كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ المسلمون من مسيلمة أتى خالد فأخبر ، فخرج بمجاعة يرسف معه في الحديد ليدله على مسيلمة ، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل - وكان رجلا جسيماً وسيماً - فلما رآه خالد ، قال : هذا صاحبكم . قال : لا ، هذا والله خير منه وأكرم ، هذا محكم اليمامة . قال : ثم مضى خالد يكشف له القتلى حتى دخل الحديقة ، فقلب له القتلى ؛ فإذا رويجل أصيفر أخينس . فقال مجاعة : هذا صاحبكم ، قد فرغتم منه ، فقال خالد لمجاعة : هذا صاحبكم الذي فعل بكم ما فعل ، قال : قد كان ذلك يا خالد ، وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ؛ وإن جماهير الناس لفى الحصون . فقال : ويلك ما تقول ! قال : هو والله الحق ؛ فهل لأصالحك على قومي .
كتب إلى أسرى ، عن تشعيب ، عن سيف ، عن الضحاك ، عن أبيه ، قال : كان رجل من بنى عامر بن حنيفة يدعى الأغلب بن عامر بن حنيفة ، وكان أغلظ أهل زمانه عنقاً ؛ فلما انهزم المشركون يومئذ ، وأحاط المسلمون بهم ، تماوت ، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه ، فلما رأوه مخضلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا ، قالوا : يا أبا بصيرة ، إنك تزعم - ولم تزل تزعم - أن سيفك قاطع ، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت ، فإن قطعته فكل شئ كان يبلغنا حق ، فاختره ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتاً ، فلما دنا منه ثار ، فحاضر ، واتبعه أبو بصيرة ، وجعل يقول : أنا أبو بصيرة الأنصاري ! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعداً ؛ فكلما قال ذلك أبو بصيرة ، قال الأغلب : كيف ترى عدو أخيك الكافر ! حتى أفلت .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما فرغ خالد من مسيلمة والجند ، قال له عبد الله ابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر : ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون ، فقال : دعانى أبث الخيول فألقط من ليس في الحصون ، ثم أرى رأيى . فبث الخيول فحووا ما وجدوا من مال ونساء وصبيان ، فضموا هذا إلى العسكر ، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون ، فقال له مجاعة : إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ، وإن الحصون لمملوءة رجالاً ، فهلم لك إلى الصلح على ما ورائى ، فصالحه على كل شئ دون النفوس . ثم قال : أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر ؛ ثم أرجع إليك . فدخل مجاعة الحصون ، وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ، ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهن ؛ ثم رجع فأتى خالداً فقال : قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت ، وقد أشرف لك بعضهم نقصاً على وهم منى برآء . فنظر خالد إلى رءوس الحصون وقد اسودت ، وقد نهكت المسلمين الحرب ، وطال اللقاء ؛ وأحبوا أن يرجعوا على الظفر ، ولم يدروا ما كان كائناً لو كان فيها رجال وقتال ، وقد قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلثمائة وستون . قال سهل : ومن المهاجرين من غير أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء ؛ ستمائة أو يزيدون . وقتل ثابت بن قيس يومئذ ؛ قتله رجل من المشركين قطعت رجله ، فرمى بها قاتله فقتله ، وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف ، وفي حديقة الموت سبعة آلاف ؛ وفي الطلب نحو منها .
وقال ضرار بن الأزور في يوم اليمامة :
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت ... عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت ... حجارته فيها من القوم بالدم
عشية لا تغنى الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم
فإن تبتغى الكفار غير مليمة ... جنوب ، فإنى تابع الدين مسلم
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ... ولله بالمرء المجاهد أعلم

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال مجاعة لخالد ما قال إذ قال له : فهلم لأصالحك عن قومي لرجل قد نهكته الحرب ، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب ؛ فقد رق وأحب الدعة والصلح . فقال : هلم لأصالحك ، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي . ثم قال : إني آتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت . قال : فانطلق إليهم ، فقال للنساء : البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون ، ففعلن . ثم رجع إلى خالد ، وقد رأى خالد الرجال فيما يرى على الحصون عليهم الحديد . فلما انتهى إلى خالد ، قال : أبوا ما صالحتك عليه ، ولكن إن شئت صنعت لك شيئاً ، فعزمت على القوم . قال : ما هو ؟ قال : تأخذ منى ربع السبي وتدع ربعاً . قال خالد : قد فعلت ، قال : قد صالحتك ، فلما فرغا فتحت الحصون ، فإذا ليس فيها إلا النساء والصبيان ، فقال خالد لمجاعة : ويحك خدعتني ! قال : قومي ، ولم أستطع إلا ما صنعت .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، قال : قال مجاعة يومئذ ثانية : إن شئت أن تقبل مني نصف السبي والصفراء والبيضاء والحلقة والكراع عزمت وكتبت الصلح بيني وبينك . ففعل خالد ذلك ، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع وعلى نصف السبي وحائط من كل قرية يختاره خالد ، ومزرعة يختارها خالد . فتقاضوا على ذلك ، ثم سرحه ، وقال : أنتم بالخيار ثلاثاً ؛ والله لئن تتموا وتقبلوا لأنهدن إليكم ، ثم لا أقبل منكم خصلة أبداً إلا القتل . فأتاهم مجاعة فقال : أما الآن فاقبلوا ، فقال سلمة بن عمير الحنفى : لا والله لا نقبل ؛ نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضى خالداً ، فإن الحصون حصينة والطعام كثير ، والشتاء قد حضر . فقال مجاعة : إنك امرؤ مشئوم ، وغرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح ، وهل بقي منكم أحد فيه خير ، أو به دفع ! وإنما أنا بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ، فخرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا ، فقال : بعد شد مارضوا ؛ اكتب كتابك ، فكتب : هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد بن مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا ؛ قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ؛ ومزرعة ؛ على أن يسلموا . ثم أنتم آمنون بأمان الله ؛ ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذمة المسلمين على الوفاء .

كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : لما صالح خالد مجاعة ؛ صالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رضانا في كل ناحية ونصف المملوكين . فأبوا ذلك ، فقال خالد : أنت بالخيار ثلاثة أيام ، فقال سلمة بن عمير : يا بني حنيفة ، قاتلوا عن أحسابكم ، ولا تصالحوا على شئ ، فإن الحصن حصين ، والطعام كثير وقد حضر الشتاء . فقال مجاعة : يا بني حنيفة ، أطيعوني واعصوا سلمة ، فإنه رجل مشئوم ، قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ((قبل أن تستردف النساء غير رضيات ، وينكحن غير خطيبات)) . فأطاعوه وعصوا سلمة ، وقبلوا قضيته . وقد بعث أبو بكر رضى الله عنه بكتاب إلى خالد مع سلمة بن سلامة بن وقش ، يأمره إن ظفره الله عز وجل أن يقتل من جرت عليه المواسى من بني حنيفة ، فقدم فوجده قد صالحهم ، فوفى لهم ، وتم على ما كان منه ، وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد ، وخالد في عسكره ؛ فلما اجتمعوا قال سلمة بن عمير لمجاعة : استأذن لي على خالد أكلمه في حاجة له عندي ونصيحة - وقد أجمع أن يفتك به - فكلمه فأذن له ، فأقبل سلمة بن أمير ، مشتملاً على السيف يريد ما يريد ، فقال : من هذا المقبل ؟ قال مجاعة : هذا الذي كلمتك فيه ، وقد أذنت له ، قال : أخرجوه عني ؛ فأخرجوه عنه ، ففتشوه فوجدوا معه السيف ، فلعنوه وشتموه وأوثقوه ، وقالوا : لقد أردت أن تهلك قومك ، وايم الله ما أردت إلا أن تستأصل بنو حنيفة ، وتسبى الذرية والنساء ؛ وايم الله لو أن خالداً علم أنك حملت السلاح لقتلك ، وما نأمنه إن بلغه ذلك أن يقتلك و أن يقتل الرجال ويسبي النساء بما فعلت ؛ ويحسب أن ذلك عن ملإ منا . فأوثقوه وجعلوه في الحصن ؛ وتتابع بنو حنيفة على البراء مما كانوا عليه ، وعلى الإسلام ، وعاهدهم سلمة على ألا يحدث حدثاً ويعفوه ، فأبوا ولم يثقوا بحمقه أن يقبلوا منه عهداً ، فأفلت ليلاً ؛ فعمد إلى عسكر خالد ، فصاح به الحرس ، وفزعت بنو حنيفة ، فاتبعوه فأدركوه في بعض الحوائط ، فشد عليهم بالسيف ؛ فاكتنفوه بالحجارة ، وأجال السيف على حلقه فقطع أوداجه ، فسقط في بئر فمات .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الضحاك بن يربوع ، عن أبيه ، قال : صالح خالد بني حنيفة جميعاً إلا ما كان بالعرض والقرية فإنهم سبوا عند انبثات الغارة ، فبعث إلى أبي بكر ممن جرى عليه القسم بالعرض والقرية من بني حنيفة أو قيس بن ثعلبة أو يشكر ، خمسمائة رأس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثم إن خالداً قال لمجاعة : زوجني ابنتك ، فقال له مجاعة : مهلاً ، إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك . قال : أيها الرجل ، زوجني ؛ فزوجه ؛ فبلغ ذلك أبا بكر ، فكتب إليه كتاباً يقطر الدم : لعمري يا بن أم خالد ، إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد ! قال : فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول : هذا عمل الأعيسر - يعنى عمر بن الخطاب - وقد بعث خالد بن الوليد وفداً من بني حنيفة إلى أبي بكر ، فقدموا عليه ، فقال لهم أبو بكر : ويحكم ! ما هذا الذي استزل منكم ما استزل ! قالوا : يا خليفة رسول الله ؛ قد كان الذي بلغك مما أصابنا كان أمراً لم يبارك الله عز وجل له ولا لعشيرته فيه ، قال : على ذلك ، ما الذي دعاكم به ! قالوا : كان يقول : ((يا ضفدع نقي نقي ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ؛ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ؛ ولكن قريشاً قوم يعتدون)) .
قال أبو بكر : سبحان الله ! ويحكم ! إن هذا لكلام ما خرج من إل ولا بر ، فأين يذهب بكم ! فلما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة - وكان منزله الذي به التقى الناس أباض ؛ واد من أودية اليمامة . ثم تحول إلى واد من أوديتها يقال له الوبر - كان منزله بها .
ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين

قال أبو جعفر : وكان فيما بلغنا من خبر أهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا سيف ، قال : خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين ؛ وكان من حديث البحرين أن النبي صلى الله عليه وسلم والمنذر بن ساوى اشتكيا في شهر واحد ، ثم مات المنذر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقليل ، وارتد بعده أهل البحرين ، فأما عبد القيس ففاءت ، وأما بكر فتمت على ردتها ؛ وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا .
حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : قدم الجارود بن المعلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرتاداً ، فقال : أسلم يا جارود ، فقال : إن لي ديناً ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن دينك يا جارود ليس بشئ ، وليس بدين ؛ فقال له الجارود : فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك ؟ قال : نعم . فأسلم ومكث بالمدينة حتى فقه فلما أراد الخروج ، قال : يا رسول الله ، هل نجد عند أحد منكم ظهراً نتبلغ عليه ؟ قال : ما أصبح عندنا ظهر ، قال : يا رسول الله ؛ إنا نجد بالطريق ضوال من هذه الضوال ، قال : تلك حرق النار ، فإياك وإياها . فلما قدم على قومه دعاهم إلى الإسلام فأجابوه كلهم ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم . فقالت عبد القيس : لو كان محمد نبياً لما مات ؛ وارتدوا ، وبلغه ذلك فبعث فيهم فجمعهم ، ثم قام فخطبهم ، فقال : يا معشر عبد القيس ؛ إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ولا تجيبوني إن لم تعلموا . قالوا : سل عما بدا لك ، قال : تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى ؟ قالوا : نعم ، قال : تعلمونه أو ترونه ؟ قالوا : لا بل نعلمه ، قال : فما فعلوا ؟ قالوا : ماتوا ، قال : فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ؛ وأنك سيدنا وأفضلنا . وثبتوا على إسلامهم ، ولم يبسطوا ولم يبسط إليهم وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر والمسلمين ، فكان المنذر مشتغلاً بهم حياته ، فلما مات المنذر حصر أصحاب المنذر في مكانين حتى تنقذهم العلاء .
قال ابو جعفر : وأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عنه ، قال : لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث أبو بكر رضى الله عنه العلاء بن الحضرمي . وكان العلاء هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم المنذر ، فأقام بها العلاء أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات المنذر بن ساوى بالبحرين بعد متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عمرو بن العاص بعمان ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بها فأقبل عمرو ، فمر بالمنذر بن ساوى وهو بالموت فدخل عليه فقال المنذر له : كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للميت من المسلمين من ماله عند وفاته ؟ قال عمرو : فقلت له : كان يجعل له الثلث ؛ قال : فما ترى لي أن أصنع في ثلث مالي ؟ قال عمرو : فقلت له : إن شئت قسمته في أهل قرابتك ، وجعلته في سبيل الخير ؛ وإن شئت تصدقت به فجعلته صدقة محرمة تجري من بعدك على من تصدقت به عليه . قال : ما أحب أن أجعل من مالي شيئاً محرماً كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولكن أقسمه ، فأنفذه على من أوصيت به له يصنع به ما يشاء .
قال : : فكان عمرو يعجب لها من قوله . وارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب ، إلا الجارود بن عمرو بن حنش بن معلى ؛ فإنه ثبت على الإسلام ومن معه من قومه ، وقام حين بلغته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأكفر من لا يشهد . واجتمعت ربيعة بالبحرين وارتدت ، فقالوا : نرد الملك في آل المنذر ، فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر ، وكان يسمى الغرور ، وكان يقول حين أسلم وأسلم الناس وغلبهم السيف : لست بالغرور ؛ ولكنى المغرور

حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمير بن فلان العبدي ، قال : لما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بن وائل على الردة ، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم بزل كافراً ، حتى نزل القطيف وهجر ، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة ، وبعث بعثاً إلى دارين ، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم ، وكانوا مخالفين لهم ، يمدون المنذر والمسلمين ؛ وأرسل إلى الغرور بن سويد ، أخي النعمان بن المنذر ؛ فبعثه إلى جؤاثي ، وقال : اثبت ، فإني إن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة . وبعث إلى جؤاثي ، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر ، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد الله بن حذف ؛ أحد بني أبي بكر بن كلاب ، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا . وقال في ذلك عبد الله بن حذف :
ألا أبلغ أبا بكر رسولاً ... وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود في جؤائي محصرينا !
كأن دماءهم في كل فج ... شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا الصبر للمتوكلينا
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية ابن بلال ، عن سهم بن منجاب ، عن منجاب بن راشد ، قال : بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين ؛ فلما أقبل إليها ؛ فكان بحيال اليمامة ، لحق به ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة من بني سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفه ، وكان متلدداً ؛ وقد ألحق عكرمة بعمان ثم مهرة ، وأمر شرحبيل بالمقام حيث انتهى إلى أن يأتيه أمر أبي بكر ، ثم يغاور هو وعمرو بن العاص أهل الردة من قضاعة . فأما عمرو بن العاص فكان يغاور سعداً وبلياً وأمر هذا بكلب ولفها ، فلما دنا منا ونحن في عليا البلاد لم يكن أحد له فرس من الرباب وعمرو بن تميم إلا جنبه ، ثم استقبله ؛ فأما بنو حنظلة فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى . وكان مالك بن نويرة في البطاح ومعه جموع يساجلنا ونساجله . وكان وكيع بن مالك في القرعاء معه جموع يساجل عمرا وعمرو يساجله ، وأما سعد بن زيد مناة فإنهم كانوا فرقتين ؛ فأما عوف والأبناء فإنهم أطاعوا الزبرقان بن بدر ، فثبتوا على إسلامهم وتموا وذبوا عنه ؛ وأما المقاعس والبطون فإنهما أصاخا ولم يتابعا ؛ إلا ما كان من قيس بن عاصم ؛ فإنه قسم الصدقات التي كانت اجتمعت إليه في المتقاعس والبطون حين شخص الزبرقان بصدقات عوف والأبناء ؛ فكانت عوف والأبناء مشاغيل بالمقاعس والبطون . فلما رأى قيس بن عاصم ما صنعت الرباب وعمرو ومن تلقى العلاء ندم على ما كان فرط منه ، فتلقى العلاء بإعداد ما كان قسم من الصدقات ، ونزع عن أمره الذي كان هم به ، واستاق حتى أبلغها إياه ، وخرج معه إلى قتال أهل البحرين ؛ وقال في ذلك شعراً كما قال الزبرقان في صدقته حين أبلغها أبا بكر ؛ وكان الذي قال الزبرقان في ذلك :
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها
معاً ومنعناها من الناس كلهم ... ترامى الأعادي عندنا ما يضيرها
فأديتها كي لا أخون بذمتى ... محانيق لم تدرس لراكب ظهورها
أردت بها النقوى ومجد حديثها ... إذا عصبة سامى قبيلي فخورها
وإني لمن حي إذا عد سعيهم ... يرى الفخر منها حيها وقبورها
أصاغرهم لم يضرعوا وكبارهم ... رزان مراسيها ، عفاف صدورها
ومن رهط كناد توفيت ذمتي ... ولم يثن سيفي نبحها وهريرها
ولله ملك قد دخلت وفارس ... طعنت إذا ما الخيل شد مغيرها
ففرجت أولاها بنجلاء ثرة ... بحيث الذي يرجو الحياة يضيرها
ومشهد صدق قد شهدت فلم أكن ... به خاملاً واليوم يثنى مصيرها
أرى رهبة الأعداء مني جراءةً ... ويبكي إذا ما النفس يوحى ضميرها
وقال قيس عند استقبال العلاء بالصدقة :

ألا أبلغا عني قريشاً رسالة ... إذا ما أتتها بينات الودائع
حبوت بها في الدهر أعراض منقر ... وأيأست منها كل أطلس طامع
وجدت أبي والخال كانا بنجوة ... بقاع فلم يحلل بها من أدافع

فأكرمه العلاء ، وخرج مع العلاء بن عمرو وسعد الرباب مثل عسكره ، وسلك بنا الدهناء ؛ حتى إذا كنا في بحبوحتها والحنانات والعزافات عن يمينه وشماله ، وأراد الله عز وجل أن يرينا آياته نزل وأمر الناس بالنزول ، فنفرت الإبل في جوف الليل ؛ فما بقي عندنا بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلا ذهب عليها في عرض الرمل ، وذلك حين نزل الناس ، وقبل أن يحطوا ؛ فما علمت جمعاً هجم عليهم من الغم ما هجم علينا وأوصى بعضنا إلى بعض ، ونادى منادي العلاء : اجتمعوا ، فاجتمعنا إليه ، فقال : ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم ؟ فقال الناس : وكيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم شمسه حتى نصير حديثاً ! فقال : أيها الناس ؛ لا تراعوا ، ألستم مسلمين ! ألستم في سبيل الله ! ألستم أنصار الله ! قالوا : بلى ، قال : فأبشروا ؛ فواله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم . ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا ، ومنا المتيمم ، ومنا من لم يزل على طهوره ؛ فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس ، فنصب في الدعاء ونصبوا معه ؛ فلمع لهم سراب الشمس ؛ فالتفت إلى الصف ، فقال : رائد ينظر ما هذا ؟ ففعل ثم رجع ، فقال : سراب ، فأقبل على الدعاء ، ثم لمع لهم آخر فكذلك ، ثم لمع لهم آخر ، فقال : ماء ، فقام وقام الناس ، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه ، فشربنا واغتسلنا ، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد من كل وجه ، فأناخت إلينا ، فقام كل رجل إلى ظهره ، فأخذه ، فما فقدنا سلكاً . فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النهل ؛ وتروينا ثم تروحنا - وكان أبو هريرة رفيقي - فلما غبنا عن ذلك المكان ، قال لي : كيف علمك بموضع ذلك الماء ؟ فقلت : أنا من أهدى العرب بهذه البلاد قال : فكن معي حتى تقيمني عليه ، فكررت به ، فأتيت به على ذلك المكان بعينه ؛ فإذا هو لا غدير به ، ولا أثر للماء ، فقلت له : والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان ؛ وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعاً قبل اليوم ؛ وإذا إداوة مملوءة ، فقال : يا أبا سهم ، هذا والله المكان ؛ ولهذا رجعت ورجعت بك . وملأت إداوتي ثم وضعنها على شفيره ، فقلت صلى الله عليه وسلم إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها؛ وإن كان غياثاً عرفته ؛ فإذا من من المن ، فحمد الله ، ثم سرنا حتى ننزل هجر. قال: فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزل على الحطم مما يليكما ؛ وخرج هو فيمن جاء معه وفيمن قدم عليه ؛ حتى ينزل عليه مما يلي هجر، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم ؛ فكانوا كذلك شهراً ؛ فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة ؛ كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال ، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمه عجلية - فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له صلى الله عليه وسلم من أنت ؟ فانتسب لهم ، وجعل ينادي: يا أبجراه ! فجاء أبجر بن بجير ، فعرفه فقال : ما شأنك ؟ فقال : لا أضيعن الليلة بين اللهازم ! علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزة ! أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود ! فتخلصه، وقال : والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة ! فقال : دعني من هذا وأطمعني ؛ فإني قد مت جوعاً. فقرب له طعاماً ؛ فأكل ثم قال : زودني واحملني وجوزني أنكطلق إلى كيتي. ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب ، ففعل وحمله على بعير ، وزوده وجوزه ؛ وخرج عبد الله بن حذف حتى دخل عسكر المسلمين ، فأخبرهم أن القوم سكارى ، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عليهم عسكرهم، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاءوا ، واقتحموا الخندق هرابا ، فمترد ، وناج ودهش ، ومقتول أو مأسور ، واستولى المسلمون على ما في العسكر ؛ لم يفلت رجل إلا بما عليه ؛ فأما أبجر فأفلت ، وأما الحطم فإنه الحطم بعل ودهش، وطار فؤاده ؛ فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم - ليركبه ؛ فلما وضع رجله في الركاب انقطع به ، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم ، والحطم يستغيث ويقول : ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني! فرفع صوته ، فعرف صوته

فقال : أبو ضبيعية ! قال : نعم ، قال : أعطني رجلك أعقلك ، فأعطاه رجله يعقله ، فنفحها فأطنها من الفخذ ، وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه ، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال : هل لك في الحطم أن تقتله ؟ ويقول : ذاك لمن لا يعرفه ، حتى مر به قيس بن عاصم ، فقال له ذلك ، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة ، قال : واسوأتاه ! لو علمت الذي به لم أحركه ؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم ، فاتبعوهم ، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب ، وسلم النسا ؛ فكانت رادة ، وقال عفيف بن المنذر :ال : أبو ضبيعية ! قال : نعم ، قال : أعطني رجلك أعقلك ، فأعطاه رجله يعقله ، فنفحها فأطنها من الفخذ ، وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه ، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال : هل لك في الحطم أن تقتله ؟ ويقول : ذاك لمن لا يعرفه ، حتى مر به قيس بن عاصم ، فقال له ذلك ، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة ، قال : واسوأتاه ! لو علمت الذي به لم أحركه ؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم ، فاتبعوهم ، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب ، وسلم النسا ؛ فكانت رادة ، وقال عفيف بن المنذر :
فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا ... وما كل من يهوى بذلك عالم
ألم تر أنا قد فللنا حماتهم ... بأسرة عمرو والرباب الأكارم
وأسر عفيف بن المنذر الغرورين سويد ، فكلمته الرباب فيه ، وكان أبوه ابن أخت التيم ، وسألوه أن يجيره ، فقال للعلاء : إني قد أجرت هذا ، قال : ومن هذا ؟ قال : الغرور ، قال : أنت غررت هؤلاء ، قال : أيها الملك ، إني لست بالغرور ؛ ولكني المغرور ، قال : أسلم ، فأسلم وبقي بهجر ، وكان إسمه الغرور ، وليس بلقب ؛ وقتل عفيف المنذر بن سويد المنذر، أخا الغرور لأمه، وأصبح العلاء فقسم الأنفال ، ونفل رجالاً من أهل ثباتا ، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمتنة بن أثال ؛ فأما ثمامة فنفل ثباباً فيها خميصة ذات أعلام ، كان الحطم يباهي فيها ، وباع الثباب وقصد عظم الفلال لدارين ، فركبوا فيها السفن ، ورجع الآخرون إلى وائل فيهم ؛ فكتب العلاء بن الحضرمي إلى عامر بن عبد الأسود بلزوم ما هم عليه والقعود لأهل الردة بكل سبيل ، وأمر مسمعاً بمبادرتهم ، وارسل إلى خصفة التيمي والمثنى بن حارثة الشيباني ، فأقاموا لأولئك بالطريق ، فمنهم من أناب ، فقبلوا منه واشتملوا عليه ؛ ومنهم من أبى ولج فمنع من الرجوع فرجعوا عودهم على بدئهم ؛ حتى عبروا إلى دارين ، فجمعهم الله بها ، وقال في ذلك رجل من بني ضبيعة بن عجل ، يدعى وهبا ، يعير من ارتد من بكر بن وائل
ألم تر أن الله يسبك خلقه ... فيخبث أقوام ويصفو معشر
لحى الله أقواماً اصيبوا بخنعة ... أصابهم زيد الضلال ومعمر!
ولم يزل العلاء مقيماً في عسكر المشركين حتى رجعت إليه الكتب من عند من كان كتب إليه من بكر بن وائل ، وبلغه عنهم القيام بأمر الله ، والغضب لدينه ، فلما جاءه عنهم من ذلك من ذلك ما كان يشتهي ، أيقن أنه لن يؤتى من خلقه بشئ يكرهه على أحد من أهل البحرين ، وندب الناس إلى دارين ، ثم جمعهم فخطبهم ، وقال : إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرد الحرب في هذا البحر ؛ وقد أراكم من آباته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم ، ثم استعرضوا البحر إليهم ، فإن الله قد جمعهم ، فاقلوا : مفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا .

فارتحل وارتحلوا ، حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموا على الصاهل ، والجامل ، والشاحج والناهق ؛ والراكب والراجل ، ودعا ودعوا ؛ وكان دعاؤه ودعاؤهم : يا أرحم الراحمين ، يا كريم ، يا كحليم ، يا أحد ، يا صمد ي حي يا محيي الموتى ، يا حي يا قيوم ، لا إله إإلا أنت يا ربنا . فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعاً يمشون على مثل رملة ميثاء ، فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر في بعض الحالات ، فالتقوا بها ، واقتتلوا قتالاً شديداً ، فما تركوا بها مخبراً وسبوا الذراري ، واستاقوا الأموال ؛ فبلغ نفل الفارس ستة آلاف ، والراجل ألفين ، قطعوا ليلهم وساروا يومهم ؛ فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا ، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر :
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل!
دعونا الذي شق البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
ولما رجع العلاء إلى البحرين ، وضرب الإسلام فيها بجرانه ، وعز الإسلام وأهله ، وذل الشرك وأهله ؛ أقبل الذين في قلوبهم ما فيها على الإرجاف مرجفون ، وقالوا : ها ذاك مفروق ، قد جمع رهطه. شيبان وتغلب والنمر ، فقال لهم أقوام من المسلمين : إذا تشغلهم عنا اللهازم - واللهازم يومئذ قد استجمع أمرهم على نصر العلاء وطابقوا . وقال عبد الله بن حذف في ذلك :
لا توعدنا بمفرق وأسرته ... إن يأتنا يلق فينا سنة الحطم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا ... لأمة داخلون النار في أمم
فالنخل ظاهره خيل وباطنه ... خيل تكدس بالفتيان في النعم
وأقفل العلاء بن الحضرمي الناس ، فرجع الناس إلا من أحب المقام فقفلنا وقفل ثمامة ، ورأوا خميصة الحطم عليه دسوا له رجلاً ، وقالوا : سله عنها كيف صارت له ؟ وعن الحطم : أهو قتله أو غيره ؟ فأتاه ، فسأله عنها ، فقال : نفلتها . قال : أأنت قتلت الحطم : أهو قتله الحطم ؟ قال : لا ، ولوددت أنى كنت قتلته ، قال : فما بال هذه الخمصية معك ؟ قال : ألم أخبرك ! فرجع إليهم فأخبرهم ، فتجمعوا له ، ثم أتوه فاحتوشوه ؛ فقال : ما لكم ؟ قالوا : هل ينفل إلا القاتل ! قال إنها لم تكن عليه ، إنما وجدت في رحله ، قالوا : كذبت . فأصابوه .
قال : وكان مع المسلمين راهب في هجر ؛ فأسلم يومئذ فقيل : ما دعاك إلى الإسلام ؟ قال : ثلاثة أشياء ، خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل : فيض في الرمال ، وتمهيد أثباج البحار ، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر . قالوا : وما هو ؟ قال : اللهم أنت الرحمن الرحيم ؛ لا إله غيرك ، والبديع ليس قبلك شئ ، والدائم غير الغافل ، والحي الذي لا يموت ، وخالق ما يرى وما لا يرى ، وكل يوم أنت في شأن ، وعلمت اللهم كا شئ بغير تعلم فعلمت أن القوم لم يعانوا أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله .
فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون من ذلك الههجري بعد وكتب العلاء إلى أبي بكر : أما بعد ؛ فإن الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضاً لا ترى غوار به ، وأرانا آية وعبرة بعد غم وكرب ، لنحمد الله ونمجده ، فادع الله واستنصره لجنوده وأعوان دينه.
فحمد أبو بكر الله ودعاه ، وقال : وما زلت العرب فيما تحدث عن بلدانها يقولون : إن لقمان حين سئل عن الدهناء : أيحتقرونها أو يدعونها ؟ نهاهم ، وقال لا تبلغها الأرشية ، ولم تقر العيون ؛ وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها . اللهم أخلف محمداً صلى الله عليه وسلم فينا ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم . قتله زيد ومعمر : أما بعد، فإن الله تبارك إسمه سلب عدونا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه منالنهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم ، فوجدناهم سكارى . فقلناهم إلا الشريد ، وقد قتل الله الحطم .
فكتب إلي أبو بكر : أما بعد، فإن بلغك عن نبي شيبان بن ثعلبة تمام على ما بلفك ، وخاض فيه المرجفون ، فابعث إليهم جنداً فأوطئهم وشرد بهم من خلفهم . فلم يجتمعوا ؛ ولم يصر ذلك من إرجافهم إلى شئ ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن

قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين . فقال محمد بن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد ، عن سلمة عنه : كان فتح اليمانة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشأم في سنة اثنتي عشرة وأما زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره ، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وأبي عييدة بن محمد بن أبي عبيدة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء ، بإسنادهم عن مشيخهم وغيرهم من علماء أهل الشأم وأهل العراق ؛ أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بن الوليد وغيره في سنة إحدى عشرة ، إلا أمر ربيعة بن بجير ؛ فإنه كان في سنة ثلاث عشرة .
وقصة ربيعة بن بجير التغلبي أن خالد بن الوليد - فيما ذكر في خبره هذا الذي ذكرت عنه - بالمصيخ والحصيد ، قام وهو في جمع من المرتدين فقتله ، وغنم وسبى ، وأصاب ابنة لربيعة بن بجير ، فسباها وبعث بالسبى إلى أبي بكر رحمه الله ، فصارت ابنة ربيعة إلى على بن أبي طالب عليه السلام .
فأما أمر عمان فإنه كان - فيما كتب إلى السرى بن يحيى يخبرني عن شعيب ، عن شيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد والغصن بن القاسم وموسى الجليوسي عن ابن محيريز ، قال : نبغ بعمان ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي ، وكا يسامي في الجاهلية الجلندي ؛ وادعى بمثل ما ادعى به من كان نبياً ن وغلب على عمان مرتداً ، وألجأ جيفراً وعباداً إلى الأجبال والبحر ؛ فبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره بذلك ، ويستجيشه عليه . فبعث أبو بكر الصديق حذيفة بين محصن الغلفاني من حمير ، وعرفجة البارقي من الأزد ؛ حذيفة إلى عمان وعرفجه إلى نهرة . وأمرهما أن يجدا السير تى يقدما عمان ؛ فإذا كانا منها قريباً كاتباً جيفراً وعباداً وعملاً برأيهما . فمضيا لما أمرا به ؛ وقد كان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة ، وأتبعه شر حبيل بن حسنة وسمى لهما اليمامة ؛ وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة . فبادر عكرمة شرحبيل وطلب حظوة الظفر ، فنكبه مسيلمة ؛ فأحجم عن مسيلمة ، وكتب إلى أبي بكر بالخبر ، وأقام شرحبيل عليه حيث بلغه الخبر ، وكتب أبو بكر إلى شرحبيل بن حسنة ؛ أن أقم بأدنى اليمامة حتى يأتيك أمري ، وترك أن يمضيه لوجهه له ؛ وكتب إلى عكرمة يعنفه لتسرعه ، ويقول : لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء ، والحق بعمان حتى نقاتل أهل عمان ، وتعين حذيفة وعرفجة ، وكل واحد منكم على خيلة ، وحذيفة ما دمتم في عمله على الناس ، فإذا فرغتم فامض إلى مهرة ثم ليكن وجهك منها إلى اليمين ؛ حتى تلاقى المهاجر ابن أبي أمية باليمن وبحضرموت ، وأوططئ من بين عمان واليمن ممن ارتد ؛ وليبلعنى بلاؤك .

