى يحرقا. فهذان رجلان، فقال أعشى همدان يرثى عثمان الجهني:
يا عين بكى فتى الفتيان عثمانا ... لا يبعدن الفتى من آل دهمانا
واذكر فتى ماجداً حلوا شمائله ... ما مثله فارس في آل همدانا
قال موسى بن عامر: وبعث معاذ بن هاني بن عدى الكندي، ابن أخي حجر، وبعث أبا عمرة صاحب حرسه، فساروا حتى أحاطوا بدار خولى بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين الذي جاء به، فاختبأ في مخرجه، فأمر معاذ أبا عمرة أن يطلبه في الدار، فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها: أين زوجك؟ فقالت: لا أدري أين هو - وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرةً، فأخرجوه، وكان المختار يسير بالكوفة. ثم إنه أقبل في أثر أصحابه وقد بعث أبو عمرة إليه رسولا، فاستقبل المختار الرسول عند دار بلال، ومعه ابن كامل، فأخبره الخبر، فأقبل المختار نحوهم، فاستقبل به، فردده حتى قتله إلى جانب أهله. ثم دعا بنار فحرقه بها ثم لم يبرح حتى عاد رماداً، ثم انصرف عنه. وكانت امرأته من حضرموت يقال لها العيوف بنت مالك بن نهار بن عقرب، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر أبو الأشعر أن المختار قال ذات

يوم وهو يحدث جلساءه: لأقتلن غداً رجلا عظيم القدمين، غائر العينين مشرف الحاجبين، يسر مقتله المؤمنين و الملائكة المقربين. قال: وكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار حين سمع هذه المقالة. فوقع في نفسه أن الذي يريد عمر بن سعد بن أبي وقاص، فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان فقال: الق ابن سعد الليلة فخبره بكذا وكذا، وقل له: خذ حذرك، فإنه لا يريد غيرك. قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدثه الحديث، فقال له عمر بن سعد: جزى الله أباك و الإخاء خيراً! كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق! وكان المختار أول ماظهر أحسن شئ سيرة وتألفاً للناس، وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلي فكلم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة وقال له: إني لا آمن هذا الرجل - يعني المختار - فخذ لي منه آماناً، ففعل؛ قال: فأنا رأيت أمانه وقرأته وهو " بسم الله الرحمن الرحيم " هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد ابن أبي وقاص، إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديماً ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلا بخير. شهد السائب بن مالك وأحمر بن شميط وعبد الله بن شداد وعبد الله بن كامل. وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفين لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلا أن يحدث حدثاً، وأشهد الله على نفسه، وكفى بالله شهيداً.
قال: فكان أبو جعفر محمد بن علي يقول: أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلا أن يحدث حدثاً، فإنه كان يريد به إذا دخل الخلاء فأحدث. قال: فلما جاءه العريان بهذا خرج من تحت ليلته حتى أتى حمامه، ثم قال في نفسه: أنزل داري، فرجع فعبر الروحاء، ثم أتى داره غدوة، وقد أتى حمامه، فأخبر مولى له بما كان من أمانه وبما أريد به، فقال له مولاه: وأي حدث أعظم مما صنعت! إنك تركت رحلك وأهلك وأقبلت إلى ها هنا، ارجع إلى رحلك، لا تجعن للرجل عليك سبيلا. فرجع إلى منزله، وأتى المختار بانطلاقه، فقال: كلا إن في عنقه سلسلة سترده، لو جهد أن ينطلق ما استطاع. قال: وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة، وأمره أن يأتيه به، فجاءه حتى دخل عليه فقال: أجب الأمير، فقام عمر: فعثر في جبة له، ويضربه أبو عمرة بسيفه، فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار لابنه حفص بن عمر بن سعد وهو جالس عنده: أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع وقال: نعم، ولا خير في العيش بعده، قال له المختار: صدقت، فإنك لاتعيش بعده، فأمر به فقتل، وإذا رأسه مع رأس أبيه. ثم إن المختار قال: هذا بحسين هذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لوقتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله؛ فقالت حميدة بنت عمر بن سعد تبكي أباها:
لو كان غير أخي قسي غره ... أو غير ذي يمن وغير الأعجم
سخي بنفسي ذاك شيئاً فاعلموا ... عنه وما البطريق مثل الألأم
أعطي ابن سعد في الصحيفة وابنه ... عهداً يلين له جناح الأرقم

فلما قتل المختار عمر بن سعد وابنه بعث برأسيهما مع مسافر بن سعيد ابن نمران الناعطي وظبيان بن عمارة التميمي، حتى قدما بهما على محمد ابن الحنفية، وكتب إلى ابن الحنفية في ذلك بكتاب. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: إنما كان هيج المختار على قتل عمر بن سعد أن يزيد بن شارحيل الأنصاري أتى محمد بن الحنفية، فسلم عليه؛ فجرى الحديث إلى أن تذاكروا المختار وخروجه وما يدعو إليه من الطلب بدماء أهل البيت، فقال محمد بن الحنفية: على أهون رسله يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين جلساؤه على الكراسي يحدثونه! قال: فوعاها الآخر منه، فلما قدم الكوفة أتاه فسلم عليه، فسأله المختار: هل لقيت المهدي؟ فقال له: نعم، فقال: ما قال لك وماذاكرك؟ قال: فخبره الخبر. قال: فما لبث المختار عمر بن سعد وابنه أن قتلهما، ثم بعث برأسيهما إلى أبن الحنفية مع الرسولين اللذين سمينا، وكتب معهما إلى ابن الحنفية: " بسم الله الرحمن الرحيم " للمهدي محمد بن على من المختار بن أبي عبيد. سلام عليك يا أيها المهدي، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم، ونصر مؤازريكم. وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته - رحمة الله عليهم - كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم أرميا فاكتب إلى أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه. والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته.
ثم إن المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن طفيل الطائي السنبسي - وقد كان أصاب صلب العباس بن علي، ورمى حسيناً بسهم، فكان يقول: تعلق سهمي بسرباله وما ضره فأتاه عبد الله ابن كامل، فأخذه ثم أقبل به، وذهب أهله فاستغاثوه بعدى بن حاتم، فلحقهم في الطريق، فكلم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إلى من أمره شىء، إنما ذلك إلى الأمير المختار. قال: فإني آتيه؛ قال: فأته راشداً. فمضى عدى نحو المختار، وكان المختار قد شفعه في نفر منقومه أصابهم يوم جبانة السبيع، لم يكونوا نطقوا بشىء من أمر الحسين ولا أهل بيته، فقالت الشيعة لابن كامل: إنا نخاف أن يشفع الأمير عدى بن حاتم في هذا الحبيث، وله من الذنب ما قد علمت، فدعنا نقتله. قال: شأنكم به، فلما انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضاً، ثم قالوا له: سلبت ابن علي ثيابه، والله لنسلبن ثيابك وأنت حي تنظر!

فنزعوا ثيابه، ثم قالوا له: رميت حسيناً، واتخذته غرضاً لنبلك، وقلت: تعلق شهمي بسرباله ولم يضره، وايم الله لنرمينك كما رميته بنبال ما تعلق بك منها أجزاك. قال: فرموه رشقاً واحداً، فوقعت به منهم نبال كثيرة فخر ميتاً. قال أبو مخنف: فحدثني أ بو الجارود، عمن رآه قتيلاً كأنه قنفذ لما فيه من كثرة النبل: ودخل عدى بن حاتم على المختار فأجلسه معه على مجلسه، فأخبره عدى عما جاء له، فقال له المختار: أتستحل يا أبا طريف أن تطلب في قتلة الحسين! قال: إنه مكذوب عليه أصلحك الله! قال: إذاً ندعه لك قال: فلم يكن بأسرع من أن دخل ابن كامل فقال له المختار: ما فعل الرجل؟ قال: قتلته الشيعة: قال: وما أعجلك إلى قتله قبل أن تأتيني به وهو لايسره أنه لم يقتله وهذا عدى قد جاء فيه، وهو أهل أن يشفع ويؤتي ما سره! قال: غلبتني والله الشيعة، قال له عدى: كذبت يا عدو الله، ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني فيه، فبادرتني فقتلته، ولم يكن خطر يدفعك عما صنعت، قال: فاسحنفر إليه ابن كامل بالشتيمة، فوضع المختار إصبعه على فيه، يأمر ابن كامل بالسكوت والكف عن عدى، فقام عدى، راضياًعن المختار ساخطاً على ابن كامل، يشكوه عند من لفى من قومه. وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين عبد الله ابن كامل. وهو رجل من عبد القيس يقال له مرة بن منقذ بن النعمان العبدي وكان شجاعاً، فأتاه ابن كامل فأحاط بداره، فخرج إليهم وبيده الرمح، وهو على فرس جواد، فطعن عبيد الله بن ناجية الشبامى، فصرعه ولم يضره. قال: ويضربه ابن كامل بالسيف فيتقيه بيده اليسرى، فأسرع فيها السيف، وتمطرت به الفرس، فأفلت ولحق بمصعب، وشلت يده بعد ذلك. قال: وبعث المختار أيضاً عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له زيد بن رقاد. كان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقى النبل فأثبت كفه في جبهته، فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته. قال أبو مخنف:فحدثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أن ذلك الفتى عبد الله ابن مسلم بن عقيل، وأنه قال حيث أثبت كفه في جبهته: اللهم إنهم استقلونا و استذلونا، اللهم فاقتلهم كما قتلونا، وأذلهم كما استذلونا. ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر فقتله، فكان يقول: جئته ميتاً فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، لم أزل أنضنض السهم من جبهته حتى نزعته، وبقى النصل في جبهته مثبتاً ما قدرت على نزعه.
قال: فلما أتى ابن كامل داره أحاط بها، واقتحم الرجال عليه، فخرج مصلتاً بسيفه - وكان شجاعاً - فقال ابن كامل: لا تضربوه بسيف، ولا تطعنوه برمح، ولكن ارموه بالنبل، وارجموه بالحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فقال ابن كامل: إن كان به رمق فأخرجوه؛ فأحرجوه وبه رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه. وطلب المختار سنان ابن أنس الذي كان يدعى قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة. فهدم داره. وطلب المختار عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب، ولحق بالجزيرة، فهدم داره وكان ذلك الغنوي قد قتل منهم غلاماً. وقتل رجل آخر من بني أسد يقال له حرملة بن كاهل رجلاً من آل الحسين، ففيهما يقول ابن أبي عقب الليثي:
وعند غنى قطرة من دمائنا ... وفي أسد أخرى تعد وتذكر
وطلب رجلاً من خشعم يقال له عبد الله بن عروة الخثعمي - كان يقول: رميت فيهم باثنى عشر سهماً ضيعة - ففاته ولحق بصعب، فهدم داره. وطلب رجلاً من صداء يقال له عمرو بن صبيح، وكان يقول: لقد طعنت بعضهم وجرحت فيهم وما قتلت منهم أحداً، فأتى ليلاً وهو على سطحه وهو لا يشعر بعد ما هدأت العيون. وسيفه تحت رأسه، فأخذوه أخذاً، وأخذوا سيفه، فقال: قبحك الله سيفاُ، ما أقربك وما أبعدك! فجيء به إلى المختار، فحبسه معه في القصر، فلما أن أصبح أذن لاُصحابه، وقيل: ليدخل من شاء أن يدخل، ودخل الناس، وجيء به مقيداً، ففال: أما والله يا معشر الكفرة الفجرة أن لو بيدي سيفي لعلم أنى بنصل السيف

