كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

فوقع ذلك من عبد الله احسن موقع، وأعجبه ما قاله الشيخ، فأمر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه.
وذكر عن الحسن بن يحي الفهري، قال: لقينا البطين الشاعر الحمصي، ونحن مع عبد الله بن طاهر فيما بين سلمية وحمص، فوقف على الطريق، فقال لعبد الله بن طاهر:
مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي الجود طاهر بن الحسين
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي الغرتين في الدعوتين
مرحباً مرحباً بمن كفه البح ... ر إذا فاض مزبد الرجوين
ما يبالي المأمون أيده الل ... ه إذا كنتما له باقيين
أنت غرب وذاك شرق مقيماً ... أي فتق أتى من الجانبين
وحقيق إذ كنتما في قديم ... لزيق ومصعب وحسين
أن تنالا ما نلتماه من المج ... د وأن تعلوا على الثقلين
قال: من أنت ثكلتك أمك! قال: أنا البطين الشاعر الحمصي، قال: اركب يا غلام وانظر كم بيتاً؟ قال: قال: سبعة، فأمر له بسبعة آلاف درهم أو بسبعمائة دينار، ثم لم يزل معه حتى دخلوا مصر والإسكندرية، حتى انخسف به وبدايته مخرج، فمات فيه بالإسكندرية.
ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندريةوفي هذه السنة فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية - وقيل كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين - وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها.
ذكر الخبر عن أمره وأمرهم حدثني غير واحد من أهل مصر، أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبيل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيا شغل الناس قبلهم بفتنة الحروي وابن السري، حتى أرسلوا مراكبهم بالإسكندرية؛ ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص؛ فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله بن طاهر مصر، قال لي يونس بن الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث - يعنى عبد الله بن طاهر - والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في البلاء؛ فأصلح الدنيا، وأمن البريء، وأخاف السقيم؛ واستوسقت له الرعية بالطاعة. ثم قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن لهيعة، قال: لا أدري رفعه إلى قبل أم لا! فلم يجد فيما قرأنا من الكتب أن لله بالمشرق جنداً لم يطغ عليه أحد من خلقه إلا بعثهم عليه، وانتقم بهم منه - أو كلاماً هذا معناه - فلما دخل عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر، أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأخبروني أنهم أجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر؛ يقال لها إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم إلى اليوم.
ذكر الخبر عن خروج أهل قم على السلطانوفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج.
ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها منصرفاً من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري، فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم؛ فلم يجبهم؛ المأمون إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بن هشام، ثم أمد بعجيف بن عنبسة، وقدم قائد حميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بن هشام، فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم.
ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور، فنازعه مازيار بن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يد مازيار بن قارن.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد وهو يومئذ والي مكة
ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

أمر عبيد الله بن السري فمن ذلك خروج عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر بالأمان، ودخول عبد الله بن طاهر مصر - وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين - وذكر بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بن طاهر يوم السبت لخمس بقين من صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بن طاهر بمصر والياً عليها وعلى سائر الشأم والجزيرة؛ فذكر عن طاهر بن خالد بن نزار الغسائي، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر حين فتحها في أسفل كتاب له:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمرٍ ... فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء ... فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بن طاهر، قال: قال رجل من أخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله. قال: فدفع ذلك المأمون وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلاً ثم قال له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعةً من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثاً شافياً، وائتني بما تسمع منه. قال: ففعل الرجل ما قال له، وأمره به؛ حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، فقعد يوما بباب عبد الله بن طاهر، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده؛ فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له:قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قال: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قال: لك ذلك، قال: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قال: نعم، قال: هل يجب شكر الله على العباد؟ قال: نعم، قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال: نعم، قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك؛ وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول ثم ما ألتفت يميني ولا شمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة لرجلٍ أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويداً لائحة بيضاء ابتداني بها تفضلاً وكرماً، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخراً، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عياناً من حيث أعلم؛ أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك؛ فارحل عن هذا البلد؛ فإن السلطان لأعظم إن بلغه أمرك - وما آمن ذلك عليك - كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحدٍ شيئاً، ولا علم به عبد الله إلابعد موت المأمون.
وذكر عن عبد الله بن طاهر أنه قال وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السري:
بكرت تسبل دمعاً ... أن رأت وشك براحي
وتبدلت صقيلاً ... يمنياً بوشاحي
وتماديت بسيرٍ ... لغدوٍ ورواح
زعمت جهلاً بأني ... تعب غير مراح
أقصري عني فإني ... سالك قصدي فلاحي
أنا للمأمون عبد ... منه في ظل جناحي
إن يعاف الله يوماً ... فقريب مستراحي
أو يكن هلك فقولي ... بعويل وصياح:
حل في مصر قتيل ... ودعي عنك التلاحي
وذكر عن عبد الله بن أحمد بن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بن طاهر عند خروج عبيد الله بن السري إليه يهنئه بذلك الفتح:

بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك؛ فالحمد لله الناصر لدينه المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك؛ فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جندٍ ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك؛ ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلاً على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظاً وكفاية وسلطاناً وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه. ثم لا نعلم سائساً استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الأتباع استحقاقك. وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحداً يهوى عند الحاقة والنازلة والمعضلة فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك؛ من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه.
وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرماً مقدماً معظماً؛ وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلالة وبجالة؛ فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم؛ وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه؛ فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللاً وتواضعاً؛ فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك، وأودع فيك. والسلام.
وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين مدينة السلام من المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشأم كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصفر.
ومات موسى بن حفص، فولى محمد بن موسى طبرستان مكان أبيه.
وولى حاجب بن صالح الهند فهزمه بشر بن داود، فانحاز إلى كرمان.
وفيها أمر المأمون منادياً فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس وهو والي مكة.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه المأمون محمد بن حميد الطوسي إلى بابك لمحاربته على طريق الموصل وتقويته إياه، فأخذ محمد بن حميد يعلى بن مرة ونظراءه من المتغلبة بأذربيجان، فبعث بهم إلى المأمون.
وفيها خلع أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن.
وفيها ولى المأمون محمد بن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي اليمن.
وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهر ربيع الأول منها.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصرفي القيسية واليمانية ووثوبهما بها.
وفيها مات طلحة بن طاهر بخراسان.
وفيها ولى المأمون أخاه أبا إسحاق الشأم ومصر، وولى ابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار.
وقيل: إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.
ذكر الخبر عن ولاية غسان بن عباد السندوفيها ولى غسان بن عباد السند.
ذكر الخبر عن سبب توليته إياه السند وكان السبب في ذلك - فيما بلغني - أن بشر بن داود بن يزيد خالف المأمون، وجبى الخراج فلم يحمل إلى المأمون شيئاً منه؛ فذكر أن المأمون قال يوماً لأصحابه: أخبروني عن غسان بن عباد؛ فإني أريده لأمر جسيم - وكان قد عزم على أن يوليه السند لما كان من أمر بشر بن داود - فتكلم من حضر، وأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف وهو ساكت، فقال له: ما تقول يا أحمد؟ قال:

يا أمير المؤمنين ذاك رجل محاسنه أكثر من مساويه؛ لا تصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم؛ فمهما تخوفت عليه، فإنه لن يأتي أمراً يعتذر منه؛ لأنه قسم أيامه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلق نوية، إذا نظرت في أمرهلم تدر أي حالاته أعجب! إما هداه إليه عقله؛ أم إما اكتسبه بالأدب، قال: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قال: لأنه فيما قلت كما قال الشاعر:
كفى شكراً بما أسديت أني ... مدحتك في الصديق وفي عدائي
قال: فأعجب المأمون كلامه .، واسترجح أدبه.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد
ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك مقتل محمد بن حميد الطوسي، قتله بابك بهشتادسر، يوم السبت لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع الأول، ورفض عسكره، وقتل جمعاً كثيراً ممن كان معه.
وفيها قتل أبو الرازي باليمن.
وفيها قتل عمير بن الوليد الباذغيسي عامل أبي إسحاق بن الرشيد بمصر بالحوف في شهر ربيع الأول، فخرج أبو إسحاق إليها فافتتحها، وظفر بعبد السلام وابن جليس، فقتلهما فضرب المأمون بن الحروري ورده إلى مصر.
وفيها خرج بلال الضبابي الشاري، فشخص المأمون إلى العلث، ثم رجع إلى بغداد، فوجه عباساً ابنه في جماعة من القواد، فيهم علي بن هشام وعجيف وهارون بن محمد بن أبي خالد، فقتل هارون بلالاً.
وفيها خرج عبد الله بن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيرانه بين خراسان والجبال وأرمينية وأذربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، وشخص إليها.
وفيها تحرك جعفر بن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها.
وفيها ولى علي بن هشام الجبل وقم وإصبهان وأذربيجان.
وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بن العباس بن محمد.
ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر شخوص المأمون لحرب الروم وفي هذه السنة شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم، وذلك يوم السبت - لثلاث بقين من المحرم - وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لست بقين من المحرم سنة خمس عشرة ومائتين - واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولي مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة.
فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها فأجازه، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زوجها منه؛ فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة؛ ثم سلك المأمون طريق الموصل؛ حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة، ثم خرج منها إلى طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جمادى الأولى. ورحل العباس بن المأمون من ملطية؛ فأقام المأمون على حصن يقال له قرة؛ حتى فتحه عنوة؛ وأمر بهدمه؛ وذلك يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى؛ وكان قد افتتح قبل ذلك حصناً يقال له ماجدة؛ فمن على أهلها.
وقيل إن المأمون لما أناخ على قرة، فحارب أهلها وطلبوا الأمان، فآمنهم المأمون، فوجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفاً وجعفراً الخياط إلى صاحب حصن سنان، فسمع وأطاع.
وفي هذه السنة انصرف أبو إسحاق بن الرشيد من مصر. فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه متويل وعباس ابنه برأس العين.
وفيها شخص المأمون بعد خروجه من أرض الروم إلى دمشق.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد
ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
عود إلى ذكر غزو المأمون أرض الروم فمن ذلك كر المأمون إلى أرض الروم.
ذكر السبب في كره إليها

اختلف في ذلك، فقيل: كان السبب فيه ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قوماً من أهل طرسوس والمصيصة؛ وذلك - فيما ذكر - ألف وستمائة. فلما بلغه ذلك شخص حتى دخل أرض الروم يوم الاثنين لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فلم يزل مقيماً فيها إلى النصف من شعبان.
وقيل: إن سبب ذلك أن توفيل بن ميخائيل كتب إليه، فبدأ بنفسه، فلما ورد الكتاب عليه لم يقرأه، وخرج إلى أرض الروم، فوافاه رسل توفيل بن ميخائيل لأذنة، ووجه بخمسمائة رجل من أسارى المسلمين إليه؛ فلما دخل المأمون أرض الروم، ونزل على أنطيغوا، فخرج أهلها على صلح وصاروا إلى هرقلة، فخرج أهلها إليه على صلح، ووجه أخاه أبا إسحاق، فافتتح ثلاثين حصناً مطمورة. ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وحرق، وأصاب سبياً ورجع إلى العسكر. ثم خرج المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم ارتحل إلى دمشق.
وفي هذه السنة ظهر عبدوس الفهري، فوثب بمن معه على عمال أبي إسحاق، فقتل بعضهم؛ وذلك في شعبان، فشخص المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة إلى مصر.
وفيها قدم الأفشين من برقة منصرفاً عنها، فأقام بمصر.
وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدءوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بيت من شهر رمضان من هذه السنة، حين قضوا الصلاة، فقاموا قياماً، فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.
وفيها غضب المأمون على علي بن هشام، فوجه إليه عجيف بن عنبسة وأحمد بن هشام، وأمر بقبض أمواله وسلاحه.
وفيها ماتت أم جعفر ببغداد في جمادى الأولى.
وفيها قدم غسان بن عباد من السند، وقد استأمن إليه بشر بن داود المهلبي، وأصلح السند، واستعمل عليها عمران بن موسى البرمكي، فقال الشاعر:
سيف غسان رونق الحرب فيه ... وسمام الحتوف في ظبتيه
فإذا جره إلى بلد السن ... د فألقى المقاد بشر إليه
مقسماً لا يعود ما حج لل ... ه مصل وما رمى جمرتيه
غادراً يخلع الملوك ويغتا ... ل جنوداً تأوي إلى ذروتيه
فرجع غسان إلى المأمون، وهرب جعفر بن داود القمي إلى قم، وخلع بها.
وفي هذه السنة كان البرد شديد.
وحج بالناس - في قول بعضهم - في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وفي قول بعضهم: حج بهم في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلدة يدخلها حتى يدخل إلى اليمن، فخرج من دمشق حتى قدم بغداد، فصلى بالناس بها يوم الفطر، فشخص من بغداد يوم الاثنين لليلةٍ خلت من ذي القعدة، وأقام الحج للناس.
ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ظفر الأفشين فيها بالبيما؛ وهي من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، قرئ كتاب فتحها لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر.
وورد المأمون فيها مصرفي المحرم، فأتى بعبدوس الفهري فضرب عنقه، وانصرف إلى الشام
ذكر الخبر عن قتل علي وحسين ابني هشاموفيها قتل المأمون ابني هشام علياً وحسيناً بأذنة في جمادى الأولى.
ذكر الخبر عن سبب قتله علياً وكان السبب ذلك، أن المأمون للذي بلغه من سوء سيرته في أهل عمله الذيكان المأمون ولاه - وكان ولاه كور الجبال - وقتله الرجال، وأخذه الأموال؛ فوجه إليه عجيف، فأراد أن يفتك به ويلحق ببابك، فظفر به عجيف، فقدم به على المأمون، فأمر بضرب عنقه فتولى قتله ابن الجليل. وتولى ضرب عنق الحسين محمد بن يوسف ابن أخيه بأذنة، يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ثم بعث رأس علي بن هشام إلى بغداد وخراسان، فطيف به، ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به كورة كورة، فقدم به دمشق في ذي الحجة، ثم ذهب به إلى مصر، ثم ألقي بعد ذلك في البحر.
وذكر أن المأمون لما قتل علي بن هشام، أمر أن يكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها؛ فكتب:

أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع، إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة. فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه، وهو يظن به تقوى الله وطاعته والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالافضال عليه، فولاه الأعمال السنية، ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها اكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته فأقاله إياها، وولاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية، ومحاربة أعداء الله الخرمية، على ألا يعود لماكان منه؛ فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة وعسف الرعية وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بن عنفسة مباشراً لأمره، وداعياً إلى تلافي ما كان منه؛ فوثب بعجيف يريد قتله، فقوى الله عجيفاً بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين؛ حتى دفعه عن نفسه، واو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال؛ ولكن الله إذا أراد أمراً كان مفعولأ. فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بن هشام، رأى ألا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يجري لولده ولعياله ولمن اتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جارياً لهم في حياته؛ ولو لا أن علي بن هشام أراد العظمى بعجيف، لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان، كعيسى بن منصور ونظرائه.والسلام: وفي هذه السنة دخل المأمون أرض الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفاً، فاختدعه أهلها وأسروه ؛ فمكث أسيراً في أيديهم ثمانية أيام، ثم أخرجوه، وصار توفيل إلى لؤلؤة ،فأحاط بعجيف، فصرف المأمون الجنود إليه، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان.
كتاب توفيل إلى المأمون ورد المأمون عليهوفيها كتب توفيل صاحب الروم إلى المأمون يسأله الصلح، وبدأ بنفسه في كتابه، وقدم بالكتاب الفضل وزير توفيل يطلب الصلح، وعرض الفدية. وكانت نسخة كتاب توفيل إلى المأمون: أما بعد ، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما؛ ولست حرياً أن تدع الحظ يصل إلى غيرك حظاً تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك؛ وقد كنت كتبت إليك داعياً إلى المسالمة، راغباًفي فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد ولياً وحزبا؛ مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة؛ فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر، ولا أزخرف لك في القول؛ فغني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها؛ شان خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام. فكتب إليه المأمون: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة؛ مما استعطفت به؛ من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلاً تحمل رجالاً من أهل البأس والنجدة والبصيرة ينازعونكم عن ثكلكم ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الإمداد، وأبلغ لهم كافياً من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم؛ موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب؛ غير أني رأيت لأن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة؛ من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية؛ فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك، ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول الإغراق في الصفة. والسلام على من اتبع الهدى.
وفيها صار المأمون إلى سلغوس.
وفيها بعث علي بن عيسى القمي جعفر بن داود القمي فضرب أبو إسحاق بن الرشيد عنقه.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من شخوص المأمون من سلغوس إلى الرقة، وقتله بها ابن أخت الداري.
وفيها أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من ذلك أهلها فأعفاهم.
وفيها وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم، وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء، وبناها ميلاً في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصناً؛ وكان توجيهه ابنه العباس في ذلك في أول يوم من جمادى.
وكتب إلى أخيه أبي إسحاق بن الرشيد؛ إنه قد فرض على جند دمشق وحمص والأردن وفلسطين أربعة آلاف رجل، وأنه يجري على الفارس مائة درهم، وعلى الراجل أربعين درهماً، وفرض على مصر فرضاً، وكتب على أهل بغداد وهم ألفا رجل، وخرج بعضهم حتى وافى طوانة ونزلها مع العباس.
ذكر خبر المحنة بالقرآنوفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة؛ وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك، ونسختة كتابه إليه: أما بعد؛ فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته. وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمىً عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به. ونكوبٍ عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصورٍ أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير والتذكر؛ وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه يخترعه، وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاءً، وللمؤمنين رحمةً وهدىً: " إنا جعلناه قرآناً عربياً " ، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور " ، وقال عز وجل: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق " ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بها وتلا به متقدمها، وقال: " آلر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " ، وكل محكمٍ مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله؛ فهو خالقه ومبتدعه.
ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم من أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيء آرائهم، تزيناً بذلك عندهم وتصنعاً للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم. وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم، " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها " .

فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة، والمنقوصون من التوحيد حظاً، والمخسوسون من الإيمان نصيباً، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه؛ من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، لا يوثق بقوله ولا عمله؛ فإنه لا عمل له إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده؛ كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلاً. ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله.
فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه؛ فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة. فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده. واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم؛ والأمر لهم بمثل ذلك؛ ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك. إن شاء الله.
وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين.
وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو سليم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين وزهير بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي؛ فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً إن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم. وكان ما فعل من ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.
وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم: أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه - تبارك اسمه وتعالى - بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاحهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم وسبيل فوزهم وعصمتهم ويكشفوا لهم مغطيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعاً لفنون مصانعهم، ومنتظماً لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكروا ما الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به. ومما بينه أمير المؤمنين برويته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره،وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، وما ينال المسلمين بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إماماً لهم، وأثراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم باقياً لهم، واشتباهه على كثير منهم؛ حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقاً، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته؛ من ابتداع الأشياء كلها بحكمته وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها؛ وكان كل شيء دونه خلقاً من خلقه، وحدثاً هو المحدث له؛ وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه، وقاطعاً للإختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في دعائهم في عيسى بن مريم: إنه ليس بمخلوق؛ إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول:

" إنا جعلناه قرآناً عربياً " ، وتأويل ذلك أنا خلقناه كما قال جل جلاله: " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " وقال: " وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً " ، " وجعلنا من الماء كل شيء حي " فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر أنه جاعله وحده، فقال: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " فدل ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا بمخلوق، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " وقال: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقال: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته " وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم أنهم قالوا: " ما أنزل الله على بشر من شيء " ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " ، فسمى الله تعالى القرآن وذكراً وإيماناً ونوراً وهدى ومباركاً وعربياً وقصصاً، فقال: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ،وقال: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن بمثله. وقال: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " . وقال: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فجعل له أولاً وآخراً، ودل عليه أنه محدود مخلوق وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به، والاشتباه أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظاً في الدين، ولا نصيباً من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحداً منهم محل الثقة في أمانة، ولا عدالة ول شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم؛ فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها؛ ومن كان جاهلاً بأمر دينه الذي أمر الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلاً، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا.
فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن؛ فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكماً بقوله؛ وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره.
وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك. إن شاء الله.
قال: فأحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن أبي مقاتل والفضل بن غانم والذيال بن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بن عبد الرحمن العمري وشيخ آخر من ولد عمر بن الخطاب - كان قاضي الرقة - وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بن شميل وابن علي بن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فأدخلوا جميعاً على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة؛ قال: فقد تجدد من كاتب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك. فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأ عليه، ووقفه عليها، فقال:

أشهد أن لا إله إلا الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنىً من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قال: نعم؛ وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: أكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قال: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غير ما سمع، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، ثم قال: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، قال: هو كلام الله؛ وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: اكتب مقالته.
ثم قال للذيال نحواً من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك. ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت، فقرأ عليه الرقعة ووقفه عليها، فأقر بما فيها، ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة،إن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا. قال: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبا حسان مقالته، قال: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قال: قد تكون مقال أمير المؤمنين ولا يؤمر بها الناس ولا يدعوهم إليها؛ وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به؛ فإنك الثقة المأمون فيما أبلغتني عنه من شيء؛ فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه، قال: ما أمرني أن أبلغك شيءاً. قال علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها، قال له أبو حسان: ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر، قال: ما أمرني أن آمرك؛ وإنما أن أمتحنك.
ثم عاد إلى أحمد بن حنبل فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: هو كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد عليها، فامتحنه بما في الرقعة، فلما أتى على " ليس كمثله شيء " ، قال: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد بن حنبل: ما معنى قوله: " سميع بصير " ؟ قال: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه.
ثم دعا بهم رجلاً رجلاً، كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس بن بنت وهب بن منبه والمظفر بن مرجأ، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه، إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلاً من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة وابن الأحمر؛ فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: " إنا جعلناه قرآناً عربيا " والقرآن محدث لقوله: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول؛ فكتب مقالته.
فلما فرغ من امتحان القوم، وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة فلو أمرتهما فأعادوا الكلام! قال له إسحاق: هما ممن يقوم بحجة أمير المؤمنين، فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما، لنحكي ذلك عنهما! قال له إسحاق: إن شهدت عندهما بشهادة، فستعلم مقالتهما إن شاء الله.
فكتب مقالة القوم رجلاً رجلاً، ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام؛ ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمرهم، ونسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنعه أهل القبلة وملتمسو الرئاسة، فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم وإحلالهم محالهم. تذكر إحضارك جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق عند ورود كتاب أمير المؤمنين مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينسب نفسه للفتيان بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعاً كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، وللدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمنحهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت.
وأمير المؤمنين يحمد الله كثيراً كما هو أهله ويسأله أن يصلي على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته. وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئٍ منهم، وما شرحت من مقالتهم.
فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وأدعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين؛ فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه؛ فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قال بمقالته؛ إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين؛ فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه؛ وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقاً بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه؛ إن شاء الله.
وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشراً؛ فإنهكان يقول بقوله. وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ؛ فإن قال: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه؛ وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه؛ إن شاء الله.
وأما علي بن أبي مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلل وتحرم، والمكلم له بمثل ما كلمته به؛ مما لم يذهب عنه ذكره! وأما الذيال بن الهيثم؛ فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله؛ وأنه لو كان مقتفياً آثار سلفه، وسالكاً مناهجهم، ومحتذياً سبيلهم لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه.
وأما أحمد بن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه، جاهل، وأنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك؛ إن شاء الله.
وأما أحمد بن حنبل وما تكتب عنه؛ فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها.
وأما الفضل بن غانم؛ فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب بن عبد الله في ذلك؛ فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما، وإيثاراً لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلي بن هشام ما قال، والمخالف له فيما خالفه فيه؛ فما الذي حال به عن ذلك ونقله إلى غيره! وأما الزيادي، فأعلمه أنه كان منتحلاً، ولا كأول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جديراً أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد أو يكون مولى لأحد من الناس؛ وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور.

وأما المعروف بأبي نصر التمار؛ فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره.
وأما الفضل بن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بن إسحاق وغيره تربصاً بمن استودعه، وطمعاً في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بن إسحاق: لا جزاك الله خيراً عن تقويتك مثل هذا واتمانك إياه، وهو معتقد للشرك منسلخ من التوحيد.
وأما محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر؛ فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لأربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم قد جمعوا مع الإرباء شركاً، وصار للنصارى مثلاً! وأما أحمد بن شجاع؛ فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام؛ وأنه ممن الدينار والدرهم دينه.
وأما سعدويه الواسطي، فقل له : قبح الله رجلاً بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، الحرص على طلب الرئاسة فيه؛ أن يتمنى وقت المحنة، فيقول بالتقرب بها متى يمتحن، فيجلس للحديث! وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن أبي يوسف ومحمد بن الحسن يقولانه؛ إن كان شاهدهما وجالسهما.
وأما القواريري؛ ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه؛ وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بن عيسى الحسني مسائله، فتقدم إلى جعفر بن عيسى في رفضه،وترك الثقة به والاستنامة إليه.
وأما يحيى بن عبد الرحمن العمري؛ فإن كان من ولد عمر بن الخطاب، فجوابه معروف.
وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم، فإنه لو كان مقتدياً بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم.
وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته بالقرآن، فحجم عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميماً، فأنصصه عن إقراره؛ فإن كان مقيماً عليه فأشهر ذلك وأظهره؛ إن شاء الله.
ومن لم يرجع عن شركه سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا؛ ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم؛ حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين؛ فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعاً على السيف، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية؛ ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية، معجلاً به، تقرباً إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جزيل ثواب الله عليه؛ فأنفذ لما أتاك من أمير المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعلمونه إن شاء الله.
وكتب سنة ثمان عشرة ومائتين.

فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر؛ منهم أحمد بن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بن نوح المضروب. فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد؛ فلما كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم؛ فلما كان من الغد عاودهم أيضاً، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعاً في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتاباً بإشخاصهما، وكتب كتاباً مفرداً بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فمكثوا أياماً، ثم دعا بهم فإذا كتاب قد ورد من المأمون على إسحاق بن إبراهيم، أن قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وذكر سليمان بن يعقوب صاحب الخبر أن بشر بن الوليد تأول الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " وقد أخطأ التأويل؛ إنما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقد الإيمان، مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان؛ فليس هذه له. فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس؛ ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الروم.
فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا العسكر بطرسوس؛ فأشخص أبا حسان وبشر بن الوليد والفضل بن غانم وعلي بن أبي مقاتل والذيال بن الهيثم ويحيى بن عبد الرحمن العمري وعلي بن الجعد وأبا العوام وسجادة والقواريري وابن الحسن بن علي بن عاصم وإسحاق بن أبي إسرائيل والنضر بنشميل وأبا نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بن حاتم بن ميمون وأبا معمر وابن الهرش وابن الفرخان وأحمد بن شجاع وأبا هارون بن البكاء. فلما صاروا إلى الرقة بلغتهم وفاة المأمون؛ فأمر بهم عنبسة بن إسحاق - وهو والي الرقة، ثم أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السلام مع الرسول المتوجه بهم إلى أمير المؤمنين، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج، فأما بشر بن الوليد والذيال وأبو العوام وعلي بن أبي مقاتل؛ فإنهم شخصوا من غير أن يؤذن لهم حتى قدموا بغداد، فلقوا إسحاق بن إبراهيم في ذلك أذى، وقدم الآخرون مع رسول إسحاق بن إبراهيم؛ فخلى سبيلهم.
كتب المأمون إلى عماله ووصيته في كتبهوفي هذه السنة نفذت كتب المأمون إلى عماله في البلدان: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. وقيل إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك؛ وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون، عن أمر المأمون إلى العباس بن المأمون وإلى إسحاق وعبد الله بن طاهر؛ أنه إن حدث به حدث الموت في مرضه هذا، فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. فكتب بذلك محمد بن داود، وختم الكتب وأنفذها.
فكتب أبو إسحاق إلى عماله: من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين.
فورد كتاب من أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ عامله على جند دمشق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، عنوانه: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين أمر بالكتاب إليك في التقدم إلى عمالك في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل عمالك، في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك.
وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام؛ جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك؛ فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب صلى الجمعة إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: اللهم أصلح الأمير أخا المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد.
ذكر الخبر عن وفاة المأمونوفي هذه السنة توفي المأمون.
ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قال:

أرسل المأمون وهو ببلاد الروم - وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة - فحملت إليه وهو في البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه؛ فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه؛ فهل رأيت ماء قط أشد برداً، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ؛ فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على إعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الألطاف رطب؟ فانظره فإن كان آزاذ فأت به؛ فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة؛ فأظهر شكراً لله تعالى؛ وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعاً من ذلك الماء؛ فما قام منا أحد إلا وهو محموم؛ فكانت منية المأمون من تلك العلة؛ ولم يزل المعتصم عليلاً حتى دخل العراق، ولم أزل عليلاً حتى كان قريباً.
ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر أبي إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أياماً، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق.
وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته:

هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره؛ وأشهدهم جميعاً على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في مكة، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئاً له مثل؛ ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وأن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء النار، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته؛ حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وأني مقر مذنب، أرجو وأخاف؛ إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني؛ ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد؛ إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي؛ فإذا أنتم وضعتموني للصلاة؛ فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسباً، وأكبركم سناً، فليكبر خمساً، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعاً، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابةً، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا للحد باللبن، واحثوا تراباً علي، واخرجوا عني وخلوني وعملي؛ فكلكم لا يغني عني شيئاً، ولا يدفع عني مكروهاً، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيراً إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شرٍ إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب. رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء. ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة؛ هل أغنى ذلك عني شيئاً إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشراً، بل ليته لم يكن خلقاً! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه؛ ولا تغتر بالله ومهلته؛ فكأن قد نزل بك الموت. ولا تغفل أمر الرعية. الرعية الرعية! العوام العوام! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين! ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء،وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت. والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة؛ فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه. واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة؛ فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن.
ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته؛ إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قال: اللهم نعم، قال:

فانظر من كنت تسمعني أقدامه على لساني فأضعف له التقدمة؛ عبد الله بن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك. وإسحاق بن إبراهيم فأشركه في ذلك؛ فإنه أهل له. وأهل بيتك، فقد علمت أنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه. عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه. وأبو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك؛ فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيراً تلقي إليه شيئاً؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قالياً له غير راضٍ بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيراً! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى. اتقوا الله ربكم حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها. أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفاراً، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة! ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مدة خلافته قال أبو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم: توفي يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين.
وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس وأخوه أبو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرساً من أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجلٍ منهم تسعون درهماً.
وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة وأخوه الأمين محمد بن الرشيد محصور ببغداد.
وكان يكنى - فيما ذكر ابن الكلبي - أبا العباس.
وكان ربعة أبيض جميلاً، طويل اللحية، وقد وخطه الشيب. وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم.
ذكر بعض أخبار المأمون وسيره ذكر عن محمد بن الهيثم بن عدي، أن إبراهيم بن عيسى بن بريهة بن المنصور، قال: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلاماً، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! إن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيراً عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها. وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله أني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة؛ إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفة ما أوجب الله من حقه؛ فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل. فقال لي مبتدئاً من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحداً من أهل بيتك بدأ بك؛ وكنت المقدم عنده في ذلك؛ ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه؛ وإن ترك ذلك فمن غير قلاً لمكانك؛ ولكن بالحاجة إليك. قال: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي.
وذكر عن محمد بن علي بن صالح السرخسي، قال: تعرض رجل للمأمون بالشأم مراراً، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشأم كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال:

أكثرت علي يا أخا أهل الشأم؛ والله ما أنزلت قيساً عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شارياً، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم، قال: فأريته، قال: فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قال: فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قال: فقال: ما أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال للواثق: خذ فضعه على عينيك؛ لعل الله يشفيك. قال: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي.
وذكر عن العيثي صاحب إسحاق بن إبراهيم، أنه قال: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه. قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قال: فلما ورد عليه ذلك المال، قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قال: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه؛ وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أبا عره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها. قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذاً للئام. ثم دعا محمد بن يزداد، فقال له: وقع لأل فلان بألف ألف،ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها. قال: فوالله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا. قال العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينيه. فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال. فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف ألف؛ لا يختلس ناظري. قال: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.
وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان؛ أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعراً ظريفاً خبيثاً منكراً؛ وكنت أنا والي البصرة، آنس به وأستحليه؛ فأردت أن أخدعه وأستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف؛ فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيباً فارهاً ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته؛ فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك. قال: والله أيها الأمير ما إخالك أبعدت؛ فأعد لي ما ذكرت. قال: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه؛ قال: هذه إحدى الحسنيين، فما بال الأخرى! فدعوت له بثلثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك؛ قال: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا هي كافية، وإن قصرت عن السرف. قال: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفاً حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل أرجوزة ليست بالطويلة، فأنشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي - وكان مارداً - فقلت له: ما صنعت شيئاً. قال: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعاً، ولمثلها ضرب هذا المثل: " من ينك العير ينك نياكاً " ؛ أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل؛ ولكن لأذكرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا. قلت: قد صدقت، فقال: أما إذا أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت؛ ثم ودعني وخرج فأتى الشام؛ وإذا المأمون بسلغوس. قال: بينا أنا في غزاةٍ قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر؛ فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه. قال:

فتلقاني مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم - بكلام جهوري ولسان بسيط - فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك والأذفر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر، قال: ونحن من مضر، ثم قال: ثم ماذا؟ قلت: رجل من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قال: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعاً، ولا أمد يفاعاً منه. قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبت وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول: أنشدنيه! قال: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قال: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيداً والكلام عذباً وأضع عنك العناء، وطول الترداد؛ ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامحٍ ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قال: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قال: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قال: فغضبت أيضاً وعارضني نزق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قال: فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قال: فأنشدته:
مأمون يا ذا المنن الشريفه ... وصاحب المرتبة المنيفه
وقائد الكتيبة الكثيفة ... هل لك في أرجوزة ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفه ... لا والذي أنت له خليفه
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ... أميرنا مؤنته خفيفه
وما اجتبى شيئاً سوى الوظيفه ... فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه
قال: فوالله ما عدا أن أنشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟ قال: أي لعمرالله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قال: هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قال: السلام عليك؛ ومضى فكان آخر العهد به.
وقال أبو سعيد المخزومي:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون شيئاً أو ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثل ما خلفوا أباه بطوس
وقال علي بن عبيدة الريحاني:
ما أقل الدموع للمأمون ... لست أرضى إلا دماً من جفوني
وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي أن علي بن صالح حدثه، قال: قال لي المأمون يوماً: أبغني رجلاً من أهل الشام، له أدب يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له: إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتهم يا أهل الشأم، فقال: ما كنت متجاوزاً ما أمرتني به. فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال: أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه - وكان المأمون على شغله من الشراب - فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي، فقال الشأمي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قال: فأمر المأمون أن يخلع عليه؛ قال: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قال: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قال: يا أمير المؤمنين؛ إن قلبي إذا كان متعلقاً بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قال: خمسون ألفاً تحمل إلى منزله، ثمقال: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قال: وما هي؟ قال: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله؛ فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قال: وذاك! قال علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي.

وذكر أبو حشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو، قال: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون عني كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعةً ... إلي، تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقال: يا علويه، لمن هذا اشعر؟ فقال: للقاضي، قال: أي قاض ويحك! قال: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قال: قد عزلته، قال: فيحضر الساعة. قال: فأحضر شيخ مخضوب وقصير؛ فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان بن فلان الفلاني، قال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله. فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فأنشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قال الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحق اعزله؛ فما كنت أولي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام. ثم قال: اسقوه؛ فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قال: فلعلك تريد غيره! قال: لم أذق منه شيئاً قط، قال: فحام هو؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أولى لك! بها نجوت، اخرج. ثم قال: يا علويه، لا تقل: " برئت من الإسلام " ، ولكن قل:
حرمت مناي منك إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون عني كما قالوا
قال: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أميه، فوضع منهم وتنقصهم؛ فأقبل علويه على العود، واندفع يغني:
أولئك قومي بعد عز وثروةٍ ... تفانوا فإلا أذرف العين أكمدا
فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام؛ وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يوماً، ثم رضي عنه.
قال: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشأم ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك.
وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بن عقيل، قال: أنشدت المأمون قصيدةً فيها مديح له، هي مائة بيت؛ فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين؛ ما سمعها مني أحد قط، قال: هكذا ينبغي أن يكون؛ ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن العباس قصيدته التي يقول فيها: تشط غداً دار جيراننا فقال ابن العباس: وللدار بعد غد أبعد حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قال: أنا ابن ذاك. وذكر عن أبي مروان كازر بن هارون، أنه قال: قال المأمون:
بعثتك مرتاداً ففزت بنظرةٍ ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى!
أرى أثراً منه بعينك بيناً ... لقد أخذت عيناك من عينه حسنا
قال أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن أحنف، فإنه اخترع:
إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي، وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمداً في طرفه نظري
تظهر في وجهه محاسنها ... قد أثرت فيه أحسن الأثر
خذ مقلتي يا رسول عاريةً ... فانظر بها واحتكم على بصري
قال أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يوماً، فصرت إليه، فألفيته مطرقاً مفكراً، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال؛ فرفع رأسه؛ فنظر إلي وأشار بيده؛ أن ادن، فدنوت ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق؛ شأن النفس الملل وحب الاستطراف؛ تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: وما هو؟ قلت:
لا يصلح النفس إذ كانت مقسمةً ... إلا التنقل من حالٍ إلى حال
وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قال: قال لي علي بن جبلة: قلت لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض؛ فاذكرني له، فقال:

أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق؛ فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثواباً بمديحه؛ وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بن عيسى؛ فإن كان الذي قال فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه،وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه. فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل. قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلفٍ ... بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولي أبو دلفٍ ... ولت الدنيا على أثره
وإلى قولي فيك:
لولا حميد لم يكن ... حسب يعد ولا نسب
يا واحد العرب الذي ... عزت بعزته العرب
قال: فأطرق حميد ساعة، ثم قال: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين. وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أنحدثتك يا أبا نزار بهذا.
قال أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف:
تحدر ماء الجود من صلب آدمٍ ... فأثبته الرحمن في صلب قاسم
وذكر عن سليمان بن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، فقال: هجا دعبل المأمون، فقال:
ويسومني المأمون خطة عارفٍ ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد
يوفي على هام الخلائف مثل ما ... يوف الجبال على رءوس القردد
ويحل في أكناف كل ممنعٍ ... حتى يذلل شاهقاً لم يصعد
إن التراث مسهد طلابها ... فاكفف لعابك عن لعاب الأسود
فقيل للمأمون: إن دعبلاً هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني. يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيراً ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول:
وكأنه من دير هزقل مفلت ... حرد يجر سلاسل الأقياد
وكان المأمون يقول لإبراهيم بن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول:
إن كان إبراهيم مضطلعاً بها ... فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ ... ولتصلحن من بعده للمارق
أنى يكون ولا يكون ولم يكن ... لينال ذلك فاسق عن فاسق!
وذكر محمد بن الهيثم الطائي أن أبا القاسم بن محمد الطيفوري حدثه، قال: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، وديناً لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني. قال: فرم لنفسك أمراً تنال به نفعاً فقال: لك منادمون فيهم من إن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قال: فإذا حضروا وحضرت فمر فلاناً الخادم أن يوصل إليك رقعتي؛ فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر؛ ولكن اختر لنفسك من أحببت. قال: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها:
يا خير إخواني وأصحابي ... هذا الطفيلي لدى الباب
خبر ان القوم في لذةٍ ... يصبو إليها كل أواب
فصيروني واحداً منكم ... أو أخرجوا لي بعض أترابي
قال: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال. فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختياراً غير عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: لقد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قال: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك طفيلي! قال:

ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين؛ فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قال: فقال: يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قال: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف. قال: فقال له المأمون: فعجلها له، قال: فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولاً، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة.
وذكر عن محمد بن عبد الله صاحب المراكب قال: أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد، قال: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قال: أنشدهما، قال: فأنشده صالح:
حمدنا الله شكراً إذ حبانا ... بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقاً ... جمعت سماحةً وجمعت دينا
فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بن الضحاك، قال: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قال: وماهو؟ فأنشدته:
أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ... علي، وقد أفردته بهوىً فرد!
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
وذكر عن عمارة بن عقيل، أنه قال: قال لي عبد الله بن أبي السمط: علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قال: قلت: ومن ذا يكون أعلم منه! فوالله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتاً أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قال: قلت: وما الذي أنشدته؟ قال: أنشدته:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قال: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئاً، وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.
وذكر عن محمد بن إبراهيم السياري قال: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي - وكان شيخاً جليلاً - فسلم عليه، فرد السلام، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، فأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك. فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قال: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بن إبراهيم، ثم قال: نعم، يا غلام ألف دينار؛ فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي بشيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجباً، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إيذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قال: نعم، سله، قال: ياشيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قال: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قال: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين؛ فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك؛ ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال: والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره في العراق؛ ويعرف بابن الموصلي! قال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: وأما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين؛ فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.
وذكر عن محمد بن عبد الله بن جشم الربعي أن عمارة بن عقيل قال: قال لي المأمون يوماً وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قال: كيف قلت:

قالت مفداة لما أن رأت أرقي ... والهم يعتادني من طيفه لمم
نهبت مالك في الأدنين آصرةً ... وفي الأباعد حتى حفك العدم
فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسنٍ ... تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم
فقلت عذلك قد أكثرت لائمتي ... ولم يمت حاتم هزلاً ولا هرم
فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.
وذكر عن محمد بن زكرياء بن ميمون الفرغاني، قال: قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي؛ ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأنشده في الهجاء:
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبر
وأنشده في المراثي:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان بن القاسم الكاتب، قال: أخبرني الحسين بن الضحاك، قال: قال لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون؛ فإنه دعا بنا؛ فلما أخذ فيه النبيذ؛ قال: غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتاً لابن سريج في شعر جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد المسير بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس!
قال: فحين لي أن غنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر:
الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلها بلدا
فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله. ثم قال: يا غلام، أعط مخارقاً ثلاثة آلاف درهم؛ وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق أبداً، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال.
خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيدوفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بالخلافة؛ وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين. وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعة العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك.
ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي؛ وسلمت الخلافة إليه؛ فسكن الجند.
وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقد على حمله؛ وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم.
وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها - فيما ذكر يوم السبت مستهل شهر رمضان.
وفيها دخل - فيما ذكر - جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان؛ فوجه المعتصم إليهم عساكر؛ فكان آخر عسكر وجه إليهم عسكر وجهه مع إسحاق بن إبراهيم بم مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفاً، وهرب باقيهم إلى بلاد الروم.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعة، وأهل بغداد يوم السبت.
الجزء التاسع

بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي

فمن ذلك ما كان من ظهور محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم؛ فاجتمع إليه بها ناس كثير؛ وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن ظاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها فهزم هو وأصحابه فخرج هارباً يريد بعض كور خراسان، كان أهله كاتبوه؛ فلما صار بنساء وبها والد لبعض من معه، مضى الرجل الذي معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه، فلما لقي أباه سأله عن الخبر، فأخبره بأمرهم، وانهم يقصدون كورة كذا، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا، فأخبره بأمر محمد بن القاسم؛ فذكر أن العالم بذل له عشرة آلاف درهم على دلالته عليه فدله عليه، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه فاستوثق منه؛ وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم فقدم به عليه يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، فحبس - فيما ذكر - بسامراً عند مسرور الخادم الكبير في محبس ضيق، يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين فمكث فيه ثلاثة أيام، ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك، وأجرى عليه طعام، ووكل به قوم يحفظونه، فلما كان ليلة الفطر، واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج، وذكر أنه هرب من الحبس بالليل، دلى إليه حبل من كوةٍ كانت في أعلى البيت، يدخل عليها منها الضوء؛ فلما أصبحوا أتوا بالطعام للغداء افتقد فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم وصاح بذلك الصائح، فلم يعرف له خبر.
وفي هذه السنة قدم إسحاق بن إبراهيم بغداد من الجبل، يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، ومعه الأسرى من الخرمية والمستأمنة وقيل: إن إسحاق بن إبراهيم قتل منهم في محابته إياهم نحواً من مائة ألف سوى النساء والصبيان.
ذكر الخبر عن محاربة الزط وفي هذه السنة وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة منها لحرب الزط الذين كانوا قد عاثوا في طريق البصرة فقطعوا فيه الطريق، واحتملوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، ورتب الخيل في كل سكة من سكك البرد تركض بالأخبار، فكان الخبر يخرج من عند عجيف، فيصل إلى المعتصم من يومه؛ وكان الذي يتولى النفقة على عجيف من قبل المعتصم محمد بن منصور كاتب إبراهيم بن البختري؛ فلما صار عجيف إلى واسط، ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها الصافية في خمسة آلاف رجل، وصار عجيف إلى نهر يحمل من دجلة يقال له بردوداً؛ فلم يزل مقيماً عليه حتى سده. وقيل إن عجيفاً نما ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها نجيداً، ووجه هارون بن نعيم ابن الوضاح القائد الخراساني إلى موضع يقال له الصافية في خمسة آلاف رجل؛ ومضى عجيف في خمسة آلاف بردوداً فأقام عليه حتى سده وسد أنهاراً أخر كانوا يدخلون منها ويخرجون ، فحصرهم من كل وجه؛ وكان من الأنهار التي سدها عجيف، نهر يقال له العروس؛ فلما أخذ عليهم طرقهم حاربهم، وأسر منهم خمسمائة رجل، وقتل منهم في المعركة ثلثمائة رجل، فضرب أعناق الأسرى وبعث برءوس جميعهم إلى باب المعتصم؛ ثم أقام عجيف بازاء الزط خمسة عشر يوماً، فظفر منهم بخلق كثير. وكان رئيس الزط رجلاً يقال له محمد بن عثمان؛ وكان صاحب أمره والقائم بالحرب سملق، ومكث عجيف يقاتلهم - فيما قيل - تسعة أشهر.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.
ثم دخلت سنة عشرين ومائتين ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر ظفر عجيف بالزط

فمن ذلك ما كان من دخول عجيف بالزط بغداد، وقهره إياهم حتى طلبوا منه الأمان فآمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين على أنهم آمنون على دمائهم وأموالهم؛ وكانت عدتهم - فيما ذكر - سبعة وعشرين ألفاً؛ المقاتلة منهم اثنا عشر ألفاً؛ وأحصاهم عجيف سبعة وعشين ألف إنسان؛ بين رجل وامرأة وصبي، ثم جعلهم في السفن، وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية، فأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، وأقام بها يوماً، ثم عبأهم في زوايقهم على هيئتهم في الحرب؛ معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين والمعتصم بالشماسية في سفينة يقال لها الزّو، حتى مّر به الزط على تعبئتهم ينفخون بالبوقات؛ فكان أولهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقاموا في سفنهم ثلاثة أيام، ثم عبر بهم إلى الجانب الشرقي؛ فدفعوا إلى بشر بن السميدع، فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الرّوم؛ فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد، فقال شاعرهم:
يا أهل بغداد موتوا دام غيظكم ... شوقاً إلى تمر برني وشهريز
نحن الذين ضربناكم مجاهرةً ... قسراً وسقناكم سوق المعاجيز
لم تشكروا الله نعماه التي سلفت ... ولم تحوطوا أياديه بتعزيز
فاستنصروا العبد من أبناء دولتكم ... من يا زمان ومن بلج ومن توز
ومن شناس وأفشين ومن فرجٍ ... المعلمين بديباجٍ وإبريز
واللابسي كميخار الصين قد خرطت ... أردانه درز برواز الدخاريز
والحاملين الشكى نيطت علائقها ... إلى مناطق خاصٍ غير مخرور
يفرى ببيضٍ من الهندي هامهم ... بنو بهلة في أبناء فيروز
فوارسٌ خيلها دهم مودعةٌ ... على الخراطيم منها والفراريز
مسخرات لها في الماء أجنحةٌ ... كالآبنوس إذا استحضرن والشيز
متى تروموا لنا في غمر لجتنا ... حذراً نصيدكم صيد المعافيز
أو اختطافاً وإزهاقاً كما اختطفت ... طير الدّحال حثاثاً بالمناقير
ليس الجلاد جلاد الزط فاعترفوا ... أكل الثريد ولا شرب القواقيز
نحن الذين سقينا الحرب درتها ... ونقنقنا مقاساة الكواليز
لنسفعنكم سفعاً يذل له ... رب السّرير ويشجى صاحب التّيز
فابكوا على التمر أبكى الله أعينكم ... في كل أضحى، وفي فطر ونيروز
ذكر خبر مسير الأفشين لحرب بابك وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين خيذر بن كاوس على الجبال، ووجه به لحرب بابك؛ وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة؛ فعسكر بمصلى بغداد، ثم صار إلى برزند.
ذكر الخبر عن أمر بابك ومخرجهذكر ان ظهور بابك كان في سنة إحدى ومائتين، وكانت قريته ومدينته البذّ؛ وهزم من جيوش السلطان، وقتل من قواده جماعة؛ فلما أفضى الأمر إلى المعتصم، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل؛ فتوجه أبو سعيد لذلك، وبنى الحصون التي خربها بابك، ووجه بابك سرية له في بعض غاراته، وصيّر أميرهم رجلاً يقال له معاوية؛ فخرج فأغار على بعض النواحي، ورجع منصرفاً؛ فبلغ ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف، فجمع الناس وخرج إليه يعترض في بعض الطريق، فواقعه، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر منهم جماعة، واستنفذ ما كان حواه؛ فهذه أول هزيمة كانت على أصحاب بابك. ووجه أبو سعيد الرءوس والأسرى إلى المعتصم بالله.

ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث؛ وذلك أن محمد بن البعيث كان في قلعة له حصينة تسمى شاهي؛ كان ابن البعيث أخذها من الوجناء بن الرّواد، عرضها نحو من فرسخين، وهي من كورة أذربيجان، وله حصن آخر في بلاد أذربيجان يسمى تبريز، وشاهى أمنعهما؛ وكان ابن البعيث مصالحاً لبابك، إذا توجهت سراياه نزلت به. فأضافهم، وأحسن إليهم حتى أنسوا به، وصارت لهم عادة. ثم إنّ بابك وجه رجلاً من أصحابه يقال له عصمة من أصبهبذته في سرية، فنزل بابن البعيث، فأنزل إليه ابن البعيث على العادة الجارية الغنم والأنزال وغير ذلك، وبعث إلى عصمة أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغذّاهم وسقاهم حتى أسكرهم، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمي رجلاً رجلاً من أصحابه باسمه؛ فكان يدعي بالرجل باسمه فيصعد، ثم يأمر به فيضرب عنقه؛ حتى علموا بذلك؛ فهربوا. ووجّه ابن البعيث بعصمة إلى المعتصم - وكان البعيث أبو محمد صعلوكاً من صعاليك ابن الرّواد - فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك، فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها؛ ثم لم يزل عصمة محبوساً إلى أيام الواثق. ولما صار الأفشين إلى برزند عسكر بها، ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقاً، وأنزل الهيثم الغنويّ القائد من أهل الجزيرة في رستاق يقال له أرشق، فرمّ حصنه، وحفر حوله خندقاً، وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء في حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى حصن النهر؛ فكانت السابلة والقوافل تخرج من أردبيل معها من يبذرقها حتى تصل إلى حصن النّهر، ثم يبذرقها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنويّ، ويخرج هيثم فيمن جاء من ناحيته حتى يسلمه إلى أصحاب حصن النّهر، ويبذرق من جاء من أردبيل حتى يصير الهيثم وصاحب حصن النهر في منتصف الطريق، فيسلّم صاحب حصن النهر من معه إلى هيثم، ويسلّم هيثم من معه إلى صاحب حصن النهر؛ فيسير هذا مع هؤلاء؛ وهذا مع هؤلاء. وإن سبق أحدهما صاحبه إلى الموضع لم يجزه حتى يجيء الآخر؛ فيدفع كلّ واحد منهما من معه إلى صاحبه ليبذرقهم؛ هذا إلى أردبيل، وهذا إلى عسكر الأفشين، ثم يبذرق الهيثم الغنويّ من كان معه إلى أصحاب أبي سعيد؛ وقد خرجوا فوقفوا على منتصف الطريق، معهم قوم، فيدفع أبو سعيد وأصحابه من معهم إلى الهيثم، ويدفع الهيثم من معه إلى أصحاب أبي سعيد، فيصير أبو سعيد وأصحابه بمن في القافلة إلى خش، وينصرف الهيثم وأصحابه بمن صار في أيديهم إلى أرشق حتى يصيروا به من غد، فيدفعوهم إلى علويه الأعور وأصحابه ليوصلوهم إلى حيث يريدون، ويصير أبو سعيد ومن معه إلى خش، ثم إلى عسكر الأفشين، فتلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيقبض منه من في القافلة، فيؤديهم إلى عسكر الأفشين، فلم يزل الأمر جارياً على هذا؛ وكلما صار إلى أبي سعيد أو إلى أحد من المسالح أحد من الجواسيس وجهوا به إلى الأفشين؛ فكان الأفشين لا يقتل الجواسيس ولا يضربهم؛ ولكن يهب لهم ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم، ويقول للجاسوس: كن جاسوساً لنا.
ذكر خبر وقعة الأفشين مع بابك بأرشق وفيها كانت وقعة بين بابك وأفشين بأرشق، قتل فيها الأفشين من أصحاب بابك خلقاً كثيراً؛ قيل أكثر من ألف، وهرب بابك إلى موقان، ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذ
ذكر الخبر عن

سبب هذه الوقعة بين الأفشين وبابك
ذك أن سبب ذلك أن المعتصم وجه مع بغا الكبير بمالٍ إلى الأفشين عطاءً لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال إلى أردبيل، فلما نزل أردبيل بلغ بابك وأصحابه خبره، فتهيأ بابك وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين، فقدم صالح الجاسوس على الأفشين، فأخبره أن بغا الكبير قد قدم بمال وأن بابك وأصحابه تهيئوا ليقتطعوه قبل وصوله إليك.

وقيل: كان مجئ صالح إلى أبي سعيد، فوجه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيأ بابك كميناً في مواضع، فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحة خبر بابك، فمضى أبو سعيد متنكراً هو وجماعة من أصحابه، حتى نظروا إلى النيران والوقود في المواضع التي وصفها لهم صالح، فكتب الأفشين إلى بغا؛ أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحة خبر صالح، فوعد الأفشين صالحاً وأحسن إليه. ثم كتب الأفشين إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل، ويشد المال على الإبل ويقطرها، ويسير متوجهاً من أردبيل؛ كأنه بيد برزند؛ فإذا صار إلى مسلحة النهر، أو سار شبيهاً بفرسخين، احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال إلى برزند؛ فإذا جازت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل ذلك بغا، وسارت القافلة حتى نزلت النهر، وانصرفت جواسيس بابك إليه يعلمونه أن المال قد حمل، وعاينوه محمولاً حتى صار إلى النهر، ورجع بغا بالمال إلى أردبيل، وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا عند العصر من برزند، فوافى خش مع غروب الشمس، فنزل معسكراً خارج خندق أبي سعيد؛ فلما أصبح ركب في سرّ؛ لم يضرب طبلاً ولا نشر علماً، وأمر أن يلف الأعلام، وأم بالناس بالسكوت ، وجد في السير، ورحلت القافلة التي كانت توجهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي، ورحل الأفشين من خش يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم " بمن كان معه " فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر

وتعبأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر، وهو يظن أن المال موافيه، وخرج صاحب النهر ببذرق من قبله إلى الهيثم، فخرجت عليه خيل بابك؛ وهم لا يشكون أن المال معه؛ فقاتلهم صاحب النهر، فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة، وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وغيره، وعلموا أن المال قد فاتهم، وأخذوا علمه، وأخذوا لباس أهل النهر ودراريعهم وطراداتهم وخفاتينهم فلبسوها، وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضاً، ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنهم أصحاب النهر، فلما جاءوا لم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر، فوقفوا في غير موضع صاحب النهر، وجاء الهيثم فوقف في موقفه، فأنكر ما رأى فوجه ابن عم له، فقال له: اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: لأي شيء وقوفك؟ فجاء ابن عم الهيثم، فلما رأى القوم أنكرهم لما دنا منهم، فرجع إلى الهيثم، فقال له: إن هؤلاء القوم لست أعرفهم، فقال له الهيثم: أخزاك الله! ما أجبنك! ووجه خمسة فرسان من قبله، فلما جاءوا وقربوا من بابك، خرج من الخرمية رجلان فتلقوهما وأنكروهما، وأعلموهما أنهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضاً، فقالوا: إن الكافر قد قتل علويه وأصحابه، وأخذوا أعلامهم ولباسهم، فحل هيثم منصرفاً، فأتى القافلة التي جاء بها معه، وأمرهم أن يركضوا ويرجعوا، لئلا يؤخذوا، ووقف هوم في أصحابه، يسير بهم قليلاً قليلاً، ويقف بهم قليلاً، ليشغل الخرمية عن القافلة، وصار شبيهاً بالحامية لهم؛ حتى وصلت القافلة إلى الحصن الذي يكو فيه الهيثم - وهو أرشق - وقال لأصحابه: من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما به وله عشرة آلاف درهم ومن فرس بدل فرسه إن نفق فرسه فله مثل فرسه على مكانه؟ فتوجه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن، وخرج بابك فيمن معه؛ فنزل بالحصن، ووضع له كرسي وجلس على شرف بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم: خل عن الحصن وانصرف حتى أهدمه فأبى الهيثم وحاربه. وكان مع الهيثم في الحصن سمائة راجل وأربعمائة فارس، وله خندق حصين. فقاتله، وقعد بابك فيمن معه، ووضع الخمر بين يريد ليشربها، والحرب مشتبكة كعادته، ولقى الفارسان الأفشين على أقل من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدمته: أرى فارسين يركضان ركضاً شديداً، ثم قال: اضربوا الطبل، وانشروا الأعلام واركضوا نحو الفارسين: ففعل أصحابه ذلك، وأسرعوا السير، وقال لهم: صيحوا بهما: لبيك لبيك! فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين، يكسر بعضهم بعضاً حتى لحقوا بابك، وهو جالس، فلم يتدارك أن يتحول ويركب حتى وافته الخيل والناس، واشتنبكت الحرب، فلم يفلت من رجالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير، ودخل موقان، وقد تفطع عنه أصحابه، وأقام الأفشين في ذلك الموضع، وبات ليلته، ثم رجع إلى معسكره ببرزند، فأقام بابك بموقان أياماً. ثم إنه بعث إلى البذ، فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة، فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ، فلم يزل الأفشين معسكراً ببرزند، فلما دخل من كان في بعض الأيام مرت به قافلة من خش إلى برزند، ومعها رجل من قبل أبي سعيد يسمى صالح آب كش - تفسيره السقاء - فخرج عليه أصبهبذ بابك، فأخذ القافلة، وقتل من فيها، وقتل من كان مع صالح، وأفلت صالح بلا خف منه من أفلت، وقتل جميع أهل القافلة، وانتهت متاعهم، فقحط عسكر الأفشين من أجل تلك القافلة التي أخذت من الآب كش؛ وذلك أنها كانت تحمل الميرة، فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه؛ فإن الناس قد قحطوا وجاعوا فوجه إليه صاحب المراغة بقافلة ضخمة، فيها قريب من ألف ثور سوى الحم والدواب وغير ذلك، تحمل الميرة، ومعها جند يبذرقونها، فخرجت عليهم أيضاً سرية لبابك، كان عليها طرخان - أو آذين - فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها، وأصاب الناس ضيق شديد؛ فكتب الأفشين إلى صاحب السيروان أن يحمل إليه طعاماً، فحمل إليه طعاماً كثيراً، وأغاث الناس في تلك السنة، وقد بغا على الأفشين بمال ورجال.
ذكر الخبر عن خروج المعتصم إلى القاطول وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة منها.
ذكر الخبر عن سبب خروجه إليها

ذكر عن أبي الوزير أحمد بن خالد، أنه قال: بعثني المعتصم في سنة تسع عشرة ومائتين، وقال لي: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامراً موضعاً أبني فيه مدينة؛ فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرمية صيحة، فيقتلوا غلماني؛ حتى أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر؛ حتى آتى عليهم. وقال لي: خذ مائة ألف دينار، قال: قلت: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما احتجت إلى زيادة بعثت إليك فاستزدت؟ قال: نعم؛ فأتيت الموضع، فاشتريت سامراً بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني بخمسة آلاف درهم، اشتريت عدة مواضع حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج إليها في سنة عشرين ومائتين، فخرج حتى إذا قارب القاطول، ضربت له فيه القباب والمضارب، وضرب الناس الأخبية؛ ثم لم يزل يتقدم، وتضرب له القباب حتى وضع البناء بسامراً في سنة إحدى وعشرين ومائتين. فذكر عن أبي الحسن بن أبي عباد الكاتب، أن مسروراً الخادم الكبير، قال: سألني المعتصم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد؟ قال: قلت له: بالقاطول؛ وقد كان بني هناك مدينة آثارها وسورها قائم؛ وقد كان خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشآم وعصوا، خرج الرشيد إلى الرقة فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستمر، ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه هارون الواثق وقد حدثني جعفر بن محمد بن بوازة الفراء، أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول، كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلاً في أرباضها؛ وذلك أنهم كانوا عجماً جفاة يركبون الدواب، فيتراكضون في طرق بغداد وشوراعها، فيصدمون الرجل والمرأة ويطئون الصبي، فيأخذهم الأبناء فينسكونهم عن دوابهم ويجرحون بعضهم؛ فربما هلك من الجراح بعضهم، فشكت الأتراك ذلك إلى المعتصم، وتأذت بهم العامة؛ فذكر أنه رأى المعتصم راكباً منصرفاً من المصلى في يوم عيد أضحى أو فطر؛ فلما صار في مربعة الحرشي، نظر إلى شيخ قد قام إليه، فقال له: يا أبا إسحاق، قال: فابتدره الجند ليضربوه؛ فأشار إليهم المعتصم فكفهم عنه، فقال للشيخ: مالك! قال: لا جزاك الله عن الجوار خيراً! جاورتنا بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت بهم رجالنا! والمعتصم يسمع ذلك كله. قال: ثم دخل داره فلم ير راكباً إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم؛ فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلى بالناس العيد؛ ثم لم يرجع إلى منزله ببغداد؛ ولكنه صرف وجه دابته إلى ناحية القاطول؛ وخرج من بغداد ولم يرجع إليها.
ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن مروانوفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه وسبب اتصاله بالمعتصم ذكر أن الفضل بن مروان - وهو رجل من أهل البردان - كان متصلاً برجل من العمال يكتب له، وكان حسن الخط، ثم صار مع كاتب كان للمعتصم يقال له يحيى الجرمقاني، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه؛ فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه؛ وكان يكتب للفضل علي بن حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها؛ والفضل كاتبه، ثم خرج معه إلى معسكر المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبر موت المأمون بغداد، ينفذ أمور المعتصم، ويكتب على لسانه بما أحب حتى قدم المعتصم خليفةً، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت يديه وكنز الأموال، وأقبل أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغني والملهي؛ فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق.

فحدثني إبراهيم بن جهرويه أن إبراهيم المعروف بالهفتي - وكان مضحكاً - أمر له المعتصم بمال؛ وتقدم إلى الفضل بن مروان في إعطائه ذلك، فلم يعطه الفضل ما أمر به المعتصم؛ فينا الهفتي يوماً عند المعتصم؛ بعد ما بنيت له داره التي ببغداد، واتخذ له بستان، قام المعتصم يتمشى في البستان ينظر إليه وإلى ما فيه من أنواع الرياحين والغروس، ومعه الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضى الخلافة إليه، فيقول فيما يداعبه: والله لا تفلح أبداً! قال: وكان الهفتي رجلاً مربوعاً ذا كنة، والمعتصم رجلاً معرقاً خفيف اللحم، فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي؛ فإذا تقدمه ولم ير الهفتي معه التفت إليه، فقال له: مالك لا تمشي! يستعجله المعتصم في المشي ليلحق به؛ فلما كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتي، قال له الهفتي، مداعباً له: كنت أصلحك الله، أراني أماشي خليفة؛ ولم أكن أراني أماشي فيجاً، والله لا أفلحت! فضحك منها المعتصم، وقال: ويلك! هل بقي من الفلاح شيء لم أدركه! أبعد الخلافة تقول هذا لي! فقال له الهفتي: أتحسب أنك قد أفلحت الآن! إنما لك من الخلافة الاسم؛ والله ما يجاوز أمرك أذنيك؛ وإنما الخليفة الفضل بن مروان، الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته؛ فقال له المعتصم: وأي أمر لي لا ينفذ! فقال له: الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين؛ فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبة! قال: فاحتجنها على الفضل المعتصم حتى أوقع به.
فقيل: إن أول ما أحدثه في أمره حين تغير له أن صير أحمد بن عمار الخراساني زماماً عليه في نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زماماً عليه في الخراج وجميع الأعمال؛ فلم يزل كذلك؛ وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى ما كان أبواه يتولاه للمأمون من عمل المشمش والفساطيط وآلة الجمازات ويكتب على ذلك مما جرى على يدي محمد بن عبد الملك، وكان يلبس إذا حضر الدار دراعة سوداء وسيفاً بحمائل، فقال له الفضل بن مروان: إنما أنت تاجر، فما لك وللسواد والسيف! فترك ذلك محمد، فلما تركه أخذه الفضل يرفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني، فرفعه، فأحسن دليل في أمره؛ ولم يرزأه شيئاً، وعرض عليه محمد هدايا، فأبى دليل أن يقبل منها شيئاً، فلما كانت سنة تسع عشرة ومائتين - وقيل سنة عشرين، وذلك عندي خطأ - خرج المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بساما، فصرفه كثرة زيادة دجلة؛ فلم يقدر على الحركة، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية، ثم خرج بعد ذلك؛ فلما صار بالقاطول غضب على الفضل بن مروان وأهل بيته في صفر، وأمرهم برفع ما جرى على أيدهم؛ وأخذ الفضل وهو مغضوب عليه في عمل حسابه، فلما فرغ من الحساب لم يناظر فيه، وأمر بحبسه؛ وأن يحمل إلى منزله ببغداد في شارع الميدان، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فحبس دليلاً، ونفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، فلم يزل بها مقيماً؛ فصار محمد بن عبد الملك وزيراً كاتباً، وجرى على يديه عامة ما بنى المعتصم بسامراً من الجانبين الشرقي والغربي، ولم يزل في مرتبته حتى استخلف المتوكل، فقتل محمد بن عبد الملك.

وذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حلّ من قبله المحل الذي لم يكن أحد يطمع في ملاحظته، فضلاً ع منازعته ولا في الاعتراض في أمره ونهيه وإرادته وحكمه؛ فكانت هذه صفته ومقداره؛ حتى حملته الدالة، وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان يأمره به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهمّ أموره؛ فذكر عن ابن أبي داود أنه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم؛ فكثيراً ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان: احمل إليّ كذا وكذا من المال، فيقول: ما عندي، فيقول: فاحتلها من وجه من الوجوه؛ فيقول: ومن أين أحتالها! ومن يعطيني هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه؛ فلمّا كثر هذا من فعله ركبت إليه يوماً فقلت له مستخلياً به: يا أبا العباس؛ إنّ الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره؛ وأنت امرؤ قد عرفت أخلاقك، وقد عرفها الداخلون بيننا؛ فإذا حّركت فيك بحقّ فاجعله باطلاً؛ وعلى ذلك فما أدع نصيحتك وأداء ما يجب عليّ في الحق لك؛ وقد أراك كثيراً ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبةً غليظة ترمضه، وتقدح في قلبه، والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ. قال: وما ذاك يا أبا عبد اللّه؟ قلت: أسمعه كثيراً ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول: ومن يعطيني هذا! وهذا ما لا يحتمله الخلفاء، قال: فما أصنع ذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت: تصنع أن تقول: يا أمير المؤمنين، نحتال في ذاك بحيلة، فتدفع عنك أياماً إلى أن يتهيّأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه بالباقي، قال: نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. قال: فوا لله لكأني كنت أغريه بالمنع، فكان إذا عاوده بمثل ذلك من القول، عاد إلى مثل ما يكره من الجواب. قال: فلما كثر ذلك عليه، دخل يوماً إليه وبين يديه حزمة نرجس غضّ، فأخذها المعتصم فهزّها، ثم قال: حيّاك اللّه يا أبا العباس! فأخذها الفضل بيمينه، وسلّ المعتصم خاتمه من إصبعه بيساره، وقال له بكلام خفيّ: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده، ووضعه في يد ابن عبد الملك.
وحجّ بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك الوقعة التي كانت بين بابك وبغا الكبير من ناحية هشتادسر، فهزم بغا واستبيح عسكره.
ذكر الخبر عن وقعة الأفشين مع بابك
في هذه السنة
وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها

ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره؛ وأن المعتصم وجهه معه إلى الأفشين عطاءً للجند الذي كان معه ولنفقات على الأفشين، وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر، وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه وينزه. فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا بموضع يقال له دروذ، فاحتقر الأفشين بها خندقاً، وبنى حوله سوراً، ونزل هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة؛ فكان بينه وبين البذ ستة أميال. ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين كتب إليه ولا أمره بذلك؛ فدار حول هشتادسر حتى دخل إلى قرية البذ، فنزل في وسطها، وأقام بها يوماً واحداً، ثم وجه ألف رجل في علافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم، وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى؛ فأرسل منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما: إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر إليهما صاحب الكوهبانية؛ فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح! وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين؛ فأخذهما صاحب المقدمة، فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقصتيهما، فقال: فعل شيئاً من غير أن نأمره. ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيهاً بالمنهزم؛ وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحاً الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل - وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل - فداروا حول هشتادسر، فسر أهل عسكره بهم؛ ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين؛ فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد إلى هشتادسر، فعسكر على دعوة يجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد؛ فلم يكن للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر. ونزل الأفشين في معسكر بابك. ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتادستر، فأصاب العسكر الذي كان مقيماً بازائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثياً وقماشاً، وانحدر من هشتادسر يريد البذ، فأصاب رجلاً وغلاماً نائمين فأخذهما داودسياه - وكان على مقدمته - فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير هذا؛ وكان ذلك قبل صلاة العصر . فبعث بغا إلى داودسياه: قد توسطنا الموضع الذي تعرفه - يعني الذي كنا فيه في المرة الأولى - وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلاً حصيناً يسع عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. فالتمس داودسياه ذلك، فصعد إلى بعض الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، ونتحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله. فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير؛ فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة الثلج؛ وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب. فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا: قد فنى ما معنا من الزاد، وقد أضر بنا البرد؛ فانزل على أي حالة كانت؛ إما راجعين وإما إلى الكافر. وكان في أيام الضباب. فبيت بابك الأفشين ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنةً وميسرةً ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود قدر نصف ميل؛ وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيثن له قرابة بالبذ،، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف

بعضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا ها هنا؟ فسمى له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنحى؛ فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت. فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمى له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل؛ هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدّم داود وجدّ في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه إلى هشتادستر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرّة الأولى، يدور حول هشتادسر، وليس فيه مضيق إلاّ في موضع واحد.ضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا ها هنا؟ فسمى له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنحى؛ فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت. فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمى له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل؛ هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدّم داود وجدّ في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه إلى هشتادستر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرّة الأولى، يدور حول هشتادسر، وليس فيه مضيق إلاّ في موضع واحد.
فسار بالناس، وبعث بالرّجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة القوّاد في الساقة، وظهرت طلائع بابك؛ فكلما نزل هؤلاء جبلاً صعدته طلائع بابك؛ يتراءون لهم مرّة ويغيبون عنهم مرّة، وهو في ذلك يقفون آثارهم، وهو قدر عشرة فرسان؛ حتى كان بين الصّلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتؤضأ ويصليّ، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوهم، فوقفوا حين رأوه، فتخوّف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية، ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق قومٌ آخرون، فشارو من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة، يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق. فقال له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار؛ وإنما هم أصحاب ليل؛ وإنما يتخوّف على أصحابنا من الليل، فوجّه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل، ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا؛ فإن هؤلاء ما داموا يروننا في وجوهم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلاً قليلاً حتى تجيء الظلمة؛ فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعاً، وأصحابنا يسيرون فينفذون أوّلا فأوّلا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتادستر أو من طريق آخر.
وأشار غيره على بغا. فقال: إنّ العسكر قد تقطّع، وليس يدرك أوّله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن من أن يخرج عليه من يأخذ المال والأسير - وكان ابن جويدان معهم أسيراً أرادوا أن يفادوا به كاتباً لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك - فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر له المال والسلاح والأسي فوجه إلى داود سياه: حيثما رأيت جبلاً حصيناً، فعسكر عليه.