فمضى عكرمة في أثر عرفجة وحذيفة فيمن كان معه حتى لحق بهما قبل أن ينتهيا إلى عمان ، وقد عهد إليهم أن ينتهوا إلى رأى عكرمة بعد الفراغ في السير معه أو المقام بعمان ، فلما تلاحقوا - وكانوا قريباً من عمان بمكتان يدعى رجاماً - واسلوا جيفراً وعباداً . وبلغ لقيطاً مجئ الجيش ، فجمع جموعه وعسكر بدباً ، وخرج جيفر وعباد من موضعهما الذي كانا فيه ، فعسكرا بصحار ، وبعثا إلى حذيفة وعرفجة وعكرمة في القدوم عليهما ، فقدموا عليهما بصحار ، فاستبرءوا ما يليهم حتى رضوا ممن يليهم ؛ وكاتبوا رؤساء مع لقيط وبدءوا بسيد بني جديد فكاتبهم وكاتبوه حتى ارفضوا عنه ؛ ونهدوا إلى لقيط ، فالتقوا على دبا ، وقد كمع لقيط العيالات ، فجعلهم وراء صفوفهم ليجربهم ؛ وليحافظوا على حرمهم - ودبا هي المصر والسوق العظمى - فاقتتلوا بدبا قتالاً شديداً ؛ وكاد لقيط يستعلى الناس ؛ فبيناهم كذلك ، وقد رأى المسلمون الخلل ورأى المشركون الظفر ، جاءت المسلمين موادهم العظمى من بني ناجية ؛ وعليهم الخريت بن راشد ، ومن عبد القيس وعليهم سيحان بن صوحان ، وشواذب عمان من نبي ناجية وعبد القيس ، فقوى الله بهم أهل الإسلام ، ووهن الله بهم أهل الشرك ؛ فولى المشركون الأدبار ، فقتلوا منهم في المعركة عشرة آلاف ، وركبوهم حتى أثخنوا فيهم ، وسبوا الذراري ، وقسموا الأموال على المسلمين ، وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة ، ورأى عكرمة وحذيفة أن يقيم حذيفة بعمان حتى يوطئ الأمور ، ويسكن الناس ؛ وكان الخمس ثمانمائة رأس ، وغنموا السوق بحذافيرها . فسار عرفجة إلى أبي بكر بخمس السبى والمغانم ، وأقام حذيفة لتسكن الناس ، ودعا القبائل حول عمان في الناس ، وبدأ بمهرة ، وقال في ذلك عباد الناجي :
لعمري لقدي لاقى لقيط بن مالك ... من الشر ما أخزى وجوه الثعالب
وادي أبا بكر ومنهل فارتمى ... خليجان من تياره المتراكب
ولم تنهه الأولى ولم ينكأ العدا ... فألوت عليه خيله بالجنائب
ذكر خبر مهرة بالنجد ولما فرغ عكرمة وعرفجة وحذيفة من ردة عمان ، خرج عكرمة في جنده نحوه مهرة ، واستنصر من حول عمان وأهل عمان ، وشسار حتى يأتي مهرة ، ومعه ممن استنصره من ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وسعد من بني تميم بشر ؛ حتى اقتحم على مهرة بلادها ، فوافق بها جمعين من مهرة : أما أحدهما فبمكان من أرض مهرة يقال له : جيروت وقد امتلأ ذلك الحيز إلى نذدون - قاعين من قيعان مهرة - عليهم شخريت ، رجل من بني شخراة ؛ وقد انقادت مهرة جميعاً لصاحب هذا الجمع ؛ عليهم المصبح ، أحد بني محارب والناس كلهم كعه ؛ إلا ما كان من شخريت ، فكانا مختلفين ؛ كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه ، وكل واحد من الجندين يشتهي أن يكون الفلج لرئيسهم ؛ وكان ذلك مما أعان الله به المسلمين وقواهمم على عدوهم ؛ ووهنهم .
ولما رأى عكرمة قلة من مع شخريت دعاه إلى الرجوع إلى الإسلام فكان لأول الدعاء ، فأجابه ووهن الله بذلك المصبح . ثم أرسل إلى المصبح يدعوه إلى الإسلام والرجوع عن الكفر ؛ فاغتر بكثرة من معه وازداد مباعدة لمكان شخريت ، فسار إليه عكرمة ، وسار معه شخريت ، فالتقوا هم والمصبح بالنجد ؛ فاقتتلوا أشد من قتال دبا .
ثم أن الله كشف ج - نود المرتدين وقتل رئيسهم ، وركبهم المسلمون فقتلوا منهم ما شاؤا وأصابوا ما شاءوا ، وأصابوا فيما أصابوا ألفى نجيبة ، فخمس عكرمة الفئ ، فبعث بالأخماس مع شخريت إلى أبي بكر ، وقسم الأربعة الأخماس على المسلمين وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع والأداة وأقام عكرمة حتى جمعهم على الذي يجب ، وجمع أهل النجد ؛ أهل رياض الروضة ، وأهل الساحل ؛ وأهل الجزائر وأهل المر واللبان وأهل جيروت ، وظهور الشحر والصبرات ، وينعت ، وذات الخيم ؛ فبايعوا على الإسلام فكتب بذلك مع البشير - وهو السائب أحد نبي عابد من مخزوم - فقدم على أبي بكر بالفتح ، وقدم شخريت بعده بالأخماس ، وقال في ذلك علجوم المحاربي :
جزى الله شخريتاً وأفناء هيثم ... وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب
جزاء مسئ لم يراقب لذمة ... ولم يرجها فيما يرجى الأقارب
أعكرمة لولا قومي وفعلهم ... لضاقت عليك بالفضاء المذاهب

وكنا كمن إقتاد كفاً بأخنها ... وحلت علينا في الدهور النوائب
ذكر خبر المرتدين باليمن قال أبو جعفر : كتب إلى السري بن يحيى ، عن شعيب ، عن سيف عن طلحة ، عن عكرمة وسهل عن القاسم بن محمد ، قال : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وأرضها عتاب بن أسيد والطاهر بن أبي هالة؛ عتاب على بني كنانة ، والطاهر على عك ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اجعلوا عمالة عك في بني أبيها معد بن عدنان وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص ومالك بن عوف النصري ؛ عثمان على أهل المدر ومالك على أهل الوبر أعجاز هوازن ، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سيفان بن حرب ؛ عمرو بن حزم على الصلاة وأبو سفيان بن حرب على الصدقات ، وعلى ما بين رمع وزبيد إلى حد نجران خالد بن سعيد بن العاص ، وعلى همدان كلها عامر بن شهر ، وعلى صنعاء فيروز الديلمي يسانده داذواية وقيس بن المكشوف ، وعلى الجند يعلى بن أمية ، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري وعلى الأشعريين مع عك الطاهرين أببي هالة ومعاذ بن جبل يعلم القوم ، وينتقل في عمل كل عامل ، فنزابهم الأسود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فحاربه النبي عليه السلام بالرسل والكتب حتى قتله الله وعاد أم رالنبي عليه السلام كما كان قبل وفاة النبي عليه السلام بليلة ؛ إلا أن مجيئهم لم يحرك الناس ، والناس مستعدون له .
فلما بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم انتقضت اليمن والبلدان ؛ وقد كانت تذبذبت خيول العنسي - فيما بين نجران إلى صنعاء في عرض ذلك البحر - لا تأوى إلى أحد ، ولا يأوى إليها أحد ؛ فعمرو بن معد يكرب بحيال فروة بن مسك ، ومعاوية بن أس في فالة العيني يتردد ؛ ولم يرجع من عمال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد ، ولجأ سائر العمال إلى المسلمين ؛ واعترض عمرو بن معد يكرب خالد بن سعيد فسلبه الصماصمة . ورجعت الرسل مع من رجع بالخبر ، فرجع جرير بن عبد الله والأقراع بن عبد الله ووبر بن يحنس ، فحارب أبو بكر المرتدة جميعاً بالرسل والكتب ، كما كان رسول صلى الله عليه وسلم حاربهم ؛ إلى أن رجع أسامة بن زيد من الشأم ، وحزر ذلك ثلاثة أشهر ، إلا ما كان من أهل ذي حسي وذي القصة . ثم كان أول مصادم عند رجوع أسامة هم . فخرج إلى الأبرق فلم يصمد لقوم فيفلهم إلا استنفر من لم يرتد منهم إلى آخرين ، فيفل بجطائفة من المهاجرين والأنصار والمستنفرة ممن لم يرتد إلى التي تليهم ؛ حتى فرغ من آخر أمور الناس ، ولا يستعين بالمرتدين.
فكان أول من كتب إليه عتاب بن أسيد ، كتب إليه بركوب من ارتد من أهل عمله بمن ثبت على الإسلام ، وعثمان بن أبي العاص بركوب من ابن أسيد إلى أهل عمله بمن ثبت على الإسلام فأا عتاب فإنه بعث خالد ابن أسيد إلى أهل تهامة ، وقد تجمعت بها جماع من مدلج ، وتأشش إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء كنانة ، عليهم جندب بن سلمى ، أحد بني شنوق ، من بني مدلج ، ولم يكن في عمل عتاب جمع غيره، فالتقوا بالأبارق ، ففرقهم وقتلهمم ، واستحر القتل في نبي شنوق ، فما زالوا أذلاء قليلاً ، وبرت عمالة عتاب ، وأفلت جندب ، فقال جندب في ذلك :
ندمت وأيقنت الغداة بأنني ... أتيت التي يبقى على المرء عارها
شهدت بأن الله لا شئ غيره ... بنى مدلج فالله ربى وجارها
وبعث عثمان بن أبي العاص بعثا إلى شنوءة ، وقد تجمعت بها جماع من الأزد وبجيلة وخثعم ؛ عليهم حميضة بن النعمان ، وعلى أهل الطائف عثمان بن ربيعة ، فالتقوا بشنوءة ، فهزموا تلك الجماع ، وتفقوا عن حمضية وهرب حمضية في البلاد ، فقال في ذلك عثمان بن ربيعة :
فضضنا جمعهم والنقع كاب ... وقد تعدى على الغدر الفتوح
وأبرق بارق لما إلتقينا ... فعاد خلباً تلك البروق
خبر الأخابث من عك

قال أبو تجعفر : وكان أول منتفض بعد النبي صلى الله عليه وسلم بتهامة عك والأشعرون ، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم تجمع منهم طخارير ، فأقبل إليهم طخارير من الأشعرين وخضهم فانضموا إليهم ، فأقاموا على الأعلاب طريق الساحل ، وتأشب إليهم أوزاع على غيري رئيس ؛ فكتب بذلك الطاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر ؛ وسار إليهم وكتب أيضاً بمسيرة إليهم ، ومعه مسروق العكي حتى انتهى إلى تلك الأوزاع ، على الأعلاب ، فالتقوا فاقتتلوا ، فهزمهم الله ، وقتلوهم كل قتلة ؛ وأنتنت السبل لقتلهم ؛ وكان مقتلهم فتحاً عظيماً . وأجاب أبو بكر الطاهر قبل أن يأتيه كتابه بالفتح : بلغني كتابك نخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقاً وقومه إلى الأخابث وباعلاب، فقد أصبت ، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم ، وأقيموا بالأعلاب حتى يأمن طريق الأخابث ، ويأتيكم أنري . فسميت تلك الجوع من عك ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث ، وسمى ذلك الطريق طريق الأخابث ؛ وقال في ذلك الطاهرين أبي هالة:
ووالله لولا الله لا شئ غيره ... لما فض بالأجراع جمع العثاعث
فلم تر عيني مثل يوم رأيته ... بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنة خامر ... إلى القيمة الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة ... جهاراً ولم نحفل بتلك الهثاهث
وعسكر طاهر على طريق الأخابث ، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر أبي بكر رحمه الله قال أبو جعفر : ولما بلغ أهل نجران وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ أربعون ألف مقاتل ، من بني الأفعى ؛ الأمة التي كانوا بها قبل بني الحارث ؛ بعثوا وفداً ليجددوا عهداً ، فقدموا إليه فكتب لهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا الكتاب من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران ، أجارهم من جنده ونفسه وأجاز لهم ذمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما رجع عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله عز وجل في أرضهم وأرض العرب ؛ ألا يسكن بها دينان ؛ أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم ، وغائبهم وشاهدهم ، وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت ؛ وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير ؛ عليهم ما عليهم ، فإذا أدوه فلا يحشرون ولا يعشرون . ولا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيه ؛ ووفى لهم بكل ما كتب يحشرون ولا يعشرون . ولا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ؛ ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما في الكتاب من ذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار المسلين . وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق . شهد المسور بن عمرو ، وعمرو مولى أبي بكر.
ورد أبو بكر جرير بن عبد الله ، وأمره أن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله ، ثم يستنفر مقويهم ، فيقاتل بهم من ولى عن أمر الله ، وأمره أن يأتي خثعم ؛ فيقاتل من خرج غضباً لذى الخلصة ؛ ومن أراد إعادته حتى يقتلهم الله ، ويقتل من شاركهم فيه ؛ ثم يكون وجهه إلى نجران ، فيقيم بها حتى يأتيه أمره .
فخرج فنفذ لما أمره به أبو بكر ، فلم يقر له أحد إلا رجال في عدة قليلة ، فقتلهم وتتبعهم ؛ ثم كان وجهه إلى نجران ، فأقام بها انتظاراً أمر أبي بكر رحمه الله .
وكتب إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب بعثاً على أهل الطائف على كل مخلاف بقدره ، ويلى عليهم رجلا يأمنه ويثق بناجيته ؛ فضرب على كل مخلاف عشرين رجلاً ، وأمر عليهم أخاه وكتب إلى عتاب بن أسيد ؛ أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقو ؛ وابعث عليهم رجلاً تأمنه ، فسمى من يبعث ، وأمر عليهم خالد بن أسيد ؛ وأقام أمير كل قوم ، وقاموا على رجلً ليأتيهم أمر أبي بكر ، وليمر عليهم المهاجر.
ردة أهل اليمن ثانية

قال أبو جعفر : فممن ارتد ثانية منهم ، قيس بن عبد يغوث المكشوح ؛ كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف، قال : كان من حديث قيس في ردته الثانية ، أنه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم انتكث ، وعمل في تقل فيروز وداذويه وحشيش ، وكتب أبو بكر إلى عمير ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم ، وإلى شهر ذي يناف ؛ يأمرهم بالتمسك بالذي هم عليه والقيام بأمر الله والناس ، وبعدهم الجنود: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن أفلح ذي مران ، وسعيد بن العاقب ذي زود ؛ وسميفع بن ناكور ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم ، وشهر ذي يناف . أما بعد ، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز وجدوا معه فإني قد وليته.
كتب إلى السري عن شعيب عن سيف ، عن المستنير بن يزيد، عن عروة بن غزية الدثينى ، قال : لما ولى أبو بكر أمر فيروز ؛ وهم قبل ذلك متساندون ؛ هو وداً ذويه وجشيش وقيس ؛ وكتب إلى وجوه من وجوه أهل اليمن ؛ ولما سمع بذلك قيس أرسل إلى ذي الكلاع وأصحابه: إن الأبناء نزاع في بلادكم ، ونقلاء فيكم ؛ وإن تتركوهم لن يزالزا عليكم ؛ وقد أرى من الرأى أن أقتل رءوسهم وأخرجهم من بلادنا . فتبرءوا ، فلم يمالئوه ولم ينصروا الأبناء ، واعتزلوا وقالوا : لسنا مما ها هنا في شئ ، أنت صاحبهم وهم أصحابك .
فتربص لهم قيس . واستعد لقتل رؤسائهم وتسيير عامتهم ؛ فكاتب قيس تلك الفالة السيارة اللحجية ؛ وهم يصعدون في البلاد ويصوبون، محاربين لجميع من خالفهم ؛ فكاتبهم قيس في السر ؛ وأمرهم أن يتعجلوا إليه ؛ وليكون أمره وأمرهم واحداً ؛ وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن فكتبوا إليه بالإستجابة له ، وأخبروه أنهم إليه سراع فلم يفجأ أهل صنعاء إلا الخبر بدونهم منها ، فأتى قيس فيروز في ذلك كالفرق من هذا الخبر وأتى داذويه ؛ فاستشارهما ليلبس عليهما ، ولئلا يتهماه ، فنظروا في ذلك واطمأنوا إليه.
ثم إن قيساً دعاهم من الغد إلى طعام ، فبدأ بداذويه ، وثنى بفيروز ، وثلث بجيشيش ؛ فخرج داذويه حتى دخل عليه ؛ فلما دخل عليه عاجله فقتله ، وخرج فيروز يسير حتى إذا دنا سمع امرأتين على سطحين تتحدثان فقالت إحداهما : هذا مقتول كما قتل داوذويه ؛ فلقيهما فعاج حتى يرى أوى القوم الذي أربئوا ، فأخبر برجوع فيروز ؛ فخرجوا يرطضون ، وركض فيروز ، وتلقاه جشيش ، فخرج معه متوجهاً نحو جبل خولن - وهم أخوال فيروز - فسبقا الخيول إلى الجبل ، ثم ينزلا فتوقلا وعليهما خفاف ساذجة فما وصلا حتى تقطعت أقدامهما ، فانتهيا إلى خولان وامتنع فيروز بأخواله ، وآلى ألا ينتعل ساذجاً ، ورجعت الخيول إلى قيس ؛ فثار بصنعاء فأخذها ، وجبى ما حولها ، مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى ، وأتته خيول الأسود. ولما أوى فيروز إلى أخواله خولان فمنعوه وتأشب إليه الماس كتب إلى أبي بكر بالخبر . فقال قيس : وما خولان ! وما فيروز! وما قرار أووا إليه! وطابق على قيس عوام قبائل من كتب أبو بكر إلى رؤسائهم وبقى الرؤساء معتزلين ، وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق : أقر من أقام وأقر عياله ، وفرق عيال الذين هربوا إلى فيروز فرقتين ؛ فوجه إحداهما إلى عدن ؛ ليحملوا في البحر ، وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعاً : الحقوا بأرضكم ؛ وبعث معهم من يسيرهم ؛ فكان عيال الديلمي ممن سير في البر وعيال داذويه ممن شسير في البحر ؛ فلما رأى فيروز أن قد اجتمع عوام أهل اليمن على قيس ؛ وأن العيال قد سيروا وعرضهم للنهب، ولم يجد إلى فراق عسكره في تنقذهم سبيلا ؛ وبلغه ما قال قيس في استصغاره الأخوال والأبناء، فقال فيروز منتمياً ومفاخراً وذكر الظعن:
ألا ناديا ظعناً إلى الرمل ذي النخل ... وقولا لها ألا يقال ولا عذلي
وما ضرهم قول العداوة لو أنه ... أتى قومه عن غير فحش ولا بخل
فدع عنك ظعناً بالطريق التي هوت ... لطيتها صمد الرمال إلى الرمال
وإنا وإن كانت بصنعاء دارنا ... لنا نسل قوم من عرانينهم نسلى
وللديلم الرزام من بعد باسل ... أبى الخفض واختار الحرور على الظل

وكانت منابيت العراق جسامها ... لرهطى إذا كسرى مراجله تغلي
وباسل أصلى إن نميت ومنصبي ... كما كل عود منتهاه إلى الأصل
هم تركوا مجراى سهلاً وحصنوا ... فجاجي بحسن القول والحسب الجزل
فما عزنا فيالجهل من ذي عداوة ... أبي الله إلا أن يعز على الجهل
ولا عاقنا في السلم عن آل أحمد ... ولا خس في الإسلام إذ أسلموا قبلي
وإن كان سجل من قبيلي أرشنى ... فإني لراج أن يغرقهم سجلي
وقام فيروز في حربه، وتجرد لها، وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة رسولاً بأنه متخفر بهم، يستمدهم ويستنصرهم في ثقله على الذين يزعجون أثقال الأبناء، وأرسل إلى عك رسولا يستمدهم ويستنصرهم على الذين يزعجون أثقال الأبناء . فركبت عقيل وعليهم رجل من الحلفاء يقال له معاوية، فاعترضوا خيل قيس فتنقذوا أولئك العيال وقتلوا الذين سيرهم، وقصروا عليهم القرى ؛ إلى أن رجع فيروز إلى صنعاء، ووثبت عك ؛ وعليهم مسروق، فساروا حتى تنقذوا عيالات الأبناء وقصروا عليهم القرى، إلى أن رجع فيروز إلى صنعاء، وأمدت عقيل وعك فيروز بالرجال فلما أتته أمدادهم - فيمن كان اجتمع إليه - خرج فيمن كان تأشب إليه ومن أمده من عك وعقيل ، فناهد قيساً فالتقوا دون صنعاء ، فاقتتلوا فهزم الله قيساً في قومه ومن أنهضوا، فخرج هارباً في جنده حتى عاد معهم وعادوا إلى مكان الذي كانوا به مبادرين حين هربوا بعد مقتل العنسي، وعليهم قيس، وتذبذبت رافضة العنسي وقيس معهم فيمتا بين صنعاء ونجران، وكان عمرو بن معد يكرب بإزاء فروة بن مسيك في طاعة العنسي.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بن سلمة، قال: وكان من أمر فروة بن مسيك أنه كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال في ذلك:
لما رأيت ملوك حمير أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها
يممت راحلتي أمام محمد ... أرجو فواضلها وحسن ثنائها
وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له : هل ساءت ما لقى قومك يوم الرزم يا فروة أو سرك؟ قال: ومن يصيب في قومه بمثل الذي أصبت به في قوم الرزم إلا ساءت ذلك ! وكمان يوم الرزم بينهم وبين همدان على يغوث ؛ وثن كان يكون في هؤلاء مرة وفي هؤلاء مررة، فأرادت مراد أن تغلبها عليه في مرتهم فقتلهم همدان، ورئيسهم الأجدع أبو مسروق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن ذلك لم يزدهم في الإسلام إلا خيراً ؛ فقال : قد سرني إذ كان ذلك ، فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات مراد ومن نازلهم أو نزل دارهم . وكان عمرو بن معد يكرب قد فارق قومه سعد العشيرة في بني زبيد وأخلاقها، وانحاز إليهم وأسلم معهم ؛ فكان فيهم، فلما ارتد العنسي واتبعه عوام مذحج، اعتزل فروة فيمن أقام معه على الإسلام، وارتدعمرو فيمن ارتد، فخلفه العنسي، فجعله بإزاء فروة، فكان بحياله ويمتنع كل واحد منهما لمكان صابحه من البراح، فكانا ينهاديان الشعر، فقال عمرو يذكر إمارة فروة ويعينبها:
وجدنا ملك فروة شر ملك ... حماراً ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ... ترى الحولاء من خبث وغدر
فأجابه فروة:
أتاني عن أبي ثور كلام ... وقدماً كان في الأبغال يجري
وكان الله يبغضه قديماً ... على ما كل من خبث وغدر
فبيناهم كذلك قدم عكرمة أبين.

وكتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وموسى بن الغصن، عن ابن محيريز، قال: فخرج عكرمة من مهرة سائراً نحو اليمن حتى ورد أبين، ومعه بشر كثير من مهرة، وسعد بن زيد، والأزد، وناجية، وعبد القيس، وحدبان من بني مالك بن كنانة، وعمرو بن جندب من العنبر، فجمع النخع بعد من أصاب من مدبريهم فقال لهم: كيف كنتم في هذا الأمر؟ فقالوا : كنا في الجاهلية أهل صرنا إلى دين. لا نتعاطى ما يتعاطى العرب بعضها من بعض فكيف بنا إذا ثبت عوامهم وهرب من كان فارق من خاصتهم؛ واستبرأ النخع وحمير، وأقام لإجتماعهم، وأرز قيس بن عبد يغوث لهبوط عكرمة إلى اليمن إلى عمرو بن معد يكرب، فلما ضامه وقع بينهما تنازع، فتعايرا، فقال عمرو بن معد يكرب يعير قيساً غدره بالأبناء وقتله داذويه، ويذكر فراره من فيروز:
غدرت ولم تحسن وفاء ولم يكن ... ليحتمل الأسباب إلا المعود
وكيف لقيس أن ينوط نفسه ... إذا ما جرى والمضرحي المسود !
وقال قيس:
وفيت لقومي وأحتشدت لمعشر ... أصابوا على الأحياء عمراً ومرثدا
وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم ... كأصيد يسمو بالعزازة أصيدا
وقال عمرو بن معد يكرب:
فما إن داذوى لكم بفخر ... ولكن داذوى فضح الذمارا
وفيروز غداة أصاب فيكم ... وأضرب في جموعكم استجارا
ذكر خبر طاهر حين شخص مدداً لفيروز قال أبو جعفر الطبري رحمة الله : قد كان أبو بكر رحمة الله كتب إلى طاهر بن أبي هالة بالنزول إلى صنعاء وإعانة الأبناء ؛ مإلى مسروق، فخرجا حتى أتيا صنعاء، وكتب إلى عبد الله بن ثور بن أصغر، بأن يجمع إليه العرب ومن استجاب له من أهل تهامة، ثم يقيم بمكانه حتى يأتيه أمره.
وكان أول ردة عمرو بن معد يكرب أنه كان مع هخالد بن سعيد فخالفه، واستجاب لأسود، فسار إليه خالد بن سعيد حتى لقيه ؛ لافاختلفا ضربتين، فضربه خالد على عاتقه فقطع حمالة سيفه فوقع، ووصلت الضربة إلى عاتقه، وضربه عمرو فلم يصنع شيئاً، فلما أراد خالد أن يثنى عليه نزل فتوقل في الجبل، وسلبه فرسه وسيفه الصمصمامة، والحج عمرو فيمن لحج . وصارت إلى سعيد بن العاص الأصغر مواريث آل سعيد بن العاص الأكبر. فلما ولى الكوفة عرض عليه عمرو ابنته، فلم يقبلها، وأتاه في داره بعده سيوف كان خالداً أصابها باليمن فقال: أيها فضرب الإكاف فقطعه والبرذعة ؛ وأسرع في البغل، ثم رده على سعيد، وقال : لو زرتني في بيتي وهو لي لوهبته لك، فما كنت لأقبله إذ وقع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عنسيف، عن المستنير بن يزيد عن عروة بن غزية وموسى، من عند أبي بكر - وكان في آخر من فصل - اتخذ مكة طريقاً، فمر بها فاتبعه خالد بن أسيد، ومر بالطائف فاتبعه عبد الرحمن بن أبي العاص، ثم مضى حتى إذا حاذى جرير بن عبد الله ضمه إليه، وانضم إليه عبد الله بن ثور حين حازاه، ثم قدم على أهل نجران ؛ فانضم إليه فروة بم مسيك وفارق عمرو بن معد يكرب قيساً، وأقبل مستحيباً ؛ حتى دخل على المهاجر على غير أمان ؛ فأوثقه المهاجر ؛ وأوثق قيساً، وكتب بحالهما إلى أبي بكر رحمه الله، وبعث بهما إليه. فلما سار المهاجر من نجران إلى اللحجية، والتقت الخيول على تلك الفالة استأمنوا، فأبى أن يؤمنهم، فافترقوا فرقتين ؛ فلقى المهاجر إحداهمابعجيب، فأتى عليهم، ولقيت خيوله الأخرى بطريق الأخابث، فأتوا عليهم - وعلى الخيول عبد الله - وقتل الشرداء بكل سبيل، فقدم بقيس وعمرو على أبي بكر، فقال: يا قيس، أعدوت على عباد الله تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين! وهم بقتلة لووجد أمراً جلياً. وانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئاً، وكان ذلك عملاً عمل في سر لم يكن به بينه، فتجافى له عن دمه، وقال لعمرو ابن معد يكرب: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور! لو نصرت هذا الدين لرفعك الله . ثم خلى سبيله، ورد هما إلى عشائرهما، وقال عمرو: لا جرم!لأقبلن ولا أعود.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير وموسى قالا: سار المهاجر من عجيب، حتى ينزل صنعاء، وأمر أن يتبعوا شذاذ القبائل الذين هربوا ؛ فقتلوا من قدروا عليه منهم كل قتلة، ولم يعف متمرداً، وقبل توبة من أناب من غير المتمرد ؛ وعملوا في ذلك على قدر ما رأوا من آثارهم، ورجوا عندهم. وكتب إلى بكر بدخوله صنعاء وبالذي يتبع من ذلك.
ذكر خبر حضرموت في ردتهم قال أبو جعفر: كتب إلى السرى، عنشعيب، عنسيف، عن سهل بن يوسف، عن الصلت، عن كثير بن الصلت، قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن لبيد البياض على حضرموت. وعكاشة بن محض على السكاسك والسكون، والمهاجر على كندة - وكان بالمدينة لم يكن خرج حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه أبو بكر بعد إلى قتال من باليمن والمضي بعد إلى عمله.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان المخزومي، عن أبيه عن أم سلمة والمهاجرين أبي أمية، أ،ه كان تخلف عن تبوك، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه عاتب ؛ فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كيف ينفعني شئ وأنت عاتب على أخي! فرأت منه رقة ؛ فأومأت إلى خادمها ؛ فدعته، فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه وأمره على كندة. فاشتكى ولم يطق الذهاب ؛ فكتب إلى زياد ليقوم له على عمله: وبرأ بعد، فأتم له أبو بكر إمرته، وأمره بقتال من بين نجران إلى أقصى اليمن ؛ ولذلك أبطأ زياد وعكاشة عن مناجرة كندة انتظاراً له كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد ؛ قال : كان سبب ردة كندة إحابتهم الأسود العنسى حتى لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك الأربعة، وأنهم قبل ردتهم حين أسلموا وأسلم أهل بلاد حضرموت كلهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوضع من الصدقات أن يوضع صدقة بعض حضرموت في السكون والسكون في بعض حضرموت . فقال نفر من بني وليعة: يا رسول الله ، إنا لسنا بأصحاب إبل ؛ فإن رأيت أن يبعثوا إلينا بذلك على ظهر ! فقال: إن أنتكم! قالوا: فإنغ ننظر، وجاء ذلك الإبان، دعا زياد الناس إلى ذلك، فحضروه فقالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن لكم ظهراً، فهملوا فاحتملوا، ولا حوهم ؛ حتى لاحوا زيادا ؛ وقالوا له : أنت معهم علينا. فأبى الحضرميون، ولج الكنديون، فرجعوا إلى دارهم، وقدموا رجلً وأخروا أخرى، وأمسك عنهم زياد انتظاراً للمهاجر ؛ فلما قدم المهاجر صنعاء، كتب إلى أبي بكر بكل الذي صنع ، وأقام حتى قدم عليه جواب كتابه من قبل أبي بكر ؛ فكتب إليه أبو بكر وإلى عكرمة، أن يسيرا حتى يقدما حضرموت، وأقر زياداً على علمه، وأذن لمن معك من بين مكة واليمن في القفل؛ إلا أن يؤثر قوم الجهاد. وأمده بعبيده ابن سعد. ففعل ؛ فسار المهاجر من صنعاء يريد حضرموت، وسار عكرمة من أبين يريد حضرموت، فاتقيا بمأرب ؛ ثم فوزا من صهيد ؛حتى اقتحما حضرموت، فنزل أحدهما على الأشعث والآخر علة وائل.

