كتاب : تاريخ الرسل والملوك
المؤلف : الطبري

قال: وحدّثني إبراهيم بن أبي إسحاق العبسيّ - شيخ من غطفان - قال: أخبرني أبو عمرو مؤدب محمد بن عبد الرحمن بن سليمان، قال: سمعت الزبيريّ الذي قتله أبو جعفر - يعني عثمان بن محمد بن خالد - قال: اجتمع مع محمّد جمع لم أر مثله ولا أكثر منه؛ إني لأحسب أنا قد كنا مائة ألف؛ فلما قرب عيسى خطبنا، فقال: يأيها الناس؛ إنّ هذا الرجل قد قرب منكم في عدد وعدّة؛ وقد حللتكم من بيعتي؛ فمن أحبّ المقام فليقم، ومن أحبّ الانصراف فلينصرف. فتسللوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة.
قال: وحدّثني موهوب بن رشيد بن حيّان بن أبي سليمان بن سمعان؛ أحد بني قريط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، قال: حدّثني أبي، قال: لما ظهر محمّد جمع الناس وحشرهم، وأخذ عليهم المناقب فلا يخرج أحد؛ فلما سمع بعيسى وحميد بن قحطبة قد أقبلا، صعد المنبر، فقال: يأيها الناس؛ إنّا قد جمعناكم للقتال؛ وأخذنا عليكم المناقب؛ وإن هذا العدوّ منكم قريب؛ وهو في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده؛ وإنه قد بدا لي أن آذن لكم وأفرج عنكم المناقب؛ فمن أحبّ أن يقيم أقام، ومن أحبّ أن يظعن ظعن. قال أبي: فخرج عالمٌ من الناس؛ كنت فيهم؛ فلما كنا بالعريض - وهو على ثلاثة أميال من المدينة - لقيتنا مقدّمة عيسى بن موسى دون الرُّحبة؛ فما شبّهت رجالهم إلاّ رجلاً من جراد. قال: فمضينا وخالفونا إلى المدينة.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج ناس كثير من أهل المدينة بذراريّهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، فأمر محمد أبا القلمس، فردّ من قدر عليه منهم، فأعجزه كثير منهم، فتركهم.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني الغاضريّ، قال: قال لي محمد: أعطيك سلاحاً وتقاتل معي؟ قلت: نعم؛ إن أعطيتني رمحاً أطعنهم به؛ وهم بالأعوص وسيفاً أضربهم به وهم بهيفا. قال: ثمّ مكث غير كثير، ثم بعث إليّ فقال: ما تنتظر؟ قلت: ما أهون عليك - أبقاك الله - أن أقتل وتمرّوا؛ فيقال: والله إن كان لبادياً! قال: ويحك! قد بيّض أهل الشأم وأهل العراق وخراسان، قال: قلت: اجعل الدنيا زبدةً بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة، ما ينفعني هذا وعيسى بالأعوص! قال: وحدّثني عيسى، عن أبيه، عن جدّه، قال: وجّه أبو جعفر مع عيسى بن موسى بابن الأصمذ ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الأصمّ: ألا إنّ الخيل لا عمل لها مع الرّجالة؛ وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكرهم. فرفعهم إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف ، وهي على أربعة أميال من المدينة - وقال: لا يهرول الرّاجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني محمد بن أبي الكرام، قال: لمّا نزل عيسى طرف القندوم أرسل إليّ نصف الليل، فوجدته جالساً والشمع والأموال بين يديه، فقال: جاءتني العيون تخبرني أنّ هذا الرجل في ضعف؛ وأنا أخاف أن ينكشف؛ وقد ظننت ألاّ مسلك له إلاّ إلى مكة، فاضمم إليك خمسمائة رجل؛ فامض بهم معانداً عن الطريق حتى تأتيَ الشجرة فتقيم بها. قال: فأعطاهم على الشّمع، فخرجت بهم حتى مررت بالبصرة بالبطحاء - وهي بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة - فخاف أهلها؛ فقلت: لا بأس عليكم؛ أنا محمد بن عبد الله، هل من سويق؟ قال: فأخرجوا إلينا سويقاً، فشربنا وأقمنا بها حتى قتل محمد.
قال: وحدّثني محمد بن إسماعيل؛ عن الثقة عنده، قال: لما قرب عيسى أرسل إلى محمد القاسم بن الحسن بن زيد يدعوه إلى الرّجوع عمّا هو عليه، ويخبره أنّ أمير المؤمنين قال آمنه وأهل بيته، فقال محمد للقاسم: والله لولا أنّ الرّسل لا تقتل لضربت عنقك؛ لأني لم أرك منذ كنت غلاماً في فرقتين؛ خير وشرّ، إلاّ كنت مع الشرّ على الخير. وأرسل محمد إلى عيسى: يا هذا؛ إنّ لك برسول الله قرابةً قريبةً، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذّرك نقمته وعذابه؛ وإني والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه؛ فإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله، فتكون شرّ قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك، وأكثر لمأثمك. فأرسل هذه الرسالة مع إبراهيم بن جعفر، فبلّغه، فقال: ارجع إلى صاحبك، فقل له: ليس بيننا إلاّ القتال.

قال: وحدّثني إبراهيم بن محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن عليّ بن عبد الله بن جعفر، قال: أخبرني أبي، قال: لما قرب عيسى من المدينة، أرسلني إلى محمد بأمانه، فقال لي محمد: علام تقاتلونني وتستحلّون دمي، وإنما أنا رجل فرّ من أن يقتل! قال: قلت: إنّ القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلاّ قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليّق طلحة والزبير؛ على نكث بيعتهم وكيد ملكهم، والسعي عليهم. قال: فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال: والله ما سرّني أنك قلت له غير ذلك، وأن لي كذا وكذا.
قال: وحدّثني هشام بن محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: أخبرني ماهان بن بخت مولى قحطبة، قال: لما صرنا بالمدينة أتانا إبراهيم بن جعفر بن مصعب طليعة، فطاف بعسكرنا حتى حسّه كله، ثم ولّى ذاهباً. قال: رعبنا منه والله رعباً شديداً؛ حتى جعل عيسى وحميد بن قحطبة يعجبان فيقولان: فارس واحد طليعةً لأصحابه! فلما ولّى مدى أبصارننا نظرنا إليه مقيماً بموضع واحد، فقال حميد: ويحكم! انظروا ما حال الرجل؛ فإني أرى دابته واقفاً لا تزول؛ فوجّه إليه حميد رجلين من أصحابه، فوجدا دابته قد عثر به؛ فصرعه فقوّس التنور عنقه. فأخذا سلبه، فأتينا بتنور - قيل إنه كان لمصعب بن الزبير - مذهب لم ير مثله قطّ.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، فف نزل عيسى بقصر سليمان بالجرف، صبيحة ثنتي عشرة من رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، يوم السبت، ويوم الأحد وغدا يوم الاثنين، حتى استوى على سلع، فنظر إلى المدينة وإلى من دخلها وخرج منها، وشحن وجوهها كلها بالخيل والرّجال إلا ناحية مسجد أبي الجرّاح؛ وهو على بطحان؛ فإنه تركه لخروج من هرب، وبرز محمد في أهل المدينة.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثنا محمد بن زيد، قال: قدمنا مع عيسى، فدعا محمداً ثلاثاً: الجمعة والسبت والأحد.
قال: وحدّثني عبد الملك بن شيبان، قال: حدّثني زيد مولى مسمع، قال: لما عسكر عيسى أقبل عى دابة يمشي حواليه نحو من خمسمائة، وبين يديه راية يسار بها معه؛ فوقف على الثنيّة ونادى: يا أهل المدينة؛ إن الله قد حرّم دماء بعضنا على بعض؛ فهلمّوا إلى الأمان؛ فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن؛ ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن. خلّوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا أو له. قال: فشتموه وأقذعوا له، وقالوا: يا بن الشاة، يا بن كذا، يا بن كذا. فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد ففعل مثل ذلك، فشتموه؛ فلما كان اليوم الثالث أقبل بما لم أر مثله قطّ من الخيل والرجال والسلاح؛ فوالله ما لبثنا أن ظهر علينا ونادى بالأمان، فانصرف إلى معسكره.
قال: وحدّثني إبراهيم الغفانيّ، قال: سمعت أبا عمرو مؤدّب محمد ابن عبد الرحمن يحدّث عن الزبيريّ - يعني عثمان بن محمد بن خالد - قال: لما التقينا نادى عيسى بنفسه: أيا محمد، إن أمير المؤمنين أمرني ألاّ أقاتلك حتى أعرض عليك الأمان، فلك عليّ نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضى عنك دينك، ويفعل بك ويفعل! قال: فصاح: محمد أله عن هذا، فوالله لو علمت أنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقرّبني منكم طمع ما كان هذا. قال: ولجّ القتال، وترجّل محمد؛ فإني لأحسبه قتل بيده يومئذ سبعين رجلاً.

قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني محمد بن زيد، قال: لما كان يوم الاثنين، وقف عيسى على ذباب، ثم دعا مولى لعبد الله بن معاوية كان معه؛ وكان على مجفّفته، فقال: خذ عشرة من أصحابك؛ أصحاب التجافيف؛ فجاء بهم، فقال لنا: ليقم معه عشرة منكم يا آل أبي طالب. قال: فقمنا معه، ومعنا ابنا محمد بن عمر بن عليّ: عبد الله وعمر، ومحمد بن عبد الله بن عقيل، والقاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ، وعبد الله ابن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر؛ في عشرة منّا. فقال: انطلقوا إلى القوم، فادعوهم وأعطوهم أماناً؛ وبقي أمان الله. قال: فخرجنا حتى جئنا سوق الخطّابين؛ فدعوناهم فسبّونا ورشقونا بالنبل، وقالوا: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه؛ فكلمهم القاسم بن الحسن بن زيد، فقال: وأنا ابن رسول الله؛ وأكثر من ترون بنو رسول الله؛ ونحن ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دمائكم والأمان لكم؛ فجعلوا يسبّوننا ويرشقوننا بالنبل، فقال القاسم لغلامه: القط هذه النّبل، فلقطها فأخذها قاسم بيده، ثم دخل بها إلى عيسى، فقال: ما تنتظر! انظر ما صنعوا بنا، فأرسل عيسى بن حميد قحطبة في مائة.
قال: حدّثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: حدّثني أخواي عثمان ومحمد ابنا سعيد - وكانا مع محمد - قالا: وقف القاسم بن الحسن ورجل معه من آل أبي طالب على رأس ثنيّة الوداع، فدعوا محمداً إلى الأمان، فسبّهما فرجعا، وأقبل عيسى وقد فرّق القواد فجعل هزارمرد عند حمّام بن أبس الصّعبة، وكثير بن حصين عند دار ابن أفلح التي ببقيع الغرقد، ومحمد بن أبي العباس على باب بني سلمة، وفرّق سائر القوّاد على أنقاب المدينة، وصار عيسى في أصحابه على رأس الثنيّة، فرموا بالنشاب والمقاليع ساعة.
وحدّثني أزهر، قال: جعل محمد ستور المسجد دراريع لأصحابه.
قال: وحدّثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: حدّثني عمر؛ شيخ من الأنصار، قال: جعل محمد ظلال المسجد خفاتين لأصحابه، فأتاه رجلان من جهينة، فأعطى أحدهما خفتاناً ولم يعط الآخر، فقاتل صاحب الخفتان، ولم يقاتل الآخر معه؛ فلما حضرت الحرب أصابت صاحب الخفتان نشابة، فقتلته، فقال صاحبه:
يا رب لا تجعلني كمن خان ... وباع باقي عيشه بخفتان
قال: وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدثني إسماعيل بن أبي عمرو، قال: إنا لوقوف على خندق بني غفار؛ إذ أقبل رجل على فرس؛ ما يُرى منه إلاّ عيناه، فنادى: الأمان، فأعطى الأمان، فدنا حتى لصق بنا، فقال: أفيكم من يبلّغ عني محمداً؟ قلت: نعم، أنا، قال: فأبلغه عني - وحسر عن وجهه؛ فإذا شيخ مخضوب - فقال: قل له: يقول لك فلان التميميّ، بآية أنّي وإياك جلسنا في ظل الصخرة في جبل جهينة في سنة كذا، اصبر إلى الليل؛ فإن عامة الجند معك. قال: فأتيته قبل أن يغدو - وذلك يوم الاثنين في اليوم الذي قتل فيه - فوجدت بين يديه قربة عسل أبيض قد شقّت من وسطها، ورجل يتناول من العسل ملء كفّه ثم يغمسه في الماء، ثم يلقمه إياه، ورجل يحزم بطنه بعمامة؛ فأبلغته الرسالة فقال: قد أبلغت؛ فقلت: أخواي في يدك، قال: مكانهما خير لهما.
قال: وحدّثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، قال: حدّثني محمد بن عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، قال: كانت راية محمد إلى أبي، فكنت أحملها عنه.
قال: وحدّثني عيسى، عن أبيه، قال: كان مع الأفطس حسن بن عليّ بن حسين علم أصفر، فيه صورة حيّة، ومع كلّ رجل من أصحابه من آل عليّ بن أبي طالب علم، وشعارهم: أحد أحد، قال: وكذلك كان شعار النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، قال: أخبرنا جهم بن عثمان مولى بني سليم، ثم أحد بني بهز، قال: قال لي عبد الحميد بن جعفر يوم لقينا أصحاب عيسى: نحن اليوم على عدّة أهل بدر يوم لقوا المشركين - قال: وكنا ثلثمائة ونيّفاً.
قال: وحدّثني إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس، قال: سمعت أبي قول: ولد عيسى بن موسى في سنة ثلاث ومائة، وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين، وعلى ميسرته داود بن كرّاز من أهل خراسان، وعلى ساقته الهيثم بن شعبة.

قال: وحدّثني عيسى، عن أبيه، قال: لقي أبو القلمّس محمد بن عثمان، أخا أسد بن المرزبان بسوق الحطابين، فاجتلدا بسيفيهما حتى تقطّعا ثم تراجعا إلى مواقفهما، فأخذ أخو أسد سيفاً، وأخذ أبو القلّمس بأثفيّة، فوضعها على قربوس سرجه، وسترها بدرعه، ثم تعاودا، فلما تدانيا قام أبو القلمّس في ركائبه؛ ثم ضرب بها صدره فصرعه، ونزل فاحتزّ رأسه.
قال: وحدّثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدّثني عبد الله بن عمر بن القاسم بن عبد الله العمريّ، قال: كنا مع محمد، فبرز رجل من أهل المدينة؛ مولى لآل الزبير يدعى القاسم بن وائل، فدعا للبراز، فبرز إليه رجل لم أر مثل كماله وعدّته؛ فلما رآه ابن وائل انصرف. قال: فوجدنا من ذلك وجداً شديداً، فإنا لعلى ذلك إذ سمعت خشف رجل وراثي، فالتفتّ فإذا أبو القلمّس، فسمعته يقول: لعن الله أمير السفهاء، أن ترك مثل هذا اجترأ علينا! وإن خرج رجل خرج إلى أمر عسى ألاّ يكون من شأنه. قال: ثم برز له فقتله.
قال: وحدّثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: خرج القاسم بن وائل يومئذ من الخندق، ثم دعا للبراز، فبرز له هزارمرد، فلما رآه القاسم هابه، فرجع فبرز له أبو القلمّس، فقال: ما انتفع في مثل هذا اليوم بسيفه قطّ، ثم ضربه على حبل عاتقه فقتله، فقال: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيراً من ألف فاروق.
قال: وحدّثني عليّ أبو الحسن الحذّاء من أهل الكوفة، قال: حدّثني مسعود الرّحال، قال: شهدت مقتل محمد بالمدينة، فإنّي لأنظر إليهم عند أحجار الزّيت، وأنا مشرف عليهم من الجبل - يعني سلعاً - إذ نظرت إلى رجل من أصحاب عيسى قد أقبل ممستلئماً في الحديد؛ لا يرى منه إلاّ عيناه، على فرس؛ حتى فصل من صفّ أصحابه، فوقف بين الصّفين، فدعا للبراز؛ فخرج إليه رجل من أصحاب محمد، عليه قباء أبيض، وكمّة بيضاء، وهو راجل، فكلمه مليّاً، ظننت أنه استرجله لتستوي حالاهما، فنظرت إلى الفارس ثنى رجله، فنزل، ثم التقيا فضربه صاحب محمد ضربة على خوذة حديدعلى رأسه، فأقعده على استه وقيذاً لا حراك به، ثم انتزع الخوذة، فضرب رأسه فقتله، ثم رجع فدخل في أصحابه، فلم ينشب أن خرج من صفّ عيسى آخر؛ كأنه صاحبه، فبرز له الرّجل الأوّل، فصنع به مثل ما صنع بصاحبه، ثم عاد إلى صفّه، وبرز ثالث فدعاهه، فبرز له فقتله، فلما قتل الثالث ولّى يريد أصحابه، فاعتوره أصحاب عيسى فرموه فأثبتوه، وأسرع يريد أصحابه، فلم يبلغهم حتى خرّ صريعاً فقتلوه دونهم.
وحدّثني عيسى، قال: أخبرني محمد بن زيد، قال: لما أخبرنا عيسى برميهم إيانا، قال لحميد بن قحطبة: تقدّم، فتقدّم في مائة كلهم راجل غيره معهم النشاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق، عليه أناس من أصحاب محمد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، فأرسل حميد إلى عيسى بهدم الجدار. قال: فأرسل إلى فعلة فهدموه، وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى: إنا قد انتهينا إلى الخندق. فأرسل إليه عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عليها؛ حتى كانوا من ورائه، ثم اقتتلوا أشدّ القتال من بكرة حتى صار العصر.
وحدّثني الحارث، قال: أخبرنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر: أقبل عيسى بن موسى بمن معه، حتى أناخ على المدينة، وخرج إليه محمد ابن عبد الله ومن معه، فاقتتلوا أياماً قتالاً شديداً، وصبر نفر من جهينة، يقال لهم بنو شجاع مع محمد بن عبد الله، حتى قتلوا وكان لهم غناء.
رجع الحديث إلى حديث عمر: حدّثني أزهر، قال: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل في الخندق فأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي في الثنيّة فطرحا على الخندق؛ فجازت الخيل، فالتقوا عند مفاتح خشرم، فاقتتلوا حتى كان العصر.

حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، قال: انصرف محمد يومئذ قبل الظهر حتى جاء دار مروان، فاغتسل وتحنّط، ثم خرج. قال عبد العزيز بن أبي ثابت: فحدّثني عبد الله بن جعفر، قال: دنوت منه، فقلت له: بأبي أنت! إنه والله ما لك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال؛ فاخرج الساعة حتى تلحق بالحسن بن معاوية بمكة؛ فإنّ معه جلّة أصحابك، فقال: يا أبا جعفر؛ والله لو خرجت لقتل أهل المدينة؛ والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل؛ وأنت مني في سعة؛ فاذهب حيث شئت. فخرجت معه حتى إذا جاء دار ابن مسعود في سوق الظهر ركضت فأخذت على الزيّاتين، ومضى إلى الثنيّة، وقتل من كان معه بالنّشاب وجاءت العصر فصلّى.
حدّثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدّثني إبراهيم بن محمد، قال: رأيت محمداً بين داري بني سعد، عليه جبّة ممشّقة، وهو على برذون، وابن خضير إلى جانبه يناشده الله إلاّ مضى إلى البصرة أو غيرها؛ ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين؛ ولكن اذهب حيث شئت فأنت في حلّ. قال ابن خضير: وأين المذهب عنك! ثم مضى فأحرق الديوان، وقتل رياحاً ثم لحقه بالثنيّة، فقاتل حتى قتل.
وحدّثني الحارث، قال: حدّثني ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: خرج مع محمد بن عبد الله ابن خضير؛ رجل من ولد مصعب بن الزبير؛ فلما كان اليوم الذي قتل فيه محمد، ورأى الخلل في أصحابه، وأنّ السيف قد أفناهم؛ استأذن محمداً في دخول المدينة فأذن له؛ ولا يعلم ما يريد؛ فدخل على رياح بن عثمان بن حيّان المرّيّ وأخيه، فذبحهما ثم رجع؛ فأخبر محمداً، ثم تقدّم فاتل حتى قتل من ساعته.
رجع الحديث إلى حديث عمر: حدّثني أزهر، قال: حدّثني أخي، قال: لما رجع ابن خضير قتل رياحاً وابن مسلم بن عقبة.
وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: ذبح ابن خضير رياحاً ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى مات؛ وقتل معه عباساً أخاه؛ وكان مستقيم الطريقة، فعاب الناس ذلك عليه؛ ثم مضى إلى ابن القسريّ وهو محبوس في دار ابن هشام، فنذر به فردم بابي الدار دونه، فعالج البابين، فاجتمع من في الحبس فسدّوهما، فلم يقدر عليهم؛ فرجع إلى محمد، فقاتل بين يديه حتى قتل.
حدّثني مسكين بن حبيب بن محمد، قال: لما جاءت العصر صلاّها محمد في مسجد بني الديل، في الثنيّة، فلما سلّم استسقى، فسقته ربيحة بنت أبي شاكر القرشية، ثم قالت له: جعلت فداك! انج بنفسك، قال: إذاً لا يبقى بها ديك يصرخ؛ ثم مضى فلما كان ببطن مسيل سلع، نزل فعرقب دابته، وعرقب بنو شجاع دوابهم، ولم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه. قال مسكين: فلقد رأيتني وأنا غلام، جمعت من حليها نحواً من ثلثمائة درهم؛ ثم قال لهم: قد بايعتموني ولست بارحاً حتى أقتل، فمن أحبّ أن ينصرف فقد أذنت له، ثم أقبل على ابن خضير، فقال له: قد أحرقت الديوان؟ قال: نعم؛ خفت أن يؤخذ الناس عليه؟ قال: أصبت.
حدّثني أزهر، قال: حدّثني أخواي، قالا: لقد هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثاً، ولكنا لم نكن نعرف الهزيمة؛ ولقد سمعنا يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، يقول، وقد هزمناهم: ويل أمه فتحاً لو كان له رجال! حدّثني عيسى، قال: كان ممّن انهزم يومئذ وفّر عن محمد عبد العزيز ابن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فأرسل محمد وراءه، فأتيَ به، فجعل الصبيان يصيحون وراءه: " ألا باقة بقبقبة " ، فكان عبد العزيز يقول بعد ذلك: إن أشدّ ما أتى عليَّ لصياح الصبيان.
وحدّثني عيسى، قال: حدّثنا مولى لهشام بن عمارة بن الوليد بن عديّ ابن الخيار، قال: كنا مع محمد، فتقدّم هشام بن عمارة إليه وأنا معه، فقال: إني لا آمن أن يخذلك من ترى، فأشهد أنّ غلامي هذا حرٌّ لوجه الله إن رمت أبدأ أو تقتل أو أقتل أو نغلب؛ فقلت: فوالله إنّي لمعه إذ وقعت بترسه نشابة، ففلقته باثنتين، ثم خسفت في درعه، فالتفت إليّ فقال: فلان! قلت: لبيك! قال: ويلك! رأيت مثل هذا قطّ يا فلان! أيما أحبّ إليك؛ نفسي أم أنت؟ قلت: لا بل نفسك، قال: فأنت حرّ لوجه الله، فانطلق هارباً.

وحدّثني متوكل بن أبي الفحوة، قال: حدّثني محمد بن عبد الواحد بن عبد الله بن أبي فروة، قال: إنّا لعلى ظهر سلع ننظر، وعليه أعاريب جهينة، إذ صعد إلينا رجل بيده رمح، قد نصب عليه رأس رجل متّصل بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، قال: فرأيت منه منظراً هائلاً، وتطيّرت منه الأعاريب، وأجفلت هاربة حتى أسهلت، وعلا الرّجل الجبل، ونادى على الجبل رطانة لأصحابه بالفارسية كوهبان؛ فصعد إليه أصحابه حتى علوا سلعاً فنصبوا عليه راية سوداء، ثم انصبّوا إلى المدينة، فدخلوها، وأمرت أسماء بنت حسن ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب - وكانت تحت عبد الله ابن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس - بخمار أسود، فنصب على منارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلمّا رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: دخلت المدينة، وهربوا. قال: وبلغ محمداً دخول الناس من سلع، فقال: لكلّ قوم جبل يعصمهم؛ ولنا جبل لا نؤتى إلاّ منه.
وحدّثني محمد بن إسماعيل، عن الثقة عنده، قال: فتح بنو أبي عمرو الغفاريون للمسوّدة طريقاً في بني غفار، فدخلوا منه حتى جاءوا من وراء أصحاب محمد.
وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني عبد العزيز بن عمران، قال: نادى محمد يومئذ حميد بن قحطبة: إن كنت فارساً وأنت تعتدّ ذاك على أهل خراسان فابرز لي، فأنا محمد بن عبد الله، قال: قد عرفتك وأنت الكريم ابن الكريم، الشريف ابن الشريف؛ لا والله يا أبا عبد الله لا أبرز لك وبين يديّ من هؤلاء الأغمار إنسان واحد؛ فإذا فرغت منهم فسأبرز لك لعمري.
وحدّثني عثمان بن المنذر بن مصعب بن عروة بن الزبير، قال: حدّثني رجل من بني ثعلبة بن سعد، قال: كنت بالثنيّة يوم قتل محمد بن عبد الله ابن حسن ومعه ابن خضير، قال: فجعل ابن قحطبة يدعو ابن خضير إلى الأمان، ويشحّ به عن الموت، وهو يشدّ على الناس بسيفه مترجّلاً، يتمثل:
لا تسقه حزراً ولا حليباً ... إن لم تجده سابحاً يعبوبا
ذا ميعة يلتهم الجبوبا ... كالذئب يتلو طمعاً قريبا
يبادر الآثار أن تئوبا ... وحاجب الجونة أن يغيبا
قال: فخالط الناس، فضربه ضارب على أليته فخلّها، فرجع إلى أصحابه، فشقّ ثوباً فعصّبها إلى ظهره، ثم عاد إلى القتال، فضربه ضارب على حجاج عينه، فأغمض السيف في عينه، وخرّ فابتدره القوم، فحزوا رأسه؛ فلما قتل ترجّل محمد، فقاتل على جيفته حتى قتل.
وحدّثني مخلد بن يحيى بن حاضر بن المهاجر الباهليّ، قال: سمعت الفضل بن سليمان مولى بني نمير يخبر عن أخيه - وكان قد قتل له أخ مع محمد - قال: كان الخراسانية إذا نظروا إلى ابن خضير تنادوا: " خضير آمد، خضير آمد! " ، وتصعصعوا لذلك.
وحدّثني هشام بن محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: أخبرني ماهان بن بخت مولى قحطبة، قال: أتينا برأس ابن خضير؛ فوالله ما جعلنا نستطيع حمله لما كان به من الجراح؛ والله لكأنه باذنجاتة مفلّقة، وكنا نضمّ أعظمه ضمّا.
وحدّثني أزهر بن سعيد، قال: لما نظر أصحاب محمد إلى العلم الأسود على منارة المسجد فتّ ذلك في أعضادهم، ودخل حميد بن قحطبة من زقاق أشجع على محمد فقتله وهو لا يشعر، وأخذ رأسه فأتيَ به عيسى، وقتل معه بشراً كثيراً.
قال: وحدّثني أبو الحسن الحذّاء، قال: أخبرني مسعود الرّحال، قال: رأيت محمداً يومئذ باشر القتال بنفسه، فأنظر إليه حين ضربه رجل بسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وتعاوروا عليه، وصاح حميد بن قحطبة: لا تقتلوه، فكفّوا، وجاء حميد فاحتزّ رأسه.
وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: برك محمد يومئذ لركبتيه وجعل يذبّ عن نفسه ويقول: ويحكم! أنا ابن نبيكم، محرج مظلوم! وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني ابن أبي ثابت؛ عن عبد الله بن جعفر، قال: طعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل فاحتزّ رأسه، فأتى به عيسى.

وحدّثني محمد بن إسماعيل، قال: حدّثني أبو الحجاج المنقريّ، قال: رأيت محمداً يومئذ وإن أشبه ما خلق الله به لما ذكر عن حمزة بن عبد المطلب، يهذّ الناس بسيفه هذاً؛ ما يقاربه أحد إلا قتله، ومعه سيف، لا والله ما يليق شيئاً؛ حتى رماه إنسان بسهم كأني أنظر إليه، أحمر أزرق، ثم دهمتنا الخيل، فوقف إلى ناحية جدار، فتحاماه الناس، فوجد الموت، فتحامل على سيفه فكسره؛ قال: فسمعت جدّي يقول: كان معه سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو الفقار.
وحدّثني هرمز أبو عليّ مولى باهلة، قال: حدّثني عمرو بن المتوكل - وكانت أمّه تخدم فاطمة بنت حسين - قال: كان مع محمد يوم قتل سيف النبيّ صلى الله عليه وسلم ذو الفقار، فلما أحسّ الموت أعطى سيفه رجلاً من التجار كان معه - وكان له عليه أربعمائة دينار - فقال له: خذ هذا السيف؛ فإنك لا تلقى به أحداً من آل أبي طالب إلاّ أخذه وأعطاك حقك. قال: فكان السيف عنده، حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه، وأعطاه أربعمائة دينار، فلم يزل عنده حتى قام المهديّ، ووليَ جعفر المدينة، وبلغه مكان السيف؛ فأخذه، ثم صار إلى موسى، فجرّب به على كلب، فانقطع السيف.
وحدّثني عبد الملك بن قريب الأصمعيّ، قال: رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس، متقلداً سيفاً، فقال لي: يا أصمعيّ، ألا أريك ذا الفقار؟ قلت: بلى، جعلني الله فداك! قال: استلّ سيفي، فاستللته، فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة.
وحدّثني أبو عاصم النبيل، قال: حدّثني أخو الفضل بن سليمان النّميريّ قال: كنا مع محمد، فأطاف بنا أربعون ألفاً، فكانوا حولنا كالحرّة السوداء، فقلت له: لو حملت فيهم لانفرجوا عنك، فقال: إنّ أمير المؤمنين لا يحمل، إنه إن حمل لم تكن له بقيّة. قال: فجعلنا نعيد ذلك عليه؛ فحمل، فالتفّوا عليه فقتلوه.
وحدّثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سلم - ويدعى ابن البوّاب؛ وكان خليفة الفضل بن الربيع يحجب هارون، من أدباء الناس وعلمائهم - قال: حدّثني أبي عن الأسلميّ - يعني عبد الله بن عامر - قال: قال لي محمد ونحن نقاتل معه عيسى: تغشانا سحابة؛ فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي على أحجار الزيت؛ قال: فوالله ما لبثنا أن أطلّتنا سحابة فأحالت حتى قلت: تفعل، ثم جاوزتنا فأصابت عيسى وأصحابه، فما كان إلا كلا ولا؛ حتى رأيته قتيلاً بين أحجار الزيت.
وحدّثني إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن أبي الكرام، قال: قال عيسى لحميد بن قحطبة عند العصر: أراك قد أبطأت في أمر هذا الرجل، فولّ حمزة بن مالك حربَه، فقال: والله لو رمت أنت ذاك ما تركتك؛ أحين قتلت الرجال ووجدت ريح الفتح! ثم جدّ في القتال حتى قتل محمد.
وحدّثني جوّاد بن غالب بن موسى مولى بني عجل، قال: أخبرني حميد مولى محمد بن أبي العباس، قال: اتّهم عيسى حميد بن قحطبة يومئذ - وكان على الخيل - فقال: يا حميد، ما أراك تبالغ، قال: أتتهمني! فوالله لأضربنّ محمداً حين أراه بالسيف أو أقتل دونه. قال: فمرّ به وهو مقتول؛ فضربه بالسيف ليبرّ يمينه.
وحدّثني يعقوب بن القاسم، قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب، قال: قتل محمد بعد العصر، يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني أبي، قال: بعث عيسى فدقّ السجن، فحملنا إليه والقتال دائب بينهم؛ فلم نزل مطّرحين بين يديه، حين أتيَ برأس محمد، فقلت لأخي يوسف: إنه سيدعونا إلى معرفته، ولا نعرفه له؛ فإنا نخاف أن نخطىء؛ فلما أتيَ به قال: أتعرفانه؟ قلنا: نعم، قال: انظرا، أهو هذا؟ قال أبي: فبدرت يوسف، فقلت: أرى دماً كثيراً وأرى ضرباً؛ فوالله ما أثبته، قال: فأطلقنا من الحديد، وبتنا عنده ليلتنا كلها حتى أصبحنا. قال: ثم ولاّني ما بين مكة والمدينة، فلم أزل والياً عليه حتى قدم جعفر بن سليمان، فحدرني إليه، وألزمني نفسه.
وحدّثني عليّ بن إسماعيل بن صالح بن ميثم، قال: حدّثني أبو كعب، قال: حضرت عيسى حين قتل محمداً، فوضع رأسه بين يديه، فأقبل على أصحابه، فقال: ما تقولون في هذا؟ فوقعوا فيه، قال: فأقبل عليهم قائد له، فقال: كذبتم والله وقلتم باطلاً، لما على هذا قاتلناه؛ ولكنه خالف أمير المؤمنين، وشقّ عصا المسلمين؛ وإن كان لصوّاماً قوّاماً. فسكت القوم.