فعدل داود إلى جبل مؤوب، لم يكن لناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه، فعسكر عليه، فضرب مضرباً لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط؛ ليس فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد فجاءهم العدو من الناحية الأخرى فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا العسكر، وخرج بغا راجلاً حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابة الفضل ابن سهل وخرج بغا من العسكر راجلاً، فوجد دابة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتادسر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد فوافاه في جوف الليل، وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس ومر الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يوماً، فأتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة وأن يرد إليه المدد الذي كان أمده به، فمضى بغا إلى المراغة، وانصرف بن كاوس وجميع من جاء معه من معسكر الأفشين، وفرق الأفشين اناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.
خبر مقتل طرخان قائد بابكوفي هذه السنة قت قائد لبابك كان يقال له طرخان.
ذكر سبب قتله ذكر أن طرخان هذا كان عظيم المنزلة عند بابك؛ وكان أحد قواده، فلما دخل الشتاء من هذه السنة استأذن بابك في الأذن له أن يشتو في قرية له بناحية المراغة - وكان الأفشين يرصده، ويحب الظفر به؛ لمكانه من بابك - فأذن له بابك، فصار إلى قريته ليشتو بها بناحية هشتادسر فكتب الأفشين إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وهو بالمراغة، أن يسري إلى تلك القرية - ووصفها له - حتى يقتل طرخان، أو يبعث به إليه أسيراً. فأسرى ترك إلى طرخان، فصار إليه في جوف الليل، فقتل طرخان وبعث طرخان وبعث برأسه إلى الأفشين.
وفي هذه السنة قدم صول أرتكين وأهل بلاده في قيود فنزعت قيودهم، وحمل على الدوابّ منهم نحو من مائتي رجل. وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاريّ وبعث به مقيّداً.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس، وهو والي مكة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه المعتصم جعفر بن دينار الخياط إلى الأفشين مدداً له، ثم إتباعه بعد ذلك بإيتاخ وتوجيهه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند والنفقات.
ذكر خبر الوقعة بين أصحاب الأفشين وآذين قائد بابكوفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك يقال له آذين.
ذكر الخبر على هذه الوقعة وما كان سببها

ذكر أن الشتاء لما انقضى من سنة إحدى وعشرين ومائتين وجاء الربيع، ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووجهّ المعتصم إلى الأفشين ما وجهه إليه من المدد والمال، فوافاه ذلك كله وهو ببرزند، سلّم إيتاخ إلى الأفشين المال والرّجال الذين كانوا معه وانصرف، وأقام جعفر الخياط مع الأفشين مدّة، ثم رحل الأفشين عند إمكان الزمان، فصار إلى موضع يقال له كلان روذ، فاحتفر فيه خندقاً، وكتب إلى أبي سعيد، فرحل من برزند إلى إزائه على طرف رستاق كلان روذ، وتفسيره: نهر كبير؛ بينهما قدر ثلاثة أميال، فأقام معسكراً في خندق، فأقام بكلان روذ خمسة أيام، فأتاه من أخبره أن قائداً من قواد بابك يدعى آذين، قد عسكر بإزاء الأفشين، وأنه قد صير عياله في جبل يشرف على روذ الروذ، وقال: لا أتحصن من اليهود - يعني المسملين - ولا أدخل عيالي حصناً؛ وذلك أن بابك قال له: أدخل عيالك الحصن، قال: أنا أتحصن من اليهود! والله لا أدخلتهم حصناً أبداً، فنقلهم إلى هذا الجبل، فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي والحسين بن خالد المدائني من قواد أبي سعيد في جماعة من الفرسان والكوهبانية، فساروا ليلتهم من كلان روذ؛ حتى انحدروا في مضيق لا يمر فيه راكب واحد إلا بجهد، فأكثر الناس قادوا دوابهم، وانسلوا رجلاً خلف رجل، فأمرهم أن يصيروا قبل طلوع الفجر على روذ الروذ فيعبر الكوهبانية رجالة؛ لأنه لا يمكن الفارس أن يتحرك هناك، ويتسلقوا الجبل؛ فصاروا على روذ الروذ قبل السحر، ثم أمر من أطاق من الفرسان أن يترجل وينزع ثيابه، فترجل عامة الفرسان، وعبروا وعبر معهم الكوهبانية جميعاً، وصعدوا الجبل؛ فأخذوا عيال آذين وبعض ولده، وعبروا بهم، وبلغ آذين الخبر بأخذ عياله؛ وكان الأفشين عند توجه هؤلاء الرجالة ودخولهم المضيق يخاف أن يؤخذ عليهم المضيق، فأم الكوهبانية أن يكون معهم أعلام، وأن يكونوا على رءوس الجبال الشواهق في المواضع التي يشرفون منها على ظفر بن العلاء وأصحابه؛ فإن رأوا أحداً يخافونه حركوا الأعلام، فبات الكوهبانية على رءوس الجبال، فلما رجع ابن العلاء والحسين بن خالد بمن أخذوا من عيال آذين، وصاروا في بعض الطريق قبل أن يصيروا إلى المضيق، انحدر عليهم رجالة آذين فحاربوهم قبل أن يدخلوا المضيق، فوقع بينهم قتلى، واستنفذوا بعض النساء. ونظر إليهم الكوهبانية الذين رتبهم الأفشين؛ وكان آذين قد وجه عسكرين؛ عسكراً يقاتلهم، وعسكراً يأخذ عليهم المضيق؛ فلما حركوا الأعلام وجه الأفشين مظفر بن كيدر في كردوس من أصحابه، فأسرع الركض. ووجه أبا سعيد خلف المظفر، وأتبعهما ببخارا خذاه، فوافوا؛ فلما نظر إليهم رجالة آذين الذين كانوا على المضيق انحدروا عن المضيق، وانضموا إلى أصحابهم، ونجا ظفر بن العلاء والحسين بن خالد ومن معهما من أصحابهما، ولم يقتل إلا من قتل في الوقعة الأولى، وجاءوا جميعاً إلى عسكر الأفشين؛ ومعهم النساء اللواتي أخذوهن.
ذكر خبر فتح البذ مدينة بابكوفي هذه السنة فتحت البذ مدينة بابك، ودخلها المسملون، واستباحوها؛ وذلك في يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان في هذه السنة ذكر الخبر عن أمرها وكيف فتحت والسبب في ذلك

ذكر أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ والإرتحال من كلان روذ جعل يزحلف قليلاً قليلاً - على خلاف زحفه قبل ذلك - إلى المنازل التي كان ينزلها؛ فكان يتقدم الأميال الأربعة، فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إلى روذ الروذ، ولا يحفر خندقاً؛ ولكنه يقيم معسكراً في الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس تقف على ظهور الخيل، كما يدور العسكر بالليل؛ فبعض القوم معسكرون وبعض وقوف على ظهور دوابهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار مخافة البيات؛ كي إن دهمهم أمر أن يكون الناس على تعبية والرجالة في العسكر؛ فضج الناس من التعب، وقالوا: كم نقعد ها هنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء، وبيننا وبين العدو أربعة فراسخ، ونحن نفعل فعلاً؛ كأن العدو بإزائنا! قد استحينا من الناس والجواسيس الذين يمرون بيننا وبين العدو أربعة فراسخ؛ ونحن قد متنا من الفزع؛ أقدم بنا؛ فإما لنا وإما علينا، فقال: أنا والله أعلم أن ما تقولون حق؛ ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا. ولا أجد منه بداً. فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرى بدراجة الليل على حسب ما كان؛ فلم يزل كذلك أياماً، ثم انحدر في خاصته حتى نز إلى روذ الروذ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي به الركوة التي واقعة عليها بابك في العام الماضي؛ فنظر إليهما، ووجد عيها كردوساً من الخرمية؛ فلم يزل يحاربوه ولم يحاربهم؛ فقال بعض العلوج: ما لكم تجيئون وتفرون! أما تستحيون! فأمر الأفشين ألا يجيئوهم ولا يبرز إليهم أحد؛ فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر، ثم رجع إلى معسكره، فمكث فيه يومين، ثم انحدر أيضاً في أكثر مما كان انحدر في المرة الأولى، فأمر أبا سعيد أن يذهب فيوافقهم على حسب ما كان وافقهم في المرة الأولى، ولا يحركهم ولا يهجم عليهم.

وقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية أن يصعدوا إلى رءوس الجبال التي يظنون أنها حصينة، فيتراءوا فيها، ويختاروا له في رءوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة؛ فاختاروا له ثلاثة أجبل، قد كانت عليها حصون فيما مضى، فخربت فعرفها، ثم بعث إلى أبي سعيد، فصرفه يومه ذلك؛ فلما كان بعد يومين انحدر من معسكره إلى روذ الروذ، وأخذ معه الكلغرية - وهم الفعلة - وحملوا معهم شكاء الماء والكعك؛ فما صاروا إلى روذ الروذ وجه أبا سعيد، وأمره أن يوافقهم أيضاً على حسب ما كان أمره به في اليوم الأول، وأمر الفعلة بنقل الحجارة وتحصين الطرق التي تسلك إلى تلك الثلاثة الأجبل؛ حتى صارت شبه الحصون، وأمر فاحتفر على كل طريق وراء تلك الحجارة إلى المصعد خندقاً؛ فلم يترك مسلكاً إلى جبل منها إلا مسلكاً واحداً. ثم أمر أبا سعيد بالانصراف، فانصرف، ورجع الأفشين إلى معسكره. قال: فلما كان في اليوم الثامن من الشهر، واستحكم الحصر، دفع إلى الرجالة كعكاً وسويقاً، ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير، ووكل بمعسكره ذلك من يحفظه. وانحدروا، وأمر الرجالة أن يصعدوا إلى رءوس تلك الجبال، وأن يصعدوا معهم بالماء، وبجميع ما يحتاجون إليه، ففعلوا ذلك، وعسكر ناحية، ووجه أبا سعيد ليواقف القوم على حسب ما كان يوافقهم، وأمر الناس بالنزول في سلاحهم، وألا يأخذوا الفرسان سروج دوابهم. ثم خط الخندق، وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكل بهم من يستحثهم، ونزل هو والفرسان، فوقفوا تحت الشجر في ظل يرعون دوابهم، فلما صلى العصر، أمر الفعلة بالصعود إلى رءوس الجبال التي حصنها مع الرجالة، وأمر الرجالة أن يتحارسوا ولا يناموا، ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، وأمر الفرسان بالركوب عند اصفرار الشمس، فصيرهم كراديس وقفها حيالهم، بين كل كردوس وكردوس قدر رمية سهم، وتقدم إلى جميع الكراديس ألا يلتفتن كل واحد منكم إلى الآخر؛ ليحفظ كل واحد منكم ما يليه؛ فإن سمعتم هدة فلا يلتفتن أحد منكم إلى أحد، وكل كردوس منكم قائم بما يليه، فإنه لا بهدة يأخذ. فلم يزل الكراديس وقوفاً على ظهور دوابهم إلى الصباح، والرجالة فوق رءوس الجبال يتحارسون. وتقدم إلى الرجالة: متى ما أحسوا في الليل بأحد فلا يكترثوا، وليلزم كل قوم منهم المواضع التي لهم؛ وليحفظوا جبلهم وخندقهم فلا يلتفتن أحد إلى أحد. فلم يزالوا كذلك إلى الصباح؛ ثم أمر من يتعاهد الفرسان والرجالة بالليل، فينظر إلى حالتهم؛ فلبثوا في حفر الخندق عشرة أيام، ودخله اليوم العاشر فقسمه بين الناس وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق، وأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار؛ يعلمه أنه في أيامه هذه في جفاء؛ إنما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنه أحب أن يلطفه بذلك. فقال الأفشين للرسول: قد عرفت أي شيء أراد ؟أخي بهذا؛ إنما أراد أن ينظر إلى المعسكر، وأنا أحقّ من قبل بّره، وأعطاه شهوته؛ فقد صدق، أنا في جفاء. وقال للّرسول: أما أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتى معسكرنا، فقد رأيت ما ها هنا، وترى ما وراءنا أيضاً، فأمر بحمله على دابة، وأن يصعد به حتى يرى الخندق، ويرى خندق كلان روذ وخندق برزند، ولينظر إلى الخنادق الثلاثة ويتأملها ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه. ففعل به ذك؛ حتى صار إلى برزند، ثم رده إليه، فأطلقه وقال له: اذهب فاقرئه مني السلام - وكان من الخرمية الذين يتعرضون لمن يجلب الميرة إلى المعسكر - ففعل ذك مرة أو مرتين ثم جاءت الخرمية بعد ذلك في ثلاثة كراديس، حتى صاروا قريباً من سور خندق الأفشين يصيحون، فأمر الأفشين الناس ألا ينطق أحد منهم، ففعلوا ذلك ليلتين أو ثلاث ليال، وجعلوا يركضون دوابهم خلف السور، ففعلوا ذلك غير مرة؛ فلما أنسوا هيأ لهم الأفشين أربعة كراديس من الفرسان والرجالة، فكانت الرجالة ناشبة فكمنوا لهم في الأودية، ووضع عليهم العيون؛ فلما انحدروا في وقتهم الذي كانوا ينحدرون فيه في كل مرة وصاحوا وجلبوا كعادتهم شدت عليهم الخيل والرجالة الذين رتبوا فأخذوا عليهم طريقهم. وأخرج الأفشين إليهم كردوسين من الرجالة في جوف الليل، فأحسوا أن قد أخذت عليهم العقبة؛ فتفرقوا في عدة طرق؛ حتى أقبلوا يتسلقون الجبال فمروا فلم يعودوا إلى ما كانوا يفعلون، ورجع الناس من الطلب مع صلاة الغداة إلى الخندق بروذ الروذ، ولم

يلحقوا من الخرمية أحداً.قوا من الخرمية أحداً.
ثم إن الأفشين كان في كل أسبوع يضرب الطبول نصف الليل، ويخرج بالشمع والنفاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كل إنسان منهم كردوسه؛ من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة؛ فيخرج الناس فيقفون في مواقفهم ومواضعهم. وكان الأفشين يحمل أعلاماً سوداً كباراً، اثني عشر علماً يحملها على البغال؛ ولم يكن يحملها على الخيل لئلا تزعزع يحملها على اثني عشر بغلاً؛ وكانت طبوله الكبار واحد وعشرين طبلاً؛ وكانت الأعلام الصغار نحو من خمسمائة علم، فيقف أصحابه كل فرق على مرتبتهم من ربع الليل؛ حتى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه فيؤذن المؤذن بين يديه ويصلي ثم يصلي الناس بغلس ثم يأمر بضرب الطبول، ويسير زحفاً. وكانت علامته في المسير والوقوف تحريك الطبول وسكونها، لكثرة الناس ومسيرهم في الجبال والأزفة على مصافهم؛ كلما استقبلوا جبلاً صعدوه، وإذا هبطوا إلى واد مضوا فيه؛ إلا أن يكون جبلاً منيعاً لا يمكنهم صعوده وهبوطه؛ فإنهم كانوا ينضمون إلى العساكر، ويرجعون إذا جاءوا إلى الجبل إلى مصافهم ومواضعهم؛ وكانت علامة المسير ضرب الطبول؛ فإن أراد أن يقف أمسك عن ضرب الطبول؛ فيقف الناس جميعاً من كل ناحية على جبل، أو في وادٍ أو في مكانهم؛ وكان يسير قليلاً قليلاً؛ كلما جاءه كوهباني بخبر وقف قليلاً؛ وكان يسير هذه السنة الأميال التي بين روذ الروذ، وبين البذ، ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر؛ فإذا أراد أن يصعد إلى الركوة التي كانت الحرب تكون عليها في العام الماضي، خلف بخاراخداه على رأس العقبة مع ألف فارس وستمائة راجل؛ يحفظون عليه الطريق؛ لا يخرج أحد من الخرمية؛ فيأخذ عليه الطريق. وكان بابك إذا أحس بالعسكر أنه وارد عليه وجه عسكراً له فيه رجالة إلى واد تحت تلك العقبة التي كان عليها بخاراخداه، ويكمنون لمن يريد أن يأخذ عليه الطريق.
وكان الأفشين يقف بخاراخذاه يحفظ هذه العقبة التي وجه بابك عسكره إليها ليأخذها على الأفشين؛ وكان بخاراخذاه يقف بها أبداً، ما دام الأفشين داخل البذ على الركوة، وكان الأفشين يتقدم إلى بخاراخذاه أن يقف على وادٍ فيما بينه وبين البذ شبه الخندق

وكان يأمر أبا سعيد محمد بن يوسف أن يعبر ذلك الوادي في كردوس من أصحابه، ويأمر جعفراً الخياط أن يقف أيضاً في كردوس من أصحابه، ويأمر أحمد بن الخليل فيقف في كردوس آخر؛ فيصير في جانب ذلك الوادي ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم؛ وكان بابك يخرج عسكراً مع آذين، فيقف على تل بإزاء هؤلاء الثلاثة الكراديس خارجاً من البذ لئلا يتقدم أحد من عساكر الأفشين إلى باب البذ . وكان الأفشين يقصد إلى باب البذ، ويأمرهم إذا عبروا بالوقوف فقط، وترك المحاربة، وكان بابك إذا أحس بعساكر الأفشين أنها قد تحركت من الخندق تريده فرق أصحابه كمناء؛ ولم يبق معه إلا نفير يسير؛ وبلغ ذلك الأفشين، ولم يكن يعرف الواضع التي يكمنون فيها. ثم أتاه الخبر بأن الخرمية قد خرجوا جميعاً، ولم يبق مع بابك إلا شر ذمة من أصحابه. وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع بسط له نطع، ووضع له كرسي، وجلس على تل مشرف يشرف على باب قصر بابك، والناس كراديس وقوف من كان معه من جانب الوادي هذا أمره بالنزول عن دابته، ومن كان من ذاك الجانب مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأصحابه وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو؛ فهم وقوف على ظهور دوابهم؛ ويفرق رجالته الكوهبانية ليفتشوا الأودية؛ طمع أن يقع على مواضع دوابهم؛ فيعرفها. فكانت هذه حالته في التفتيش إلى بعد الظهر، والحزمية بين يدي بابك يشربون النبيذ ويزمرون بالسرنيايات ويضربون بالطبول حتى إذا صلى الأفشين الظهر تقدم فانحدر إلى خندقه بروذ الروذ؛ فكان أول من ينحدر أبو سعيد ثم أحمد بن الخليل ثم جعفر بن دينا، ثم ينصرف الأفشين وكان مجيئه ذلك مما يغيظ بابك وانصرافه فإذا دنا الانصراف ضربوا بصنوجهم ونفخوا بوقاتهم استهزاء ولا يبرح بخاراخذاه من العقبة التي هو عليها؛ حتى تجوز الناس جميعاً، ثم ينصرف في آثارهم؛ فلما كان في بعض أيامهم ضجرت الحزمية من المعادلة والتفتيش الذي كان يفتش عليهم؛ فأنصرف الأفشين كعادته، وانصرفت الكراديس أولاً فأولا، وعبر أبو سعيد الوادي، وعبر أحمد بن الخليل، وعبر بعض أصحاب جعفر الخياط، وفتح الخرمية باب خندقهم، وخرج منهم عشرة فوارس، وحملوا على من بقى من أصحاب جعفر الخياط في ذلك الموضع، وارتفعت الضجة في العسكر، فرجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه فحمل على أولئك الفرسان حتى ردهم إلى باب البذ، ثم وقعت الضجة في العسكر، فرجع الأفشين وجعفر وأصحابه من ذلك الجانب يقاتلون؛ وقد خرج من أصحاب جعفر عدة، وخرج بابك بعدة فرسان لم يكن معهم رجالة؛ لا من أصحاب الأفشين ولا من أصحاب بابك؛ كان هؤلاء يحملون؛ وهؤلاء يحملون؛ فوقعت بينهم جراحات، ورجع الأفشين حتى طرح له النطع والكرسي فجلس في موضعه الذي كان يجلس فيه؛ وهو يتلظى على جعفر ويقول: قد أفسد على تعبيتي وما أريد.
وارتفعت الضجة، وكان مع أبي دلف في كردوس قوم من المطوعة من أهل البصرة وغيرهم؛ فلما نظروا إلى جعفر يحارب انحدر أولئك المطوعة بغير أمر الأفشين، وعبروا إلى ذلك جانب الوادي؛ حتى صاروا إلى جانب البذ، فتعلقوا به، وأثروا فيه آثاراً؛ وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ، ووجه جعفر إلى الأفشين: أن أمدني بخمسمائة راجل من الناشبة؛ فإني أرجوا أن أدخل البذ إن شاء الله؛ ولست أرى في وجهي كثير أحد إلا هذا الكردوس الذي تراه أنت فقط - يعني كردوس آذين - فبعث إليه الأفشين أن قد أفسدت على أمري، فتخلص قليلاً قليلاً وخلّص أصحابك وانصرف. وارتفعت الضجة من المطوّعة حين تعلّقوا بالبذّ، وظنّ الكمناء الذين أخرجهم بابك أنها حرب قد اشتبكت؛ فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب كمين آخر من مراء الركوة التي كان الأفشين يقعد عليها، فتحركت الخرمية، والناس وقوف على رءوسهم لم يزل منهم أحد؛ فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين لنا مواضع هؤلاء.

ثم انصرف جعفر وأصحابه والمطوعة، فجاء جعفر إلى الأفشين؛ فقال له: إنما وجهني سيدي أمير المؤمين للحرب التي ترى، ولم يوجهني للقعود هاهنا، وقد قطعت بي في موضع حاجتي ما كان يكفيني إلا خمسمائة راجل حتى أدخل البذ أو جوف داره؛ أني قد رأيت من بين يدي فقال له الأفشين: لا تنظر إلى ما بين يديك ولكن انظر إلى ما خلفك وما قد وثبوا ببخاراخذاه وأصحابه فقال الفضل بن كاوس لجعفر الخياط: لو كان الأمر إليك ما كنت تقدر أن تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف؛ حتى تقول: كنت وكنت... فقال له جعفر: هذه الحرب؛ وما أنا واقف لمن جاء. فقال له الفضل: ولا مجلس الأمير لعرفتك نفسك الساعة؛ فصاح بهما الأفشين فأمسكا، وأمر أبا دلف أن يرد المطوعة عن السور، فقال أبو دلف للمطوعة: انصرفوا. فجاء رجل منهم ومعه صخرة، فقال: أتردنا وهذا الحجر أخذته من السور! فقال له: الساعة، إذا انصرفت تدري من على طريقك جالس - يعني العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من وراء الناس. ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر: أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين؛ فإني ما علمتك عالماً بأمر هذه العساكر وسياستها؛ ليس كل من حف رأسه يقول: إن الوقوف في الموضع الذي يحتاج إليه خبر من المحاربة في الموضع الذي لا يحتاج إليه، لو وثب هؤلاء الذين تحتك - وأشار إلى الكمين الذي تحت الجبل - كيف كنت ترى هؤلاء المطوعة الذين هم في القمص؟ أي شيء كان يكون حالهم ومن كان يجمعهم؟ الحمد لله الذي سلمهم؛ فقف ها هنا فلا تبرح حتى لا يبق ها هنا أحد. وانصرف الأفشين؛ وكان من سنته إذا بدأ بالانصراف ينحدر علم الكراديس وفرسانه ورجالته، والكردوس الآخر واقف بينه وبينه قدر رمية سهم؛ لا يدنو من العقبة، ولا من المضيق؛ حتى ير أنه قد عبر كل من في الكردوس الذي بين يديه خلابه الطريق ثم يدنو بعد ذلك فينحدر في الكردوس الآخر بفرسانه ورجالته؛ ولا يزال كذلك؛ وقد عرف كل كردوس من خلف من ينصرف؛ فلم يكن يتقدم أحد منهم بين يدي صاحبه، ولا يتأخر هكذا؛ حتى إذا نفذت الكراديس كلها ولم يبق أحد غير بخاراخذاه، انحدر بخار اخذاه وخلى العقبة. فانصرف ذلك اليوم على هذه الهيئة؛ وكان أبو سعيد آخر من انصرف؛ وكلما مر العسكر بموضع بخاراخذاه، ونظروا إلى الموضع الذي كان فيه الكمين؛ علموا ما كان وطئ لهم، وتفرق أؤلئك الأعلاج الذين أرادوا أخذ الموضع الذي كان بخاراخذاه يحفظه، ورجعوا إلى مواضعهم، فأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أياماً؛ فشكا إليه المطوعة الضيق في العلوفة والأزواد والنفقات، فقال لهم: من صبر منكم فليصبر، ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام؛ معي جند أمير المؤمنين؛ ومن هو في أرزاقه يقيمون معي في الحر والبرد؛ ولست أبرح من ها هنا حتى يسقط الثلج. فانصرف المطوعة وهم يقولون: لو ترك الأفشين جعفراً وتركنا لأخذنا البذ؛ هذا لا يشتهى إلا المماطلة؛ فبلغه ذلك وما كثر المطوعة فيه، ويتناولونه بألسنتهم وأنه لا يحب المناجزة؛ وإنما يريد التطويل؛ حتى قال بعضهم إنه رأى في المنام، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: قل للأفشين: إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة؛ فتحدث الناس بذلك في العسكر علانية؛ كأنه مستور، فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوعة، فأحضرهم وقال لهم: أحب أن تروني هذا الرجل؛ فإن الناس يرون في المنام أبواباً؛ فأتوه بالرجل في جماعة من الناس، فسلم عليه، فقربه وأدناه وقال له: قص علي رؤياك، لا تحتشم ولا تستحي؛ فإنما تؤدي. قال: رأيت كذا ورأيت كذا؛ فقال: الله يعلم كل شيء قبل كل أحد؛ وما أريد بهذا الخلق. إن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يأمر الجبال أن ترجم أحداً لرجم الكافر وكفانا مؤنته؛ كيف يرجمني حتى أكفيه مؤنة الكافر كان يرجمه؛ ولا يحتاج أن أقاتله أنا، وأنا أعلم أن الله عز وجل لا يخفى عليه خافية؛ فهو مطلع على قلبي؛ وما أريد بكم يا مساكين! فقال رجل من المطوعة من أهل الدين: يأيها الأمير؛ لا تحرمنا شهادة إن كانت قد حضرت؛ وإنما قصدنا وطلبنا ثواب الله ووجهه؛ فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك؛ فلعل الله أن يفتح علينا. فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة؛ وأحسب هذا الأمر يريده الله؛ وهو خير إن شاء الله؛ وقد نشطتم ونشط الناس؛ والله أعلم ما كان هذا