كتب إلى السى، عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف، عن سهيل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بن الصلت ؛ قال: وكان زياد بن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بم معاوية بنفسه، فقدك عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم ؛ وهو غلام، يقال له شيطان بن حجر ؛ فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها ؛ فقال العداء: هذه شذرة بإسمها ؛ فقال الشيطان: صدق أخي ؛ فإني لم أعطوكموها إلا وأنا أراها غيرها ؛ فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإ،ها غير متروكة . فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر. فحمى وحمى الرجلان، فقال زياد : لا ولا تنعم ؛ ولا هي لك ؛ لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق الله، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس ؛ فنادى العداء: يا آل عمرو ، بالرياض أضام وأضهد! إن الذليل من أكل في داره!ونادى : يا أبا السميط، فأقبل أبو السميط حارثة بن سراقة بن معد يكرب ؛ فقصد لزياد بن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيراً مكانها، فإ،ما بعير مكان بعير، فقال : مكا إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهودياً!وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها ؛ فبعثها وقام دونها، وهو يقوا:
يمنعها شيخ بخديه الشيب ... ملمع كما يلمع الثوب
فأمر به زياد شباباً من حضرموت والسكون، فمبعثره وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكرة فعقلوها كمات انت؛ وقال زياد ابن لبيد في ذلك:
لم يمنع الشذرة أركوب ... والشيخ قد يثنيه أرجوب
وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعاً دونه. وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء؛ لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرئهم شيئاً، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلاً يتعقلون به عليهم ؛ فأرسل إليهم زياد: إما أن تصعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب ؛ فقالوا: لا نضع السلاح أبداً حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة. يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون!فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت ؛ وفي جنوب مواليكم !وقالت له السكون : ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلاً، فقتل منهم، وكاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالماً ... فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة ؛ ورجع زياد إلى منزله على الظفر. ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين. فأجمعوا وعسكروا جميعاً، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض ؛ وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:
لعمري وما عمري بعرضة جانب ... ليجتلبن منها المرار بنو عمرو
كذبتم وبيت الله لا تمنعونها ... زياداً، وقد جئنا زياداً على قدر

فأقاموا بعد ذلك يسيراً. ثم أن بني عمرو بن معاوية خصوصاً خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء ححكوها، فنزل جمد محجراً، ومخوص محجراً، ومشرح محجراً، وأبضعة محجراً، وأختهم العمردة محجراً - وكانت بنو عمرو بن معاوية على هؤلاء الرؤساء - ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بن قيس محجراً، والسمط بن الأسود محجراً وكابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل ؛ إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار ؛ فكيف بالرجوع عن الجميل وعن الحق إلى الباطل والقبيح ! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا - يعني يوم البكرة ويوم النفرة - وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بن عابس ؛ حتى أتيا زياداً، فقالا له: بيت القوم، فإن أقواماً من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكونوشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا ؛ وإن أبيت خشينا أن يرفض الناس عنا إليهم ؛ والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي. فقال : شأنكم. فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجودوهم حول نيرانهم جلوساً، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية؛ وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق ، فأصابوا مشرحاً ومخوصاً وجمداً وأبضعة وأختهم العمردة أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبى والأموال، وأخذوا طريقاً يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بن معاوية ؛ فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بن معاوية ببني الحارث وناديته: يا أشعث، يا أشعث! خلاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم - وهذه الثالثة - وقال الأشعث:
منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ... بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زياداً وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بن معاوية وبنيعمرو بن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر؛ وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد - مفازة ما بين مأرب حضرموت - واستخلف على الجيش عكرمة وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد ؛ فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هراباً، فالتجأت إلى النحير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم ... بحر يزجى في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم ... حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهوانه ... سبى الذرارى وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كنده، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل فنزل زياد على أحدهما، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش ، فأ،زله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوظئهم. وفيمن بعث يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحيا أخر ؛ وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقى سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه ؛ جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمة ؛ لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعذض ، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيره ... وللأمير من بني المغيره
وجعل راجز المسلمين زياد بن دينار يريد عليهم:

لا تواعدونا واصبرواحصيرة ... نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيرة فلما أصبحزا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز ... طعناً أبوء به على مجاز
ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ ... وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بن محمد: قدم عكرمة بن أبي جهل بعدما ما فرغ المهاجر من امر القوم مدداً لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصلوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم؛ وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلى السرى، قال: كتب أبو بكر رحمه الله إلى المهاجر مع المغيرة بن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم يظفروا ؛ فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخروجوهم من ديارهم ؛ فإني أكره أن أقر أقواماً فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.
قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقجطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل وخاف الرؤساء على أنفسهم ؛ ولو صبروا حتى يجئ المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة. فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره ؛ وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بن الجون ، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة ؛ على أن يؤمنهم وأهليهم وأن يفتحوا لهم الباب ؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يتفح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانة وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسى نفسه؛ عجل ودهش. ثم جاء بالكتاب فختمه ؛ ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجاح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفيرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلاً إلا قتلوه ؛ ضربوا أعناقهم صبراً، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق ؛ ووضع على السبي والفئ الأحراس، وشاركهم كثير.

وقال كثير بن الصلت: لما فتح الباب وفرغ ممن في النجير، وأحصى ما أفاء الله عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابة فعرضهم، فأجاز من في لكتاب، فإذا الأشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزنك الله. الذي أخطأك نوءك يا أشعث، يا عدو الله !قد كنت أشتهي أن يخزيك الله.فشد وثاقاً، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا . وإنه كان رجلاً نسى إسمه أن يكتبه ؛ وهو ولي المخاطبة. أفداك يبطل ذاك ! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأورها. وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار - كلام يمان يسمون به الغادر - وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد الله، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه الله بالفتح والسبايا والأسرى. فدعا بالأشعث، فقال: استزلك بنو وليعة، ولم تكن لتستنزل لهم - ولا يرونك لذلك أهلاً - وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعاً بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال : فإني أرى قتلك . قال : فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليم فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضاً.فلما خشى أن يقع به قال: أو تحتسب في خيراً فتطلق إساري وتقيلني عثرني، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد على زوجتي - وقد كان خطب أم فروة بنت أبى قحافة مقدمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول صلى الله عليه وسلم وفعل الأشعث ما فعل، فخشى ألا ترد عليه - تجدني خير أهل بلاد لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال : انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.
قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الأشعث لما قدم به على بكر، قال: ماذا تراني أصنع بك ؛ فإنك قد فعلت ما علمت ! قال : تمن على فتفكني من الحديد وتزوجني أختك ؛ فإني قد راجعت وأسلمت . فقال أبو بكر: قد فعلت. فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة بالمدينة حتى فتح العراق.
رجع الحديث إلى حديث سيف . فلما ولى عمر رحمه الله، قال : إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً. وقد وسع الله، وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة أبعرة إلا حنيفة كندة ؛ فإنه خفف عنهم لقتل رجالهم، ومن لا يقدر على فداء لقيامهم وأهل دبا، فتتبعت رجالهم نساءهم بكل مكان. فوجد الأشعث في بني ننهد وبني غطيف امرأتين ؛ وذلك أنه وقف فيها يسأل عن غراب وعقاب ، فقيل: ما تريد إلى ذلك ؟ قال: إن نساءنا يوم النجير خطفهن العقبان والغربان والذئاب والكلام. فقال بنو غطيف: هذا غراب، قال: فما موضعه فيكم؟ قالوا: في الصيانة ، قال: فنعم، وانصرف. وقال عمر : لا ملك على عربي، للذي أجمع عليه المسلمون معه.

قالوا: ونظر المهاجر في أمر المرأة التي كان أبوها النعمان بن الجون أهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوصفها أنها لم تشتك قط. فردها، وقال: لا حاجة لنا بها، بعد أن أجلسها بين يديه وقال له : لو كان لها عند الله خير لا شتكت. فقال المهاجر لعكرمة: متى تزوجتها؟ قال " وأنتا بعدن، فأهديت إلى بالجند، فسافرت بها إلى مأرب، ثم أوردتها العسكر. فقال بعضهم: دعها فإنها ليست بأهل أن يرغب فيها. وقال بعضهم: دعها فكتب المهاجر إلى أبي بكر رحمه الله يسأله عن ذلك فكتب إليه أبو بكر: إن أباها النعمان بن الجون أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزينها له حتى أمره أن يجيئه بها، فلما جاءه بها قال : أزيدك أنها لم تيجع شيئاً قط، فقال: لو كان لها عند الله خير لا شتكت، ورغب عنها ؛ فارغبوا عنها. فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أمر عمر في السبي بالفداء عدة منهم بشرى بنت فيس بن أبي الكيسم، عند سعد بن مالك، فولدت له عمر، وزرعة بنت مشرح عند عبد الله بن العباس ولدت له علياً.
كتب أبو بكر إلى المهاجر يخيره اليمن أو حضرموت ؛ فاختار اليمن، فكانت اليمن على أميرين: فيروز والمهاجر، زكانت حضرموت على أميرين: عبيدة بن سعد على كندة والسكاسك، وزياد بن لبيد على حضرموت.
وكتب أبو بكر إلى عمان الردة: أما بعد، فإن أحب من أدخلتم في أموركم إلى من لم يرتد ومن كان ممن لم يرتد، فأجتمعوا على ذلك، فاتخذوا منها صنائع وائذنوا لمن شاء في الأنصراف، ولا تستعينوا بمرتد في جهاد عدو.
وقال الأشعث بن مئناس السكوني يبكي أهل النجير:
لعمري وما عمري على بهين ... لقد كنت بالقتلى لحق ضنين
فلا غزو إلا يوم أقرع بينهم ... وما الدهر عندي بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم تمش أنثى بعدهم لجنين
وكنت كذاب البو ريعت ... فأقبلت على بوها إذ كربت بحنين
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن موسى بن عقبة، عن الضحاك بن خليفة، قال: وقع إلى المهاجر امرأتان مغنيتان؛ غنت إحداهما بشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع يدها، ونزع ثنيتها ؛ فكتب إليه أبو بكر رحمه الله: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلو لا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها ؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو يمعاهد فهو محارب.
وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين: أما بعد ؛ فإنه بلغني أنك قطعت يداً امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين، ونزعت تنيتها ؛ فإن كانت ممن تدعى الإسلام فأدب وتقدمه دون المثلة، وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم ؛ لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهاً ؛ فأقبل الدعة وإياك والمثلة في الناس ؛ فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - انصرف معاذ بن جبل من اليمن.
وستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته كلها.
وفيها أمر أبو بكر رحمه الله على الموسم عتاب بن أسيد - فيما ذكره الذين أسند إليهم خبره على بن محمد الذين ذكرت قبل في كتابي هذا أسماءهم.
وقال علي بن محمد: وقال قوم: بل حج بالناس في إحدى عشرة عبد الرحمن بن عوف عن تأمير أبي إياه بذلك .
ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة

مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة
قال أبو جعفر، ولما فرغ خالد من أمر اليمامة، كتب إليه أبو بكر الصديق رحمه الله ؛ وخالد مقيم باليمامة - فيما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمى، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن عمرو بم محمد، عن الشعبي: أن سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وتألف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم.
حدثني عمر بن شبة، قال حدثنا على بن محمد بالأسناد الذي قد تقدم ذكره، عن القوم الذين ذكرتهم فيه، أن أبا بكر رحمه الله وجه المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة ، وفيها قطبة بن قتادة السدوسي.

قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه قال : اختلف في أمر خالد بن الوليد، فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق . وقائل يقول : رجع من اليمامة، فقدم المدينة، ثم سار إلى العراق من المدينة على كطريق الكوفة؛ حتى انتهى إلى الحيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان ؛ أن أبا بكر رحمه الله كتب إلى خالد بن الوليد يأمره أن يسير إلى العراق، فمضى خالد يريد العراق، حتى نزل بقريات من السواد، يقال لها: بانقياً وباروسما وأليس ؛ فصالحه أهلها، وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا، وذلك في سنة اثنتي عشرة، فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد لأبن صلوبا السوادي - ومنزله بشاطئ الفرات - إنك آمن بأمان الله - إذ حقن دمه بإعطاء الجزية - وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتيك - بانقاً وباروسيما ألف درهم، فقبلتها منك، ورضى من معي من المسلمين بها منك، ولك ذمة الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذمة المسلمين على ذلك. وشهد هشام بن الوليد.
ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرفهم مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي - وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر - فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم وما عليهم ؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة ؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فقال له قبيضة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا، ونعطيك الجزية. فصالحهم على تسعين ألف درهم، فكانت أول جزية وقعت بالعراق، هي القربات التي صالح عليها ابن صلوبا.
قال أبو جعفر: وأما هشام بن الكلبي ؛ فإنه قال: لما كتب أبو بكر خالد بن الوليد وهو باليمامة أن يسير إلى الشأم ، أمره أن يبدأ بالعراق فيمر بها ؛ فأقبل خالد منها يسير حتى نزل النباج.
قال هشام : قال أبو مخنف: فحدثني أبو الخطاب حمزة بن علي، عن رجل من بكر بن وائل، فقال : أمرني على من قبلي من قومي، أقاتل من يليني من أهل فارس، وأكفيك ناحيتي، ففعل ذلك ؛ فأقبل فجمع قومه وأخذ يغير بناحية كسكر مرة، وفي أسفل الفرات مرة، ونزل خالد بن الوليد النباج والمثنى بن حارثة بخفان معسكر ؛ فكتب إليه خالد بن الوليد ليأتيه ، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره فيه بطاعته ؛ فانقص إليه جواداً حتى لحق به، وقد زعمت بنو عجل أنة كان خرج من المثنى بن حارثة رجل منهم يقال له مذعور بن عدي، نازع المثنى بن حارثة، فتكاتبا إلى أبي بكر ؛ فكتب أبو بكر إلى العجلي مصر ، فشرف بها وعظم شأنه ، فداره اليوم بها معرفة ؛ وأقبل خالد بن الوليد يسير، فعرض له جابان صاحب أليس، فبعث إليه المثنى بن حارثة، فقاتله فهزمه، وقتل جل أصحابه، إلى جانب نهر ثم يدعى نهر دم لتلك الوقعة ؛ وصالح خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب، فلقوهم بمجتمع الأنهار، فتوجه إليهم المثنى بن حارثة، فهزمهم الله.
ولما راى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه ؛ فيهم عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبضية ، فقال خالد لعبد المسيح: من أين أثرك؟ قال : من ظهر أبي، قال: من أين خرجت؟ قال : من بطن أمي، قال: ويحك ! على أي شئ أنت؟ قال: ويحك!تعقل ؟ قال: نعم وأقيد، قال إنما أسألك، قال: وأنا أجيبك، قال أسلم أنت أم حرب؟ قال : بل سلم قال : فما هذه الحصون التي أرى ؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجئ الحليم فينهاه. ثم قال لهم خالد: إني أدوكم إلى الله وإلى عبادته وإلى الإسلام، فإن قبلتم فلكم مآلنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم يقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر . فقالوا: لاحاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق. ثم نزل على بانقياً، فصالحه بصيري بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان ؛ وكتب لهم كتاباً وكان صالح خالد أهل الحيرة على أن يكونوا له عيوناً، ففعلوا.
قال هشام، عن أبي مخنف، قال : حدثني المجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن:

من خالد بن الوليد إلى مرازية أهل فارس ؛ سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم ، وسلب ملككم، ووهن كيدكم. وإنه من صلى صلاتنا ؛ واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا ؛ فذلك المسلم الذي له مالنا، وعليه ما علينا. أما بعد، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلى بالرهن، واعتقدوا منى الذمة، وإلا فوالذي لا إله لأبعثن إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فلما قرءوا الكتاب، أخذوا يتعجبون، وذلك سنة اثنتي عشرة.
قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق وغير هشام ومن ذكرت قوله من قبل، فإنه قال في أمر خالد ومسيره إلى العراق ما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف بن عمر، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة، كتب إليه أبو بكر رحمه الله: إن الله فتح عليك فعارق حتى تلقى عياضاً. وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين النباج والحجاز: أن سر حتى تأتي المصيخ فابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها، وعارق حتى تلقى خالداً. وأذنا لمن شاء بالرجوع، ولا تستفتحا بمتكاره.
ولما قدم الكتاب على خالد وعياض، وأذنا في القفل عن أمر أبي بكر قفل أهل المدينة وما حولها وأعروهما ، فاستمدا أبا بكر، فأمد أبو بكر خالداً بالقعقاع بن عمرو التيمي، فقيل له : أتمد رجلاً قد ارفض عنه جنزده برجل! فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. وأمد عياضاً بعبد بن عوف الحميري، وكتب إليهما أن استنفرا من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي. فلم يشهد الأيام مرتد.
فلما قدم الكتاب على خالد بتأمير العراق، كتب إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور باللحاق به، وأمرهم أن يواعدوا جنود هم الأبلة، وذلك أن أبا بكر أمر خالداً في كتابه: إذا دخل العراق أن يبدأ بفرج أهل السند والهند - وهو يومئذ الأبلة - ليوم قد سماه، ثم حشر من بينه وبين العراق، فحشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، فقدم في عشرة آلاف على ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة - يعني بالأمراء الأربعة: المثنى، ومذعوراً، وسلمى، وحرملة - فلقى هروز في ثمانية عشر ألفاً حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف، عن المهلب الأسدي عن عبد الرحمن بن سياه، وطلحة بن الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة، قالوا: كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد، إذ أمره على حرب العراق ؛ أن يدخلها من أسفلها . وإلى عياض إذ أمره على حرب العراق ؛ أن يدخلها من أعلاها ؛ ثم يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، وقال: إذا اجتمعتما بالحيرة، وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءاً للمسلمين ولصاحبه بالحيرة ؛ وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم ؛ المدائن.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي عن سيف عن المجالد، عن الشعبي، قال: كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه مع آزاذبه - أبي الزياذبة الذين باليمامة - وهرمز صاحب الثغر يومئذ: أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية ؛ وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
قال سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة - وكان قاضي أهل الكوفة - قال: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحدة. فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر، وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم ؛ وخرج خالد ودليله رافع ؛ فواعدهم جميعاً الحفير ليجتمعوا به وليصادموا به عدوهم ؛ وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأناً، وأشدها شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر.
قال - وشاركه المهلب بن عقبة وعبد الرحمن بن سياه الأحمري، الذي تنسب إليه الحمراء سياه - قال: لما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى وإلى أردشير بن شيرى وجمع جموعه، ثم تعجل إلى الكواظم في سرعامن أصحابه ليتلقى خالداً، وسبق حلبته فلم يجدها طريق خالد، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير، فعاج يبايبادره إلى الحفير فنزله، فتبعني به

يبادره إلى الحفير فنزله، فتبعني به، وجعل على مجنبته أخوين يلاقيان أرد شير وشيرى إلى أردشير الأكبر، يقال لهما: فماذا وأنو شجان، واقترنوا في السلاسل، فقال من لم ير ذلك لمن رآه: قيدتم أنفسكم لعدوكم، فلا تفعلوا ؛ فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم وقالوا: أما أنتم فحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الجبر خالداً بأن هرمز في الحفير أمال الناس إلى كاظمة، وبلغ هرمز ذلك. فبادره إلى كاظمة فنزلها وهو حسير ؛ وكان من أسوأ أمراء ذلك الفرج جوراً للعرب، فكل العرب عليه مغيظ ؛ وقد كانوا ضربوه مثلاً في الخبث حتى قالوا: أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز. وتعبني هرمز وأصحابه واقترنوا في السلاسل، والماء في أيديهم. وقدم خالد عليهم فنزل على غير ماء، فقالوا له في ذلك، فأمر مناديه، فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين ؛ فحطت الأثقال والخيل وقوف، وتقدم الرجل، ثم زحف إليهم حتى لاقاهم ؛ فاقتتلوا ؛ وأرسل الله سحابة فأغزرت ما وراء صف المسلمين ، فقواهم بها ؛ وما ارتفع النهار وفي الغائط مقترن.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عبد الملك لن عطاء البكائي ؛ عن المقطع بن الهيثم البكائي بمثله، وقالوا: وأرسل هرمز أصحابه بالغد ليغدروا بخالد، فواطئواه على ذلك، ثم خرج هرمز، فنادى رجل ورجل: أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده، فلما نزل خالد نزل هرمز، ودعاه إلى المنزل فنزل خالد فمشى إليه، فالتقيا فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد، وحملت حامية هرمز وغدرت، فاستلحموا خالداً فما شغله ذلك عن قتله. وحمل القععقاع بن عمرو واستلحم حماة هرمز فأناموا ؛ وإذا خالد يماصعهم ، وانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وجمع خالد الرثاث وفيها السلاسل، فكانت وقر بعير ؛ ألف رطل، فسميت ذات السلاسل، وأفلت قباذ وأنو شجان.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو بن محمد ؛ عن الشعبي، قال: كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف. فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمتها مائة ألف ؛ فنفلها أبو بكر خالداً، وكانت مفصصة بالجوهر، وتمام شرف أحدهم أن يكون من بيوتات حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، نعن سيف، عن محمد بن نويرة، عن حنظلة بن زياد بن حنظلة، قال: لما تراجع الطلب من ذلك اليوم، نادى منادي خالد بالرحيل، وسار بالناس، واتبعته الأثقال ؛ حتى ينزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وقد أفلت قباذ وأنوشجان، وبعث خالد بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل، وقرأ الفتح على الناس . ولما قدم زر بم كليب بالفيل مع الأخماس، فطيف به في المدينة ليراه الناس. جعل ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله ما نرى! ورأينه مصنوعاً، فرده أبو بكر مع زر. قال ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة ؛ بعث المثنى بن حارثة في آثار القوم ؛ وأرسل معقل بن مقرن المزني إلى الأبلة ليحجمع له مالها والسبي، فخرج معقل حتى نزل الأبلة فجمع الأموال والسبايا.
قال أبو جعفر: وهذه القصة في أمر الأبلة وفتحها خلاف ما يعرفه أهل السير، وخلاف ما جاءت به الآثار الصحاح، وإنما كان فتح الأبلة أيام عمر رحمه الله، وعلى يد عتبة بن غزوان في سنة أربع عشرة من الهجرة ؛ وسنذكر أمرها وقصة فتحها إذا انتهينا إلى ذلك إن شاء الله.
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن محمد بن نويرة، عن حنظلة بن زياد، قال: وخرج المثنى حتى انتهى إلى نهر المرأة، فانتهى إلى الحصن الذي فيه المرأة، فخلف المعنى بن حارثة عليه، فحاصرها في قصرها، ومضى المثنى إلى الرجل فحاصره ثم استنزلهم عنوة ؛ فقتلهم واستفاء أموالهم ؛ ولما بلغ ذلك المرأة صالحت المثنى وأسلمت، فتزوجها المعنى، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين في شئ من فتوحهم لتقدم أبي بكر إليه فيهم، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، وأقر من لم ينهض من الفلاحين ؛ وجعل لهم الذمة ؛ وبلغ سهم الفارس في يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
ذكر وقعة المذار

قال: وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة، ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار . حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن زياد والمهلب، عن عبد الرحمن بن سياه الأحمري.
وأما فيما كتب به إلى السري، عن شعيب، عن سيف، فإنه عن سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سرجس الأحمري وعبد الرحمن بن سياه الأحمري وسفيان الأحمري، قالوا: وقد كان هرمز كتب إلى أردشير وشيرى بالخبر بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه، فأمده بقارن بن قريانس، فخرج قارن من المدائن ممداً لهرمز ؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة ؛ وانتهت إليه الفلال السواد والجبل: إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبداً؛ فاجتمعوا على العود مرة واحدو، فهذا مدد الملك وهذا قارن، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منا ففعلوا وعسكروا بالمذار، واستعمل قارن على مجنبته قباذ وأنوشجان، وأرز المثنى والمعنى إلى خالد بالخبر ؛ ولما انتهى الخبر إلى خالد عن قارن قسم الفئ على من أفاءه الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث ببقيته وبالفتح إلى أبى ابن عقبة - والعرب تسمى كل نهر الثنى - وخرج خالد سائراً حتى ينزل المذار على قارن في جموعه، فالتقوا وخالد على تعبيته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه، فسبقه إليه معقل، فقتله وقتل عاصم الأنوشجان، وقتل عدي قباذ . وكان شرف قارن قد النتهى ؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحداً انتهى شرفه في الأعاجم، وقتلت فارس مقتله عظيمة ؛ فضموا السفن، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم، وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفئ ونفل من الأخماس أهل البلاء، وبعث ببقية الأخماس، ووفد وفداً مع سعيد بن النعمان أخي بني عدي بن كعب.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفاً سوى من غرق ولولا المياه لأتى على آخرهم ؛ ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة.
قال سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: كان أول من لقي خالد مهبطه العراق هرمز بالكواظم، ثم نزل الفرات بشاطئ دجلة ؛ فلم يلق كيداً، وتبحبح بشاطئ دجلة، ثم الثنى، ولم يلق بعد هرمز أحداً إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها، حتى أتى دومة الجندل، وزاد سهم الفارس في يوم الثنى على سهمه في ذات السلاسل. فأقام خالد بالثنى يسبي عيالات النقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوزا، وكل ذلك أخذ عنوة ولكن دعوا إلى الجزاء ، فأجابوا وتراجعوا، وصاروا ذمة وصارت أرضهم لهم كذلك جرى ما لم يقسم فإذا اقتسم فلا.
وكان في السبي حبيب أبو الحسن - يعني أبا الحسن البصري - وكان نصرانياً، وما فنة مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة.
وأمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الجزاء سويد بن مقرن المزني، وأمره بنزول الحفير، وأمرهي ببث عماله ووضع يده في الجباية، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.
ذكر وقعة الولجة ثم كان أمراً الولجة في صفر من سنة اثنتي عشرة ؛ والولجة مما يلي كسكر من البر.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال " حدثني سيف، عن عمرو والمجالد عن الشعبي قال لما فرغ خالد من الثنى وأتى الخبر أردشير، بعث الأندر زغر ؛ وكان فارسياً من مولدي السواد.

حدثنا عبيد الله قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن زياد بن سرجس، عن عبد الرحمن بن سياده، قال - وفيما كتب به إلى السرى، قال حدثنا شعيب ؛ قال حدثنا سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سرجيس وعبد الرحمن بن سياده - قالوا: لما وقع الخبر بأرد شير بمصاب قارن وأهل المذار، أرسل الأنذار زغر ؛ - وكان فارسياً من مولدي السواد وتنائهم ؛ ولم يكن ممن ولد في المدائن ولا نشأ بها - وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش، وأمره أن يعبر طريق الأنذرزعر ؛ وكان الأنذازعر قبل ذلك على فرج خراسان ؛ فخرج الأنذرزغر سائراً من المدائن حتى أتى كسكر، ثم جازها إلى الولجة، وخرج بهمن جاذويه في أثر كسكر، من عرب الضاحية والد هاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة ؛ فلما اجتمع له ما أراد واستم أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد ؛ ولما بلغ خالداً وهو بالثنى خبر الأنذرزعر ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك الإغترار، وخرج سائراً في الجنود نحو الولجة، حتى ينزل على الأندرزغر وجنوده ومن تأشب إليه ، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ هو أعظم من قتال الثنى.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف، عن محمد بن أبي عثمان، قال: نزل خالد على الأندرزعر بالولجة في صفر، فاقتتلوا بها قتالاً شدياً، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه ؛ وكان قد وضع لهم كميناً في ناحيتين، عليهم بسرين أبي رهم وسعيد بن مرة العجلي، فخرج الكمين في وجهين، فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا، فأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه؛ ومضى الأندرزعر في هزيمته، فمات عطشاً . وقام خالد في الناس خطيباً يرغبهم في بلاد العجم، ويزهدهم في بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلاع من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه. وسار خالد في الفلاحين بسيرته فلم يقتلهم، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة، فتراجعوا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن شيف - وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف - عن عمرو، عن الشعبي، قال: بارز خالد يوم الولجة رجلاً من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه، ودعا بغدائه. وأصاب في أناس من بكر بن وائل ابناً لجابر بن بجير وابناً لعبد الأسو.
خبر أليس، وهي صلب الفرات

قال أبو جعفر، حدثنا عبيد الله، قال حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن محمد بن طلحة، عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة. وأما السرى فإنه قال فيما كتب إلى : حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة، قالا: ولما أصاب خالد يوم الولجة من أصاب من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم ؛ فاجتمعوا إلى أليس، وعليهم عبد الأسود العجلي، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلمو بني عجل: عتيبة بن النهاس وسعيد بن مروة وفرات بن ح0يان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدي. وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وهو بقسيانا وكان رافد فارس في كل يوم رافد قد نصب لذلك يرفدهم عند الملك ؛ فكان رافدهم بهمن روز أن سرحتي تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن جاذويه جابان وأمره بالحث، وقال كفكف نفسك وجندك من قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس ؛ وانطلق بهمن جاذويه إلى أرشير ليحدث به عهداً، وليستأمره فيما يريد أن يشير به، فوجده مريضاً ؛ فعرج عليهخ، وأخلى جابان بذلك الوجه، ومضى حتى أتى أليس، فنزل بها في صفر، واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب ؛ وعبد الأسود في نصارى العرب من بني عجل زتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة ؛ وكان جابر بن بجير نصرانياً، فساند عبد الأسود ؛ وقد كان خالد بلغه تجمع عبد الأسود وجابر وزهير فيمن تأشب إليهم، فنهد لهم ولا يشعر بدنو جابان، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم ؛ فأقبل فلما طلع على جابان بأليس، قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتل بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بكم فتهاونوا، ولكن ظني بهم أن سيعجلونكم ويعجلونكم عن الطعام . فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها. فلما انتهى خالد إليهم ، وقف وأمر بحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم بدر أمام الصف، فنادى: أين أبجر؟ أين عبد الأسود؟ أين مالك بن قيس؟ رجل من جذرة ؛ فنكلوا عنه جميعاً إلا مالكاً، فبرز له، فقال له خالد: يا بن الخبيثة، ما جرأك على من بينهم، وليس فيك وفاء! فضربه فقتله، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوا ؛ فقال جابان: ألم أقل لكم يا قوم ! أما الله ما دخلتني من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم ؛ فقالوا حيث لم يقدوا على الأكل تجلداً: ندعها حتى نفرغ منهم ؛ ونعود إليها. فقال جابان: وأيضاً أظنكم والله لهم وشعتموها وأنتم لا تشعرون ؛ فالآن فأطيعوني ؛ سموها ؛ فإن كانت لكم فأهون هالك، وإن كانت عليكم كنتم قد صنعتم شيئأً ؛ وأبليتم عذراً. فقالوا: لا اقتداراً عليكم. فجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر ؛ وخالد على تعبئته في الأيام التي قبلها، فاقتتلوا قتالاً شديداً، والمشركون يزيدهم كلباً وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين للذي كان في علم الله أن يصيرهم إليه، وحرب المسلمون عليهم، وقال خالد: اللهم إن لك على نهرهم بدمائهم! ثم أن الله عز وجل كشفهم للمسلمين، ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه، فنادى في الناس: الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع ؛ فأقبلت اليول بهم أفواجاً مستأسرين يساقون سوقاً، وقد وكل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوماً وليلة، وطلبوهم الغد وبعد الغد ؛ حتى انتهوا إلى النهرين، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس فضرب أعناقهم، وقال له القعقاع وأشباه له: لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم ؛ إن الدماء لا تزيد على أن ترقرق منذ نهيت عن السيلان، ونهيت الأرض عن نشف الدماء ؛ فأرسل عليها الماء تبر يمينك. وقد كان صد الماء عن النهر فأعاده، فجرى دماً عبيطاً فسمى نهر الدم لذلك الشأن إلى اليوم.
وقال آخرون منهم بشير بن الخصاصية، قال: وبلغنا أن الأرض لما نشف دم ابن آدم نهيت عن نشف الدماء ونهى الدم عن السيلان إلا مقدار برده.