غير رعش ولا رعديد،ما يسرني إذا كانت منيتي قتلاً أنه قتلني من الخلق أحد غيركم. لقد علمت أنكم شرار خلق الله. غير أني وددت أن بيدي سيفاُ أضرب به فيكم ساعة، ثم رفع يده فلطم عين ابن كامل وهو إلى جنبه، فضحك ابن كامل، ثم أخذ بيده وأمسكها، ثم قال: إنه يزعم أنه قد جرح في آل محمد وطعن، فمرنا بأمرك فيه، فقال المختار: علي بالرماح، فأتى بها، فقال: أطعنوه حتى يموت، فطعن بالرماح حتى مات. قال: أبو مخنف: حدثني هشام بن عبد الرحمن وابنه بن هشام أن أصحاب المختار مروا بدار بني أبي زرعة بن مسعود، فرموهم من فوقها، فأقبلوا حتى دخلوا الدار، فقتلوا الهبياط بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وعبد الرحمن بن عثمان بن أبي زرعة الثفقي، وأفلتهم عبد الملك ابن أبي زرعة بضربة في رأسه، فجاء يشتد حتى دخل على المختار، فأمر امرأته أم ثابت ابنة سمرة بن جندب، فداوت شجته، ثم دعاه، فقال: لا ذنب لي، إنكم رميم القوم فأغضبتموهم. وكان محمد بن الشعث بن قيس في قرية الشعث إلى جانب القادسية، فبعث المختار إليه حوشباً سادن الكرسي في مائة، فقال: انطلق إليه فإنك تجده لاهياً متصيداً، أو قائماً متلبداً، أو خائفاً متلدداً، أو كامناً متغمداً، فإن قدرت عليه فأتني برأسه. فخرج حتى أتى قصره فأحاط به، وخرج منه محمد بن الأشعث فلحق بمصعب، وأقاموا على القصر وهم يرون أنه فيه، ثم دخلوا فعلموا أنه قد فاتهم، فانصرفوا ألى المختار، فبعث إلى داره فهدمها، وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، وكان زياد بن سمية قد هدمها ذكر الخبر عن البيعة للمختار بالبصرة قال أبو جعفر: وفي بهذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي إلى البيعة للمختار بالبصرة أهلها؛ فحدثني أحمد ين زهير، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن عطية الليثي وعامر بن الأسود، أن المثنى بن مخربة العبدي كان ممن شهد عين الوردة مع سليمان بن صرد، ثم رجع مع من رجع ممن بقى من التوابين إلى الكوفة، والمختار محبوس، فأقام حتى خرج المختار من السجن، فبايعه المثنى سراً، وقال له المختار: الحق ببلدك بالبصرة فارع الناس، وأسر أمرك؛ فقدم البصرة فدعا، فأجابه رجال من قومه وغيرهم فلما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة ومنع عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام من الكوفة خرج المثنى بن مخربة فاتخذ مسجداً، واجتمع إليه قومه، ودعا إلى المختار، ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، وجمعوا الطعام في المدينة، ونحروا الجزر، فوجه إليهم القباع عباد بن حصين وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فأخذوا في سكة الموالي حتى خرجوا إلى السبخة،فوقفوا، ولزم الناس دورهم، فلم يخرج أحد، فجعل عباد ينظر هل يرى أحداً يسأله! فلم ير أحداً؛ فقال: أما ها هنا رجل من ينس تميم؟ فقال خليفة الأعور مولى بني عدي، عدى الرباب:هذه دار وراد مولى بني عبد شمس؛ قال: دق الباب، فدقه، فخرج إليه وراد، فشتمه عباد وقال: ويحك! أنا واقف ها هنا، لم لم تخرج إلي! قال: لم أدر ما يوافقك، قال: شد عليك سلاحك واركب، ففعل، ووقفوا، وأقبل أصحاب المثنى فوافقوهم،فقال عباد لوراد: قف مكانك مع قيس، فوقف قيس بن الهيثم ووراد، ورجع عباد فأخذ في طريق الذباحين، والناس وقوف في السبخة،حتى أتى الكلاُ، ولمدينة الرزق أربعة أبواب: باب مما يلي البصرة، وباب إلى الخلالين، وباب إلى المسجد، وباب إلى مهيب الشمال، فأتى الباب الذي يلي النهر مما يلي أصحاب السقط، وهو باب صغير، فوقف ودعا بسلم فوضعه مع حائط المدينة، فصعد ثلاثون رجلاً، وقال لهم: إلزموا السطح، فإذا سمعتم التكبير فكسروا على السطوح، ورجع عباد إلى قيس بن الهيثم وقال لوراد: حرش القوم؛ فطاردهم وراد، ثم التبس القتال فقتل أربعون رجلاً من أصحاب المثنى، وقتل رجل من أصحاب عباد، وسمع الذين على السطوح في دار الرزق الضجة والتكبير، فكبروا، فهرب من كان في المدينة، وسمع المثنى وأصحابه التكبير من ورائهم، فانهزموا، وأمر عباد وقيس بن الهيثم الناس بالكف عن أتباعهم وأخذوا مدينة الرزق وما كان فيها، وأتى المثنى وأصحابه عبد القيس ورجع عباد وقيس ومن معهما إلى القباع فوجههما إلى عبد القيس، فأخذ قيس بن الهيثم من ناحية الجسر، وأتاهم عباد من طريق المربد، فالتقوا فأقبل زياد بن عمرو العتكي إلى القباع وهو في المسجد جالس على المنبر، فدخل

زياد المسجد على فرسه، فقال: أيها الرجل، لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنها. فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا أمر الناس، فأتيا عبد القيس، فقال الأحنف لبكر والأسد والعامة: ألستم على بيعة ابن الزبير؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قالوا: بلى، ولكنا لا نسلم إخواننا. قال: فمروهم فليخرجوا إلى أي بلد أحبوا، ولا يفسدوا هذا المصر على أهله، وهم آمنون فليخرجوا حيث شاءوا. فمشى مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ووجوه أصحابهم إلى المثنى، فقالوا له ولأصحابه: إنا والله ما نحن على رأيكم، ولكننا كرهنا أن تضاموا، فالحقوا بصاحبكم، فإن من أجابكم إلى رأيكم قليل، وأنتم آمنون. فقبل المثنى قولهما وما أشارا به، وانصرف ورجع الأحنف وقال: ما غبنت رأيي إلا يومي هذا القباع، وشخص المثنى إلى المختار بالكوفة في نغر يسير من أصحابه. وأصيب في تلك الحرب سويد بن رئاب الشنى، وعقبة بن عشيرة الشنى، قتله رجل من بني تميم وقتل التميمي فولغ أخو عقبة بن عشيرة في دم التميمي، وقال: ثأري. وأخبر المختار حين قدم عليه بما كان من أمر مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ومسيرهما إليه، وذبهما عنه حتى شخص عن البصرة، فطمع المختار فيهما، فكتب إليهما: أما بعد، فاسمعا وأطيعا أوتيكما من الدنيا ما شئتما، وأضمن لكما الجنة. فقال. مالك لزياد: يا أبا المغيرة، قد أكثر لنا أبو إسحاق إعطاءنا الدنيا والآخرة؟؟؟؟؟؟؟؟ فقال زياد لمالك مازحاً: يا أبا غسان، أما أنا فلا أقاتل نسيئة، من أعطانا الدراهم نقاتل معه. وكتب المختار إلى الأحنف بن قيس:من المختار إلى الأحنف ومن قبله، فسلم أنتم، أما بعد، فويل أم ربيعة من مضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر،حيث لا يستطيع لهم الصدر، وإني لا أملك ما خط في القدر، وقد بلغني أنكم تسمونني كذاباً، وقد كذب الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. وكتب إلى الأحنف:ياد المسجد على فرسه، فقال: أيها الرجل، لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنها. فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا أمر الناس، فأتيا عبد القيس، فقال الأحنف لبكر والأسد والعامة: ألستم على بيعة ابن الزبير؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قالوا: بلى، ولكنا لا نسلم إخواننا. قال: فمروهم فليخرجوا إلى أي بلد أحبوا، ولا يفسدوا هذا المصر على أهله، وهم آمنون فليخرجوا حيث شاءوا. فمشى مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ووجوه أصحابهم إلى المثنى، فقالوا له ولأصحابه: إنا والله ما نحن على رأيكم، ولكننا كرهنا أن تضاموا، فالحقوا بصاحبكم، فإن من أجابكم إلى رأيكم قليل، وأنتم آمنون. فقبل المثنى قولهما وما أشارا به، وانصرف ورجع الأحنف وقال: ما غبنت رأيي إلا يومي هذا القباع، وشخص المثنى إلى المختار بالكوفة في نغر يسير من أصحابه. وأصيب في تلك الحرب سويد بن رئاب الشنى، وعقبة بن عشيرة الشنى، قتله رجل من بني تميم وقتل التميمي فولغ أخو عقبة بن عشيرة في دم التميمي، وقال: ثأري. وأخبر المختار حين قدم عليه بما كان من أمر مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ومسيرهما إليه، وذبهما عنه حتى شخص عن البصرة، فطمع المختار فيهما، فكتب إليهما: أما بعد، فاسمعا وأطيعا أوتيكما من الدنيا ما شئتما، وأضمن لكما الجنة. فقال. مالك لزياد: يا أبا المغيرة، قد أكثر لنا أبو إسحاق إعطاءنا الدنيا والآخرة؟؟؟؟؟؟؟؟ فقال زياد لمالك مازحاً: يا أبا غسان، أما أنا فلا أقاتل نسيئة، من أعطانا الدراهم نقاتل معه. وكتب المختار إلى الأحنف بن قيس:من المختار إلى الأحنف ومن قبله، فسلم أنتم، أما بعد، فويل أم ربيعة من مضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر،حيث لا يستطيع لهم الصدر، وإني لا أملك ما خط في القدر، وقد بلغني أنكم تسمونني كذاباً، وقد كذب الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. وكتب إلى الأحنف:
إذا اشتريت فرساً من مالكاً ... ثم أذت الجوب في شمالكا
فاجعل مصاعاً حذما من بالكا
حدثني أو السائب سليم بن جنادة، قال: حدثنا الحسن بن حمادة، عن حبان بن علي، عن المجالد، عن الشعبي، قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال لي بعض القوم: من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة؛ قال: أنتم موال لنا؛ قلت: وكيف؟