رأيي؛ وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم، وأرجو أن يكون أراد هذا الأمر وهو خير؛ اعزموا على بركة الله أي يوم أحببتم حتى نناهضهم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! فخرج القوم مستبشرين فبشروا أصحابهم؛ فمن كان أراد أن ينصرف أقام، ومن كان في القرب وقد خرج مسيرة أيام فسمع بذلك رجع؛ ووعد الناس ليوم، وأمر الجند والفرسان والرجالة وجميع الناس بالأهبة، وأظهر أنه يريد الحرب لا محالة. وخرج الأفشين وحمل المال والزاد، ولم يبق في العسكر بغل إلا وضع عليه محمل للجرحى، وأخرج معه المتطببين، وحمل الكعك والسويق وغير ذلك؛ وجميع ما يحتاج إليه، وزحف الناس حتى صعد إلى البذ، وخلف بخاراخذاه في موضعه الذي كان يخلفه عليه على العقبة، ثم طرح النطع ووضع له الكرسي، وجلس عليه كما كان يفعل، وقال لأبي دلف: قل للمطوعة: أي ناحية هي أسهل عليكم، فاقتصروا عليها. وقال لجعفر: العسكر كله بين يديك، والناشبة والنفاطون؛ فإن أردت رجالاً دفعتهم إليك؛ فخذ حاجتك وما تريد، واعزم على بركة الله؛ فادن من أي موضع تريد. قال: أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه، قال: امض إليه. ودعا أبا سعيد، فقال له: قف بين يدي؛ أنت وجميع أصحابك، ولا يبرحن منكم أحد. ودعا أحمد بن الخليل فقال له: قف أنت وأصحابك ها هنا، ودع جعفراً يعبر وجميع من معه من الرجال؛ فإن أراد رجالاً أو فرساناً أمددناه؛ ووجهنا بهم إليه؛ ووجه أبا دلف وأصحابه من المطوعة؛ فانحدروا إلى الوادي، وصعدوا إلى حائط البذ من الموضع الذي كانوا صعدوا عليه تلك المرة، وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم؛ وحمل جعفر حملةً حتى ضرب باب البذ؛ على حسب ما كان فعل تلك المرة الأولى؛ ووقف على الباب، وواقفه الكفرة ساعة صالحة؛ فوجه الأفشين برجل معه بدرة دنانير، وقال له اذهب إلى أصحاب جعفر، فقل: من تقدم، فاحث له ملء كفك، ودفع بدرة أخرى إلى رجل من أصحابه، وقال له: اذهب إلى المطوعة ومعك هذا المال وأطواق وأسورة؛ وقل لأبي دلف: كل من رأيته محسناً من المطوعة وغيرهم فأعطه. ونادى صاحب الشراب، فقال له: اذهب فتوسط الحرب معهم حتى أراك بعيي معك السويق والماء؛ لئلا يعطش القوم فيحتاجوا إلى الرجوع؛ وكذلك فعل بأصحاب جعفر في الماء والسويق ودعا صاحب الكلغريّة، فقال له: من رأيته في وسط الحرب من المطوّعة في يده فأس فله عندي خمسون درهماً؛ ودفع إليه بدرة دراهم؛ وفعل مثل ذلك بأصحاب جعفر ووجه إليهم الكلغرّية بأيديهم الفئوس، ووجه إلى جعفر بصندوق فيه أطواق وأسوارة، فقال له: ادفع إلى من أردت من أصحابك هذا سوى ما لهم عندي، وما تضمن لهم عليّ من الزيادة في أرزاقهم والكتاب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم. فاشتبكت الحرب على الباب طويلاً، ثم فتح الخرّميةّ الباب وخرجوا على أصحاب جعفر، فنحّوهم عن الباب، وشدوّا على المطوّعة من الناحية الأخرى؛ فأخذوا منهم علّمين وطرحوهم عن السور. وجرحوهم بالصّخر حتى أثّروا فيهم، فرقّوا عن الحرب، ووقفوا، وصاح جعفر بأصحابه، فبدر منهم نحو من مائة رجل، فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم، وواقفوهم متحاجزين؛ لا هؤلاء يقدمون على هؤلاء ولا هؤلاء يقدمون على هؤلاء؛ فلم يزالوا كذلك حتى صلّى الناس الظهر؛ وكان الأفشين قد حمل عرّادات، فنصب عرّادة منها مما يلي جعفراً على الباب، وعرّادة أخرى من طرف الوادي من ناحية المطوّعّة؛ فأما العرّادة التي من ناحية جعفر؛ فدافع عنها جعفر حتى صارت العرّادة فيما بينهم وبين الخرّمية ساعة طويلة؛ ثم تخلّصها أصحاب جعفر بعد جهد، فقلعوها وردّوها إلى العسكر؛ فلم يزل الناس متوافقين متحاجزين؛ يختلف بينهم النّشاب والحجارة أؤلئك على سورهم والباب وهؤلاء قعود تحت أتراسهم؛ ثم تناجزوا بعد ذلك؛ فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه الرّجالة الذين كان أعدّهم قبله؛ حتى وقفوا في موضع المطوّعة، وبعث إلى جعفر بكردوس فيه رجّالة، فقال جعفر: لست أوتي من قلة الرجّالة معي رجال فرهٌ ولكني لست أرى للحرب موضعاً يتقدمون؛ إنما هاهنا موضع مجال رجل أو رجلين قد وقفوا عليه، وانقطعت الحرب، فبعث إليه: انصرف على بركة اللّه؛ فانصرف جعفر، وبعث الأفشين بالبغال التي كان جاء بها معه عليها المحامل؛ فجعلت فيها الجرحى ومن كان به وهن من الحجارة ولا يقدر على المشي؛ وأمر الناس

بالانصراف؛ فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الرّوذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف أكثر المطوّعة.صراف؛ فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الرّوذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف أكثر المطوّعة.
ثم إنّ الأفشين تجهزّ بعد جمعتين؛ فلمّا كان في جوف الليل؛ بعث الرجّالة الناشبة؛ وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كل واحد منهم شكوة وكعكاً، ودفع إلى بعضهم أعلاماً سوداً وغير ذلك، وأرسلهم عند مغيب الشمس، وبعث معهم أدلاّء، فساروا ليلتهم في جبال منكرة صعبة على غير الطريق؛ حتى داروا فصاروا خلف التلّ الذي يقف آذين عليه - وهو جبل شاهق - وأمرهم ألاّ يعلم بهم أحد؛ حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلّوا الغداة ورأوا الوقعة، ركبّوا تلك الأعلام في الرّماح، وضربوا الطبول، وانحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرّمية؛ وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره؛ ففعلوا ذلك. فوافوا رأس الجبل عند السّحر، وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي؛ وصاروا فوق الجبل، فلمّا كان في بعض الليل وجّه الأفشين إلى القواد أن يتهيئوا في السلاح؛ فإنه يركب في السحر؛ فلما كان في بعض الليل، وجهّ بشيراً التركيّ وقوّاداً من الفراعنة كانوا معه؛ فأمرهم أن يسيوا حتى يصيروا تحت التلّ مع أسفل الوادي الذي حملوا منه الماء؛ وهو تحت الجبل الذي كان عليه آذين؛ وقد كان الأفشين علم أنّ الكافر يكمن تحت ذلك الجبل كلّما جاءه العسكر؛ فقصد بشير والفراعنة إلى ذلك الموضع الذي علم أن للخرمّية فيه عسكراً كامنين، فساروا في بعض الليل؛ ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر. ثم بعث للقوّاد: تأهبّوا للركوب في السلاح؛ فإن الأمير يغدو في السحر؛ فلمّا كان السّحر خرج وأخرج الناس، وأخرج النفّاطين والنفّاطات والشمع على حسب ما كان يخرج، فصلّى الغداة، وضرب الطبل، وركب حتى وافى الموضع الذي كان يقف فيه في كلّ مرّة، وبسط له النّطع، ووضع له الكرسيّ كعادته. وكان بخاراً خذاه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم؛ فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراً خذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفرٍ الخياط وأحمد بن الخليل؛ فأنكر الناس هذه التعبية في ذلك الوقت، وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين؛ فيحدقوا به؛ وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم؛ فمضى الناس مع هؤلاء القوّاد الأربعة الذين سمّينا؛ حتى صاروا حول التلّ. وكان جعفر الخياط مما يلي باب البذّ. وكان أبو سعيد مما يليه، وبخاراً خذاه مما يلي أبا سعيد، وأحمد بن الخليل بن هشام ممّا يلي بخاراً خذاه؛ فصاروا جميعاً حلقة حول التلّ، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي؛ وإذا الكمين الذي تحت التلّ الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراعنة؛ فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة.

وسمع أهل العسكر ضجّتهم، فتحرّك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا: أيها الناس، هذا بشير التركيّ والفراعنة قد وجّهتهم؛ فأثاروا كميناً فلا تتحرّكوا. فلما سمع الرجّالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين؛ فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق؛ أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ؛ وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم؛ قد ركبّوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين؛ فلّما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجّه إليهم بعض رجّالته الذين معه من الخّرمية. ولما نظر الناس إليهم راعوهم؛ فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين؛ فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممّن في ناحية أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد - أو محمد بن معاذ - في عدّة معه؛ فإذا تحت حوافز دوابّهم آبار محفورة تدخل أيدي الدوابّ فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها؛ فوجّه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار؛ ففعلوا ذلك؛ فحمل الناس عليهم حملة واحدة؛ وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلاً عليها صخر؛ فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد خرجت؛ ثم حمل الناس من كلّ وجه فلمّا نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طوف البذّ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل. فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين؛ فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه بذلك؛ فأرسل الأفشين رجلاً يعرف بابك؛ فنظر إ ليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك؛ فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا؛ وهو لك مبذولُ متى شئت، فقال: قد شئت الآن؛ على أن تؤجّلني أجلاً أحمل فيه عيالي، وأتجهّز. فقال له الأفشين: قد واللّه نصحتك غير مرّة فلم تقبل نصيحتي؛ وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خيرٌ من غدٍ. قال: قد قبلت أيها الأمير؛ وأنا على ذلك؛ فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك. قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التلّ، فأمر أصحابك بالتوقف.
قال: فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس، فقيل له: أعلام الفراعنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها القصور. فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك؛ وكان قد كمّن في قصوره - وهي أربعة - ستمائة رجل؛ فوافاهم الناس؛ فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذّ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجّالة يقاتلون الناس. ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر، واشتغل الأفشين وجميع قوّاده بالحرب عل أبواب القصور ،فقاتل الخرّمية قتالاً شديداً، وأحضر النفّاطين، فجعلوا يصبّون النّفط والنار، والناس يهدمون القصور؛ حتى قتلوا عن آخرهم. وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذّ من عيالاتهم حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرّمية في البيوت؛ فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الرّوذ.

فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتادسر. فلمّا كان في الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجّه الرّجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحداً من العلوج، فأصعد الكلغريّة، فهدموا القصور وأحرقوها؛ فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره؛ ولم يدع فيها بيتاً ولا قصراً إلا أحرقه وهدمه؛ ثم رجع وعلم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه؛ فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أنّ بابك قد هرب وعدّة معه، وصار إلى وادٍ، وخرج منه إلى ناحية أرمينية؛ وهو مارّ بكم، وأمرهم أن يحفظ كلّ واحدً منه ناحيته، ولا يسلكها أحدٌ إلا أخذوه حتى يعرفوه. فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي؛ وكان وادياً كثير العشب والشجر، طرفه بإرمينة وطرفه الآخر بأذربيجان؛ ولم يكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجرة ومياهه لما كانت غيضة واحدة؛ ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقاً ينحدر منه إلى تلك الغيضة أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق؛ فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكراً فيه ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد.
وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكراً، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختوماً فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؛ فلم يحسر عل ذلك أحد منهم فقال بعضهم: أيها الأمير ما فينا أحد يجترىء أن يلقاه بهذا فقال له الأفشين: ويحك إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك؛ قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالنا فضمن لهما الأفشين ذلك وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير الأمان فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه فقرأه، وقل: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا ولم نعرف موضعك فنأتيك وكنا في موضع تحوفنا أن يأخذونا فطلبنا الأمان. فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا أعرفه ولكن أنت يا بن الفاعلة: كيف اجترأ على هذا أن تجيئي من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه وشد الكتاب على صدره مختوماً لم يفضه ثم قال الآخر: أذهب وقل لذامك لابن الفاعلة يعني ابنه حيث يكتب لي، وكتب إليه: لو أنك لحق بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأم يوماً كنت ابني وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة، يا بن الفاعلة عسى أن أعيش بعد اليوم قد كنت كتب باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكاً ولكنك من جنس لا خير فيه وأنا أشهد أنك لست با بني تعيش يوماً واحداً وأنت رئيس خير أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل.

ورحل موضعه من وضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من وضع من المواضع ثم الحقوا بباك فلم يزل في تلك الغيضة حتى فنى زاده وخرج مما يأتي طريقاً كان عليه بعض العساكر وكان موضع الطريق جبلاً ليس فيه ماء فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء فتنحى العسكر عن الطريق الى قرب الماء وصيروا كوهبانين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف كل ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبيناهم ذات يوم نصف النهار إذ خرج بابك وأصحابه؛ ولم يروا أحداً، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر؛ فخرج هو وأخواه: عبد اللّه ومعاوية وأمه وامرأة له يقال لها ابنة الكلندانية. فخرجوا من الطريق؛ وساروا يريدون إرمينية ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيّان، فوجّهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قدر رأينا فرساناً يمروّن ولا ندري من هم. فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدوّن عليها؛ فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجهّ أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومرّ بابك متوجّهاً حتى دخل جبال إرمينية يسير في الجبال متكمناً، فاحتاج إلى طعام؛ وكان جميع بطارقة إرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه؛ فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين؛ وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحرّاث، وخذ معك دنانير ودراهم؛ فإن كان معه خبز فخذه وأعطه؛ وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته؛ فنزل الغلام إلى الحرّاث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئاً، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه؛ ويظنّ أنما اغتصبه خبزه؛ ولم يظنّ أنه أعطاه شيئاً، فعدا إلى المسلحة؛ فأعلمهم أن رجلاً جاءهم عليه سيف وسلاح؛ وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي؛ فركب صاحب المسلحة - وكان في جبال ابن سنباط - ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعاً، فوافى الحراث والغلام عنده فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مرّ بي، فطلب مني خبزاً فأعطيته، فقال للغلام: وأين مولاك؟ قال: ها هنا - وأومى إليه - فاتبعه فأدركه وهو نازل؛ فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده،، ثم قال له: يا سيداه؛ إلى أين؟ قال: أريد بلاد الروم - أو موضعاً سماه - فقال له: لا تجد موضعاً ولا أحداً أعرف بحقك؛ ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي؛ ليس بيني وبين السلطان عمل؛ ولا تدخل على أحد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي؛ وكل من ها هنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد؛ وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختاً جميلة وجه إليها يطلبها؛ فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غضباً.

ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني؛ فإنما هو منزلك؛ وأنا عبدك؛ كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط؛ وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد؛ فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر؛ ولكن أقيم عندك أنا ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس؛ لا ندري ما يكون؛ وليس لنا خلفٌ يقوم بدعوتنا. فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال: ليس فيهم خير. وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس - وكان يثق به - فصار هو مع ابن سنباط في حصنه فما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس؛ وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه. فكتب إليه: إن كان هذا صحيحاً فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أيده الله - الذي تحب؛ وكتب يجزيه خيراً، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك. فكره ابن سنباط أن يوحش بابك، فقال لرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكباً على طعامه يتغدى؛ فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئاً؛ فإنه يكون منكباً على الطعام؛ فتفقد منه ما تريد؛ فاذهب فاحكه لصاحبك.
ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال: من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان؛ نصراني. فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك. فقال له بابك: منذ كم أنت ها هنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف أقمت ها هنا؟ قال: تزوجت ها هنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال: من حيث امرأتي.
ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك. ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزبارة إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قدما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما. ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع - قد سماه ووصفه لهما - إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج إلى الصيد، فقال له: ها هنا وادٍ طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت. فأنفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبوزبارة يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح؛ فإذا جاءهما رسوله وأشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.

فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولاً إلى أبي سعيد ورسولاً إلى بوزبارة، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجئ بهذا إلى موضع كذا؛ فأشرفا علينا؛ فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم؛ وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله؛ فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبوزبارة، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظر إليه وانحدرا وأصحابهما عليه؛ هذا من ها هنا، وهذا من ها هنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق؛ وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير. ويقال كان بيده باشق؛ فلما نظر إلى العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزبارة، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه؛ فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير؛ لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين؛ فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به ، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربياً يدخل بين الصفين فرقاً أن يقتله إنسان أو يخرجه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية.
وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان؛ ذكروا أن بابك كان أسرهم؛ وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبياً أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه؛ فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقاً كثيراً، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم.
ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر؛ فنزلوا به راكباً، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه طموا على وجوههم، وصاحوا به وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس؛ تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله. قالوا: كان يحسن إلينا. فأمر به الأفشين فأدخل بيتاً، ووكل به رجالاً من أصحابه.
وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار إلى عيسى بن يوسف بن اصطفانوس؛ فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس؛ فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله؛ فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد؛ ووكل بهما قوماً يحفظونهما.
وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي. فوجه معه الأفشين قوماً في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين؛ وكان الأفشين قد وكل به رجلاً من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجئ ويده ملأى غمراً، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها. فأعفاه منه.
وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ.
وحج الناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر قدوم الأفشين ببابك على المعتصم

فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس ثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامراً فرساً وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامراً إلى عقبة حلوان خيلاً مضمرة، على رأس كل فرسخ فرساً معه مجر مرتب؛ فكان يركض بالخبر ركضاً حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يداً بيد؛ وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج؛ فكان يركض بها يوماً أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر؛ فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق؛ فيأخذ الخريطة منه؛ فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة أيام وأقل فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي داود متنكراً فرآه وكلمه ثم رجع إلى المعتصم فوصفه له فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير فدخل إليه متنكراً، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه؛ فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامةً إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أميرالمؤمنين؛ لا شيء أشهر من الفيل، فقال صدقت؛ فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة؛ وهو وحده؛ فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعادته ... يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأنٍ من الشأن
فاشتشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة؛ فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزاراً ليقطع يديه ورجليه؛ ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامة؛ وهو ينادي: نودنود - وهو اسم سياف بابك - فارتفعت صيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر أن بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى اسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟ فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلاً من الدهاقين يتولى قتلي. قال: إنما يتولى قتلك هذا - وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك - فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج فأخبرني، أأمرت أن تطعمني شيئاً أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غداً أني دهقان إن شاء الله. ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذاً؟ قال؟ نعم، ولا تكثر، قال فإني لا أكثر، قال فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به رأس الجسر، وأمر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام.
وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك ما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبوزبارة، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان.

وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان واله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت أنزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يوماً، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها. ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبني، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يوماً، فقالت: حين ملأت بطني تنزل ها هنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك؛ فأمسكت عني، فهو واله ابني.
وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم.
وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفاً وخمسمائة إنسان، وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعة أناسي، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعة آلاف وستمائة إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلاً ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:
بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما إن به إلا الوحوش قطين
لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ... هيجاء إلا عز هذا الدين
قد كان عذرة سودد فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين
فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين
هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديمٌ أمارتها طلى وشؤون
كانت من المهجات قبل مفازةً ... عسراً، فأصبحت وهي منه معين
ذكر خبر إيقاع الروم بأهل زبطرةوفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون الملسلمين؛ إلى غير ذلك؛ وسبا من المسلمات - فيما قيل - أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.
ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك: ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق ببابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه؛ فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس؛ يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه حياطه - يعني جعفر بن دينار - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد؛ فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك؛ طمعاً منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم إن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه.
فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف - وقيل أكثر - فيهم من الجند نيف وسبعون ألفاً، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس. وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه؛ فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذرارى والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير - فيما ذكر - إلى سامراً، وخرج أهل ثغور الشأم والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك.

فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه كشالاً وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبية، فجلس - فيما ذكر - في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع.
فجعل ثلثاً ولده، وثلثاً لله، وثلثاً لمواليه. ثم عسكر بغربي دجلة؛ وذلك يوم الإثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى.
ووجه عجيف بن عنبسة وعمراً الفرغاني ومحمد كوتة وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى باده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلاً؛ حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا. فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها؛ وهي أشرف عندهم من القسطنطينية.
ذكر الخبر عن فتح عمويةوفي هذه السنة شخص المعتصم غازياً إلى بلاد الروم. وقيل كان شخوصه إليها من سامراً في سنة أربع وعشرين ومائتين - وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين - بعد قتله بابك.
فذكر أنه تجهز جهازاً لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة.
ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس. وهو على سلوقية قريباً من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمي له يوماً أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يوماً جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه - وهو أنقرة - ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار إلى عمّورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمّها.
وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وأمره بإنتظاره بالصفّصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدّم المعتصم وصيفاً في أثر أشناس على مقدّمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج الأسقفّ، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكسبهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقفّ - وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم - وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزّاد وغير ذلك؛ وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم.
فأقام أشناس بمرج الأسقفّ ثلاثة أيام؛ حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوّجه قائداً من قوّاده في سريّة يلتمسون رجلاً من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمراً الفرعانيّ في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرّة فخرجوا يلتمسون رجلاً من حول الحصن؛ فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرّة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالفرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرّة ودرّة؛ وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرّة، وعلم عمرو الفرعاني أن صاحب قرّة قد نذر بهم، فتقدّم إلى درّة، فكمن بها ليلته؛ فلما إنفجر عمود الصبح صيّر عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضاً سريعاً، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلاّء، ووجّه مع كل كردوس دليلين.

وخرجوا مع الصبح، فتفرقّوا في ثلاثة وجوه؛ فأخذوا عدّة من الروم؛ بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي؛ وأخذ عمرو رجلاً من الروم من فرسان أهل القرّة، فسأله عن الخبر؛ فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأنّ صاحب قرّة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم؛ فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرّقوا رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجّههم إشفاقاً أ يخالفهم صاحب قرذة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلاّء، ولوّحوا لهم، فأقبلوا فتوافواهم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعّدوا له، ثم نزلوا قليلاً، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يوماً ينتظر عبور المعتصم ومقدمّته باللمس ؛فيواقعهم من وراء اللمس ،وأنه جاءه الخبر قريباً، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم ، وتوسط البلاد - يعني عسكر الأفشين - وأنه قد صارخلفه. فأمر الملك رجلاً من أهل بيته ابن خاله، فأستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجّه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قوماً من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم؛ على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقاً من أن يواقعه ملك الروم. وكتب إلى أشناس كتاباً يأمره أن يوجه من قبله رسولاً من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد أقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين.
فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم؛ وذلك أنه كان وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأصقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم؛ فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا. ولم يرد عليهم من الأفشين خبر؛ حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل؛ وضاق عسكر المعتصم ضيقاً شديداً من الماء والعلف.
وكان أشناس قد أسر عدة أسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخٌ كبير؛ فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي؛ وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضاً في ضيق من الماء والزاد، وها هنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفاً من أن ينزل بهم ملك العرب؛ وهم بالقرب منا ها هنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قوماً لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي!.
فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس؛ فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريباً من ميلين ركضاً شديداً، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه؛ فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبياً وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له. فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجهاً إلى أنقرة.

وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر؛ فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحداً قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح؛ فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني. فقال له مالك: ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى تستريح، فقال: رأيك؛ فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح؛ فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلاً وامرأة؛ فأنزلوهما، فساءلهما العلج: أين بات أهل أنقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم: حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكراً على أربعة فراسخ من اللمس؛ حتى جاءه رسول، أن عسكراً ضخماً قد دخل من ناحية الأرميناق، فاستخلف على عسكره رجلاً من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه؛ فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرميناق - يعني عسكر الأفشين - فقال أميرهم: نعم؛ وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم؛ فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالاً شديداً حتى حرقوا عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم؛ فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر؛ فأقمنا على ذلك ليلتنا؛ فلما كان الغد، وأفانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلاً ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، أو يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب؛ ووجه خادماً له خصياً إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب.
قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية.
قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها - يعني أهل أنقرة - فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم.
قا مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنماً كثيراً وبقراً، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى؛ حتى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوماً واحداً، ثم لحقه المعتصم من غد؛ فأخبره بالذي به الأسير، فسرّ المعتصم بذلك. فلمّا كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
قال: ثم ورد المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها أياماً، ثم صيّر العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة؛ وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقّوا القرى ويخرّبوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السّبى، وإذا كان وقت النزول توافى كلّ أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عموّريّة؛ وبينهما سبع مراحل؛ حتى توافت العساكر بعمّورية.