ولما هزم القوم وأجلوا عن عسكرهم ورجع المسلمون من طلبهم ودخلوه ؛ وقف خالد على الطعام ، فقال : قد نفلتكموه فهو لكم. وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى على كعام مصنوع نفله. فقعد عليه المسلمون لعشائهم بالليل، وجعل من لم ير الأريلف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاق البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازجاً: هل سمعتم برفيق العيش؟ فيقولن: نعم ، فيقول: هو هذا ؛ فسمى الرقاق، وكانت العرب تسمية القرى.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث، عن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خبير الخبر والطبيخ والشواء، وما أكلوا غير ذلك في بطونهم غير متأثليه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن المغيرة، قال: كانت على النهر أرحاء، فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر؛ ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون ثلاثة أيام. وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلاً من بني عجل، وكان دليلاً صارماً، فقدم على أبي بكر بالخبر، وبفتح أليس، وبقاه الفئ وبعدة السبي، وبما ح0صل من الخماس؛ وبأهل البلاء من الناس؛ فلما قدم على أبي بكر، فرأى صرامته وثبات خبره، قال: ما إسمك؟ قال جندل، قال : ويهاً جندل!
نفس عصام سودت عصاما ... وعودته الكر والإقداما
وأمر له بجارية من ذلك السبي، فولدت له.
قال: وبلغت قتلاهم من أليس سبعين ألفاً جلهم من أمغيشياً.
قال أبو جعفر: قال لنا عبيد الله بن سعد: قال عمي: سألت عن أمغيشياً بالحيرة فقيل لي منشياً، فقلت لسيف، فقال: هذاان إسمان .
حديث أمغشياً في صفر وأفاءها الله عز وجل بغير خيل.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان وطلحة، عن المغيرة، قال : لما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى أمغشيياً، وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها ؛ وتفرقوا في السواد، ومن يومئذ صارت السكرات في السواد ؛ فأمر خالد بهدم أمغيشياً وكل شئ كان فيحيزها، وكانت مصراً كالحيرة ؛ وكان فرات بادقلي ينتهي إليها، وكانت أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن بحر بن الفرات العجلي، عن أبيه، قال: لم يصب المسلمون فيما بين السلاسل وأمغيشياً مثل شئ أصابوه في أمغيشيا، بلغ سهم الفارس ألفاً وخمسمائة، سوى النفل الذي نفله أهل البلاء. وقالوا جميعاً: قال أبو بكر رحمه الله حين بلغه ذلك: يا معشر قريش - يخبرهم بالذي أتاه: عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ؛ أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد! حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي قال أبو جعفر: كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف عن محمد عن أبي عثمان وطلحة، عن المغيرة: أن الآزاذبه كان مرزبان الحيرة أزمان كسرى إلى ذلك اليوم؛ فكانوا لا يمد بعضهم بعضاً إلا بإذن الملك، وكان قد بلغ نصف الشرف، وكان قيمة قلنسوته خمسين ألفاً؛ فلما أخرب خالد أمغشياً، وعاد أهلها سكرات لدهاقين القرى علم الآزاذيه أنه غير متروكط، فأخذ في أمره وتهيأ لحرب خالد، وقدم ابنه ثم خرج في أثره حتى عسكر خارجاً من الحيرة؛ وأمر ابنه بسد الفرات، ولما استقل خالد من أمغيشاً وحمل الرجل في السفن مع الأنفال والأثقال، لم يفجأ خالد إلا فسلك الماء غير طريقه ؛ فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار، فتعجل خالد في خيل نحو ابن الآزاذيه، فتلقاه على فم العتيق خيل من خيله ؛ فجأهم وهم آمنوا لغارة خالد في تلك الساعة، فأنامهم بالمقر، ثم سار من فوره وسبق الأخبار إلى ابن الآزاذبة حتى يلقاه وحنده على فم فرات بادقلي؛ فاقتتلوا فأنامهم ؛ وفجر الفرات وسد الأنهار وسلك الماء سبيله.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان وطلحة عن المغيرة، وبحر عن أبيه، قالوا. وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي ، قال حدثنا سيف عن محمد عن أبي عثمان، قال حدثني عمي، قال حدثنا سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغير، قالا: لما أصاب خالد ابن الآزاذبه على فم فرات بادقلي، قصد للحيرة، واستلحق أصحابه، وسار حتى ينول بين الخورنق والنجف، فقدم خالد الخورنق، وقد قطع الآزاذبه الفرات هارباً من غير قتال؛ وإنما حداه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير ومصاب ابنه، وكان عسكره بين الغريين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخوانق خرج من العسكر حتى يعسكر بموضع عسكر الآزاذبه بين الغريين والقصر الأبيض، وأهل الحيرة متحصنون، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره، وأمر بكل قصر رجلاً من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فكان ضرار بن الخطاب محاصراً القصر الأبيض، وفيه إياس بن قبيصة الطائي، المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة له محاصراً قصر بني ابن عبد المسيح؛ فدعوهم جميعاً، وأجلوهم يوماً، فأبى أهل الحيرة ولجوا، فناوشهم المسلمون.
حدثني عبيد الله بن سعد، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، رجل من بني كنانة - قال أبو جعفر: هكذا قال عبيد الله. وقال السرى فيما كتب به إلى: حدثنا شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل من بني كنانة - قال عهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بالدعاء، فإن قبلوا قبلوا منهم وإن أبوا أن يؤجلوهم يوماً، وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذنكن، فيتربصوا بكم الدوائر؛ ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم. فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور، وكان على قتال أهل القصر الأبيض، فأصبحوا وهم مشرفون ؛ فدعاهم إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزاء، او المنابذة، فاختاروا المنابذة وتنادوا: عليكم الخزازيف ، فقال ضرار: تنجوا لا ينالكم الرمى ؛ حتى ننظر في الذي هتفوا به. فلم يلبث أن امتلأ رأس القصر من رجال متعلق المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف - فقال ضرار: ارشفوهم، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل، فأعروا رءوس الحيطان، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم، وصبح أمير كل قوم أصحابه بمثل ذلك ، فافتتحوا الدور والديرات، وأكثروا القتل، فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا واحدة من ثلاث؛ فاعوا بنا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالداً. فخرج إياس بن قبيضة وأخوه إلى ضرار بن الأزور، وخرج عدى بن عدي وزيد بن عدي إلى ضرار بن الخطاب - وعدي الأوسط الذي رئته أمه وقتل يوم ذي قار - وخرج عمرو بن عبد المسيح وأبن أكال، هذا إلى ضرار بن مقرن، وهذا إلى المثنى بن حارثة، فأرسلوهم إلى خالد وهم على مواقفهم.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، قالا: كان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح ابن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة - وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا: يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء - وتتابعوا على ذلك، فأرسلهم الرؤساء إلى خالد، مع كل رجل منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي، وقال: ويحكم! ماأنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الأنصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقول لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما تقولون أنه ليس لنا لسان إلا العربية، فقال: صدقت . وقال : اختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجرة ؛ فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة. فقال: بل تعطيك الجزية، فقال خالد: تباً لكم، ويحكم! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربي فتركه واستدل العجمي. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفاً؛ وتتابعوا على ذلك، وأهدوا له هدايا، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر رحمه الله مع الهذيل الكاهلي، فقبلها أبو بكر من الجزاء، وكتب إلى خالد أن احسب لهم هديتهم من الجزاء، إلا أن تكون من الجزاء، وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك: وقال ابن بقيلة:
أبعد المنذرين أرى سواماً ... تروح بالخوانق والسدير!
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصاً بين مرة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفخور
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءة أو سرور
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم عن رجل من بني كنانة، ويونس بن أبي إسحاق بنحو منه، وقالا: فكانوا يختلفون إليه ويقدمون في جوائجهم عمرو بن عبد المسيح فقال له خالد: كم أتت عليك من السنين قال: مئو سنين، قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، تخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفاً. فتبسم خالد، وقال: هل لك م شيخك إلا عمله خرقت والله يا عمرو! ثم أقبل على أهل الحيرة فقال: ألم يبلغني أنكم خبثة خدعه مكرة ! فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء! فتجاهل له عمرو وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف بع عقله، ويستدل به على صحة ما حدثة به، فقال : وحقك أيها الأمير، إني لأعرف من أين ج - ئت؟ قال: فمن أين جئت؟ قال: أقرب أم أبعد؟ قال: ما شئت، قال: من بطن أمي، قال: فأين تريد؟ قال: أمامي، قال: وما هو؟ قال: الآخرة . قال فمن أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي، قال فوجده حين جاهلها، وقتل أرضاً عالمها ؛ والقوم أعلم بما فيهم. فقال عمرو: أيها الأمير. النملة أعلم بما في بيتها من الجمل بما في بيت النملة. وشاركهم في هذا الحديث من هذا المكان محمد بن أبي السفر، عن ذي الجوشن الضبابي، وأما الزهري فإنه حدثنا به، فقال شاركهم في هذا الحديث رجل من الضباب.
قالوا: وكان مع ابن بقيلة منصف له فعلق كيساً في حقوه، فتناول خالد الكيس، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمانة الله سم ساعة، قال: لم تحتقب السم؟ قال: حشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إلى من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي. فقال خالد: إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال بمم الله خير الأسماء، رب الأرض ورب السماء، الذي ليس يضر مع إسمه داء، الرحمن الرحيم. فأهووا إليه ليمنعوه منه، وبادرهم فابتلعه، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن . وأقبل على أهل الحيرة، فقال: لم أر كاليوم أمراً أوضح إقبالاً!

وأبي خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل ؛ فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلموني، فإني سأفتدى. ففعلوا ؛ وكتب خالد بينه وبينهم كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً وعمراً ابني عدي، وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال - وقال عبيد الله: جبري - وهم نقباء أهل الحيرة ؛ ورضى بذلك أهل الحيرة، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا ؛ رهبانهم وقسيسهم ؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيساً عن الدنيا، تاركاً لها - وقال عبيد الله: إلا من كان غير ذي يد حبيساً عن الدنيا تاركاً لها - أوسائحاً تاركاً للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شئ عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة. وكتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة، ودفع الكتاب إليهم.
فلما كفر أهل السواد بعد موت أبي بكر استخفوا بالكتاب، وضيعوه، وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس ؛ افتتح المثنى ثانية ؛ أدلوا بذلك، فلم يجيبهم إليه، وعاد بشرط آخر ؛ فلما غلب المثنى على البلاد كفروا وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب. فلما افتتحها سعد ةأدلوا بذلك سألهم واحداً من الشرطين، فلم يجيئوا بهما ؛ فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم مطيقون ، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الحرزة - قال عبيد الله: سوى الخرزة .
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن الغصن بن القاسم الكناني عن رجل من بني كنانة ويونس بن أبي إسحاق، قالا: كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاصى إلى الشأم، فاستأذن الداً إلى أبي بكر ليكلمه في قومه وليجمعهم له ؛ وكانوا أوزاعاً في العرب، وليتخلصهم ؛ فأذن له، فقدم على أبي بكر، فذكر له عدة من النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه على العدة بشهود، وسأله إنجاز ذلك، فغضب أبو بكر، وقال له: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم؛ ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا ينبغي عما هو أرضى لله ولرسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين.
فسار حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، ولم يشهد شيئاً مما كان بالعراق إلا ما كان بعد الحيرة ؛ ولا شيئاً مما كان خالد فيه من أهل الردة. وقال القعقاع بن عمرو في أيام الحيرة :
سقى الله بالفرات مقيمة ... وأخرى بأنباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزاً ... وبالثنى قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم ... يميل بهم فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا ... غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العريب المقانف
خبر ما بعد الحيرة حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن جميل الطائي، عن أبيه، قال: لما أعطى شويل كرامة بنت عبد المسيح قلت لعدي بن حاتم: ألا تعجب من مسألة شويل كرامة بنت المسيح على ضعفه!قال: كان يهرف بها دهره، قال وذلك أني لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما رفع له من البلدان، فذكر الحيرة فيما رفع له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب ؛ عرفت أن قد أريها، وأنها ستفتح، فلقيته مسألتها.

وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، قال: قال لي عمرو والمجالد، عن الشعبي - والسري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي - قال: لما قدم شويل إلى خالد، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتح الحيرة، فسألته كرامة، فقال: هي لك إذا فتحت عنوة. وشهد له بذلك، وعلى ذلك صالحهم ؛ فدفعها إليه، فاشتد ذلك على أهل بيتها وأهل قريتها ما وقعت فيه، وأعظموا الخطر، فقالت " : لا تخطروه، ولكن اصبروا؛ ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! فإنما هذا أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشاب يدوم. فدفعوها إلى خالد ؛ فدفعها خالد إليه، فقالت: ما رأبك إلى عجوز كما ترى!فادنى، قال: لا، إلا على حكمي، قالت: فلك حكمك مرسلً. فقال: لست لأم شويل إن نقصك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عدداً يزيد على ألف!فأبوا عليه إلا أن يخاصمهم فخاصمهم ، فقال: كانت نيتي غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمراً وأراد الله غيره ؛ نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك، كاذباً كنت أو صادقاً.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن، ثم انصرف، وقال: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قوماً كقوم لقيتهم من أهل فارس؛ وما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أليس! حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال صلى خالد صلاة الفتح ، ثم انصرف . ثم ذكر مثل حديث السري.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم - وكان قدم مع جرير على خالد - قال: أتينا خالداً بالحيرة وهو متوشح قد شد ثوبه في عنقه يصلي فيه وحده، ثم انصرف، فقال: اندق في يدي تسعة أسياف يوم مؤتة، ثم صبرت في يدي صفيحة يمانية، فما زالت معي.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة والغصن ابن القاسم، عن رجل من بني كنانة وسيفان الأحمري عن ماهان، قال: ولما صالح أهل الحيرة خالداً خرج صلوباً بن نسطوناً صاحب قس الناطف، حتى دخل على خالد عسكره؛ فصالحه على بانقياً وبسماً، وضمن له ما عليهما وعلى أرضهما من شاطئ الفرات جميعاً، واعتقد لنفسه وأهله وقومه على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة، خرزة كسرى؛ وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وكتب لهم كتاباً فتموا وتم، ولم يتعلق عليه في حال غلبة فارس بغدر، وشاركهم المجالد في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلو بابن نسطونا وقومه ؛ إني عاهدتكم على الجزية والمنعة؛ على كل ذي يد؛ بانقياً وبسماً جميعاً، على عشر آلاف دينار سوى الخرزو، القوى على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، في كل سنة. وإن قد نقبت على قومك، وإن قومك قد رضوا بك. وقد قبلت ومن معي من المسلمين، ورضيت ورضى قومك؛ فلك الذمة والمنعة ؛ فإن منعناكم فلنا الجزية؛ وإلا فلا حتى نمنعكم. شهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحميري، وحنطلة الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر.
كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، عن ابن أبي مكنف، وطلحة عن المغيرة، وسيفان عن ماهان، وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، وطلحو عن المغيرة، قال " كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد، واستقاموا له أتته دهاقين الملطاطين ، وأتاه زاذبن بهيش دهقان فرات سرياً ، وصلوباً بن بصبهري ونسطونا - فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف - وقال عبيد الله في حديثه: على ألف ألف ثقيل - وأن للمسلمين ما كان لآل كسرى ومن مال معهم عن المقام في داره فلم يدخل في الصلح. وضرب خالد رواقه في عسكره، وكتب لهم كتاباً:

بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من خالد بن الوليد لزاد بن بهميش وصلوبا بن نسطونا ؛ لكم الذمة وعليكم الجزية، وأنتم ضامنون لمن نقبتم عليه من أهل البهقاباذ الأسفل والأوسط وقال عبيد الله: وأنتم ضامنون جزية من نقبتم عليه على ألفي ثقيل في كل سنة ؛ عن كل ذي يد سوى ما على بانقاً وبسماً وإنكم قد أرضيتموني والمسلمين؛ وإنا قد أرضيناكم وأهل البهقباذ الأسفل؛ ومن دخل معكم من أهل البهقباذ الأوسط على أموالكم ؛ ليس فيها ما كان لآل كسرى ومن مال ميلهم. شهد هشام بن الوليد ، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحكيري، وبشير بن عبيد الله بن الخصاصة، وحنظلة بن الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر وبعث خالد ابن الوليد عماله ومسالحه ؛ فبعث في العمالة عبد الله بن وثيمة النصري ، فنزل في أعلى العمل بالفلاليج على المنعة وقبض الجزية ، وجرير بن عبد الله على بانقيا وبسما، وبشير بن الخصاصية على النهرين فنزل الكوفية ببانبورة، وسويد بن مقرن المزني إلى سنتر، فنزل العقر - فهي تسمى عقر سويد إلى اليوم، وليست بسويد المنقري سميت - وأط بن أبي إط إلى روذمستان، فنزل منزلاً على نهر سمى ذلك النهر به - ويقال له : نهر إط إلى اليوم؛ وهو رجل من بن يسعد بن زيد مناة ؛ فهؤلاء كانوا عمال الخراج زمن خالد بن الوليد .
وكانت الثغور في زمن خالد بالبسيب، بعث ضرار بن الأزور وضرار بن الخطاب والمثنى بن حارثة ضرار بن مقرن والقعقاع بن عمرو وبسر بن أبي رهم وعتيبة بن النهاس ؛ فنزلو ا على السيب في عرض سلطانه. فهؤلاء أمراء ثغور خالد. وأمرم خالد بالغارة والإلحاح، فمخروا ما رواء ذلك إلى شاطئ دجلة.
قالوا: ولما غلب خالد على أحد جانبي السواد، دعا من أهل الحيرة برجل، وكتب معه إلى أهل فارس وهم بالمدائن مختلفون متساندون لموت أردشير ؛ إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهر سير ؛ وكأنه على المقدمة، ومع بهمن جاذويه الآزاذبة في أشباه له ، ودعى صلوبا برجل ، وكتب معهما كتابين؛ فأما أحدهما فإلى الخاصة وأما الآخر فإلى العامة ؛ أحدهما حيري والآخر نبطي ولما قال خالد لرسول أهل الحيرة : ما اسمك؟ قال: مرة، قال: خذ الكتاب فأت به أهل فارس، لعل الله أن يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، أو ينبهوا، وقال لرسول صلوبا: ما أسمك؟ قال: هزميل ، قال: فخذ الكتاب. وقال : اللهم أزهق نفوسهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وغيره، بمثله، والكتابان: بسم الله الرحمن الرحيم .من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ؛ أما بعد ؛ فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيديطم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شراً لكم ؛ فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى مرازية فارس ؛ أما بعد فأسلموا تسلموا ؛ وإلا فاعتقدوا مني الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون شرب الخمر.
جدثني عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، عن محمد بن نوريرة، عن أبي عثمان. والسري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان والمهلب بن عقبة وزياد بن سرجس، عن سياده وسيفان الأحمري، عن ماهان: أن الخراج جبي إلى خالد في خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه والذين هم رءوس الرساتيق رهناً في يده، فأعطى ذلك كله للمسلمين، فقووا على أمورهم. وكان أهل فارس بموت أردشير مختلفين في الملك، مجتمعين على قتال خالد، متساندين ؛ وكانوا بذلك سنة، والمسلمون يمخرون كا دون دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر ؛ وليست لأحد منهم ذمة إلا الذين كاتبوه واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء، ومتحصنون ، ومحاربون، واكتتب عمال الخراج، وكتبوا البراءات لأهل الخراج، من نسخة واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم .براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد، يوخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد ؛ ما أقررتم بالجزية وكففتم. أمانكم أمان، وصلحكم صلح ؛ نحن لكم على الوفاء

وأشهدوا لهم النفر من الصحابة الذين كان خالد أشهدهم: هشاما، والقعقاع، وجابر بن طارق، وجريراً، وبشيراً، وحنظلة، وأزداذ، والحجاج بن ذي العنق، ومالك بن زيد.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، قال: وخرج خالد وقد كتب أهل الحيرة عنه كتاباً: إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد العبد الصالح والمسلمون عباد الله الصالحون، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم.
وأما المرى ؛ فإنه قال في كتابه إلى: حدثنا شعيب، عن سيف عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، عن هشام بن الوليد، قال: فرغ خالد....ثم سائر الحديث مثل حديث عبيد الله بن سعد.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي عن سيف والسرى، عن شعيب عن سيف عن عبد العززيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن الهذيل الكاهلي نحواً منه، قالوا: وأمر الرسولين اللذين بعثهما أن يوافياه بالخبر، وأقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشأم، وأهل فارس يخلعون ويملكون ؛ ليس إلا الدفع عن بهر سير ؛ وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أرشير ابنة ، فقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور، فقوا لا يقدرون على من يملكون ممن يجتمعون عليه.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: أقام خالد بن الوليد فيما بين فتح الخيرة إلى خروجه إلى الشأم اكثر من سنة ، يعالج عمل عياض الذي سمى له، وقال خالد للمسلمين: لولا ما عهد إلى الخليفة لم أتنقذ عياضاً، وكان قد شجى وأشجى بدومة، وكا كان دون فتح فارس شئ ؛ إنها لسنة كأنها سنة نساء. وكان عهد إليه ألا يقتحم عليهم وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراص آخر ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تلكم نساء آل كسرى، فولى الفرخزاذين البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، والمهلب عن سياه، وسفين عن ماهان، قالوا: كان أبو بكر رحمه الله قد عهد إلى خالد أن يأتي العراق من أسفل منها، وإلى عياض أن يأتي العراق من فوقها، وأيكما ما سبق إلى الحيرة فهو أمير على الحيرة ؛ فإذا اجتمعتما بالحيرة إن شاء الله وقد فضضتما مسالح ما بين العرب وفارس وأمنتم أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليم بالحيرة أحدكما، وليقتحم الآخر على القوم، وجالوهم عما في أيديهم، واستعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم ؛ ولا تؤثروا الدنيا فتسلبوهما. واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعالجة التوبة ؛ وإياكم والإصرار وتأخير التوبة.
فأتى خالد على ما كان أمر به ، ونزل الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وفرق سواد الحيرة يومئذ على جرير بن عبد الله الحميري، وبشير بن الخصاصية، وخالد بن الواشمة، وابن ذي العنق، وأط وسويد وضرار ؛ وفرق سواد الأبلة على سويد بن مقرن، وحسحكة الحبطى، والحصين بن أبي الحر، وربيعة بن عسل، وأقر المسالح على ثغورهم، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد في عمل عياض ليقضي ما بينه ، وإغاثته، فسلك الفلوجة حتى نزل بكربلاء وعلى مسلحتها عاصم بن عمرو، وعلى مقدمة خالد الأقرع بم جابس ؛ لأن المثنى كان على ثغر من الثغور التي تلى المدائن ؛ فكانوا يغارون أهل فارس، وينتهون إلى شاطئ دجلة قبل خروج خالد من الحيرة وبعد خروجه في إغاثة عياض.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، عمن شهدهم بمثله، إلى أن قال: وأقام خالد على كربلاء أياماً، وشكاً إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له خالد: اصبر فإني إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فنسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا ورأيه يعدل نجدة الأمة. وقال رجل من أشجع فيما حكى ابن وثيمة:
لقد حبست في كربلاء مطيتي ... وفي العين حتى عاد غثا سمنيها
إذا زحلت من مبرك رجعت له ... لعمر أبيها إنني لأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها
حديث الأنبار وهي ذات العيون وذكر كلواذى

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأصحابهما، قالوا: خرج خالد بن الوليد في تعبيته التي خرج فيها من الحيرة ، وعلى مقدمته الأقرع بن حابس فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنباء أنتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة ، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض ، تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات ؛ لأنها لم تطق السير ؛ فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهل الأنبار، وخندقوا عليهم، وأشرفوا من حصنهم، وعلى تلك الجنود شير زاد صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبار شر ؛ جمل يحمل جميله وجمل تربه عوذ . فقال شيرزاد: ما يقولن؟ ففسر له، فقال: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم؛ وذلك أن القوم إذا القوم إذا قضوا على أنفسهم قضاء كاد يلزمهم ؛ والله لئن لم يكن خالد مجتازاً لأصالحنه ؛ فبيناهم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال ؛ وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به ؛ وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إني أرى أقواماً لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخروا غيرها، فرموا رشقاً واحداً، ثم تابعوا ، ففقئ ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون ؛ وتصالح القوم: ذهبت عيون أهل الأنبار! فقال شيرزاد: ما يقولون؟ ففسر له ، فقال: آباذ آباذ . فراسل خالداً في الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان في الخندق برذابا الجيش فنحرها ؛ ثم رمى بها فيه فأفعمه ؛ ثم اقتحم الخندق والردايا جسورهم فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق. وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرازاذ خالداً في الصلح على ما أراد، فقبل منه على أن يخليه ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل ، ليس معهم من المتاع والأموال شئ ؛ فخرج شيرزاذ، فلما قدم على بهمن جاذوبه، فأخبره الخبر لأمه ، فقال: إني كنت في قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين ؛ فعرفت أن المسلمة أسلم . ولم اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم : فسألهم : ما انتم ؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب ؛ ثم لم تزل عنها فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخجط من إياد وأنشدوه قول الشاعر:
قومي إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل التعم
قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعاً والخط والقلم
وصالح خالد من حولهم وبدأ بأهل البروازيخ ؛ وبعث إليه أهل كلواذى ليعقد لهم، فكاتبهم فكانوا عيبته من وراء دجلة. ثم إن أهل الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين من الدول ما خلا أهل البوازيخ، فإنهم ثبتوا كما نبت أهل بانقيا.
كتب إلى السرى ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز يعني ابن سياه عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد قبل الوقعة إلا بني صلوبا - وهم أهل الحيرة - وكلواذي، وقرى من قرى الفرات ثم غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا.
كتب إلى السرى ، عن شعيب عن سيف، عن محمد بن قيس، قاغل: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون، فإن بعضهم صالح به، وبعضهم غلب . فقلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الهرب ؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأحذ منهم صاروا ذمة.
خبر عين التمر

كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: ولما فرغ خالد من النبار، واستحكمت له ، استخلف على الأنبار الزبرقانبن بدر، وقصد لعين التمر؛ وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لأفهم . فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً، قال : صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم. فخدعه واتقى به، وقال : دونكمهم وإن احتجتم إلينا أعناكم. فملا مضى نحو خالد قالت له الأعاجم: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب! فقال: دعوني فإني لم أرد إلا ما ه خير لكم وشر لهم ؛ إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، فاتقته بهم ؛ فإن كانت لهم على خالد فهي لكم ؛ وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقياء وهم مضعفون. فاعترفوا له بفضل الرأي، فلزم مهران العين، ونزل عقة لخالد على الطريق، وعلى ميمنته بجير بن فلان أحدبني عتبة بن سعد بن زهير، وعلى مسيرته الهذيل ابن عمران، وبين عقة على طريق الكرخ كالخفير. فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبى خالده وقال لمجنبتيه : اكفونا ما عنده، فإني حامل ؛ ووكل بنفسه حوامي ، ثم يحمل وعقة يقيم صفوفه؛ فاحتضنه فأخذه أسيراً، وانهزم صفة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وهرب بجير والهذيل، واتبعهم المسلمون. ولما جاء الخبر مهران هرب في حنده، وتركوا الحصن. ولما انتهت فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموا واعتصموا به ؛ وأقبل خالد في الناس حتى ينزل على الحصن ومعه عقة أسير وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان بغير من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان، فأبى إلا على حكمه فسلسوا له به. فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين فصاروا مساكاً ، وأمر خالد بعقبة وكان خفير القوم فضربت عنقه ليؤنس الأسراء من الحياة، ولما رآه الأسراء مطروحاً على الجسر يئسوا من الحياة، ثم دعا بعمرو بن الصعق فضرب عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين. وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق ؛ فكسره عنهم ، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن ؛ ففسمهم في أهل البلاء؛ منهم أبو زياد مولى ثقيف، ومنهم نصير أبو موسى بن نصير، ومنهم أبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وسيرين أبو محمد بن سيرين ، وحريث ، وعلاثة. فصار أبو عمرة للمعنى، وحمران لعثمان. ومنهم عمير وأبو قيس ؛ فثبت على نسبه من موالى أهل الشأم القدماء، وكان نصير ينسب إلى بني يشمكر، وأبو عمرة إلى بني مرة ومنهم ابن أخت النمر.
كتب إلى السرى ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي سفيان طلحة بن عبد الرحمن والمهلب بن عقبة، قالوا: ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد على أبي بكر رحمه الله بما بعث به إليه من الأخماس وجهه إلى عياض، وأمده به ، فقدم عليه الوليد، وعياض محاصرهموه ، وقد أخذوا عليه بالطريق، فقال له : الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف ؛ ابعث إلى خالد فاستمده. ففعل ؛ فقدم عليه رسوله غب وقعة العين مستغيثاً، فعجل إلى عياض بكتابه: من خالد إلى عياض إياك أريد.
لبث قليلا تأتك الحلائب
يحملن آساداً عليها القاشب
كتاب يتبعها كتائب
خبر دومة الجندلقالوا: ولما فرغ خالد من عين التمر حلف فيها عويم بن الكاهل الأسلمى، وخرج في تعبيته التي دخل فيها العين ؛ ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهوم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما قد أتاهم وديعة في كلب بهراء ، ومسانده ابن وبرة بن رومانس، وآتاهم ابن الحدرجان في الضجاعم، وابن الأيهم في طوائف من غسان وتنوخ، فأشجوا عياضاً وشجوا به.
فلما بلغهم دنو خالد؛ وهم على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك والجودى ابن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد؛ لا أحد أيمن طائراً منه، ولا أحد في حرب، ولا يرى وجه خالد قومن أبداً قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه ؛ فأطعوني وصالحوا القوم. فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.

فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالداً؛ فبعث عاصم بن عمرو معارضاً له، فأخذه فقال: إنما تلقبت الأمير خالداً؛ فلما أتى به خالداً أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شئ، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودي بن ربيعة، ووديعة الكلبي، وابن رومانس الكلبي، وابن الأيهم وابن الحدرجان ؛ فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض. وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة ، ولم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودي، فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض ؛ فاقتتلوا ، فهزم الله الجودي ووديعة على يدي خحالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون ؛ فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذاً، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن؛ فلم يحملهم؛ فلما امتلأ الحصن أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم، فبثقوا حوله حرداء ؛ وقال عاصم بن عمرو : يا بني تميم ، حلفاؤكم كلب، آسوهم وأجيروهم؛فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا. وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بني تميم بهم، وأقبل خالد على الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن ، ودعا خالد بالجودي فضرب عنقه ؛ ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم إلا أسارى كلب، فإن عاصماً والأقرع وبني تميم قالوا: قد آمناهم ؛ فأطلقهم لهم خالد، وقال : مالي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام ! فقال له عاصم: لا تحسدوهم العافية ؛ ولا يحوزهم الشيطان . ثم أطاف خالد بالباب ، فلم يزل عنه حتى اقتلعه ؛ واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الشرخ ؛ فأقاموهم فيمن يزيد ؛ فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة، وأقام خالد بدومة ورد الأقرع إلى الأنبار.
ولما رجع خالد إلى الحيرة - وكان منها قريباً حيث يصيبحها - أخذ القعقاع أهل الحيرة بالتقليس ، فخرجوا يتلقونه وهم يقلسون؛ وجعل بعضهم يقول لبعض: مروا بنا فرج الشر! كتب إلى السرى، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وقد كان خالد أقام بدومة ، فظن الأعاجم به ؛ وكاتبهم عرب الجزيرة غضباً لعقة؛ فخرج، زرمهر من بغدادج ومعه روزيه يريدان الأنبار ؛ واتعدا حصيداً والخنافس، فكتب الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة ؛ فبعث القعقاع أعبد بن فدكي السعدي وأمره بالحصيد، وبعث عروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس، وقال لهما: رأيتما مقدماً فأقد ما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، وأغلقاهما، وانتظر رزوبه وززرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة؛ وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا ؛ فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادقة أهل المدائن، كره خلاف أبي بكر، وأن يتعلق عليه بشئ، فعجل القعقاع ابن عمرو وأبو ليلى بن فدكي إلى رزوبه وزمهير، فسبقاه إلى عين التمر، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبي، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى وبالبشر في عسكر غضباً لعقة، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، واستخلف على الحيرة عياضين غنم، وأخذ طريق القعقاع وأبى ليلى إلى الخنافس حتى قدم عليهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وأمره على الناس، وبعث أبا ليلى الخنافس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استأرهم؛ وغلا فواقعاهم. فأبيا إلا المقام خبر حصيد فلما رأى القعقاع أن زرمهر وروزبه لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من مر به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا بحصيد، فاقتتلوا، فقتل الله العجم مقتله عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر، وقتل روزبه ؛ قتله عصمة بن عبد الله أحد بني الحجارث بن كطريف، من بني ضبة، وكان عصمة من البررة - وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاججروا من بطن يدعون الخيرة - فكان المسلمون خيرة وبررة . وغنم المسلمون يوم حصيد عنائم كثيرة وأرز فلال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.
الخنافس

وسار أبو ليلى بن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس؛ وقد أرزت فلال حصيد إلى المهبوذان، فلما أحس المهبوذان بقدومهم هرب ومن معه وأرزوا إلى المصيخ، وبه الهذيل بن عمران، ولم يلق بالخنافس كيداً، وبعثوا إلى خالد بالخبر جميعاً.
مصيخ بني البرشاء قالوا: ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إليهم، ووعد القعقاع وأبا ليلى وأعبد وعروة ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ - وهو بين حوران والقلت - وخرج خالد من العين قاصداً. للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فنزل الجناب فالبردان فالحنى، واستقل من الحنى ؛ فلما كان تلك الساعة من لييلة الموعد اتفقوا جميعاً بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه؛ وهم نائمون من ثلاثة أوجه، فقتلوهم. وأفلت الهذيل في أناس قليل ؛ وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا بهم إلا غنما مصرعة ؛ وقد كان حر قوص بن النعمان قد محضهم النصح وأجاد الرأي ، فلم ينتفعوا بتحذيره، وقال حورقوص بن النعمان قبل الغار: ألا سقياني قبل خيل أبي بكر الأبيات. وكان حرقوص معرساً بأمرأة من بني هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وعبادة بن البشر وامرؤ القيس بن بشر وقيس بن بشر ؛ وهؤلاء بنو الثورية من بني خلال. وأصاب جرير بن عبد الله يوم المصيخ من النمر عبد العزى بن أبي رهم بن قرواش أخاً أوس مناة من النمر، وكان معه ومع لبيد بن جرير كتاب من أبي بكر بإسلامهما، وبلغ أبا بكر قول عبد العزى وقد سماه عبد الله ليلة الغارة، وقال: سبحانك اللهم رب محمد فوداه وودى لبيداً - وكانا أصيبا في المعركة - وقال: أما إن ذلك ليس على إذ نازلً أهل الحرب؛ وأوصى بأولادهما ، وكان عمر يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك - يعني أبن نزيرة - فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم. وقال عبد العزى:
أقول إذ طريق الصباح بغارة: ... سبحانك اللهم رب محمد
سبحان ربي لا غله غيره ... رب البلاد ورب من يتورد
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عدي بن حاتم، قال: أغرنا على أهل المصيخ، وإذا رجل يدعى بإسمه حروقوص ابن النعمان، من النمر ، وإذا حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من خمر ؛ وهم عليها عكوف يقولن له: ومن يشرب هذه الساعة وفي أعجاز الليل! فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمراً بعدها، هذا خالد بالعين وجنوده بحصيد، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا ؛ ثم قال:
ألا فاشربوا من قبل قاصمه الظهر ... بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بلقدر ... لحين لعمري لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو في ذلك في بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو في جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
الثنى والزميل

وقد نزل ربيعة بن بجير التغلبي الثنى والبشر غضباً لعقة، وواعد روزبه وزرمهر والهذيل. فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به ، تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الليلة ليفتقروا فيها للغارة عليهم من ثلاثة أوجه؛ كما فعل بأهل المصيخ. ثم خرج خالد من المصيخ، فنزل حوران، ثم الرنق، ثم الحماة - وهي اليوم لبنى جنادة بن زهير من كلب - ثم الزميل ؛ وهو البشر والثنى معه - وهما اليوم شرقي الرصافة - فبدأ بالثنى، واجتمع هو وأصحابه، فبيته من ثلاثة أوجه بياتاً ومن أجتمع له إليه ، ومن تأشب لذلك من الشبان ؛ فجرودوا فيهم السيوف، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبى الشرخ، وبعث بخمس الله إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف بن النعمان الشيباني، وقسم النهب والسبايا، فاشترى على بن أبي طالب عليه السلام بنت ربيعة ابن بجير التغلبي، فاتخذها؛ فولدت؛ له عمر ورقية ، وكان الهذيل حين نجا أوى إلى الزميل، إلى عتاب بن فلان؛ وهو بالبشر في عسكر ضخم ؛ فبيتهم بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، فقتل منهم مقتله عظيمة لم يقتلوا قبلها مثلها؛ وأصابوا منهم ما شاءوا وكانت على خالد يمين: ليبتغن تغلب في دارها؛ وقسم خالد فيئهم في الناس، وبعث بالأخماس إلى أبي بكر مع الصباح بن فلان المزني، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري ؛ وليلى بنت خالد ، وريحانة بنت الهذيل بن هبيرة. ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب ؛ وبها هلال بن عقة، وقد ارفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد ؛ وانقشع عنها هلال فلم يلق كيداً بها.
حديث الفراض ثم قصد خالد بعد الرضاب وبغتته تغلب إلى الفراض، والفراض: تخوم الشأم والعراق والجزيرة - فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام، ونظمن نظماً أكثر فيهن الرجاز إلى ما كان قبل ذلك منهن.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة - وشاركهما عمرو بن محمد ؛ عن رجل من بني سعد، عن ظفر بن دهي - والمهلب بن عقبة، قالوا فلما اجتمع المسلمون بالفراض، حميت الروم واغتاظت، واستعانوات بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حملوا واغتاظت، واستعانوات بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر ؛ فأمدوهم ؛ ثم ناهدوا خالداً ؛ حتى إذا صار الفرات بينهم ، قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. قال: خالد: اعبروا أسفل منا. وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثني عشرة. فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتبوا ملككم ؛ هذا رجل بقاتل على دين ، وله عقل وعلم ، والله لينصرن ولنخلن. ثم لم ينتفعوا بذلك ؛ فعبروا أسفل من خالد ؛ فلما تتاتموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح ؛ من أينا يجئ ! ففعلوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً. ثم أن الله عز وجل هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحوا علهيم ولا ترفهوا عنهم ؛ فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشراَ، ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة ؛ وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ؛ وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه في الساقة.
حجة خالد قال أبو جعفر: وخرج خالد حاجاً من الفراض لخمس بقين من ذي القعدة، مكتتماً بحجة، ومعه عدة من أصحابه ؛ يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت ، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال، فسار طريقاً من طريق أهل الجزيرة، لم ير طريق أعجب منه ؛ ولا أشد على صعوبته منه فكانت غيبته عن الجند يسيرة ؛ فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه. فقدما معاً ؛ وخالد وأصحابه محلقون ؛ لم يعلم بحجة إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله بذلك إلا بعد ؛ فعتب عليه. وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشأم. وكان مسير خالد من الفراض أن استعرض البلاد متعسفاً متسمتاً، فقطع طريق الفراض ماء العنبري، ثم مثقباً، ثم أنتهى إلى ذات عرق، فشرق منها، فأسلمه إلى عرفات من الفراض، وسمى ذلك الطريق الصد ؛ ووافاه كتاب من أبي بكر منصرفه من حجة بالحيرة يأمره بالشأم ؛ يقاربه ويباعده.