وحدّثني ابن البوّاب عبد الله بن محمد، قال: حدّثني أبي، عن الأسلميّ، قال: قدم على أبي جعفر قادم، فقال: هرب محمد، فقال: كذبت! نحن أهل البيت لا نفرّ.
وحدّثني عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: حدّثني أبو الحجاج الجمّال، قال: إني لقائم على رأس أبي جعفر، وهو مسائلي عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى قد هُزم - وكان متّكئاً فجلس - فضرب بقضيب معه مصلاّه، وقال: كلاّ، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء! ما أني لذلك بعد!.
قال: وحدّثني محمد بن الحسن، قال: حدّثني بعض أصحابنا، قال: أصاب أبا القلمّس نشابة في ركبته، فبقي نصلها، فعالجها فأعياه، فقيل له: دعه حتى يقيح فيخرج، فتركه، فلما طلب بعد الهزيمة لحق بالحرّة، وأبطأ به ما أصاب ركبته، فلم يزل بالنّصل حتى استخرجه ثم جثا لركبتيه، ونكب كنانته، فرماهم فتصدّعوا عنه، فلحق بأصحابه فنجا.
وحدّثني محمد بن الحسن، قال: حدّثني عبد الله بن عمر بن القاسم، قال: لما انهزمنا يومئذ كنت في جماعة، فيهم أبو القلمّس، فالتفتّ إليه، فإذا هو مستغرب ضحكاً، قال: فقلت: والله ما هذا بموضع ضحك، وخفضت بصري؛ فإذا برجل من المنهزمة قد تقطع قميصه، فلم يبق منه إلا جربّانه وما يستر صدره إلى ثدييه، وإذا عورته بادية وهو لا يشعر؛ قال: فجعلت أضحك لضحك أبي القلمّس.
فحدثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: لم يزل أبو القمّس مختفياً بالفرع، وبقي زماناً ثم عدا عليه عبد له، فشدخ رأسه بصخرة فقتله، ثم أتى أمّ ولد كانت له، فقال: إني قد قتلت سيّدك فهلمّي أتزوّجك؟ قالت: رويداً أتصنّع لك، فأمهلها، فأتت السلطان فأخبرته، فأخذ العبد فشدخ رأسه.
حدّثني محمود بن معمر بن أبي الشدائد، قال: أخبرني أبي، قال: لما دخلت خيل عيسى من شعب بني فزارة، فقتل محمد، اقتحم نفر على أبي الشدائد فقتلوه، وأخذوا رأسه، فنادت ابنته الناعمة بنت أبي الشدائد: وارجالاه! فقال لها رجل من الجند: ومن رجالك؟ قالت: بنو فزارة، قال: والله لو علمت ما دخلت بيتك، فلا بأس عليك، أنا امرؤ من عشيرتك من باهلة؛ وأعطاها قطعة من عمامته فعلقتها على بابها. قال: وأتي عيسى برأسه، وعنده ابن أبي الكرام ومحمد بن لوط بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فاسترجعا وقالا: والله ما بقي من أهل المدينة أحد، هذا رأس أبي الشدائد، فالح بن معمر - رجل من بني فزارة مكفوف - قال: فأمر منادياً فنادى: من جاء برأس ضربنا رأسه.
وحدّثني عليّ بن زادان، قال: حدّثني عبد الله بن برقي، قال: رأيت قائداً من قوّاد عيسى، جاء في جماعة يسأل عن منزل ابن هرمز؛ فأرشدناه إليه. قال: فخرج وعليه قميص رياط، قال: فأنزلوا قائدهم، وحملوه على برذونه وخرجوا به يزفّونه، حتى أدخلوه على عيسى، فما هاجه.
حدّثني قدامة بن محمد، قال: خرج عبد الله بن يزيد بن هرمز ومحمد ابن عجلان مع محمد، فلما حضر القتال، تقلد كلّ واحد منهما قوساً، فظننّا أنهما أرادا أن يريا الناس أنهما قد صلحا لذلك.
وحدّثني عيسى، قال: حدّثني حسين بن يزيد، قال: أتيَ بابن هرمز إلى عيسى بعد ما قتل محمد، فقال: أيها الشيخ، أما وزعك فقهك عن الخروج مع من خرج! قال: كانت فتنةً شملت الناس، فشملتنا فيهم، قال: اذهب راشداً.
وحدّثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: سمعت مالك بن أنس، يقول: كنت آتي ابن هرمز فيأمر الجارية فتغلق الباب، وترخي الستر، ثم يذكر أوّل هذه الأمّة، ثم يبكي حتى تخضلّ لحيته. قال: ثم خرج مع محمد فقيل له: والله ما فيك شيء، قال: قد علمت؛ ولكن يراني جاهل فيقتدي بي.
حدّثني عيسى، قال: حدّثني محمد بن زيد، قال: لمّا قتل محمد انخرقت السماء بالمطر بما لم أر مثله انخرق قطّ منها، فنادى منادي عيسى: لا يبيتنّ بالمدينة أحدّ من الجند إلا كثير بن حصين وجنده، ولحق عيسى بعسكره بالجرف؛ فكان به حتى أصبح، ثم بعث بالبشارة مع القاسم بن حسن بن زيد، وبعث بالرأس مع ابن أبي الكرام.

وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: لما أصبح محمد في مصرعه، أرسلت أخته زينب بنت عبد الله وابنته فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل، وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه! فأرسل إليهما: أما ما ذكرتما يا بنّي عميّ مما نيل منه فوالله ما أمرت ولا علمت؛ فوارياه راشدتين. فبعثتا إليه فاحتمل، فقيل: إنه حشي في مقطع عنقه عديله قطناً، ودفن بالبقيع، وكان قبره وجاه زقاق دار عليّ بن أبي طالب، شارعاً على الطريق أو قريباً من ذلك؛ وبعث عيسى بألوية فوضع على باب أسماء بنت حسن بن عبد الله واحد، وعلى باب العباس بن عبد الله بن الحارث آخر، وعلى باب محمد بن عبد العزيز الزهريّ آخر، وعلى باب عبيد الله بن محمد بن صفوان آخر، وعلى باب دار أبي عمرو الغفاريّ آخر، وصاح مناديه: من دخل تحت لواء منها، أو دخل داراً من هذه الدور فهو آمن؛ ومطرت السماء مطراً جوداً، فأصبح الناس هادئين في أسواقهم؛ وجعل عيسى يختلف إلى المسجد من الجرف، فأقام بالمدينة أياماً، ثم شخص صبح تسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان يريد مكة.
حدّثني أزهر بن سعيد، قال: لما كان الغد من قتل محمد أذن عيسى في دفنه، وأمر بأصحابه فصلبوا ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر رن عبد العزيز. قال أزهر: فرأيتهم صفين؛ ووكل بخشبة ابن خضير من يحرسها، فاحتمله قومٌ في الليل فواروه، ولم يقدر عليهم، وأقام الآخرون مصلّبين ثلاثاً، ثم تأذّى بهم الناس، فأمر عيسى بهم فألقوا على المفرح من سلع، وهي مقبرة اليهود، فلم يزالوا هنالك، ثم ألقوا في خندق بأصل ذباب.
حدّثني عيسى بن عبد الله قال: حدّثتني أمي أم حسين بنت عبد الله بن محمد بن عليّ بن حسين، قالت: قلت لعمّي جعفر بن محمد: إني - فديتك - ما أمر محمد بن عبد الله هذا؟ قال: فتنته يقتل فيها محمد عند بيت روميّ، ويقتل أخوه لأبيه وأمّه بالعراق وحوافر فرسه في ماء.
حدّثني عيسى، عن أبيه، قال: خرج مع محمد حمزة بن عبد الله بن محمد بن عليّ - وكان عمه جعفر يقول له: هو والله مقتول، قال: فتنحّى جعفر.
حدّثني عيسى، قال: حدّثنا ابن أبي الكرام، قال: بعثني عيسى برأس محمد، وبعث معي مائة من الجند، قال: فجئنا حتى إذا أشرفنا على النّجف كبّرنا - قال: وعامر بن إسماعيل يومئذ بواسط محاصر هارون ابن سعد العجليّ - فقال أبو جعفر للربيع: ويحك! ما هذا التكبير! قال: هذا ابن أبي الكرام، جاء برأس محمد بن عبد الله، قال: ائذن له ولعشرة ممن معه، قال: فأذن لي، فوضعت الرأس بين يديه في ترس، فقال: من قُتل معه من أهل بيته؟ قلت: لا والله ولا إنسان، قال: سبحان الله! هو ذاك. قال: فرفع رأسه إلى الربيع، فقال: ما أخبرنا صاحبه الذي كان قبله؟ قال الربيع: زعم أنه قتل منهم عدد كثير، قلت: لا والله ولا واحد.
حدّثني عليّ بن إسماعيل بن صالح بن ميثم، قال: لما قدم برأس محمد على أبي جعفر وهو بالكوفة، أمر به فطيف في طبق أبيض، فرأيته آدم أرقط، فلما أمسى من يومه بعث به إلى الآفاق.
وحدثني عبد الله بن عمر بن حبيب من أهل ينبع، قال: لما أتيَ أبو جعفر برءوس بني شجاع، قال: هكذا فليكن الناس، طلبت محمداً فاشتمل هؤلاء عليه، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه فصبروا حتى قتلوا.
قال عمر: أنشدني عيسى بن إبراهيم وإبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب، ومحمد بن يحيى ومحمد بن الحسن بن زبالة وغيرهم لعبد الله ابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يرثي محمداً:
تبكي مدلّه أن تقنّص حبلهم ... عيسى وأقصد صائباً عثمانا
هلاّ على المهديّ وابني مصعب ... أذريت دمعك ساكباً تهتاناً!
ولفقد إبراهيم حين تصدّعت ... عنه الجموع فواجه الأقرانا
سالت دموعك ضلّة قد هجت لي ... برحاء وجد تبعث الأحزانا
والله ما ولد الحواضن مثلهم ... أمضى وأرفع محتداً ومكانا
وأشد ناهضةً وأقول للّتي ... تنفي مصادر عدلها البهتانا
فهناك لو فقّأت غير مشوّه ... عينيك من جزع عذرت علانا
رزء لعمرك لو يصاب بمثله ... مبطان صدّع رزؤه مبطانا
وقال ابن مصعب:
يا صاحبيّ دعا الملامة واعلما ... أن لست في هذا بألوم منكما

وقفا بقبر ابن النبيّ فسلّما ... لا بأس أن تقفا به فتسلّما
قبر تضمّن خير أهل زمانه ... حسباً وطيب سجيّةٍ وتكرّما
رجل نفي بالعدل جور بلادنا ... وعفا عظيمات الأمور وأنعما
لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ... عنه، ولم يفتح بفاحشة فما
لو أعظم الحدثان شيئاً قبله ... بعد النبيّ به لكنت المعظما
أو كان أمتع بالسلامة قبله ... أحداً لكان قصاره أن يسلما
ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة ... فتصرّمت أيامه وتصرّما
بطلاً يخوض بنفسه غمراتها ... لا طائشاً رعشاً ولا مستسلما
حتى مضت فيه السيوف وربّما ... كانت حتوفهم السيوف وربّما
أضحى بنو حسن أبيح حريمهم ... فينا وأصبح نهبهم متقسما
ونساؤهم في دورهنّ نوائح ... سجع الحمام إذا الحمام ترنّما
يتوسّلون بقتلهم ويرونه ... شرفاً لهم عند الإمام ومغنما
والله لو شهد النبيّ محمّدٌ ... صلّى الإله على النبيّ وسلّما
إشراع أمّته الأسنّة لابنه ... حتى تقطّر من ظباتهم دما
حقاً لأيقن أنهم قد ضيّعوا ... تلك القرابة واستحلّوا المحرما
وحدّثني إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم، قال: حدّثني موسى بن عبد الله ابن حسن، قال: خرجت من منازلنا بسويقة في الليل، وذلك قبل مخرج محمد ابن عبد الله؛ فإذا بنسوة كأنما خرجن من ديارنا؛ فأخذتني عليهنّ غيرة، فإني لأتبعهنّ أنظر أين يردن؛ حتى إذا كنّ بطرف الحميراء من جانب الغرس؛ التفتت إليّ إحداهنّ، فقالت:
سويقة بعد ساكنها يباب ... لقد أمست أجدّبها الخراب
فعرفت أنهنّ من ساكني الأرض، فرجعت.
وحدّثني عيسى، قال: لما قتل عيسى بن موسى محمداً قبض أموال بني حسن كلّها، فأجاز ذلك أبو جعفر.
وحدّثني أيوب بن عمر، قال: لقيَ جعفر بن محمد أبا جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، ردّ عليّ قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها، قال: إياي تكلم بهذا الكلام! والله لأزهقنّ نفسك. قال: فلا تعجل عليّ؛ قد بلغت ثلاثاً وستين، وفيها مات أبي وجدّي عليّ بن أبي طالب؛ وعليّ كذا وكذا إن ربتك بشيء أبداً، وإن بقيت بعدك إن ربت الذي يقوم بعدك. قال: فرقّ له وأعفاه.
وحدّثني هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد، قال: لم يرد أبو جعفر عين أبي زياد حتى مات فردّها المهديّ على ولده.
وحدّثني هشام بن إبراهيم، قال: لما قتل محمد أمر أبو جعفر بالبحر فأقفل على أهل المدينة، فلم يحمل إليهم من ناحية البحار شيء؛ حتى كان المهديّ فأمر بالبحر ففتح لهم، وأذن في الحمل.
وحدّثني محمد بن جعفر بن إبراهيم، قال: حدّثتني أمّي أمّ سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر زوجة موسى بن عبد الله، قالت: خاصم بنو المخزومية عيسى وسليمان وإدريس بنو عبد الله بن حسن بن محمد بن عبد الله بن حسن في ميراث عبد الله، وقالوا: قتل أبوكم محمد فورثه عبد الله؛ فتنازعوا إلى الحسن بن زيد؛ فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين أبي جعفر، فكتب إليه: أما بعد؛ فإذا بلغك كتابي هذا فورّثهم من جدّهم، فإني قد رددت عليهم أموالهم صلةً لأرحامهم، وحفظاً لقرابتهم.
وحدّثني عيسى، قال: خرج مع محمد من بني هاشم الحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وحسين وعيسى ابنا زيد بن عليّ بن حسين بن عليّ بن أبي طالب؛ قال: فحدّثني عيسى، قال: بلغني أن أبا جعفر كان يقول: واعجبا لخروج ابني زيد بن عليّ وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه، وأحرقناه كما أحرقه، وحمزة ابن عبد الله بن محمد بن عليّ بن حسين بن أبي طالب، وعليّ وزيد ابنا حسن ابن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب!

قال عيسى: قال أبو جعفر للحسن بن زيد: كأني أنظر إلى ابنيك واقفين على رأس محمد بسيفين، عليهما قباءان. قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أشكو إليك عقوقهما قبل اليوم، قال: أجل فهذا من ذاك. والقاسم ابن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والمرجّى عليّ بن جعفر بن إسحاق بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال عيسى: قال أبو جعفر لجعفر بن إسحاق: من المرجّى هذا؟ فعل الله به وفعل! قال: يا أمير المؤمنين؛ ذاك ابني، والله لئن شئت أن أنتفي منه لأفعلنّ. ومن بني عبد شمس محمد بن عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس.
قال: وحدثني أبو عاصم النّبيل، قال: حدّثني عبّاد بن كثير، قال: خرج ابن عجلان مع محمد، وكان على ثقله، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة قيّده، فدخلت عليه، فقلت: كيف ترى رأي أهل البصرة في رجل قيّد الحسن؟ قال: سيّئاً والله، قال: قلت: فإن ابن عجلان بهذه كالحسن ثمّ، فتركه. ومحمد بن عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله، أنّ عبيد الله بن عمر ابن حفص بن عاصم خرج معه؛ فأتى به أبو جعفر بعد قتل محمد، فقال له: أنت الخارج عليّ مع محمد؟ قال: لم أجد إلاّ ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، قال عمر: هذا وهمٌ.
قال: وحدّثني عبد العزيز بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: كان عبيد الله قد أجاب محمداً إلى الخروج معه؛ فمات قبل أ، يخرج، وخرج معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم بن عبد العزّى ابن أبي قيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ، وخرج معه عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن ابن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدّراورديّ وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بنى سباع، وابن سباع من خزاعة حليف بني زهرة، وبنو إبراهيم وإسحاق وربيعة وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقو وعثمان وعبد العزيز؛ بنو عبد الله بن عطاء.
وحدّثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير. قال: وحدّثني الزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: إنا لبالمُرّ من بطن إضم، وعندي زوجتي أمينة بنت خضير؛ إذ مرّ بنا رجل مصعد من المدينة، فقالت له: ما فعل محمد؟ قال: قتل، قالت: فما فعل ابن خضير؟ قال: قتل، فخرّت ساجدة، فقلت: أتسجدين أن قُتِل أخوك! قالت: نعم، أليس لم يفرّ ولم يؤسر! قال عيسى: حدّثني أبي، قال: قال أبو جعفر لعيسى بن موسى: من استنصر مع محمد؟ قال: آل الزبير، قال: ومن؟ قال: وآل عمر، قال: أما والله لعن غير مودّة بهما له ولا محبّةلهولا لأهلبيته. قال: وكان أبو جعفر يقول: لو وجدت ألفاً من آل الزّبير كلهم محسن وفيهم مسىء واحدٌ لقتلتهم جميعاً، ولو وجدت ألفاً من آل عمر كلهم مسيء وفيهم محسنٌ واحد لأعفيتهم جميعاً.

قال عمر: وحدّثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب، قال: حدّثني محمد بن عثمان بن محمد بن خالد بن الزّبير، قال: لما قتل محمد، هرب أبي موسى بن عبد الله بن حسن وأنا معهما وأبو هبّار المزنيّ، فأتينا مكة، ثم انحدرنا إلى البصرة، فاكترينا من رجل يدعى حكيماً، فلما وردنا البصرة - وذلك بعد ثلث الليل - وجدنا الدروب مغلقة، فجلسنا عندها حتى طلع الفجر؛ ثم دخلنا فنزلنا المربد، فلما أصبحنا أرسلنا حكيماً يبتاع لنا طعاماً؛ فجاء به على رجل أسود، في رجله حديدة، فدخل به علينا فأعطاه جُعْله، فتسخّط علينا، فقلنا: زده، فتسخّط، فقلنا له: ويلك! أضعف له، فأبى، فاستراب بنا، وجعل يتتصفّح وجوهنا. ثم خرج فلم ننشب أن أحاطت بمنزلنا الخيل، فقلنا لربّة المنزل: ما بال الخيل؟ فقالت: لا بأس فيها، تطلب رجلاً من بني سعد يدعى نميلة بن مرّة، كان خرج مع إبراهيم، قال: فوالله ما راعنا إلاّ بالأسود قد دخل به علينا، قد غطّي رأسه ووجهه. فلما دُخل به كشف عنه، ثم قيل: أهؤلاء؟ قال: نعم هؤلاء؛ هذا موسى بن عبد الله، وهذا عثمان بن محمد، وهذا ابنه ؛ ولا أعرف الرابع غير أنه من أصحابهم. قال: فأخذنا جميعاً، فدخل بنا على محمد بن سليمان فلما نظر إلينا أقبل على موسى، فقال: لا وصل الله رحمك! أتركت البلاد جميعاً وجئتني! فإما أطلقتك فتعرّضت لأمير المؤمنين، وإمّا أخذتك فقطعت رحمك. ثم كتب إلى أمير المؤمنين بخبرنا. قال: فجاء الجواب أن احملهم إليّ، فوجّهنا إليه ومعنا جند، فلما صرنا بالبطيحة وجدنا بها جنداً آخر ينتظروننا؛ ثم لم نزل نأتي على المسالح من الجند في طريقنا كله، حتى وردنا بغداد، فدُخل بنا على أبي جعفر، فلما نظر إلى أبي قال: هيه! أخرجت عليّ مع محمد! قال: قد كان ذاك؛ فأغلظ له أبو جعفر؛ فراجعه مليّاً، ثم أمر به فضربت عنقه. ثم أمر بموىس فضرب بالسياط، ثم أمر بي فقرّبت إليه، فقال: اذهبوا به فأقيموه على رأس أبيه؛ فإذا نظر إليه فاضربوا عنقه على جيفته. قال: فكلمه عيسى بن عليّ، وقال: والله ما أحسبه بلغ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، كنت غلاماً حدثاً غراً أمرني أبي فأطعته، قال: فأمر بي فضربت خمسين سوطاً، ثم حبسني في المطبق وفيه يومئذ يعقوب بن داود، فكان خير رفيق أرافقه وأعطفه، يطعمني من طعامه، ويسقيني من شرابه، فلم نزل كذلك حتى توفّي أبو جعفر، وقام المهديّ وأخرج يعقوب، فكلمه فيّ فأخرجني.
قال: وحدّثني أيوب بن عمر، قال: حدّثني محمد بن خالد، قال: أخبرني محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: إني لعند أبي جعفر، إذ أتى فقيل له: هذا عثمان بن محمد بن خالد قد دخل به، فلما رآه أبو جعفر، قال: أين المال الذي عندك؟ قال: دفعته إلى أمير المؤمنين رحمه الله، قال: ومن أمير المؤمنين؟ قال: محمد بن عبد الله، قال: أبايعته؟ قال: نعم كما بايعته، قال: يا بن اللخناء! قال: ذاك من قامت عنه الإماء، قال: اضرب عنقه، قال: فأخذ فضربت عنقه.

قال: وحدّثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدّثني محمد ابن عثمان بن خالد الزبيريّ، قال: لما خرج محمد خرج معه رجلٌ من آل كثير بن الصلت، فلما قتل وهزم أصحابه تغيّبوا؛ فكان أبي والكثيريّ فيمن تغيّب، فلبثوا بذلك؛ حتى قدم جعفر بن سليمان والياً على المدينة، فاشتدّ في طلب أصحاب محمد، فاكترى أبي من الكثيريّ إبلاً كانت له، فخرجنا متوجّهين نحو البصرة؛ وبلغ الخبر جعفراً، فكتب إلى أخيه محمد يعلمه بتوجّهنا إلى البصرة، ويأمره بالترصّد لنا والتيقظ لأمرنا ومقدمنا، فلما قدمنا علم محمد بمقدمنا ومكاننا، فأرسل إلينا فأخذنا، فأتيَ بنا، فأقبل عليه أبي، فقال: يا هذا، اتّق الله في كريّنا هذا؛ فإنه أعرابيّ لا علم له بنا، إنما أكرانا ابتغاء الرزق، ولو علم بجريرتنا ما فعل؛ وأنت معرّضه لأبي جعفر؛ وهو من قد علمت؛ فأنت قاتله ومتحمّل مأثمه. قال: فوجم محمد طويلاً، ثم قال: هو والله أبو جعفر، والله ما أتعرّض له، ثم حُملنا جميعاً فدخلنا على أبي جعفر؛ وليس عنده أحد يعرف الكثيريّ غير الحسن بن زيد، فأقبل على الكثيريّ، فقال: يا عدوّ الله، أتكرِي عدوّ المؤمنين، ثم تنقله من بلد إلى بلد، تواريه مرة وتظهره أخرى! قال: يا أمير المؤمنين، وما علمي بخبره وجريرته وعداوته إياك! إنما أكريته جاهلاً به، ولا أحسبه إلاّ رجلاً من المسلمين، برىء الساحة؛ سليم الناحية؛ ولو علمت حاله لم أفعل. قال: وأكبّ الحسن بن زيد ينظر إلى الأرض، لا يرفع رأسه. قال: فأوعد أبو جعفر الكثيريّ وتهدده، ثم أمر بإطلاقه، فخرج فتغيّب، ثم أقبل على أبي، فقال: هيه يا عثمان! أنت الخارج على أمير المؤمنين، والمعين عليه! قال: بايعت أنا وأنت رجلاً بمكة، فوفيت ببيعتي وغدرت ببيعتك. قال: فأمر به فضربت عنقه.
قال: وحدّثني عيسى، قال: حدّثني أبي، قال: أتيَ أبو جعفر بعبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فنظر إليه فقال: إذا قتلتُ مثل هذا من قريش فمن أستبقي! ثم أطلقه، وأتي بعثمان بن محمد ابن خالد فقتله، وأطلق ناساً من القرشيّين، فقال له عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين، ما أشقى هذا بك من بينهم! فقال: إن هذا يدي.
قال: وحدّثني عيسى، قال: سمعت حسن بن زيد يقول: غدوت يوماً على أبي جعفر؛ فإذا هو قد أمر بعمل دكان، ثم أقام عليه خالداً، وأتيَ بعليّ بن المطلب بن عبد الله بن حنطب، فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثم أتيَ بعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع فأمر به فجُلِد خمسمائة سوط؛ فما تحرّك واحد منهما، فقال لي: هل رأيت أصبر من هذين قطّ! والله إنا لنؤتي بالذين قد قاسوا غلظ المعيشة وكدّها، فما يصبرون هذا الصبر، وهؤلاء أهل الخفض والكنّ والنعمة، قلت: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قومك أهل الشرف والقدر، قال: فأعرض عني، وقال: أبيت إلا العصبيّة! ثم أعاد عبد العزيز بن إبراهيم بعد ذلك ليضربه، فقال: يا أمير المؤمنين، الله الله فينا! فوالله إني لمكبّ على وجهي منذ أربعين ليلة، ما صلّيت لله صلاة! قال: أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم، قال: فأين العفو يا أمير المؤمنين؟ قال: فالعفو والله إذاً، ثم خلّى سبيله.
حدّثني الحارث، قال: حدّثنا ابن سعد، عن منحمد بن عمر، قال: كثروا محمداً وألحّوا في القتال حتى قتل محمد في النصف من شهر رمضان سنة خمسة وأربعين ومائة، وحمل رأسه إلى عيسى بن موسى، ودخل المدينة، وآمن الناس كلهم. وكان مكث محمد بن عبد الله من حين ظهر إلى أن قتل شهرين وسبعة عشر يوماً.
وفي هذه السنة: استخلف عيسى بن موسى على المدينة كثير بن حصين حين شخص عنها بعد مقتل محمد بن عبد الله بن حسن؛ فمكث والياً عليها شهراً، ثم قدم عبد الله بن الرّبيع الحارثي والياً عليها من قبل أبي جعفر المنصور.
وفي هذه السنة ثارت السودان بالمدينة بعبد الله بن الربيع، فهرب منهم.
ذكر الخبر عن وثوب السودان بالمدينة في هذه السنة والسبب الذي هيّج ذلك

ذكر عمر بن شبة أنّ محمد بن يحيى حدثه، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: كان رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن عبد الله بن أبي سبرة على صدقة أسد وطيّىء فلما خرج محمد أقبل إليه أبو بكر بما كان جبا وشمّر معه، فلما استخلف عيسى كثير ابن حصين على المدينة أخذ أبا بكر، فضربه سبعين سوطاً وحّدده وحبسه. ثم قدم عبد الله بن الرّبيع والياً من قِبل أب جعفر يوم السبت لخمس بقين من شوّال سنة خمس وأربعين ومائة، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم، فخرجت طائفة من التجار حتى جاءوا دار مروان، وفيها ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، وطمع فيهم الجند، فتزايدوا في سوء الرأي.
قال: وحدثني عمر بن راشد، قال: انتهب الجند شيئاً من متاع السوق، وغدوا على رجل من الصّرّافين يدعى عثمان بن زيد، فغالبوه على كيسه؛ فاستغاث، فخلّص ماله منهم، فاجتمع رؤساء أهل المدينة فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فلم ينكره ولم يغيّره، ثم جاء رجل من الجند فاشترى من جزّار لحماً يوم الجمعة، فأبى أن يعطيه ثمنه، وشهر عليه السيف؛ فخرج عليه الجزّار من تحت الوضم بشفرة، فطعن بها خاصرته، فخرّ عن دابته، واعتوره الجزّارون فقتلوه، وتنادى السودان عن الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كلّ ناحية، فلم يزالوا على ذلك حتى أمسوا؛ فلما كان الغد هرب ابن الربيع.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: نفخ السودان في بوق لهم؛ فذكر لي بعض من كان في العالية وبعض من كان في السافلة، أنه كان يرى الأسود من سكّانهما في بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغي له حتى يتيقّنه ثم يوحّش بما في يده، ويأتمّ الصوت حتى يأتيه. قال: وذلك يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائة، ورؤساء السودان ثلاثة نفر: وثيق ويعقل ورمقة. قال: فغدوا على ابن الربيع، والناس في الجمعة فأعجلوهم عن الصّلاة، وخرج إليهم فاستطردوا له؛ حتى أتى السوق فمّر بمساكين خمسة يسألون في طريق المسجد، فحمل عليهم بمن معه حتى قتلوهم، ثم مر بأصيبية على طنف دار، فظنّ أن القوم منهم؛ فاستنزلهم واختدعهم وآمنهم؛ فلما نزلوا ضرب أعناقهم، ثم مضى ووقف عند الحنّاطين، وحمل عليه السودان، فأجلى هارباً فاتّبعوه حتى صار إلى البقيع، ورهقوه فنثر لهم دارهم؛ فشغلهم بها، ومضى على وجهه حتى نزل ببطن نخل، عن ليلتين من المدينة.
قال: وحدّثني عيسى، قال: خرج السوّدان على ابن الربيع، ورؤساؤهم: وثيق وحديا وعنقود وأبو قيس؛ فقاتلهم فهزموه، فخرج حتى أتى بطن نخل فأقام بها.
وحدّثني عمر بن راشد، قال: لما هرب ابن الربيع وقع السودان في طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت وقسب، فانتهبوه، فكان حمل الدّقيق بدرهمين، وراوية زيت بأربعة دراهم.
وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: أغاروا على دار مروان ودار يزيد؛ وفيهما طعام كان حمل للجند في البحر، فلم يدعوا فيهما شيئاً. قال: وشخص سليمان بن فليح ين سليمان في ذلك اليوم إلى أبي جعفر، فقدم عليه فأخبره الخبر.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: وقتل السودان نفراً من الجند، فهابهم الجند حتى أن كان الفارس ليلقى الأسود وما عليه إلا خرقتان على عورته ودرّاعة، فيولّيه دبره احتقاراً له، ثم لم ينشب أن يشدّ عليه بعمود من عمد السوق فيقتله: فكانوا يقولون: ما هؤلاء السودان إلا سحرة أو شياطين! قال: وحدّثني عثامة بن عمرو السهميّ، قال: حدّثني المسور بن عبد الملك، قال: لما حبس ابن الربيع أبا بكر بن أبي سبرة، وكان جاء بجباية طيّىء وأسد، فدفعها إىل محمد، أشفق القرشيّون على ابن أبي سبرة، فلما خرج السودان على ابن الربيع، خرج ابن أبي سبرة من السجن، فخطب الناس، ودعاهم إلى الطاعة، وصلّى بالناس حتى رجع ابن الربيع.

قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج ابن أبي سبرة من السجن والحديد عليه، حتى أتى المسجد، فأرسل إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما، فاجتمعوا عنده، فقال: أنشدكم الله وهذه البليّة التي وقعت! فوالله لئن تمّت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى، إنه لاصطلام البلد وأهله، والعبيد في السوق بأجمعهم؛ فأنشدكم الله إلاّ ذهبتم إليهم فكلمتموهم في الرّجعة والفيئة إلى رأيكم، فإنهم لا نظام لهم. ولم يقوموا بدعوة؛ وإنما هم قوم أخرجتهم الحميّة! قال: فذهبوا إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحباً بكم يا موالينا؛ والله ما قمنا إلا أنفةً لكم مما عمل بكم، فأيدينا مع أيديكم وأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد.
وحدّثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدّثني الحسين بن مصعب، قال: لما خرج السودان وهرب ابن الرّبيع، جئتهم أنا وجماعة معي، وقد عسكروا في السوق، فسألناهم أن يتفرّقوا، وأخبرناهم أنّا وإياهم لا نقوى على ما نصبو له، قال: فقال لنا وثيق: إنّ الأمر قد وقع بما ترون؛ وهو غير مبقٍ لنا ولا لكم، فدعونا نشفكم ونشتف أنفسنا، فأبينا، ولم نزل بهم حتى تفرّقوا.
وحدّثني عمر بن راشد، قال: كان رئيسهم وثيق وخليفته يعقل الجزّار. قال: فدخل عليه ابن عمران، قال: إلى من تعهد يا وثيق؟ قال: إلى أربعة من بني هاشم، وأربعة من قريش، وأربعة من الأنصار، وأربعة من الموالي؛ ثم الأمر شورى بينهم. قال: أسأل الله إن ولاك شيئاً من أمرنا أن يرزقنا عدلك، قال: قد والله ولاّنيه الله.
قال: وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: حضر السوُّدان المسجد مع ابن أبي سبرة، فرقيَ المنبر في كبل حديد حتى استوى في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه محمد بن عمران، فكان تحته، وتبعهم محمد بن عبد العزيز فكان تحتهما، وتبعهم سليمان ابن عبد الله بن أبي سبرة، فكان تحتهم جميعاً؛ وجعل الناس يلغطون لغطاً شديداً، وابن أبي سبرة جالسٌ صامتٌ. فقال ابن عمران: أنا ذاهب إلى السوق، فانحدر وانحدر من دونه، وثبت ابن أبي سبرة، فتكلّم فحثّ على طاعة أمير المؤمنين؛ وذكر أمر محمد بن عبد الله فأبلغ. ومضى ابن عمران إلى السوق، فقام على بلاسٍ من بلس الحنطة، فتكلم هناك، فتراجع الناس؛ ولم يصلّ بالناس يومئذ إلا المؤذّن، فلما حضرت العشاء الآخرة وقد ثاب الناس، فاجتمع القرشيّون في المقصورة، أقام الصلاة محمد بن عمار المؤذن، الذي يلقب كساكس، فقال للقرشيين: من يصلّي بكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: ألا تسمعون! فلم يجيبوه، فقال: يا بن عمران، ويا بن فلان، فلم يجبه أحد، فقام الأصبغ بن سفيان بن عاصم ابن عبد العزيز بن مروان، فقال: أنا أصلي، فقام في المقام، فقال للناس: استووا، فلما استوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه، ونادى بأعلى صوته: ألا تسمعون! أنا الأصبغ بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، أصلّي بالناس على طاعة أبي جعفر، فردّد ذلك مرتين أو ثلاثاً، ثم كبّر فصلى، فلما أصبح الناس قال ابن أبي سبرة : إنه قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم؛ نهبتم ما في دار عاملكم وطعام جند أمير المؤمنين، فلا يبقينّ عند أحد منكم شيء إلا ردّه، فقد أقعدت لكم الحكم بن عبد الله بن المغيرة بن موهب؛ فرفع الناس إليه ما انتهبوا، فقيل: إنه أصاب قيمة ألف دينار.
وحدّثني عثامة بن عمرو، قال: حدّثني المسور بن عبد الملك، قال: ائتمر القرشيون أن يدعو ابن الربيع يخرج ثم يكلموه في استخلاف ابن أبي سبرة على المدينة، ليتحلّل ما في نفس أمير المؤمنين عليه؛ فلما أخرجه السودان، قال له ابن عبد العزيز: أتخرج بغير وال استخلف! ولّها رجلاً، قال: من؟ قال: قدامة بن موسى، قال: فصيح بقدامة، فدخل فجلس بين ابن الربيع وبين ابن عبد العزيز، فقال: ارجع يا قدامة، فقد وليتك المدينة وأعمالها، قال: والله ما قال لك هذا من نصحك، ولا نظر لمن وراءه، ولا أراد إلاّ الفساد، ولأحقّ بهذا مني ومنه من قام بأمر الناس وهو جالس في بيته - يعني ابن أبي سبرة - ارجع أيّها الرجل؛ فوالله ما لك عذر في الخروج، فرجع ابن الربيع.

قال وحدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحارث بن إسحاق، قال: ركب ابن عبد العزيز في نفر من قريش إلى ابن الربيع، فناشدوه وهو ببطن نخل إلاّ رجع إلى عمله، فتأبّى. قال: فخلا به ابن عبد العزيز، فلم يزل به حتى رجل وسكن الناس وهدءوا.
قال: وحدّثني عمر بن راشد، قال: ركب إليه ابن عمران وغيره وقد نزل الأعوص، فكلّموه فرجع، فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر.
ذكر الخبر عن بناء مدينة بغدادوفي هذه السنة أسست مدينة بغداد، وهي التي تدعى مدينة المنصور.
ذكر الخبر عن سبب بناء أبي جعفر إياها وكان سبب ذلك أنّ أبا جعفر المنصور بنى - فيما ذكر - حين أفضى الأمر إليه الهاشميّة، قبالة مدينة ابن هبيرة، بينهما عرض الطريق، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشميّة إلى جانب الكوفة. وبنى المنصور أيضاً مدينة بظهر الكوفة سماها الرصافة، فلما ثارت الرّاوندية بأبي جعفر في مدينته التي تسمّى الهاشميّة؛ وهي التي بحيال مدينة ابن هبيرة، كره سكناها لاضطراب من اضطرب أمره عليه من الرّاوندية، مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعد من جوارهم؛ فذكر أنه خرج بنفسه يرتاد لها موضعاً يتخذه مسكناً لنفسه وجنده، ويبتنى به مدينة، فبدأ فانحدر إلى جرجراياً ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كلّ ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كلّ شيء من الشأم والرّقّة وما حول ذلك. فنزل وضرب عسكره على الصّراة، وخطّ المدينة، ووكل بكل ربع قائداً.
وذكر عمر بن شبّة أنّ محمد بن معروف بن سويد حدّثه، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني سليمان بن مجالد، قال: أفسد أهل الكوفة جند أمير المؤمنين المنصور عليه، فخرج نحو الجبل يرتاد منزلاً، والطريق يومئذ على المدائن، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، فأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب: أين يريد أمير المؤمنين؟ قال: يرتاد منزلاً؛ قال: فإنا نجد في كتاب عندنا، أن رجلاً يدعى مقلاصاً، يبنى مدينة بين دجلة والصّراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى عرقاً منها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها، وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر عليه منه؛ فلا يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمّه، ثم يعمّر عمراً طويلاً، ويبقى الملك في عقبه. قال سليمان: فإنّ أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل؛ إذ قدم عليّ صاحبي فأخبرني الخبر فأخبرت به أمير المؤمنين، فدعا الرّجل فحدّثه الحديث، فكرّ راجعاً عوده على بدئه، وقال: أنا والله ذاك! لقد سميّت مقلاصاً وأنا صبيّ، ثم انقطعت عني.
وذكر عن الهيثم بن عديّ، عن ابن عياش، قال: لمّا أراد أبو جعفر الانتقال من الهاشمية بعث روّاداً يرتادون له موضعاً ينزله واسطاً، رافقاً بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من بارما، وذكر له عنه غذاء طيّب، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه، وبات فيه، وكرّر نظره فيه، فرآه موضعاً طيباً، فقال لجماعة من أصحابه؛ منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب الخوزيّ وعبد الملك بن حميد الكاتب وغيرهم: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: ما رأينا مثله، هو طيّب صالح موافق، قال: صدقتم؛ هو هكذا؛ ولكنه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وإنما أريد موضعاً يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم فيه الأسعار، ولا تشتدّ فيه المؤونة، فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه من البرّ والبحر شيء غلت الأسعار، وقلّت المادّة، واشتدّت المؤونة، وشقّ ذلك على الناس؛ وقد مررت في طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال؛ فأنا نازل فيه، وبائت به؛ فإذا اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل والموافقة مع احتماله للجند والناس أبتنيه.

قال الهيثم بن عديّ: فخبّرت أنه أتى ناحية الجسر، فعبر في موضع قصر السلام، ثمّ صلى العصر - وكان في صيف، وكان في موضع القصر بيعة قس - ثم بات ليلةً حتى أصبح، فبات أطيب مبيت في الأرض وأرفقه، وأقام يومه فلم ير إلا ما يحبّ، فقال: هذا موضع أبني فيه؛ فإنه تأتيه المادّة من الفرات ودجلة وجماعة من الأنهار، ولا يحمل الجند والعامّة إلاّ مثله، فخطّها وقدّر بناءها، ووضع أوّل لَبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وذكر عن بشر بن ميمون الشرويّ وسليمان بن مجالد، أنّ المنصور لما رجع من ناحية الجبل، سأل عن خبر القائد الذي حدّثه عن الطبيب الذي أخبره عمّا يجدون في كتبهم من خبر مقلاص، ونزل الدّير الذي هو حذاء قصره المعروف بالخلد، فدعا بصاحب الدّير، وأحضر البطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرّم وصاحب الدير المعروف ببستان القسّ وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم، وكيف هي في الحرّ والبرد والأمطار والوحول والبقّ والهوامّ؟ فأخبره كلّ واحد بما عنده من العلم، فوجّه رجالاً من قبله، وأمر كلّ واحد منهم أن يبيت في قرية منها، فبات كلّ رجل منهم في قرية منها، وأتاه بخبرها. وشاور المنصور الذين أحضرهم، وتنحّر أخبارهم؛ فاجتمع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره، وساء له - فهو الدّهقان الذي قريته قائمة إلى اليوم في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسيّ، وقباب القرية قائم بناؤها إلى اليوم، وداره ثابتة على حالها - فقال: يا أمير المؤمنين، سألتني عن هذه الأمكنة وطيبها وما يختار منها؛ فالذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج فى الجانب الغربىّ طسوجين وهما قطربّل وبادوريا، وفى الجانب الشرقىّ طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فأنت تكون بين نخل وقرب الماء، فإن أجدب طسّوج وتأخّرت عمارته كان فى الطسّوج الآخر العمارات وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة، تجيئك الميرة قى السفن من المغرب فى الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشأم، وتجيئك الميرة فى السفن من الصين والهند والبصرة وواسط فى دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها فى تأمرّا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل فى دجلة، وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوّك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدّوك ، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلاّ احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسّواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل. فازداد المنصور عزماً على النزول في الموضع الذي اختاره. وقال له: يا أمير المؤمنين؛ ومع هذا فإنّ الله قد منّ على أمير المؤمنين بكثرة جيوشه وقوّاده وجنده؛ فليس أحد من أعدائه يطمع في الدنوّ منه، والتدبير في المدن أن تتخذ لها الأسوار والخنادق، والحصون، ودجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين.
وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن حماداً التركيّ، قال: بعث المنصور رجالاً في سنة خمس وأربعين ومائة، يطلبون له موضعاً يبني فيه مدينته، فطلبوا وارتادوا، فلم يرض موضعاً، حتى جاء فنزل الدّير على الصّراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ومن هذه الصراة.
وذكر عن محمد بن صالح بن النطاح عن محمد بن جابر، عن أبيه، قال: لما أراد أبو جعفر أن يبني مدينته ببغداد رأى راهباً، فناداه فأجابه، فقال: تجدون في كتبكم أنه تبنى ها هنا مدينة؟ قال الرّاهب: نعم، يبنيها مقلاص؛ قال أبو جعفر: أنا كنت أدعى مقلاصاً في حداثتي. قال: فأنت إذاً صاحبها، قال: وكذلك لما أراد أن يبني الرّافقة بأرض الروم امتنع أهل الرّقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطّل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا، فهمّ بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصّومعة، فقال: هل عندك علم أن يبني ها هنا مدينة؟ فقال له: بلغني أنّ رجلاً يقال له مقلاص يبنيها، قال: أنا مقلاص؛ فبناها على بناء مدينة بغداد، سوى السور وأبواب الحديد وخندق منفرد.

وذكر عن السريّ، عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور وجّه في حشر الصنّاع والفعلة من الشأم والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة، فأحضروا، وأمر باختيار قوم من ذوي الفصل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة؛ فكان ممّن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأمر بخطّ المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللّبن وطبخ الآجرّ، فبدىء بذلك؛ وكان أول ما ابتدىء به في عملها سنة خمس وأربعين ومائة.
وذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحبّ أن ينظر إليها عياناً، فأمر أن يخطّ بالرّماد، ثم أقبل يدخل من كلّ باب، ويمرّ في فصلانها وطاقاتها ورحابها؛ وهي مخطوطة بالرماد، ودار عليهم ينظر إليهم وإلى ما خطّ من خنادقها؛ فلما فعل ذلك أمر أن يجعل على تلك الخطوط حبّ القطن، وينصب عليه النّفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم، ثم ابتدىء في عملها.
وذكر عن حمّاد التركيّ أنّ المنصور بعث رجالاً يطلبون له موضعاً يبني فيه المدينة، فطلبوا ذلك في سنة أربع وأربعين ومائة، قبل خروج محمد بن عبد الله بسنة أو نحوها، فوقع اختيارهم على موضع بغداد؛ قرية على شاطىء الصراة؛ مما يلي الخلد، وكان في موضع بناء الخلد دير، وكان في قرن الصراة مما يلي الخلد من الجانب الشرقيّ أيضاً قرية ودير كبير كانت تسمّى سوق البقر؛ وكانت القرية تسمى العتيقة؛ وهي التي افتتحها المثنّى بن حارثة الشيبانيّ، قال: وجاء المنصور، فنزل الدّير الذي في موضع الخلد على الصّراة، فوجده قليل البقّ، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ويصلح أن تبتنى فيه مدينة؛ فقال للراهب الذي في الدير: يا راهب، أريد أن أبني ها هنا مدينة، فقال: لا يكون، إنما يبنى ها هنا ملك يقال له أبو الدوانيق؛ فضحك المنصور في نفسه، وقال: أنا أبو الدوانيق. وأمر فخطّت المدينة، ووكّل بها أربعة قوّاد، كلّ قائد بربع.
وذكر عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء، فامتنع من ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألاّ يفعل، فولاّه القيام ببناء المدينة وضرب اللّبن وعدّه، وأخذ الرجال بالعمل. قال: وإنما فعل المنصور ذلك ليخرج من يمينه؛ قال: وكان أبو حنيفة المتولّي لذلك، حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة ممايلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة.
وذكر عن الهيثم بن عديّ، أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف ألاّ يقلع عنه حتى يعمل، فأخبر بذلك أبو حنيفة، فدعا بقصبة، فعدّ اللبن على رجل قد لبّنه، وكان أبو حنيفة أوّل من عد اللبن بالقصب؛ فأخرج أبا جعفر عن يمينه، واعتل فمات ببغداد.
وقيل: إنّ أبا جعفر لما أمر بحفر الخندق وإنشاء البناء وإحكام الأساس؛ أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعاً، وقدّر أعلاه عشرين ذراعاً، وجعل في البناء جوائز قصب مكان الخشب، في كل طرقة؛ فلمّا بلغ الحائط مقدار قامة - وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة - أتاه خبر خروج محمد فقطع البناء.
وذكر عن أحمد بن حميد بن جبلة، قال: حدّثني أبي، عن جدّي جبلة، قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديّين، يقال لها المباركة، وكانت لستين نفساً منهم، فعوّضهم منها وأرضاهم، فأخذ جدّي قسمة منها.
وذكر عن إبراهيم بن عيسى بن المنصور، أنّ حماداً التركيّ قال: كان حول مدينة أبي جعفر قرى قبل بنائها؛ فكان إلى جانب باب الشأم قرية يقال لها الخطابية، على باب درب النّورة، إلى درب الأقفاص، وكان بعض نخلها في شارع باب الشأم، إلى أيام المخلوع في الطريق، حتى قطع في أيام الفتنة، وكانت الخطّابية هذه لقوم من الدّهاقين، يقال لهم بنو فروة وبنو قنورا؛ منهم إسماعيل بن دينار ويعقوب بن سليمان وأصحابهم.
وذكر عن محمد بن موسى بن الفرات أنّ القرية التي في مربّعة أبي العباس كانت قرية جدّه من قبل أمّه، وأنهم من دهاقين يقال لهم بنو زرارى؛ وكانت القرية تسمى الوردانيّة، وقرية أخرى قائمة إلى اليوم ممايلي مربعة أبي فروة.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المعروفة اليوم بدار سعيد الخطيب كانت قرية يقال لها شرفانيّة، ولها نخيل قائم إلى اليوةم ممايلي قنطرة أبي الجون، وأبو الجون من دهاقين بغداد من أهل هذه القرية.
وذكر أن قطيعة الربيع كانت مزارع للناس من قرية يقال لها بناورى من رستاق الفروسيج من بادوريا.
وذكر عن محمد بن موسى بن الفرات، أنه سمع أباه أو جدّه - شك راوي ذلك عنه - يقول: دخل عليّ رج من دهاقين بادوريا وهو مخرّق الطيلسان؛ فقلت له: من خرّق طيلسانك؟ قال: خرق والله في زحمة الناس اليوم، في موضع طالما طردت فيه الأرانب والظباء - يريد باب الكرخ.
ويقال: إن قطيعة الربيع الخارجة إنما هي أقطاع المهديّ للربيع، وأنّ المنصور إنما كان أقطعه الداخلة.
وقيل: إن نهر طابق كسرويّ، وأنه نهر بابك من بهرام بن بابك، وأن بابك هذا هو الذي اتّخذ العقر الذي عليه قصر عيسى بن عليّ، واحتفر هذا النهر.
وذكر أنّ فرضة جعفر إقطاع من أبي جعفر لابنه جعفر، وأن القنطرة العتيقة من بناء الفرس.
وذكر عن حماد التركيّ، قال: كان المنصور نازلاً بالدّير الذي على شاطىء دجلة بالموضع المعروف بالخلد، ونحن في يوم صائف شديد الحرّ في سنة خمس وأربعين ومائة؛ وقد خرجت فجلست مع الربيع وأصحابه، إذ جاء رجل، فجاوز الحرس إلى المقصورة، فاستأذن فآذنّا المنصور به، وكان معه سلم بن أبي سلم، فأذن له فخبّره بخروج محمد، فقال المنصور: نكتب الساعة إلى مصر أن يقطع عن الحرمين المادة، ثم قال: إنما هم في مثل حرجة، إذا انقطعت عنهم المادّة والميرة من مصر. قال: وأمر بالكتاب إلى العباس بن محمد - وكان على الجزيرة يخبره بخبر محمد - وقال: إني راحل ساعة كتبت إلى الكوفة، فأمدّني في كلّ يوم بما قدرت عليه من الرجال من أهل الجزيرة. وكتب بمثل ذلك إلى أمراء الشأم، ولو أن يرد عليّ في كل يوم رجل واحد أكثر به من معي من أهل خراسان، فإنه إن بلغ الخبر الكذّاب انكسر. قال: ثم نادى بالرّحيل من ساعته، فخرجنا في حرّ شديد حتى قدم الكوفة، ثم لم يزل بها حتى انقضت الحرب بينه وبين محمد وإبراهيم، فلما فرغ منهما رجع إلى بغداد.
وذكر عن أحمد بن ثابت، قال: سمعت شيخاً من قريش يحدّث أنّ أبا جعفر لما فصل من بغداد، متوجّهاً نحو الكوفة، وقد جاءه البريد بمخرج محمد بن عبد الله بالمدينة، نظر إليه عثمان بن عمارة بن حريم وإسحاق بن مسلم العقيليّ وعبد الله بن الربيع المدانيّ - وكانوا من صحابته - وهو يسير على دابّته وبنو أبيه حوله. فقال عثمان: أظنّ محمداً خائباً ومن معه من أهل بيته؛ إنّ حشو ثياب هذا العباسيّ لمكرٌ ونكر ودهاء؛ وإنه فيما نصب له محمد من الحرب لكما قال ابن جذل الطّعان:
فكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حميَ اللقاء
فردّ مخيلها حتّى ثناها ... بأسمر ما يرى فيه التواء
قال: فقال إسحاق بن مسلم: قد والله سبرته ولمست عوده فوجدته خشناً، وغمزته فوجدته صليباً، وذقته فوجدته مراً؛ وأنه ومن حوله من بني أبيه لكما قال ربيعة بن مكدّم:
سما لي فرسان كأن وجوههم ... مصابيح تبدو في الظلام زواهر
يقودهم كبش أخو مصمئلة ... عبوس السرى قد لوّحته الهواجر
قال: وقال عبد الله بن الربيع: هو ليث خيس، ضيغم شموس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس؛ وأنه يهيج من الحرب كما قال أبو سفيان بن الحارث:
وإن لنا شيخاً إذا الحرب شمّرت ... بديهته الإقدام قبل النوافر
قال: فمضى حتى سار إلى قصر ابن هبيرة، فنزل الكوفة ووجّه الجيوش، فلما انقضت الحرب، رجع إلى بغداد فاستتمّ بناءها.
ذكر الخبر عن ظهور إبراهيم بن محمد ومقتلهوفي هذه السنة ظهر إبراهيم بن عبد الله بن حسن، أخو محمد بن عبد الله ابن حسن بالبصرة؛ فحارب أبا جعفر المنصور. وفيها قتل أيضاً.
ذكر الخبر عن سبب مخرجه وعن مقتله وكيف كان فذكر عن عبد الله بن محمد بن حفص، قال: حدّثني أبي، قال: لما أخذ أبو جعفر عبد الله بن حسن، أشفق محمد وإبراهيم من ذلك، فخرجا إلى عدن، فخافا بها، وركبا البحر حتى صارا إلى السِّند، فسعى بهما إلى عمر بن حفص، فخرجا حتى قدما الكوفة وبها أبو جعفر.

وذكر عمر بن شبّه أنّ سعيد بن نوح الضّبعيّ؛ ابن ابنة أبي الساج الضبعيّ، حدّثه قال: حدّثتني منة بنت أبي المنهال، قالت: نزل إبراهيم في الحيّ من بني ضبيعة في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكانت معه أم ولد له؛ فكنت أتحدث إليها، ولا ندري من هم؛ حتى ظهر فأتيتها، فقلت: إنك لصاحبتي؟ فقالت: أنا هي؛ لا والله ما أقرّتنا الأرض منذ خمس سنين؛ مرّة بفارس، ومرّة بكرمان، ومرّة بالحجاز، ومرّة باليمن.
قال عمر: حدّثني أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدّثني مطهر ابن الحارث، قال: أقبلنا مع إبراهيم من مكة نريد البصرة؛ ونحن عشرة، فصحبنا أعرابيّ في بعض الطريق، فقلنا له: ما اسمك؟ قال: فلان بن أبي مصاد الكلبيّ، فلم يفارقنا حتى قربنا من البصرة؛ فأقبل عليّ يوماً، فقال: أليس هذا إبراهيم بن عبد الله بن حسن؟ فقلت: لا، هذا رجل من أهل الشأم؛ فلما كنّا على ليلة من البصرة، تقدّم إبراهيم وتخلّفنا عنه، ثم دخلنا من غدٍ.
قال عمر: وحدّثني أبو صفوان نصر بن قديد بن نصر بن سيار؛ قال: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، منصرف الناس من الحجّ؛ فكان الذي أقدمه وتولّى كراءه وعادله في محمله يحيى بن زياد ابن حسان النّبطيّ، فأنزله في داره في بني ليث، واشترى له جارية أعجمية سنديّة، فأولدها ولداً في دار يحيى بن زياد؛ فحدّثني ابن قديد ابن نصر؛ أنه شهد جنازة ذلك المولود، وصلى عليه يحيى بن زياد.
قال: وحدّثني محمد بن معروف، قال: حدّثني أبي، قال: نزل إبراهيم بالخيار من أرض الشأم على آل القعقاع بن خليد العبسيّ، فكتب الفضل بن صالح بن عليّ - وكان على قنّسرين - إلى أبي جعفر في رقعة أدرجها في أسفل كتابه، يخبره خبر إبراهيم، وأنه طلبه فوجده قد سبقه منحدراً إلى البصرة؛ فورد الكتاب على أبي جعفر، فقرأ أوّله فلم يجد إلاّ السلامة، فألقى الكتاب إلى أبي أيّوب الموريانيّ، فألقاه في ديوانه؛ فلما أرادوا أن يجيبوا الولاة عن كتبهم فتح أبان بن صدقة - وهو يومئذ كاتب أبي أيوب - كتاب الفضل؛ لينظر في تأريخه، فأفضى إلى الرّقعة؛ فلما رأى أوّلها: أخبر أمير المؤمنين، أعادها في الكتاب، وقام إلى أبي جعفر، فقرأ الكتاب؛ فأمر بإذكاء العيون ووضع المراصد والمسالح.
قال: وحدّثني الفضل بن عبد الرحمن بن الفضل، قال: أخبرني أبي قال: سمعت إبراهيم يقول: اضطرّني الطلب بالموصل حتى جلست على موائد أبي جعفر، وذلك أنه قدمها يطلبني، فتحيّرت؛ فلفظتني الأرض؛ فجعلت لا أجد مساغاً، ووضع الطلب والمراصد؛ ودعا الناس إلى غدائه، فدخلت فيمن دخل، وأكلت فيمن أكل؛ ثم خرجت وقد كفّ الطلب. قال: وحدّثني أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: قال رجل لمطهر بن الحارث: مرّ إبراهيم بالكوفة ولقيته، قال: لا والله ما دخلها قطّ؛ ولقد كان بالموصل، ثم مرّ بالأنبار، ثم ببغداد، ثم بالمدائن والنّيل وواسط.
قال: وحدّثني نصر بن قديد بن نصر، قال: كاتب إبراهيم قوماً من أهل العسكر كانوا يتشيّعون؛ فكتبوا يسألونه الخروج إليهم، ووعدوه الوثوب بأبي جعفر؛ فخرج حتى قدم عسكر أبي جعفر، وهو يومئذ نازل ببغداد في الدّير، وقد خطّ بغداد، وأجمع على البناء؛ وكانت لأبي جعفر مرآة ينظر فيها، فيرى عدوّه من صديقه. قال: فزعم زاعمٌ أنه نظر فيها، فقال: يا مسيّب؛ قد والله رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض عدوّ أعدى لي منه، فانظر ما أنت صانع! قال: وحدّثني عبد الله بن محمد بن البوّاب، قال: أمر أبو جعفر ببناء قنطرة الصّراة العتيقة، ثم خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم، وخنس إبراهيم، فذهب في الناس، فأتى فامياً فلجأ إليه فأصعده غرفة له وجدّ أبو جعفر في طلبه، ووضع الرصد بكل مكان، فنشب إبراهيم بمكانه الذي هو به، وطلبه أبو جعفر أشدّ الطلب، وخفيَ عليه أمره.