قال: فلما توافت العساكر بعمّورية، كان أوّل من وردها أشناس؛ وردها يوم الخميس ضحوة، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش؛ فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورةً، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور؛ صيّر إلى كل واحد منهم أبراجاً منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم، وصار لكلّ قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجاً، وتحصّن أهل عمّورية وتحرّزوا.
وكان رجلٌ من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسليمن، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعاً من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبنى ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجراً حجراً، وصير وراءه من جانب المدينة حشواً، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عمورية انفراج السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى؛ فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشباً غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور.
فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتاباً يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، وأخرجاهما من الفصيل، فعبروا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمونين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما فسألوهما: من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا: من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحداً من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمر الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتاباً من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع. وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ - وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلاً غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائناً فيه ما كان؛ أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب؛ حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك.
فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طعت الشمس فأدارهما حول عمورية، فقالا: ياطس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلاً، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدارهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وأمر المعتصم أن يكون الحراسة بينهم نوائب؛ في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح وهم وقوف عليها؛ لئلا يفتح الباب ليلاً، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجهما، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله.
وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفساً.
وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها؛ وكان قد استاق في طريقه غنماً كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كباراً على قدر ارتفاع السور، ويسع كل منجنيق منها أربعة رجال وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة فيأكل لحمها، ويحشو جلدها تراباً ثم يؤتى بالجلود مملوءة تراباً؛ حتى تطرح في الخندق.

ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كباراً تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة تراباً حتى يمتلئ الخندق ففعل ذك وطرحت الجلود فلم تقع الجلود مستوية منضدة خوفاً منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة؛ ولم يكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها؛ فما تخلصوا منها إلا بعد جهد. ثم مكثت تلك العجلة مقيمة هناك، لم يكن فيها حيلة حتى فتحت عموريته، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك حتى أحرقت فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة؛ وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقاً، فلم يمكنهم الحرب فيه؛ فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض، وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلم الموضع؛ وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا. وكان المعتصم واقفاً على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه؛ وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفاً رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمر الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك؛ فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون؛ وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام فمشوا بين يديه كعادته عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: إن الحرب اليوم أحسن منها أمس كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم.
فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة - يعني أشناس - ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل - وكان عند عمرو خبر - : يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر. فأوهم أحمد أن عنده خبراً، فألح عليه أحمد يسأله؛ فأخبره بما هم فيه؛ وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهراً، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب. ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه. فقال له أحمد: هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي - قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح؛ وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم - فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر يتم بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل؛ فذهب الحارث، فلقى العباس فأخبره إن عمراً قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له: ما كنت أحب أن يطلع الخليل على شيء من أمرنا؛ أمسكوا عنه؛ ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما. فأمسكوا عنه.
فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم؛ فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات. وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج؛ لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة؛ وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلاً من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية " ثور " ؛ فقاتل الرجل وأصحابه قتالاً شديداً بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم؛ فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق أحد إلا قد جرح؛ فصّيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلاً؛ وإلا افتضحتم وذهبت المدينة. فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا؛ فشأنك وناحيتك؛ فليس لك عندنا مدد. فاعتزم هو وأصحابه على أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثى والمتاع والسلاح وغير ذلك.

فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة؛ وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين؛ وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم؛ فخرج حتى وصل إلى المعتصم؛ فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة؛ وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم: لا تحيوا، وهم يتقدموا، ووندوا بين يدي المعتصم جالس؛ فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟ قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي؛ فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت؛ فإني لست أخالفك. قال: أيشٍ لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم: اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه. فوقف في مضرب المعتصم. وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية؛ فقاتلوا قتالاً شديداً، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حول أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف؛ فبين مقتول ومجروح؛ فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس؛ وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين؛ فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس ها هنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا ليس ياطس ها هنا. فمر أمير المؤمنين مغضباً، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف؛ ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلّم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي - غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف - وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه؛ فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم: قل له فلينزل؛ فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلداً سيفاً حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم؛ فقنّعه سوطاً، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلاً، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين.
ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر؛ فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية؛ ففعل ذلك بسيل. ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي ويبيع، وأمر إيتاخ بناحيته مثل ذلك؛ وجعفراً الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلاً من قبل أحمد بن أبي داود يحصى عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام؛ بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفاً إلى أرض طرسوس.
ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفاً، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضاً، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه؛ فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروح البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق؛ فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس؛ فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة.

قال:وكان ملك الروم قد وجه رسولاً في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه؛ وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال؛ ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم؛ فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور؛ وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر؛ فمضى في طريق الجادة مرحلة؛ ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور، ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحواً من أربعين ميلاً؛ ليس فيه ماء؛ فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه؛ فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب.
وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم أمر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعاً، وهم مقدار ستة آلاف رجل؛ قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر.
ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء.
وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم - فيما ذكر - يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يوماً.
وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم:
أثبت المعصوم عزاً لأبي ... حسنٍ أثبت من ركن إضم
كل مجدٍ دون ما أثله ... لبني كاوس أملاك العجم
إنما الأفشين سيفٌ سله ... قدر الله بكف المعتصم
لم يدع بالبذ من ساكنةٍ ... غير أمثالٍ كأمثال إرم
ثم أهدى سلماً بابكه ... رهن حجلين نجيا الندم
وقرا توفيل طعناً صادقاً ... فض جمعيه جميعاً وهزم
قتل الأكثر منهم ونجا ... من نجا لحماً على ظهر وضم
ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمونوفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوتة، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.

فقبل العباس ذلك، ودس رجلاً يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح - وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلاً أديباً له عقل ومداراة - فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد؛ فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلاً من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك وقال: إذا أمرنا بذلك؛ فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلاناً، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصة أشناس بأشناس؛ ممن بايعه من الأتراك، فضمنوا ذلك جميعاً. فلما أرادوا أن يدخلوا الدّرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدّرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد؛ فكان الناس يفرحون من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة؛ حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمّورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمّوريّة، والرجل ممكن، دسّ قوماً ينتبهون هذا الخرثيّ، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدّرب، فيخلو كما خلا في البدأة؛ فهو أمكن منه هاهنا. وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثيّ في عسكر إيتاخ.
فركب المعتصم وجاء ركضاً، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحداً من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئاً، وكرهوا أن يفعلوا شيئاً بغير أمره.
وكان عمرو الفرغانيّ قد بلغه الخبر ذلك اليوم؛ ولعمرو الفرغانيّ قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام إلى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلاً؛ وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إنّ أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسلّ سيفي، وقال: لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بنيّ، أنت أحمق، أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك؛ فإن سمعت صيحةً مثل هذه الصيحة، أو شغباً أو شيئاً فلا تبرح من خيمتك؛ فإنك غلام غرّ؛ لست تعرف بعد العساكر. فعرف الغلام مقالة عمرو.
وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر، ووجّه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له، وأن يوافيه في بعض الطريق؛ فمضى ابن الأقطع، وتوجّه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي بين أيديهم. ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم؛ وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتلّ أشناش فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده؛ فجاء إلى مضربه فعاده؛ ولم يكن الأفشين لحقه بعد.
ثم خرج المعتصم منصرفاً، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم: تريد أبا جعفر. وكان عمرو الفرغانيّ وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجهاً إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السّبى فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس - فترجّلا، وسلمّا عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجّها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السّبى أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السّبي، فيشتريا منه؛ ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال، إن عمراً الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين؛ وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه وتوجها إلى عسكره.

فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين فانظر هل ترى هناك عمراً الفرغاني وأحمد بن الخليل،! وانظر عند من نزلا وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما أوقفكما ها هنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج؛ فنشتري بعضه فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشتري لكما، فقال: لا نحب أن نشتري إلا ما نراه؛ فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم - يعني عمراً وابن الخليل - ولا تذهبوا ها هنا وها هنا. فدعا الحاحب إليهما، فأعلمهما، فاعتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس؛ فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء؛ فإن هذا الرجل يستخف بنا، وقد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب.
فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة؛ وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، وكلوا خلفاءهم بالعساكر؛ فيسيرون بها. وكان الأفشين على الميسرة وأشناس على الميمنة؛ فلما ذهب أشناس إلى المعتصم قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل؛ فإنهما قد حمقا أنفسهما؛ فجاء أشناس ركضاً إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمر أروكان ابن الخليل قد مضى في المسيرة يبادر الروم، فجاءه بعمرو الفرغاني؛ وقال: هاتوا سياطاً فمكث طويلاً مجرد أليس يؤتى بالسياط؛ فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو - وكان عمه أعجمياً - وعمرو واقف، فقال: احملوه، فألبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال: احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديلته، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما؛ فكان يضرب لهما مضرباً في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشاً وطية، وحوضاً من ماء وأثقالهما وغلماتهما في العسكر؛ لم يحرك منها شيء؛ فلم يزالا كذك حتى صارا إلى جبل الصفصاف.
وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقة عسكر المعتصم فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو؛ إذا رأيت شغباً فالزم خيمتك؛ فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غداً حتى تجىء أشناس، فتأخذ منه عمراً، وتلحقني به، وكان هذا بالصفصاف.
فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو وأحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلاماً من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به؛ فرجع الغلام فأخبره أنه أدخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة ثم دفع إلى إيتاخ؛ وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته؛ فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران ولم يفهم ولم أقل شيئاً مما ذكره فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدنون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين؛ لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبي سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أن لا غير إلا أمير المؤمنين فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: راجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين؛ إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت؛ فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك.

فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديداً، فقال اعملا لي قيداً مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك؛ فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي.
فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها، وجاء به إلى أشناس فقيده، وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله الحاحب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجل صار في رجل العباس. وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس وأخبره بجميع أمره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمى منهم.
وتحير المعتصم في أمر العباس فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره؛ واستخلفه ألا يكتمه من أمره شيئاً، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب؛ فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له: يأمير المؤمنين ولست بصاحب كذب.
ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبّع المعتصم أولئك القوّاد، فأخذوا جميعاً، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفاً واحداً، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القوّاد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال بأكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل - وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان - فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل: ابن الزانية هذا الذي بين يديك - يعني العباس - لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه؛ وهو أوّل من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع عجيف إلى إيتاخ فعلّق عليه حديداً كثيراً وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
وأما العبّاس فكان في يدي الأفشين؛ فلما نزل المعتصم منبج - وكان العباس جائعاً - سأل الطعام، فقدّم إليه طعام كثير؛ فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج في مسحٍ، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
وأما عمرو الفرغانيّ، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئراً في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالسٌ في البستان، قد شرب أقداحاً من نبيذ؛ فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جرّدوه، فجرّد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر؛ حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب؛ فلم يضرب حتى سقط، ثم قال: جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمّت عليه.
وأما عجيف بن عنبسة؛ فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلاً، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك.

وذكر عن عليّ بن حسن الرّيداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن ابراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه؛ فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ يا سيّدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أيّ شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كلّ طعام؛ فأكل وطلب الماء فمنع؛ فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا.
قال: وأما التركيّ الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس - وكان كريماً على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار - فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطيّن عليه الباب، وكان يلقي إليه في كلّ يوم رغيفاً وكوز ماء؛ فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له، يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا؛ فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكيناً فقتل به نفسه.
وأما السندي بن بختاشة، فأمر المعتصم أن يوهب لابنه بختاشة - لأن بختاشة لم يكن يتلطخ بشئ من أمر العباس - فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه؛ فأمر بتخلية سبيله.
وأما أحمد بن الخليل؛ فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئراً في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يوماً من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفرله بئراً وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء. فقال المعتصم: هذا ما أحسبه قد سمن على هذه الحال؛ فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك؛ فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر؛ فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء؛ فلم يغرق ولم يمتلئ البئر؛ فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه فمكث عنده أياماً، ثم مات فدفن.
وأما هرثمة بن النصر الختلي، فكان والياً على المراغة؛ وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه؛ فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له فكتب الأفشين كتاباً إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيداً، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور.
وقتل بافي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأاراك والفراعنة وغيرهم، قتلوا جميعاً.
وورد المعتصم سامراً سالماً بأحسن حال، فسمى العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد.
وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم؛ جرحه خادم له. وحج بالناس فيها محمد بن داود.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن مخالفة مازيار بطبرستان
فما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن ونداهرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منها ذكر الخبر عن سبب إظهاره الخلاف على المعتصم وفعله ما فعل من الوثوب بأهل السفح: ذكر أن السبب في ذلك، كان أن مازيار بن قارن كان منافراً لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج؛ وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه؛ ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين؛ فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج، يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلاً من قبله أن يستوفيه ويسلمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليرده إلى خراسان؛ فكانت هذه حاله في السنين كلها. ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم

وكان الأفشين يسمع من المعتصم أحياناً كلاماً يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان؛ فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحدٌ، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجا أن يكون ذلك سبباً لعزل عبد الله بن طاهر، فدس الأفشين الكتب إلى المازيار يستمليه بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان؛ فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله ابن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم؛ حتى أوحش المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن أوثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه.
وكان ذلك مما يسر الأفشين ويطعمه في الولاية؛ فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحب، وكاتبه المازيار أيضاً؛ فلا يشك الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجهه وغيره إليه.
فذكر عن محمد بن حفص الثقفي الطبري أن المازيار لما عزم على الخلاف، دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرهاً، وأخذ منهم الرهائن، فحسبهم في برج الأصبهذ، وأمر أكرة الضياع بالوثوب بأرباب الضياع وانتهاب أموالهم؛ وكان المازيار يكاتب بابك، ويحرضه ويعرض عليه النصرة. فلما فرغ المعتصم من أمر بابك أشاع الناس أن أمير المؤمنين يريد المسير إلى قرماسين، ويوجه الأفشين إلى الري لمحاربة مازيار؛ فلما سمع المازيار بإرجاف الناس بذلك، أمر أن يمسح البلد، خلا من قاطع على ضياعه بزيادة العشرة ثلاثة، ومن لم يقاطع رجع عليه، فحسب ما عليه من الفضل ولم يحسب له النقصان.
ثم أنشأ كتاباً إلى عامله على الخراج، وكان عامله عليه رجلاً يقال له شاذان بن الفضل، نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم؛ إن الأخبار تواترت علينا، وصحت عندا بما يرجف به جهال أهل خراسان وطبرستان فينا، ويولدون علينا من الأخبار ويحملون عليه رءوسهم؛ من التعصب لدولتنا والطعن في تدبيرنا، والمراسلة لأعدائا وتوقع الفتن، وانتظار الدوائر فينا، جاحدين للنعم مستقلين للأمن والدعة والرفاهية والسعة التي آثرهم الله بها، فما يرد الري قائد ولا مشرق ولا مغرب، ولا يأتينا رسول صغير ولا كبير إلا قالوا كيت وكيت، ومدوا أعاقهم نحوه، وخاضوا فيما قد كذب الله أحدوثتهم، وخيب " أمانيهم " فيه مرة بعد مرة، فلاتنهاهم الأولى عن الآخرة، ولا يزجرهم عن ذلك تقية ولا خشية، كل ذلك نغضى عليه، وتجرع مكروهه، استبقاء على كافّتهم، وطلباً للصلاح والسلامة لهم إلحاحاً؛ فلا يزيدهم ؛إستبقاؤنا إلاّ لجاجاً، ولا كفّنا عن تأديبهم إلا إغراء؛ إن أخّرنا عنهم افتتاح الخراج نظراً لهم ورفقاً بهم قالوا: معزول، وإن بادرنا به قالوا: لحادث أمر؛ لا يزدجرون عن ذلك بالشدّة إن أغلطنا، ولا برفق إن أنعمنا؛ واللّه حسبنا وهو ولينا؛ عليه نتوكل وإليه ننيب. وقد أمرنا بالكتاب إلى بندار آمل والرّويان في استغلاق الخراج في عملهما، وأجّلاهما في ذلك إلى سلخ تيرماه؛ فاعلم ذلك، وجرّد جبايتك، واستخرج ما على أهل ناحيتك كملاً، ولا يمضيّن عنك تيرماه، ولك درهم باقٍ؛ فإنك إن خالفت ذلك إلى غيره لم يكن جزاؤك عندنا إلا الصلب؛ فانظر لنفسك، وحام عن مهجتك وشمّر في أمرك، وتابع كتابك إلى العباس. وإياك والتغرير؛ واكتب بما يحدث منك من اإنكماش والتّشمير؛ فإنا قد رجونا أن يكون في ذلك مشغلة لهم عن الأراجيف، ومانع عن التسويف؛ فقد أشاعوا في هذه الأيام أن أمير المؤمنين أكرمه اللّه صائر إلى قرماسي، وموجّه الأفشين إلى الرّيّ. ولعمري لئن فعل أيده اللّه ذلك؛ إنه لممّا يسرّنا اللّه به، ويؤنسنا بجواره، ويبسط الأمل فيما قد عوّدنا من فؤائده وإفضاله، ويكبت أعداءه وأعداءنا؛ ولن يهمل أكرمه اللّه أموره ويرفض ثغوره، والتصرف في نواحي ملكه؛ لأراجيف مرجف بعماله، وقول قائل في خاصّته؛ فإنه لا يسرب أكرمه اللّه جنده إذا سرّب، ولا يندب قواده إذا ندب؛ إلا في المخالف. فاقرأ كتابنا هذا على من بحضرتك من أهل الخراج؛ يبلّغ شاهدهم غائبهم؛ وعنف عليهم في استخراجه، ومن همّ بكسره. فليبد بذلك صحفته؛ لينزل اللّه به ما أنزل بأمثاله؛ فإنّ لهم أسوةً في الوظائف وغيرها بأهل جرجان والرّيّ وما والاهما؛ فإنما خفف الخلفاء عنهم خراجهم، ورفعت الرفائع عنهم التي كانت إليهم في محاربة أهل الجبال ومغازي الديلم الضّلال؛ وقد كفى اللّه أمير المؤمنين أعزّه اللّه ذلك كله، وجعل أهل الجبال والديلمك جنداً وأعواناً، واللّه المحمود.
قال: فلما ورد كتاب المازيار على شاذان بن الفضل عامله على الخراج، أخذ الناس بالخراج، فجبى جميع الخراج في شهرين، وكان يجبي في اثني عشر شهراً، في كلّ أربعة أشهر الثلث؛ وإنّ رجلاً يقال له عليّ بن يزداد العطار؛ وهو ممن أخذ منه رهينة، هرب وخرج من عمل المازيار، فأخبر أبو صالح سرخستان بذلك؛ وكان خليفة المازيار على سارية، فجمع وجوه أهل مدينة ستارية، وأقبل يوبّخهم، ويقول: كيف يطمئن الملك إليكم! أم كيف يثق بكم! وهذا عليّ بن يزداد ممن قد حالف وبايع، وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج، وترك رهينته؛ فأنتم توفون بيمين، ولا تكرهون الحلف والحنث، فكيف يثق بكم الملك، أم كيف يرجع لكم إلى ماتحبون! فقال بعضهم: نقتل الرهينة حتىلا يعود غيره إلى الهرب، فقال لهم: أتفعلوا ذلك؟ قالوا: نعم؛ فكتب إلى صاحب الرهائن، فأمره أن يوجّه بالحسن بن عليّ بن يزداد وهو رهينة أبيه؛ فلمّا صاروا به إلى سارية ندم الناس على ما قالوا لأبي صالح، وجعلوا يرجعون على الذي أشار بقتله بالتعفيف. ثم جمعهم سرخاستان، وقد أحضر الرهينة، فقال لهم: إنكم قد ضمنتم شيئاً؛ وهذا الرهينة فاقتلوه، فقال له عبد الكريم بن عبد الرحمن الكاتب: أصلحك الله إنك أجلت من خرج من هذا البلد شهرين؛ وهذا الرهينة قبلك؛ نسألك أن تؤجله شهرين فإن رجع أبوه وإلا أمضيت فيه رأيك.

قال: فغضب على القوم، ودعا بصاحب حرسه - وكان يقال له رستم ابن بارويه - فأمره بصلب الغلام. وإن الغلام سأله أن يأذن له أن يصلي ركعتين، فأذن له فطول في صلاته وهو يرعد، وقد مد ه جذع، فجذبوا الغلام من صلاته ومدوه فوق الجذع، وشدوا حلقه معه حتى اختنق، وتوفى فوقه، وأمر سرخستان أهل مدينة سارية أن يخرجوا إلى آمل، وتقدم إلى أصحاب المسالخ في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب، فأحضروا ومضى مع أهل سارية إلى آمل، وقال لهم: إي أريد أن أشهدكم على أهل آمل، وأشهد أهل آمل عليكم، وأرد ضياعكم وأموالكم؛ فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما كان أخذنا منكم. فلما وافوا آمل جمعهم بقصر الخليل بن ونداسنجان، وصير أهل سارية ناحية عن غيرهم ووكل بهم اللوزجان وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف منهم أحد عليه، ثم عرضهم بعد ذلك على الأسماء حتى اجتمعوا؛ ولم يتخلف منهم أحد، وأحدق الرجال في السلاح بهم وصفوا جميعاً، ووكل بكل واحد منهم رجلين بالسلاح وأمر الموكل بهم أن يحمل رأس كل من كاع عن المشي،وساقهم مكتفّين حتى وافى بهم جبلا يقال له هرمز داباذ، على ثمانية فراسخ اّمل وثمانية فراسخ من مدينة سارية، وكبلهم بالحديد، وحبسهم0وبلغت عدتهم عشرين ألفاً،وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتي فيما ذكر عن محمد بن حفص. قال: وكتب إلى الدري ليفعل ذلك بوجوه العرب والأبناء ممن كان معه بمرو، وكبلهم بالحديد وحسبهم، ووكل بهم الرجال في حبسهم؛ فلما تمكن المازيار، واستوى له أمره وأمر القوم، جمع أصحابه، وأمر سرخستان بخريب سور مدينة آمل؛ فخربه بالطبول والمزامير، ثم سار إلى مدينة سارية؛ ففعل بها مث ذلك.
ثم وجه مازيار أخاه فوهيار إلى مدينة طميس - وهي على حد جرجان من عمل طبرستان - فخرب سورها ومدينتها، وأباح أهلها، فهرب منهم من هرب، وبلى من بلى. ثم توجه بعد ذلك إلى طميس سرخستان وانصرف عنها قوهيار فلحق بأخيه المازيار فعمل سرخستان سوراً من طميس إلى البحر ومده في البحر مقدار ثلاثة أميال. وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك؛ لأن الترك كانت تغير على طبرستان في أيامها، ونزل معسكراً بطميس سرخستان وصير حولها خندقاً وثيقاً وأبراجاً للحرس، وصير عليها باباً وثيقاً؛ ووكل به الرجال الثقات؛ ففزع أهل جرجان وخافوا على أموالهم ومدينتهم؛ فهرب منها نفر إلى نيسابور، وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر وإلى المعتصم؛ فوجه إليه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، وضم إليه جيشاً كثيفاً يحفظ جرجان، وأمره أن يعسكر على الخندق؛ فنزل الحسن بن الحسن معسكراً على الخندق الذي عمله سرخستان، وصار بين العسكرين عرض الخندق، ووجه أيضاً عبد الله بن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس معسكراً على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف وضم إليه الحسن بن قارن الطبري القائد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجه منصور بن الحسن هار صاحب دنباود إلى مدينة الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند؛ فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب بعث عند ذلك إبراهيم بن مهران صاحب شرطته وعلى بن ربن الكاتب النصراني، ومعهما خليفة صاحب الحرس إلى أهل المدن المحتبسين عنده؛ إن الخيل قد زحفت إلى من كل جانب؛ وإنما حبستكم ليبعث إلى هذا الرجل فيكم - يعني المعتصم - فلم يفعل؛ وقد بلغني أن الحجاج ابن يوسف غضب على صاحب السند في امرأة أسرت من المسلمين، وأدخلت إلى بلاد السند حتى غزا السند، وأنفق بيوت الأموال حتى استنفذ المرأة وردها إلى مدينتها؛ وهذا الرجل لا يكترث بعشرين ألفاً، ولا يبعث إلى يسأل فيكم؛ وإني لا أقدم على حربه؛ وأنتم ورائي، فأدوا إلي خراج سنتين، وأخلي سبيلكم؛ ومن كان منكم شاباً قوياً قدمته للقتال؛ فمن وفى لي منكم رددت عليه مآله، ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخاً أو ضعيفاً صيرته من الحفظة والبوابين