قال أبو جعفر: قالوا: فوافى خالداً كتاب أبي بكر بالحيرة، منصرفه من حجة: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا ؛ وإياك أن تعود لمثل ما فعلت ؛ فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك ؛ فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ؛ فأتمم يتمم الله لك ، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو ولي الجزاء.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء بن البكائيي، عن المقطع بن الهيثم البكائي، عن أبيه قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل. ويسمون ما بينها وبين الفراض ما يذكرون ما كان بعد احتقاراً لما كان بعد فيما كان قبل.
وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا على بن محمد بالأسناد الذي قد مضى ذكره، أن خالد بن الوليد أتى الأنبار فصالحوه على الجلاء، ثم أعطوه شيئاً رضى به وأنه أغار على سوق بغداد من رستاق العال، وأنه وجه المثنى فأغار على سوق فيها جمع لقضاعه وبكر، فأصاب ما في السوق ، ثم سار إلى عين التمر، ففتحها عنوة، فقتل وسبي، وبعث بالسبي إلى أبي بكر، فكان أول سبي قدم المدينة من العجم ؛ وسار إلى دومة الجندل، فقتل أكيدر، وسبى ابنة الجودى، ورجع فأقام بالحيرة.
هذا كله سنة اثني عشرة.
وفيها تزوج عمر رحمه الله عاتكة بنت زيد.
وفيها مات أبو مرثد الغنوي.
وفيها مات أبو العاصى بن الربيع في ذي الحجة ؛ وأوصى إلى الوبير، وتزوج على عليه السلام ابنته وفيها اشترى عمر أسلم مولاه.
واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم فيها أبو بكر رحمه الله ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة، عن رجل من بني سهم، عن ابن ماجدة السهمي، أنه قال: حج أبو بكر في خلافته سنة اثنتي عشرة وقد عارمت غلاماً من أهلي، فغص بأذني فقطع منها - أو غضضت بأذنه فقطعت منها - فرفع شأننا إلى أبي بكر، فقال: اذهبوا بهما إلى عمر فلينظر، فإن كان الجارح قد بلغ فليقد مكنه. ادعوا لي حجاماً. قال : فلما ذكر الحجام، قال: أما أني قد سمعت النبي الله لها فيه، وقد نهينتها أن تجعله حجاماً أو قصابا أو صانغاً ؛ فاقتص منه.
وذكر الواقدي، عن عثمان بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن أبيه، أن أبا بكر حج في سنة اثنتي عشرة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رحمه الله.
وقال بعضهم: حج بالناس سنة اثنتي عشرة عمر بن الخطاب.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، قال: بعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وإنه بعث سنة اثنتي عشرة على الموسم عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها وجه أبو بكر رحمه الله الجيوش إلى الشأم بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى اشأم، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسين، فأخذ طريق المعرقة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل ين حسنة - وهو أحد الغوث - وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم.
حدثني عمر بن شبة، عن على بن حمد بالأسناد الذي ذكرت قبل، عن شيوخه الذين مضى ذكرهم، قال: ثم وجه أبو بكر الجنود إلى الشأم أول سنة ثلاث عشرة، فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير، وولى يزيد بن أبي سفيان، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشأم، وخرجوا في سبعة آلاف.

قال أبو جعفر: وكان سبب عزل أبي بكر خالد بن سعيد - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر ؛ أن خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم تربص ببيعته شهرين، يقول: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يعزلني حتى قبضه الله. وقد لقى على بن أبي طالب وعثمان بن عفان ؛ فقال: يا بني عبد مناف ؛ لقد طبتم نفساً عن أمركم يليه غيركم! فأما أبو بكر فلم يحفلها عليه ، وأما عمر فاضطغنها عليه. ثم بعث أبو بكر الجنود إلى الشأم، وكان أول من استعمل على ربع منها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: اتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله، وأمر يزيد بن أبي سفيان.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن فضيل، عن جبير بن صخر حارس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ عن أبيه، قال: كان خالد بن سعيد بن العاصى باليمن زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بها، وقدم بعد وفاته بشهر، وعليه جبة ديباج عليه جبته! أيلبس الحرير وهو في رجلنا في السلم مهجور! فمزقوا جبته، فقال خالد: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغلبتم عليها! فقال على عليه السلام: أمغالبة ترى أم خلافة؟ قال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم يا بني عبد مناف. وقال عمر لخالد: فض الله فاك! والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت ثم لا يضر إلا نفسه. فأبلغ عمر أبا بكر مقالته ؛ فلما عقد أبو بكر الألوية لقتال أهل الردة عقد له فيمن عقد، فنهاه عنه عمر الأرض مدل بها وخائض فيها، فلا تستنصر به . فلم يحتمل أبو بكر عليه، وجعله رداءاً بتيماء ؛ أطاع عمر في بعض أمره وعصاه في بعض.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف عن أبي إسحاق الشيباني، عن أبي عثمان، قالوا: أمر أبو بكر خالداً بأن ينزل تيماء، ففضل ردءاً حتى ينزل بتيماء ؛ وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالإنضمام إليه، وألا تقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قتله؛ حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمع إليه جموع كثيرة ؛ وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية البعوث بالشأم إليهم ؛ فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك، وبنزول من استنفرت الروم ؛ ونفر إليهم من بهراء وكلب وسليح وتنوخ ولخم وجذام وغسان من دون زيزاء بثلاث ؛ فكتب إليه أبو بكر: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله ؛ فسار خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم ؛ فنزله ودخل عامة من كان تجمع له في الإسلام ؛ وكتب خالد إلى أبي بكر بذلك فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولاتقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل ؛ حتى نزلوا فيما بين آبل وزيزاء والقسطل ؛ فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى بدهان ؛ فهزمه وقتل جنده، وكتب بذلك إلى أبي بكر واستمده. وقدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن ومن بين مكة واليمن ؛ وفيهم ذو الكلاع، وقدم عليه عكرمة قافلاً وغازياً فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين والسرو. فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل ؛ فكلهم استبدل ؛ فسمى ذلك الجيش جيش البدال. فقدموا على خالد بن عسيد؛ وعند ذلك اهتاج أبو بكر الشأم ، وعناه أمره. وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاها إياه م صدقات سعد هذيم، وعذرة ومن لفها من جذام، وحدس قبل ذهابه إلى عمان. فخرج إلى عمان وهو على عدة من عمله ؛ إذا هو رجع . فأ،جز له ذلك أبو بكر.
فكتب أبو بكر عند اهتياجه للشأم إلى عمرو: إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة ، وسماه لك أخرى ؛ مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد وليته ثم وليته ؛ وقد أحببت - أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ؛ إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك . فكتب إليه عمرو : إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي. وكتب إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كتب أبو بكر إلى عمرو، وإلى الوليد بن عقبة - وكان على النصف من صدقات قضاعة - وقد كان أبو بكر شيعهما مبعثهما على الصدقة، وأوصى كل واحد منهما بوصية واحدة: اتق الله في السر والعلانية ؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب ؛ ومن يتق الله بكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً . فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله ؛ إنك في سبيل من سبيل الله ؛ لا يسعك فيه الإذهان والتفريط والغفلة عما فيه قوام دينكم ، وعصمة أمركم، فلا تن ولا تفتر. وكتب إليهما: استخلفا على أعمالكما، واندبا من يليكما.
فولى عمرو على عليا قضاعة عمرو بن فلان العذري، وولى الوليد على ضاحية قضاعة مما يلي دومة امرأ القيس، وندبا الناس، فتتام إليهما بشر كثير، وانتظر أمر أبي بكر.
وقام أبو بكر في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، وقال: ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبة ؛ ومن عمل لله كفاه اللهش. عليكم بالجد والقصد ؛ فإن القصد أبلغ؛ ألا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له. ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ؛ هي التجارة التي دل الله عليها، ونجى بها من الخزي ؛ وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.
فأمد عمراً ببعض من انتدب إلى من اجتمع إليه، وأمره على فلسطين، وأمره بطريق سماها له ؛ وكتب إلى الوليد وأمره بالأردن، وأمد ببعضهم. ودعا يزيد بن أبي سفيان، فأمره على جند عظيم ، هم جمهور من انتدب له ، وفي جنده سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة، وأمره على حمص وخرج معه وهما ماشيان والناس معهما وخلفهما، وأوصى كل واحد منهما.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم، ومبشر عن سالك، ويزيد بن أسيد الغساني عن خالد، وعبادة، قالوا: ولما قدم الوليد على خالد بن سعيد فسانده ، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم وسموا جيش البدال، وبلغه عن الأمراء وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء بقتال الروم، واستطرد له باهان فأرز هو ومن منه إلى دمشق ؛ واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل مرج الصفر ؛ من بين الواقوصة ودمشق ؛ فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطريق ولا يشعر ، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمر في الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالداً، فخرج هارباً في جريدة، فأفلت من أفلت من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، وقد أجهضوا عن عسكرهم؛ ولم ينته بخالد بن سعيد الهزيمة عن ذي المروة، وأقام عكرمة في الناس ردءاً لهم ، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه، وأقام من الشأم على قريب، وقد قدم شرحبيل بن حسنة وافداً من عند خالد بن الوليد، فندب معه الناس، ثم استعمله أبو بكر على عمل الوليد، وخرج معه يوصيه، فأتى شرحبيل على خالد، ففصل بأصحابه إلا القليل، واجتمع إلى أبي بكر أناس، فأمر عليهم معاوية، وأمره باللحاق بيزيد، فخرج معاوية حتى لحق بيزيد ؛ فلما مر بخالد فصل ببقية أصحابه.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب لم يزل يكلم أبا بكر في خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد ؛ فأبى أن يعطيه في خالد بن الوليد، وقال: لا أشيم سيفاً سله الله على الكفار، وأطاعه في خالد بن سعيد بعد كا فعل فعلته. فأخذ عمرو طريق المعرفة ، وسلك أبو عبيدة طريقه، وأخذ يزيد طريق التبوكية ؛ وسلك شرحبيل طريقه، وسمى لهم أمصار الشأم، وعرف أن الروم ستشغلهم ؛ فأحب أن يصعد المصوب ويصوب المصعد ؛ لئلا يتوكلوا، فكان كما ظن وصاروا إلى ما أحب.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما قدم خالد بن سعيد ذا المروة، وأتى أبا بكر الخبر كتب إلى خالد: أقم مكانك ، فلعمري إنك مقدام محجام، نجاء من الغمرات، لا تخزوضها إلا إلى الحق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد؛ وأذن له في دخوله المدينة قال خالد: اعذرني، قال: كان عمر وعلى أعلم بخالد؛ ولو أطعتهما فيه اختشيته واتقيته!

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر وسهل وأبي عثمان، عن خالد وعبادةة وأبي حارثة، قالوا: وأوعب القواد بالناس نحو الشأم وعكرمة ردء للناس، وبلغ الروم ذلك؛ فكتبوا إلى هرقل؛ وخرج هرقل حتى نزل بحمص، فاعد لهم الجنود، وعبى لهم العساكطر؛ وأراد اشتغال بعضهم عن بعض لكثرة حنده، وفضول رجاله؛ وأرسل إلى عمرو أخاه تذارق لأبيه وأمنه، فخرج نحوهم في تسعين ألفاً، وبعث من يسوقهم، حتى نزل صاحب الساقة ثنية جلق بأعلى فلسطين، وبعث جرحه بن توذار نحو يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه ، وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث الفيقار بن نسطوس في ستين ألفاً نحو أبي عبيدة؛ فهاجم المسلمون وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفاً؛ سوى عكرمة في ستة آلاف؛ ففزعوا جميعاً بالكتب وبالرسل إلى عمرو: أن ما الرأي ؟ فكاتبهم وراسلهم: إن الرأي الإجماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة ؛ وإذا نحن تفرقنا لم يبق الرجل منا في عدد يقرن فيه لأحد ممن استقبلنا وأعد لنا لكل طائفة منا. فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا به. وقد كتب إلى أبي بكر بمثل كا كاتبوا به عمراً ؛ فطلع عليهم كتابه بمثل رأى عمرو، بأن اجتمعوا عسكراً واحداً، وألقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله؛ والله ناصر من نصرهن، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة ؛ وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب ؛ فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل رجل منكم بأصحابه.
وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطاقته: أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالروم منزلاً واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب؛ وعلى الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والد راقص، وعلى الحرب الفيقار ؛ وأبشروا فإن باهان في الأثر مدد لكم. ففعلوا فنزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك، وصار الوادي خندقاً لهم؛ وهو لهب لا يدرك ؛ وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم ويأنسوا بالمسلمين ؛ وترجع إليهم أفئتهم عن طيرتها.
وانتقل المسلمون عن عسكرهم الذي اجتمعوا به فنزل عليهم بحذائهم على كريقهم؛ وليس للروم طريق إلا عليهم . فقال عمرو: أيها الناس، أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير؟ فأقاموا بإزائهم وعلى ريقهم ؛ ومخرجهم صفر من سنة ثلاث عشرة وشهري ربيع، لا يقدون من الروم على شئ ؛ ولا يخلصون إليهم ؛ اللهب - وهو الواقصة - من ورائهم ، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجه إلا أديل المسلمون منهم ؛ حتى إذا سلخوا شهر ربيع الأول ؛ وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر ؛ فكتب إلى خالد ليلحق بهم، وأمره أن يخلف على العراق المثنى ؛ فوافهاهم في ربيع.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو والمهلب، قالوا: ولما نزل المسلمون اليرموك، واستمدوا أبا بكر، قال: خالد لها فبعث إليه وهو بالعراق، وعزم عليه واستحثه في السير، فنفذ خالد لذلك فطلع عليهم خالد؛ وطلع باهان على الروم، وقد قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين ؛ يغرونهم ويخضضونهم على التقال ؛ ووافق قدوم خالد قدوم باهان، فخرج بهم باهان كالمقتدر ؛ فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم ؛ فهزم باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم ؛ وتيمنت الروم بباهان ؛ وفرح المسلمون بخالد وحرد المسلمون. وحرب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف ؛ منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألفاً منهم مسلسل للموت، وأربعون ألفاً مربطوزن بالعمائم، وثمانون ألف فارس وثمانون ألف راجل، والمسلمون سبعة وعشرون ألفاً ممن كان مقيماً ؛ إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف ؛ فصاروا ستة وثلاثين ألفاً.
ومرض أبو بكر رحمه الله في جمادى ا " لولى، وتوفى للنصف من جمادى الآخرة، قبل الفتح بعشر ليال.
خبر اليرموك قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشأم كورة ؛ فسمى لأبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح حمص، وليزيد بن أبي سفيان دمشق ؛ ولشرحبيل بن حسنة الأردن، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطن، فلما فرغا منها نزل علقمة وسار إلى مصر. فلما شارفوا الششأم، دهم كل أمير منهم قوم كثير، فأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد، وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.

ولما رأى خالد أن المسلمين يقاتلون متساندين قال لهم: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز الله به الدين، ولا يدخل عليكم معه ولا منه نقيصة ولا مكروه ! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عن خالد وعبادة، قالا: توافى إليها مع الأمراء والجنود الأربعة سبعة وعشرون ألفاً وثلاثة آلاف من فلال خالد بن سعيد، أمر عليهم أبو بكر معاوية وشرحبيل، وعشرة آلف من أمداد أهل العراق مع خالد ابن الوليد سوى ستة آلاف ثبتوا مع عكرمة ردءا بعد خالد بن سعيد؛ فكانوا ستة وأربيعن ألفاً، وكل قتالهم كان على تساند، كل جند وأميره ؛ لا يجمعهم أحد؛ حتى قدم عليهم خالد من العراق. وكان عسكر أبي عبيدة باليرموك مجاوراً لعسكر عمرو بن العاص، وعسكر شرجبيل مجاوراً لعسكر يزيد بن أبي سفيان ؛ فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو، وشرحبيل، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم تلك؛ فعسكر على حدة ؛ فصلى بأهل العراق، ووافق خالد بن الوليدالمسلمين وهم متضايقون بمدد الروم ؛ عليهم باهان ووافق الروم وهم نشاط بمددهم ، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى إلى الخنادق - والواقوصة أحد حدوده - فلزموا خندقهم عامة شهر يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان وينعمون لهم النصرانية ؛ حتى استبصروا. فخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال مثله ، في جمادى الآخر.
فلما أحس المسلمون خروجهم، وأرادوا الخروج متساندة، سار فيهم خالد بن الوليد ؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملهم ؛ فإن هذا يوم له ما بعده ؛ ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية ؛ على تساند وانتشار ؛ فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا ؛ فاعلموا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته، قالوا: فهات ، فما الرأي ؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يلاى أنا سنتياير، ولو علم بالذي كان ويكون ؛ لقد جمعطم . إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم ؛ ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله ، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه آن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غد ؛ حتى يتأمر كلكم ، ودعونني أليكم اليوم .

فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن المر أطول مما صاروا إليه؛ فخرجت الروم في تعبية لم ير الرءون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك ؛ فخرج في ستة وثلاثين كردوساً إلى الأربعين، وقال: إن عدوكم قد كثر وطغى، وليس من التعبية تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس. فجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة. وجعل المسيرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان. وكان على كردوس من كراديس أهل العراق القعقاع بن عمرو، وعلى كردوس مذعور بن عدي، وعياض بن غنم على كردوس، وهاشم بن عتبة على كردوي، وزياد بن حنظلة على كردوس، وخالدفي كردوس؛ وعلى فالة خالد بن سعيد دحية بن خلفية على كردوس، وخالد في كردوس؛ وعلى فالة خالد بن سعيد دححية بن خليفة على كردوس، وأبو عبيدة على كردوس، وعكرمة على كردوس، وسهيل على كرودس وعبد الحمن بن خالد على كردوس - وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة - وحبيب بن مسلمة على كردس، وصفوان بن أمية على كردوس، وسعيد بن خالد على كردوس، وأبو الأعور بن سفيان على كردوس، وابن ذي خالد على كردوس ؛ وفي الميمنة عمارة بن مخشي ابن خويلد على كردوس ؛ وشرحبيل على كردوس ومعه خالد بن سعيد، وعبد الله بن قيس على كردوس ؛ وعمرو بن عبسة على كردوس، والسمط ب الأسود على كردوس، وذو الكلاع على كردوس، ومعاوية بن حديج على آخر ؛ وجندب بن عمرو بن حممة على كردوس، وعمرو بن فلان على كردوس، وفي المسيرة يزيد بن أبي سفيان على كردوس، والزبير على كردوس، وحوشب ذو ظليم على كردوس، وقيس ين عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن مازن بن صعصعة من هوازن - حليف لبنى النجار - على كردوس، وعصمة بن عبد الله - حليف لبني النجار من بني أسد - على كردوس، وضرار بن الأزور على كردوس، ومسروق بن فلان على كردوس وعتبة بن ربيعة بن بهز - حليف لبني عصمة - على كردوس، وجارية بن عبد الله الأشجعي - حليف لبني سلمة - على كردوس، وقباث على كردوس.
وكان القاضي أبو الدراداء، وكان القاص أبو سفيان بن حرب، وكان على الطلائع قباث بن أشيم ؛ وكان على الأقباض عبد الله بن مسعود.
كتب إلى السرى، عن شعيبن عن سيف، عن محمد وطلحة نحواً من حديث أبي عثمان ؛ وقالوا جميعاً: وكان القارئ المقداد. ومن السنة التي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء ؛ ولم يزل الناس بعد ذلك على ذلك.
كتب إلى السري، عن شعيب، عنسيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عن عبادة وخالد ؛ قالا: شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نحو من مائة من أهل بدر. قالا: وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول: الله الله ! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك! اللهم إن هذا يوم من أيامك ؛ اللهم أنزل نصرك على عبادك! قالا: وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: وما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما الجنود بالنصر وتقل بالخذلان ؛ لا بعدد الرجال؛ والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه ؛ وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفى في مسيره - قالا: فأمر خالد عكرمة والقعقاع، وكانا على مجنبتي القلب، فأنشبا القتال، وارتجز القعقاع وقال:
يا ليتني ألقاك في الطراد ... قبل اعترام الجحفل الوراد
وأنت في حلبتك الوارد وقال عكرمة: قد علمت بهنكة الجواري أني على مكرمة أحامي

فنشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان ؛ فإنهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة ؛ فأخذته الخيول ؛ وسألوه الخبر ؛ فلم يخبرهم إلا بسلامة ؛ وأخبرهم عن أمداد ؛ وإنما جاء بموت أبي بكر رحمه الله وتأمير أبي عبيدة ؛ فأبلغوه خالداً، فأخبره خبراً أبي بكر؛ أسره إليه ، وأخبره بالذي أخبر به الجند. قال: أحسنت فقف، وأخذ الكتاب وجعله في منانته ؛ وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر له أمر الجند ؛ فوقف محمية بن زنيم مع خالد وهو الرسول ؛ وخرج جرجة حتى كان بين الصفين ونادي : ليخرج إلى خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فوفقه بين الصفين ؛ حتىاختلف أعناق دابتيهما ، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد أصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله ؛ هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه. فلا تله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا ، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم ، فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعاً. ثم إن بعضنا صدقه وتابعه ؛ وبعضنا باعده وكذبه ؛ فكنت فيمن كذبة وباعده وقاتله. ثم أن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به، فتابعناه. فقال : أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين! ودعا لي بالنصر ؛ فسميت سيف الله بذلك ؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين. قال صدقني، ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرني إلا م تدعوني؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله، قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم، قال: فإن لم يعطيها ، قال: نؤذبه بحرب، ثم نقاتله، قال : فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكن إلى هذا المر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا. ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل مالكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل؛ قال : وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ قال " إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج ؛ فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا. قال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني! قال : بالله ؛ لقد صدقتك وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة ؛ وإن الله لولي ما سألت عنه. فقال: صدقني ؛ وقلب الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى ركعتين ؛ وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد ؛ وهم يرون أنها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة والحارث بن هشام. وركب خالد ومعه جرجة والروم خلال المسلمين ؛ فتنادى الناس ، فثابوا ، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضربفيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغرةوب، ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، وكان مقاتلهم واسع المطرد، ضيق المهرب ؛ فلما وجدت خيلهم مذهباً ذهبت وتركوا رجلهم في مصافهم ؛ وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء، وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب، أفرحوا لها، ولم يحرجوها ؛ فذهبت فتفرقت في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل ففضوهم ؛ فكأنما هدم بهم حائط ؛ فاقتحموا في خندقهم، فاقتحمه عليهم فعمدوا إلى الواقوصة، حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من خشعت نفسه فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه ؛ كلما هوى اثنان كانت البقية أضعف ، فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف ؛ ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق ؛ سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل ؛ فكان سهم الفارس يومئذ ألفا وخمسمائة، وتجلل الفيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم، ثم جلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور ؛ وإذا لم نستطع أن نمنع النصرانية ؛ فأصيبوا في تزملهم.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة ؛ قالا: أصبح خالد من تلك الليلة، وهو في رواق تذارق، لما دخل الخندق نزله وأحاطت به خيله، وقاتل الناس حتى أصبحوا.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان الغساني، عن أبيه، قال: قال عكرمة بن أبي جهل يومئذ: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل موطن، وأفر منكم اليوم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هاشم وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم ؛ فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعاً جراحاً، وقتلوا إلا من برأ، ومنهم ضرار بن الأزور. قال: وأتى خالد بعدما أصبحواا بعكرمة جريحاً فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه، وجعل يمسح عن وجههما، ويقطر في حلوقهما الماء، ويقول: كلا، زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عميس، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة - وكان شهد اليرموك هو وعبادة بن الصامت - أن النساء قاتلن يوم اليرموك في جولة، فخرج - ت جوريرية ابنة أبي سفيان في جولة، وكانت مع زوجها وأصيب بعد قتال شديد، وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان، فأخرج السهم من عينه أبو حثمة.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد بن أرطأة بن جهيش، قال: كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية ؛ فخرج يومئذ رجل من الروم، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر ؛ فاختلفا شربتين، فقال للرومي: خذها وأنا الغلام الإيادي فقال: الرومي: أكثر الله في قومي مثلك! أما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا أعينهم ! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وخالد: وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة، وعمرو بن عكرمة، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد - وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد - وجندب بن عمرو بن حممة الدوسي، والطفيل بن عمرو، وضرار بن الأزور أثبت فبقي وطليب بن عمير بن وهب من بني عبد قصي، وهبار بن سفيان، وهشام بن العاصي.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، قال: لقي خالداً مقدمة الشأم مغيثاً لأهل اليرموك رجل من روم العرب، فقال: يا خالد، إن الروم في جمع كثير ؛ مائتي ألف أو يزيدون ؛ فإن رأيت أن ترجع على حاميتك فافعل ؛ فقال خالد: أبا لروم تخوفني! والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه، وأنهم أضعفوا ضعفهم، فهزمهم الله على يديه! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن أرطأة بن جهيش، قال : قال خالد يومئذ: المد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلى من عمر، والحمد لله ولي عمر، وكان أبعض إلى من أبي بكر ثم ألزمني حبه! كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بن ميمون، قالوا: وقد كان هرقل حج قبل مهزم خالد بن سعيد، فحج بيت المقدس، فبينا هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم، وقال: أرى من الرأي ألا تقاتلون هؤلاء القوم، وأن نصالحوهم ؛ فوالله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشأم ؛ وتأخذوا نصفاً وتقر لكم جبال الروم ؛ خير لكم من أن يبلغوكم على الشأم، ويشاركوكم في جبال الروم ؛ فنخر أخوه ونخر ختنه ؛ وتصدع عنه من كان حوله ؛ فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه، وأمر الأمراء ووجه إلى كل جند جنداً. فلما اجتمع المسلمون، أمرهم بمنزل واحد واسع جامع حصين، فنزلوا بالواقوصة، وخرج فنزل حمص، فلما بلغه أن خالداً قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم، وعمد إلى بصرى وافتتحها وأباح عذراء، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم ! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم ؛ إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم ، فلا يقوم لهم أحد حتى يبلى. فقالوا: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس، واقض الذي عليك ؛ قال: وأي شئ أطلب إلا توفير دينكم!

ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعث إليهم المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته ؛ فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان كالرسول، والحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأبو جندل بن سهيل ؛ ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقاً في عسكره وثلاثون سرادقاً، كلها من ديباج ؛ فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا . فبرز إلى فرش ممهدة وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم إ ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال ؛تى جاء الفتح.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مطرح، عن القاسم، عن أبي أمامة وأبي عثمان، عن يزيد بن سنان، عن رجال من أهل الشأم ومن أشياخهم ؛ قالوا: لما كان اليوم الذي تأمر فيه خالد، هزم الله الروم مع الليل، وصعد المسلمون العقبة، وأصابوا ما في العسكر، وقتل الله صناديدهم ورءوسهم وفرسانهم، وقتل الله أخاً هرقل، وأخذ التذارق، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص، فارتحل فجعل حمص بينه وبينهم، وأمر عليها أميراً وخلفه فيها، كما كان أمر على دمشق، وأتبع المسلمون الروم حين هزموهم خيولاً يثفنونهم . ولما صار إلى أبي عبيدة الأمر بعد الهزيمة ؛ نادى بالرحيل، وارتحل المسلمون بزحفهم حتى وضعوا عساكرهم بمرج الصفر. قال أبو أمامة: فبعث طليعة من مرج الصفر، معي فارسان ؛ حتى دخلت الغوطة فجستها بين أبياتها وشجراتها، فقال أحد صاحبي: قد بلغت حيث أمرت فانصرف لا تهلكنا، فقلت: قف مكانك حتى تصبح أو آتيك. فسرت حتى دفعت إلى باب المدينة ؛ وليس في الأرض أحد ظاهر، فنزعت لجام فرسي وعلقت عليها مخلاتها، وركزت رمحي، ثم وضعت رأسي فلم أشعر إلا بالمفتاح يحرك عند الباب ليفتح ؛ فقمت فصليت الغداة ، ثم ركبت فرسي، فحملت عليه، فطعنت البواب فقتله، ثم انكفأت راجعاً؛ وخرجوا يطلبونني، فجعلوا يكفون عني مخافة أن يكون لي كمين، فدفعت إلى صاحبي الأدنى الذي أمرته أن يقف، فلما رأوه قالوا: هذا كمين انتهى إلى كمينه. فانصرفوا وسرت أنا وصاحبي، حتى دفعنا إلى صاحبنا الثاني، فسرنا حتى انتهينا إلى المسلمين ؛ وقد عزم أبو عبيدة ألا يبرح حتى يأتيه رأى عمر وأمره ؛ فأتاه فرحلوا حتى نزلوا على دمشق، وخلف باليرموك بشير بن كعب بن أبي الحميري في خيل.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد عن أبي سعيد، قال: قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيراً ونفلاً كثيراً، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت اتبعته في الجاهلية حين أدركت وآنست من نفسي لأصيب منه ؛ كنت دللت عليه، فأتيته فأخبرته، فقال: قد أصيب، فإذا ريبال من ريابلة العرب قد كان يأكل في اليوم عجز جزور بأدمها ومقدار ذلك منغير الغجز ما يفضل عنه إلا ما يقوتني. وكان يغير على الحي ويدعني قريباً، ويقول: إذا مر بك راجز يرتجز بكذا وكذا، فأنا ذلك ؛ فشل معي . فمكثت بذلك حتى أقطعني قطيعاً من مال، وأتيت به أهلي ؛ فهو أول مال أصبته. ثم إني رأست قومي ؛ وبلغت مبلغ رجال العرب، فلما مر بنا على ذلك الماء عرفته، فسألت عن بيته فلم يعرفوه، وقالوا: هو حي، فأتيتت ببنين استفادهم بعدي، فأخبرتهم خبري، فقالوا: اغد علينا غداً، فإنه أقرب ما يكون إلى ما تحب بالغداة، فغاديتهم فأدخلت عليه، فأخرج من خدره ؛ فأجلس لي، فلم أزل أذكره حتى ذكر، وتسمع وجعل يطرب للحديث ويستطعمنيه، وكال مجلسنا وثقلنا على صبيانهم ؛ ففرقوه ببعض ما كان يفرق منه ليدخل خدره، فوافق ذلك عقله، فقال: قد كنت وما أفزع! فقلت أجل، فأعطيته ولم أدع أحداً من أهله إلا أصبته بمعروف ثم ارتحلت.
كتب إلى السرى، عن سيف، عن أبي سعيد المقبري، قال: قال مروان بن الحكم لقباث: أانت منى ، وأنا أقدم منه، قال: فما أبعد ذكرك؟ قال: حثى الفيل لسنة. قال: وما أعجب ما رأيت؟ قال: رجل من قضاعة ؛ إني لما أدركت وآنست من نفسي سألت عن رجل أكون معه وأصيب منه، فدللت عليه.... واقتص هذا الحديث.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، أن أبا بكر رحمه الله حين سار القوم خرج مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه، وأبو بكر يمشي ويزيد راكب، فلما فرغ من وصيته قال: أقرئك السلام، وأستودعك الله. ثم انصرف ومضى يزيد، فأخذ التبوكية ثم تبعه شرحبيل بن حسنة ثم يأبو عبيدة بن الجراح مدداً لهما على ربع، فسلكوا ذلك الطريق، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل بغمر العربات، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفاً، عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه. فكتب عمرو بن العاص ؛ وهو بمرج الصفر من أرض الشأم في يوم مطير يستمطر فيه ؛ فتعاوى عليه أعلاج الروم، فقتلوه، وقد كان عمرو بن العاص كتب إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم ويستمده.
قال أبو جعفر: وأما أبو يزيد، فحدثني عن علي بن محمد بالإسناد الذي قد ذكرت قبل ؛ أن أبا بكر رحمه الله وجه بعد خروج يزيد بن أبي سفيان موجهاً إلى الشأم بأيام، شرحبيل بن حسنة - قال: وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو، من كندة، ويقال من الأزد - فسار في سبعة آلاف، ثم أبا عبيدة بن الجراح في سبعة آلاف، فنزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن - ويقال بصرى - ونزل أبو عبيدة الجابية، ثم أمدهم بعمرو بن العاص، فنزل بغمر العربات، ثم رغب الناس في الجهاد ؛ فكانوا يأتون المدينة فيوجههم أبو بكر إلى الشأمفمنهم من يصير مع أبي عبيدة، ومنهم من يصير مع يزيد، يصير كل قوم مع من أحبوا.
قالوا: فأول صلح كان بالشأم صلح مآب؛ وهي فسطاط ليست بمدينة ، مر أبو عبيدة بهم في طريقه، وهي قرية من البلقاء، فقاتلوه، ثم سألوه الصلح فصالحهم . واجتمع الروم جمعاً بالعربة من أرض فلسطين ؛ فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي ؛ ففض ذلك الجمع قالوا: فأول حرب كانت بالشأم بعد سرية أسامة بالعربة. ثم أتوا الدائية - ويقال الدائن - فهزمهم أبو أمامة الباهلي، وقتل بطريقاً منهم . ثم كانت مرج الصفر، استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص، أتاهم أدرنجار في أربعة آلاف وهم غارون، فاستشهد خالد وعدة من المسلمين.
قال أبو جعفر: وقيل إن المقتول في هذه الغزوة كان ابناً لخالد بن سعيد، وإن خالداً انحاز حين قتل ابنه، فوجه أبو بكر خالد بن الوليد أميراً على الأمراء الذين بالشأم، ضمهم إليه ؛ فشخص خالد من الحيرة في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة في ثمانمائة - ويقال في خمسمائة - واستخلف على عمله المثنى بن حارثة، فلقيه عدو بصندوداء، فظفر بهم، وخلف بها ابن حرام الأنصار ؛ ولقى جمعاً بالمصيخ والحصيد، عليهم ربيعة بن بجير التغلبي، فهزمهم وسبى وغنم، وسار ففوز من قراقر إلى سوى ؛ فأغار على أهل سوى ؛ واكتسح أموالهم، وقتل حرقوص ابن النعمان البهراني، ثم أتى أرك فصالحوه، وأتى تدمر فتحصنوا ، ثم صالحوه ؛ ثم أتى القريتين، فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى حوارين ؛ فقاتلهم فهزمهم وقتل وسبى، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وأتى مرج راهط، فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، ووجه بسرين أبى ارطاة وحبيب بن مسلمة إلى الغوطة، فأتوا كنيسة فسبوا الرجال والنساء، وساقوا العيال إلى خالد.
قال: فوافى خالداً كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفة من حجه: أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا ، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ؛ فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل ؛ وإياك أن تدل بعمل، فإن الله عز وجل له المن، وهو ولي الجزاء.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء، عن الهيثم البكائي، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولن: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينهما وبين الفراض ؛ ما يذكرون ماكان بعد ؛ احتقاراً لكا كان بعد فيما كان قبل.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ظفر بن دهى ، ومحمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، والمهلب بن عقبة عن عبد الرحمن بن سياه الأحمري، قالوا: كان أبو بكر قد وجه خالد بن سعيد بن العاص إلى الشأم حيث وجه خالد بن الوليد إلى العراق، وأوصاه بمثل الذي أوصى به خالداً . وإن خالد بن سعيد سار حتى نزل على الشأم ولم يقتحك ؛ واستجلب الناس فعز ، فهابته الروم، فأحجموا عنه، فلم يصبر على أمر أبي بكر ولكن توردها فاستطردت له الروم، حتى أوردوه الصفر، ثم تعطفوا عليه بعد ما أمن ؛ فوافقوا ابنة سعيد بن خالد مسمطراً ؛ فقتلوه هو ومن معه، وأتى الخبر خالداً، فخرج هارباً حتى يأتي البر، فينزل منزلاً، واجتمعت الروم إلى اليرموك ؛ فنزلوا به، وقالوا: والله لنشعلن أبا بكر في نفسه عن تورد بلادنا بخيوله.
وكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بالذي كان، فكتب أبو بكر إلى عمرو ابن العاص - وكان بلاد قضاعة - بالسير إلى اليرموك، ففعل . وبعث أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان، وأمر كل واحد منهما بالغارة، وألا توغلوا حتى لا يكون وراءكم أحد من عدوكم.
وقدم عليه شرحبيل بن حسنة بفتح من فتوح خالد، فسرحه نحو الشأم في جند، وسمى لكل رجل من أمراء الأجناد كورة من كور الشأم ؛ فتوافروا باليرموك، فلما رأت الروم توافيهم، ندموا على الذي ظهر منهم، ونسوا الذي كانوا يتوعدون به أبا بكر، واهتموا وهمتهم أنفسهم، وأشجوهم وشجوا بهم، ثم نزلوا الواقصة. وقال أبو بكر: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، فكتب إليه بهذا الكتاب الذي فوق هذا الحديث، وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس، فإذا فتح الله على المسلمين الشأم، فارجع إلى عملك بالعراق. وبعث خالد بالخماس إلا ما نفل منها مع عمير بن سعد الأنصاري وبمسيرة إلى الشأم. ودعا خالد الأدلة، فارتحل من الحيرة شائراً إلى دومة، ثم طعن في البر إلى قراقر، ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم! فإن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فكلهم قال : لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيوش، يأخذ الفذ الراكب، فإياك أن تغرر بالمسلمين. فعزم عليهم ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد ، فقام فيهم، فقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أم المعونة تأتي على قدر النية ، والأحر على قدر الحسبة ؛ وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشئ يقع فيه مع معونة الله له، فقالوا : أنت رجل قد جمع الله لك الخير ، فشأنك. فطابقوه ونووا واحتسبوا، واشتهوا مثل الذي خيل بقدر ما يستقيها، فظمأ كل قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفيبه، ثم سقوها العلل بعد النهل ؛ ثم صروا آذن الإبل وكعموها، وخلوا أدبارها، ثم ركبوا من قراقر مفوزين إلى سوى - وهي على جانبيها الآخر مما يلي الشأم - فلما ساروا يوماً افتظوا لكل عدة من الخيل عشراً من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان، ثن سقوا الخيل، وشربوا للشفعة جرعاً، ففعلوا ذلك أربعة أيام.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز ابن ثعلبة ؛ عمن حدثة من بكر بن وائل، أن محرز بن حريش المحاربي قال لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك اليمن، ثم أمه تفض إلى سوى ؛ فكان أدلهم.
قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم محمد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشى أن يفضحهم حر الشمس، نادى هالد رافعاً: ما عندك؟ قال: خير، أدركتم الري ، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال: أيها الماس، انظروا علمين كأنهما ثديان. فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة - لعوسجة كعقدة الرجل - فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاسشتثاروا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلا مرة وأنا غلام مع أبي. فاستعدوا ثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشاً يقطع إليهم.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن أبراهيم، عن ظفر بن دهى، قال: فأغار بنا خالد من سوى على مصيخ بهراء بالقصواني - ماء من المياه - فصبح المصيخ والنمر ؛ وإنهم لغارون، وإن رفقة لتشرب في وجه الصبح، وساقيهم يغنيهم، ويقول:

ألا صبحاني قبل جيش أبي بكر فضربت عنقه، فاختلط دمه بخمره.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد بإسنادهالذي تقدم ذكره، قال: ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وغارته على مسيخ بهراء وانتسافها، فاجتمعوا بمرج واهط، وبلغ ذلك خالداً، وقد خلف ثغور الروم وجنودها مما يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، صمد لهم ؛ فخرج من سوى بعد مارجع إليها بسبي بهراء، فنزل الرمانتين - علمين على الطريق - ثم نزل الكثب ؛ حتى صار إلى دمشق ، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسام وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم. ونزل بالمرج أياماً، وبعث إلى أبي بكر بالأخماس مع بلال بن الحارث المزني، ثم خرج من المرج حتى ينزل قناة بصرى ؛ فكانت أول مدينة افتتحت بالشأم على يدي خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها، فوافى المسلمين بالواقوصة، فنازلهم بها في تسعة آلاف.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: ولما رجع خالد من حجة وافاه كتاب أبي بكر بالخروج في شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة، وقال: لا تأخذن نجداً إلا خلفت له نجداً، فإذا فتح الله عليكم فارد هم إلى العراق، وأنت معهم، ثم أنت على عملك ؛ وأحضر خالد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأثر بهم على المثنى، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقي، فاختلج من كان قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة ؛ ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بع النصف ؛ وبالله ماأرجو النصر إلا بهم، فأنى تعريني منهم! فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلي، وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان، ومعبد بن أم معبد الأسلمى، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمى؛ والحارث بن بلال المزنى، وعاصم بن عمرو التميمي ؛ حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته، انجذب خالد فمضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر، ثم رجع إلى الحيرة في المحرم ، فأقام في سلطانه، ووضع في المسلحة التي كان فيها على السيل أخاه، ومكان ضرار بن الخطاب عتيبة بن النهاس، ومكان ضرار بن الأزور مسعوداً أخاه الآخر، وسد أماكن كل من خرج من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور بن عدي في بعض تلك الأماكن، واستقام أهل فارس - على رأس سنة من مقدم خالد الحيرة ؛ بعد خروج خالد بقليل ؛ وذلك في سنة ثلاث عشرة - على شهر براز بن أرشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جنداً عظيماً عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتب المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه المسالح، وجعل على مجنبتيه المعنى ومسعوداً ابني حارثة، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والخر كبذ. وكتب إلى المثنى: من شهر براز إلى المثنى ؛ إني قد بعثت إليك جنداً من وخش أهل فارس ، إنما هم رعاة الدحاج والخنازير ؛ ولست أقاتلك إلا بهم فأجابه المثنى: من المثنى إلى شهر براز ؛ إنما أنت أحد رجلين: إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك. وأما الذي يدلنا عليه الرأى ؛ فإنكم إنما اضطررتم إليهم ؛ فالخمد لله الذي رد كيدطمك إلى رعاة الدجاج والخنازير. فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهر براز من شؤم مولده ولؤم منشئه - وكان يسكن ميسان - وبعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له : جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم ؛ فإذا كاتبت أحداً فاستشر. فالتقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الأول قتالاً شديداً.
ثم إن المثنى وناساً من المسلمين اعتوروا الفيل - وقد كان يفرق بين الصفوف والكراديس - فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلون ، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة ؛ حتى انتهوا إلى المدائن ؛ وفي ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي، وكان عبدة قد هاجر لمهاجر حليلة له حتى شهد وقعة بابل ؛ فلما آيسته رجع إلى البادية، فقال:

هل حبل خولة بعد البين موصول ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول!
وللأحبة أيام تذكرها ... والمنوى قبل يوم البين تأويل
حلت خويلة في حي عهدتهم ... دون المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رءوس العجم ضاحية ... منهم فوارس، لا عزل ولا ميل
القصيدة. وقال الفرزدق يعدد بيوتات بكر بن وائل وذكر المثنى وقتله الفيل:
وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ... ببابل إذا في فارس ملك بابل
ومات شهر براز منهزم هرمز جاذويه.
واختلف أهل فارس، وبقي ما دون دجلة وبرس من السواد في يدي المثنى والمسلمين.
ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهر براز على دخت زنان ابنة كسرى ؛ فلم ينقذ لها أمر فخلعت.
وملك سابور بن شهر براز. قالوا: ولما ملك سابور بن شهر براز قام بأمره الفر خزاذ بن البنوان، فسأله أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، ففعل، فغضبت من ذلك، وقالت: يا بن عم، أتزوجني عبدي!قال: استحي من هذا الكلام ولا تعيديه على ، فإنه زوجك، فبعثت إلى سياوخش الرازي - وكان من فتاك الأعاجم - فشكت إليه الذي تخاف، فقال لها: إن كنت كارهة لهذا فلا تعاوديه فيه، وأرسلى إليه وقولي له: فليقل له فليأتك ؛ فأنا أكفيكه. ففعلت وفعل؛ واستعد سياوخش، فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاذ حتى دخل، فثار به سياوخش فقتله ومن معه، ثم نهد بها معه إلى سابور، فحضرته ثم دخلوا عليه فقتلوخه. وملكت آزر ميدخت بنت كسرى، وتشاغلوا بذلك ؛ وأبطأ خبر أبي بكر على المسليمن فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي ؛ وخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين، وليستأذنه في الإستعانة بمن قد ظهرت توبته وندمه من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو ، وليخبره أنه لم يخلف أحداً أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة وأبو بكر مريض، وقد كان مرض أبو بكر بعد مخرج خالد إلى الشأم - مرضته التي مات فيها - بأشهر ؛ فقدم المثنى وقد أشفى، وعقد لعمر، فأخبر الخبر، فقال: على بعمر، فجاء فقال له : اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به ؛ إني لأرجو أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الإثنين - فإن أنامت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ، ولا تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم ؛ وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله ؛ وبالله لو أني أنى عن أمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا، فاضطرمت المدينة ناراً. وإن فتح الله على أمراء الشأم فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولادة أمره وحده وأهل الضراوة منهم والجراءة عليهم.
ومات أبو بكر رحمه الله مع الليل، فدفنه عمر ليلاً، وصلى عليه في المسجد، وندب الناس مع المثنى بعدما سوى على أبي بكر، وقال عمر: كان أبو بكر قد علم أنه يسوءني أن أؤمر خالداً على حرب العراق حين أمرني بصرف أصحابي، وترك ذكره.
قال أبو جعفر: وإلى آزر ميخت انتهى شأن أبي بكر، وأحد شقي السواد في سلطانه، ثم مات وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد، فيما بين ملك أبي بكر إلى قيام عمر ورجوع المثنى مع أبي عبيد إلى العراق، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغازات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
فهذا حديث العراق في إمارة أبي بكر من مبتدئه إلى منهاه.

رجع الحديث إلى حديث أبن إسحاق . وكتب أبو بكر إلى خالد وهو بالحيرة، يأمره أن يمد أهل الشأم بمن معه من أهل القوة ، ويخرج فيهم، ويستخلف على ضعفه الناس رجلاً منهم ؛ فلما أتى خالداً كتاب أبي بكر بذلك، قال خالد: هذا عمل الأعسير بن أم شملة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي. فسار خالد بأهل القوة من الناس ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة ؛ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري، واستخلف خالد على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني. ثم سار حتى نزل على عين التمر، فأغار على أهلها، فأصاب منهم، ورابط حصناً بها فيه مقاتلة كان كسرى وضعهم فيه حتى استنزلهم، فضرب أعناقهم، وسبى من عين التمر ومن أبناء تلك المرابطة سبايا كثيرة فبعث بها إلى أبي بكر ؛ فكان من تلك السبايا أبو عمرة مولى شبان ؛ وهو أبو عبد الأعلى بن أبي عمرة، وأبو عبيدة مولى المعلى، من الأنصار من بني زريق، وأبو عبد الله مولى زهرة، وخير مولى أبي داود الأنصاري ثم أحد بني مازن بن النجار، ويسار وهو جد محمد بن إسحاق مولى قيس بن مخرومة بن المطلب بن عبد مناف، وأفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ثم أحد بني مالك بن النجار، وحمران بن أبان مولى عثمان بن عفان. وقتل خالد بن الوليد هلال بن عقة ابن بشر النمري وصلبة بعين التمر، ثم أراد السير مفوزا من قراقر - وهو ماء لكلب إلى سوى ، وهو ماء لبهران بينهما خمس ليال - فلم يهتد خالد الطريق، فالتمس دليلاً، فدل على رافع بن عميرة الطائي ؛ فقال له خالد: انطلق، بالناس فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال ؛ والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلطها إلا مغرراً؛ إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها، فقال له خالد: ويحك! إنه والله إن لي بد من ذلك، إنه قد أتتني من الأمير عزمة بذلك فمر بأمرك . قال : استكبروا من الماء ؛ من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل ؛ فإنها المهالك إلا ما دفع الله؛ ابغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسان . فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن، حتى إذا أجهدهن عطشاً أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن، فقطع مشافرهن، ثم كعمهن لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر؛ فسار خالد معه مغذاً بالخيول والأثقال ؛ فكلما نزل منزلاً افتظ أربعاً من تلك الشوارف ؛ فأخذ كا في أكراشها، فسقاه الخيل؛ ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء ؛ فلما خشي خالد على أصحابه في آخر يوم من المفاز قال لرافع بن عميرة وهو أرمد: ويحك يا رافع! ما عندك؟ قال أدركت الري إن شاء الله فلما دنا من العلمين، قال للناس: انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل ؟ قالوا: ما نراها. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!هلكتم والله إذاًي وهلكت ؛ لا أباكم!انظروا فطلبوا فوجودها قد قطعت وبقيت منها بقية، فلما فحفروا فاستخرجوا عيناً، فشربوا حتى روى الناس، فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة، وردته مع أبي وأنا غلام، فقال شاعر من المسلمين:
لله عيناً رافع أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى!
خماً إذا ما سارها الجيش بكى ... ما سارها قبلك إني يرى
فلما انتهى خالد إلى سوى، أغار على أهله - وهم بهراء - قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمراً لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري
ألا عللاني بالزجاج وكررا ... على كميتاللون صافية تجري
ألا عللاني من سلافة قهوة ... تسلى هموم النفس من جيد الخمر
أظن خيول المسلمين وخالداً ... ستطرقكم قبل الصباح من البشر
فهل لكم في السيرقبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر

فيزعمون أن مغنيهم ذلك قتل تحت الغارة، فسال دمه في تلك الجفنة. ثم سار خالد على وجهه ذلك، حتى أغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى، وعليها عيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ؛ فاجتمعوا عليها، فرابطواها حتى صالحت بصرى على الجزية،وفتحها الله على المسلمين، فكانت أول مدينة من مدائن الشأم فتحت في خلافة أبي بكر. ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو العاص ، وعمرو مقيم بالعربان من غور فلسطين، وسمعت الروم بهم، فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين ؛ وعليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه - وأجنادين بلد بين الرملة وبين جبرين من أرض فلسطين - وسار عمرو بن العاص حين سمع بأبي عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان حتى لقيهم، فاجتمعوا بأجنادين ؛ حتى عسكروا عليهم.
حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار ؛ وكان هرقل استخلفه على أمراء الشأم حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق بمن معه من الروم.قأما علماء الشأم فيزعمون أنما كان على الروم تذارق. والله أعلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، قال: تدانى العسكران بعث القبقلا رجلاً عربياً - قال: فحدثت أن ذلك الرجل رجل من قضاعة، من تزيد بن حيدان، يقال له ابم هزارف - فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة، ثم ائتني بخبرهم. قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر ؛ فأقام فيهم يوماً وليلة، ثن يأتاه فقال له: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم ؛ لإقامة الحق فيهم. فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم على. قال:ثم تزحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين ؛ قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم ؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يوماً أشد من هذا! قال فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جمادى الأولى. وقتل يومئذ من المسلمين جماعة ؛ منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، وهبار بن الأسود بن عبد الأسد، ونعيم بن عبد الله النحام، وهشام بن العاصي بم وائل، وجماعة أخر من قريش. قال: ولم يسم لنا من الأنصار أحد أصيب بها.
وفيها توفي أبو بكر لثمان ليال بقين - أو سبع بقين - من جمادى الآخر.
رجع الحديثإلى حديث أبي يزيد، عن على بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره. قال: وأني خالد دمشق فجمعله صاحب بصرى، حصنهم ؛ وطلبوا الصلح، فصالحهم على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة. ثم رجع العدو للمسلمين، فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ؛ فظهر المسلمون، ثم رجع هرقل للمسلمين، فالتقوا بالواقوصة فقاتلوهم ؛ وقاتلهم العدو، وجاءتهم وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعة في رجب.
ذكر مرض أبي بكر ووفاتهحدثني أبو زيد ؛ عن على بن محمد، بإسناده الذي قد مضى ذكره ؛ قالوا: توفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادى الآخرة يوم الإثنين لثمان بقين منه. قالوا: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة، ويقال في جذيذة، وتناول معه الحارث بن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلتطعاماً مسموما ً سم سنة. فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يوماً، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب! فقال: قد رآني، قالوا فما قال لك؟ إني أفعل ما أشاء.
قال أبو جعفر : ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر - وكانا سما جميعاً - ثم مات عتاب بمكة.

وقال غير من ذكرت في سبب مرض أبي بكر الذي توفي فيه، ما حدثني الحادث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن يزيد الليثي، عن محمد بن حمزة، عن عمرو، عن أبيه قال . وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، قال. وأخبرنا عمر بن عمران بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن عمر بن الحسين مولى آل مظعون، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر، قالوا: كان أول ما بدأ مرض أبي بكر به بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرد إلى الصلاة ؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس ؛ ويدخل الناس يعودونه ؛ وهو يثقل كل يوم، وهو نازل داره التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه دار عثمان بن عفان اليوم، وكان عثمان ألزمهم في مرضه ؛ وتوفى أبو بكر مسى ليلة الثلاثاء ؛ لثمال ليال بقين من جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة من الهجرة. وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال. قال: وكان أبو معشر يقول: كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، فتوفى سن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو ولد بعد الفيل بثلاث سنين .
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا جرير، عن يحيى بن يعيد، قال: قال سعيد بن المسيب: استكمل أبو بكر بخلافته سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتوفى وهو بسن النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب، قال حدثنا أبو نعيم، عن يونس بن إسحاق، عن أبي السفر، عن عامر، عن جرير، قال كنت عند معاوية فقال: توفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وحدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد ، عن جرير، قال: قال معاوية: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين.
وقال على بن محمد في خبره الذي ذكرت عنه: كانت ولاية أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ويقال: عشرة أيام.
ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه أبو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلى عليه فيه والوقت الذي توفى فيه حدثني الحارث، عن أبن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني مالك بن أبي الرحال ، عن أبيه، عن عائشة، قالت: توفى أبو بكر رحمه الله بين المغرب والعشاء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن محمد بن عبد الله، عن غطاء وابن أبي نليكة، أن أسماء بنت عميس، قالت: قال لي أبو بكر: غسليني، قلت: لا أطيق ذلك، قال : يعينك عبد الرحمن ابن أبي بكر، يصب الماء.
حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، قال: أخبرنا معاذ بن معاذ ومحمد بن عبد الله الأنصاري، قالا: حدثنا الأشعث، عن عبد الواحد بن صبرة، عن القاسم بن محمد. قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: وهذا الحديث وهل ؛ وإنما كان لمحمدج يوم توفي أبو بكر ثلاث سنين .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، سألها أبو بكر ؛ كم كفن النبي صلى الله عليه وسلم ؟قالت: في ثلاثة أثواب، قال: اغسلوا ثوبي هذين - وكانا ممشقين - وابتاعوا لي ثوباً آخر. قلت: يا أبه، إنا موسرون، قال: أي بنية، الحي أحق بالجديد من الميت، وإنما هما للمهلة والصديد.
حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي قال: حدثنا الأوزاعي ؛ قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم ؛ أن أبا بكر توفى عشاء بعد ما غابت الشمس ليلة الثلاثاء، ودفن ليلاً ليلة الثلاثاء.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا غنام عن هشام، عن أبيه أن أبا بكر مات ليلة الثلاثاء ودفن ليلاً.
حدثني أبو زيد، عن على بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكريه، أن أبا بكر حمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل قبره عمر ، وعثمان ؛ وطلحة ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وأراد عبد الله أن يدخل قبره، فقال له عمر: كفيت.

قال أبو جعفر: وكان أوصى - فيما حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله - يعني ابن عروة - أنه سمع عروة والقاسم بن محمد يقولان: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما توفي حفر له، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألصقوا اللحد يلحد النبي صلى الله عليه وسلم فقير هنالك .
قال الحارث: حدثني ابن سعد، قال: وأخبرنا محمد بن عمر، يقال: حدثني ابن عثمان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، جعل رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس عمر عند حقوى أبي بكر .
حدثني على بن مسلم الكوسي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم بن محمد، قال: دخلت على عائشة رضى الله تعالى عنها، فقلت: يا أمه، اكشفى لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ؛ فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ؛ قال: فرأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مقدماً وقبر أبي بكر عند رأسه، وعمر رأسه عند رجل النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: جعل قبر أبي بكر مثل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطحاً ؛ ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب ؛ قال: حدثني سعيد بن المسيب، قال: لما توفى أبو بكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها، فنهاهن عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلى ابنة أبي قحافة ؛ أخت أبي بكر، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام : ادخل فقد أذنت لك، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرة، فضربها ضربات، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك.
وتمثل في مرضه - فيما حدثني أبو زيد، عن علي ابن محمد بإسناده - الذي توفى فيه:
وكل ذي إبل موروث ... وكل ذي سلب مسلوب
وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب
وكان آخر ما تكلم به، رب (توفى مسلماً وألحقني بالصالحين).
ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه الله حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال حدثنا شعيب بن طلحة بن عبد الله بم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أبيه، عن عائشة، رضى الله تعالى عنها، أنها نظرت إلى رجل من العرب مر وهي في هودجها، فقالت: ما رأيت رجلاً أشبه بأبي بكر من هذا، فقلنا لها: صفي أبا بكر، فقالت: رجل أبيض نفيف العارضين، أجنأ لا يستمسك إزاره، يسترخي عن حقويه ، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع .
وأما على بن محمد ؛ فإنه قال في حديثه الذي ذكرت إسناده قبل: إنه كان أبيض يخالطه صفرة، حسن القامة، نحيفاً أجنأ، رقيقاً عتيقاً، أقنى، معروق الوجه، غائر العينين، حمش الساقين، ممحوص الفخذين، يخضب بالحناء والكتم.
وكان أبو قحافة حين توفي حياً بمكة، فلما نعي إليه قال: رزء جليل! ذكر نسب أبي واسمه وما كان يعرف به حدثني أبو زيد، قال: حديثنا على بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره، أنهم أجمعوا على أن إسم أبي بكر عبد الله، وأنه إنما قيل له عتيق عن عتقه قال: قال بعضهم: قيل له ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : أنت عتيق من النار.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن معاوية بن إسحاق، عن أبيه، عن عائشة، أنها سئلت: لم سمى أبو بكر عتيقاً؟ فقالت: نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: هذا عتيق الله من النار .
واسم أبيه عثمان، وكنيته أبو قحافة، قال: فأبو بكر عبد الله بن عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى ابن غالب بن فهر بن مالك، وأمه أم الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.

وقال الواقدي: اسمه عبد الله بن أبي قحافة - وإسمه عثمان - بن عامر. وأمه أم الخير، واسمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وأما هشام، فإنه قال - فيما حدثت عنه - إن اسم أبي بكر عتيق ابن عثمان بن عامر.
وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، قال: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن اسم أبي بكر الصديق، فقال: عتيق ؛ وكانوا إخوة ثلاثة بني أبي قحافة: عتيق ومعتق وعتيق.
ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه الله حدث على بن محمد، عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه، قال: تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة - ووافقه على ذلك الواقدي زالكلبي - قالوا: وهي قتيلة ابنة عبد العزى بن عبد بن أسعد بن جابر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، فولدت له عبد الله أسماء. وتزوج أيضاً في الجاهلية أم رومان بنت عامر بن عمير بن ذهل بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - وقال بعضهم : هي أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذنية بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - فولدت له عبد الرحمن وعائشة فكل هؤلاء الأربعة من أولاده، ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية.
وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس؛ وكانت قبله عندج جعفر بن أبي طالب ؛ وهي أسماء بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بم ربيعة بن عامر بن مالك بن نسر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن حلف بن أفتل - وهو خثعم - فولدت له محمد بن أبي بكر.
وتزوج أيضاً فيالإسلام حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير ؛ من بني الحارث بن الخروج ؛ وكانت نشأ حين توفى أبو بكر ؛ فولدت له بعد وفاته جارية سميت أم كلثوم.
ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات حدثنا محمد بن عبد الله المخزمي، قال: حدثنا أبو الفتح نصر بن المغيرة، قال قال سفيان - وذكره عم مسعر: لما ولى أبو بكر ؛ قال أبو عبيدة: أنا أكفيك المال - يعني الجزاء - وقال عمر: أنا أكفيك القضاء : فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان.
وقال علي بن محمد عن الذين سميت: قال بعضهم: جعل أبو بكر عمر قاضياً في خلافته، فمكث سنة لم يخاصم إليه أحد.
قال: قالوا: كان يكتب له زيد بن ثابت، ويكتب له الأخبار عثمان بن عفان رضى الله عنه، وكان يكتب له من حضر.
وقالوا: كان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاصي، وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أمية، وعلى حضرموت زياد بن لبيد، وعلى خولان يعلى بن أمية ؛ وعلى زبيد ورمع أبو موسى الأشعري، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي. وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وبعث بعبد الله بن ثمر ؛ أحد بني الغوث إلى ناحية جرش، وبعث عياض بن غنم الفهري إلى دومة الجندل ؛ وكان بالشأم أبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ؛ كل رجل منهم على جند، وعليهم خالد بن الوليد.
قال أبو جعفر: وكان رضى الله عنه سخياً ليناً، عالماً بأنساب العرب ؛ وفيه يقول خفاف بن ندبة - وندبة أمه، وأبوه عمير بن الحارث - في مرثبته أبا بكر:
أبلج ذو عرف وذو منكر ... مقسم المعروف رحب الفناء
للمجد في منزله بادياً ... حوض رفيع لم يخنه الإزاء
والله لا يدرك أيامه ... ذو مئزر حاف ولا ذو رداء
من يسع كي يدرك ايامه ... يجتهد الشد بأرض فضاء
وكان - فيما ذكر الحارث، عن ابن سعد، عن عمرو بن الهيثم أبي قطن ؛ قال : حدثنا الربيع عن حيان الصائغ، قال : كان نقش خاتم أبي بكر رحمه الله: نعم القادر الله.
قالوا: ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياماً ؛ وتوفى في المحرم سنة أربع عشرة بمكة ؛ وهو ابن سبع وتسعين سنة.
ذكر استخلافه عمر بن الخطابوعقد أبو بكر في مرضته التي توفى فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده.

وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف ؛ فيما ذكر ابن سعد، عن الواقدي، عن ابن سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ؛ قال: لما نزل بأبي بكر رحمه الله الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ؛ ولكن فيه غلطة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه؛ لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئاً، قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر: على ذاك يا أبا عبد الله ! قال اللهم علمني به أن سريرته خير من علانيته ؛ وأن يس فينا مثله. قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبد الله ، لا تذكر مما ذكرت لك شيئاً، قال أفعل ، فقال له أبو بكر: لو تركته ما وعدتتك، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنت خلواً من أموركم ؛ وأني كنت فيمن مضى من سلفكم ؛ يا أبا عبد الله، لا تذكرون مما قلت لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئاً .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن عمرو، عن أبي السفر، قال : أشرف أبو بكر على الماس من كنيفه وأسماء ابنة عميس ممسكته، موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
حدثني عثمان بن يحيى، عن عثمان القرقساني، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن اسماعيل، عن قيس، قال: رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة، وهو يقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إنه يقول: إني لم آلكم نصحاً. قال: ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر.
قال أبو جعفر: وقال الواقدي: حدثني ابراهيم بن أبي النضر، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: دعا أبو بكر عثمان خالياً، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ؛ أما بعد. قال: ثم أغمى عليه، فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد ؛ إني قد استخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيراً منه، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ على، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر ، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتى! قال: نعم، قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر رضى الله عنه من هذا الموضع.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا علوان، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه في مرضه الذي توفى فيه ؛ فأصابه مهتماً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً! فقال أبو بكر رضى الله عنه: أتراه؟ قال: نعم، قال: إني وليت أمركم خيركم في نفسي؛ فكلكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر لخ دونه،؛ ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ومنضائد الديباج، وتألموا الإضطجاع على الصوف الأذري ؛ كما يألم أحدكم أن ينام على حسك ؛ والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا وأنتم أول ضال بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً. يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البجر ، فقلت له : خفض عليك رحمك الله ؛ فإن هذا يهيضك في أمرك. إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب ؛ ولا نعلمك أردت إلا خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وأنك لا تأسى على شئ من الدنيا .

قال أبو بكر رضى الله عنه: أجل، إني لا آسي على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أنى فعلتهن ؛ وثلاث وددت أنى سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما الثلاث اللاتي وددت أنى تركتهن ؛ فوددت أنى لم أكشف بيت فاطمة عن شئ. وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى، وأني كنت قتلته سريحاً أو خليته نجيحاً. ووددت أنى يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً ؛ وكنت وزيراً. وأما اللاتي تركتهن ؛ فوددت أنى يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلى أنه لا يرى شراً إلا أعان عليه. ووددت أنى حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة ؛ كنت أقمت بذي القصة ؛ فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدداًز ووددت أنى كنت إذا وجهت خالد بن الوليد إلى الشأم كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق ؛ فكنت قد بسطت يدي كليتهما في سبيل الله - ومد يديه - ووددت أنى كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمم هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد ؛ ووددت أنى كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أنى كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة ؛ فإن في نفسي منهما شيئاً.
قال لي يونس: قال لنا يحيى: ثم قدم علينا علوان بعد وفاة الليث، فسألته عن هذا الحديث، فحدثني به كما حدثني الليث بن سعد، وسألته عن اسم أبيه، فأخبرني أنه علوان بن داود.
وحدثني محمد بن إسماعيل المرادي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال حدثني الليث، عن علوان بن صالح، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه، قال - ثم ذكر نحوه، ولم يقل فيه: عن أبيه.

قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجراً، وكان منزله بالسنخ، ثم تحول إلى المدينة. فحدثني الحارث ، قال: حدثنا بن سعيد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: سمعت سعيد بن المسيب. قال: وأخبرنا موسى بن محمد بن أبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن صبيحة التيميمي، عن أبيه، قال. وأخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قال: وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: وأخبرنا أبو قدامة عثمان بن محمد، عن أبي وجزة، عن أبيه ؛ قال. وغير هؤلاء أيضاً قد حدثني ببعضه ، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث ابن الخزرج، وكان قد حجر عليه حجرة من سعف ؛ فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزلة بالمدينة ؛ فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه إلى المدينة فيصلى الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء ؛ رجع إلى أهله بالسنح ؛ فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. قال: فكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة، فيجمع بالناس. وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع ؛ وكانت له قطعة غنم تروح عليه ؛ وربما خرج هو بنفسه فيها ؛ وربما كفيها فرعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر، فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم ؛ وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبينأن أرعى لك، أو أصرح؟ فربما قالت: ارع، وربما قالت: صرح ؛ فأي ذلك قالته فعل ؛ فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر ؛ ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر في أمره، فقال: لا والله، ما تصلح أمور الناس التجارة، وما يصلحهم. فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر. وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم ؛ فلما حضرته الوفاة، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين ؛ فإ،ي لا أصيب من هذا المال شيئاً، وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصيب من أموالهم ؛ فدفع ذلك إلى عمر، ولقوحاً وعبداً صقيلاً، وقطيفة ما تساوى خمسة دراهم ؛ فقال عمر: لقد أتعب من بعده.
وقال على بن محمد - فيما حدثني أبو زيد عنه في حديثه عن القوم الذين ذكرت روايته عنهم - قال أبو بكر: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عني. فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم في ولايته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن أسماء ابنة عميس، قالت " دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ؛ فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربك فسئلك عن رعيتك. فقال أبو بكر - وكان مضطجعاً: أجلسوني، فأجلسوه، فقال لطلحة: أبا لله تفرقني - أو أبالله تخوفني - إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين بمثل ذلك.
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا وقت عقد أبي بكر لعمر بن الخطاب الخلافة، ووقت وفاة أبي بكر، وأن عمر صلى عليه، وأنه دفن ليلة وفاته قبل أن يصبح الناس، فأصبح عمر صبيحة تلك الليلة، فكان أول ما عمل وقال - فيما ذكر - ما حدثنا أبة كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن أبيه؛ قال: لما استخلف عمر صعد المنبر، فقال: إني فائل كلمات فأمنوا عليهن، فكان أول منطق نطق به حين استخلف - فيما حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ضرار ، عن حصين المرى، قال: قال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائدة، فلينظر قائده حيث يقود ؛ وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.

حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، قال: كان أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد:أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ؛ الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكه رجاء غنيمة؛ ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم ؛ وتعلم كيف مأتاه ؛ ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس ؛ وإيامك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك ؛ فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قبلك عنها ؛ وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.
ذكر غزوة فحل وفتح دمشقحدثني عمر، عن علي بن محمد، بإسناده، عن النفر الذين ذكرت روايتهم عنهم في أول ذكرى أمر أبي بكر ؛ أنهم قالوا: قدم بوفاة أبي بكر إلى الشأم شداد بن أوس بن ثابت الأنصارى ومحمية بن جزء، ويرفأ ؛ فكتموا الخبر الناس حتى ظفر المسلمون - وكانوا بالياقوصة يقاتلون عدوهم من الروم ؛ وذلك في رجب - فأخبروا أبا عبيدة بوفاة أبي بكر وولايته حرب الشأم، وضم عمر إليه الأمراء، وعزل خالد بن الوليد.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثناي سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ المسلمون من أجنادين ساروا إلى يفحل من أرض الأردن؛ وقد اجتمعت فيها رافضة الروم ، والمسلمون على أمرائهم وخالد على مقدمة الناس. فلما نزلت الروم بيسان بثقوا أنهارها ؛ وهي أرض سبخة، فكانت وحلاً، ونزلوا فحلاً - وبيسان بين فلسطين وبين الأردن - فلما غشيها المسلمون ولم يعلمون بما صنعت الروم، وحلت خيولهم، ولقوا فيها عناء ، ثم سلمهم الله - وسميت بيسان ذات الردغة لما لقى المسلمون فيها - ثم نهضوا إلى الروم وهم بفحل ؛ فاقتتلوا فهزمت الروم، ودخل المسلمون فحلاً ولحقت وافضة الروم بدمشق ؛ فكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، على ستة أشهر من خلافة عمر. وأقام تلك الحجة للناس عبد الرحمن بن عوف. ثم ساروا إلى دمشق وخالد على مقدمة الناس ؛ وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان بدمشق - وقد كان عمر عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس - فالتقى المسلمون والروم فيما حول دمشق، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم هزم الله الروم، وأصاب منهم المسلمون، ودخلت الروم دكشق ؛ فغلقوا أبوابها وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت دمشق، وأعطوا الجزية، وقد قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يقرئ خالداً الكتاب حتى فتحت دمشق لحق باهان - صاحب الروم الذي قاتل المسلمين - بهرقل. وكان فتح دمشق دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد ؛ وقد كان المسلمون، التقوا هم والروم ببلد يقال له عين فحل بين فلسطين والأردن، فاقتتلوا به قتالاً شديداً، ثم لحقت الروم بدمشق.
وأما سيف - فيما ذكر السرى، عن شعيب، عنه عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة - فإنه ذكر في خبره أن البريد قدم على المسلمين من المدينة بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة؛ وهم باليرموك ؛ وقد إلتحم القتال بينهم وبين الروم. وقص من خبر اليرموك وخبر اليرموك ؛ وخبر دمشق غير الذي اقتصه ابن إسحاق ؛ وأنا ذاكمر بعض الذي اقتص من ذلك: كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، قال: لما قام عمر رضى عن خالد بن سعيد والوليد بن عقبة فأذن لهما بدخول المدينة، وكان أبو بكر قد منعهما لفرتهما التي فراها وردهما إلى الشام، وقال: ليبلغني غناء أبلكما بلاء ؛ فانضما إلى أي أمرائنا أحببتما ؛ فلحقا بالناس فأبليا وأغنيا.
خبر دمشق من رواية سيف:

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة ؛ قالا لما هزم الله جند اليرموك، وتهافت أهل الواقوصة وفرغ من المقاسم والأنفال ، وبعث بالأخماس وسرحت الوفود، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبي الحميري كيلا يغتال بردة ؛ ولا تقطع الروم على مواده، وخرج أبو عبيدة حتى ينزل بالصفر ؛ وهو يريد إتباع الفالة ؛ ولا يدري يجتمعون أو يفترقون ؛ فأتاه الخبر بأنهم أزروا إلى فحل، وأتاه الخبر بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص ، فهو لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن. فكتب في ذلك إلى عمر، وانتظر الجواب، وأقام بالصفر، فلما جاء عمر فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، فإنه ضم خالداً إلى أبي عبيدة، وأمر عمراً بمعونة الناس؛ حتى يصير الحرب إلى فلسطين، ثم يتولى حربها.
وأما ابن إسحاق ؛ فإنه قال في أمر خالد وعزل عمر إياه ما حدثنا محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة عنه، قال: إنما نزع عمر خالداً في كلام كان خالداً في كلام كان خالداً تكلم به - فيما يزعمون - ولم يزل عمر عليه ساخطاً ولأمره كارهاً في زمان أبي بكر كله، لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل به في حربه ؛ فلما استخلف عمر كان أول ما تكلم به عزله، فقال: لا يلي لي عملاً أبداً ؛ فكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن خالداً أكذب نفسه فهو أمير على ما هو عليه ؛ وإن هو لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه ؛ ثم انزع عمامته عن رأسه ، وقاسمه ماله نصفين. فلما ذكر أبو عبيدة ذلك لخالد، قال أنظرني أستشر أختي في أمري، ففعل أبو عبيدة ؛ فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد - وكانت عند الحارث بن هشام - فذكر لها ذلك ، فقالت: والله لا يحبك عمر أبداً، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. فقبل رأسها وقال: صدقت والله ! فتم على أمره، وأبى أن يكذب نفسه. فقام بلال مولى أبي بكر إلى أبي عبيدة، فقال: مأ امرت به خالد؟ قال: أمرت أن أنزع عمامته، وأقاسمه ماله. فقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إن هذا لا يصلح إلا بهذا فقال خالد: أجل، ما أنا بالذي أعصى أمير المؤمنين ؛ فاصنع ما بدا لك ! فأخذ نعلاً وأعطاه نعلاَ. ثم قدم خالد على عمر المدينة حين عزله.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمر بم عطاء، عن سليمان بن يسار، قال: كان عمر كلما مر بخالد قال: يا خالد، أخرج مال الله من تحت استك، فيقول: والله ما عندي من مال ؛ فلما أكثر عليه عمر قال له خالد : يا أمير المؤمنين، ما قيمة ما أصيب في سلطانهكم! أربعين ألف درهم! فقال عمر: قد أخذت ذلك منك بأربعين ألف درهم، قال: هو لك ، قال: قد أخذته. ولم يكن لخالد مال إلا عدة ورقيق، فحسب ذلك ، فبلغت قيمته ثمانين ألف درهم فناصفه عمر ذلك، فأعطاه أربعين ألف درهم، وأخذ المال. فقيل له : يا أمير المؤمنين، لو رددت على خالد ماله ! فقال: إنما أنا تاجر للمسلمين ، والله لا أرده عليه أبداً فكان عمر يرى أنه قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.
رجع الحديث إلى حديث سيف ، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة، قالا: ولما جاء عمر الكتاب عن أبي عبيدة بالذي ينبغي أن يبدأ به كتب إليه:

أما بعد؛ فابدءوا بدمشق، فانهدوا لها ؛ فإنها حصن الشأم وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص ؛ فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل بدمشق من يمسك بها، ودعوها، وانطلق أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمراً وأخلهما بالأردن وفلسطين، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته. فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة قواد: أبا الأعور السلمى، وعبد عمرو بن يزيد ين عامر الجرشي، وعامر بن حثمة، وعمرو بن كليب من يحصب، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصيفي بن علبة بن شامل، وعمرو بن الحبيب بن عمرو ، ولبدة بن عامر بن خثعمة، وبشر بن عصمة، وعمارة بن مخش قائد الناس ؛ ومع كل رجل خمسة قواد ؛ وكانت الرؤساء تكون من الصحابة حتى لا يجدوا من يحتمل ذلك منهم، فساروا من الصفر حتى نزلوا قريباً من فحل، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه جول فحل، فأردغت الأرض، ثم وحلت، واغتم المسلمون من ذلك، فحسبوا عن المسلمين بها ثمانين ألف فارس. وكان أول محصور بالشأم أهل فحل، ثم أهل دمشق. وبعث أبو عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص رداءاً. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقاً فكانا بين دمشق وفلسطين، والأمير يزيد. ففصل ، وفصل بأبي عبيدة من المرج ؛ وقدم خالد بن الوليد، فقدموا على دمشق، وعليهم نسطاس بن نسطورس ؛ فحصروا أهل دمشق، ونزلوا حواليها، فكان أبو عبيدة على ناحية، وعمرو على ناحية، ويزيد على ناحية، وهرقل يومئذ بحمص، ومدينة حمص بينه وبينهم. فحاصروا أهل دمشق نحواً من سبعين ليلة حصاراً شديداً بالزحوف والترامي والمجانيق ؛ وهم معتصمون بالمدينة يرجون الغياث، وهرقل منهم قريب وقد استمدواه . وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق ؛ كأنه يريد حمص، وجاءت خيول هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها الخيول التي مع ذي الكلاع، وشغلتها عن الناس ، فأرزوا بإزائه، وأهل دمشق على حالهم.

فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا وازداد المسلمون طعماً فيهم ؛ وقد كانوا يرون أنها كالغارات قبل ذلك ؛ إذا هجم البرد قفل الناس، فسقط النجم والقوم مقيمون ؛ فعند ذلك انقطع رجاؤهم، وندموا على دخول دمشق، وولد للبطريق الذي دخل على أهل دمشق مولود ح فصنع عليه، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم ؛ ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد ؛ فإنه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفي عليه من أمورهم شئ ؛ عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه، قد اتخذ حبالاً كهيئة السلاليم وأوهاقاً فلما أمسى من ذلك اليوم نهد ومن معه من جنده الذين قدم بهم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وأمثاله من أصحابه في أول يومه، وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا، وانهدوا للباب. فلما انتهى إلى الباب الذي يليه هو وأصحابه المتقدمون رموا بالحبال الشرف وعلى ظهورهم القرب التي قطعوا بها خنمدقهم. فلما ثبت لهم وهقان تسلق فيهما القعقاع ومذعور، ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها - والأوهاق بالشرف - وكان المكان الذي اقتحموا منه أحصن مكان يحيط بدمشق، أكثره ماء، وأشده مدخلاً وتوافوا لذلك فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب ؛ حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه، وانحدر معهم ؛ وخلف من يحمي ذلك لمن يرتقى، وأمرهم بالتكبير، فكبر الذين على رأس السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير، فوثبوا فيها، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم، وانحدر إلى الباب، فقتل البوابين، وثار أهل المدينة وفزع سائر الناس ؛ فأخذوا مواقفهم، ولا يدرون ما الشأ، ! وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، وقطع خالد بن الوليد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل ، حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلا أنيم. ولما شد خالد على من يليه ؛ وبلغ منهم الذي أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي تلي غيره ؛ وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا ، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح، فأجابوا وقبلوا منهم ، وفتحوا لهم الأبواب، وقالوا: ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب. فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة، فالتقى خالد والقواد في وسطها ؛ هذا استعراضاً وانتهاباً وكان صلح دمشق على المقاسمة، الدينار والعقار، ودينار عن كل رأس، فاقتسموا الأسلاب ؛ فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد ، وجرى على الديار ومن بقي في الصلح جريب من كل جريب أرض ؛ ووقف كا كان للملوك ومن صوب معهم فيسئاً، وقسموا لذي الكلاع ومن معه، ولأبي الأعور ومن معه، ولبشير ومن معه، وبعثوا بالبشارة إلى عمر، وقدم على أبي عبيدة كتاب عمر ؛ بأن اصرف جند العراق إلى العراق، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك، فأمر على جند العراق هاشم بن عتبة، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهري وربعي بن عامر، وضربوا بعد دمشق نحو سعد، فخرج هاشم نحو العراق في جند العراق ؛ وخرج القواد نحو فحل وأصحاب هاشم عشرة آلاف إلا من أصيب منهم، فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم ؛ ومنهم قيس والأشير، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء، فنزلا على طريقها، وبقي بدمشق مع يزيد بن أبي سفيان من قواد أهل اليمن عدد ؛ منهم عمرو بم شمرين غزية، وسهم بن المسافر بن هزمة، ومشافع ابن عبد الله بن شافع. وبعث يزيد دحية ين خليفة الكلبي في خيل بعد ما فتح دمشق إلى تدمر، وأبا الزهراء القشيري إلى البثنية وحوران، فصالحوهما على صلح دمشق ؛ وولياً القيام على فتح ما بعثا إليه.
وقال محمد بن إسحاق: كان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب.
قال أيضاً: كانت وقعة فحل قبل دمشق ؛ وإنما صار إلى دمشق رافضة فحل، واتبعهم المسلمون إليها. وزعم أن وقعة فحل كانت سنة ثلاث عشرة في ذي القعدة منها ؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وأما الواقدي: فإنه زعم أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة ؛ كما قال ابن إسحاق. وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر. وزعمأن وقعة اليرموك كانت في سنة خمس عشرة وزعم أن هرقل جلا في هذه السنة بعد وقعة اليرموك في شعبان من أنطاكية إلى قسجطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة.

قال أبو جعفر: وقد مضى ذكرى ماروى عن سيف، عمن روى عنه ؛ أن وقعة اليرموك كانت في سنة ثلاث عشرة ؛ وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبي بكر باليرموك، في اليوم الذي هزمت الروم في آخره، وأن عمر أمرهم بعد فراغهم من اليرموك بالمسير إلى دمشق، وزعم أن فحلاً كانت بعد دمشق ؛ وأن حروباً بعد ذلك كانت بين المسلمين والروم سوى ذلك، قبل شخوص هرقل إلى قسطنطينية ؛ سأذكرها إن شاء الله في مواضعها.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث عشرة - وجه عمر بن الخطاب أبا عبيد بن مسعود الثقفينحو العراق. وفيها استشهد في قول الواقدي. وأما ابن إسحاق ؛ فإنه قال: كان يوم الجسر، جسر أبي عبيد بن مسعود الثقفي في سنة أربع عشرة.
ذكر أمر فحل من رواية سيف: قال أبو جعفر: ونذكر الآن أمر فحل إذا كان في الخبر الذي فيه من الاختلاف ما ذكرت من فتوح جند الشأم . ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل الإختلاف الذي ذكرته في وقته ؛ لقرب بعض ذلك من بعض.
فأما ما قال ابن إسحاق من ذلك وقص من قصته، فقد تقدم ذكريه قبل.
وأما السري فإنه فيما كتب به إلى، عن شعيب، عن سيف عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني وأبي حارثة العبشمي ، قالا: خلف الناس بعد فتح دمشق يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق، ساروا نحو فحل، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة، فبعث خالداً على المقدمة وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجل عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم ثمانون ألفاً، وعلموا أن من بإزاء فحل جنة الروم وإليهم ينظرون، وأن الشأم بعدهم سلم. فلما انتهوا إلى أبي الأعور، قدموه إلى طبرية، فحاصرهم ونزلوا على فحل من الأردن، - وقد كان أهل فحل حين نزل بهم أبو الأعور تركوه وأرزوا إلى بيسان - فنزل شرحبيل بالناس فحلاً، والروم بيسان، وبينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر بالخبر، وهم يحدثون أنفسهم بالمقام، ولا يريدون أن يريموا فحلاً حتى يرجع جواب كتابهم من عند عمر، ولا يستطيعون الإقدام على عدوهم في مكانهم لما دونهم من الأوحال، وكانت العرب تسمى تلك الغراة فحلاً وذات الردغة وبيسان. وزأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون ؛ مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد ؛ فاغترهم القوم، وعلى القوم سقلا ربن مخراق ؛ ورجوا أن يكونوا على غرة فأتوهم والمسلمون لا يأمنون مجيئهم، فهم على حذر وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية. فلما هجموا على المسلمين غافصوهم ، فلم يناظروهم، واقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا وهم حيارى. وقد أصضيب وئيسهم سقلاً ربن مخراق ؛ والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد وجدد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق أوائل المسلمين بهم؛ وقد وحلوا فركبوهم ؛ وما يمنعون يد لامس ح فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة في فحل ؛ وكان مقتلهم في الرداغ، فأصيب الثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلا الشريد ؛ وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عوناً لهم على عدوهم، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجداً، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا سمير بن كعب معهم، ومضوا بذي الكلاع ومن معه، وخلفوا شرحبيل ومن معه.
ذكر بيسان ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد في الناس ومعه عمرو إلى أهل بيسان، فنزلوا عليهم، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقى سقلار والروم بفحل وفي الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، معه عمرو بن العاص والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو ؛ يريد بيسانح فحصروهم أياماً. ثم إنهم مخرجوا عليهم فقاتلوهم، فأناموا من خرج إليهم، وصالحوا بقية أهلها، فقبل ذلك على صلح دمشق.
طبرية

وبلغ أهل طبرية الخبر، فصالحوا أبا الأعور، على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل ؛ فصالحوهم وأهل بيسان على صلح دمشق ؛ على أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعون لهم نصفاً، ويجتمعون في النصف الآخر، وعن كل رأس دينار كل سنة، وعن كل جريب أرض جريب بر أو شعير ؛ أي ذلك حرث ؛ وأشياء في ذلك صالحوهم عليها، ونزلت القواد وخيولهم فيها، وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد في مدائن الأردن وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح.
ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيفبن عمر، عن محمد بن عبد الله بن سواد وطلحة بن الأعلم وزياد بن سرجس الأحمري بإسنادهم، قالوا: أول ما عمل به عمر أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر، من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضى الله عنه، ثم أصبح فبايع الناس، وعاد فندب الناس إلى فارس، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم ألأمم. قالوا: فلما كان اليوم الرابع؛ عاد فندب الناس إلى العراق؛ فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود وسعد بن عبيد الأنصاري حليف بني فزازة ؛ هرب يوم الجسر، فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك، فيأبى العراق، ويقول: إن الله جل وعز اعتد على فيها بفرة ؛ فلعله أن يرد على فيها كرة وتتابع الناس.
كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: وتكلم المثنى بن حارثة ، فقال: يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه ؛ فإنا قد تبحبحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم ؛ وأجترأ من قبلنا عليهم ؛ ولها إن شاء الله ما بعدها. وقام عمر رحمه الله في الناس ؛ فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النعجة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك ؛ أين الطراء المهاجرون عن موعود الله ! سيروا في الأرض التي وعدوكم الله في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنه قال:(ليظهره على الدين كله)، والهل مظهر دينه، ومعز ناصره، ومول أهله مواريث الأمم. أين عباد الله الصالحون! فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود، ثم ثنى سعد بن عبيد - أو سليط بن قيس - فلما اجتمع ذلك البعث ، قيل لعمر: أمر عليهم رجلاً من السابقين من المهاجرين واظلنصار. قال : لا والله لا أفعل ؛ إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو ؛ فإذا جبتم وكرهتم اللقاء ؛ فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع، وأجاب إلى الدعاء! والله لآ أؤمر عليهم إلا أولهم انتداباً. ثم دعا أبا عبيد، وسليطاً وسعداً ؛ فقال: أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى مالكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش، وقال لأبي عبيد: اسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً حتى تتبين؛ فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف.
وقال رجل من الأنصار: قال عمر رضي الله عنه لأبي عبيد: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب ، وفي التسرع إلى الرحب ضياع إلا عن بيان، والله لولا سرعته لأمرته ؛ ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن المجالد، عن الشعبي، قال: قدم المثنى بن حارثة على أبي بكر سنة ثلاث عشرة ؛ فبعث معه بعثاً قد كان ندبهم ثلاثاً ؛ فلم ينتدب له أحد حتى انتداب له أبو عبيد ثم سعد بن عبيد، وقال أبو عبيد حين انتدب: أنا لها، وقال سعد: أنا لها؛ لفعله فعلها. وقال سليط: فقيل لعمر : أمر عليهم رجلاً له صحبة، فقال عمر إنما فضل الصحابة بسرعتهم إلى العدو وكفايتهم من أبي ؛ فإذا فعل فعلهم قوم واثاقلوا كان الذي ينفرون خفافاً وثقالاً أولى بها منهم؛ والله لا أبعث عليهم إلا أولهم انتداباً فأمر أبا عبيد، وأوصاه بجنده.

كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيبب بن أبراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل، عن القاسم مبشر، عن سالم، قال: كان أول بعث بعثه عمر بعث أبي عبيد، ثم بعث يعلي بن أمية إلى اليمن وامره بإجلاء أهل نجران، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه بذلك، ولوصية أبي بكر رحمه الله بذلك في مرضه، وقال: ائتهم ولا تفتنهم عن دينهم عن دينهم، ثم أجلهم ؛ من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم ، وامسح أرض كل من تجلى منهم ، ثم خيرهم البلدان، وأعلمهم أنا نجليهم بأمر الله ورسوله ؛ ألا يترك بجزيرة العرب دينان ؛ فليخرجوا ؛ من أقام على دينه منهم ؛ ثم نعطيهم أرضاً كأرضهم، إقراراً لهم بالحق على أنفسنا، ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك ، بدلاً بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف.
خبر النمارق كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل ومبشر بإسنادهما، ومجالد عن الشعبي قالوا: فخرج أبو عبيد ومعه سعد بن عبيد ، وسليط بن قيس ؛ أخو بني النجار، والمثنى بن حارثة أخو بني شيبان، ثم أحد بني هند.
كتب إلى السرى ، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، وعمرو عن الشعبي، وأبي روق، قالوا: كانت بوران بنت كسرى - كلما اختلف الناس بالمدائن - عدلاً بين الناس حتى يصطلحوا ، فلما قتل الفرخزاذبن البندوان وقدم رستم فقتل آزرميدخت، كانت عدلاً إلى أن استخرجوا يزدجرد، فقدم أبو عبيد والعدل بوران، وصاحب الحرب رستم ؛ وقد كانت بوران أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم فقبل هديتها ، وكانت ضداً على شيرى سنة، ثم إنها تابعته، واجتمعا على أن رأس وجعلها عدلاً.

كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإستنادهم، لما قالوا: قتل سياوخش فرخزاذ بن البندوان ، وملكت آزرميدخت، اختلف أهل فارس، وتشاغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها إلى أن رجع من المدينة. فبعث بوران إلى رستم بالخبر، واستحثته بالسير ؛ وكان على فرج خراسان، فأقبل في الناس حتى نزل المدائن ؛ لا يلقى جيشاً لآزرميدخت إلا هزمه، فاقتتلوا بالمدائن، فهزم سياوخش وحصر وحصرت آزرميدخت ؛ ثم افتتحها فقتل سياوخش، وفقأ عين آزرميدخت، ونصب بوران ودعته إلى القيام بأمر أهل فارس، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم ؛ على أن تملكه عشر حجج ؛ ثم يكون الملك في آل كسرى، إن وجدوا من غلمانهم أحداً ؛ وإلا ففي نسائهم. فقال رستم: أما أنا فسامع مطيع، غير طالب عوضاً ولا ثواباً، وإن شرفتموني وصنعتم إلى شيئاً فأنتم أولياء ما صنعتم ؛ إنما أنا سمهكم وطوع أيديكم. فقالت بوران: اغد على ، فغدا عليها ودعت مرازبة فارس، وكتبت له بأنك على حرب فارس ؛ ليس عليك إلا الله عز وجل، عن رضا منا وتسليم لحكمك، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك في منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم. وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا. فدانت له فارس بعد قدوم أبي عبيد ؛ وكان أول شئ أحدثه عمر بعد موت أبي بكر من الليل ؛ أن نادى: الصلاة جامعة! ثم ندبهم فتفرقوا على غير إجابة من أحد، ثم ندبهم في اليوم الرابع، فأجاب أبو عبيد في اليوم الرابع أول الناس، وتتابع الناس، وانتخب عمر من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل، أمر عليهم أبا عبيد ، فقيل له: استعمل عليهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: لاها الله ذا يا أصحاب النبي، لا أندبكم فتنكلون ، وينتدب غيركم فأمروكم عليهم! إنكم إنما فضلتم بتسرعكم إلى مثلها ؛ فإن نلكتم فضلوكم ؛ بل أؤمر عليكم أولكم انتداباً. وعجل المثنى، وقال: النجاء حتى يقدم عليك أصحابك! فكان أول شئ أحدثه عمر في خلافته مع بيعته بعثه أبا عبيد، ثم بعث أهل نجران، ثم ندب أهل الردة فأقبلوا سراعاً من كل أوب ؛ فرمى بهم الشأم والعراق؛ وكتب إلى أهل اليرموك ؛ بأن عليكم أبا عبيدة بن الجراح؛ وكتب إليه: إنك على الناس ؛ فإن أظفرك الله فاصرف أهل العراق إلى العراق ؛ ومن أحب من أمدادكم إذا هم قدموا عليكم. فكان أول فتح أتاه اليرموك على عشرين ليلة من متوفى أبي بكر ؛ وكان في الإمداد إلى اليرموك في زمن عمر قيس بن هبيرة ، ورجع مع أهل العراق ولم يكن منهم، وإنما غزا حين أذن عمر لأهل الردة في الغزو. وقد كانت فارس تشاغلت بموت شهر براز عن المسلمين ؛ فملكت شاه زنان ؛ حتى اصطلحوا على سابور بن شهر براز بن أردشير بن شهريار، فثارت به آزرميدخت، فقتله والفرخزاذ، وملكت - ورستم بن الفرخزاذ بخراسان على فرجها - فأتاه الخبر عن بوران. وقدم المثنى الحيرة من المدينة في عشر، ولحقه أبو عبيد بعد شهر، فأقام المثنى بالحيرة خمس عشرة ليلة ؛ وكتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثورا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلً ليثور بأهله، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل ؛ وبعث نرسى إلى كسكر، ووعدهم يوماً ؛ وبعث جنداً لمصادمة المثنى ؛ وبلغ المثنى ذلك ؛ فضم إليه مسالحه وحذر، وعجل جابان، فثار ونزل النمارق.