قال: وحدّثني محمد بن معروف، قال: حدّثني أبي - وحدّثني نصر ابن قديد، قال: حدّثني أبي قال؛ وحدّثني عبد الله بن محمد بن البواب وكثير بن النّضر بن كثير وعمر بن إدريس وابن أبي سفيان العميّ؛ واتفقوا على جلّ الحديث، واختلفوا في بعضه - أنّ إبراهيم لما نشب وخاف الرّصد كان معه رجل من بني العمّ - قال عمر: فقال لي أبو صفوان، يدعى روح بن ثقف، وقال لي ابن البوّاب: يكنى أبا عبد الله، وقال لي الآخرون: يقال له سفيان بن حيّان بن موسى: قال عمر: وهو جد العمّيّ الذي حدّثني - قال: قلت لإبراهيم: قد نزل ما ترى، ولا بدّ من التغرير والمخاطرة، قال: فأنت وذاك! فأقبل إلى الربيع، فسأله الإذن، قال: ومن أنت؟ قال: أنا السفيان العمّيّ، فأدخله على أبي جعفر؛ فلما رآه شتمه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا أهلٌ لما تقول؛ غير أني أتيتك نازعاً تائباً، ولك عندي كل ما تحب إن أعطيتني ما أسألك، قال: وما لي عندك؟ قال: آتيك بإبراهيم ابن عبد الله بن حسن؛ إني قد بلوته وأهل بيته؛ فلم أجد فيهم خيراً، فما لي عندك إن فعلت؟ قال: :لّ ما تسأل؛ فأين إبراهيم؟ قال: قد دخل بغداد - أو هو داخلها عن قريب - قال عمر: وقال لي أبو صفوان، قال: هو بعبدسي، تركته في منزل خالد بن نهيك، فاكتب لي جوازاً ولغلام لي ولفرانق واحملني على البريد. قال عمر: وقال بعضهم: وجّه معي جنداً واكتب لي جوازاً ولغلام لي آتيك به. قال: فكتب له جوازاً، ودفع إليه جنداً، وقال: هذه ألف دينار فاستعن بها، قال: لا حاجة لي فيها فيها كلّها؛ فأخذ ثلثمائة دينار، وأقبل بها حتى أتى إبراهيم وهو في بيت، عليهه مدرّعة صوف وعمامة - وقيل بل عليه قباء كأقبية العبيد - فصاح به: قم؛ فوثب كالفزع؛ فجعل يأمره وينهاه حتى أتى المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إليه جوازه، فقال: أين غلامك؟ قال: هذا؛ فلما نظر في وجهه، قال: والله ما هذا غلامك؛ وإنه لإبراهيم بن عبد الله بن حسن، ولكن اذهب راشداً. فأطلقهما وهرب. قال عمر: فقال بعضهم: ربكا البريد حتى صارا بعبدسي، ثم ركبا السفينة حتى قدما البصرة فاختفيا بها. قال: وقد قيل: إنه خرج من عند أبي جعفر حتى قدم البصرة، فجعل يأتي بهم الدار، لها بابان، فيقعد العشرة منهم على أحد البابين، ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرّق الجند عن نفسه، وبقي وحده، فاختفى حتى بلغ الخبر سفيان بن معاوية، فأرسل إليهم فجمعهم، وطلب العمّيّ فأعجزه.
قال عمر: وحدّثني ابن عائشة، قال: حدّثني أبي، قال: الذي احتال لإبراهيم حتى أنجاهما منه عمرو بن شداد.
قال عمر: وحدّثني رجل من أهل المدائن، عن الحسن بن عمرو بن شدّاد، قال: حدّثني أبي، قال: مرّ بي إبراهيم بالمدائن مستخفياً، فأنزلته داراً لي على شاطىء دجلة، وسعي بي إلى عامل المدائن؛ فضربني مائة سوط، فلم أقرر له؛ فلما تركني أتيت إبراهيم فأخبرته، فانحدر.
قال: وحدّثني العباس بن سفيان بن يحيى بن زياد مولى الحجاج بن يوسف - وكان يحيى بن زياد ممّن سبي من عسكر قطريّ بن الفجاءة - قال: لما ظهر إبراهيم كنت غلاماً ابن خمس سنين، فسمعت أشياخنا يقولون: إنه مرّ منحدراً يريد البصرة من الشأم؛ فخرج إليه عبد الرحيم بن صفوان من موالي الحجاج، ممن سبي من عسكر قطريّ؛ قال: فمشى معه حتى عبّره المآصر؛ قال: فأقبل بعض من رآه، فقال: رأيت عبد الرحيم مع رجل شاطر، محتجز بإزار مورّد، في يده قوس جلاهق يرمي به؛ فلما رجع عبد الرحيم سئل عن ذلك فأنكره، فكان إبراهيم يتنكّر بذلك.
قال: وحدّثني نصر بن قديد، قال: لما قدم إبراهيم منصرفه من بغداد، نزل على أبي فروة في كندة فاختفى، وأرسل إلى الناس يندبهم للخروج.

قال عمر: وحدّثني عليّ بن إسماعيل بن صالح بن ميثم الأهوازيّ، قال: حدّثني عبد الله بن الحسن بن حبيب، عن أبيه، قال: كان إبراهيم مختفياً عندي على شاطىء دجيل، في ناحية مدينة الأهواز؛ وكان محمد ابن حصين يطلبه، فقال يوماً: إنّ أمير المؤمنين كتب إليّ يخبرني أنّ المنجّمين يخبرونه أن إبراهيم بالأهواز نازل في جزيرة بين نهرين، فقد طلبته في الجزيرة حتى وثقت أنه ليس هناك - يعني بالجزيرة التي بين نهر الشاه جرد ودجيل - فقد اعتزمت أن أطلبه غداً في المدينة، لعلّ أمير المؤمنين يعني بين دجيل والمسرقان، قال: فأتيت إبراهيم، فقلت له: أنت مطلوب غداً في هذه الناحية، قال: فأقمت معه بقيّة يومي، فلما غشيني الليل، خرجت به حتى أنزلته في أداني دشت أربك دون الكثّ؛ فرجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمداً أن يغدو لطلبه؛ فلم يفعل حتى تصرّم النهار، وقربت الشمس تغرب، فخرجت حتى جئت إبراهيم، فأقبلت به حتى وافينا المدينة مع العشاء الآخرة ونحن على حمارين؛ فلما دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع؛ لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد؛ وجلس يبول، وطوتني الخيل، فلم يعرّج عليّ منهم أحد؛ حتى صرت إلى ابن حصين؛ فقال لي: أبا محمد؛ من أين في مثل هذا الوقت؟ فقلت: تمسّيت عند أهلي، قال: ألا أرسل معك من يبلغك؟ قلت: لا، قد قربت من أهلي؛ فمضى يطلب، وتوجّهت على سنني حتى انقطع آخر أصحابه، ثم كررت راجعاً إلى إبراهيم؛ فالتمست حماره حتى وجدته، فركب، وانطلقنا حتى بتنا في أهلنا، فقال إبراهيم: تعلم والله لقد بلت البارحة دماً؛ فأرسل من ينظر، فأتيت الموضع الذي بال فيه، فوجدته قد بال دماً.
قال: وحدّثني الفضل بن عبد الرحيم بن سليمان بن عليّ، قال: قال أبو جعفر: غمض عليّ أمر إبراهيم لمّا اشتملت عليه طفوف البصرة.
قال: وحدّثني محمد بن مسعر بن العلاء، قال: لما قدم إبراهيم البصرة، دعا الناس، فأجابه مرسعي بن عمر بن موسى بن عبد الله بن خازم، ثم ذهب بإبراهيم إلى النّضر بن إسحاق بن عبد الله بن خازم مختفياً، فقال للنضر بن إسحاق: هذا رسول إبراهيم، فكلّمه إبراهيم ودعاه إلى الخروج، فقال له النّضر: يا هذا، كيف أبايع صاحبك وقد عند جدّي عبد الله بن خازم عن جده عليّ بن أبي طالب، وكان عليه فيمن خالفه، فقال له إبراهيم: دع سيرة الآباء عنك ومذاهبهم؛ فإنما هو الدّين؛ وأنا أدعوك إلى حقّ. قال: إني والله ما ذكرت لك ما ذكرت إلا مازحاً، وما ذاك الذي يمنعني من نصرة صاحبك، ولكني لا أرى القتال ولا أدين به. قال: وانصرف إبراهيم، وتخلّف موسى، فقال: هذا والله إبراهيم نفسه، قال: فبئس لعمر الله ما صنعت! لو كنت أعلمتني كلّمته غير هذا الكلام! قال: وحدّثني نصر بن قديد، قال: دعا إبراهيم الناس وهو في دار أبي فروة، فكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة وعفو الله بن سفيان وعبد الواحد ابن زياد وعمر بن سلمة الهجيميّ وعبيد الله بن يحيى بن حضين الرّقاشيّ، وندبوا الناس له، فأجاب بعدهم فتيان من العرب؛ منهم المغيرة بن الفزع وأشباه له؛ حتى ظنوا أنه قد أحصى ديوانه أربعة آلاف؛ وشهر أمره، فقالوا: لو تحوّلت إلى وسط البصرة أتاك من أتاك وهو مريح؛ فتحوّل ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم - رجل من أهل نيسابور.
قال: وحدّثني يونس بن نجدة؛ قال: كان إبراهيم نازلاً في بني راسب على عبد الرحمن بن حرب؛ فخرج من داره في جماعة من أصحابه؛ منهم عفو الله بن سفيان وبرد بن لبيد؛ أحد بني يشكر، والمضاء التغلبيّ والطهويّ والمغيرة بن الفزع ونميلة بن مرّة ويحيى بن عمرو الهمانّي، فمرّوا على جفرة بني عقيل حتى خرجوا على الطفاوة، ثم مرّوا على دار كرزم ونافع إبليس، حتى دخلوا دار أبي مروان في مقبرة بني يشكر.
قال: وحدّثني ابن عفو الله بن سفيان، قال: سمعت أبي يقول: أتيت إبراهيم يوماً وهو مرعوب؛ فأخبرني أن كتاب أخيه أتاه يخبره أنه قد ظهر، ويأمره بالخروج. قال: فوجم من ذلك واغتمّ له، فجعلت أسهّل عليه الأمر وأقول: قد اجتمع لك أمرك، معك المضاء والطّهويّ والمغيرة؛ وأنا وجماعة، فنخرج إلى السجن في الليل فنفتحه؛ فتصبح حين تصبح ومعك عالم من الناس؛ فطابت نفسه.

قال: وحدّثني سهل بن عقيل بن إسماعيل، قال: حدّثني أبي، قال: لما ظهر محمد أرسل أبو جعفر إلى جعفر بن حنظلة البهرانيّ - وكان ذا رأي - فقال: هات رأيك؛ قد ظهر محمد بالمدينة. قال: وجّه الأجنّاد إلى البصرة. قال: انصرف حتى أرسل إليك. فلما صار إبراهيم إلى البصرة، أرسل إليه، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، فقال: إيّاها خفت! بادره بالجنود، قال: وكيف خفت البصرة؟ قال: لأن محمداً ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشأم أعداء آل أبي طالب؛ فلم يبق إلا البصرة. فوجّه أبو جعفر ابني عقيل - قائدين من أهل خراسان من طيّىء - فقدما، وعلى البصرة سفيان بن معاوية فأنزلهما.
قال: وحدّثني جوّاد بن غالب بن موسى مولى بني عجل، عن يحيى بن بديل بن يحيى بن بديل، قال: لما ظهر محمد، قال أبو جعفر لأبي أيوب وعبد الملك بن حميد: هل من رجل ذي رأي تعرفانه، نجمع رأيه على رأينا؟ قالا: بالكوفة بديل بن يحيى - وقد كان أبو العباس يشاوره - فأرسل إليه، فأرسل إليه، فقال: إنّ محمداً قد ظهر بالمدينة، قال: فاشحن الأهواز جنداً، قال: قد فهمت؛ ولكن الأهواز بابهم الذي يؤتون منه، قال: فقبل أبو جعفر رأيه. قال: فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إلى بديل، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، قال: فعاجله بالجند وأشغل الأهواز عنه.
وحدّثني محمد بن حفص الدّمشقيّ، مولى قريش قال: لما ظهر محمد شاور أبو جعفر شيخاً من أهل الشأم ذا رأي، فقال: وجّه إلى البصرة أربعة آلاف من جند أهل الشأم. فلها عنه، وقال: خرف الشيخ؛ ثم أرسل إليه، فقال: قد ظهر إبراهيم بالبصرة، قال: فوجّه إليه جنداً من أهل الشأم، قال: ويلك! ومن لي بهم! قال: اكتب إلى عاملك عليها يحمل إليك في كلّ يوم عشرة على البريد؛ قال: فكتب بذلك أبو جعفر إلى الشأم. قال عمر بن حفص: فإنّي لأذكر أبي يعطي الجند حينئذ، وأنا أمسك له المصباح، وهو يعطيهم ليلاً، وأنا يومئذ غلام شابّ.
قال: وحدّثني سهل بن عقيل، قال: أخبرني سلم بن فرقد، قال: لما أشار جعفر بن حنظلة على أبي جعفر بحدر جند الشأم إليه، كانوا يقدمون أرسالاً؛ بعضهم على أثر بعض؛ وكان يريد أن يروّع بهم أهل الكوفة؛ فإذا جنّهم الليل في عسكره أمرهم فرجعوا منكبين عن الطريق، فإذا أصبحوا دخلوا، فلا يشك أهل الكوفة أنهم جند آخرون سوى الأولين.
حدّثني عبد الحميد - وكان من خدم أبي العباس - قال: كان محمد بن يزيد من قوّاد أبي جعفر؛ وكان له دابّة شهريّ كميت، فربما مرّ بنا ونحن بالكوفة وهو راكبه، قد ساوى رأسه رأسه، فوجّهه أبو جعفر إلى البصرة، فلم يزل بها حتى خرج إبراهيم فأخذه فحبسه.
حدّثني سعيد بن نوح بن مجالد الضّبعيّ، قال: وجّه أبو جعفر مجالداً ومحمداً ابني يزيد بن عمران من أهل أبيورد قائدين، فقدم مجالد قبل محمد، ثم قدم محمد في الليلة التي خرج فيها إبراهيم، فثبّطهما سفيان وحبسهما عنده في دار الإمارة حتى ظهر إبراهيم فأخذهما، فقيّدهما؛ ووجّه أبو جعفر معهما قائداً من عبد القيس يدعى معمراً.
حدّثني يونس بن نجدة، قال: قدم على سفيان مجالد بن يزيد الضبعيّ من قبل أبي جعفر في ألف وخمسمائة فارس وخمسمائة راجل.
حدّثني سعيد بن الحسن بن تسنيم بن الحواري بن زياد بن عمرو بن الأشرف، قال: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكرون أنّ أبا جعفر شاور في أمر إبراهيم، فقيل له: إن أهل الكوفة له شيعة، والكوفة قدر تفور؛ أنت طبقها، فاخرج حتى تنزلها. ففعل.
حدّثني مسلم الخصيّ مولى محمد بن سليمان، قال: كان أمر إبراهيم وأنا ابن بضع عشرة سنة؛ وأنا يومئذ لأبي جعفر، فأنزلنا الهاشميّة بالكوفة ونزل هو بالرّصافة في ظهر الكوفة؛ وكان جميع جنده الذين في عسكره نحواً من ألف وخمسمائة؛ وكان المسيّب بن زهير على حرسه، فجزّأ الجند ثلاثة أجزاء: خمسمائة، خمسمائة، فكان يطوف الكوفة كلّها في كلّ ليلة، وأمر منادياً فنادى: من أخذناه بعد عتمة فقد أحلّ بنفسه؛ فكان إذا أخد رجلاً بعد عتمة لفّه في عباءة وحمله، فبيّته عنده، فإذا أصبح سأل عنه، فإن علم براءته أطلقه، وإلا حبسه.
قال: وحدّثني أبو الحسن الحذّاء، قال: أخذ أبو جعفر الناس بالسّواد، فكنت أراهم يصبغون ثيابهم بالمداد.

وحدّثني عليّ بن الجعد، قال: رأيت أهل الكوفة أيامئذ أخذوا بلبس الثياب السود حتى البقّالين، إنّ أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس ثم يلبسه.
وحدّثني جوّاد بن غالب، قال: حدّثني العباس بن سلم مولى قحطبة، قال: كان أمير المؤمنين أبو جعفر إذا اتّهم أحداً من أهل اعلكوفة بالميل إلى إبراهيم أمر أبي سلماً بطلبه؛ فكان يمهل حتى إذا غسق الليل، وهدأ الناس، نصب سلماً على منزل الرجل فطرقه في بيته حتى يخرجه فيقتله؛ ويأخذ خاتمه. قال أبو سهل جوّاد: فسمعت جميلاً مولى محمد بن أبي العباس يقول للعباس بن سلم: والله لو لم يورّثك أبوك إلا خواتيم من قتل من أهل الكوفة كنت أيسر الأبناء.
حدّثني سهل بن عقيل، قال: حدّثني سلم بن فرقد حاجب سليمان بن مجالد، قال: كان لي بالكوفة صديق، فأتاني - فقال: أيا هذا، اعلم أن أهل الكوفة معدّون للوثوب بصاحبكم، فإن قدرت على أن تبوّىء أهلك مكاناً حريزاً فافعل، قال: فأتيت سليمان بن مجالد، فأخبرته الخبر؛ فأخبر أبا جعفر - ولأبي جعفر عين من أهل الكوفة من الصيّارفة يدعى ابن مقرّن - قال: فأرسل إليه، فقال: ويحك! قد تحرّك أهل الكوفة، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، أنا عذيرك منهم، قال: فركن إلى قوله، وأضرب عنهم.
وحدّثني يحيى بن ميمون من أهل القادسيّة، قال: سمعت عدّة من أهل القادسية يذكرون أن رجلاً من أهل خراسان، يكنى أبا الفضل، ويسمّى فلان ابن معقل، وللِّيَ القادسية ليمنع أهل الكوفة إتيان إبراهيم؛ وكان الناس قد رصدوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسيّة ثم العذيب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البرّ، حتى يقدموا البصرة. قال: فخرج نفرٌ من الكوفة اثنا عشر رجلاً؛ حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، يسمّى بكراً. من أهل شراف، دون واقصة بميلين من أهل المسجد الذي يدعى مسجد الموالي - فأتى ابن معقل فأخبره، فاتّبعهم فأدركهم بخفّان - وهي على أربعة فراسخ من القادسيّة - فقتلهم أجمعين.
حدّثني إبراهيم بن سلم، قال: كان الفرافصة العجليّ قد همّ بالوثوب بالكوفة، فامتنع لمكان أبي جعفر ونزوله بها؛ وكان ابن ماعز الأسديّ يبايع لإبراهيم فيها سراً.
حدّثني عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت إسماعيل بن موسى البجليّ وعيسى بن النضر السمّانين وغيرهما يخبرون أن غزوان كان لآل القعقاع بن ضرار، فاشتراه أبو جعفر، فقال له يوماً: يا أمير المؤمنين؛ هذه سفن منحدرة من الموصل فيها مبيّضة تريد إبراهيم بالبصرة، قال: فضمّ إليه جنداً، فلقيهم بباحمشا بين بغداد والموصل فقتلهم أجمعين؛ وكانوا تجاراً فيهم جماعة من العبّاد من أهل الخير وغيرهم، وفيهم رجل يدعى أبا العرفان من آل شعيب السّمّان، فجعل يقول: ويلك يا غزوان! ألست تعرفني! أنا أبو العرفان جارك؛ إنما شخصت برقيق فبعتهم؛ فلم يقبل وقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الكوفة، فنصبت ما بين دار إسحاق الأزرق إلى جانب دار عيسى بن موسى إلى مدينة ابن هبيرة. قال أبو أحمد عبد الله بن راشد: فأنا رأيتها منصوبة على كوم التراب.
قال: وحدّثنا أبو عليّ القدّاح، قال: حدّثني داود بن سليمان ونيبخت وجماعة من القدّاحين، قالوا: كنّا بالموصل، وبها حرب الراونديّ رابطة في ألفين، لمكان الخوارج بالجزيرة، فأتاه كتاب أبي جعفر يأمره بالقفل إليه؛ فشخص؛ فلما كان بباحمشا اعترض له أهلها، وقالوا: لا ندعك تجوزنا لتنصر أبا جعفر على إبراهيم، فقال لهم: ويحكم! إني لا أريد بكم سوءاً؛ إنما أنا مارٌ، دعوني. قالوا: لا والله لا تجوزنا أبداً، فقاتلهم فأبارهم، وحمل منهم خمسمائة رأس، فقدم بها على أبي جعفر، وقصّ عليه قصتهم. قال أبو جعفر: هذا أوّل الفتح.
وحدّثني خالد بن خداش بن عجلان مولى عمر بن حفص، قال: حدّثني جماعة من أشياخنا أنهم شهدوا دفيف بن راشد مولى بني يزيد بن حاتم، أتى سفيان بن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة، فقال: ادفع إليّ فوارس آتك بإبراهيم أو برأسه. قال أوما لك عمل! اذهب إلى عملك. قال: فخرج دفيف من ليلته فلحق بيزيد بن حاتم وهو بمصر.
وحدّثني خالد بن خداش، قال: سمعت عدّة من الأزد يحدثون عن جابر بن حماد - وكان على شرطة سفيان - أنه قال لسفيان قبل خروج إبراهيم بيوم: إني مررت في مقبرة بني يشكر، فصيّحوا بي ورموني بالحجارة، فقال له: أما كان لك طريق!

وحدّثني أبو عمر الحوضيّ حفص بن عمر، قال: مرّ عاقب صاحب شرط سفيان يوم الأحد قبل ظهور إبراهيم بيوم، في مقبرة بني يشكر، فقيل له: هذا إبراهيم يريد الخروج، فقال: كذبتم، ولم يعرّج على ذلك! قال أبو عمر الحوضّي: جعل أصحاب إبراهيم ينادون سفيان وهو محصور: اذكر بيعتك في دار المخزوميّين.
قال أبو عمر: وحدّثني محارب بن نصر، قال: مرّ سفيان بعد قتل إبراهيم في سفينة وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال: إنّ هذا لسفيان؟ قالوا: نعم، قال: والله للعجب! كيف يفلتني ابن الفاعلة! قال الحوضيّ: قال سفيان لقائد من قوّاد إبراهيم: أقم عندي، فليس كل أصحابك يعلم ما كان بيني وبين إبراهيم.
قال: وحدّثني نصر بن فرقد، قال: كان كرزم السّدوسيّ يغدو على سفيان بخبر إبراهيم ويروح، ويعلمه من يأتيه فلا يعرض له، ولا يتبع له أثراً.
وذكر أن سفيان بن معاوية كان عامل المنصور أيّامئذ على البصرة، وكان قد مالأ إبراهيم بن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه.
اختلف في وقت قدوم إبراهيم البصرة فقال بعض: كان قدومه إياها أول يوم من شهر رمضان في سنة خمس وأربعين ومائة.
ذكر من قال ذلك: حدّثني الحارث، قال: حدّثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر: لما ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن، وغلب على المدينة ومكة، وسلِّم عليه بالخلافة، وجّه أخاه إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة، فدخلها في أوّل يوم من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغلب عليها، وبيّض بها وبيّض بها أهل البصرة معه، وخرج معه عيسى بن يونس ومعاذ بن معاذ بن العوّام وإسحاق بن يوسف الأزرق ومعاوية بن هشام، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم؛ فلم يزل بالبصرة شهر رمضان وشوّالاً، فلما بلغه قتل أخيه محمد بن عبد الله تأهّب واستعدّ، وخرج يريد أبا جعفر بالكوفة.
وقد ذكرنا قول من قال: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، غير أنه كان مقيماً بها، مختفياً يدعو أهلها في السرّ إلى البيعة لأخيه محمد، فذكر سهل بن عقيل، عن أبيه، أنّ سفيان كان يرسل إلى قائدين كانا قدما عليه من عند أب يجعفر مدداً له قبل ظهور إبراهيم، فيكونان عنده؛ فلما وعده إبراهيم بالخروج أرسل إليهما فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتى خرج، فأحاط به وبهما فأخذهم.
وحدّثت معن محمد بن معروف بن سويد، قال: حدّثني أبي، قال: وجّه أبو جعفر مجالداً ومحمداً ويزيد؛ قوّاداً ثلاثة كانوا إخوة قبل ظهور إبراهيم، فقدّموا جندهم، فجعلوا يدخلون البصرة تترى، بعضهم على أثر بعض، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر.

وذكر نصر بن قديد، أنّ إبراهيم خرج ليلة الاثنين لغرّة شهر رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، فصار إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر رجلاً فارساً، فيهم عبيد الله بن يحيى بن حصين الرّقاشيّ. قال: وقدم تلك الليلة أبو حمّاد الأبرص مدداً لسفيان في ألفي رجل، فنزل الرّحبة إلى أن ينزلوا. فسار إبراهيم فكان أوّل شيء أصاب دوابّ أولئك الجند وأسلحتهم، وصلّى بالناس الغداة في المسجد الجامع، وتحصّن سفيان في الدّار، ومعه فيها جماعة من بني أبيه، وأقبل الناس إلى إبراهيم من بين ناظر وناصر حتى كثروا، فلما رأى ذلك سفيان طلب الأمان، فأجيب إليه، فدسّ إلى إبراهيم مطهّر بن جويرية السّدوسيّ، فأخذ لسفيان الأمان، وفتح الباب، ودخل إبراهيم الدّار؛ فلما دخلها ألقى له حصير في مقدّم الإيوان، فهبّت ريح فقلبته ظهراً لبطن؛ فتطيّر الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطيّر، ثم جلس عليه مقلوباً والكراهة ترى في وجهه؛ فلما دخل إبراهيم الدّار خلّى عن كلّ من كان فيها - فيما ذكر - غير سفيان بن معاوية؛ فإنه حبسه في القصر وقيّده قيداً خفيفاً، فأراد إبراهيم - فيما ذكر - بذلك من فعله أن يرى أبا جعفر أنه عنده محبوس، وبلغ جعفراً ومحمداً ابني سليمان بن عليّ - وكانا بالبصرة يومئذ - مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا - فيما قيل - في ستمائة من الرّجالة والفرسان والنّاشبة يريدانه، فوجّه إبراهيم إليهما المضاء بن القاسم الجزريّ في ثمانية عشر فارساً وثلاثين راجلاً؛ فهزمهم المضاء. ولحق محمداً رجل من أصحاب المضاء فطعنه في فخذه، ونادى مناد لإبراهيم: لا يتبع مدبر؛ ومضى هو بنفسه حتى وقف على باب زينب بنت سليمان، فنادى بالأمان لآل سليمان، وألاّ يعرض لهم أحد.
وذكر بكر بن كثير؛ أنّ إبراهيم لما ظهر على جعفر ومحمد وأخذ البصرة، وجد في بيت المال ستمائة ألف، فأمر بالاحتفاظ بها - وقيل إنه وجد في بيت المال ألفي درهم - فقوى بذلك، وفرض لكلّ رجل خمسين خمسين؛ فلما غلب إبراهيم على البصرة وجّه - فيما ذكر - إلى الأهواز رجلاً يدعى الحسين ابن ثولاء، يدعوهم إلى البيعة، فخرج فأخذ بيعتهم؛ ثم رجع إلى إبراهيم. فوجه إبراهيم المغيرة في خمسين رجلاً، ثم اجتمع إلى المغيرة لمّا صار إلى الأهواز تمام مائتي رجل. وكان عامل الأهواز يومئذ من قبل أبي جعفر محمد ابن الحصين، فلما بلغ ابن الحصين دنو المغيرة منه خرج إليه بمن معه، وهم - فيما قيل - أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز.
وقد قيل: إنّ المغيرة صار إلى الأهواز بعد شخوص إبراهيم عن البصرة إلى باخمري.
ذكر محمد بن خالد المربّعيّ، أنّ إبراهيم لما ظهر على البصرة ثم أراد الخروج إلى ناحية الكوفة، استخلف على البصرة نميلة بن مرّة العبشميّ، وأمر بتوجيه المغيرة بن الفزع أحد بني بهدلة بن عوف إلى الأهواز، وعليها يومئذ محمد بن الحصين العبديّ، ووجّه إبراهيم إلى فارس عمرو بن شدّاد عاملاً عليها، فمرّ برام هرمز بيعقوب بن الفضل وهو بها، فاستتبعه؛ فشخص معه حتى قدم فارس، وبها إسماعيل بن عليّ بن عبد الله عاملاً عليها من قبل أبي جعفر، ومعه أخوه عبد الصّمد بن عليّ، فلما بلغ إسماعيل بن عليّ وعبد الصمد إقبال عمرو بن شداد ويعقوب بن الفضل - وكانا بإصطخر - بادرا إلى دارابجرد، فتحصّنا بها، فصارت فارس في يد عمرو بن شداد ويعقوب بن الفضل، فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم.
وحدّثت عن سليمان بن أبي شيخ، قال: لما ظهر إبراهيم بالبصرة، أقبل الحكم بن أبي غيلان اليشكريّ في سبعة عشر ألفاً حتى دخل واسطاً؛ وبها هارون بن حميد الإياديّ من قبل أبي جعفر، فدخل هارون تنوراً في القصر حتى أخرج منه، وأتى أهل واسط حفص بن عمر بن حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، فقالوا له: أنت أولى من هذا الهجيميّ؛ فأخذها حفص، وخرج منها اليشكريّ، وولّى حفص شرطه أبا مقرن الهجيميّ.

وذكر عمر بن عبد الغفار بن عمرو الفقيمي، ابن أخي الفضل بن عمرو الفقيميّ، قال: كان إبراهيم واجداً على هارون بن سعد، لا يكلّمه، فلما ظهر إبراهيم قدم هارون بن سعد، فأتى سلم بن أبي واصل، فقال له: أخبرني عن صاحبك، أما به إلينا حاجة في أمره هذا! قال: بلى لعمر الله. ثم قام فدخل على إبراهيم، فقال: هذا هارون بن سعد قد جاءك، قال: لا حاجة لي به، قال: لا تفعل؛ في هارون تزهّد؛ فلم يزل به حتى قبله، وأذن له فدخل عليه؛ فقال له هارون: استكفني أهمّ أمورك إليك، فاستكفاه واسطاً، واستعمله عليها.
قال سليمان بن أبي شيخ: حدّثني أبو الصعديّ، قال: أتانا هارون بن سعد العجليّ من أهل الكوفة، وقد وجهه إبراهيم من البصرة، وكان شيخاً كبيراً، وكان أشهر من معه من أهل البصرة الطهويّ، وكان معه ممنّ يشبه الطهويّ في نجدته من أهل واسط عبد الرحيم الكلبيّ، وكان شجاعاً؛ وكان ممن قدم به - أو قدم عليه - عبدويه كردام الخراسانيّ. وكان من فرسانهم صدقة بن بكار، وكان منصور بن جمهور يقول: إذا كان معي صدقة بن بكار فما أبالي من لقيت! فوجّه أبو جعفر إلى واسط لحرب هارون بن سعد عامر بن إسماعيل المسلّي في خمسة آلاف في قول بعضهم، وقال بعضهم: في عشرين ألفاً، وكانت بينهم وقعات.
وذكر عن ابن أبي الكرام، أنه قال: قدمت على أبي جعفر برأس محمد، وعامر بن إسماعيل بواسط محاصر هارون بن سعد، وكانت الحرب بين أهل واسط وأصحاب أبي جعفر قبل شخوص إبراهيم من البصرة، فذكر سليمان بن أبي شيخ، قال: عسكر عامر بن إسماعيل من وراء النيل، فكانت أول حرب جرت بينه وبين هارون، فضربه عبد سقّاء وجرحه وصرعه وهو لا يعرفه، فأرسل إليه أبو جعفر بظبية فيها صمغ عربيّ؛ وقال: داو بها جراحتك، فالتقوا غير مرّة، فقتل من أهل البصرة وأهل واسط خلق كثير؛ وكان هارون ينهاهم عن القتال، ويقول: لو لقي صاحبنا صاحبهم تبيّن لنا الأمر، فاستبقوا أنفسكم؛ فكانوا لا يفعلون. فلما شخص إبراهيم إلى باخمري كفّ الفريقان من أهل واسط وعامر بن إسماعيل؛ بعضهم عن بعض، وتوادعوا على ترك الحرب إلى أن يلتقى الفريقان، ثم يكونوا تبعاً للغالب؛ فلما قتل إبراهيم أراد عامر بن إسماعيل دخول واسط، فمانعه أهلها الدخول. قال سليمان: لما جاء قتل إبراهيم هرب هارون بن سعد، وصالح أهل واسط عامر بن إسماعيل على أن يؤمنهم، فلم يثق كثير منهم بأمانه، فخرجوا منها، ودخلها عامر بن إسماعيل، وأقام بواسط فلم يهج أحداً.
وكان عامر - فيما ذكر - صالح أهل واسط على ألاّ يقتل أحداً بواسط، فكانوا يقتلون كلّ من يجدونه من أهل واسط خارجاً منها؛ ولما وقع الصلح بين أهل واسط وعامر بعد قتل إبراهيم هرب هارون بن سعد إلى البصرة، فتوفى قبل أن يبلغها فيما ذكر.
وقيل إن هارون بن سعد اختفى، فلم يزل مختفياً حتى ولى محمد بن سليمان الكوفة، فأعطاه الأمان، واستدرجه حتى ظهر، وأمره أن يفرض لمائتين من أهل بيته؛ فهمّ أن يفعل، وركب إلى محمّد، فلقيه ابن عمّ له، فقال له: أنت مخدوع، فرجع فتوارى حتى مات، وهدم محمد بن سليمان داره.
قال: ولم يزل إبراهيم مقيماً بالبصرة بعد ظهوره بها، يفرّق العمال في النواحي ويوجّه الجيوش إلى البلدان؛ حتى أتاه نعيّ أخيه محمد؛ فذكر نصر بن قديد؛ قال: فرض إبراهيم فروضاً بالبصرة، فلما كان قبل الفطر بثلاثة أيام، أتاه نعيّ أخيه محمد؛ فخرج بالناس إلى العيد، وهم يعرفون فيه الانكسار، وأخبر الناس بقتل محمد؛ فازدادوا في قتال أبي جعفر بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر، واستخلف نميلة على البصرة، وخلّف ابنه حسناً معه.
قال سعيد بن هريم: حدّثني أبي، قال: قال عليّ بن داود: لقد نظرت إلى الموت في وجه إبراهيم حين خطبنا يوم الفطر، فانصرفت إلى أهلي فقلت: قتل والله الرجل! وذكر محمد بن معروف، عن أبيه أن جعفراً ومحمداً ابني سليمان لما شخصاً من البصرة، أرسلاه إلى أبي جعفر ليخبره خبر إبراهيم، قال: فأخبرته خبرهما، فقال: والله ما أدري كيف أصنع! والله ما في عسكري إلا ألفا رجل؛ فرّقت جندي، فمع المهديّ بالرّيّ ثلاثون ألفاً، ومع محمد بن الأشعث بإفريقيّة أربعون ألفاً والباقون مع عيسى بن موسى؛ والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفاً.