فقال رجل يقال له موسى بن هرمز الزاهد - كان يقال إنه لم يشرب الماء منذ عشرين سنة - أنا أؤدي إليك خراج سنتين، وأقوم به، فقال خليفة صاحب الحرس لأحمد بن الصقير: لم لا تتكلم، وقد كنت أحظى القوم عند الأصبهبذ؛ وقد كنت أراك تتغذى معه، وتتكىء على وسادته! وهذا شيء لم يفعله الملك بأحد غيرك؛ فأنت أولى بالقيام بهذا الأمر من موسى قال أحمد: إن موسى لا يقدر عى القيام بجباية درهم واحد؛ وإنما أجابكم بجهل وبما هو عليه وعلى الناس أجمع؛ ولو علم صاحبكم أن عندنا درهماً واحداً لم يحبسنا؛ وإنما حبسنا بعد ما استنظف كل من عندنا من الأموال والذخائر؛ فإن أراد الضياع بهذا المال أعطيناه. فقال له علي بن ربن الكاتب: الضياع للملك لا لكم، فقال له إبراهيم بن مهران: أسألك بالله يا أبا محمد، لما سكت عن هذا الكلام! فقال له أحمد: لم أزل ساكتاً حتى كلمني هذا بما قد سمعت.
ثم انصرفت الرسل على ضمان موسى الزاهد، وأعلموا المازيار ضمانه وانضم إلى موسى الزاهد قوم من السعاة، فقالوا: فلان يحتمل عشرة آلاف، وفلان يحتمل عشرين ألفاً وأقل أو أكثر، وجعلوا يستأكلون الناس أهل الخراج وغيرهم؛ فلما مضى لذلك أيام، رد مازيار الرسل مقتضياً المال، ومتنجزاً ما كان من ضمان موسى الزاهد؛ فلم ير لذلك أثراً ولا تحقيقاً، وتحقق قول أحمد، وألزمه الذنب. وعلم المازيار أن ليس عند القوم ما يؤدون؛ وإنما أراد أن يلقى الشر بين أصحاب الخراج؛ ومن لا خراج عليه من التجار والصناع.
قال: ثم إن سرخاستان كان معه ممن اختار من أبناء القواد وغيرهم من أهل آمل فتيانٌ لهم جلد وشجاعة، فجمع منهم في داره مائتين وستين فتىً ممن يخاف ناحيته، وأظهر أنه يريد جمعهم للمناظرة، وبعث إلى الأكرة المختارين من الدهاقين، فقال لهم: إن الأبناء هواهم مع العرب والمسودة؛ ولست آمن غدرهم ومكرهم؛ وقد جمعت أهل الظنة ممن أخاف ناحيته، فاقتلوهم لتأمنوا ولا يكون في عسكركم ممن يخالف هواه هواكم. ثم أمر بكتفهم ودفعهم إلى الأكرة ليلاً، فدفعوهم إليهم، وصاروا بهم إلى قناة هناك، فقتلوهم ورموا بهم في آبار تلك القناة وانصرفوا. فلما ثاب إلى الأكرة عقولهم ندموا على فعلهم، وفزعوا من ذلك؛ فلما علم المازيار أن القوم ليس عندهم ما يؤدونه إليه، بعث إلى الأكرة المختارين الذين قتلوا المائتين والستين فتىً، فقال لهم: إني قد أبحتكم منازل الضياع وحرمهم - إلا ما كان من جارية جميلة من بناتهم؛ فإنها تصير للملك - وقال لهم: صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم حوزوا بعد ذلك، ما وهبت لكم من المنازل والحرم، فجبن القوم عن ذلك وخافوا وحذروا فلم يفعلوا ما أمرهم به. قال: وكان الموكلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدثون ليلاً مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب، وبينهم عرض الخندق؛ حتى استأنس بعضهم ببعض، وتآمروا وحرس سرخاستان بتسليم السور إليهم فسلموه، ودخل أصحاب الحسن بن الحسين من ذلك الموضع إلى عسكر سرخاستان في غفلة من الحسن بن الحسين ومن سرخاستان؛ فنظر أصحاب الحسن إلى قوم يدخلون من الحائط، فدخلوا معهم؛ فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروا. وبلغ الحسن بن الحسين بن مصعب، فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم، ويقول: يا قوم؛ إني أخاف عليكم أن تكونوا مثل قوم داوندان، ومضى أصحاب قيس بن زنجويه - وهو من أصحاب الحسن بن الحسين - حتى نصبوا العلم على السور في معسكر سرخاستان، وانتهى الخبر إلى سرخاستان أن العرب قد كسروا السور، ودخلوا بغتةً، فلم تكن له همة إلا الهرب؛ وكان سرخاستان في الحمام، فسمع الصياح، فخرج هارباً في غلالة. وقال الحسن بن الحسين حين لم يقدر على رد أصحابه: اللهم إنهم قد عصوني وأطاعوك؛ اللهم فاحفظهم وانصرهم، ولم يزل أصحاب الحسن يتبعون القوم حتى صاروا إلى الدرب الذي على السور فكسروه، ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر، ومضى قوم في الطلب.

وذكر عن عن زرارة بن يوسف السجزي أنه قال: مررت في الطلب؛ فبينا أنا كذلك؛ إذ صرت إلى موضع عن يسرة الطريق، فوجلت من الممر فيه، ثم تقحمته بالرمح من غير أن أرى أحداً، وصحت: من أنت؟ ويلك! فإذا شيخ جسيم قد صاح " زينهار " - يعني الأمان - قال: فحملت عليه، فأخذته، وشددت كتافه، فإذا هو شهريار أخو أبي صالح سرخاستان، صاحب العسكر قال: فدفعته إلى قائدي يعقوب بن منصور، وحال الليل بيننا وبين الطب؛ فرجع الناس إلى المعسكر، وأتى بشهريار إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه. وأما أبو صالح فمضى حتى صار على خمسة فراسخ من معسكره؛ وكان عليلاً؛ فجهده العطش والفزع، فنزل في غيضة يمنة الطريق إلى سفح جبل، وشد دابته واستلقى، فبصر به غلام له ورجل من أصحابه يقال له جعفر بن ونداميد؛ فنظر إليه نائماً، فقال سرخاستان: يا جعفر؛ شربة ماء، فقد جهدني العطش؛ قال: فقلت: ليس معي إناء أغرف به من هذا الموضع؛ فقال سرخاستان: خذ رأس جعبتي فاسقني به؛ قال جعفر: وملت إلى عداد من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب به إلى السلطان؛ ونأخذ لأنفسنا الأمان! فقالوا لجعفر: كيف لنا به؟ قال: فوقفهم عليه، وقال لهم: أعينوني ساعة، وأنا أثاوره، فأخذ جعفر خشبة عظيمة وسرخاستان مستلقٍ، فألقى نفسه عليه، وملكوه وشدوه كتافاً مع الخشبة، فقال لهم أبو صالح: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني؛ فإن العرب لا تعطيكم شيئاً، قالوا له: أحضرها، قال: هاتوا ميزاناً، قالوا: ومن أين ها هنا ميزان؟ قال: فمن أين ها هنا ما أعطيكم! ولكن صيروا معي إلى المنزل، وأنا أعطيكم العهود والمواثيق أني أفي لكم ذلك، وأوفر عليكم، فصاروا به إلى الحسن بن الحسين، فاستقبلهم خيل للحسن بن الحسين، فضربوا رءوسهم، وأخذوا سرخاستان منهم، فهمتهم أنفسهم، ومضى أصحاب الحسن بأبي صالح إلى الحسن؛ فلما وقفوه بين يديه، دعا الحسن قواد طبرستان؛ مثل محمد بن المغيرة بن شعبة الأزدي وعبد الله بن محمد القطقطي الضبي والفتح بن قراط وغيرهم؛ فسألهم: هذا سرخاستان؟ قالوا: نعم، فقال لمحمد ابن المغيرة؛ قم فاقتله بابنك وأخيك، فقام إليه فضربه بالسيف، وأخذته السيوف فقتل.
ذكر خبر أبي شاس الشاعر وكان أبو شاس الشاعر، وهو الغطريف بن حصين بن حنش فتىً من أهل العراق، ربي بخراسان، أديباً فهماً، وكان سرخاستان ألزمه نفسه يتعلم منه أخلاق العرب ومذاهبها، فلما نزل سرخاستان ما نزل به وأبو شاس في معسكره، ومعه دواب وأثقال، هجم عليه قوم البخارية؛ من أصحاب الحسن؛ فانتبهوا جميع ما كان معه، وأصابته جراحات، فبادر أبو شاس فأخذ جرة كانت معه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بيده قدحاً، وصاح: الماء للسبيل؛ حتى أصاب غفلة من القوم، فهرب من مضربه، وقد أصابته جراحة، فبصر به غلام - وقد كان مر بمضرب عبد الله بن محمد بن حميد القطقطي الطبري؛ وكان كاتب الحسن بن الحسين - فعرفوه، عرفه خدمه، وعلى عاتقه الجرة وهو يسقي الماء، فأدخلوه خيمتهم، وأخبروا صاحبهم بمكانه، فأدخل عليه، فحمله وكساه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصفه للحسن بن الحسين، وقال له: قل في الأمير قصيدة، فقال أبو شاس: والله لقد امحى ما في صدري من كتاب الله من الهول، فكيف أحسن الشعر! ووجه الحسن برأس أبي صالح سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر، ولم يزل من معسكره.

وذكر عن محمد بن حفص أن حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر، كان أقبل مع الحسن بن الحسين إلى ناحية طميس؛ فكاتب قارن بن شهريار، ورغبّه في الطاعة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه، وكان مازيار صيره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضمّ إليهما عدة من ثقات قواده وقراباته؛ فلما استماله حيّان؛ وكان قارن قد ضمن له أن يسلم له الجبال، ومدينة سارية إلى حد جرجان، على أن يملكه عى جبال أبيه وجده إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجّل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيان بأن يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدل به على الوفاء؛ لئلا يكون منه مكر؛ فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله بن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه؛ فلما أكلوا وضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن.
وبلغ مازيار الخبر فاغتم لذلك، وقال له القوهيار أخوه: في حبسك عشرون ألفاً من المسلمين؛ من بين إسكاف وخياط؛ وقد شغلت نفسك بهم؛ وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقرابتك؛ فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأمر مازيار بتخلية جميع من حبسه، ثم دعا إبراهيم بن مهران صاحب شرطته، وعلي بن ربن النصراني كاتبه، وشاذان بن الفضل صاحب خراجه، ويحيى بن الروذبهار جهبذه؛ وكان من أهل السهل عنده، فقال لهم: إن حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل، وقد دخلت العرب إليكم، وأكره أن أشومكم؛ فاذهبوا إلى منازلكم، وخذوا لأنفسكم الأمان. ثم وصلهم، وأذن لهم في الانصراف، فصاروا إلى منازلهم وأخذوا الأمان لأنفسهم.
ولما بلغ أهل مدينة سارية أخذ سرخاستان واستباحة عسكره ودخول حيان بن جبلة جبل شروين، وثبوا على عامل مازيار بسارية - وكان يقال مهريستاني بن شهريز - فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيان بعد ذلك مدينة سارية. وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجده على أن يسلم إليه مازيار، ويوثق له بذلك بضمان محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير؛ فلما صار محمد بن موسى إلى حيان، وأخبره برسالة قوهيار إليه، قال له حيان: من هذا؟ يعني أحمد، قال: شيخ البلاد، وبقية الخلفاء والأمير عبد الله بن طاهر به عارف، فبعث حيان إلى أحمد، فأتاه فأمره بالخروج إلى مسلحة خرماباذ مع محمد بن موسى. وكان لأحمد ابن يقال له إسحاق، وكان قد هرب من مازيار؛ يأوي نهاره الغياض، ويصير بالليل إلى ضيعة يقال لها ساواشريان؛ وهي على طريق الجادة من قدح الأصبهذ الذي فيه قصر مازيار.

فذكر عن إسحاق، أنه قال: كنت في هذه الضيعة، فمر بي عدة من أصحاب مازيار؛ معهم دواب تقاد وغير ذلك؛ قال: فوثبت على فرس منها هجين ضخم، فركبته عرياً؛ وصرت إلى مدينة سارية، فدفعته إلى أبي، فلما أراد أحمد الخروج إلى خرماباذ ركب ذلك الفرس، فنظر إليه حيانن فأعجبه، فالتفت حيان إلى اللوزجان - وكان من أصحاب قارن - فقال له: رأيت هذا الشيخ على فرس نبيل قل ما رأيت مثله، فقال له اللوزجان: هذا الفرس كان لمازيار، فبعث حيان إلى أحمد يسأله البعثة بالفرس إليه؛ لينظر إليه؛ فبعث به إليه، فلما تأمل النظر وفتشه وجده مشطب اليدين، فزهد فيه، ودفعه إلى اللوزجان، وقال لرسول أحمد: هذا لمازيار، ومال مازيار لأمير المؤمنين؛ فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب على اللوزجان من ذلك؛ فبعث إليه أحمد بالشتيمة، فقال اللوزجان: مالي في هذا ذنب! ورد الفرس إلى أحمد، ومعه برذون وشهري " فاره " ، فأمر رسوله فدفعهما إليه. وغضب أحمد من فعل حيان به، وقال: هذا لحائك يبعث إلى شيخ مثلي فيفعل به ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إياه وميلك إلى عبد من عبيده! فكتب إليه قوهيار: قد غلطت في أول الأمر؛ وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد؛ ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويحاربني؛ ويستبيح منازلي وأموالي؛ وإن قاتلته فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء؛ ويبطل هذا الأمر الذي التمسته. فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلاً من أهل بيتك، واكتب إليه أنه قد عرضت لك علة منعتك من الحركة، وأنك تتعالج ثلاثة أيام؛ فإن عوفيت وإلا صرت إليه محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك منك، والمصير في الوقت.
وإن أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى بن حفص كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميس ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستا وفتح طميس، فكتبا إليه أن اركب إلينا لندفع إليك مازيار والجبل؛ وإلا فاتك، فلا تقم. ووجها الكتاب مع شاذان بن الفضل الكاتب، وأمراه أن يعجل السير.
فلما وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة؛ حتى انتهى إلى سارية، فلما أصبح سار إلى خرماباذ - وهو يوم موعد قوهيار - وسمع حيان وقع طبول الحسن، فركب فتلقاه على رأس فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع ها هنا! ولم توجه إلى هذا الموضع، وقد فتحت جبال شروين وتركتها، وصرت إلى ها هنا! فما يؤمنك أن يبدو للقوم، فيغدروا بك، فيتفض عليك جميع ما عملت. ارجع إلى الجبل، فصير مسالحك في النواحي والأطراف، وأشرف على القوم إشرافاً لا يمكنهم الغدر؛ إن هموا به. فقال له حيان: أنا على الرجوع، وأريد أن أحمل أثقالي، وأتقدم إلى رجالي بالرحلة، فقال له الحسن: امض أنت؛ فأنا باعث بأثقالك ورجالك خلفك، وبت الليلة بمدينة سارية حتى يوافوك، ثم تبكر من غد؛ فخرج حيان من فوره كما أمره الحسن إلى سارية، ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر أن يعسكر بلبورة - وهي من جبال وندا هرمز، وهي أحصن موضع من جباله، وكان أكثر مال مازيار بها - وأمره عبد الله ألا يمنع قارن مما يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال؛ والذي كان بأسباندرة من ذخائر مازيار، وما كان لسرخاستان يقدح السلتان، واحتوى على ذلك كله.

فانتقض على حيان جميع ما كان سنح له سبب ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان بن جبلة. فوجه عبد الله مكانه على أصحابه محمد الحسين بن مصعب، وتقدم إليه عبد الله إلا يضرب على يدي قارن في شيء يريده، وصار الحسن بن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير، فتناظروا سراً، فجزاهما خيراً؛ وكتب هو إلى قوهيار، فوافى خرماباذ، وصار إلى الحسن، فبره وأكرمه وأجابه إلى كل ما سأل، واتعدا على يوم؛ ثم صرفه وصار قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له. وكان الحسين بن قارن وقد كاتب قوهيار من ناحية محمد بن إبراهيم بن مصعب، وضمن له الرغائب عن أمير المؤمنين، فأجابه قوهيار، وضمن له ما ضمن لغيره؛ كل ذلك ليردهم عن الحرب ومال إليه. فركب محمد بن إبراهيم من مدينة آمل، وبلغ الحسن بن الحسين الخبر.
فذكر عن إبراهيم بن مهران أنه كان يتحدث عند أبي السعدي، فلما قرب وكان طريقه على باب مضرب الحسن. قال: فلما حاذيت مضربه؛ إذا بالحسن الزوال انصرف يريد منزله. راكب وحده، لم يتبعه إلا ثلاثة غلمان له أتراك، قال: فرميت بنفسي، وسلمت عليه، فقال: اركب؛ فلما ركبت قال: أين طريق آرم؟ قلت: هي على هذا الوادي، فقال لي: امض أمامي، قال: فمضيت حتى بلغت درباً على ميلين من آرم، قال: ففزعت، وقلت: أصلح الأمير! هذا موضع مهول، ولا يسلكه إلا ألف فارس؛ فأرى لك أن تنصرف ولا تدخله. قال: فصاح بي: امض، فمضيت وأنا طائش العقل؛ ولم نر في طريقنا أحداً حتى وافينا آرم؛ فقال لي: أين طريق هرمزداباذ؟ قلت: على هذا الجبل في هذا الشراك، قال: فقال لي: سر إليها، فقلت: أعز الله الأمير! الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذي معك! قال: فصاح بي: امض يابن اللخناء، قال: فقلت له: أعزك الله! اضرب أنت عنقي؛ فإنه أحب إلي من أن يقتلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله بن طاهر الذنب.
قال: فانتهرني حتى ظننت أنه سيبطش بي، ومضيت وأنا خليع الفؤاد، وقلت في نفسي: الساعة تؤخذ جميعاً، أو نوقف بين يدي مازيار فيوبخني، ويقول: جئت دليلاً علي! فبينا نحن كذلك إذ وافينا هرمزداباذ مع اصفرار الشمس، فقال لي: أين كان سجن المسلمين ها هنا؟ فقلت له: في هذا الموضع.
قال: فنزل فجلس ونحن صيام، والخيل تلحقنا متقطعة؛ وذلك أنه ركب من غير علم الناس، فعلموا بعد ما مضى؛ فدعا الحسن بيعقوب بن منصور، فقال له: يا أبا طلحة، أحب أن تصير إلى الطالقانية، فتلطف بحيلك لجيش أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مصعب هنالك ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر؛ ما أمكنك. وكان بينه وبين الطاالقانية فرسخان أو ثلاثة فراسخ؛ قال إبراهيم: فبينا نحن وقوف بين يدي الحسن؛ إذ دعا بقيس بن زنجويهن فقال له: امض إلى درب لبورة؛ وهو على أقل من فرسخ؛ فابرز بأصحابك على الدرب.
قال: فلما صلينا المغرب وأقبل الليل؛ إذا أنا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلاً مقبلين من طريق لبورة، فقال لي: يا إبراهيم؛ أين طريق لبورة؟ فقلت: أرى نيراناً وفرساناً قد أقبلوا من ذلك الطريق، قال: وأنا داهش لا أقف على ما نحن فيه، حتى قربت النيران منا؛ فأنظر فإذا المازيار مع القوهبار؛ فلم أشعر حتى نزلا، وتقدم المازيار، فسلم على الحسن بالإمرة، فلم يرد عليه، وقال لطاهر بن إبراهيم وأوس البلخي: خذاه إليكما.
وذكر عن أخي وميدوار بن خواست جيلان، أنه في تلك الليلة صار مع نفر إلى قوهبار، وقال له: اتق الله، قد خلفت سرواتنا؛ فأذن لي أكشف هؤلاء العرب كلهم؛ فإن الجند حيارى جياع، وليس لهم طريق يهربون، فتذهب بشرفها ما بقي الدهر، ولا تثق بما يعطيك العرب؛ فليس لهم وفاء! فقال قوهيار: لا تفعلوا؛ وإذا قوهيار قد عبى علينا العرب، ودفع مازيار وأهل بيته إلى الحسن لينفرد بالملك؛ ولا يكون أحد ينازعه ويضاده.

فلما كان في السحر، وجه الحسن بالمازيار مع طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي إلى خرماباذ، وأمرهما أن يمرا به إلى مدينة سارية؛ وركب الحسن، وأخذ على وادي بابك إلى الكانية مستقبلاً محمد بن إبراهيم بن مصعب، فالتقيا ومحمد يريد المصير إلى هرمزداباذ لأخذ المازيار، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، أين تريد؟ قال: أريد المازيار، فقال: هو بسارة؛ وقد صار إلي، ووجهت به إلى هنالك؛ فبقي محمد بن إبراهيم متحيراً. وكان القوهيار قد هم بالغدر بالحسن، ودفع المازيار إلى محمد بن إبراهيم، فسبق الحسن إلى ذلك، وتخوف القوهيار منه أن يحاربه حي رآه متوسطاً الجبل. إن أحمد بن الصقير كتب إلى القوهيار: لا أرى لك التخليط والمناصبة لعبد الله بن طاهر؛ وقد كتب إليه بخبرك وضمانك فلا تكن ذا قلبين؛ فعند ذلك حذره ودفعه إلى الحسن، وصار محمد بن إبراهيم والحسن بن الحسين إلى هرمزداباذ؛ فأحرقا قصر المازيار بها، وأنهبا ماله، ثم صارا إلى معسكر الحسن بخرماباذ، ووجها إلى إخوة المازيار، فحبسوا هناك في داره، ووكل بهم. ثم رحل الحسن إلى مدينة سارية؛ فأقام بها، وحبس المازيار بقرب خيمة الحسن، وبعث الحسن إلى محمد بن موسى بن حفص يسأله عن القيد الذي كان قيده به المازيار؛ فبعث به محمد إليه؛ فقيد المازيار بذلك القيد، ووافى محمد بن إبراهيم الحسن بمدينة سارية ليناظره في مال المازيار وأهل بيته، فكتبا بذلك إلى عبد الله بن طاهر، وانتظر أمره؛ فورد كتاب عبد الله إلى الحسن بتسليم المازيار وإخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم؛ ليحملهم إلى أمير المؤمنين المعتصم؛ ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمره أن يستصفي جميع ما للمازيار ويحرزه؛ فبعث الحسن إلى المازيار فأحضره، وسأله عن أمواله فذكر أن ماله عند قوم سماهم، من وجوه أهل سارية وصلحائهم عشرة نفر، وأحضر القوهيار، وكتب عليه كتاباً، وضمنه توفير هذه الأموال التي ذكرها المازيار؛ أنها عند خزانة وأصحاب كنوزه؛ فضمن القوهيار ذلك وأشهد على نفسه.
ثم إن الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار؛ فيشهدوا عليه؛ فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما دخلنا على المازيار، تخوفت من أحمد بن الصقير أن يفزعه بالكلام، فقلنا له: أحب أن تمسك عنه، ولا تذكر ما كنت أشرب به؛ فسكت احمد عند ذلك، فقال لمازيار: اشهدوا أن جميع ما حملت من أموالي وصحبني ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت أحمر، وثمانية أوقار سلال مجلدة، فيها ألوان الثياب، وتاج وسيف من ذهب وجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهراً؛ وقد وضعه بين أيدينا، وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح، وهو خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى القوهبار. قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين، فقال: أشهدتهم على الرجل؟ قال: قلنا: نعم، قال: هذا شيء كنت اخترته لي، فأحببت أن يعلم قلته وهوانه عندي.