قال: قد أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: تدري ما قال شيخ همدان فينا وفيكم؟ فقال الأحنف بن قيس: وما قال؟ قلت قال:
أفخرتم أن قتلتم أعبداً ... وهزمتم مرة آل عزل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل
بين شيخ غاضب عثنونه ... وفتى أبيض وضاح رفل
جاءنا يهدج في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجل
وقتلتم خشبيين بهم ... بدلاً من قومكم شر بدل
فعضب الأحنف، فقال: يا غلام، هات تلك النصيحة، فأتى بصحيفة فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم " . من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنفبن قيس، أما بعد، فويل أم ربيعة ومضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، وإن كذبت فقد كذب رسل من قبلي، ولست أنا خير منهم، فقالوا: هذا منا أو منكم. وقال هشام بن محمد عن أبي مخنف، قال: حدثني منيع بن العلاء السعدي أن مسكين بم عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس كان فيمن قاتل المختار، فلما هزم الناس لحق بآذربيجان بمحمد بن عمير بن عطارد. وقال:
عجبت دختنوس لما رأتني ... قد علاني من المشيب خمار
فأهلت بصوتها وأرنت ... لاتهالى قد شاب منى العذار
إن تريني فقد بان غرب شبابي ... وأتى دون مولدي إعصار
فابن عامين وابن خمسين عاماً ... أى دهر إلا له أدهار؟؟؟؟
ليت سيفي لها وجوبتها لي ... يوم قالت ألا كريم يغار
ليتنا قبل ذلك اليوم متنا ... أو فعلنا ما تفعل الأحرار
فعل قوم تقاذف الخير عنهم ... لم نقاتل وقاتل العيزار
؟؟وتوليت عنهم وأصيبوا ... ونفاني عنهم شنار وعار
لهف نفسي علي شهاب قريش ... يوم يؤتى برأسه المختار
وقال المتوكل الليثي:
قتلوا حسيناً ثم هم ينعونه ... إن الزمان بأهله أطوار
لا تبعدن بالطف قتلى ضيعت ... وسقى مساكن هامها الأمطار
ما شرطة الجال تحت لوائه ... بأضل ممن غره المختار
أبنى قسى أوثقوا دجالكم ... يجل الغبار وأنتم أحرار
لو كان علم الغيب عند أخيكم ... لتوطات لكم به الأخبار
ولكان أمراً بيناً فيما مضى ... تأتى به الأنباء والأخبار
إني لأرجو أن يكذب وحيكم ... طعن يشق عصاكم وحصار
ويجيئكم قوم كأن سيوفهم ... بأكفهم تحت العجاجة نار
لاينثنون إذا هم لاقوكم ... إلا وهام كماتكم أعشار
ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبيرقال أبو جعفر: وفي هذه السنة بعث المختار جيشاً إلى المدينة للمكر بابن الزبير، وهو مظهر لهم أنه وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان عبد الملك بن مروان وجهه إليه لحروبه، فنزلوا وادي القرى. ذكر الخبر عن السبب الداعي كان للمختار إلى توجيه الجيش وإلى ما صار أمرهم: قال: هشام بن محمد: قال أبو محنف: حدثني موسى بن عامر، قال: لما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة لحق بالبصرة. وكره أن يقدم ابن الزبير بمكة وهو مهزوم مفلول، فكان بالبصرة مقيماً حتى قدم عليه عمر بن عبد الرحمن بن هشام، فصارا جميعاً بالبصرة. وكان سبب قدوم عمر البصرة أن المختار حين ظهر بالكوفة واستجمع له الأمر وهو عند الشيعة إنما يدعو إلى ابن الحنفية والطلب بدماء أهل البيت، أخذ يخادع ابن الزبير ويكتب إليه، فكتب إليه: أما بعد، فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك فلما وفيت لك، وقضيت الذي كان لك علي، خست بي، ولم تفي بما

عاهدتني عليه، ورأيت مني ما قد رأيت، فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك. وهو يريد بذلك كفه عنه، حتى يستجمع له الأمر، وهو لا يطلع الشيعة على شيء من هذا الأمر، وإذا بلغهم شيء منهم أراهم أنه أبعد الناس عن ذلك، قال: فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب! فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار! قال: إنه يزعم أنه سامع مطيع. قال: فتجهز بما بين الثلاثين ألف درهم إلى الأربعين ألفاً، ثم خرج مقبلاً إلى الكوفة. قال: ويجيء عين المختار من مكة حتى أخبره الخبر، فقال له: بكم تجهز؟ قال: بما بين الثلاثين ألفاً إلى الأربعين ألفاً. قال: فدعا المختار زائدة بن قدامة وقال له: احمل معك سبعين ألف درهم ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، واخرج معك مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة فارس دارع رامح، عليهم البيض، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك، فإنه قد بلغنا أنك تجهزت وتكلفت قدر ذلك، فكرهنا أن تغرم، فخذها وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة. قال: فأخذ زائد المال، وانصرف معه الخيل، وتلقاه بالمفاوز، وعرض عليه المال، وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره. فدعا زائدة بالخيل وقد أكمنها في جانب، فلما رآها قد قبلت قال: هذا الآن أعذر لي وأجمل بي، هات المال، فقال له زائدة: أما إنه لم يبعث به إليك إلا لما بنيك وبينه، فدفعه إليه فأخذه، ثم مضى راجعاً نحو البصرة، فاجتمع بها هو وابن مطيع في إمارة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة.
قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم أن المختار أخبر أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه به يبدأ، فخشي أن يأتيه أهل الشام من قبل المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداره وكايده؛ وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختار لابن الزبير مكايد موادع، فكتب المختار إلى ابن الزبير: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشاً، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك. فكتب إليه عبد الله بن الزبير: أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت جنودي على بلادك، وعجل علي بتسريح الجيش الذي أنت باعثه، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند بن مروان فليقاتلوهم. والسلام. فدعا المختار شرحبيل بن ورس من همذان، فسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة رجل، فقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذادخلوا المدينة أن تبعث عليهم أميراً من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير ويقاتله بمكة، فخرج الآخر يسير قبل المدينة، وخشى ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: إن رأيت القوم في طاعتي فاقبل منهم. وإلا فكايدهم حتى تهلكهم. ففعلوا، وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد عبى ابن ورس أصحابه، فجعل على ميمنته سلمان ابن حمير الثورى من همدان، وعلى ميسرته عياش بن جعدة الجدلي، وكانت خيله كلها في الميمنة والميسرة، فدنا فسلم عليه، ونزل هو يمشي في الرجالة، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون على غير تعبية، فيجد ابن ورس على الماء قد عبى أصحابه تعبية القتال، فدنا منهم فسلم عليهم، ثم قال: اخل معي ها هنا، فخلا به، فقال له: رحمك الله! ألست في طاعة ابن الزبير! فقال له ابن ورس: بلى، قال: فسر بنا إلى عدوه هذا الذي بوادي القرى، فإن ابن الزبير حدثني أنه إنما أشخصكم صاحبكم إليهم، قال ابن