وقال عبد الله بن راشد: ما كان في عسكر أبي جعفر كثير أحد؛ ما هم إلا سودان وناس يسير؛ وكان يأمر بالحطب فيحزم ثم يوقد باللّيل، فيراه الرائي فيحسب أن هناك ناساً؛ وما هي إلاّ نار تضرم، وليس عندها أحد.
قال محمد بن معروف بن سويد: حدّثني أبي، قال: لما ورد الخبر على أبي جعفر، كتب إلى عيسى بن موسى وهو بالمدينة: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع كلّ ما أنت فيه؛ قال: فلم ينشب أن قدم، فوجّهه على الناس. وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الرّيّ، فضمّه إلى جعفر ابن سليمان.
فذكر عن يوسف بن قتيبة بن مسلم، قال: أخبرني أخي سلم بن قتيبة ابن مسلم، قال: لما دخلت على أبي جعفر قال لي: اخرج؛ فإنه قد خرج ابنا عبد الله، فاعمد لإبراهيم ولا يروعنّك جمعه؛ فوالله إنهما جملا بني هاشم المقتولان جميعاً؛ فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك. قال: فوالله ما هو إلا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكر مقالته فأعجب.
قال سعيد بن سلم: فاستعمله على ميسرة الناس، وضمّ إليه بشار بن سلم العقيليّ وأبا يحيى بن خريم وأبا هراسة سنان بن مخيّس القشيريّ، وكتب سلم إلى البصرة فلحقت به باهلة؛ عربها ومواليها، وكتب المنصور إلى المهديّ وهو يومئذ بالرّيّ يأمره بتوجيه خازم بن خزيمة إلى الأهواز، فوجّهه المهديّ - فيما ذكر - في أربعة آلاف من الجند، فصار إليها، وحارب بها المغيرة، فانصرف إلى البصرة، ودخل خازم الأهواز، فأباحها ثلاثاً.
وذكر عن الفضل بن العبّاس بن موسى وعمر بن ماهان، أنهما سمعا السنديّ يقول: كنت وصيفاً أيام حرب محمد، أقوم على رأس المنصور بالمذبّة، فرأيته لما كثف أمر إراهيم وغلظ، أقام على مصلى نيّفاً وخمسين ليلة، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبّة ملوّنة قد اتّسخ جيبها وما تحت لحيته منها؛ فما غيّر الجبّة، ولا هجر المصلّى حتى فتح الله عليه؛ إلاّ أنه كان إذا ظهر للناس علا الجبّة بالسواد، وقعد على فراشه؛ فإذا بطن عاد إلى هيئته. قال: فأتته ريسانة في تلك الأيام، وقد أهديت له امرأتان من المدينة؛ إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد بن أبي العيص؛ فلم ينظر إليهما، فقالت: يا أمير المؤمنين؛ إن هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما، وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك لهما؛ فنهرها، وقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء؛ لا سبيل لي إليهما حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي أم رأسي لإبراهيم! وذكر أن محمداً وجعفراً ابني سليمان كتبا إلى أبي جعفر يعلمانه بعد خروجهما من البصرة الخبر في قطعة جراب، ولم يقدرا على شيء يكتبان فيه غير ذلك؛ فلما وصل الكتاب إليه؛ فرأى قطعة جراب بيد الرسول، قال: خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم، ثم قرأ الكتاب، ودعا بعبد الرحمن الختّليّ وبأبي يعقوب ختن مالك بن الهيثم، فوجّههما في خيل كثيفة إليهما، وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، وأن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما؛ وكتب إليهما يعجّزهما ويضعّفهما ويوبخهما على طمع إبراهيم في الخروج إلى مصرٍ هما فيه، واستتار خبره عنهما، حتى ظهر وكتب في آخر كتابه:
أبلغ بني هاشم عنّي مغلغلةً ... فاستيقظوا إنّ هذا فعل نوّام
تعدو الذّئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مربض المستنفر الحامي
وذكر عن جعفر بن ربيعة العامريّ عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم، قال: دخلت على المنصور أيام حرب محمد وإبراهيم، وقد جاءه فتق البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وهو ينكت الأرض بمخصرته ويتمثّل:
ونصبت نفسي للرّماح دريّة ... إن الرئيس لمثل ذاك فعول
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أدام إعزازك ونصرك على عدوّك! أنت كما قال الأعشى:
وإن حربهم أوقدت بينهم ... فحرّت لهم بعد إبرادها
وجدت صبوراً على حرّها ... وكر الحروب وتردادها

فقال: يا حجاج، إنّ إبراهيم قد عرف وعورة جانبي وصعوبة ناحيتي، وخشونة قرني؛ وإنما جرّأه على المسير إليّ من البصرة اجتماع هذه الكور المطلّة على عسكر أمير المؤمنين وأهل السواد معه على الخلاف والمعصية، وقد رميت كلّ كورة بحجرها وكلّ ناحية بسهمها، ووجّهت إليهم الشهم النجد الميمون المظفّر عيسى بن موسى، في كثرة من العدد والعدّة، واستعنت بالله عليه، واستكفيته إياه؛ فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
قال جعفر بن ربيعة: قال الحجاج بن قتيبة: لقد دخلت على أمير المؤمنين المنصور في ذلك اليوم مسلماً، وما أظنّه يقدر على ردّ السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه والعساكر المحيطة به، ولمائة ألف سيف كامنة له بالكوفة بإزاء عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون؛ فوجدته صقراً أحوزياً مشمّراً، قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه؛ وإنه لكما قال الأوّل:
نفس عصام سوّدت عاصما ... وعلّمته الكر والإقداما
وصيّرته ملكاً هماما وذكر أبو عبيدة أنه كان عند يونس الجرميّ، وقد وجّه محمد بن عبد الله أخاه لحرب أبي جعفر، فقال يونس: قدم هذا يريد أن يزيل ملكاً، فألهته ابنة عمر بن سلمة عمّا حاوله، ولقد أهديت التيميّة إلى أبي جعفر في تلك الأيام، فتركها بمزجر الكلب، فما نظر إليها حتى انقضى أمر إبراهيم. وكان إبراهيم تزّوج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بن سلمة، فكانت تأتيه في مصبّغاتها وألوان ثيابها.
فلما أراد إبراهيم الشخوص نحو أبي جعفر، دخل - فيما ذكر بشر بن سلم - عليه نميلة الطّهويّ وجماعة من قوّاده من أهل البصرة، فقالوا له: أصلحك الله! إنك قد ظهرت على البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك، ووجّه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، وإن هزم لك قائد أمددته بقائد، فخيف مكانك، واتّقاك عدوّك، وجبيت الأموال، وتبتت وطأتك؛ ثم رأيك بعد. فقال الكوفيّون: أصلحك الله! إن بالكوفة رجالاً لو قد رأوك ماتوا دونك، وإلاّ يروك تقعد بهم أسباب شتى فلا يأتونك، فلم يزالوا به حتى شخص.
وذكر عن عبد الله بن جعفر المدينيّ، قال: خرجنا مع إبراهيم إلى باخمري، فلمّا عسكرنا أتانا ليلة من الليالي، فقال: انطلق بنا نطف في عسكرنا. قال: فسمع أصوات طنابير وغناء فرجع، ثم أتاني ليلة أخرى فقال: انطلق بنا، فانطلقت معه، فسمع مثل ذلك فرجع وقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا.
وذكر عن عفان بن مسلم الصفار، قال: لمّا عسكر إبراهيم افترض معه رجال من جيراننا، فأتيت معسكره، فحزرت أنّ معه أقلّ من عشرة آلاف. فأما داود بن جعفر بن سليمان، فإنه قال: أحصيَ في ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف. ووجّه أبو جعفر عيسى بن موسى - فيما ذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى - في خمسة عشر ألفاً، وجعل على مقدّمته حميد بن قحطبة على ثلاثة آلاف. فلما شخص عيسى بن موسى نحو إبراهيم سار معه - فيما ذكر - أبو جعفر حتى بلغ نهر البصريّين، ثم رجع أبو جعفر، وسار إبراهيم من معسكره بالماخور من خريبة البصرة نحو الكوفة.
فذكر بعض بني تيم الله عن أوس بن مهلهل القطعيّ، قال: مرّ بنا إبراهيم في طريقه ذلك، ومنزلنا بالقباب التي تدعى قباب أوس، فخرجت أتلقّاه مع أبي وعمّي، فانتهينا إليه وهو على برذون له يرتاد منزلاً من الأرض، قال: فسمعته يتمثّل أبياتاً للقطاميّ:
أمور لو تدبّرها حليم ... إذاً لنهى وهيب ما استطاعا
ومعصية الشفيق عليك ممّا ... يزيدك مرة منه استماعا
وخبر الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتّباعا
ولكن الأديم إذا تفرّى ... بلىً وتعيّباً غلب الصّناعا
فقلت للذي معي: إني لأسمع كلام رجل نادم على مسيره. ثم سار فلما بلغ كرخثا قال له - فيما ذكر عن سليمان بن أبي شيخ عن عبد الواحد بن زياد بن لبيد - إن هذه بلاد قومي، وأنا أعلم بها، فلا تقصد قصد عيسى بن موسى، وهذه العساكر التي وجّهت إليك، ولكني أسلك بك إن تركتني طريقاً لا يشعر بك أبو جعفر إلا وأنت معه بالكوفة. فأبى عليه. قال: فإنا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيّت أصحاب عيسى بياتاً، قال: إني أكره البيات.

وذكر عن سعيد بن هريم أنّ أباه أخبره، قال: قلت لإبراهيم : إنك غير ظاهر على هذا الرجل حتى تأخذ الكوفة، فإن صارت لك مع تحصّنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولي بعد بها أهيل، فدعني أسر إليها مختفياً فأدعو إليك في السرّ ثم أجهر؛ فإنهم إن سمعوا داعياً إليك أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة لم يردّ وجهه شيء دون حلوان. قال: فأقبل على بشير الرحّال، فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ قال: إنا لو وثقنا بالذي تصف لكان رأياً؛ ولكنّا لا نأمن أن تجيبك منهم طائة، فيرسل إليهم أبو جعفر خيلاً فيطأ البريء والنّطف والصّغير والكبير؛ فتكون قد تعرّت لمأثم ذلك، ولم تبلغ منه ما أمّلت. فقلت لبشير: أخرجت حين خرجت لقتال أبي جعفر وأصحابه؛ وأنت تتوقّى قتل الضّعيف والصغير والمرأة والرجل؛ أو ليس قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجّه السرّية فيقاتل فيكون في ذلك نحو ما كرهت! فقال: إنّ أولئك كانوا مشركين كلهم، وهؤلاء أهل ملّتنا ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك؛ فاتبع إبراهيم رأيه ولم يأذن له، وسار إبراهيم حتى نزل باخمري.
وذكر خالد بن أسيد الباهليّ أنه لما نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم ابن عبد الكريم: إنك قد أصحرت، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتي إلا من مأتىً واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه.
قال: فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم! لا والله لا نفعل. قال: فنأتيه؟ قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه! فقال إبراهيم لحكيم: قد تسمع، فارجع راشداً.
فذكر إبراهيم بن سلم أنّ أخاه حدّثه عن أبيه، قال: لما التقينا صف لهم أصحابنا، فخرجت من صفهم، فقلت لإبراهيم: إن الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى، فلم يكن لهم نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس، فتنادوا: لا، إلا قتال أهل الإسلام يريدون قوله تعالى: " يقاتلون في سبيله صفاً " .
وذكر يحيى بن شكر مولى محمد بن سليمان، قال: قال المضاء: لما نزلنا باخمري أتيت إبراهيم فقلت له: إن هؤلاء القوم مصبّحوك بما يسدّ عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنما معك رجال عراة من أهل البصرة، فدعني أبيّته، فوالله لأشتّتنّ جموعه، فقال: إني أكره القتل، فقلت: تريد الملك وتكره القتل! وحدّثني الحارث، قال: حدّثني ابن سعد، قال: حدّثنا محمد بن عمر، قال: لما بلغ إبراهيم قتل أخيه محمد بن عبد الله، خرج يريد أبا جعفر المنصور بالكوفة، فكتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى يعلمه ذلك، ويأمره أن يقبل إليه؛ فوافاه رسول أبي جعفر وكتابه - وقد أحرم بعمرة - فرفضها، وأقبل إلى أبي جعفر، فوجّهه في القوّاد والجند والسلاح إلى إبراهيم بن عبد الله، وأقبل إبراهيم ومعه جماعة كثيرة من أفناء الناس؛ أكثر من جماعة عيسى ابن موسى، فالتقوا بباخمري - وهي على ستة عشر فرسخاً من الكوفة - فاقتتلوا بها قتالاً شديداً، وانهزم حميد بن قحطبة - وكان على مقدّمة عيسى بن موسى - وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى بن موسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه، ومرّوا منهزمين. وأقبل حميد بن قحطبة منهزماً، فقال له عيسى بن موسى: يا حميد، الله الله والطاعة! فقال: لا طاعة في الهزيمة. ومرّ الناس كلهم حتى لم يبق منهم أحد بين يدي عيسى بن موسى، وعسكر إبراهيم بن عبد الله، فثبت عيسى بن موسى في مكانه الذي كان فيه لا يزول، وهو في مائة رجل من خاصّته وحشمه، فقيل له: أصلح الله الأمير! لو تنحّيت عن هذا المكان حتى يثوب إليك الناس فتكرّبهم! فقال: لا أزول عن مكاني هذا أبداً حتى أقتل أو يفتح الله على يدي؛ ولا يقال: انهزم.

وذكر عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن عليّ أنّ إسحاق بن عيسى بن عليّ حدّثه أنه سمع عيسى بن موسى يحدّث أباه أنه قال: لما أراد أمير المؤمنين توجيهي إلى إبراهيم، قال: إنّ هؤلاء الخبثاء - يعني المنجّمين - يزعمون أنك لاقٍ الرجل، وأن لك جولةً حين تلقاه، ثم يفيء إليك أصحابك، وتكون العاقبة لك. قال: فوالله لكان كما قال؛ ما هو إلاّ أن التقينا فهزمونا، فلقد رأيتني وما معي إلا ثلاثة أو أربعة؛ فأقبل عليّ مولىً لي - كان ممسكاً بلجام دابتي - فقال: جعلت فداك! علام تقيم وقد ذهب أصحابك! فقلت: لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبداً وقد انهزمت عن عدّوهم. قال: فوالله لكان أكثر ما عندي أن جعلت أقول لمن مرّ بي ممن أعرف من المنهزمين: أقرئوا أهل بيتي مني السلام، وقولوا لهم: إني لم أجد فداء أفديكم به أعزّ عليّ من نفسي، وقد بذلتها دونكم. قال: فوالله إنا لعلى ذلك والناس منهزمون ما يلوي أحدٌ على أحد. وصمد ابنا سليمان: جعفر ومحمد لإبراهيم، فخرجا عليه من ورائه، ولا يشعر من بأعقابنا من أصحاب إبراهيم؛ حتى نظر بعضهم إلى بعض؛ وإذا القتال من ورائهم، فكرّوا نحوه، وعقّبنا في آثارهم راجعين؛ فكانت إياها. قال: فسمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبي: فوالله يا أبا العباس؛ لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا؛ وكان من صنع الله أنّ أصحابنا لما انهزموا يومئذ اعترض لهم نهر ذو ثنيّتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب؛ ولم يجدوا مخاضة، فكرّوا راجعين بأجمعهم.
فذكر عن محمد بن إسحاق بن مهران، أنه قال: كان بباخمري ناس من آل طلحة فمخروها على إبراهيم وأصحابه، وبثقوا الماء، فأصبح أهل عسكره مرتطمين في الماء. وقد زعم بعضهم أن إبراهيم هو الذي مخر ليكون قتاله من وجه واحد؛ فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، فلما انهزم أصحاب إبراهيم ثبت إبراهيم وثبت معه جماعة من أصحابه يقاتلون دونه، اختلف في مبلغ عددهم، فقال بعضهم: كانوا خمسمائة، وقال بعضهم: كانوا أربعمائة، وقال بعضهم: بل كانوا سبعين.
فحدثني الحارث، قال: حدّثنا ابن سعيد، قال: قال محمد بن عمر: لما انهزم أصحاب عيسى بن موسى وثبت عيسى مكانه، أقبل إبراهيم بن عبد الله في عسكره يدنو ويدنو غبار عسكره؛ حتى يراه عيسى ومن معه؛ فبيناهم على ذلك إذا فارس قد أقبل وكرّ راجعاً يجري نحو إبراهيم، لا يعرّج على شيء؛ فإذا هو حميد بن قحطبة قد غيّر لأمته، وعصب رأسه بعصابة صفراء، فكرّ الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ممن كان انهزم إلا كرّ راجعاً، حتى خالطوا القوم، فقاتلوهم قتالاً شديداً حتى قتل الفريقان بعضهم بعضاً، وجعل حميد بن قحطبة يرسل بالرءوس إلى عيسى بن موسى إلى أن أتيَ برأس ومعه جماعة كثيرة وضجة وصياح، فقالوا: رأس إبراهيم بن عبد الله؛ فدعا عيسى ابن موسى بن أبي الكرام الجعفريّ، فأراه إياه، فقال: ليس هذا؛ وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك؛ إلى أن جاء سهم عائر لا يدرى من رمى به، فوقع في حلق إبراهيم بن عبد الله فنحره، فتنحّى عن موقفه، فقال: أنزلوني، فأنزلوه عن مركبه، وهو يقول: " وكان أمر الله قدراً مقدوراً " ، أردنا أمراً وأراد الله غيره؛ فأنزل إلى الأرض وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه وخاصّته يحمونه ويقاتلون دونه، ورأى حميد بن قحطبة اجتماعهم، فأنكرهم فقال لأصحابه: شدّوا على تلك اعلجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدّوا عليهم، فقاتلوهم أشدّ القتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم، وخلصوا إليه فحزّوا رأسه؛ فأتوا به عيسى بن موسى، فأراه ابن أبي الكرام الجعفريّ، فقال: نعم؛ هذا رأسه، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى أبي جعفر المنصور، وكان قتلُه يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة. وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وذكر عبد الحميد أنه سأل أبا صلابة: كيف قتل إبراهيم؟ قال: إني لأنظر إليه واقفاً على دابّة ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولّوا ومنحوه أكتافهم، ونكص عيسى بدابته القهقري وأصحابه يقتلونهم، وعليه قباء زرد، فآذاه الحرّ، فحلّ أزرار قبائه، فشال الزّرد حتى سال عن ثدييه، وحسر عن لّبته، فأتته نشّابة عائرة، فأصابته في لبّته، فرأيته اعتنق فرسه، وكرّ راجعاً، وأطافت به الزيديّة.

وذكر إبراهيم بن محمد بن أبي الكرام؛ قال: حدّثني أبي، قال: لما انهزم أصحاب عيسى تبعتهم رايات إبراهيم في آثارهم، فنادى منادي إبراهيم: ألا لا تتّبعوا مدبراً؛ فكرّت الرايات راجعةً، ورآها أصحاب عيسى فخالوهم انهزموا، فكرّوا في آثارهم؛ فكانت الهزيمة.
وذكر أن أبا جعفر لما بلغته جولة أصحاب عيسى عزم على الرحيل إلى الرّيّ، فذكر سلم بن فرقد حاجب سليمان بن مجالد، أنه قال: لما التقوا هزم أصحاب عيسى هزيمة قبيحة حتى دخل أوائلهم الكوفة، فأتاني صديق لي كوفيّ، فقال: أيّها الرجل، تعلّم والله لقد دخل أصحابك الكوفة؛ فهذا أخو أبي هريرة في دار فلان، وهذا فلان في دار فلان؛ فانظر لنفسك وأهلك ومالك؛ قال: فأخبرت بذلك سليمان بن مجالد، فأخبر به أبا جعفر، فقال: لا تكشفنّ من هذا شيئاً ولا تلتفتنّ إليه؛ فإنّي لا آمن أن يهجم عليّ ما أكره، وأعدد على كلّ باب من أبواب المدينة إبلاً ودوابّ؛ فإن أتينا من ناحية صرنا إلى الناحية الأخرى. فقيل لسلم: إلى أين أراد أبو جعفر يذهب إن دهمه أمر؟ قال: كان عزم على إتيان الريّ، فبلغني أن نيبخت المنجّم دخل على أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، الظّفر لك، وسيُقتل إبراهيم، فلم يقبل ذلك منه، فقال له: احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت لك فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثّل ببيت معقّر بن أوس ابن حمار البارقيّ:
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فأقطع أبو جعفر نيبخت ألفى جريب بنهر جوبر؛ فذكر أبو نعيم الفضل ابن دكين أن أبا جعفر لما أصبح من الليلة التي أتيَ فيها برأس إبراهيم - وذلك ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة - أمر برأسه فنُصب رأسه في السوق.
وذكر أن أبا جعفر لما أتيَ برأسه فوضع بين يديه بكى حتى قطرت دموعه على خدّ إبراهيم، ثم قال: أما والله إن كنت لهذا لكارهاً، ولكنّك ابتليت بي وابتليت بك.
وذكر عن صالح مولى المنصور أنّ المنصور لما أتيَ برأس إبراهيم بن عبد الله وضعه بين يديه، وجلس مجلساً عاماً، وأذن للناس، فكان الدّاخل يدخل فيسلّم ويتناول إبراهيم فيسىء القول فيه، ويذكر منه القبيح، التماساً لرضا أبي جعفر، وأبو جعفر ممسك متغيّر لونه؛ حتى دخل جعفر بن حنظلة البهرانيّ، فوقف سلّم، ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك، وغفر له ما فرّط فيه من حقك! فاصفرّ لون أبي جعفر وأقبل عليه، فقال: أبا خالد، مرحباً وأهلاً ها هنا! فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر بن حنظلة.
وفي هذه السنة خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
وحجّ بالناس في هذه السنة السريّ بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب. وكان عامل أبي جعفر على مكة.
وكان والي المدينة في هذه السنة عبد الله بن الربيع الحارثيّ، ووالي الكوفة وأراضيها عيسى بن موسى، ووالي البصرة سلم بن قتيبة الباهليّ. وكان على قضائها عبّاد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر استتمام بناء بغداد وتحوّل أبي جعفر إليها فممّا كان فيها من ذلك استتمام أبي جعفر مدينته بغداد؛ ذكر محمد بن عمر أنّ أبا جعفر تحوّل من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد في صفر سنة ستّ وأربعين ومائة، فنزلها وبنى مدينتها.
ذكر الخبر عن صفة بنائه إياها: قد ذكرنا قبل السبب الباعث كان لأبي جعفر على بنائها، والسبب الذي من أجله اختار البقعة التي بنى فيها مدينته، ونذكر الآن صفة بنائه إياها.
ذكر عن رشيد أبي داود بن رشيد أنّ أبا جعفر شخص إلى الكوفة حين بلغه خروج محمد بن عبد الله، وقد هيّأ لبناء مدينة بغداد ما يحتاج إليه من خشب وساج وغير ذلك؛ واستخلف حين شخص على إصلاح ما أعدّ لذلك مولىً له يقال له أسلم؛ فبلغ أسلم أنّ إبراهيم بن عبد الله قد هزم عسكر أبي جعفر، فأحرق ما كان خلّفه عليه أبو جعفر من ساج وخشب؛ خوفاً أن يؤخذ منه ذلك؛ إذا غلب مولاه؛ فلما بلغ أبا جعفر ما فعل من ذلك مولاه أسلم كتب إليه يلومه على ذلك؛ فكتب إليه أسلم يخبر أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئاً.

وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، عن أبيه، قال: لما أراد المنصور بناء مدينة بغداد، شاور أصحابه فيها؛ وكان ممّن شاوره فيها خالد بن برمك، فأشار بها؛ فذكر عن عليّ بن عصمة أن خالد بن برمك خطّ مدينة أبي جعفر له، وأشار بها عليه؛ فلما احتاج إلى الأنقاض، قال له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قال: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولمَ؟ قال: لأنه علمٌ من أعلام الإسلام، يستدلّ به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا؛ وإنما هو على أمر دين؛ ومع هذا يا أمير المؤمنين؛ فإن فيه مصلّى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: هيهات يا خالد! أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثملن الجديد لو عمل، فرُفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أرى قبل ألاّ تفعل، فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده؛ لئلا يقال: إنك قد عجزت عن هدمه. فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر ألاّ يهدم. فقال موسى بن داود المهندس: قال لي المأمون - وحدّثني بهذا الحديث: يا موسى إذا بنيت لي بناء فاجعله ما يعجز عن هدمه ليبقى طلله ورسمه.
وذكر أنّ أبا جعفر احتاج إلى الأبواب للمدينة؛ فزعم أبو عبد الرحمن الهمانيّ أن سليمان بن داود كان بني مدينةً بالقرب من موضع بناء الحجاج واسطاً يقال لها الزّندورد، واتّخذت له الشياطين لها خمسة أبواب من حديد لا يمكن الناس اليوم عمل مثلها، فنصبها عليها، فلم تزل عليها إلى أن بنى الحاج واسطاً، وخربت تلك المدينة، فنقل الحجاج أبوابها فصيّرها على مدينته بواسط، فلمّا بنى أبو جعفر المدينة أخذ تلك الأبواب فنصبها على المدينة؛ فهي عليها إلى اليوم. وللمدينة ثمانية أبواب: أربعة داخلة وأربعة خارجة؛ فصار على الداخلة أربعة أبواب من هذه الخمسة، وعلى باب القصر الخارج الخامس منها، وصيّر على باب خراسان الخارج باباً جىء به من الشأم من عمل الفراعنة، وصيّر على باب الكوفة الخارج باباً جيء به من الكوفة، كان عمله خالد بن عبد الله القسريّ، وأمر باتّخاذ باب لباب الشأم، فعمل ببغداد، فهو أضعف الأبواب كلها. وبنيت المدينة مدوّرة لئلا يكون الملك إذا نزل وسطها إلى موضع منها أقرب منه إلى موضع، وجعل أبوابها أربعة؛ على تدبير العساكر في الحروب، وعمل لها سورين، فالسور الداخل أطول من السور الخارج، وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع حول القصر.
وذكر أنّ الحجاج بن أرطاة هو الذي خطّ مسجد جامعها بأمر أبي جعفر، ووضع أساسه. وقيل إن قبلتها على غير صواب وإنّ المصلّى فيه يحتاج أن ينحرف إلى باب البصرة قليلاً، وإن قبلة مسجد الرصافة أصوب من قبلة مسجد المدينة؛ لأنّ مسجد المدينة بُني على القصر، ومسجد الرّصافة بُني قبل القصر وبُني القصر عليه؛ فلذلك صار كذلك.
وذكر يحيى بن عبد الخالق أنّ أباه حدّثه أن أبا جعفر ولّى كلّ ربع من المدينة قائداً يتولى الاستحثاث على الفراغ من بناء ذلك الرّبع.
وذكر هارون بن زياد بن خالد بن الصلت، قال: أخبرني أبي، قال: وليَ المنصور خالد بن الصلت النفقة على ربع من أرباع المدينة وهي تبنى. قال خالد: فلما فرغت من بناء ذلك الربع رفعت إليه جماعة النفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي عليّ خمسة عشر درهماً، فحبسني بها في حبس الشرقية أياماً حتى أدّيتها، وكان اللبن الذي صنع لبناء المدينة اللبنة منها ذراع في ذراع.
وذكر عن بعضهم أنه هدم من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجد فيها لبنة مكتوباً عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلاً. قال: فوزنّاها فوجدناها على ما كان مكتوباً عليها من الوزن. وكانت مقاصير جماعة من قوّاد أبي جعفر وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة المسجد.

وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق؛ خال الفضل بن الربيع، أنّ عيسى بن عليّ شكا إلى أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن المشي يشقّ عليّ من باب الرّحبة إلى القصر، وقد ضعفت. قال: فتحمل في محفّة، قال: إني أستحيي من الناس، قال: وهل بقي أحد يستحيا منه! قال: يا أمير المؤمنين، فأنزلني منزلة راوية من الروايا، قال: وهل يدخل المدينةراوية أو راكب؟ قال: فأمر الناس بتحويل أبوابهم إلى فصلان الطاقات؛ فكان لا يدخل الرّحبة أحد إلاّ ماشياً. قال: ولمّا أمر المنصور بسدّ الأبواب ممّايلي الرحبة وفتحها إلى الفصلان صيرت الأسواق في طاقات المدينة الأربع، في كلّ واحد سوق، فلم تزل على ذلك مدّة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الرّوم وافداً، فأمر الرّبيع أن يطوف به في المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الرّبيع، فلمّا انصرف قال: كيف رأيت مدينتي - وقد كان أصعد إلى سور المدينة وقباب الأبواب؟ قال: رأيت بناء حسناً؛ إلاّ أني قد رأيت أعداءك معك في مدينتك، قال: ومن هم؟ قال: السوقة، قال: فأضبّ عليها أبو جعفر، فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من المدينة، وتقدّم إلى إبراهيم بن حبيش الكوفيّ، وضمّ إليه جوّاس بن المسيّب اليمانيّ مولاه، وأمرهما أن يبنيا الأسواق ناحية الكرخ، ويجعلاها صفوفاً وبيوتاً لكل صنف؛ وأن يدفعاها إلى الناس. فلما فعلا ذلك حوّل السوق من المدينة إليها، ووضع عليهم الغلة على قدر الذّرع؛ فلما كثر الناس بنوا في مواضع من الأسواق لم يكن رغب في البناء فيها إبراهيم بن حبيش وجوّاس، لأنها لم تكن على تقديم الصّفوف من أموالهم؛ فألزموا من الغلة أقلّ مما ألزم الذين ننزلوا في بناء السلطان.
وذكر بعضهم أن السبب في نقل أبي جعفر التجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها مما هو خارج المدينة، أنه قيل لأبي جعفر: إنّ الغرباء وغيرهم يبيتون فيها، ولا يؤمن أن يكون فيهم جواسيس، ومن يتعرّف الأخبار، أو أن يفتح أبواب المدينة ليلاً لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشُّرَط والحرس، وبنى للتجار بباب طاق الحرّانيّ وباب الشأم والكرخ.
وذكر عن الفضل بن سليمان الهاشميّ، عن أبيه، أنّ سبب نقله الأسواق من مدينة السلام ومدينة الشرقيّة إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحوّل؛ أنّ رجلاً كان يقال له أبو زكرياء يحيى بن عبد الله، ولاّه المنصور حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومائة، والسوق في المدينة؛ وكان المنصور يتبع من خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن، وقد كان لهذا المحتسب معهم سبب، فجمع على المنصور جماعة استغواهم من السفلة، فشغبوا واجتمعوا، فأرسل المنصور إليهم أبا العباس الطوسيّ فسكّنهم، وأخذ أبا زكرياء فحبسه عنده، فأمره أبو جعفر بقتله، فقتله بيده حاجب كان لأبي العباس الطوسيّ يقال له موسى، على باب الذهب في الرّحبة بأمر المنصور، وأمر أبو جعفر بهدم ما شخص من الدّور في طريق المدينة، ووضع الطريق على مقدار أربعين ذراعاً، وهدم ما زاد على ذلك المقدار، وأمر بنقل الأسواق إلى الكرخ.
وذكر عن أبي جعفر أنه لما أمر بإخراج التجار من المدينة إلى الكرخ كلمه أبان بن صدقة في بقّال، فأجابه إليه على ألاّ يبيع إلا الخلّ والبقل وحده، ثم أمر أن يجعل في كلّ ربع بقّال واحد على ذلك المثال.

وذكر عن عليّ بن محمد أن الفضل بن الربيع، حدّثه أن المنصور لما فرغ من بناء قصره بالمدينة، دخله فطاف فيه، واستحسنه واستنظفه، وأعجبه ما رأى فيه؛ غير أنه استكثر ما أنفق عليه. قال: ونظر إلى موضع فيه استحسنه جداً، فقال لي: اخرج إلى الرّبيع فقل له: اخرج إلى المسيّب، فقل له: يحضرني الساعة بنّاء فارهاً. قال: فخرجت إلى المسيّب فأخبرته، فبعث إلى رئيس البنائين فدعاه، فأدخله على أبي جعفر؛ فلمّا وقف بين يديه قال له: كيف عملت لأصحابنا في هذا القصر؟ وكم أخذت من الأجرة لكل ألف آجرّة ولبنة؟ فبقي البنّاء لا يقدر على أن يردّ عليه شيئاً، فخافه المسيّب، فقال له المنصور: مالك لا تكلّم! فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! قل وأنت آمن من كلّ ما تخافه. قال: يا أمير المؤمنين، لا والله ما أقف عليه ولا أعلمه. قال: فأخذ بيده، وقال له: تعال، لا علّمك الله خيراً! وأدخله الحجرة التي استحسنها، فأراه مجلساً كان فيها، فقال له: انظر إلى هذا المجلس وابنِ لي بإزائه طاقاً يكون شبيهاً بالبيت، لا تدخل فيه خشباً، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأقبل البنّاء وكل من معه يتعجّبون من فهمه بالبناء والهندسة، فقال له البنّاء: ما أحسن أن أجيء به على هذا، ولا أقوم به على الذي تريد! فقال له: فأنا أعينك عليه، قال: فأمر بالآجرّ والجصّ، فجيء به، ثم أقبل يحصي جميع ما دخل في بناء الطاق من الآجر والجصّ؛ ولم يزل كذلك حتى فرغ منه في يومه وبعض اليوم الثاني، فدعا بالمسيّب، فقال له: ادفع إليه أجره على حسب ما عمل معك، قال: فحاسبه المسيّب، فأصابه خمسة دراهم؛ فاستكثر ذلك المنصور، وقال: لا أرضي بذلك؛ فلم يزل به حتى نقصه درهماً، ثم أخذ المقادير، ونظر مقدار الطاق من الحجرة حتى عرفه، ثم أخذ الوكلاء والمسيّب بحملان النفقات، وأخذ معه الأمناء من البنائين والمهندسين حتى عرّفوه قيمة ذلك؛ فلم يزل يحسبه شيئاً شيئاً، وحملهم على ما رفع في أجرة بناء الطاق؛ فخرج على المسيّب مما في يده ستة آلاف درهم ونيّف، فأخذه بها واعتقله، فما برح من القصر حتى أدّاها إليه.
وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن أبي المنصور في الكتب، أنه أنفق على مدينة السلام وجامعها وقصر الذهب بها والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهماً، ومبلغها من الفلوس مائة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس؛ وذلك أن الأستاذ من البنّائين كان يعمل يومه بقيراط فضّة، والروزكاري بحبّتين إلى ثلاث حبّات.
ذكر الخبر عن عزل سلم بن قتيبة عن البصرة وفي هذه السنة عزل المنصور عن البصرة سلم بن قتيبة، وولاّها محمد بن سليمان بن عليّ.
ذكر الخبر عن سبب عزله إياهذكر عبد الملك بن شيبان أنّ يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن الهاشميّ، قال: كتب أبو جعفر إلى سلم بن قتيبة لما ولاه البصرة: أما بعد، فاهدم دور من خرج مع إبراهيم، واعقر نخلهم. فكتب إليه سلم: بأيّ ذلك أبدأ؟ أبالدّور أم بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد، فقد كتبت إليك آمرك بإفساد تمرهم، فكتبت تستأذنني في أيّةٍ تبدأ به بالبرنيّ أم بالشهريز! وعزله وولّى محمد بن سليمان، فقدم فعاث.
وذكر عن يونس بن نجدة، قال: قدم علينا سلم بن قتيبة أميراً بعد الهزيمة وعلى شرطه أبو برقة يزيد بن سلم، فأقام بها سلم أشهراً خمسة، ثم عزل، وولّى علينا محمد بن سليمان.
قال عبد الملك بن شيبان: هدم محمد بن سليمان لما قدم دار يعقوب بن الفضل، ودار أبي مروان في بني يشكر، ودار عون بن مالك، ودار عبد الواحد ابن زياد، ودار الخليل بن الحصصين في بني عديّ، ودار عفو الله بن سفيان؛ وعقر نخلهم.
وغزا الصّائفة في هذه السنة جعفر بن حنظلة البهرانيّ.
وفي هذه السنة عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع، وولّيَ مكانه جعفر ابن سليمان، فقدمها في شهر ربيع الأول.
وعزل أيضاً في هذه السنة عن مكة السريّ بن عبد الله، ووليها عبد الصمد ابن عليّ.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس، كذلك قال محمد بن عمر وغيره.
الجزء الثامن

بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

ذكر الإخبار عن الأحداث التي كانت فيها
فما كان فيها من ذلك إغارة إسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية إرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقاً كثيراً، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان حرب هذا - فيما ذكر - مقيماً بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة . وكان أبو جعفر حين بلغه تحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه؛ فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، وأصيب من المسلمين من ذكرت .
ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن علي بن عباسوفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي بن عباس. واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله ابن علي سراً في جوف الليل. ثم قال له: يا عيسى؛ إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك؛ فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت.ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله :ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه ؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بن علي؛ وكان عيسى حين دفعه إليه ستره ؛ ودعا كاتبه يونس ابن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه؛ وأمرني فيه بكذا وكذا. فقال له: أراد أن يقتلك و يقتله، أمرك بقتله سراً، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تستره في منزلك، فلا تطلع على أمره أحداً، فإن طلبه منك علانيةً دفعته إليه علانيةً، و لا تدفعه إليه سراً أبداً، فإنه وإن كان أسره إليك؛ فإن أمره سيظهر. ففعل ذلك عيسى.
وقدم المنصور ودسّ إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل . فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم وأظهروا له رقة، فقال : نعم، علي بعيسى بن موسى؛ فأتاه فقال له: يا عيسى؛ قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قال: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فقد كلمني عمومتك فيه فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله؛ فأتنا به. فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قال: ما أمرتك بقتله إنما أمرتك بحبسه في منزلك. قال: قد أمرتني بقتله، قال له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله. قال لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قال: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله، قال: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني؛ هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قال: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمراً فخشيته؛ فكان كما خشيت؛ شأنك وعمك. قال: يدخل حتى أرى رأيي. ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجري في أساسه الماء، فسقط عليه فمات؛ فكان من أمره ما كان. وتوفي عبد الله بن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشأم؛ وكان أول من دفن فيها.
وذكر عن ابراهيم بن عيسى بن المنصور بن بريه أنه قال: كانت وفاة عبد الله بن علي في الحبس سنة سبع وأربعون ومائة، وهو ابن اثنين وخمسين سنة.
قال إبراهيم بن عيسى: لما توفي عبد الله بن علي ركب المنصور يوماً ومعه عبد الله بن عياش، فقال له وهو يجاريه:

أتعرف ثلاثة خلفاء، أسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قال: لا أعرف إلا ما تقول العامة؛ إن علياً قتل عثمان وكذبوا وعبد الملك بن مروان قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعبد الله بن الزبير وعمرو بن سعيد وعبد الله بن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت إن لك ذنباً.
ذكر خبر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسىوفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده. وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بن موسى.
ذكر الخبر عن سبب نزعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه. فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرماً مجلاً، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره؛ فكان ذلك فعله به؛ حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه. وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد أبي جعفر لعيسى ابن موسى؛ فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين؛ فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الأيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين. فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله؛ فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضاً، ولا يجلس عن يسابه في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بن علي، فيلبث هنيهة، ثم عيسى بن موسى. فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى بن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره؛ ثم يؤذن لعيسى بن موسى من بعدهم؛ وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئاً، ولا يستعتب . ثم صار إلى أغلظ من ذلك؛ فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل. ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه؛ فإذا رآه المنصور قال له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين؛ وإنما يكلمه المنصور بذلك ليستطعمه أن يشكو إليه شيئاً فلا يشكو؛ وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي أراد منه عيسى بن علي، فكان عيسى بن موسى لا يحمد منه مدخله فيه؛ كأنه كان يغري به. فقيل: إنه دس لعيسى بن موسى بعض ما يتلفه؛ فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قال: أجد غمزاً يا أمير المؤمنين، قال: ففي الدار إذاً! قال: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قال: إلى المنزل؛ ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعاً له، فاستأذنه عيسى في المسير إلى الكوفة، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له. وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرائيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي. فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله.
وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أياماً، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق. وبلغت العلة من عيسى بن موسى كل مبلغ؛ حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك، فقال فيه يحيى بن زياد بن أبي حزابة البرجمي أبو زياد:

أفلت من شربة الطبيب كما ... أفلت ظبي الصريم من قتره
من قانصٍ ينفذ الفريص إذا ... ركب سهم الحتوف في وتره
دافع عن المليك صولة لي ... ث يريد الأسد في ذرى خمره
حتى أتانا وفيه داخلة ... تعرف في سمعه وفي بصره
أزعر قد طار عن مفارقه ... وحف أثيث النبات من شعره
وذكر أن عيسى بن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بن موسى إنما يمتنع، البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى الذي يمنعه. فقال المنصور لعيسى بن علي: كلم موسى بن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه؛ فكلم عيسى بن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور. فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلامٍ، لا والله ما سمعه مني أحدٌ قط، ولا يسمعه أحد أبداً ؛ وإنما أخرجه مني إليك موضع ثقتي بك والطمأنينة إليك؛ وهو أمانة عندك؛ فإنما هي نفسي أنثلها في يدك. قال: قل يا ابن أخي؛ فلك عندي ما تحبه، قال: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي؛ فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر أذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة. فأبي لا يعطي على هذا شيئاً؛ لا يكون ذلك أبداً؛ ولكن هاهنا وجهاً، فلعله يعطي عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا ابن أخي؟ فإنك قد أصبت ووفقت ، قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي بنفسك؛ لتعالي سنك وقرب أجلك؛ فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه؛ وإنما تضن به لمكان ابنك موسى؛ أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبداً؛ ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني. أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي؛ فإما خنقت وإما شهر علي سيف. فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب؛ فأما بغيره فلا. فقال العباس: جزاك الله يا ابن أخي خيراً، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت! ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيراً؛ وقال: قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى بن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بن موسى، فقال: يا عيسى؛ إني لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك؛ إنما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه؛ فقال عيسى بن علي؟؟؟: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قال: فندعوا لك بإناء تبول فيه، قال: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذلك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها. فأمر من يدله، فانطلق. فقال عيسى بن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلاً إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به؛ ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله؛ وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قال لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت. فلما رجعا إلى موضعهما قال موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمراً! فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال: قم، فقام إليه، فقال: يا أبت ؛ إن عيسى بن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قال: وكيف؟ قال: قال لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله؛ فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد. فقال: أفٍ لهذا رأياً ومذهباً! أئتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها،فجعلتها سبباً لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك. فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثراً فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال:

أما والله لأعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقاً رويداً، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفراً ذكراً - كلهم عنده مثلي - أو يتقدمني؛ وهو يقول: أشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه وموسى يصيح، فلما رأى ذاك عيسى قال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه؛ فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي؛ وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين؛ وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قال: يا أبا موسى؛ إنك قد قضيت حاجتي هذه كارهاً، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعاً، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قال: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها. فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قال: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم. فقال بعض أهل الكوفة - ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غداً، فصار بعد غدٍ.
وهذه القصة - فيما قيل - منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها.
وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك؛ فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي؛ فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم؛ فكانوا يكفون ثم يعودون؛ فمكث بذلك زماناً، ثم كتب إلى عيسى: " بسم الله الرحمن الرحيم " . من عبد الله عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بن موسى. سلامٌ عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره؛ فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته؛ لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لايستأمر فيها وزيراً ، ولا يشاور فيها معيناً ، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا ؛ لا يستطيعون منه امتناعاً، ولا عن أنفسهم دفاعاً، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنة فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلماً، ولا نمنع ضيما ً، ولا نعطي حقاً، ولا ننكر منكراً، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعاً؛ حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمة لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فابتعث الله لهم أنصاراً يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلاً، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم؛ حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحداً إلا هزموه، ولا واتراً إلا قتلوه؛ حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا؛ كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلاً منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب أنصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه؛ لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة؛ للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة؛ حتى ظن أمير المؤمنين أنه لولا معرفة المهدي بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه. وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصاً عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه؛ فلم يجد أمير المؤمنين بداً من استصلاحهم ومتابعتهم؛ وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله؛ إذ قال العبد الصالح: " فهب لي من لدنك ولياً. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " فوهب الله لأمير المؤمنين ولياً، ثم جعله تقياً مباركاً مهدياً وللنبي صلى الله عليه وسلم سمياً، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته؛ وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان عليه من فضلٍ عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته؛ فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد. والسلام عليك ورحمة الله.
فكتب إليه عيسى بن موسى جوابها:

" بسم الله الرحمن الرحيم " . لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بن موسى. سلامٌ عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه ، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرةً لله في سمائه، وحولاً على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه. إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهدٌ لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد؛ فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول؛ بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع؛ وكان الحق أولى بالذي أراد أن يصنع أولاً، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء؛فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصة أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي أسست من ذلك أبخع. فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين. فإن الله جل وعز زائدٌ من شكره، وعداً منه حقاً لا خلف فيه؛ فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله؛ والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي؛ فإن تعجل بي أمرٌ كنت قد كفيت مؤونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره؛ وإن بقيت بعدك لم تكن أوغرت صدري، وقطعت رحمي؛ ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعملٍ بمثالك .
وذكرت أن الأمور كلها بيد الله؛ هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته؛ فقد صدقت؛ إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه. واعم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعاً، ولا دفعنا عنها ضراً، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا؛ ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا؛ ولكن الله إذا أراد عزماً لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده؛ أحكم إبرامه، وأبرم إحكامه، ونور إعلانه ، وثبت أركانه؛ حين أسس بنيانه؛ فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر؛ غي أن الشيطان عدوٌ مضل مبين؛ قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم ، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا؛ وقد قال الله عز وجل في كتابه: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليمٌ حكيمٌ " . ووصف الذين اتقوا فقال: " إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " ؛ فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله؛ فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي همّ به أمير المؤمنين؛ فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه؛ ولا مانع لعطائه؛ ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم؛ فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل؛ فأظهروا الجميل؛ فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرّم أعوانهم، وشرّف بنيانهم؛ فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله.
فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضباً شديداً، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون؛ منهم أسد بن المرزبان وعقبة بن سلم ونصر بن حرب بن عبد الله؛ في جماعة؛ فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه؛ فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقرة التي قال الله: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " ، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور:

يا ابن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي؛ قد أشربوا حب هذا الفتى؛ فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا. فأجاب عيسى إلى أن يفعل.
وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: " اسل عنها تنل منها عوضاً في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة " .
وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بن موسى قولٌ غير هذين القولين؛ وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بن عيسى الكاتب، قال: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الآمر أبا جعفر فيه؛ فبعث إلى خالد بن برمك، فقال له: كلمه يا خالد؛ فقد ترى امتناعه من البيعة للمهدي؛ وما تقدمنا به في أمره؛ فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل،وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلى ثلاثين رجلاً من كبار الشيعة ممن تختاره قال: فركب خالد بن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور؛ فقال: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي؛ فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه؛ فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه؛ قال: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه إن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد.
قال: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك إلى الآفاق؛ قال: وأتى عيسى بن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكراً لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به. فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب؛ وليس له أن يرجع؛ فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه؛ وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه.
وذكر عن علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: إني لأسير مع سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه ؛ وكل واحد منهما يحمل شيئاً من متاع، فوقف عليهم سليمان بن عبد الله،فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟ قال: كنت نازلاً على القعقاع - وهو رجل من آل زراره، وكان يتولى لعيسى بن موسى الشرطة - فقال لي: أخرج عني؛ فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعراً في هذه البيعة للمهدي، فأخاف إن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت. قال: فقال لي : يا عبد الله؛ انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعاً صالحاً، واستوص به وبمن معه خيراً. ثم خبر سليمان بن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه:
عيسى فزحلفها إلى محمد ... حتى تؤدى من يد إلى يد
فيكم وتغنى وهي في تزيد ... فقد رضينا بالغلام الأمرد
قال: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه ذكر عن حيان بن عبد الله بن حبران الحماني، قال: حدثني أبو نخيلة قال: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهراً لا أصل إليه، حتى قال لي ذات يومٍ عبد الله بن الربيع الحارثي : يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافة والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بن موسى، فلو قلت شيئاً تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي كنت بالحري أن تصيب منه خيراً ومن ابنه، فقلت:
دونك عبد الله أهلك ذاكا ... خلافة الله التي أعطاكا
أصفاك أصفاك بها أصفاكا ... فقد نظرنا زمناً أبكاكا
ثم نظرناك لها إياكا ... ونحن فيهم والهوى هواكا
نعم، فنستذري إلى ذراكا ... أسند إلى محمد عصاكا
فابنك ما استرعيته كفاكا ... فأحفظ الناس لها أدناكا
فقد جفلت الرجل والأوراكا ... وحكت حتى لم أجد محاكا

ودرت في هذا وذا وذاكا ... وكل قول قلت في سواكا
زور وقد كفر هذا ذاكا
وقلت أيضاً كلمتي التي أقول فيها:
إلى أمير المؤمنين فاعمدي ... سيري إلى بحر البحور المزبد
أنت الذي يا بن سمي أحمد ... ويا بن بيت العرب المشيد
بل يا أمين الواحد المؤبد ... إن الذي ولاك رب المسجد
أمسي ولي ععهدها بالأسعد ... عيسى فزحلفها إلى محمد
من قبل عيسى معهداً عن معهد ... حتى تؤدي من يد إلى يد
فيكم وتغنى وهي في تزيد ... فقد رضينا بالغلام الأمرد
بل قد فرغنا غير أن لم نشهد ... وغير أن العقد لم يؤكد
فلو سمعنا قولك امدد امدد ... كانت لنا كدعقة الورد الصدي
فبادر البيعة ورد الحشد ... تبين من يومك هذا أو غد
فهو الذي تم فمامن عند ... وزاد ما شئت فده يزدد
ورده منك رداءً يرتد ... فهو رداء السابق المقلد
قد كان يروى أنها كأن قد ... عادت ولو قد فعلت لم تردد
فهي ترامي فدفداً عن فدفد ... حيناً، فلو قد حان ورد الورد
وحان تحويل الغوى المفسد ... قال لها الله هلم وارشدي
فأصبحت نازلةً بالمعهد ... والمحتد المحتد خير المحتد
لم يرم تذمار النفوس الحسد ... بمثل قرم ثابت مؤيد
لما انتحوا قدحاً بزند مصلد ... بلوا بمشزور القوي المستحصد
يزداد إيقاظاً على التهدد ... فداولوا باللين و التعبد
صمصامةً تأكل كل مبرد.
قال: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه؛ وإن عيى بن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت : يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريباً منه، فلما صرت بين يديه قلت - ورفعت صوتي - أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول الأرجوزة؛ فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضاً، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعاً له؛ فلما خرجنا من عنده إذا رجلٌ واضعٌ يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين؛ فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيراً وإن يك غير ذلك، فابتغ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء. قال: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه. وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري؛ وقد أخذ الجائزة . وذكر عن الوليد بن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بن قتيبة قال له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر؛ قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين. قال: أوترى ذلك! قال: نعم، قال: فإني أفعل؛ فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده. وبايع الناس للمهدي ولعيسى بن موسى من بعده. وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له. وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قال: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال له رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره؛ ما كان خلعه إياها منه إلا برضاً من عيسى وركونٍ منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلباً للخروج منها؛ أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه؛ وإني لفي مقصورة مدينة السلام؛ إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى. فقال: إني قد سلمت ولاية العهد لمحمد ابن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير؛ ولكن قل ذلك بحقه وصدقه؛ وأخبر بما رغبت فيه؛ فأعطيت، قال:

نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاث مائة ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان - سماهم - وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه - سماها - بطيب نفسٍ مني وحب، لتصيرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها؛ وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير؛ فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة. قال: والله وهو في ذلك؛ ربما نسى الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله؛ حتى فرغ، حباً للإستيثاق منه. وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر؛ حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعاً؛ ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر. قال: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم.
وكانت ولاية عيسى بن موسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة؛ حتى عزله المنصور، واستعمل محمد بن سليمان بن علي حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه.
وقيل: إن المنصور إنما ولى محمد بن سليمان الكوفة حين ولاه إياها ليستخف بعيسى؛ فلم يفعل ذلك محمد. ولم يزل معظماً له مبجلاً.
وفي هذه السنة ولى أبو جعفر محمد بن أبي العباس ابن أخيه البصرة فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة السلام، فمات بها، فصرخت امرأته البغوم بنت علي بن الربيع : وا قتيلاه! فضربها رجل من الحرس بجلوبز على عجيزتها، فتعاوره خدم لمحمد بن أبي العباس فقتلوه؛ فطل دمه.
وكان محمد بن أبي العباس حين شخص عن البصرة استخلف بها عقبة بن سلم، فأقره عليها أبو جعفر إلى سنة إحدى وخمسين ومائة.
وحج بالناس في هذه السنة المنصور.
وكان عامله فيها على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي وعلى المدينة جعفر بن سليمان. وعلى الكوفة وأرضها محمد بن سليمان. وعلى البصرة عقبة بن سلم. وعلى قضائها سوار بن عبد الله. وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور حميد بن قحطبة إلى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بن عبد الله، وعاثوا بتفليس، فسار حميد إلى أرمينية، فوجدهم قد ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحداً.
في هذه السنة عسكر صالح بن علي بدابق - فيما ذكر - ولم يغز.
وحج بالناس فيها جعفر بن أبي جعفر المنصور.
وكانت ولاة الأمصار في هذه السنة ولاتها في السنة التي قبلها.
ثم دخلت سنة تسعاً وأربعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداثفمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بن محمد بن الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فهلك محمد بن الأشعث في الطريق.
وفي هذه السنة استتم المنصور بناء سور مدينة بغداد، وفرغ من خندقها وجميع أمورها.
وفيها شخص إلى حديثة الموصل، ثم انصرف إلى مدينة السلام.
وحج في هذه السنة بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفي هذه السنة عزل عبد الصمد بن علي عن مكة، ووليها محمد بن إبراهيم.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال الذين كانوا عمالها في سنة سبع وأربعين ومائة وسنة ثمان وأربعين ومائة؛ غير مكة والطائف؛ فإن واليهما كان في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
ثم دخلت سنة خمسين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خروج أستاذ سيس فمما كان فيها من ذلك خروج أستاذ سيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجثم المروروذي في أهل مرو الروذ، فقاتلوه قتالاً شديداً حتى قتل الأجثم، وكثر القتل فى اهل مرو الروذ، وهزم عدة من القواد؛ منهم معاذ بن مسلم بن معاذ وجبرائيل بن يحيى حماد ابن عمرو وأبو النجم السجستاني وداود بن كراز؛ فوجه المنصور وهو بالبردان خازم بن خزيمة الى المهدي؛ فولاه المهدي محارة أستاذ سيس؛ وضم القواد إليه.

فذكر أن معاوية بن عبيد الله وزير المهدي كان يوهن أمر خازم، والمهدي يومئذ بنيسابور، وكان معاوية يخرج الكتب إلى خازم بن خزيمة والى غيره من القواد بالمر والنهي،فاعتل خازم وهو في عسكره، فشرب الدواء ثم ركب البريد، حتى قدم على المهدي بنيسابور، فسلم عليه واستخلاه - وبحضرته أبو عبيد الله - فقال المهدي: لاعيق عليك من أبي عبيد الله ، فقل ما بدا لك؛ فأبى خازم أن يخبره أو يكلمه، حتى قام أبو عبيد الله، فلما خلا به شكا إليه أمر معاوية بن عبيد الله، وأخبره بعصبيته وتحامله؛ وما كان يرد من كتبه عليه وعلى من قبله من القواد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمر في أنفسهم، والاستبداد بآرائهم، وقلة السمع والطاعة. وأن أمر الحرب لا يستقيم إلا برأس؛ وألا يكون في عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلا لواؤه أو لواء هو عقده، وأعلمه أنه غير راجع إلى قتال أستاذ سيس ومن معه إلا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية بن عبيد الله؛ وأن يأذن له في حمل ألوية القواد الذين معه، وأن يكتب إليهم بالسمع والطاعة. فأجابه المهدي إلى كل ما سأل.
فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه، وحل لواء من رأى حل لوائه من القواد، وعقد لواء لمن أراد، وضم إليه من كان انهزم من الجنود، فجعلهم حشواً يكثر بهم من معه في أخريات الناس، ولم يقدمهم لما في قلوب المغلوبين من روعة الهزيمة؛ وكان من ضم إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفاً، ثم انتخب ستة آلاف رجل من الجند، فضمهم إلى اثني عشر ألفاً كانوا معه متخيرين؛ وكان بكار بن مسلم العقيلي فيمن انتخب، ثم تعبأ للقتال وخندق. واستعمل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته، ونهار بن حصين السعدي على ميسرته؛ وكان بكار بن مسلم العقيلي على مقدمته وترار خدا على ساقته؛ وكان من أبناء ملوك أعاجم خراسان؛ وكان لواؤه مع الزبرقان وعلمه مع مولاه بسام؛ فمكر بهم وراوغهم في تنقله من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم؛ وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله، وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل فيها جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعل على كل باب منها من أصحابه الذين انتخب، وهم أربعة آلاف، و جعل مع بكار صاحب مقدمته ألفين؛ تكملة الثمانية عشر ألفاً. وأقبل الآخرون ومعهم المروز والفؤوس والزبل، يريدون دفن الخندق ودخوله، فأتوا الخندق من الباب الذي كان عليه بكار بن مسلم، فشدوا عليه شدة لم يكن لأصحاب بكار نهاية دون أن انهزموا حتى دخلوا عليهم الخندق.
فلما رأى ذلك بكار رمى بنفسه ، فترجل عن باب الخندق ثم نادى أصحابه: يا بني الفواجر، من قبلي يؤتى المسلون! فترجل من معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلاً، فمنعوا بابهم حتى أجلوا القوم عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع أستاذسيس من أهل سجستان، يقال له الحريش؛ وهو الذي كان يدبر أمرهم؛ فلما رآه خازم مقبلاً بعث إلى الهيثم بن شعبة، وكان في الميمنة - أن اخرج من بابك الذي أنت عليه؛ فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب الذي عليه بكار، فإن القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال إلينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم. وقد كانوا في تلك الأيام يتوقعون قدوم أبي عون وعمرو بن سلم بن قتيبة من طخارستان. وبعث خازم إلى بكار بن مسلم: إذا رأيت رايات الهيثم بن شعبة قد جاءتك من خلفك، فكبروا وقولوا:

قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك أهل الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش السجستاني، فاجتلدوا بالسيوف جلاداً شديداً، وضبر بعضهم لبعض؛ فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه، فتنادوا فيما بينهم، وجاء أهل طخارستان، فلما نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام، ونظر من كان بإزاء بكار بن مسلم إليها، شد عليهم أصحاب خازم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم، فطعنوهم بالرماح، ورموهم بالنشاب، وخرج عليهم نهار بن حصين وأصحابه من ناحية الميسرة، وبكار بن مسلم وأصحابه من ناحيتهم ، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون وأكثروا؛ فكان من قتل منهم في تلك المعركة نحواً من سبعين ألفاً، وأسروا أربعة عشر ألفاً، ولجأ أستاذ سيس إلى جبل في عدة من أصحابه يسيرة ، فقدم خازم الأربعة عشر ألف أسير؛ فضرب أعناقهم، وسار حتى نزل بأستاذ سيس في الجبل الذي كان قد لجأ إليه، ووافى خازماً بذلك المكان أبو عون وعمرو بن سلم بن قتيبة في أصحابهما؛ فأنزلهم خازم ناحية، وقال: كونوا مكانكم حتى نحتاج إليكم. فحصر خازم أستاذ سيس وأصحابه حتى نزلوا عن حكم أبي عونولم يرضوا إلا بذلك، فرضي بذلك خازم، فأمر أبا عون بإعطائهم أن ينزلوا على حكمه، ففعل؛ فلما نزلوا على حكم أبي عون حكم فيهم أن يوثق أستاذسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفاً، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبي عون، وكسا كل رجل منهم ثوبين؛ وكتب خازم بما فتح الله عليه، وأهلك عدوه إلى المهدي، فكتب بذلك المهدي إلى أمير المؤمنين المنصور.
وأما محمد بن عمر، فإنه ذكر أن خروج أستاذسيس والحريش كان في سنة خمسين ومائة، وأن أستاذسيس هزم في سنة إحدى وخمسين ومائة.
وفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة، وولاها الحسن ابن يزيد بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
وفيها توفي جعفر بن أبي جعفر المنصور، الأكبر بمدينة السلام، وصلى عليه أبوه المنصور، ودفن ليلاً في مقابر قريش؛ ولم تكن للناس في هذه السنة صائفة؛ قيل إن أبا جعفر كان ولي الصائفة في هذه السنة أسيداً، فلم يدخل بالناس أرض العدو، ونزل مرج دابق.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان العامل على مكة والطائف في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وقيل كان العامل على مكة والطائف في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد - وعلى المدينة الحسن بن زيد العلوي، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة عقبة بن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من إغارة الكرك فيها في البحر على جدة؛ ذكر ذلك محمد بن عمر. وفيها ولى عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إفريقية، وعزل عن السند وولي موضعه هشام ابن عمرو التغلبي.
ذكر الخبر عن سبب
عزل المنصور عمر بن حفص عن السند
وتوليته إياه إفريقية واستعماله على السند هشام بن عمرو
وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد بن سليمان بن علي العباسي عن أبيه - أن المنصور ولى عمر بن حفص الصفري الذي يقال له هزارمرد السند - فأقام بها حتى خرج محمد بن عبد الله بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، فوجه محمد بن عبد الله إليه ابنه عبد الله بن محمد الذي يقال له الأشتر، في نفر من الزيدية إلى البصرة، وأمرهم أن يشتروا مهارة - خيل عتاق بها - ويمضوا بها معهم إلى السند ليكون سبباً لهم إلى الوصول إلى عمر بن حفص؛ وإنما فعل ذلك به لأنه كان فيمن بايعه من قواد أبي جعفر، وكان له ميل إلى آل أبي طالب،فقدموا البصرة على إبراهيم بن عبد الله، فاشتروا منها مهارةً - وليس في بلاد السند والهند شيء أنفق من الخيل العتاق - ومضوا في البحر حتى صاروا إلى السند، ثم صاروا إلى عمر بن حفص، فقالوا: نحن قوم نخاسون، ومعنا خيل عتاق، فأمرهم أن يعرضوا خيلهم، فعرضوها عليه؛ فلما صاروا إليه، قال له بعضهم: أدنني منك أذكر لك شيئاً، فأدناه منه، وقال له: إنا جئناك بما هو خير لك من الخيل، وما لك فيه خير الدنيا والآخرة، فأعطنا الأمان على خلتين:

إما أنك قبلت ما أتيناك به، وإما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج من بلادك راجعين. فأعطاهم الأمان، فقالوا: ما للخيل أتيناك؛ ولكن هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، أرسله أبوه إليك قد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة وغلب عليها، فقال: بالرحب والسعة، ثم بايعهم له، وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده وكبراء أهل البلد للبيعة، فأجابوه، فقطع الأعلام البيض والأقبية البيض والقلانس البيض، وهيأ لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم خميس؛ فلما كان يوم الأربعاء إذا حراقة قد وافت من البصرة، فيها رسول لخليدة بنت المعارك - امرأة عمر بن حفص - بكتاب إليه تخبره بقتل محمد بن عبد الله، فدخل على عبد الله فأخبره الخبر، وعزاه، ثم قال له: إني كنت بايعت لأبيك، وقد جاء من الأمر ما ترى. فقال له: إن أمري قد شهر، ومكاني قد عرف، ودمي في عنقك؛ فانظر لنفسك أودع. قال: قد رأيت رأياً ههنا ملك من ملوك السند، عظيم المملكة، كثير التبع؛ وهو على شركة أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقداً، وأوجهك إليه تكون عنده؛ فلست ترام معه. قال: افعل ما شئت؛ ففعل ذلك؛ فصار إليه، فأظهر إكرامه وبره براً كثيراً؛ وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان من أهل البصائر؛ فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم، فلما قتل محمد وإبراهيم انتهى خبر عبد الله الأشتر إلى المنصور؛ فبلغ ذلك منه، فكتب إلى عمر بن حفص يخبره بما بلغه، فجمع عمر بن حفص قرابته، فقرأ عليهم كتاب المنصور يخبرهم أنه إن أقر بالقصة لم ينظره المنصور أن يعزله، وإن صار إليه قتله، وإن امتنع حاربه. قال له رجل من أهل بيته: ألق الذنب علي، واكتب إليه بخبري، وخذني الساعة فقيدني واحبسني؛ فإنه سيكتب:احمله إلي؛ فاحملني إليه، فلم يكن ليقدم علي لموضعك في السند، وحال أهل بيتك بالبصرة. قال: إني أخاف عليك خلاف ما تظن، قال: إن قتلت أنا فنفسي فداؤك فإني سخي بها فداء لنفسك؛ فإن حييت فمن الله. فأمر به فقيد وحبس، وكتب إلى المنصور يخبره بذلك؛ فكتب إليه المنصور يأمره بحمله إليه؛ فلما صار إليه قدمه فضرب عنقه، ثم مكث يروي من يولي السند! فأقبل يقول: فلان فلان ؛ ثم يعرض عنه؛ فبينا هو يوماً يسير ومعه هشام بن عمرو التغلبي، والمنصور ينظر إليه في موكبه، إذ انصرف إلى منزله، فلما ألقى ثوبه دخل الربيع فآذنه بهشام. فقال: أولم يكن معي آنفاً! قال: ذكر أن له حاجة عرضت مهمة. فدعا بكرسي فقعد عليه، ثم أذن له، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين؛ إني أنصرف إلى منزلي من الموكب، فلقيتني أختي فلانة بنت عمرو، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين، فجئت لأعرضها عليه؛ فأطرق المنصور، وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده، وقال: اخرج يأتك أمري؛ فلما ولى قال: يا ربيع؛ لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت أخته وهو قوله:
لاتطلبن خئولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا
فأخاف أن تلد لي ولداً، فيعير بهذا البيت؛ ولكن اخرج إليه، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين:

لو كانت لك لله حاجة إليه لم أعدل عنها غير التزويج؛ ولو كانت لي حاجة إلى التزويج لقبلت ما أتيتني به؛ فجزاك الله عما عملت له خيراً، وقد عوضتك من ذلك ولاية السند. وأمره أن يكاتب ذلك الملك؛ فإن أطاعه وسلم إليه عبد الله بن محمد، وإلا حاربه. وكتب إلى عمر بن حفص بولايته إفريقية. فخرج هشام بن عمرو التغلبي إلى السند فوليها، وأقبل عمر بن حفص يخوض البلاد حتى صار إلى إفريقية، فلما صار هشام بن عمرو إلى السند كره أخذ عبد الله، وأقبل يري الناس أنه يكاتب الملك ويرفق به، فاتصلت الأخبار بأبي جعفر بذلك؛ فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببعض بلاد السند، فوجه إليهم أخاه سفنجا، فخرج يجر الجيش بجنبات ذلك الملك؛ فبينا هو يسير إذ هو برهج قد ارتفع من موكب، فظن أنه مقدمة للعدو الذي يقصد، فوجه طلائعه فرجعت، فقالت: ليس هذا عدوك الذي تريد؛ ولكن هذا عبد الله بن محمد الأشتر العلوي ركب متنزهاً يسير على شاطئ مهران، فمضى يريده، فقال له نصاحه: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن أخاك تركه معتمداً، مخافةً أن يبوء بدمه، ولم يقصدك، إنما خرج متنزهاً، وخرجت تريد غيره. فأعرض عنه، وقال: ما كنت لأدع أحداً يحوزه، ولا ادع أحداً يحظى بالتقرب إلى المنصور بأخذه وقتله. وكان في عشرة، فقصد قصده، وذمر أصحابه، فحمل عليه، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه بين يديه حتى قتل وقتلوا جميعاً، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط بين القتلى، فلم يشعر به. وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران لما قتل، لئلا يؤخذ رأسه؛ فكتب هشام بن عمرو بذلك كتاب فتح إلى المنصور، يخبره أنه قصده قصداً. فكتب إليه المنصور يحمد أمره، ويأمره بمحاربة الملك الذي آواه؛ وذلك أن عبد الله كان اتخذ جواري، وهو بحضرة ذلك الملك، فأولد منهن واحدة محمد بن عبد الله - وهو أبو الحسن محمد العلوي الذي يقال له بن الأشتر - فحاربه حتى ظفر به، وغلب على مملكته وقتله، ووجه بأم ولد عبد الله وابنه إلى المنصور، فكتب المنصور إلى واليه بالمدينة، يخبره بصحة نسب الغلام، وبعث به إليه، وأمره أن يجمع آل أبى طالب، وان يقرا عليهم كتابه بصحة نسب الغلام، ويسلمه إلى أقربائه. وفي هذه السنة قدم على المنصور ابنه المهدي من خراسان، وذلك في شوال منها - فوفد إليه للقائه وتهنئة المنصور بمقدمه عامة أهل بيته، من كان منهم بالشام والكوفة والبصرة وغيرها، فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل مثل ذلك بهم المنصور، وجعل لابنه المهدي صحابة منهم، وأجرة لكل رجل منهم خمسمائة درهم.
ذكر خبر بناء المنصور الرصافةوفي هذه السنة ابتدأ المنصور ببناء الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه محمد المهدي.
ذكر الخبر عن سبب بنائه ذلك لهذكر عن أحمد بن محمد الشروي، عن أبيه، أن المهدي لما قدم من خراسان أمره المنصور بالمقام بالجانب الشرقي، وبنى له الرصافة، وعمل لها سوراً وخندقاً وميداناً وبستاناً، وأجرى له الماء؛ فكان يجري الماء من نهر المهدي إلى الرصافة.
وأما خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن خازم، فإنه ذكر أن محمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس حدثه، أن أباه حدثه، أن الراوندية لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب، دخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس - وهو يومئذ شيخ كبير مقدم عند القوم - فقال له أبو جعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا! قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، عندي في هذا رأي إن أنا أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيته، صلحت لك خلافتك، وهابك جندك. فقال له: أفتمضي في خلافتي أمراً لا تعلمني ما هو! فقال له: إن كنت عندك متهماً على دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأموناً عليها فدعني أمضي رأيي. فقال له: فأمضه. قال: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاماً له فقال له:

إذا كان غداً فتقدمني ، فاجلس في دار أمير المؤمنين؛ فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، فاستوقفني واستحلفني بحق رسول الله وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها؛ فإني سأنتهرك، وأغلظ لك القول، فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالقول و بالمسألة، فإني سأشتمك، فلا يروعنك ذلك، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بسوطي، فلا يشق ذلك عليك، فقل لي: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فخلي عنان بغلتي وأنت حر.
قال: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره من دار الخليفة، فلما جاء الشيخ فعل الغلام ما أمر به مولاه، وفعل المولى ما كان قاله له، ثم قال له: قل، فقال: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ قال: فقال قثم: مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله. قال: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيء من شرفها؛ فقال له قائد من قواد اليمن: ليس الأمر كذلك مطلقاً بغير شرفة ولا فضيلة لليمن، ثم قال لغلامه: قم فخذ بعنان بغلة الشيخ، فاكبحها كبحاً عنيفاً تطأ من به منه، قال: ففعل الغلام ما أمره به مولاه حتى كاد أن يقعيها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك مضر، فقالت: أيفعل هذا بشيخنا! فأمر رجل منهم غلامه، فقال: اقطع يد العبد، فقام إلى غلام اليماني فقطع يده، فنفر الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، فصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، والخرسانية فرقة، وربيعة فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك، وجعلتهم أحزاباً كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثاً، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، قال: ما هي؟ قال: اعبر بابنك فأنزله في ذلك الجانب قصراً، وحوله وحول معك من جيشك معه قوماً فيصير ذلك بلداً، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخرسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.
قال: فقبل أمره ورأيه، فاستوى له ملكه؛ وكان ذلك سبب البناء في الجانب الشرقي وفي الرصافة وأقطاع القواد هناك.
قال: وتولى صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، ففعل كفعل أبي العباس الطوسي في فضول القطائع في الجانب الغربي، فله بباب الجسر وسوق يحيى ومسجد خضير وفي الرصافة وطريق الزواريق على دجلة مواضع بناء، بما استوهب من فضل الإقطاع عن أهله، وصالح رجل من أهل خراسان.
وفي هذه السنة جدد المنصور البيعة لنفسه ولإبنه محمد المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم جمعة؛ وقد عمهم بالإذن فيه؛ فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثم يمسح على يد عيسى بن موسى ولا يقبل يده.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد.
أمر عقبة بن سلموفيها شخص عقبة بن سلم من البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بن عقبة إلى البحرين، فقتل سليمان بن حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم وأسارى منهم إلى أبي جعفر، فقتل منهم عدة ووهب بقيتهم للمهدي. فمن عليهم وأعتقهم؛ وكسا كل إنسان منهم ثوبين من ثياب مرو.
ثم عزل عقبة بن سلم عن البصرة؛ فذكر عن إفريك - جارية أسد بن المرزبان - أنها قالت: بعث المنصور بن المرزبان إلى عقبة بن سلم إلى البحرين حين قتل منهم من قتل، ينظر في أمره، فمايله ولم يستقص عليه، ووري عنه؛ فبلغ ذلك أبا جعفر، وبلغه أنه أخذ منه مالاً، فبعث إليه أبا سو يد الخراساني - وكان صديق أسد - وأخاه فلما رآه مقبلاً على البريد فرح، وكان ناحية من عسكر عقبة، فتطاول له، وقال: صديقي . فوقف عليه فوثب ليقوم إليه، فقال له أبو سويد " بنشين بنشين " ، فجلس فقال له: أنت سامع مطيع؟ قال: نعم، قال: مد يدك، فمد يده فضربها فأطنها، ثم مد رجله، ثم مد يده ثم رجله حتى قطع الأربع، ثم قال: مد عنقك فمد فضرب عنقه. قالت إفريك: فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فأخذه مني فحمله إلى المنصور. فما أكلت إفريك لحماً حتى ماتت.

وزعم الواقدي أن أبا جعفر ولى معن بن زائدة في هذه السنة سجستان. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وكان العامل على مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة جابر بن طلبه الكلابي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك ما كان من قتل الخوارج فيها معن بن زائدة الشيباني ببست سجستان.
فيها غزا حميد بن قحطبة كابل، وكان المنصور ولاه خراسان في سنة اثنتين وخمسين ومائة.
وغزا - فيما ذكر - الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم ولم يدرب .
وقيل إن الذي غزا الصائفة في هذه السنة محمد بن إبراهيم.
وفيها عزل المنصور جابر بن توبة عن البصرة، وولاها يزيد بن منصور.
وفيها قتل أبو جعفر هاشم بن الأشتاخنج، وكان عصي وخالف في إفريقية، فحمل إليه هو وابن خالد المرور وذي، فقتل ابن الأشتاخنج بالقادسية، وهو متوجه إلى مكة.
وحج بالناس هذه السنة المنصور؛ فذكر أنه شخص من مدينة السلام في شهر رمضان ولا يعلم بشخوصه محمد بن سليمان، وهو عامله على الكوفة يومئذ، ولا عيسى بن موسى ولا غيرهما من أهل الكوفة حتى قرب منها.
وفيها عزل يزيد بن حاتم عن مصر ووليها محمد بن سعيد.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال في السنة الخالية إلا البصرة فإن عاملها في هذه السنة كان يزيد بن منصور، وإلا مصر فإن عاملها كان في هذه السنة محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك تجهيز المنصور جيشاً في البحر لحرب الكرك ، بعد مقدمة البصرة، منصرفاً من مكة إليها بعد فراغه من حجه، وكانت الكرك أغارت على جدة، فلما قدم المنصور البصرة في هذه السنة جهز منها جيشاً لحربهم، فنزل الجسر الأكبر حين قدمها - فيما ذكر - . وقمته هذه البصرة القدمة الآخرة.
وقيل إنه إنما قدمها القدمة الآخرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت قدمته الأولى في سنة خمس وأربعين ومائة، وأقام بها أربعين يوماً، وبنى بها قصراً ثم انصرف منها إلى مدينة السلام.
وفيها غضب المنصور على أبي أيوب المورياني، فحبسه وأخاه وبني أخيه: سعيداً ومسعوداً ومخلداً ومحمداً، وطالبهم. وكانت منازلهم المناذر وكان سبب غضبه عليه - فيما قيل - سعي أبان بن صدقة كاتب أبي أيوب إليه.
وفي هذه السنة قتل عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الأباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر، وكانوا - فيما ذكر - ثلاثمائة ألف وخمسين ألفاً، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفاً، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفاً، وكان يسلم عليه قبل ذلك بالخلافة أربعين يوماً.
وفيها حمل عباد مولى المنصور وهرثمة بن أعين ويوسف بن علوان من خراسان في سلاسل، لتصبهم لعيسى بن موسى.
وفيها أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، وكانوا - فيما ذكر - يحتالون لها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة:
وكنا نرجى من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس
وفيها توفي عبيد بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضي مكانه شريك بن عبد الله النخعي.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فصار إلى حصن من حصون الروم ليلاً، وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة، ففتحها واخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين.
وفيها ولى المنصور بكار بن مسلم العقلي على أرمينية وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أبي جعفر المهدي.
وكان على مكة والطائف يومئذ محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد بن الحسن، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى قضائها سوار وعلى مصر محمد بن سعيد.
وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان في هذه السنة والي اليمن من قبل أبي جعفر المنصور.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك خروج المنصور إلى الشام ومسيره إلى بيت المقدس وتوجيهه يزيد بن حاتم إلى أفريقية في خمسين ألفاً - فيما ذكر - لحرب الخوارج اللذين كانوا بها ، الذين قتلوا عامله عمر بن حفص. وذكر انه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم .
وفي هذه السنة عزم المنصور - فيما ذكر - على بناء مدينة الرافقة ، وذكر عن محمد جابر، عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها ، امتنع أهل الرقة،وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعايشنا ، وتضيق منازلنا؛ فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك، فقال له : هل لك علم بأن إنساناً يبني هاهنا مدينة؟ فقال : بلغني أن رجلاً يقال له مقلاص يبنيها، فقال: أنا والله مقلاص.
وذكر محمد بن عمر أن صاعقةً سقطت في هذه السنة في المسجد الحرام فقتلت خمسة نفر.
وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد، وأمر المنصور موسى بن دينار حاجب أبي العباس الطوسي بقطع أيدي بنس آخى أبي أيوب وأرجلهم وضرب أعناقهم؛ وكتب بذلك إلى المهدي، ففعل ذلك موسى وأنفذ فيهم ما أمره به.
وفيها ولي عبد الملك بن ظبيان النميري على البصرة.
وغزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم، وهو عامل أبي جعفر على مكة والطائف .
وكان على المدينة الحسن بن يزيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان. وعلى قضائها سوار بن عبد الله وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك افتتاح يزيد بن حاتم إفريقية وقتله أبا عاد وأبا حاتم ومن كان مع واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بن حاتم القيروان.
وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها، فبناها على بناء مدينته ببغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسور سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينته.
وفيها - فيما ذكر محمد بن عمر - خندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سوراً، وجعل ما أنفق على سور ذلك وخندقه من أموال أهله. وعزل فيها المنصور عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي، وضم إليه سعيد بن دعلج، وأمره ببناء سور لها يطيف بها، وخندق عليها من دون السور من أموال أهلها، ففعل ذلك.
وذكر أن المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم، على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم؛ فلما عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهماً من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر خندق لها، فقال شاعرهم:
يا لقومي ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا
وفيها طلب صاحب الروم الصلح إلى المنصور؛ على أن يؤدي إليه الجزية.
وغزا الصائفة في هذه السنة يزيد بن أسيد السلمي وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وغرمه مالاً، و غضب عليه وحبسه، فذكر عن بعض بني هاشم، أنه قال: كان المنصور ولى العباس بن محمد الجزيرة بعد يزيد بن أسيد، ثم غضب عليه فلم يزل ساخطاً عليه حتى غضب على بعض عمومته من ولد علي بن عبد الله بن عباس أما إسماعيل بن علي أو غيره فاعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه ، وضيقوا عليه فرضي عنه، فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين؛ إن آل علي بن عبد الله - وإن كانت نعمك عليهم سابغة - فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا ؛ فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي منذ أيام، فضيقوا عليك . وأنت غضبان على العباس بن محمد، منذ كذا وكذا، فما رأيت أحداً منهم كلمك فيه. قال: فدعا العباس فرضي عنه.
قال: وقد كان يزيد بن أسيد عند عزل العباس إياه عن الجزيرة، شكا إلى أبي جعفر العباس، وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال له المنصور: اجمع بين إحساني إليك وإساءة أخي يعتدلا، فقال يزيد بن أسيد: يا أمير المؤمنين؛ إذا كان إحسانكم جزاء إساءتكم، كانت طاعتنا تفضلاً منا عليكم.
وفيها استعمل المنصور على حرب الجزيرة وخراجها موسى بن كعب.

وفي هذه السنة عزل المنصور عن الكوفة محمد بن سليمان بن علي، في قول بعضهم، و أستعمل مكانه عمرو بن زهير أخا المسيب بن زهير .
وأما عمر بن شبة فإنه زعم أنه عزل محمد بن سليمان عن الكوفة في سنة ثلاث وخمسين ومائة ،وولاها عمرو بن زهير الضبي أخا المسيب بن زهير في هذه السنة .قال: وهو حفر الخندق بالكوفة .
ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور محمد بن سليمان بن علي ذكر أن محمد بن سليمان أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء - وكان خال معن بن زائدة - فأمر بحبسه. قال أبو زيد: فحدثني قثم بن جعفر والحسين بن أيوب وغيرهما أن شفعاءه كثروا بمدينة السلام، ثم ألحوا على أبي جعفر، فلم يتكلم فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه، فكلم ابن أبي العوجاء أبى الجبار - وكان منقطعاً إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما - فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف، ولك أنت كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمداً، فقال: أذكرتنيه والله وقد كنت نسيته؛ فإذا انصرفت من الجمعة فأذكرنيه. فلما انصرف أذكره، فدعى به وأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول، قال: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام؛ والله لقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه.
وورد على محمد رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في أمر ابن أبي العوجاء شيئاً، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده. فقال محمد للرسول: هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوباً بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين بما أعلمتك؛ فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته، تغيظ عليه وأمر بالكتاب يعزله وقال: والله لهممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بن علي فأتاه، فقال: هذا عملك أنت! أشرت بتولية هذا الغلام، فوليته غلاماً جاهلاً لا علم له بما يأتي؛ يقدم على رجل يقتله من غير أن يطلع رأيي فيه، ولا ينتظر أمري! وقد كتبت بعزله؛ وبالله لأفعلن به ولأفعلن يتهدده، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إن محمداً إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن قتله صواباً فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن عزلته على تفية ما صنع ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن القالة من العامة عليك. فأمر بالكتب فمزقت وأقر على عمله. وقال بعضهم: إنما عزل المنصور محمد بن سليمان عن الكوفة لأمور قبيحة بلغته عنه، اتهمه فيها؛ وكان الذي أنهى ذلك إليه المساور بن سوار الجرمي صاحب شرطة، وفي مساور يقول حماد .
لحسبك من عجيب الدهر أني ... أخاف وأتقي سلطان جرم
وفي هذه السنة أيضاً عزل المنصور الحسن بن زيد عن المدينة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي. وجعل معه فليح بن سليمان مشرفاً عليه. وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم ابن محمد، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
ذكر الخبر عن مقتل عمرو بن شداد فمن ذلك ما كان من ظفر الهيثم بن معاوية عامل أبي جعفر على البصرة بعمرو بن بن شداد عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس، فقتل بالبصرة وصلب.
ذكر الخبر عن سبب الظفر به ذكر عمر أن محمد بن معروف حدثه، قال: أخبرني أبي، قال: ضرب عمرو بن شداد خادماً له، فأتى عامل البصرة - إما ابن دعلج، وإما الهيثم بن معاوية - فدله غليه، فأخذه فقتله وصلبه في المربد في موضع دار إسحاق بن سليمان. وكان عمرو مولى لبني جمح، فقال بعضهم: ظفر به الهيثم بن معاوية وخرج يريد مدينة السلام، فنزل بقصر له على شاطئ نهر يعرف بنهر معقل، فأقبل بريد من عند أبي جعفر، ومعه كناب إلى الهيثم بن معاوية بدفع عمرو بن شداد إليه،فدفعه الهيثم إليه، فأقدمه البصرة، ثم أتى به ناحية الرحبة، فخلا به يسائله، فلم يظفر منه بشيء يحب علمه، فقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه وصلبه في مربد البصرة.

وفي هذه السنة عزل المنصور الهيثم بن معاوية عن البصرة وأعمالها، واستعمل سوار بن عبد الله القاضي على الصلاة، وجمع له القضاء والصلاة. وولى المنصور سعيد بن دعلج شرط البصرة وأحداثها.
وفيها توفي الهيثم بن معاوية بعد ما عزل عن البصرة فجأة بمدينة السلام، وهو على بطن جارية له، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم.
وفي هذه السنة غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن محمد بن علي.
وكان العامل على مكة محمد بن إبراهيم، وكان مقيماً بمدينة السلام، وابنه إبراهيم بن محمد خليفته بمكة؛ وكان إليه مع مكة الطائف. وعلى الكوفة عمر بن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط وصدقات أرض العرب بالبصرة سعيد بن دعلج، وعلى الصلاة بها والقضاء سوار بن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو، وعلى أفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك ابتناء المنصور قصره الذي على شاطئ دجلة؛ الذي يدعى الخلد وقسم بناءه على مولاه الربيع وأبان بن صدقة.
وفيها قتل يحيى أبو زكريا المحتسب؛ وقد ذكرنا قبل سبب قتله إياه.
وفيها حول المنصور الأسواق من مدينة السلام إلى باب الكرخ وغيره من المواضع، وقد مضى أيضاً ذكرنا سبب ذلك قبل.
وفيها ولى المنصور جعفر بن سليمان على البحرين، فلم يتم ولايته، ووجه مكانه أميراً عليها سعيد بن دعلج؛ فبعث سعيد ابنه تميماً عليها.
وفيها عرض المنصور جنده في السلاح والخبل على عينه في مجلس اتخذه على شط دجلة دون قطربل، وأمر أهل بيته وقرابته وصحابته يومئذ بلبس السلاح، وخرج وهو لابس درعاً وقلنسوة تحت البيضة سوداء لاطئة مضربة .
وفيها توفي عامر بن إسماعيل المسلى، بمدينة السلام، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم.
وفيها توفي سوار بن عبد الله وصلى عليه ابن دعلج، واستعمل المنصور مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري.
وفيها عقد المنصور الجسر عند باب الشعير، وجرى ذلك على يد حميد القاسم الصيرفي، بأمر الربيع الحاجب.
وفيها عزل محمد بن سعيد الكاتب عن مصر، واستعمل عليها مطر مولى أبي جعفر المنصور.
وفيها ولي معبد بن الخليل السند، وعزل عنها هشاط بن عمرو، ومعبد يومئذ بخراسان؛ كتب إليه بولايته.
وغزا الصائفة فيها يزيد بن أسيد السلمي، ووجه سناناً مولى البطال إلى بعض الحصون، فسبى وغنم.
وقال محمد بن عمر: الذي غزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
قال محمد بن عمر: كان على المدينة - يعني إبراهيم هذا.
وقال غيره: كان على المدينة في هذه السنة عبد الصمد بن علي، وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم ، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن تولية خالد بن برمك الموصل فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره وإياه بعزل موسى بن كعب عن الموصل وتولية يحيى بن خالد بن برمك عليها وكان سبب ذلك - فيما ذكر الحسن بن وهب بن سعيد عن صالح بن عطية - قال: كان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف، ونذر دمه فيها، وأجله ثلاثة أيام بها، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني، إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي، وإنما يراد بذلك دمي؛ فانصرف إلى حرمتك وأهلك، فما كنت فاعلاً بهم بعد موتي فافعله. ثم قال له: يا بني لا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي فتعلمهم حالنا.
قال: فذكر صالح بن عطية أن يحيى حدثه، قال: أتيتهم فمنهم من تجهمني وبعث بالمال سراً إلي ، ومنهم من لم يأذن لي، وبعث بالمال في إثري. قال: واستأذنت على عمارة بن حمزة، فدخلت عليه وهو في صحن داره، مقابل بوجههه الحائط؛ فما انصرف إلي بوجهه، فسلمت عليه، فرد علي رداً ضعيفاً، وقال: يا بني؛ كيف أبوك؟ قلت:

بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم. قال: فما رد علي قليلاً ولا كثيراً، قال: فضاق بي موضعي، ومادت بي الأرض. قال: ثم كلمته فيما أتيته له. قال: فقال: إن أمكنني شيْ فسيأتيك، قال يحيى: فانصرفت وأنا أقول في نفسي: لعن الله كل شيء يأتي من تيهك وعجبك وكبرك! وصرت إلى أبي، فأخبرته الخبر، ثم قلت له: وأراك تثق من عمارة بن حمزة بما لا يوثق به! قال: فوالله إني لكذلك؛ إذ طلع رسول عمارة بن حمزة بالمئة ألف. قال: فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف، وبقيت ثلاثمائة ألف بوجودها يتم ما سعينا له ، وبتعذرها يبطل. قال: فوالله إني لعلى الجسر ببغداد ماراً مهموماً مغموماً؛ إذ وثب إلي زاجر فقال: فرخ الطائر أخبرك! قال: فطويته مشغول القلب عنه، فلحقني وتعلق بلجامي، وقال لي: أنت والله مهموم، ووالله ليفرجن الله همك، ولتمرن غداً في هذا الموضع واللواء بين يديك. قال: فأقبلت أعجب من قوله. قال: فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم؟ قلت: نعم - ولو قال خمسون ألفاً لقلت نعم، لبعد ذلك عني من أن يكون - قال: ومضيت. وورد على المنصور انتقاض الموصل وانتشار الأكراد بها. فقال: من لها؟ فقال له المسيب بن زهير - وكان صديقاً لخالد بن برمك: عندي يا أمير المؤمنين رأي، أرى أنك لا تنتصحه ؛ وأنك ستلقاني بالرد، ولكني لا أدع نصحك فيه والمشورة عليك به، قال: قل، فلا أستغشك، قلت: يا أمير المؤمنين ما رميتها بمثل خالد، قال: ويحك! فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما قومته لذلك وأنا الضامن عليه، قال: فهو لها والله، فليحضرني غداً. فأحضر، فصفح له عن الثلاث مائة ألف الباقية، وعقد له.
قال يحيى: ثم مررت بالزاجر، فلما رآني قال: أنا هاهنا أنتظرك منذ غدوة، قلت: امض معي، فمضى معي، فدفعت إليه الخمسة الآلاف. قال: وقال لي أبي: إلي بني؛ إن عمارة تلزمه حقوق، وتنوبه نوائب فأته، فأقرئه السلام، وقل له: إن الله قد وهب لنا رأي أمير المؤمنين، وصفح لنا عما بقي علينا، وولاني الموصل؛ وقد أمر برد ما استسلفت منك. قال: فأتيته فوجدته على مثل الحال التي لقيته عليه. فسلمت فما رد السلام عليه، ولا زادني على أن قال : كيف أبوك؟ قلت: بخير ويقول كذا وكذا وقال: فاستوى جالساً، ثم قال لي: ما كنت إلا قسطاراً لأبيك؛ يأخذ مني إذا شاء، ويرد إذا شاء! قم عني لا قمت! قال: فرجعت إلى أبي فأعلمته، ثم قال لي أبي: يا بني، هو عمارة ومن لا يعترض عليه! قال: فلم يزل خالد على الموصل إلى أن توفى المنصور ويحيى على أذربيجان، فذكر عن أحمد بن محمد بن سوار الموصلي أنه قال: ما هبنا قط أمير هيبتنا خالد بن برمك من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبرية؛ ولكن هيبة كانت له في صدورنا.
وذكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، عن أبيه، قال: كان أبو جعغر غضب على موسى بن كعب - وكان عامله على الجزيرة والموصل - فوجه المهدي إلى الرقة لبناء الرافقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره بالمرور والمضي على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى بن كعب فقيده، وولي خالد بن برمك الموصل مكانه، ففعل المهدي ذلك، وخف خالداً على الموصل، وشخص معه أخوا خالد: الحسن وسليمان ابنا برمك، وقد كان المنصور دعا قبل ذلك يحيى بن خالد، فقال له: قد أردتك لأمر مهم من الأمور، واخترتك لثغر من الثغور؛ فكن على أهبة؛ ولا يعلم بذلك أحد حتى أدعو يحيى بن خالد ! فقام فأخذه بيده، فأدخله على المنصور، فخرج على الناس وأبوه حاضر واللواء بين يديه على أذربيجان، فأمر الناس بالمضي معه، فمضوا في موكبه، وهنئوه أباه خالداً بولايته، فاتصل عملهما.
وقال أحمد بن معاوية: كان المنصور معجباً بيحيى، وكان يقول ولد الناس ابناً وولد خالد أباً.
وفي هذه السنة نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد.