وذكر عن علي بن ربن النصراني الكاتب أن ذلك الحق كان شرى وجوه على المازيار وجده وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان المازيار حمل ذلك كله إلى الحسن بن الحسين؛ على أن يظهر أنه خرج إليه في الأمان، وأنه قد آمنه على نفسه وماله وولده؛ وجعل له جبال أبيه؛ فامتنع الحسن بن الحسين من هذا وعف عنه - وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار - فلما أصبح أنفذ المازيار مع طاهر بن إبراهيم وعليّ بن إبراهيم الحربيّ، وورد كتاب عبد اللّه بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور،، وقد ساروا بالمازيار ثلاث مراحل؛ فبعث الحسن فردّه، وأنفذه مع يعقوب بن منصور. ثم أمر الحسن بن الحسين القوهيار أخا المازيار أن يحمل الأموال التي ضمنها، ودفع إليه بغالاً من العسكر، وأمر بإنفاذ جيش معه؛ فامتنع القوهيار، وقال: لا حاجة لي بهم؛ وخرج بالبغال هو وغلمانه؛ فلما ورد الجبل وفتح الخزائن، وأخرج الأموال وعبّاها ليحملها، وثب عليه مماليك المازيار من الديالمة - وكانوا ألفاً ومائتين - فقالوا له: غدرت بصاحبنا، وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! فأخذوه وكبّلوه بالحديد؛ فلما جنّه الليل قتلوه؛ وانتهبوا تلك الأموال والبغال؛ فانتهى الخبر إلى الحسن، فوجّه جيشاً إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشاً من قبله في أخذهم؛ فأخذ منهم صاحب قارن عدّة، منهم ابن عمّ للمازيار، يقال له شهريار بن المصمغان - وكان رأس العبيد ومحرّضهم - فوجّه به قارن إلى عبد اللّه بن طاهر، فلما صار بقومس مات، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السّفح والغيضة يريدون الديلم، فنذر ربهم محمد بن ابراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم، وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا، فبعث بهم إلى مدينة سارية مع عليّ بن إبراهيم حين دخل من شلنبة على طريق الروذبار إلى الوّرّيان.
وقيل: إن فساد أمر مازيار وهلاكه كان من قبل ابن عمّ له يقال له كان في يديه جبال طبرستان كلها، وكان في يد المازيار السهل؛ وكان ذلك كالقسمة بينهم يتوارثونه؛ فذكر عن محمد بن حفص الطبريّ أن الجبال بطبرستان ثلاثة: جبل ونداهرمز في وسط جبال طبرستان، والثاني أخيه ونداسيجان بن الأنداد بن قارن، والثالث جبل شروين بن سرخاب ابن باب؛ فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه ذلك، وقيل هو أخوه القوهيار،، فألزمه بابه، وولّى الجبل والياً من قبله؛ يقال له درّى؛ فلما احتاج المازيار إلى الرجال لمحاربة عبد اللّه بن طاهر؛ دعا بابن عمه أوأخيه القوهيار؛ فقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته له، وقال له: صر في ناحية الجبل، فاحفظ عليّ الجبل.
وكتب المازيار إلى الدرّىّ يأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، فضمّ إليه العساكر، ووجهّه في وجه عبد اللّه بن طاهر؛ وظنّ أنه قد توثّق من الجبل بابن عمه أو أخيه القوهيار؛ وذلك أن الجبل لم يظنّ أنه يؤتى منه. لأنه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشّجر الذي فيه، وتوثّق من المواضع التي يتخوّف منها بالدرّى وأصحابه، وضمّ إليه المقاتلة وأهل عسكره، فوجّه عبد اللّه بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف من خراسان إلى المازيار، ووجّه المعتصم محمد إبراهيم بن مصعب، ووجّه معه صاحب خبر يقال له يعقوب بن إبراهيم البوشنجيّ مولى الهادي، ويعرف بقوصرة؛ يكتب بخبر العسكر؛ فوافى محمد بن إبراهيم الحسن بن الحسن، وزحفت العساكر نحو المازيار حتى قربوا منه، والمازيار لا يشك أنه قد توثق من الموضع الذي تلقاه الجبل فيه.

وكان المازيار في مدينته في نفر يسير، فدعا ابن عم المازيار الحقد الذي كان في قلبه على المازيار وصنيعه به وتنحيته إياه عن جبله، أن كاتب الحسن ابن الحسن وأعلمه جميع ما في عساكره، وأن الأفشين كاتب المازيار. فأنفذ الحسن كتاب ابن عم المازيار إلى عبد الله بن طاهر فوجه به عبد الله برجل إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن بن الحسين ابن عم المازيار - وقيل القوهيار - وضمنا له جميع ما يريد؛ وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله ابن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند توليه الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخف به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار، واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه؛ ولا يحارب.
فرضى بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتاباً، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين ورجالهم أن يدخلهم الجبل؛ فلما كان وقت الميعاد، أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف للقاء الدرى، ووجه عسكراً ضخماً عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلم الجبال إليهم وأدخلهم إليها، وصاف الدرى العسكر الذي بإزائه؛ فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، والدرى يحارب العسكر الآخر؛ فحصروا المازيار، وأنزلواه على حكم أمير المؤمنين المعتصم.
وذكر عمر بن سعيد الطبري أن المازيار كان يتصيد؛ فوافته الخيل في الصيد؛ فأخذ أسيراً، ودخل قصره عنوة، وأخذ جميع ما فيه، وتوجه الحسن بن الحسين بالمازيار، والدرى يقاتل العسكر الذي بإزائه لم يعلم بأخذ المازيار؛ فلم يشعر إلا وعسكر عبد الله بن طاهر من ورائه، فتقطعت عساكره، فانهزم ومضى يريد الدخول إلى بلاد الديلم، فقتل أصحابه، واتبعوه فلحقوه في نفر من أصحابه، فرجع يقاتلهم فقتل وأخذ برأسه، فبعث به إلى عبد الله بن طاهر وقد صار بالمازيار في يده، فوعده عبد الله ابن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده. فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب فأخذها عبد الله بن طاهرفوجه بها المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين؛ لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك؛ فأوصلها من يده إلى يد المعتصم؛ فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقر بها؛ فأمر بضرب المازيار حتى مات؛ وصلب إلى جانب بابك.
وكان المأمون يكتب إلى المازيار: من عبد الله المأمون إلى جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار جرشاه محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين.
وقد ذكر أن بدء وهي أمر الدرىّ كان أنه لما بلغه بعدما ضمّ إليه المازيار الجيش نزول جيش محمد بن إبراهيم دنباوند، وجّه أخاه جشنس، وضمّ إليه محمداً وجعفراً ابني رستم الكلاريّ ورجالاً من أهل الثغر وأهل الرّويان، وأمرهم أن يصيروا إلى حدّ الرّويان والرّيّ لمنع الجيش؛ وكان الحسن بن قارن قد كاتب محمداً وجعفراً ابني رستم، ورغّبهما؛ وكانا من رؤساء أصحاب الدرّىّ، فلما التقى جيش الدرىّ وجيش محمد بن إبراهيم، انقلب ابنا رستم وأهل الثغري وأهل الرّويان على بزرجشنس أخي الدرّىّ، فأخذوه أسيراً، وصاروا مع محمد بن إبراهيم على مقدمته؛ وكان الدرىّ بموضع يقال له مزن في قصره مع أهله وجميع عسكره. فلما بلغه غدر محمد وجعفر ابني رستم ومتابعة أهل الثغرين والرّويان لهما وأسر أخيه بزرجشنس. اغتمّ لذلك غماًّ شديداً، وأذعن أصحابه، وهمّتهم أنفسهم، وتفرّق عامتّهم يطلبون الأمان، ويحتالون لأنفسهم. فبعث الدرىّ إلى الديالمة فصار ببابه مقدار أربعة آلاف رجل منهم، فرغبهم ومنّاهم. ووصلهم. ثم ركب وحمل الأموال معه، ومضى كأنه يريد أن يستنقذ أخاه ويحارب محمد بن إبراهيم؛ وإما أراد الدخول إلى الديلم، والإستظهار بهم على محمد بن إبراهيم.

فاستقبله محمد بن إبراهيم في جيشه؛ فكانت بينهم وقعة صعبة؛ فلما مضى الدرىّ هرب الموّكلون بالسجن، وكسر أهل السجن أقيادهم، وخرجوا هاربين، ولحق كلّ إنسان ببلده. واتّفق خروج أهل سارية الذين كانوا في حبس المازيار وخروج هؤلاء الذين كانوا في حبس الدرّىّ في يوم واحد، وذلك في شعبان لثلاث عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وعشرين ومائتين في قول محمد بن حفص. وقال غيره: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين.
وذكر عن داود بن قحذم أن محمد بن رستم، قال: لما التقى الدرّى ومحمد ابن إبراهيم بساحل البحر، بين الجبل والغيضة والبحر، والغيضة متّصلة بالديلم، وكان الدرّى شجاعاً بطلاً، فكان يحمل بنفسه على أصحاب محمد حتى يكشفهم؛ ثم يحمل معارضةً من غير هزيمة، يريد دخول الغيضة شدّ عليه رجل من أصحاب محمد بن إبراهيم يقال له فند بن حاجبة، فأخذه أسيراً واسترجع، واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما كان معه من الأثاث والمال والدوابّ والسلاح، فأمر محمد بن إبراهيم بقتل بزرجشنس أخي الرّدّىّ، ودعى بالدرّىّ فمدّ يده فقطعت من مرفقه، ومدّت رجله فقطعت من الركبة؛ وكذا باليد الأخرى والرّجل الأخرى، فقعد الدرّى على استه؛ ولم يتكلم ولم يتزعزع، فأمر بضرب عنقه. وظفر محمد بن إبراهيم بأصحاب الدرّى فحملهم مكبّلين.
وفي هذه السنة ولى جعفر بن دينار اليمن.
وفيها تزوّج الحسن بن الأفشين أترنجة بنت أشناس، ودخل بها في العمريّ، قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامراً فحدّثت أنهم كانوا يغلّفون العامة فيها بالغالية في تغار من فضة، وأن المعتصم كان يباشر بنفسه تفقّد من حضرها.
وفيها امتنع عبد اللّه الورثانيّ بورثان.
ذكر الخبر عن خلاف منكجور الأشروسنيوفيها خالف منكجور الأشروسنيّ قرابة الأفشين بأذربيجان.
ذكر الخبر عن سبب خلافه ذكر أن الأفشين عند فراغه من أمر بابك ومنصرفه من الجبال ولى أذربيجان - وكانت من عمله - واليه منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالاً عظيماً، فاحتجنه لنفسه؛ ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم؛ وكا على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد اللّه بن عبد الرحمن؛ فكتب إلى المعتصم بخبر ذلك المال، وكتب منكجور يكذب ذلك؛ فوقعت المناظرة بين منكجور وعبد اللّه بن عبد الرحمن؛ حتى همّ منكجور بقتل عبد اللّه بن عبد الرحمن، فاستغاث عبد اللّه بأهل أردبيل، فمنعوه مما أراد به منكجور؛ وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين أن يوجّه رجلاً من قبله بعزل منكجور، فوجّه رجلاً من قوّاده في عسكر ضخم؛ فلما بلغ منكجور ذلك خلع وجمع إليه الصعاليك، وخرج من أردبيل، فرآه القائد فواقعه، فاهزم منكجور، وصار إلى حصن من حصون أذربيجان - التي كان بابك أخرجها - حصين في جبل منيع، فبناه وأصلحه، وتحصنّ فيه؛ فلم يلبث إلا أقلّ من شهر حتى وثب به أصحابه الذين كانوا معه في الحصن، فأسلموه ودفعوه إلى القائد الذي كان يحاربه؛ فقدم به إلى سامراً، فأمر المعتصم بحبسه، فاتّهم الأفشي في أمره.
وقيل: إن القائد الذي وجّه لحرب منكجور هذا كان بغاً كبيراً.
وفيها مات ياطس الروميّ، وصلب بسامراً إلى جانب بابك.
وفيها مات إبراهيم بن المهديّ في شهر رمضان وصلّى عليه المعتصم.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين ذكر الخبر عمّا كان فيها من الأحداث فمن ذلك كان قدوم الورثانيّ على المعتصم في المحرّم بالأمان وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامراً.
وفيها خرج المعتصم إلى السّنّ، واستخلف أشناس.
وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسيّ، وتوّجه وشّحه في شهر ربيع الأول.
وفيها أحرق غنّام المرتدّ.
وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرين، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوماً، وعزله عن اليمن، وولاّها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها وجّه عبد اللّه بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدّسكرة؛ فأدخله سامرّا في الشوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل جيلان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأنٍ من الشأن
فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة،، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين؛ وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقرّ المازيار أنّ الأفشين يكاتبه، ويصوّب له الخلاف والمعصية، فأمر بردّ الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطاً، وطلب ماء فسقى، فمات من ساعته.
ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الأفشين وحبسهوفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه ذكر أن الأفشين كان أيّام حربه بابك ومقامه بأرض الخرّمية؛ لا يأتيه هدية من أهل إرمينية إلا وجّه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد اللّه بن طاهر، فيكتب عبد اللّه إلى المعتصم بخبره؛ فكتب المعتصم إلى عبد اللّه بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة؛ ففعل عبد اللّه بذلك؛ وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمّله أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين بقدر طاقتهم؛ كان الرجل يحمل من الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه؛ فأخبر عبد اللّه بذلك؛ فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجّه إليهم عبد اللّه بن طاهر، وأخذهم ففتّشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين؛ وهذه أمواله. فقال: كذبتم؛ لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلىّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته؛ لأن هذا مال عظيم؛ وإنما أنتم لصوص. فأخذ عبد اللّه بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبّله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إليّ تعلمني لأبذرقه؛ فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّهه إلىّ أمير المؤمين في كلّ سنة، وإن كا المال لك - كما زعم القوم. فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك؛ وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال؛ وإنما دفعته إلى الجند لأني أريد أن أو جههم إلى بلاد الترك فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد. ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة؛ فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا؛ فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين.
ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحياناً من المعتصم كلاماً يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان؛ ظناً منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان؛ فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره.
وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل. فتحقق عند المعتصم - بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به - ما كان اتهمه به من أمر منكجور؛ وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به؛ فتغير المعتصم للأفشين لذلك؛ وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم - فيما ذكر - على أن يهئ أطوافاً في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف؛ حتى يصير إلى بلاد أرمينية ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سماً كثيراً، وعزم على أن يعمل طعاماً ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم؛ فإن لم يحبه المعتصم استأذن في قواده الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم؛ فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجئ إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطراف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية؛ وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم يصير هو إلى بلاد الخرز مستأمناً، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام؛ فكان في تهيئة ذلك، وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك.

وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد؛ فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث؛ فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم؛ فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن فحكاه للأفشين. وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى دار أمير المؤمنين؛ وقد نام المعتصم؛ فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة فقال له إيتاخ: ألي الساعة كنت ها هنا! قد نام أمير المؤمنين. فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن فقال المعتصم: قل له انصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علىّ في غد. فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك. فبيته إيتاخ عنده؛ فلما أصبح بكربه مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده؛ فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق؛ ثم بنى له حبساً مرتفعاً، وسماه لؤلؤة داخل الجوسق، وهو يعرف إلى الآن بالأفشين. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الإحتيال للحسن بن الأفشين - وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد - يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به أمير المؤمنين في أمره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له؛ فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه. فكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه؛ حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن أسد وشده وثاقاً. ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم. وكان الحبس الذي بنى للأفشين شبيهاً بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه؛ وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور.
وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات فأتى بالأفشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحدٌ من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس.
وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش - وهو أحد ملوك السغد - ورجلان من أهل السغد؛ فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن وهذا إمام، بينا مسجداً بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط؛ وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهداً وشرطاً، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه؛ فوثب هذان على كل بيت كان فيه أصنامهم - يعني أهل أشروسنة - فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجداً فضربتهما على هذا ألفاً ألفاً لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم. فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبى، فيه أدب من آداب العجم؛ وما ذكرت من الكفر؛ فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه؛ فتركته على حاله؛ ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك؛ فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحماً من الذبوحة؛ وكان يقتل شاو سوداء كلّ يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسّيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
وقال لي يوماً: إني قد دخلت لهؤلاء لبقوم في كلّ شيء أكرهه؛ حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل ولبست النعل؛ غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عي شعرة - لم يطّل ولم يختن.

فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقةٌ هم في دينه؟ - وكان الموبذ مجوسياً أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه - قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلّونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوّة تطلع عليّ منها وتعرف أخباري منها؟ قال: لان أفليس كنت أدخلك إليّ وأبثك سرى وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك؛ إذا أفشيت عليّ سراًّ أسررته إليك.
ثم تنحىّ الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، يا ممخرق، كم تدافع وتموّه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبى وجدي. قال: فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية " إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان " ، قالك بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمو يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيّت لفرعو حين قال لقومه: " أنا ربّكم الأعلى " ! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجديّ، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد على طاعتهم. فقال له إسحاق بن إبراهيم بم مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف باللذه لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدعى ما ادّعى فرعون! قال: يا أبا الحسين؛ هذه سورة قرأها عحجيف على عليّ بن هشام، وأنت تقرؤها عليّ فانظر غداً من يقرؤها عليك! قال: ثم قدّم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفغشين: تعرف هذا؟ قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: عم، هذا الأفشي، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآ، قالوا: هل كاتبته؟ قال:لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كاب أخوه خاش إلى أخي قوهيار؛ أنه لم يكن ينصر هذا الدّين الأليض غيري وغيرك وغير بابك؛ فأما بابك فإنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عه الموت فأبى حمقه إلا أن دلاّه فما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس؛ فإن وجّهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربيّ بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبّوس؛ وهؤلاء الذّباب - يعني المغاربة - إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين - يعيني الأتراك - فإنما هي ساعة حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل جولة فتأتي على آخرهم؛ ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم. فقال الأفشين: هذا يدّعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب عليّ، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر؛ لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي به عبد اللّه بن طاهر عند الخليفة. ثم نحّى المازيار.
ولما قال الأفشين للمرزيان التركشيّ ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن أبي داود الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد اللّه ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة ، فقال له ابن أبي داود: أمطهّر أنت؟ قال: لا، قال:فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أو ليس في دين الإسلام استعمال التقيّة؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت؛ وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام فقال ابن أبي داود: قد بان لكم أمره يابغاً - لبغا الكبير أبي موسى التركيّ - عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم أخرجه من باب الوزيريّ إلى محبسه.
وفي هذه السنة حمل عبد اللّه بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامراً.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر وثوب علىّ بن إسحاق برجاء بن أبي الضحاك
فمن ذلك ما كان فيها من ثوب علىّ بن إسحاق بن يحيى بن معاذ - وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين - برجاء بن أبي الضحاك؛ وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي داود فيه، فأطلق من محبسه؛ فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرّا، فقال البحتريّ الطائي:
عفا علىّ بن إسحاق بفتكته ... على غرائب تيهٍ كنّ في الحسن
أنسته تنقيعه في اللفظ نازلة ... لم تبق فيه سوى التسليم للزمن
فلم يكن كابن حجرٍ حين ثار ولا ... أخي كليبٍ ولا سيف بن ذي يزن
ولم يقل لك في وترٍ طلبت به ... تلك المكارم لا قعبان من لبن
وفيها مات محمد بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين، فصلّى عليه المعتصم في دار محمد.
ذكر الخبر عن موت الأفشينوفيها مات الأفشين.
ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته وبعده ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه. فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها إليه في البناء الذي له يسمى لؤلؤة؛ فحبس فيه؛ فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة؛ إما الإجلاص وإما الشاهلوج؛ فقال للواثق: لا أله إلا الله، ما أحسنه من طبق ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئاً؛ فلما أراد الوايق الإنصراف قال له الأفشين: اقرئ سيدي السلام وقل له: أسألك أن توجه إلى ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن اسماعيل - وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا؛ فحدث بهذا الحديث وهو فيه: قال حمدو: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس. قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منة واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإ أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز فقال: قل لأمير المؤمنين؛ أحسنت إلي وشرفتني وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلاماً لم يتحقق عندك؛ ولم تتدبره بعقلك؛ كيف يكو هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلي منكجور أن يخرج، وتقبله وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور: لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه؛ أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال وسست للعساكر؛ هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قوماً: افعلوا كذا وكذا؛ هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله؛ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله عدو قد عرفت سببه؛ وأنت أولى بي وإنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك؛ ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربي عجلاً له حتى أسمنه وكبر، وحسنت حاله، كان أصحابه اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يحبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعاً على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربى هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع؛ سل من شئت عنه؛ وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع؛ فكلما سأل الرجل إنساناً عنه وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع؛ هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح؛ ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسداً! الله الله في أمري؛ اصطنعتني وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله يعطف بقلبك علي.
قال حمدون: فقمت فانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمس منه شيئاً، ثم ما لبثنا إلا قليلاً حتى قيل: إنه يموت أو قد مات؛ فقال المعتصم: أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ.

قال: وكان أحمد بن أبي داود دعا به في دار العامة من الحبس فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي داود أن يشهد عليه؛ فإن تكشف تسب إلى الخرع؛ وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف؛ وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس؛ وكان ابن أبي داود أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقلب مصير حمدون بن اسماعيل إليه.
قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين: أخرجي إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال؛ وإنما أراد أن يفضحني؛ إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشّف، فيفضحني بي الناس؛ فالموت كا أحبّ إليّ من أن أتكشّف بين أيدي الناس؛ ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشّف بين يديك حتى تراني فعلت؛ قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق؛ وما أريد أن تكشّف.
فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلاّ القليل؛ فكان يدفع إليه في كلّ يوم رغيف حتى مات؛ فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامّة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته؛ فأحرق وحول الرّماد، وطرح في دجلة.
وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجّه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان؛ عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين؛ وظنّ أنه جوهر له قيمة؛ وكان ذلك ليلاً؛ فلما أصبح ونزع عنه شباك الذّهب، وجوده حجراً شبيهاً بالصّدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصّدف الذي يقال له البوق، من صدف أخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والأطواف والخشب التي كان أعدّها؛ وكان له متاع بالوزيريّة، فوجد فيه أيضاً صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتاباً من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب؛ فيها ديانته التي كان يدين بها ربه.
وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بأمر أشناس؛ وكان أشناس. حاجاًّ في هذه السنة، فولّى كل بلدة يدخلها فدعى له جميع المنابر التي مر بها من سامراً إلى مكة والمدينة.
وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، ودعا منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة وكانت ولايتها إلى أن يرجع إلى سامراً.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر خروج أبي حرب المبرقع فمن ذلك ما كان من خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه على السلطان.
ذكر الخبر عن سبب خروجه وما آل إليه أمره

ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبير بأمره، أن سبب خروجه على السلطان كان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك؛ فضربها بسوط كان معه؛ فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها فأثر فيها؛ فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه؛ فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه به حتى قتله؛ ثم هرب وألبس وجهه برقعاً كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن؛ فطلبه السلطان فلم يعرف له خبر؛ وكان أبو حرب يظهر بالنهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه متبرقعاً؛ فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس ويعيبه؛ فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثى أهل تلك الناحية وأهل القرى؛ وكان يزعم أنه أموى، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني؛ فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية؛ فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية؛ منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مطاعاً في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق، فاتصل الخبر بالمعتصم وهو عليل؛ علته التي مات فيها؛ فبعث إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء ألف من الجند؛ فلما صار رجاء إليه وجده في عالم من الناس.
فذكر الذي أخبرني بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف؛ فكره رجاء مواقعته وعسكر بحذائه، وطاوله؛ حتى كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثهم، وانصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب إلى الحراثة وأرباب الأرضين إلى أرضيهم، وبقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين؛ ناجزه رجاء الحرب فالتقى العسكران: عسكر رجاء وعسكر المبرقع؛ فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلاً له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عده من الرجلة: فلا تعجلوا عليه. قال: وكان الأمر كما قال رجاء؛ فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: افرجوا له؛ فأفرجوا له؛ حتى جاوزهم ثم كر راجعاً فأمر رجاء أصحابه أن يفرجوا له، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ورجع إلى عسكر نفسه؛ ثم أمهل رجاء وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى فأفرجوا له؛ فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه. ففعل المبرقع ذلك، فحمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعاً فأحاطوا به؛ فأخذوه فأنزلوه عن دابته.
قال: وقد كان قدم على رجاء حين ترك معاجلة المبرقع الحرب من قبل المعتصم مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره، وأمر أبي حرب ما كا مما ذكرا، ثم أطلقه.
قال: فلما كان يوم قدوم رجاء بأبي حرب على المعتصم، عزله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك! وجهتني في ألف إلى مائة ألف؛ فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي ولا نغني شيئاً؛ فتمهلت حتى خف من معه، ووجدت فرصة ورأيت لحربه وجهاً وقياماً؛ فناهضته وقد خف من معه وهو في ضعف؛ ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيراً قال أبو جعفر: وأما غير من ذكرت أنه حدثني حديث أبي حرب على ما وصفت؛ فإنه زعم أن خروجه إنما كان في سنة ست وعشرين ومائتين بالرملة، فقالوا: إنه سفياني، فصار في خمسين ألفاً من أهل اليمن وغيرهم، واعتقد ابن بيهس وآخران معه من أهل دمشق، فوجه إليهم، المعتصم رجاء الحضاري في جماعة كبيرة، فواقعهم بدمشق؛ فقتل من أصحاب ابن بيهس وصاحبيه حواً من خمسة آلاف؛ وأخذ ابن بيهس أسيراً، فتل صاحبيه، وواقع أبا حرب بالرملة، فقتل من أصحابه نحواً من عشرين ألفاً وأسر أبا حرب، فحمل إلى سامرا، فجعل وابن بيهس في المطبق.
وفي هذه السنة أظهر جعفر بن مهرجش الكردي الخلاف، فبعث إليه المعتصم في المحرم إيتاخ إلى جبال الموصل لحربه، فوثب بجعفر بعض أصحابه فقتله.
وفيها كانت وفاة بشر بن الحارث الحافي في شهر ربيع الأول وأصله من مرو.
ذكر الخبر عن وفاة المعتصم والعلة التي مات بهاوفيها كات وفاة المعتصم وذلك - فيما ذكر - يوم الخميس، فقال بعضهم: لثماني عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول لساعتين مضتا من النهار.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت منها وفاته وقدر مدة عمره وصفته

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35