ورس: ما أمرت بطاعتك، إنما أمرت أن أسير حتى آتى المدينة، فإذا نزلتها رأيت رأيى. قال له عباس بن سهل: فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا الذين بوادي القرى، فقال له ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، وما أنا بمتبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره. فلما رأى عباس بن سهل لجاجته عرف خلافه، فكره أن يعلمه أنه قد فطن له، فقال: فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك؛ فأما أنا فإني سائر إلى وادي القرى. ثم جاء عباس بن سهل فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزائر كانت معه، فأهداها له، وبعث إليه بدقيق وغنم مسلخة وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعاً فبعث عباس بن سهل إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها، واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وترك القوم تعبيتهم، وأمن بعضهم بعضاً، فلما رأى عباس بن سهل ما هم فيه من الشغل جمع من أصحابه نحواً من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مقبلين إليه نادى في أصحابه، فلم يتواف إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس بن سهل وهو يقول: يا شرطة الله، إلى إلي! قاتلوا المحلين، أولياء الشيطان الرجيم، فإنكم على الحق والهدى، قد غدروا وفجروا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباساً انتهى إليهم، وهو يقول:
أنا ابن سهل فارس غير وكل ... أروع مقدام إذا الكبش نكل
وأعتلي رأس الطرماح البطل ... بالسيف يوم الروع حتى ينخزل
قال: فوالله ما اقتتلنا إلا شيئاً ليس بشىء حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس بن سهل راية أمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحواً من ثلثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حمير الهمداني و عياش بن جعدة الجدلى، فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلا نحواً من مائتي رجل، كره ناس من الناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فماتأكثرهم في الطريق، فلما بلغ المختار أمرهم، ورجع من رجع منهم، قام خطيباً فقال: ألا إن الفجار الأشرار، قتلوا الأبرار الأخيار. ألا إنه كان أمراً مأتياً، وقضاء مقضياً. وكتب المختار إلى ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثمعي: " بسم الله الرحمن الرحيم " . أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جنداً ليبذلوا لك الأعداء. وليحوزوا لك البلاد، فساروا إليك حتى إذا أظلوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم بعهد الله، فلما اطمأنوا إليهم،ووثقوا بذلك منهم، وثبوا عليهم فقتلوهم، فإن رأيت أنا بعث إلى المدينة من قبلي جيشاً كثيفاً، وتبعث إليهم من قبلك رسلاً؛ يعلم أهل المدينة أني في طاعتك، وإنما بعثت الجند إليهم عن أمرك، فافعل، فإنك ستجد عظمهم بحقهم أعرف، وبكم أهل البيت أرأف منهم بآل الزبير الظلمة الملحدين. والسلام عليكم. فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن كتابك لما بلغني قرأته، وفهمت تعظيمك لحقي، وما تنوي به من سروري. وإن أحب الأمور كلها إلى ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم أني لو أردت لوجدت الناس إلي سراعاً، والأعوان لي كثيراً، ولكني أعتزلهم، وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية فودعه وسلم عليه، وأعطاه الكتاب وقال له: قل للمختار فليتق الله، وليكفف عن الدماء، قال: فقلت له: أصلحك الله؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟! أو لم تكتب بهذا إليه! قال له ابن الحنفية: قد أمرته بطاعة الله. وطاعة الله تجمع الخير كله، وتنهى عن الشر كله. فلما قدم كتابه على المختار أظهر للناس أنى قد أمرت بأمر يجمع البر واليسر، ويضرح الكفر والغدر.
ذكر الخبر عن قدوم الخشبية مكة وموافاتهم الحجقال أبو جعفر: وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة، ووافوا الحج وأميرهم أبو عبد الله الجدلي.
ذكر الخبر عن سبب قدومهم مكة: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر هشام،عن أبي مخنف وعلي بن محمد، عن مسلمة ابن محارب - أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن

معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلاً من أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهداً إن لم يبايعوا إن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلاً، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولاً يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما توعدهم به ابن الزبير. فوجه ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه، وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، ويسألهم ألا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته. فقدموا إلى المختار، فدفعوا إليه الكتاب فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم، وقد تركوا محظوراً عليهم كما يحظروا على الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصراً مؤزراً، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل. ووجه ابا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوة، ووجه ظبيان ابن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ ابن قيس في مائة، وعميربن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى محمد بن علي مع الطفيل بن عامر ومحمد بن قيس بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض، وجاء أبو عبد الله حتى نزل ذات عرق في سبعين راكباً، ثم لحقه عمير بن طارق في أربعين راكباً، ويونس ابن عمران في أربعين راكباً، فتموا خمسين ومائة، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الكافركوبات، وهم ينادون: يالثارات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية. فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم: إني لأستحل القتال في حرم الله فقال ابن الزبير: أتحسبون أني مخل سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فقال أبو عبد الله الجدلى: إي ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون. فقال ابن الزبير: والله ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لأذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تقطف رؤوسهم، فقال له قيس بن مالك: أما والله إني لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب. فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة، ثم قدم أبو المعتمر في مائة، وهانىء بن قيس في في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين، ومعه المال حتى دخلوا المسجد، فكبروا: يالثارات الحسين! فلما رآهم ابن الزبير خافهم، فخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب على وهم يسبون ابن الزبير. ويستأذنون ابن الحنفية فيه، فيأبى عليهم، فاجتمع مع محمد ابن علي في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.
ذكر الخبر عن حصار بني تميم بخراسانقال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب قتل من قتل منهم ابنه محمداً. قال علي بن محمد: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني عن الطفيل ابن مرداس العمى، قال: لما تفرقت بنو تميم بخراسان أيام ابن خازم، أتى فصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين؛ فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفر المزني، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، وزهير بن ذؤيب العدوي، وجيهان بن مشجعة الضبى، والحجاج بن ناشب العدوي، ورقبة بن الحر في فرسا بني تميم. قال: فأتاهم ابن خازم، فحصرهم وخندق خندقاً حصيناً. قال: وكانوا يخرجون إليه

فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر. قال: فخرج ابن خازم يوماً على تعبية من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم عثمان بن بشر بن المحتفر: انصرفوا اليوم عن ابن خازم، فلا أظن لكم به طاقة، فقال زهير بن ذؤيب العدوي: امرأته طالق إن رجع حتى ينقض صفوفهم وإلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطم أولهم على آخرهم، واستداروا وكر راجعاً، واتبعوه على جنبي النهر يصيحون به: لاينزل إليه أحد، حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدرفيه، فخرج فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع؛ قال: فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيراً فاجعلوا في رماحكم كلاليب فأعلقوها في أداته إن قدرتم عليه، فخرج إليهم يوماً وفي رماحكم كلاليب قد هيئوها له، فطاعنوه، فأعلقوا في درعه أربعة أرماح، فالتفتت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر؛ قال: فأرسل ابن خازم غزوان بن جزء العدوى إلى زهير فقال: قل له: أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف، وجعلت لك باسار طعمة تناصحني؛ فقال لغزوان: ويحك! كيف أناصح قوماً قتلوا الأشعث ابن ذؤيب! فأسقط بها غزوان عند موسى بن عبد الله بن خازم.
قال: فلما طال عليهم الحصار أرسلوا إلى خازم أن خلنا نخرج فنتفرق، فقال: لا إلا أن تنزلوا على حكمي؛ قالوا: فإنا ننزل على حكمك، فقال لهم زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت أنفساً فموتوا كراماً، اخرجا بنا جميعاً فإما أن تموتوا جميعاً وإما أن ينجو بغضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدةً صادقةً ليفرجن لكم عن مثل طريق المربد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خافكم قال: فأبوا عليه، فقال: أما إني سأريكم، ثم خرج هو ورقبة بن الحر ومع رقبة غلام له ترمى وشعبة بن ظهير. قال: فحملوا على القوم حملةً منكرةً فأفرجوا لهم، فمضوا؛ فأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر فقال لأصحابه: قد رأيتم فأطيعوني، ومضى رقبة وغلامه وشعبة. قالوا: إن فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة، قال: أبعدكم الله! أتأخذون عن أصحابكم! والله لا أكون أجزعكم عند الموت. قال: ففتحوا القصر ونزلوا، فأرسل فقيدهم، ثم ملوا إليه رجلا رجلاً، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى، وقال: والله لئن عفوت عنهم لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري؛ فقال له عبد الله: أما والله إني لأعلم أن الغي فيما تأمرني به، ثم قتلهم جميعاً إلا ثلاثة؛ قال: أحدهم الحجاج بن ناشب العدوي - وكان رمى ابن خازم وهو محاصرهم بكسر ضرسه، فحلف لئن ظفر به ليقتلنه أو ليقطعن يده، وكان حدثاً، فكلمه فيه رجال من بني تميم كانوا معتزلين؛ من عمرو بن حنظلة، فقال رجل منهم: ابن عمي وهو غلام حدث جاهل؛ هبه لي، قال: فوهبه له، وقال: النجاء! لا أرينك قال: وجيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم: خلوا هذا البغل الدارج، ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر. قال: وجاءوا بزهير بن ذؤيب فأرادوا حمله وهو مقيد، فأبى وأقبل يحجل حتى جلس بين يديه، فقام له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باسار طعمة؟ قال: لو لم تصنع بي إلا جقن دمى لشكرتك، فقام ابنه موسى فقال: تقتل الضبع وتترك الذيخ! تقتل اللبؤة وتترك الليث! قال: ويحك! نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين! من النساء العرب! قال: والله لوشركت في دم أخي أنت لقتلتك؛ فقام رجل من بني سليم إلى ابن خازم، فقال: أذكرك الله في زهير! فقال له موسى: اتخذه فحلاً لبناتك، فغضب ابن خازم، فأمر بقتله، فقال له زهير: إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقتلني على حدة، ولا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراماً، وأن يخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله أن لو فعلوا لذعروا بنيك هذا، وشغلوه بنفسه عن طلب الثأر بأخيه فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالاً فأمر به فنحى ناحية فقتل. قال مسلمة بن محارب: فكان الأحنف بن قيس إذا ذكرهم قال: قبح الله ابن خازم! قتل رجالاً من بني تميم بابنه، ضبي وغدا أحمق لايساوي علقاً. ولو قتل منهم رجلاً به لكان وفى.