وتوالوا على الخروج ؛ فخرج نرسي، فنزل زندورد، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله ؛ وخرج المثنى في جماعة حتى ينزل خفان ؛ لئلا يؤتى من خلفه بشئ يكرهه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيدة ؛ فكان أبو عبيد على الناس، فأقام بخفان أياماً ليستجم أصحابه ؛ وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وظهورهم، وتعبى، فجعل المثنى على الخيل، وعلى ميمنته والق بن جيدارة، وعلى ميسرته عمرو بن الهيثم بن الصلت بن حبيب السلمى. وعلى مجنبتى جابان جشنس ماه ومردانشاه. فنزلوا على جابان بالنمارق، فاقتتلوا قتالاً شديداً. فهزم الله أهل فارس، وأسرجابان، أسره مطر بن فضة التيمي، وأسر مردانشاه، أسرة أكتل بن شماخ العكلي فأما أكتل فأنه ضرب عنق مردنشاه وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه، حتى تفلت منه بشئ فخلى عنه ؛ فأخذه المسلمون، فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه الملك، وأشاروا عليه بقتله، فقال: إني أخاف الله أن أقتله ؛ وقد آمنه رجل مسلم والمسلمون، فقالوا له : إنه الملك، قال: وإن كان لا أغدر، فتركه.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن أبي عمران الجعفى، قال: ولت حربها فارس رستم عشر سنين، وملكوه، وكان منجماً عالماً بالنجوم، فقال له قائل: ما دعاك إلى هذا الأمر وأنت ترى ما ترى ! قال: الطمع وحب الشرف. فكاتب أهل السواد، ودس إليهم الرؤساء، فثارروا بالمسلمين ؛ وقد كان عهد إلى القوم أن الأمير عليكم أول من ثار، فثار جابان في فرات بادقلي، وثار الناس بعده، وأرز المسلمون إلى المثنى بالحيرة، فصمد لخفان، ونزل خفان حتى قدم عليه أبو عبيد وهو الأمير على المثنى وغيره، ونزل جابان النمارق، فسار إليه أبو عبيد من خفان، فالتقوا بالنمارق ؛ فهزم الله أهل فارس وأصابوا منهم ما شاءوا وبصر مطر بن فضة - وكان ينسب إلى أمه - وأبى برجل عليه حلى ؛ فشدا عليه فأخاه أسيراً، فوجداه شيخاً كبيراً فزهد فيه أبى ورغب مطر في فدائه، فاصطلحا على أن سلبه لأبى ، وأن إساره لمطر، فلما خلص مطر به، قال: إنكم معاشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمنني وأعطيتك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا ! قال : نعم، قال: فأدخلني على ملككم؛ حتى يكون ذلك بمشهد منه، ففعل فأدخله على أبي عبيد، فتم له على ذلك ؛ فأجاز أبو عبيد، فقام أبي وأناس من ربيعة ؛ فأما أبي فقال : أسرته أما وهو على غير أمان ؛ وإما الآخرون فعرفوه، وقالوا: هذا الملك جابان ؛ وهو الذي لقينا بهذا الجمع، فقال: ما تروني فاعلاً معاشر ربيعة؟ أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا ! معاذ الله من ذلك! وقسم أبو عبيد الغنائم، وكان فيها عطر كثير ونفل، وبعث بالأخماس مع القاسم.
السقاطية بكسكر كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقال أبو عبيد حين انهرموا وأخذوا نحو كسكر ليلجئوا إلى نرسي - نرسى ابن خالة كسرى ؛ وكانت كسكر قطيعة له ؛ وكان النرسيان له، يحميه لا يأكله بشر، ولا يغرسه غيرهم أو ملك فارس إلا من أكرمه بشئ منه، وكان ذلك مذكوراً من فعلهم في الناس، وأن ثمرهم هذا حمى، فقال له رسم وبوران: اشخص إلى قطيعتك فاحمها من عدوك وعدونا وكن رجلاً، فلما انهزم الناس يوم النمارق، ووجهت الفالة نحو نرسى - ونرسى في عسكره ت نادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجردة: أتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى، أو تبيدهم فيما بين النمارق إلى بارق إلى درتا. وقال عاصم بن عمرو في ذلك:
لعمري وما على بهين ... لقد صبحت بالخزى أهل النمارق
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق
قتلناهم ما بين مرج مسلح ... وبين الهوافي من طريق البذارق

ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر - ونرسى يومئذ بأسفل كسكر - والمثى في تعبيته التي قاتل فيها جابان، ونرسى على مجنبتيه ابنا خاله - وهما ابنا خال كسرى بندويه وتيرويه ابنا بسطام - وأهل باروسما ونهر جوبر والزوابي معه إلى جنده وقد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان؛ فبعثوا إلى الجالنوس، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزاب، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة ، وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية فاقتتلوا في صحارى ملس قتالا شديداً. ثم إن الله هزم فارس، وهرب نرسى، وغلب على عسكره وأرضه، وأخرب أبو عبيد ما كان حول معسكرهم من كسكر ، وجمع الغنائم فرأى من الأطعمة شيئاً عظيماً، فبعث فيمن يليه من العرب فانتقلوا ما شاءوا، وأخذت خزائن نرسى ؛ فلم يكونوا بشئ مما خزن أفرح منهم بالنرسيان ؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم ؛ فاقتسموه فجعلوا يطعمونه الفلاحين ؛ وبعثوا بخمسة إلى عمر وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها، وأجبنا أن تروها ؛ ولتذكروا إنعام الله وإفضاله.
وأقام أبو عبيد وسرح المثنى إلى باروسما، وبعث والقا إلى الزوابي وعاصماً إلى نهر جوبر؛ فهزموا من كان تجمع وأخبروا وسبوا، وكان مما أخرب المثنى وسبى أهل وزندورد وبسوسيا ، وكانوكان أبو زعبل من سبى زندورد ؛ وهرب ذلك الجند إلى الجالنوس ؛ فكان ممن أسر عاصم أهل بيتيق من نهر جوبر، وممن أسر والق أبو الصلت . وخرج فروخ وفر ونداد إلى المثنى ، يطلبان الجزاء والذمة، دفعاً عن أرضهم ؛ فأبلغهما أبا عبيد: أحدهما باروسما والآخر نهر جوبر، فأعطياه كل رأس أربعة ، فروخ عن باروسما وفر ونداد عن نهر جوبر، ومثل ذلك الزوابي وكسكر، وضمنا لهم الرجال عن التعجيل، ففعلوا وصاروا صلحاً. وجاء فروخ وفر ونداد إلى أبي عبيد بآنية فيها أنواع أطعمة فارس م الألوان والأخبصة وغيرها ؛ فقالوا: هذه كرامة أكرمناك بها، وقرى لك. قال: أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون ؛ وإنما يتربصون بهم قدوم الجالنوس وما يصنع ؛ فقال أبو عبيد: فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند، فرده، وخرج أبو عبيد حتى ينزل بباروسما فبلغه مسير الجالنوس.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى الضبي، قال: فأتاه الأندرزغربن الحركبذ بمثل ما جاء به فروج وفرونداذ. فقال لهم: أأكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، فرده، وقال: لا حاجة لنا فيه ؛ بئس المرء أبو عبيد ؛ إن صحب قوماً من بلادهم أهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوا فاستأثر عليهم بشئ يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم.
قال أبو جعفر: وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق بنحو من حديث سيف هذا، عن رجاله في توجيه عمر المثنى وأبا عبيد ابن مسعود إلى العراق في حرب من بها من الكفار وحروبهم، ومن حاربهم بها ؛ غير أنه قال: لما هزم جالنوس وأصحابه، ودخل أبو عبيد باروسما، نزل هو وأصحابه قرية من قراها ؛ فاشتملت عليهم، فصنع لأبي عبيد طعام فأتى به؛ فلما رآه قال: ما أنا بالذي آكل هذا دون المسلمين! فقالوا له : كل فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منزله بمثل هذا أو أفضل ؛ فأكل فلما رجعوا إليه سألهم عن طعامهم، فأخبروه بما جاءهم من الطعام.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة وزيادة بإسنادهم، قالوا: كان جابان ونرسي استمدا بوران، فأمدتهما بالجالنوس في جند جابان، وأمر أن يبدأ بنرسى ؛ ثم يقاتل أبا عبيد بعد، فبادره أبو عبيد، فنهض في جنده قبل أن يدنو، فلما دنا استقبله أبو عبيد، فنزل الجالنوس بباقسياثا من باروسما، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين ؛ وهو على تعبيته ؛ فالتقوا على باقسياثا، فهزمهم المسلمون وهرب الجالنوس، وأقام أبو عبيد، قد غلب على تلك البلاد.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى والمجالد بنجو من وقعة باقسياثا.

كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة ومجالد وزياد والنضر بإسنادهم، قالوا: أتاه أولئك الدهاقين المتربصون جميعاً بما وسع الجند، وهاربوا وخافوا على أنفسهم. وأما النضر ومجالد فإنهما قالا: قال أبو عبيد: ألم أعلمكم أني لست آكلا إلا ما يسع من معي ممن أصبتم بهم! قالوا: لم يبق أحد إلا وقد أتى بشبعه من هذا في رحالهم وأفضل. فلما راح الناس عليه سألهم عن قرى أهل الأرض فأخبروه، وإنما كانوا قصروا أولا تربصا ومخافة عقوبة أهل فارس. وأما محمد وطلحة وزياد فإنهم قالوا: فلما علم قبل منهم، وأكل وأرسل إلى قوم كانوا يأكلون معه أضيافاً عليه يدعوهم إلى الطعام وقد أصابوا من نزل فارس ولم يروا أنهم أتوا أبا عبيد بشئ فظنوا أنهم يدعون إلى مثل ما كانوا يدعون إليه من غليظ عيش أبي عبيد ؛ وكرهوا ترك ما أتوا به من ذلك ؛ فقالوا له: قل للأمير إنا لا نشتهي شيئاً مع شئ أتتنا به الدهاقين ؛ فأرسل إليهم : إنه طعام كثير من أطعمة الأعاجم؛ أين هو مما أتيتم به؟ أنه قوؤ نجم وجدزل وشواء وخردل وشواء وخردل فقال في ذلك عاصم بن عمرو وأضيافه عنده: ذلك عاصم بن عمرو وأضيافه عنده:
إن تك ذا قرو ونجم وجوزل ... فعند ابن فروخ شواء وخردل
وقرو رقاق كالصحائف طويت ... على مزع فيها بقول وجوزل
وقال أيضاً
صبحنا بالبقايس رهط كسرى ... صبوحاً ليس من خمر السواد
صبحناهم بكل فتى كمى ... وأجرد سابح من خيل عاد
ثم ارتحل أبو عبيد، وقدم المثنى، وسار في تعبيته حتى قدم الحيرة. وقال النضر ومجالد ومحمد وأصحابه: تقدم عمر إلى أبي عبيد، فقال: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، تقدم على قوم جرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوا، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك، ولا تفشين سرك ؛ فإن صاحب السر ما ضبطه، متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه ؛ وإذا ضيعه كان بمضيعة وقعة القرقس ويقال لها القس قس الناطف، ويقال لها الجسر، ويقال لها المروحة.
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم ، قالوا: ولما رجع الجالنوس إلى رستم ومن أفلت من جنوده، قال رستم: أي العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا: بهمن جاذويه ؛ فوجهه ومعه فيلة ورد الجالنوس معه، وقال له : قدم الجالنوس، فإن عاد لمثلها فاضرب عنقه، فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية كسرى - وكانت من جلود النمر، وعرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر ذراعاً - وأقبل أبو عبيد، فنزل المروحة، موضع البرج والعاقول، فبعث إليه بهمن جاذويه: إما أن تعبروا إلينا وندعهم والعبور وإما أن تدعونا نعبر إليكم؟ فقال الناس: لا تعبر يا أبا عبيد يا أبا عبيد، ننهاك عن العبور. وقالوا له: قل لهم: فليعبروا - وكان من أشد الناس عليه في ذلك سليط - فلج أبو عبيد، وترك الرأي ، وقال: لا يكونون أجرأ على الموت منا ؛ بل نعبر إليهم. فعبروا إليهم وهم في منزل ضيق المطرد والمذهب، فاقتتلوا يوماً - وأبو عبيد فيما بين الستة والعشرة - حتى إذا كان من آخر النهار، واستبطأ رجل من ثقيف الفتح ألف بين الناس فتصافحوا بالسيوف وضرب أبو عبيد الفيل، وخبط الفيل أبا عبيد، وقد أسرعت السيوف في أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة، ولم يبق ولم ينتظر إلا الهزيمة، فلما خبط أبو عبيد، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة، ثم تموا عليها، وركبهم أهل فارس، فبادر رجل من ثقيف إلى الجسر فقطعه، فانتهى الناس إليه والسيوف تأخذهم من خلفهم، فتهافتوا في الفرات، فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف ؛ من بين غريق وقتيل، وحمى المثنى الناس وعاصم والكلج الضبى ومذعور، حتى عقدوا الجسر وعبروهم ثم عبروا في آثارهم، فأقاموا بالمروحة والمثنى جريح، والكلج ومذعور وعاصم - وكانوا حماة الناس - مع المثنى ، وهرب من الناس بشر كثير على وجوههم ؛ وافتضحوا في أنفسهم، واستحيوا مما نزل بهم، وبلغ ذلك عمر عن بعض من أوى إلى المدينة فقال: عباد الله! اللهم إن كل مسلم في حل منى، أنا فئة كل مسلم ، يرحم الله أبا عبيد ! لو كان عبر فاعتصم بالخيف، أو تحيز إلينا ولم يستقبل لكنا به فئة!

وبينا أهل فارس يحاولون العبور أتاهم الخبر أن الناس بالمدائن قد ثاروا برستم، ونقضوا الذي بينهم وبينه فصاروا فرقتين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان ؛ وكان بين وقعة اليرموك والجسر أربون ليلة. وكان الذي جاء بالخبر عن اليرموك جرير بن عبد الله الحميري ؛ والذي جاء بالخبر عن الجسر عبد الله بن زيد الأنصاري - وليس بالذي رأى الرؤيا - فانتهى إلى عمر وعمر على المنبر. فنادى عمر : الخبر يا عبد الله بن زيد !قال: أتاك الخبر اليقين ؛ ثم صعد إليه المنبر فأسر ذلك إليه.
وكانت اليرموك في أيام من جمادى الآخر، والجسر في شعبان.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد ابن المرزيان، قالا : واستعمل رستم على حرب أبي عبيد بهمن جاذويه ؛ وهو ذو الحاجب، ورد الجالنوس ومعه الفيلة، فيها فيل أبيض عليه النخل ، وأقبل في الدهم ، وقد استقبله أبو عبيد حتى انتهى إلى بابل ؛ فلما بلغه انحاز حتى جعل الفرات بينه وبينه ؛ فعسكر بالمروحة.

ثم إن أبا عبيد ندم حين نزلوا به قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر، فحلف ليقطعن الفرات إليهم، وليمحصن ما صنع، فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس، قالوا إن العرب لم تلق مثل جنود فارس منذ كانوا، وإنهم قد حفلوا لنا واستقبلوا من الزهاء والعدة بما لم يلقنا به أحد منهم ؛ وقد نزلت منزلاً لنا فيه مجال وملجأ ومرجع؛ من فرة إلى كرة. فقال: لاأفعل ؛ جبنت والله! وكان الرسول فيما بين ذي الحاجب وأبي عبيد مردانشاه الخصى ؛ فأخبرهم أن أهل فارس قد عيروهم ؛ فازداد أبو عبيد محكاً ، ورد على أصحابه الرأى، وجبن سليطاً، فقال: سليط: أنا والله أجرأ منك نفساً ؛ وقد أشرنا عليك الرأي فستعلم! كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السرى، عن الأغر العجلي، قال: أقبل ذو الحاجب حتى وقف على شاطئ الفرات بقس الناطف، وأبو عبيد معسكر على شاطئ الفرات بالمروحة فقال: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال أبو عبيد: بل نعبر إليكم. فعقد ابن صلوبا الجسر للفريقين جميعاً ؛ وقبل ذلك ما قد رأت دومة امرأة أبي عبيد رؤيا وهي بالمروحة؛ أن رجلاً نزل من السماء بإناء فيه شراب ، فشرب أبو عبيد وجبر في أناس من أهله؛ فأخبرت بها أبا عبيد، فقال: هذه الشهادة وعهد أبو عبيد إلى الناس، فقال: إن قتلت فعلى الناس جبر، فإن قتل فعليكم فلان، حتى أمر الذين شربوا من الإناء على الولاء من كلامه. ثم قال: إ، قتل أبو القاسم فعليكم المثنى، ثم نهد بالناس فعبر وعبروا إليهم، وعضلت الأرض بأهلها، وألحم الناس الحرب. فلما نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل ؛ والخيل عليها التجافيف والفرسان عليهم الشعر رأت شيئا منكراً لم تكن ترى مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم ؛ لا تقوم لها الخيل إلا على نفار. وخزقهم الفرس بالنشاب، وعض المسلمين الألم ؛ وجعلوا لا يصلون إليهم ؛ فترجل أبو عبيد وترجل الناس، ثم مشوا إليهم فصافحوهم بالسيوف ؛ فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم ؛ فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة ؛ وقطعوا بطنها واقبلوا عنها أهلها ؛ وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلق ببطانة فقطعه ؛ ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك ؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله؛ وقتلوا أصحابه، وأهوى الفيل لأبي عبيد، فنفخ مشفره بالسيف، فاتقاه الفيل بيده؛ وأبو عبيد يتجرثمه ؛ فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل، وقام عليه ؛ فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل، خشعت أنفس بعضهم، وأخذ اللواء الذي كان أمره بعده، فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فاجتراه إلى المسلمين، وأحرزوا شلوه ؛ وتجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده، دأب أبي عبيد وخبطه الفيل. وقام عليه وتتابع سبعة من ثقيف ؛ كلهم بأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت. ثم أخذ اللواء المثنى، وهرب الناس، فملا رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقى أبو عبيد وخلفاؤه وما يصنع الناس، بادرهم إلى الجسر فقطعه، وقال يا أيها الناس، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا. وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر ؛ وخشع ناس فتواثبوا في الفرات ؛ فغرق من لم يصبر وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس، ونادى: يأيها الناس، إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا ؛ فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم. فوجدوا الجسر وعبد الله بن مرثد قائم عليه يمنع الناس من العبور، فأخذوه فأتوه به المثنى، فضربه وقال: مما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا، ونادى من عبر فجاءوا بعلوج، فضموا إلى السفينة التي قطعت سفائنها، وعبر الناس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنى وحمى جانبه ؛ فاضرب عسكره، ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم ؛ فلما عبر المثنى وحمى جانبه ارفض عنه أهل المدينة حتى لحقوا بالمدينة وتركها بعضهم ونزلوا البوادي وبقي المثنى في قلة.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن رجل، عن أبي عثمان النهدي، قال: هلك يومئذ أربعة آلاف بين قتيل وغريق ؛ وهرب ألفان، وبقى ثلاثة آلاف، وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف فارس ؛ فرجع بجنده ؛ وكان ذلك سبباً لرفضاضهم عنه ، ورجح المثنى، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهن الرمح.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعطية نحواً منه.
كتب إلىالسرى، عن شعيب عن سيف، عن مجالد وعطية والنضر، أن أهل المدينة لما لحقوا بالمدينة وأخبروا عمن سار في البلاد استحيا من الهزيمة، اشتد على عمر ذلك ورحمهم. قال الشعبي: قال عمر: اللهم كل مسلم في حل منى، أنا فئة كل مسلم، من لقى العدو ففظع بشئ من أمره فأنا له فئة ؛ يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إلى لكنت له فئة ؟ وبعث المثنى بالخبر إلى عمر مع عبيد بن زيد، وكان أول من قدم على عمر.
وحدثناابن حميد ؛ قال : حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق بنحو خير سيف هذا في أمر أبي عبيد وذي الحاجب، وقصة حربهما، إلا أنه قال: وقد كانت رأت دومة أم المختار بن أبي عبيد، أن رجلاً نزل من السماء معه إناء فيه شراب من الجنة فيما يرى النائم، فشرب منه أبو عبيد وجبر بن أبي عبيد وأناس من أهله. وقال أيضاً: فلما رأى أبو عبيد ما يصنع الفيل، قال: هل لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا: نعم ؛ فإذا قطع مشفرها ماتت، فشد على الفيل فضرب ممشفرة فقطعه، وبرك عليه الفيل فقتله. وقال أيضاً: فرجعت الفرس ونزل المثنى بن حارثة أليس، وتفرق الناس، فلحقوا بالمدينة، فكان أول من قدم المدينة بخبر الناس عبد الله بن زيد بن الحصين الخطمى، فأخبر الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة ابنة عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: سمعت عمر بن الخطاب حين قدم عبد الله بن زيد؟ وهو داخل المسجد، وهو يمر على باب حجرتي، فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين ؛ فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس، فما سمعت برجل حضر أمراً فحدث عنه كان أثبت خبراً منه. فملما قدم فل الناس، ورأى عمر جزع المسلمين من المهاجرين والأنصار من الفرار، قال: لا تجزعوا يا معشر المسلمين، أنا فئتكم، إنما انحزتم إلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة ؛ عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين وغيره ؛ أن معاذاً القارئ أخا بني النجار ؛ كان ممن شهدها ففر يومئذ، فكان إذا قرأ هذه الآية: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) ، بكى، فيقول له عمر: لا تبك يا معاذ، أنا فئتك، وإنما انحزت إلى.
خبر أليس الصغرى

قال أبو جعفر: كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد بن نويرة وطلحة وزياد وعطية، قالوا: وخرج جابان مراد انشاه حتى أخذا بالطريق، وهم يرون أنهم سيرفضون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس ، فلما ارفض أهل فارس. وخرج ذو الحاجب في آثارهم، وبلغ المثنى فعله جابان ومردانشاه؛ استخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج في جريدة خيل يريدهما، فظنا أنه هارب، فاعترضاه فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهعما، فأتوه بهم أسراء ؛ وعقد لهم بها ذمة وقد مهما، قال: أنتما غررتما أميرنا، وكذبتماه واستفززتماه. فضرب أعناقهما، وضرب أعناق الأسراء ؛ ثم رجع إلى عسكره وهرب أبو محجن من أليس؛ ولم يرجع مع المثنى ؛ وكان جرير بن عبد الله وحنظلة بن الربيع ونفر استأذنوا خالداً من سوى، فأذن لهم، فقدموا على أبي بكر، فذكر له جرير حاجته، فقال: أعلى حالنا؟ وأخره بها ، فلما ولى عمر دعاه بالبينة؛ فأقامها، فكتب له عمر إلى عماله السعادة في العرب كلهم: من كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام يعرف ذلك فأخرجوه إلى جرير. ووعدهم جرير مكاناً بين العراق والمدينة . ولما أعطى جرير حاجته في استخراج بجيلة من الناس فجمعهم فأخرجوا له، وأمرهم بالموعد ما بين مكة والمدينة والعراق، فتتاموا، قال لجرير: اخرج حتى تلحق بالمثنى، فقال: بل الشأم ، قال " بل العراق، فإن أهل الشأم قد قووا على عدوهم، فأبى حتى أكرهه ؛ فلما خرجوا له وأمرهم بالموعد عوضة إكراهه واستصلاحاً له، فجعل له ربع خمس ما أفاء الله عليهم في غزاتهم هذه له ولمن اجتمع إليه، ولمن أخرج له إليه من القبائل، وقال: اتخذونا طريقاً، فقدموا المدينة، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى، وبعث عصمة بن عبد الله من بني عبد الحارث الضبي فيمن تبعه من بني ضبة ؛ وقد كان كتب إلى أهل الردة، فلم يواف شعبان أحد إلا رمى به المثنى.
البويب كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمدوطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وبعث المثنى بعد الجسر فيمن يليه من الممدين، فتوافوا إليه في جمع عظيم، أو بلغ رستم والفيرزان ذلك ، وأتتهم العيون به بما ينتظرون من الإمداد، واجتمعا على أن يبعثا مهران الهمذاني؛ حتى يريا من رأيهما، فخرج مهران في الخيول وأمرأه بالحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ بين القادسية وخفان في الذين أمدوه من العرب عن خبر بشير وكنانة - وبشير يومئذ بالحيرة - فاستبطن فرات بادقلي، وأرسل إلى جرير ومن معه: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.

وكان جرير ممداً له، وكتب إلى عصمة ومن معه، وكان ممداً له بمثل ذلك، وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية والجوف، وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة على النجف، ومن سلك معه طريقه، وطلع جرير على الجوف ومن سلك معه طريقه، فانتهوا إلى المثنى، وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم؛ وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره. فقال المثنى لرجل من أهل السواد: ما يقال للرقعة للتي فيها مهران وعسكره؟ قال: بسوسيا. فقال: أكدى مهران وهلك نزل منزلاً هو البسوس؛ وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم ؛ فقال المثنى : اعبروا ؛ فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم في الملطاط، قال: المثنى - لذلك الرجل: ما يقال لهذ الرقعة التي نزلها مهران وعسكره ؟ قال: شوميا - ذلك في رمضان أ فنادى الناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، وقد كان المثنى عبى جيشه، فجعل على مجنبتيه مذعوراً والنسير، وعلى المجردة عاصماً، وعلى الطلائع عصمة ، واصطف الفريقان ؛ وقام المثنى فيهم خطيباً ؛ فقال: إنكم صوام ؛ والصوم مرقة ومضعفة ؛ وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم . قالوا: نعم فأفطروا ؛ فأبصر رجلاً يستوفز ويستنتل من الصف، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر ؛ وهو يريد أن يستقتل، فقرعه بالرمح، وقال: لا أبالك؟ الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني بمثله.

كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن عطية. وعن سفيان الأحمري، عن المجالد، عن الشعبي، قالا: قال عمر حين استجم جمع بجيلة: اتخذونا طريقاً، فخرج سروات بجيلة ووفدهم نحوه، وخلفوا الجمهور، فقال: أي الوجوه أحب إليكم؟ قالوا: الشأم فإن أسلافنا بها فقال: بل العراق؛ فإن الشأم في كفاية؛ فلم يزل بهم، ويأبون عليه حتى عزم على ذلك ؛ وجعل لهم ربع خمس ما أفاء الله على المسلمين إلى نصيبهم من الفئ، فاستعمل عرفجة على من كان مقيماً على جديلة من بجيلة، وجريراً على من كان من بني عامر وغيرهم ؛ وقد كان أبو بكر ولاه قتال أهل عمان في نفر، وأقفله حين غزا في البحر، فولاه عمر عظم بجيلة، وقال : اسمعوا لهذا، وقال للآخرين: اسمعوا لجرير، فقال جرير لبجيلة: تقرون بهذا - وقد كانت بجيلة غضبت على عرفجة في امرأة منهم - وقد أدخل علينا ما أدخل علينا ما أدخل فاجتمعوا فأتوا عمر، فقالوا: أعفنا من عرفجة، فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاماً، فقالوا: اعفنا من عرفجة فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاماً، وأعظمكم بلاء وإحساناً، قالوا: استعمل علينا رجلاً منا، ولا يستعمل علينا نزيعاً فينا، فظن عمر أنهم ينفوفنه من نسبه، فقال: انظروا ما تقولون قالوا: نقول ما تسمع ؛ فأرسل إلى عرفجة ، فقال: إن هؤلاء استعفوني منك، وزعموا أنك لست منهم ؛ فما عندك؟ قال : صدقوا، وما يسرني أني منهم. أنا امرؤ من الأزد، ثم من بارق، في كهف لا يحصى عدده، وحسب غير مؤتشب . فقال عمر: نعم الحي الأزد؟ يأخذون نصيبهم من الخير والشر. قال عرفجة: إنه كان من شأني أن الشر تفاقم فينا، ودارنا واحدة؛ فأصبنا الدماء، ووتر بعضنا بعضا، فاعتزلتهم لما خفتم، فكنت في هؤلاء أسود وأقودهم، فحفظوأ على لأمر دار بيني وبين دهاقينهم، فحسدوني وكفروني. فقال: لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك. واستعمل جريراً مكانه، وجمع له بجلية، وأرى جريراً وبجيلة أنه يبعث عرفجة إلى الشأم، فجبب ذلك إلى جرير العراق، وخرج جرير في قومه ممداً للمثنى بن حارثة، حتى نزل ذا قار، ثم ارتفع حتى إذا كان بالجل والمثنى بمرج السباخ، أتى المثنى الخبر عن حديث بشير وهو بالحيرة. فأرسل المثنى إلى قد بعثوا مهران، ونهض من المدائن شاخصاً نحو الحيرة. أن الأعاجم جرير وإلى عصمة بالحث، وقد كان عهد إليهم عمر ألا يعبروا بحراً ولا جسراً إلا بعد ظفر، فاجتمعوا بالبويب فاجتمع العسكران على شاطئ البويب الشرقي وكان البويب مغيضاً للفرات أيام المدود، وأزمان فارس، يصب في الجوف، والمشركون بموضع دار الرزق، والمسلمون بموضع السكون.
كتب إلى السرى بن يحيى، عن شعيب بن ابراهيم، عن سيف بن عمر، عن عطية والمجالد بإسنادهما ، قالا: وقدما على عمر غزاة بني كنانة والأزد في سبعمائة جميعاً، فقال: أي الوجوه أحب إليكم؟ قالوأ: الشأم، أسلافنا أسلافنا؟ فقال: ذلك قد كفيتموه ؛ العراق العراق ذروا بلدة قد قلل الله شوكتها وعددها، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش، لعل الله أن يورثكم بقسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس. فقال غالب بن عبد الله الليثي وعرفجة البارقي، كل واحد منهما لقومه ، وقاما فيهم يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أرى وأراد. فدعا لهم عمر بخير وقاله لهم، وأمر على بني كنانة غالب بن عبد الله وسرحه، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة وعامتهم من بارق، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا في قومه، وهذا في قومه ، حتى قدما على المثنى.
كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وعمرو بإسنادهما، قالا: وخرج هلال بن علفة التيمي فيمن اجتمع إليه من الرباب حتى أتى عمر، فأمره عليهم وسرحه، فقدم على المثنى وخرج ابن المثنى الجشمى ؛ جشم سعد، حتى قدم عليه، فوجهه وأمره على بني سعد، فقدم على المثنى.
كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي وعطية بإسنادهما، قالا: وجاء عبد الله بن ذي السهمين في أناس من خثعم ، فأمره عليهم ووجهه إلى المثنى، فخرج نحوه حتى قدم عليه.

كتب إلى السرى عن شعيب، عن سيف، عن محمد وعمرو بإسنادهما، قالا: وجاء ربعي في أناس من بني حنظلة، فأمره عليهم وسرحهم، وخرجوا حتى قدم بهم على المثنى، فرأس بعده ابنة شبث بن ربعى وقدم عليه أناس من بني عمرو، فأمر عليهم ربعي بن عامر بم خالد العنود، وألحقه بالمثنى، وقدم عليه قوم من بني ضبة، فجعلهم فرقتين، فجعل على إحدى الفرقتين ابن الهوبر، وعلى الأخرى المنذر بن حسان، وقدم عليه قرط بن جماح في عبد القيس، فوجهه. وقالوا جميعاً: اجتمع الفيرزان ورستم على أن يبعثا مهران لقتال المثنى واستأذنا بوران - وكانا إذا أرادا شيئاً دنوا من حجابها حتى يكلماها به - فقالا بالذي رأيا وأخبراها بعدد الجيش - وكانت فارس لا تكثر البعوث ؛ حتى كان من أمر العرب ما كان - فلما أخبراها بكثرة عدد الجيش، قالت : ما بال أهل فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم ؟ وما لكما لا تبعثان كما لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ ومالكما لا تبعثان كما كانت الملوك تبعث قبل اليوم قالا : إن الهيبة كانت مع عدونا يومئذ، وإنها فينا اليوم ؛ فما لأتهما وعرفت ما جاءاها به ، فمضى مهران في جنده حتى نزل من دون الفرات والمثنى وجنده على شاطئ الفرات؛ والفرات بينهما؛ وقدم أنس بن هلال النمري ممداً للمثنى في أناس من النمر نصارى وجلاب جلبوا خيلاً - وقدم ابن مردى الفهري التغلبي من أناس بن تغلب يصارى وجلاب خيلا - وهو عبد الله بن كليب بن خالد - وقالوا حين رأوا نزول العرب والعجم: نقاتل مع قومنا. وقال مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المسلمون: اعبروا إلينا، فارتحلوا من بسوسيا إلى شوميا، موضع دار الرزق.
كتب إلى السرى، عن شعيب بن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه، أن العجم لما أذن لهم في العبور نزلوا شوميا موضع دار الرزق، فتعبوا هنالك ؛ فأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همساً. فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بني سليم نحو موضع نهر بني سليم، فلما دنوا زحفوا، وصف المسلمين فيما بين نهر بني سليم اليوم وما وراءها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35