قال: وزعمت بنو عدي انهم لا أرادوا حمل زهير بن ذؤيب أبىواعتمد على رمحه وجمع رجليه فوثب الخندق، فلما بلغ الحريش بن هلال قتلهم قال:
أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما
أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجال وحتى لم أجد متقدما
أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ... مقارعو الأبطال يرجع مكلما
أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ... دماً زماً لي دون أن تسكبا الدما
أبعد زهير وابن بشر تتابعا ... وورد أرجى في خراسان مغنما
أعذل كم من يوم حرب شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما
يعني بقوله: أبعد زهير، زهير بن ذؤيب، وابن بشر، عثمان بن بشر المحتفز المازني، وورد بن الفلق العنبري، قتلوا يومئذ، وقتل سليمان بن المحتفز أخو بشر. قال أبو جعفر: وجج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد الله، وعلى البصرة الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكانت الكوفة بها المختار غالباً عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم.
شخوص إبراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زيادوفي هذه السنة شخص إبراهيم بن الأشتر متوجهاً إلى عبيد الله ابن زياد لحربه، وذلك لثمان يقين من ذي الحجة. قال هشام بن محمد: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح - وكان قد أدرك ذلك - قال: حدثني فضيل بن خديج - وكان قد شهد ذلك - وغيرهما. قالوا: ما هو إلا أن فرغ المختار من أهل السبيع و أهل الكناسة، فما نزل إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه له لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم: ممن قد شهد الحرب وجربها، وخرج معه قيس بن طهفة النهدي على ربع أهل المدينة ، وأمر عبد الله بن حية الأسدي على ربع مذبح جج وأسد، وبعث الأسود بن جراد الكندي على ربع كندة وربيعة. وبعث حبيب بن منقذ الثوري من همدان على ربع تميم وهمدان، وخرج معه المختار يشيعه حتى إذا بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم، إذا أصحاب المختار قد استقبلوه، قد حملوا الكرسي على بغل أشهب كانوا يحملونه عليه، فوقفوا به على القنطرة، وصاحب أمر الكرسي حوشب البرسمي، وهو يقول: يا رب عمرنا في طاعتك، وانصرنا على الأعداء، واذكرنا ولا تنسنا واسترنا، قال: وأصحابه يقولون: آمين آمين؛ قال فضيل: فأنا سمعت ابن نوف الهمداني يقول: قال المختار:
أما ورب المرسلات عرفا ً ... لنقتلن بعد صف صفا
وبعد ألف قاسطين ألفاً قال: فلما انتهى إليهم المختار وابن الأشر ازدحموا ازدحاماً شديداً على القنطرة، ومضى المختار مع إبراهيم إلى قناطر رأس الجالوت - وهي إلى جنب دير عبد الرحمن - فإذا أصحاب الكرسي قد وقفوا على قناطر رأس الجالوت يستنصرون، فلما صار المختار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت وقف، وذلك حين أراد أن ينصرف، فقال لابن الأشتر: خذ عني ثلاثاً: خف الله في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم نهاراً فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله. ثم قال: هل حفظت ماأوصيتك به؟ قال: نعم، قال: صحبك الله؛ ثم انصرف. وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمام أعين،ومنه شخص بعسكره.
ذكر أمر الكرسي الذي كان المختار يستنصر به!قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج قال: لما انصرف المختار مضى إبراهيم ومعه أصحابه حتى انتهى إلى أصحاب الكرسي وقد عكفوا حوله وهم رافعو أيديهم إلى السماء يستنصرون، فقال إبراهيم: اللهم لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء - سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم - فلما جاز القنطرة إبراهيم وأصحابه انصرف أصحاب الكرسي.

ذكر الخبر عن سبب كرسي المختار الذي يستنصر به هو وأصحابه: قال أبو جعفر: وكان بدء سببه ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال:حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله ابن المبارك، عن إسحاق بن طلحة، قال: حدثني معبد بن خالد، قال: حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة، قال: أعدمت مرة من الورق، فإني لكذلك إذ خرجت يوماً فإذا زيات جار لي، له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر على بالي أن لو قلت للمختار في هذا! فرجعت فأرسلت إلى الزيات: أرسل إلي بالكرسي، فأرسل إلي به، فأتيت المختار، فقلت: إني كنت أكتمك شيئاً لم أستحل ذلك، فقد بدا لي أن أذكره لك، قال: وما هو؟ قلت: كرسي كان جعد بن هبيرة يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم، قال: سبحان الله! فأخرت هذا إلى اليوم! أبعث إليه، أبعث إليه، قال: وقد غسل وخرج عود نضار، وقد تشرب الزيت، فخرج يبص، فجئ به وقد غشى، فأمر لي باثني عشر ألفاً، ثم دعا:الصلاة جامعة. فحدثني معبد بن خالد الجدلي فقال: انطلق بي وبإسماعيل بن طلحة ابن عبيد الله وشبث بن ربعى والناس يجرون إلى المسجد، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه؛ فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئية فرفعوا أيديهم، وكبروا ثلاثاً، فقام شبت بن ربعى وقال: يا معشر مضر، لاتكفرن، فنحوه فذبوه وصدوه وأخرجوه، قال إسحاق: فوالله إني لأرجو أنها لشبت، ثم لم يلبث أن قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل بأهل الشام باجميرة، فخرج بالكرسي على بغل وقد غشى، يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى تعاطوا الكفر، فقلت: إنا لله! وندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيب، فلم أره بعد. حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي قال: قال أبو صالح: فقال في ذلك أعشى همدان كما حدثني غير عبد الله:
شهدت عليكم أنكم سبئية ... وإني بكم يا شرطة الشرك عارف
وأقسم ما كرسيكم بسكينة ... وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف
وإني امرؤ أحببت آل محمد ... وتابعت وحياً ضمنته المصاحف
وتابعت عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش: شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أنى بكرسيكم كافر
تنزو شبام حول أعواده ... وتحمل الوحى له شاكر
محمرة أعينهم حوله ... كأنهن الحمص الحادر
فأما أبو مخنف: فإنه ذكر عن بعض شيوخ قصة هذا الكرسي غير الذي ذكره عبد الله بن أحمد بالإسناد الذي حدثنا به، عن طفيل بن جعدة. والذي ذكر من ذلك ما حدثنا به، عن هشام بن محمد. عنه، قال: حدثنا هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام، أن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي - وكانت أم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب عليه السلام لأبيه وأمه: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب؛ فقالوا لا والله ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به! قال: لا تكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به، قال: فظن القوم عند ذلك أنهم لا يأتون بكرسي، فيقولون: هو هذا إلا قبله منهم، فجاءوا بكرسي فقالوا: هو هذا فقبله، قال: فخرجت شبام وشاكر ورؤوس أصحاب المختار وقد عصبوه بالحرير والديباج. قال أبو مخنف، عن موسى بن عامر أبي الأشعر الجبهني: إن الكرسي لما بلغ ابن الزبير أمره قال: أين بعض جنادبة الأزد عنه! قال أبو الأشعر: لما جيء بالكرسي كان اول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، وكان يأتي المختار أول ما جاء ويحف به، لأن أمة أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب. ثم إنه بعد ذلك عتب عليه فاستحيا

منه، فدفعه إلى حوشب البرسمي، فكان صاحبه حتى هلك المختار. قال: وكان أحد عمومة الأعشى رجلاً يكنى أبا أمامة يأتي مجلس أصحابه فيقول: قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله، فيه نبأ ما يكون من شيء. قال أبو مخنف: حدثنا موسى بن عامر أنه إنما كان يضع ذلك لهم عبد الله بن نوف. ويقول: المختار أمرني به، ويتبرأ المختار منه.
ثم دخلت سنة سبع وستين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك مقتل عبيد الله بن زياد ومن كان معه من أهل الشام. ذكر الخبر عن صفة مقتله. ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: مضينا مع إبراهيم بن الأشتر ونحن نريد عبيد الله بن زياد ومن معه من أهل الشام، فخرجنا مسرعين لا ننثني، نريد أن نلقاه قبل أن يدخل أرض العراق. قال: فسبقناه إلى تخوم أرض العراق سبقاً بعيداً، ووغلنا في أرض الموصل، فتعجلنا إليه، وأسرعنا السير، فنلقاه في خازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمة الطفيل بن لقيط؛ من وهبيل من النخع - رجلاً من قومه - وكان شجاعاً بئيساً، فلما أن دنا من ابن زياد ضم حميد بن حريث إليه، وأخذ ابن الأشتر لايسير إلا على تعبية، وضم أصحابه كلهم إليه بخيله ورجاله، فأخذ يسير بهم جميعاً لايفرقهم، إلا يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع حتى نزل تلك القرية. قال: وجاء عبيد الله بن زياد حتى نزل قريباً مكنهم على شاطئ خازر. وارسل عمير بنالحباب السلمى إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسل إليه ابن الأشتر: أن القنى إذا شئت؛ وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم ابن بحدل. فأتاه عمير ليلاً فبايعه، وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأيك؟ أخندق على وأتلوم يومين أو ثلاثة؟ قال عمير بن الحباب: لاتفعل، إنا لله! هل يريد القوم إلا هذه! إن طاولوك وما طالوك فهو خير لهم، هم كثير أضعافكم. وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعباً، فأتهم فإنهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوماً بعد يوم، ومرة بعد مرة أنسوا بهم، واجترءوا عليهم؛ قال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح، صدقت، الرأي ما رأيت، أما إن صاحبي بهذا أوصاني، وبهذا الرأي أمرني. قال عمير: فلا تعدون رأيه، فإن الشيخ قد ضرسته الحروب، وقاسى منها ما لم نقاس، أصبح فناهض الرجل. ثم إن عميراً انصرف، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة الليل كله، ولم يدخل عينه غمض، حتى إذا كان في السحر الأول عبى أصحابه، وكتب كتائبه،وأمر أمراءه. فبعث سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي على ميمنته،وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأخوص. وبعث عبد الرحمن بن عبد الله - وهو أخو إبراهيم الأشتر لأمه - على الخيل، وكانت خيله قليلة فضمها إليه، وكانت في الميمنة والقلب، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط ، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك. قال: فلما انفجر الفجر صلى بهم الغداة بغلس، ثم خرج بهم فصفهم، ووضع أمراء الأرباع في مواضعهم، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرجالة. وضم الخيل إليه، وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطاً من الناس، ونزل إبراهبم يمشي، وقال للناس: ازحفوا، فزحف الناس معه على رسلهم رويداً رويداً حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرك منهم أحد بعد - فسرح عبد الله بن زهير السلولي وهو على فرس له يتأكل تأكلاً، فقال: قرب على فرسك حتى تأتيني بخبر هوْلاء، فانطلق، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء، فقال: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم فما كان له هجيري إلا يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذاب! فقلت: ما بيننا وبينكم أجل من الشتم، فقال لي: يا عدو الله، إلام تدعوننا! أنتم تقاتلون مع غير إمام، فقلت له: بل يالشارات الحسن، ابن رسول الله! ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد، فإنه قتل ابن رسول الله وسيد

شباب أهل الجنه حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلهم مع الحسين، فإنا لانراه لحسين نداً فنرضى أن يكون منه قوداً، وإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا الذين قتلهم جعلنا بيننا وبينكم كتاب الله، أو أي صالح من المسلمين شتم حكماً، فقال لي: قد جربناكم مرة أخرى في مثل هذا - يعني الحكمين - فغدرتم. فقلت له: وما هو؟ فقال: قد جعلنا بيننا وبينكم حكمين فلم ترضوا بحكمهما؛ فقلت له: ما جئت بحجة، ئغنما كان صلحنا على أنهما إذا اجتمعنا على رجل تبعنا حكمهما. ورضينا به وبايعناه. فلم يجتمعا على واحد، وتفرقا، فكلاهما لم يوفقه الله لخير ولم يسدده. فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقلت له: من أنت؟ فقال: عدس - لبغلته يزجرها - فقلت له: ما أنصفتني، هذا أول غدرك! قال: ودعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم أمر بِأصحاب الرايات كلها، فكلما مر على راية وقف عليها، ثم قال: يا أنصار الدين. وشيعة الحق، وشرطة الله، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله. حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتى قتله وقتل أهل بيته؛ فوالله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قد جاءكم الله به، وجاءه بكم، فوالله إني لأرجو ألا يكون الله جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم، فقد علم الله أنكم خرجتم غضباً لأهل بيت نبيكم. فسار فيما بين الميمنة والميسرة، وسار في الناس كلهم فرغبهم في الجهاد، وحرضهم على القتال. ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف لقوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمى، وشرحبيل بن ذي الكلاع على الخيل وهو يمشي في الرجال، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة، وعليها علي بن مالك الجشمي؛ فثبت له هو بنفسه فقتل، ثم أخذ رايته قرة بن علي، فقتل أيضاً في رجال من أهل الحفاظ قتلوا وانهزمت الميسرة، فأخذ راية علي بن مالك الجشمي عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخا حبشى بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل أهل الميسرة حين انهزموا، فقال: إلي يا شرطة الله؛ فأقبل إليه جلهم، فقال: هذا أميركم يقاتل، سيروا بنا إليه، فأقبل حتى أتاه وإذا هو كاشف عن رأسه ينادي: يا شرطة الله، إلي أنا ابن الأشتر! إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئاً من أعتب، فثاب إليه أصحابه، وأرسل إلي صاحب الميمنة: احمل على مسيرتهم - وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير ابن الحباب كما زعم، فحمل عليهم صاحب الميمنة، وهو سفيان بن يزيد ابن المغفل، فثبت له عمير بن الحباب وقاتله قتالاً شديداً، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: أموا هذا السواد الأعظم، فوالله لو قد فضضناه لانجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير ذعرتها فطارت. قال أبو مخنف: حدثني إبراهيم بن عبد الله الأنصاري، عن ورقاء ابن عازب، قال: مشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم أطلعنا بالرماح قليلاً، ثم صرنا إلى السيوف والعمد، فاضطربنا بها ملياً من النهار، فوالله ما شبهت ما سمعت بيننا وبينهم من وقع الحديد إلا مياجن قصارى دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال: فكان ذلك كذلك، ثم إن الله هزمهم، ومنحنا أكتافهم.
قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق أن إبراهيم بن الأشتر كان يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم، فيقول له: إنه - جعلت فداك - ليس لي متقدم، فيقول: بلى، فإن أصحابك يقاتلون؛ وإن هؤلاء لا يهربون إن شاء الله؛ فإذا تقدم صاحب الراية برايته شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلاً إلا صرعه. وكرد إبراهيم الرجال من بين يديه كأنهم الحملان، وإذا حمل برايته شد أصحابه شدة رجل واحد. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي أنه كان مع عبيد الله بن زياد يومئذ حديدة لا تليق شيئاً مرت به، وأنه لما هزم أصابه حمل عيينة ابن أسماء أخت هند بنت أسماء - وكانت امرأة عبيد الله بن زياد - فذهب بها وأخذ يرتجز ويقول:

إن تصرمى حبالنا فربما ... أرديت في الهيجاء الكمى المعلما
قال أبو مخنف: وحدثني فيصل بن خديج أن إبراهيم لما شد على ابن زياد وأصحابه انهزموا بعد قتال شديد وقتلى كثيرة بين الفريقين، وإن عمير بن الحباب لما رأى أصحاب إبراهيم قد هزموا أصحاب عبيد الله بعث إليه: أجيئك الآن؟ فقال: لا تأتيني حتى تسكن فورة شرطة الله ، فإني أخاف عليك عاديتهم. وقال ابن الأشتر: قتلت رجلاً وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، تحت راية منفردة، على شاطئ نهر خازر. فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلاً، ضربه فقده بنصفين، فذهبت رجلاه في المشرق، ويداه في المغرب. وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، ونادى التغلبي: اقتلوني وابن الزانية؛ فقتل ابن نمير. وحدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: حدثني الحسن بن كثير، قال: كان شريك بن جدير التغلبي مع علي عليه السلام، أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لحق ببيت المقدس، فكان به، فلما جاءه قتل الحسين، قال: أعاهد الله إن قدرت على كذا وكذا - يطلب بدم الحسين - لأقتلن ابن مرجانة أو لأموتن دونه. فلما بلغه أن المختار خرج يطلب بدم الحسين أقبل إليه. قال: فكان وجهه مع إبراهيم بن الأشتر، وجعل على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدت الله على كذا وكذا فبايعه ثلثمائة على الموت، فلما التقوا حمل فجعل يهتكها صفاً صفاً مع أصحابه حتى وصلوا إليه، وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد والسيوف، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان ليس بينهما أحد، التغلبي وعبيد الله ابن زياد، قال: وهو الذي يقول:
كل عيش قد أراه قذراً ... غير ركز الرمح في ظل الفرس
قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: قتل شرحبيل بن ذي الكلاع، فادعى قتله ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد الله بن زهير السلمي. قال: ولما هزم أصحاب عبيد الله تبعهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم فيه من كل شيء، وبلغ المختار وهو يقول لأصحابه: يأتيكم الفتح أحد اليومين إن شاء الله من قبل إبراهيم ابن الأشتر وأصحابه، قد هزموا أصحاب عبيد الله بن مرجانة.قال: فخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، ونزل ساباط. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن الشعبي، قال: كنت أنا وأبي ممن خرج معه، قال: فلما جزنا ساباط قال للناس: أبشروا فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف يوماً إلى الليل بنصيبين أو قريباً من نصيبين ودوين منازلهم، إلا أن جلهم محصور بنصيبين. قال: ودخلنا المدائن، واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فوالله إنه ليخطبنا ويأمرنا بالجد وحسن الرأي والاجتهاد والثبات على الطاعة، والطلب بدماء أهل البيت عليهم السلام، إذ جاءته البشرى تترى يتبع بعضها بعضاً بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره. وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون! قالوا: بلى والله لقد قلت ذلك، قال: فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمذانيين: أتؤمن الآن يا شعبي؟ قال: قلت بأي شيء أؤمن؟ أؤمن بأن المختار يعلم الغيب! لاأؤمن بذلك أبداً. قال: أولم يقل لنا: إنهم قد هزموا! فقلت له: إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم، فقلت له: من هذا الهمذاني الذي يقول لك هذا؟ فقال: رجل لعمري كان شجاعاً - قتل مع المختار بعد ذلك يوم حروراء - يقال له: سلمان بن حمير من الثوريين من همذان، قال: وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر من عسكره إلى الموصل، وبعث عماله عليها، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا، وما والاها من أرض الجزيرة، وخرج أهل الكوفة الذين كان المختار قاتلهم فهزمهمن فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة. وكان فيمن قدم على مصعب شبث بن ربعي، فقال سراقة ابن مرداس البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر وأصحابه في قتل عبيد الله ابن زياد:

أتاكم غلام من عرانين مذحج ... جري على الأعداء غيرنكول
فيابن زياد بؤ بأعظم مالك ... وذق حد ماضي الشفرتين صقيل
ضربناك بالعضب الحسام بحدة ... إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل
جزى الله خيراً شرطة الله إنهم ... شفوا من عبيد الله أمس غليلي
ذكر الخبر عن عزل القباع عن البصرةوفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير القباع عن البصرة، وبعث عليها أخاه مصعب بن الزبير، فحدثني عمر بن شبة، قال:حدثني علي ابن محمد، قال: حدثنا الشعبي. قال: حدثني وافد بن أبي ياسر. قال: كان عمرو بن سرح مولى الزبير يأتينا فيحدثنا. قال: كنت والله في الرهط الذين قدموا مع المصعب بن الزبير من مكة إلى البصرة؛ قال: فقدم متلثماً حتى أناخ على باب المسجد، ثم دخل فصعد المنبر، فقال الناس: أمير أمير. قال: وجاء الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو أميرها قبله - فسفر المصعب فعرفوه. وقالوا: مصعب بن الزبير! فقال: للحارث: اظهر اظهر، فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة؛ قال: ثم قام المصعب فحمد الله وأثنى عليه. قال: فو الله ما أكثر الكلام. ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى " إلى قوله: " إنه كان من المفسدين " - وأشار بيده نحو الشام - " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " - وأشار بيده نحو الحجاز - " وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " - وأشار بيده نحو الشام حدثني عن عمر بن شبة، قال: حدثني على بن محمد، عن عوانة، قال: لما قدم مصعب البصرة خطبهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار.
ذكر خبر قتل مصعب المختار بن أبي عبيدوفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله ذكر الخبر عن سبب مسير مصعب إليه والخبر عن مقتل المختار: قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، حدثني حبيب بن بديل، قال: لما قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة وتحته بغله له قد قطع ذنبها، وقطع طرف أذنها وشق قباءه، وهو ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! فأتى مصعب، فقيل له: إن بالباب رجلاً ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! مشقوق القباء، من صفته كذا وكذا، فقال لهم: نعم، هذا شبث بن ربعي لم يكن ليفعل هذا غيره، فأدخلوه، فأدخل عليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه، فأخبروه بما اجتمعوا له، وبما أصيبوا به ووثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم، والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن قيس - ولم يكن شهد وقعة الكوفة، كان في قصر له مما يلي القادسية بطيزناباذ - فلما بلغه هزيمة الناس تهيأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرح إليه عبد الله بن قراد الخثعمي في ماء، فلما ساروا إليه، وبلغه أن قد دنوا منه، خرج في البرية نحو المصعب حتى لحق به، فلما قدم على المصعب استحثه بالخروج، وأدناه مصعب وأكرمه لشرفه. قال: وبعث المختار إلى دار محمد بن الأشعث فهدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف بن يزيد أن المصعب لما أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه، قال لمحمد بن الأشعث: إني لا أسير حتى يأتني المهلب بن أبي صفرة. فكتب المصعب إلى المهلب - وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة. فأبطأ عليه المهلب وأصحابه، واعتل بشيء من الخراج، لكراهة الخروج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث في بعض ما يستحثه أن يأتي المهلب فيقبل به، وأعلمه أنه لا يشخص دون أن يأتي المهلب؛ فذهب محمد بن الأشعث

بكتاب المصعب إلى المهلب، فلما قرأه قال له: مثلك يامحمد من يأتي بريداً! أما وجد المصعب بريداً غيرك! قال محمد: إني والله ما أنا ببريد أحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا. فخرج المهلب، وأقبل بجموع كثيرة وموال عظيمة معه في جموع وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما دخل المهلب البصرة أتى باب المصعب ليدخل عليه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده فكسر أنفه، فدخل إلى المصعب وأنفه يسيل دماً، فقال له: مالك؟ فقال: ضربني رجل ما أعرفه، ودخل المهلب فلما رآه الحاجب قال: هو ذا، قال له المصعب: عد إلى مكانك، وأمر المصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: ائت الكوفة فأخرج إلى جميع من قدرت عليه أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سراً، وخذل أصحاب المختار، فانسل من عنده حتى جلس في بيته مستراً لايظهر، وخرج المصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب بن أبي صفرة على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس، والأحنف بن قيس على خمس تميم وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد، وقيس الهيثم على خمس أهل العالية؛ وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة، يا أهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفرى على الله و اللعن لأهل بيت نبيه. انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموه لقد قتلتموه إنا شاء الله قتل عاد وإرم. فخرج أحمر بن شميط، فعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمر بن شميط، كما كانوا مع أبي الأشتر، فإنهم إنما فارقوا بن الأشتر؛ لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار، فانصرفوا عنه، وبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشاً كثيفاً، فخرج ابن شميط، فبعث على مقدمته ابن كامل الشاكري، وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار، وجاء المصعب حتى عسكر منه قريباً. ثم إن كل واحد منهما عبى جنده. ثم تزاحقا، فجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى ميسرته عبد الله ابن وهب بن نضلة الجشمي، وعلى الخيل رزين بن عبد السلولي. وعلى الرجالة كثير بن إسماعيل الكندي - وكان يوم خازر مع ابن الأشتر - وجعل كيسان أبا عمرة - وكان مولى لعرينة - على الموالي، فجاء عبد الله بن وهب بن أنس الجشمي إلى ابن شميط وقد جعله على ميسرته، فقال له: إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالاً كثيراً على الخيل. وأنت تمشي. فمرهم فلينزلوا معك، فإن لهم بك أسوةً. فإني أتخوف إن طوردوا ساعةً وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على منزلها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بداً، وإنما كان هذا منه غشاً للموالي والعبيد، لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالاً لا ينجو منهم أحد، ولم يتهمه ابن شميط، وظن أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا، فقال: يا معشر الموالي، انزلوا معي فقاتلو، فنزلوا معه، ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته، وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد ابن الحصين على الخيل، فجاء عباد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله ابن الزبير؛ وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أن أحداً ينبغي له أن يتولى عليهم برئنا منه وجاهدناه فانصرف عباد إلى المصعب فأخبره، فقال له: ارجع فاحمل عليهم

فرجع فحمل على ابن شميط وأصحابه فلم يزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موقفه وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، ثم انصرف عنه المهلب، فقام مكانه، فوقفوا ساعةً ثم قال المهلب لأصحابه: كروا كرة صادقة، فإن القوم قد أطعموكم، وذلك بجولتهم التي جالوا، فحمل عليهم حملة منكرة فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان، فأخذ المهلب يسمع شعار القوم: أنا الغلام الشاكري، أنا الغلام الشبامي، أنا الغلام الثوري، فما كان إلا ساعة حتى هزموا، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الله ابن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخشعم، الصبر الصبر! فناداهم المهلب: الفرار الفرار! اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضل الله سعيكم. ثم نظر إلى أصحابه فقال: والله ما أرى استحرار القتل اليوم إلا في قومي. ومالت الخيل على رجالة ابن شميط، فافترقت فانهزمت وأخذت الصحراء. فبعث المصعب عباد بن الحصين على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. سرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: دونك ثأركم! فكانوا حيث انهزموا أشد عليهم من أهل البصرة، لا يدركون منهزماً إلا قتلوه. ولا يأخذون أسيراً فيعفون عنه. قال: فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل؛ وأما رجالتهم فأبيدوا إلا قليلا. فال أبو مخنف: حدثني ابن عياش المنتوف، عن معاوية بن قرة المزني، قال: انهيت إلى رجل منهم، فأدخلت سنان الرمح في عينه، فأخذت أخضخض عينه بسنان رمحي، فقلت له: وفعلت به هذا؟ قال: نعم، إنهم كانوا أحل عندنا دماء من الترك والديلم؛ وكان معاوية بن قرة قاضياً لأهل البصرة، ففي ذلك يقول الأعشى:
ألا هل أتاك والأنباء تنمى ... بما لاقت بجلة بالمذار
أتيح لهم بها ضرب طلحف ... وطعن صائب وجه النهار
كأن سحابة صعقت عليهم ... فعمتهم هنالك بالدمار
فبشر شيعة المختار إما ... مررت على الكويفة بالصغار
أقر العين صرعاهم وفل ... لهم جم يقتل بالصحارى
وما إن سرني إهلاك قومي ... وإن كانوا وجدك في خيار
ولكني سررت بما يلاقي ... أبو إسحاق من خزي وعار
وأقبل المصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تك واسط هذه بنيت حينئذ بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشاذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى نهر يقال له قوسان؛ ثم أخرجهم من ذلك النهر إلى الفرات. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي، أن أهل البصرة كانوا يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون:
عودنا المصعب جر القلس ... والزنبريات الطوال القعس
قال: فلما بفغ من مع المختار من تلك الأعاجم مالقي إخوانهم مع ابن شميط قالوا بالفارسية: " ابن بارد روغ كفت " يقولون: هذا المرة كذب. قال أبو مخنف: وحدثني هشام بن عبد الرحمن الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، قال: و الله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم ومالقوا، قال: فأصغى إلى، فقال: قتلت و الله العبيد قتلةً ما سمعت بمثلها قط. ثم قال: وقتل ابن شميط وابن كامل وفلان وفلان، فسمى رجالاً من العرب أصيبوا، كان الرجل منهم في الحرب خيراً من فئام من الناس. قال: فقلت له: فهذه والله مصيبة، فقال لي: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من مثل ميتة ابن شميط،حبذامصارع الكرام! قال: فعلمت أن الرجل قد حدث نفسه إن لم يصب حاجته أن يقاتل حتى يموت. ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البحر، وعلى الظهر، سار حتى نزل بهم السيلحينن، ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى ذلك المختار أقبل إليهم حتى نزل حروراء، وحال بينهم وبين الكوفة

وقد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدة الحصار، وجاء المصعب يسير إليه وهو بحروراء وقد استعمل على الكوفة عبد الله ابن شداد، وخرج إليه المختار وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وجعل على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته يومئذ عبد الله بن قراد الخشعمي، وبعث على الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي. وجعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطي، وعلىالرجال مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكباً قوساً له. قال: وجعل على أهل الكوفة محمد بن الأشعث، فجاء محمد حتى نزل بين المصعب والمختار مغرباً ميامنا. قال: فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل خمس من أخماس أهل البصرة رجلا من أصحابه، فبعث إلى بكر ابن وائل سعيد بن منقذ صاحب ميسرته، وعليهم مالك بن مسمع البكري، وبعث إلى عبد القيس وعليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن شريح الشبامي، وكان على بيت ماله، وبعث إلى أهل العالية وعليهم قيس ابن الهيثم السلمي عبد الله بن جعدة القرشي، ثم المخزومي، وبعث إلى الأزد وعليهم زياد بن عمرو العتكي مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي، وبعث إلى بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس سليم بن يزيد الكندي، وكان صاحب ميمنته، وبعث إلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك الأشعري، ووقف في بقية أصحابه، وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، ويحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة وعليهم عمر بن عبيد الله بن معمر؛ فقاتلتهم ربيعة قتالاً شديداً، وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل واحد فانصرف حمل الآخر، وربما حملا جميعاً؛ قال: فبعث المصعب إلى المهلب: ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك! ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان منذ اليوم! احمل بأصحابك، فقال: إي لعمري ماكنت لأجزر الأزد وتميماً خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي. قال: وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن احمل على من بإزائك، فحمل على أهل العلية فكشفهم حتى انتهوا إلى المصعب، فبحثا المصعب على ركبتيه - ولم يكن فراراً - فرمى بأسهمه. ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعةً، ثم تحاجزوا. قال: وبعث المصعب إلى المهلب وهو في خمسين جامين كثيري العدد والفرسان: لا أبا لك! ما تنتظر أن تحمل على القوم! فمكث غير بعيد، ثم إنه قال لأصحابه: قد قاتل الناس منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وقد بقى ما عليكم، احملوا واستعينوا بالله واصبروا، فحمل على من يليه حملةً منكرةً، فحطموا أصحاب المختار حطمةً منكرة، فكشوفهم. وقال عبد الله

ابن عمرو النهدي - وكان من أصحاب صفين: اللهم إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء - يعني أصحاب المصعب - ثم جالد بسيفه حتى قتل، وأتى مالك بن عمرو أبو نمران النهدي وهو على الرجالة بفرسه فركبه، وانقصف أصحاب المختار انقصافةً شديدة كأنهم أجمة فيها حريق. فقال مالك حين ركب: ما أصنع بالركوب! والله لأن أقتل ها هنا أحب إلي من أن أقتل في بيتي؛ أين أهل البصائر؟ أين أهل الصبر؟ فئاب إليه نحو من خمسين رجلاً، وذلك عند المساء، فكر على أصحاب محمد بن الأشعث، فقتل محمد بن الأشعث إلى جانبه هو وعامة أصحابه، فبعض الناس يقول: هو قتل محمد بن الأشعث، ووجد أبو نمران قتيلاً إلى جانبه - و كندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة الكندي هو الذي قتله - فلما مر المختار في أصحابه على محمد بن الأشعث قتيلاً قال: يا معشر الأنصار، كروا على الثعالب الرواغة، فحملوا عليهم، فقتل؛ فخشعم تزعم أن عبد الله بن قراد هو الذي قتله. قال أبو مخنف: وسمعت عوف بن عمرو الجشمي يزعم أن مولى لهم قتله، فادعى قتله أربعة نفر. كلهم يزعم أنه قتله، وانكشف أصحاب سعيد بن منقذ، فقاتل في عصابة من قومه نحو من سبعين رجلاً فقتلوا، وقاتل سليم بن يزيد الكندي في تسعين رجلاً من قومه، وغيرهم ضارب حتى قتل، وقاتل المختار على فم سكة شبث، ونزل وهو يريد ألا يبرح، فقاتل عامة ليلته حتى انصرف عنه القوم، وقتل معه ليلتئذ رجال من أصحابه من أهل الحفاظ، منهم عاصم بن عبد الله الأزدي، وعياش بن خازم الهمداني، ثم الثوري. وأحمر بن هديج الهمداني ثم الفايشي. قال أبو مخنف: حدثنا أبو الزبير أن همدان تنادوا ليلتئذ: يا معشر همدان، سيفوهم فقاتلوهم أشد القتال؛ فلما أن تفرقوا عن المختار قال له أصحابه: أيها الأمير، قد ذهب القوم فانصرف إلى منزلك إلى القصر، فقال المختار: أما والله ما نزلت وأنا أريد أن آتى القصر، فأما إذ انصرفوا فاركبوا بنا على اسم الله؛ فجاء حتى دخل القصر فقال الأعشى في قتل محمد بن الأشعث:
تأوب عينك عوارها ... وعاد لنفسك تذكارها
وإحدى لياليك راجعتها ... أرقت ولوم سمارها
وما ذاقت العين طعم الرقا ... د حتى تبلج إسفارها
وقام نعاة أبي قاسم ... فأسبل بالدمع تحدارها
فحق العيون على ابن الأشج ... ألا يفتر تقطارها
و ألا تزال تبكي له ... وتبتل بالدمع أشفاها
عليك محمد لما ثوي ... ت تبكي البلاد وأشجارها
وما يذكرونك إلا بكوا ... إذا ذمة خانها جارها
وعارية من ليالي الشتا ... ء لا يتمنح أيسارها
ولا ينبح الكلب فيها العقو ... ر إلا الهرير وتختارها
ولا ينفع الثوب فيها الفتى ... ولا ربة الخدر تخدارها
فأنت محمد في مثلها ... مهين الجزائر نحارها
تظل جفانك موضوعة ... تسيل من الشحم أصبارها
وما في سقائك مستنطف ... إذا الشول روح أغبارها
فيا واهب الوصفاء الصبا ... ح إن شبرت تم إشبارها
ويا واهب الجرد مثل القدا ... ح قد يعجب الصف شوارها
ويا واهب البكرات الهجا ... ن عوذا تجاوب أبكارها
وكنت كدجلة إذ ترتمي ... فيقذف في البحر تيارها
وكنت جليداً وذا مرة ... إذا يبتغي منك إمرارها
وكنت إذا بلدة أصفقت ... وآذان بالحرب جبارها
بعثت عليها ذواكي العيو ... ن حتى تواصل أخبارها
بإذن من الله والخيل قد ... أعد لذلك مضمارها
وقد تطعم الخيل منك الوجي ... ف حتى تنبذ أمهارها
وقد تعلم البازل العيسجو ... ر أنك بالخبث حسارها
فيا أسفي يوم لاقيتهم ... وخانت رجالك فرارها

وأقبلت الخيل مهزومة ... عثاراً تضرب أدبارها
بشط حروراء واستجمعت ... عليك الموالي وسحارها
فأخطرت نفسك من دونهم ... قحاز الرزيئة أخطارها
فلا تبعدان أبا قاسم ... فقد يبلغ النفس مقدارها
وأفني الحوادث ساداتنا ... ومر الليالي وتكرارها
قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعي من وهيبل، فقال ورقاء:
من مبلغ عني عبيداً بأنني ... علوت أخاه بالحسام المهند
فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ... صريع لدى الديرين غير موسد
وعمداً علوت الرأس منه بصارم ... فأثكلته سفيان بعد محمد
قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن هنداً بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة ابن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصداً، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي و البطين الليثي وأبي الحارث الكندي. قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم: من محمد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسراً ولاتتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء، فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وكل نفس بما كسبت رهينة، و لا تزر وازرة وزر أخرى، و الله قائم على كل نفس بما كسبت؛ فاعملوا صالحاً، وقدموا لأنفسكم حسناً، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء. فخرج ، فلما التقى للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: ألم تزعم لنا يا بن نوف أن سنهزمهم! قال: أو ما قرأت في كتاب الله: " يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب. فقال له المهلب: يا له فتحاً ما أهناه لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله محمداً. ثم سار غير بعيد، ثم قال: يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير؛ قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: " إنا لله و إنا إليه راجعون " قال: المصعب: أما إنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشئ مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا؛ قال: إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه. قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف:

ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت الناس صنفين؛ أما من كان له فيك هوى فخرج إليك. وأما من كان يرى رأى المخار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحداً عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت؛ قال: صدقت؛ وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة. وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائدين قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله ابن الحر؛ وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائدين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعاً هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائدين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء أنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينار من الجهد. وكان المختار ربما خرج هو و أصحابه فقاتلوا قتالاً ضعيفاً، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحقت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه. وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب - وكان مجرباً: اجعل عليهم دروباً حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم و أبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر. ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه لغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضاً مما يروي أكثرهم. ثم إن مصعباً أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريباً من القصر إلا قال لها: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند عند زقاق البصريين عند فم سكة بين جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل جهار سوج خنيس، وجاء عيد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمارها ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون - وليس لهم أمير: يابن دومة، يابن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيماً ما عيرني بها. وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحواً من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضاً، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي. ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شئ للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يشبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتاً، ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كراماً إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم ثم دعا العرفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وأتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلاً ولا نهاراً حتى تنقضي هذه المدة. تفسير الخطبة: قوله : " أنا ابن جلا " فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة. والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ. أوينع الثمر: بلغ إدراكه.

وقوله: " فاشتد زيم " فهى اسم للحرب. والحطم: الذي يحطم كل شئ يمر به. والوضم: ما وقى به اللحم من الأرض. والعصلبي: الشديد. والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل. و الأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها. أنشد أبو زيد الأصمعي:
واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالديداء والربعة
والشنان، جمع شنة: القرية البالية اليابسة، قال الشاعر:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
وقوله: " فعجم عيدانها " أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى: وملفوظها كلقيط العجم وقوله: " أمرها عوداً " أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل. وقوله: " لأعصبنكم عصب السلمة " فالعصب القطع، والسلمة؛ شجرة من العضاه. وقوله: " لا أخلق إلا فريت " فالخلق: التقدير، قال الله تعالى: " من مضغة مخلقة وغير مخلقة " أي مقدرة وغير مقدرة. يعني ما يتم وما يكون سقطاً، قال الكميت يصف قربة:
لم تجثم الخالقات فريتها ... ولم يفض من نطاقها السرب
وإنما وصف حواصل الطير، يقول: لبست كهذه. وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر:
وبهو هواء فوق مور كأنه ... من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب
ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته. والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي:
وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان الزمان فاعتدل
والزرقات: الجماعات. تم التفسير. قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني محمد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال: يا أهل العراق، وأهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامي، ألا يرجع رجل منكم على ظلعه. ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكونون نكالاً لما قبلها، وأدباً لما بعدها. قوله: " تحتها قصف " ، فهو شدة الريح. واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء. والظلع: الضعف والوهن من شدة السير. وقوله: " تهوي هوي سابق الغطاط " ، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير. قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وأنشد لحسان ابن ثابت:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لايسألون عن الغطاط المقبل
بقتح الغين. قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز:
قام إلى أدماء في الغطاط ... يمشي بمثل قائم الفسطاط
تم التفسير. قال: فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابني، وهو أشب مني؛ قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابىء التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخاً كبيراً، قال: آوليس يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه ؛ فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله. ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان؛ فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلاً! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر منادياً فنادى: ألا إن عمير بن ضابىء أتى بعد ثالثة؛ وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برا مهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو. قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذجح؛ فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35