وفيها سخط المنصور على المسيب بن زهير وعزله عن الشرطة، وأمر بحبسه وتقييده، وكان سبب ذلك انه قتل أبان بن بشير الكاتب بالسياط، لأمر كان وجد عليه فيما كان من شركته لأخيه عمرو بن زهير في ولاية الكوفة وخراجها، وولى مكان المسيّب الحكم بن يوسف صاحب الحرب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب، فرضى عنه بعد حبسه إياه أياماً، وأعاد إليه ما كان يلي من شرطه .
وفيها وجه المنصور نصر بن حرب التميمي والياً على ثغر فارس .
وفيها سقط المنصور عن دابته بجر جرايا، فانشج ما بين حاجبيه؛ وذلك أنه كان خرج لما وجه ابنه المهدي إلى الرقة مشيعاً له، حتى بلغ موضعاً يقال له جب سماقا، ثم عدل إلى حولايا، ثم أخذ على النهروانات فانتهى فيما ذكر إلى بشق من النهروانات يصب إلى نهر ديالى، فأقام على سكره ثمانية عشر يوماً، فأعياه، فمضى إلى جرجرايا، فخرج منها للنظر إلى ضيعة كانت لعيسى بن علي هناك، فصرع من يومه ذلك عن برذون له ديزج فشج في وجهه، وقدم عليه وهو بجرجرايا أسارى من ناحية عمان من الهند، بعث بهم إليه تسنيم بن الحواري مع ابنه محمد، فهم بضرب أعناقهم، فسألهم فأخبروه بما التبس به أمرهم عليه؛ فأمسك عن قتلهم وقسمهم بين قواده ونوابه.
وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان وفيها أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض، الذي كان كسرى بناه، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخرسواني، مما نقضه من بناء الأكاسرة، وقال: هذا فيء المسلين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى من درب الحدث، فلقى العدو فإقتتلوا ثم تحاجزوا.
ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري وفي هذه السنة حبس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو أمير مكة - فيما ذكر - بأمر المنصور إياه بحبسهم: ابن جريج وعباد بن كثير والثوري، ثم أطلقه من الحبس بغير إذن أبي جعفر،فغضب عليه أبو جعفر.
وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عمران مولى محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس حدثه عن أبيه، قال: كتب المنصور إلى محمد بن إبراهيم - وهو أمير على مكة - يأمره بحبس رجل من آل علي بن أبي طالب كان بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري وقال: فحسبهم؛ فكان له سمار يسامره بالليل؛ فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها، ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا. قال فدنوت منه فقلت له: قد رأيت ما بك، فمالك؟ قال: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، وإلى عيون من عيون الناس فحسبتهم، فيقدم أمير المؤمنين ولا أدري ما يكون؛ فلعله أن يأمر بهم فيقتلوا، فيشتد سلطانه وأهلك ديني، قال: فقلت له: فتصنع ماذا؟ قال: أوثر الله، وأطلق القوم؛ اذهب إلى إبلي فخذ راحلةً منها، وخذ خمسين ديناراً فأت بها الطالبي وأقرئه السلام، وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحلله من ترويعه إياك، و تركب هذه الراحلة، وتأخذ هذه النفقة. قال: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما أبلغته قال: هو في حل ولا حاجة لي إلى الراحلة ولا إلى النفقة. قال: قلت: إن أطيب لنفسه أن تأخذ، ففعل. قال: ثم جئت إلى ابن جريج وإلى سفيان بن سعيد وعباد بن كثير فأبلغتهم ما قال، قالوا: هو في حل، قال: فقلت لهم: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم مادام المنصور مقيماً. قال: فلما قرب المنصور وجهني محمد بن إبراهيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. قال: فلما صار إلى بئر ميمون لقية محمد، بن إبراهيم، فلما أخبر بذلك أمر بدوابه فضربت وجوهها، فعدل محمد، فكان يسير في ناحية. قال:وعدل بأبي جعفر عن طريق في الشق الأيسر فأنيخ به، ومحمد واقف قبالته، ومعه طبيب له؛ فلما ركب أبو جعفر وسار، وعديله الربيع أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر، فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد.
ذكر الخبر عن وفاة أبي جعفر المنصور

وفيها شخص أبو جعفر من مدينة السلام، متوجهاً إلى مكة؛ وذلك في شوال، فنزل - فيما ذكر - عند قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس، ثم مضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة ثم أهل منها بالحج والعمرة، وساق معه الهدى وأشعره وقلده؛ لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازلاً عرض له وجعه الذي توفي منه.
واختلف في سبب الوجع الذي كانت منه وفاته فذكر عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه، إنه كان يقول: كان المنصور لا يستمرئ طعامه؛ ويشكو من ذلك إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات ؛ فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منه عليه؛ حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره؛ فكان يتخذ له سفوفاً جوارشناً يابساً، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده. قال: فقال لي أبي: قال لي كثير من متطببي العراق: لا يموت والله أبو جعفر أبداً إلا بالبطن، قال: قلت له: وما علمك؟ قال: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه؛ ويخلق من زئير معدته في كل يوم شيئاً، وشحم مصارينه، فيموت ببطنه. وقال لي: اضرب لذلك مثلاً، أرأيت لو أنك وضعت جراً على مرفع، ووضعت تحتها آجرة جديدة فقطرت، أما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر! أوما علمت أن لكل قطرة حداً! قال: فمات والله أبو جعفر - كما قال - بالبطن .
وقال بعضهم: كان بدء وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر، وكان رجلاً محروراً على سنه، يغلب عليه المرار الأحمر، ثم هاض بطنه، فلم يزل كذلك حتى نزل بستان ابن عامر، فاشتد به، فرحل عنه فقصر عن مكة، ونزل بئر ابن المرتفع، فأقام بها يوماً وليلة، ثم صار منها إلى بئر ميمون، وهو يسأل عن دخوله الحرم، ويوصي الربيع بما يريد أن يوصيه، وتوفي بها في السحر أو مع طلوع الفجر ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه؛ فكتم الربيع موته، ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه والصراخ، ثم أصبح فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وجلسوا مجالسهم؛ فكان أول من دعى به عيسى بن علي ، فمكث ساعة، ثم أذن لعيسى بن موسى - وقد كان فيما خلا يقدم في الإذن على عيسى بن علي، فكان ذلك مما ارتيب به - ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان من أهل البيت، ثم لعامتهم؛ فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بن موسى من بعده، على يد موسى بن المهدي حتى فرغ من بيعة بني هاشم؛ ثم دعا بالقواد فبايعوا ولم ينكل منهم عن ذلك رجل إلا علي بن عيسى بن ماهان؛ فإنه أبى عند ذكر عيسى بن موسى أن يبايع له، فلطمه محمد بن سليمان، وقال: ومن هذا العلج! وأمصه ، وهم بضرب عنقه، فبايع، وتتابع الناس بالبيعة. وكان المسيب بن زهير أول من استثنى في البيعة، وقال: عيسى بن موسى: إن كان كذلك. فأمضوه.
وخرج موسى بن المهدي إلى مجلس العامة، فبايع من بقي من القواد والوجوه، وتوجه العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايع أهلها بها؛ وكان عباس يومئذ المتكلم، فبايع الناس للمهدي بين الركن والمقام، وتفرق عدة من أهل بيت المهدي في نواحي مكة والعسكر فبايعه الناس، وأخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه، وتولى ذلك من أهل بيته العباس بن محمد والربيع والريان وعدة من خدمه ومواليه، ففرغ من جهازه مع صلاة العصر، وغطي من وجهه وجميع جسده بأكفانه إلى قصاص شعره، وأبدي رأسه مكشوفاً من أجل الإحرام، وخرج به أهل بيته والأخص من مواليه، وصلى عليه - فيما زعم الواقدي - عيسى بن موسى في شعب الخوز .
وقيل: إن الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي. وقيل: إن المنصور كان أوصى بذلك؛ وذلك أنه كان خليفته على الصلاة بمدينة السلام.
وذكر علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، أن إبراهيم بن يحيى صلى عليه في المضارب قبل أن يحمل؛ لأن الربيع قال:

لا يصلي عليه أحد يطمع في الخلافة، فقدموا إبراهيم بن يحيى - وهو يومئذ غلام حدث - ودفن في المقبرة التي عند ثنية المدنيين التي تسمى كذا، وتسمى ثنية المعلاة؛ لأنها بأعلى مكة ونزل في قبره عيسى بن علي والعباس بن محمد وعيسى بن موسى، والربيع والريان مولياه، ويقطين بن موسى.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي، فقال بعضهم: كان يوم توفي ابن أربع وستين سنة.
وقال بعضهم: كان يومئذ ابن خمس وستين سنة.
وقال بعضهم: كان يوم توفي ابن ثلاث وستين سنة.
وقال هشام الكلبي: هلك المنصور وهو ابن ثمان وستين سنة.
وقال هشام: ملك المنصور اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوماً. واختلف عن أبي معشر في ذلك، فحدثني أحمد بن ثابت الرازي عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه أنه قال: توفي أبو جعفر قبل يوم التروية بيوم يوم السبت، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام.
وروي عن ابن بكار أنه قال: إلا سبع ليال.
وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلا ستة أيام.
وقال عمر بن شبة: كانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير يومين.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.
وفي هذه السنة هلك طاغية الروم.
ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور ذكر أنه كان أسمر طويلاً، نحيفاً. خفيف العارضين. وكان ولد بالحميمة.
ذكر الخبر عن بعض سيرهذكر عن صالح بن الوجيه، عن أبيه، قال: بلغ المنصور أن عيسى بن موسى قتل رجلاً من ولد نصر بن سيار، كان مستخفياً بالكوفة، فدل عليه فضرب عنقه. فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل. فكتب إليه: أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره؛ من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة ، فإنه لا يرى أن يأخذ أحداً بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدثٍ كان منه في حرب أعقبه الله منها سلماً ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور؛ وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدير؛ كما أنه لا يأمن إدبار مقبل. إن شاء الله والسلام.
وذكر عن عباس بن الفضل، قال: حدثني يحيى بن سليم كاتب الفضل بن ربيع، قال: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوماً واحداً، فإنا رأينا ابناً له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابني أبي جعفر من الطلحية، توفي وهو حدث، قد خرج على متنكباُ قوساً ، متعمماً بعمامة، متردياً ببرد في هيئة غلام إعرابي راكبا على قعود بين جوالفين، فيهما مقل ونعال ومساويات وما يهديه الأعراب ؛ فعجب الناس من ذلك وأنكروه. قال: فمضى الغلام حتى عبر الجسر،وأتى المهدي بالرصافة فأهدي إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين؛ فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.
و ذكر عن حماد التركي، قال: كنت واقفاً على رأس المنصور، فسمع جلبةً في الدار، فقال: ما هذا يا حماد ؟ انظر ، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها ووصفتها له؛ فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت: رأيته بخراسان نعم هناك، ثم قال: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويداً حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه ، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال : أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.
وذكر العباس بن الفضل عن سلام الأبرش، قال: كنت أنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلاً في منزله؛ وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقاً ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالاً لما يكون من عبث الصبيان؛ فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتبرد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك؛ فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه.
وقال لي يوما:

يا بني إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي؛ فلا يدنون مني أحداً منكم مخافة أن أعره بشيء.
وذكر أبو الهيثم خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثني عبد الله بن محمد يلقب - بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد - قال: كنا في الصحابة سبعمائة رجل؛ فكنا ندخل على المنصور كل يوم، قال: فقلت للربيع : اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم فتكون في آخرهم؛ وإن مرتبتك لتشبه نسبك. قال: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي، أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي. قال: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عموداً من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط؛ لا نجوت إن نجوت مني. قال: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قال: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعاً، وأسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم رأي، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيراً ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر، قال: فاستل عهداً من بين فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معناً إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل. ثم قال: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، اعزز على أن تضم إلى ابن أخيك! قال: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيراً، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.
وذكر حماد بن أحمد اليماني قال: حدثني محمد بن عمر اليمامي أبو الرديني، قال: أراد معن بن زائدة أن يوفد إلى المنصور قوماً يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة؛ فكان فيمن اختار مجاعة ابن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحداً واحداً، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعة بن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك؛ حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن عتيق المزني، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك؛ فإن سها عن شيء فتلافه. واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله؛ حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه. فلما انتهى كلامه، قال المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، وأما ما ذكرت من النبي صلى الله عليه وسلم فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين؛ فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقيل ما ذكرت. قال: صدق أمير المؤمنين، ووالله ماكذبت في صاحبي. فأخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال:

ما ذكرت؟ فكر عليه الكلام؛ حتى كأنه كان في صحيفة يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعاً، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلاً أربط جأشاً، ولا أظهر بياناً؛ رده يا غلام، فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال المنصور: اقصد لحاجتك وحاجة صاحبك. قال: يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجاً من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساعٍ أو واشٍ أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته. فقبل وفادته، وقبل العذر من معن؛ وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضى قبل ما بين عينيه، وشكر أصحابه، وخلع عليهم وأجازهم على إقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة:
آليت في مجلس من وائل قسما ... ألا أبيعك يا معن بأطماع
يا معن إنك قد أوليتني نعماً ... عمت لجيماً وخصت آل مجاع
فلا أزال إليك الدهر منقطعاً ... حتى يشيد بهلكي هتفة الناعي
قال : وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج؛ منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد؛ وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبحبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع لإلى معن كان أول شيء أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد الزهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده. فقال له معن: حاجتك الثانية، قال: الحائط الذي في منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له؛ وقال: حاجتك الثالثة؟ قال: تهب لي مالاً. قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله.
وذكر عن محمد بن سالم الخوارزمي - وكان أبوه من قواد خراسان - قال: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم؛ كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت واحدة وهى؛ أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع - ثم عض على أصبعه السبابة ثلاثة مرات، يقول في كل مرة:آه آه - قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك، قال: والله ما أملك شيئاً، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهادة أن لا إله إلا الله، فخلي سبيله.
قال:وولى المنصور رجلاً من أهل الشام شيئاً من الخراج ، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة؛ يلزمك العمل. قال: وولي رجلاً من أهل العراق شيئاً من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر . اخرج عني وامض إلى عملك؛ فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه. قال: فوليا جميعاً وناصحا.
ذكر الصباح بن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بن موسى بن عيسى؛ أن المنصور ولى رجلاً من العرب حضر موت، فكتب إليه وإلى البريد أن يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمتك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولن نستكفك أمور الوحش، سل ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بن فلان، والحق بأهلك ملوماً مدحوراً.
وذكر الربيع أنه قال:

أدخل على المنصور سهيل بن سلم البصري، وقد ولي عملاً فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قال: بئس العبد أنت! قال: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قال: أما لك فلا.
قال: وذكر عن الفضل بن الربيع عن أبيه، أنه قال: بينا أنا قائماً بين يدي المنصور أو على رأسه؛ إذا أتي بخارجي قد هزم له جيوشاً، فاقام ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يابن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان ويؤمنك أن أرد عليك وقد يأست من الحياة فلا تستقيلها أبداً! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجهاً حولاً.
ذكر عبد الله بن عمرو الملحي أن هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قال: حدثني عمارة بن حمزة، قال: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدي في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطى لله عهداً لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت: أمر حدث فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قال: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قال: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك.
وذكر عن أحمد بن يوسف بن القاسم، قال: سمعت إبراهيم بن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الآذان فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة وممن ذمه الحسن بن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيشي عليه. فقال أبو جعفر: ما استنكرت من ذلك؟ رجل استكفاه قوم فكفاهم؛ والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين.
قال: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قال: ومنهم؟ كأنك تريد نفسك! قال: كلا لست كذلك؛ عن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا! ذكر الهيثم بن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قال: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يوماً، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جب خز، وعمامة عدنية، في يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب،فأعجبه ما رأى منه، فقال: أنشدني، فأنشده شعراً لأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمر بن تميم؛ وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بن تميم العنبري، وهو قوله:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفاً تأمن مسارحه ... وإن أخف آمناً تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت ... إن الأمور لها ورد وإصدار
فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قال هذا الشعر؟ قال: كان أثقل العرب على عدوه وطأةً وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبةً، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقرأهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره؛ اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم أقر له بهذه الخلال؛ غي أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى ان جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قال: يا أخي بني تميم؛ لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه؛ أنا الذي وصف لا هو.

وذكر أحمد بن خالد الفقيمي أن عدت من بن هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور الأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامر، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب؛ فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام إلى فراشه فأسبغ وضوءه وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
قال إسحاق: حدثت عن عبد الله بن الربيع، قال: قال أبو جعفر لإسماعيل بن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشأم حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكنفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديماً فهم لكل قوم عبيد. قال: فأي الولاة أفضل؟ قال: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة. قال: فأيهم أخرق؟ قال: أنهكهم للرعية، وأتبعهم لها بالخرق والعقوبة. قال: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قال: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسير الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة عند المحبة تضمر الإجتهاد وتبالغ عند الغفلة. قال: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قال: أولاهم بالمضرة والمنفعة. قال: ما علامة ذلك؟ قال: سرعة الإجابة وبذل النفس. قال: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيراً؟ قال: أسلمهم قلباً، وأبعدهم عن الهوى.
وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قال: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع؛ ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله.
وذكر الزبير بن بكار، قال: حدثني مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه؛ فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه.
وذكر الزبير أيضاً، عن مصعب بن عبد الله، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله؛ لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولاتدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار. وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه. واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره .
وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلساً إلا ومعك من أهل العلم يحدثك؛ فإن محمد بن شهاب الزهري قال: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثهم؛ وصدق أخو زهرة! وذكر عن علي بن مجاهد بن محمد بن علي، أن المنصور قال للمهدي: يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره.
وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله يقول: قال المنصور للمهدي: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه؛ ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.
وذكر الفقيمي، عن عتبة بن هارون، قال: قال أبو جعفر يوماً للمهدي: كم راية عندك؟ قال: لا أدري، قال: هذا والله التضييع؛ أنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً؛ ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت؛ فاتق الله فيما خولك.
وذكر علي بن محمد عن حفص بن عمر بن حماد، عن خالصة، قالت: دخلت على المنصور؛ فإذا هو يتشكى وجع ضرسه؛ فلما سمع حسي، قال: ادخلي؛ فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قال لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قال: ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار؛ قال:

احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما؛ فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع؛ ولكني سألته أمس مالاً فتمارض، احملي إليه ما قلت؛ ففعلت، فلما أتاه المهدي، قال: يا أبا عبد الله؛ تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بن محمد: قال واضح مولى أبي جعفر قال: قال أبو جعفر يوماً انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل؛ وليكن معها رقاع. ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك - ولم يقل: دانق - فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد. قال: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل.
وذكر علي بن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بن أميل - وذكره أيضاً عبد الله بن حسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بن أميل حدثه قال: قدمت على المهدي - قال بن مرثد في خبره وهو ولي العهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد - فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها؛ فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعرٍ بعشرين ألف درهم، فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم. قال أبو قدامة: فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائداً من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً ممن يمر به؛ حتى يظفر بالمؤمل؛ فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل، من زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قال: أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قال: هيه! أتيت غلاماً غراً فخدعته! قال: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين؛ أتيت غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار سراج نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وما ذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور
فيا بن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهول والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت وراءه تجري حثيثاً ... وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس: ما هذان إلا ... بمنزلة الخليق من الجدير
لئن سبق الكبير فأهل سبقٍ ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير ... لقد خلق الصغير من الكبير
فقال: والله لقد أحسنت؛ ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم. وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قال: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم؛ وخذ منه الباقي. قال: فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي. قال:

فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى بن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعاً رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يوماً رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع؛ حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قال: هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت .
وذكر واضح مولى المنصور، قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر يوماً إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفاً وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به؛ فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به. فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله؛ فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالاً للمواهب، أم بطراً للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك.فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين و إرشادك؛ و الحمد لله على نعمه، و أسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته. ثم انصرف.
قال العباس بن الوليد بن مزيد: قال: سمعت ناعم بن مزيد، يذكر عن الوضين بن عطاء، قال: استزارني أبو جعفر - وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة - فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوماً، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لك؟ قلت الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قال: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني ، قال: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل يدرن في بيتك. وذكر بشر المنجم، قال: دعاني أبو جعفر يوماً عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي: خذ هذا واحتفظ به، قال: فهو عندي إلى الساعة.
وذكر أبو الجهم بن عطية، قال: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم؛ فأخذها منه وقال: هذا مالي، قال: ومن أين يكون مالك! فوالله ما وليت لك عملاً قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قال: بلى، كنت تزوجت مولاة لعيينة بن موسى بن كعب فورثتك مالاً؛ وكان ذلك قد عصى وأخذ مالي وهو والٍ على السند؛ فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قال: ولى أبو جعفر رجلاً باروسما؛ فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئاً، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئاً من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلاً إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك. فقال: ما أظنك إلا صادقاً؛ هلم درهمنا. فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟ فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قال: وما مجير أم عامر؛ فذكر قصة الضبع ومجيرها، قال: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئاً.
وذكر عن هشام بن محمد أن قثم بن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم ؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قال: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر:
وللكبراء أكل كيف شاءوا ... وللصغراء أكل واقتثام
وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قال: وأنت مثله! إنا لانلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئاً، وفي منزلنا من هداياه بقية؛ وأنت لم تفعل من هذا شيئاً.
وذكر عن سوادة بن عمرو السلمي، عن عبد الملك بن عطاء - وكان في صحابة المنصور - قال: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه:

ما رأيت رجلاً قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظاً من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئاً نكسره به؛ فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء؛ فخرجت إليه وما في رأسي سوداء؛ وإنه لكما قال الأعشى:
يقوم على الرغم من قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم
أخو الحرب لا ضرع واهنٌ ... ولم ينتعل بنعال خذم
وذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلاً على رجل يقال له أزهر السمان - وليس بالمحدث - وذلك قبل خلافته؛ فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله؛ فأمر له باثني عشر درهم، ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة: قال: أفعل. فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: جئت مسلماً يا أمير المؤمنين؛ قال: إنه ليقع في نفسي أشياء؛ منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى؛ فأمر له باثني عشر درهم أخرى؛ ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة ولا مسلماً، قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ثم لم يابث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله به أن يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئاً.
وذكر الهيثم بن عدي أن بن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغني تجبينك إياي؛ فكتب إليه: يابن هبيرة، إنك امرؤ متعد طورك، جارٍ في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده؛ فرويداً يتم الكتاب أجله؛ وقد ضربت مثلي ومثلك؛ بلغني أن أسداً لقي خنزيراً، فقال له الخنزير: قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيراً؛ فلم أعتقد بذلك فخراً ولا ذكراً، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك.
وذكر عن محمد بن رياح الجوهري، قال: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بن عبد الملك في حرب كانت له، فيعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة - رصافة هشام - يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال : أنت صاحب هشام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قال: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع أن قال: فعل كذا رضي الله عنه؛ فأحفظ ذلك المنصور، فقال: قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي؛ فأمر المنصور برده، وقال:اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت : إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب غربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا يجب أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم؛ ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك. فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور: عند مثل هذا تحسن الضبيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله! وذكر عن حفص بن غياث، عن ابن عياش، قال: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلاماً فيه طعن على سلطانهم؛ فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: اخرج إلى من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رؤوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منزلكم؛ وابقوا على أنفسكم. فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له:

والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت - وكان ابن عياش منتوفاً - فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بن صالح: حدثني محمد بن عقبة الصيداوي عن نصر بن حرب - وكان في حرس أبي جعفر - قال: رفع إلى رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قال: أصبغ! قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قال: بلى، قال: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قال: أخطأت وأمير المؤمنين أولا بالعفو. قال: فدعى أبو جعفر عمارة - وكان حاضراً - فقال: يا عمارة؛ هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءاً، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: علي بكيس عطائي، فأتى بكيس فيه خمسمائة درهم،فقال: خذها فإنك وضح، ويلك، وعليك بعملك - وأشار بيده يحركها - قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قال: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي. قال نصر: ثم أتى به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قال: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين؛ فقدمه فضرب عنقه.
وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، قال: كان خضاب المنصور زعفرانياً وذلك أن شعره كان ليناً لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة؛ فكنت أراه على المنبر يخطي ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه.
وذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي السندي بن شاهك السندي، قال: ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قال: نعم، فقال له المنصور: من أين أتى بنوا أمية حتى انتشر أمرهم؟ قال: من تضيع الأخبار، قال: فأي الأموال وجدتوها أنفع؟ قال: الجوهر، قال فعند من وجدوا الوفاء؟ قال: عند مواليهم، قال: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قال: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه.
وذكر علي بن محمد الهاشمي أن أباه محمد بن سليمان حدثه، قال: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلاً من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فبه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قال: ما هو إلا ما ترى.
قال: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بن محمد، قال: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة؛ وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه - أو قال: بالفقر في ملكه. قال: وحدثني أبي، قال: كان المنصور لا يولي أحداً يعزله إلا ألقاه في خالد البطين - وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقاً لدار صالح المسكين - فيستخرج من المعزول مالاً، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكسب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت المال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع. ثم قال المهدي: إني قد هيأت لك شيئاً ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئاً، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم منهم؛ فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة؛ ففعل ذلك المهدي لما ولى. قال سليمان بن محمد: فكان المنصور ولى محمد بن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد المطلب بن ربيع بن الحارث البلقاء، ثم عزله،وأمر أن يإليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفى معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد - وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقه ووسادتين وطستاً وإبريقاً وأشناندانة نحاس - فوجد ذلك مجموعاً كهيئته؛ إلا أن المتاع قد تأكل، فأخذ ألفي الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال:

لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنها الملقب ربرا المدينة.
وذكر أحمد بن الهيثم بن جعفر بن سليمان بن علي، قال: حدثني صباح بن خانقان، قال: كنت عند المنصور حين أتى برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظراً شديداً، وقال لي: دق أنفه، قال: فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته أعمدة الحرص، فما زال يشهم بها حتى خمد، ثم جر برجله.
قال الأصمعي: حدثني جعفر بن سليمان، قال: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربه وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟
لمن طلل بذات الجيش ... أمسى دارسا ًخلقا
علون بظاهر البيدا ... ء فالمحزون قد قلقاً
فقال: أخذت الغناء من معبد؛ ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب؛ فإنه أحسن تأدية له مني.
قال الأصمعي: وقال جعفر بن سليمان: قال أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتقي منك، قال: ولم يا أبه؟ قال: لأني أكسب خلق الله لرغيف وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئاً، قال: بلى والله، إني لأكسب؛ ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها.
وذكر علي بن محمد بن سليمان الهاشمي؛ أن أباه محمداً حدثه أنه الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى القصب والطوالاً غلاظاً فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها وكانت بنو أمية تفعل ذلك؛ وكان أول من أتخذ الجيش المنصور.
وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه؛ فأتخذ له أبو أيوب الخوارزمي ثياب كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب إن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل؛ وكانت أبرد، فاتخذ له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس.
وقال علي بن محمد بن أبيه: أن رجلاً من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم باللغو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بن محمد، وإنهم آله، واستحلوا الحرمات؛ فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته؛ فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فقتله وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قال: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت. قال: فحكى لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت وخرجت روحه.
قال أحمد بن ثابت مولى محمد بن سليمان بن علي عن أبيه: إن عبد الله بن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بن علي أشرف يوماً ومعه بعض مواليه ومولى بن سليمان بن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بن علي، فقال: من هذا؟ قال له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضباً وصفق يديه عجباً، وقال: إن طريقناً لنبك بعد، يا فلان - لمولى له - انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف:
علام، وفيم نترك عبد شمس ... لها في كل راعية ثغاء!
فما بالرمس في حران منها ... ولو قتلت بأجمعها وفاء
وذكر علي بن محمد المدائني أنه قدم علي أبي جعفر المنصور - بعد انهزام عبد الله بن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد - وفد من أهل الشأم فيهم الحارث بن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث بن عبد الرحمن، فقال:

أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة؛ وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فيما فيما أجرمنا وإن تعفو عنا فبفضلك علينا؛ فاصفح عنا إذا ملكت ، وامنن إذا قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قال أبو جعفر: قد فعلت.
وذكر عن الهيثم ابن عدي عن زيد مولي بن نهيك، قال: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قال: فأين هي؟ قلت أنفقتها الحرة في مأتمه. قال: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قال: كم خلف من البنات؟ قلت: ستاً، فأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: أغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره؛ ولا أدري لم دعيت! قال: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار. ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم؛ قال: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعاً، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك.
وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشرة آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحداً من الناس.
وقال العباس بن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، بني علي بن عبد الله بن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال. وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال؛ فكانت تجري في الدواوين.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم المصلي، قال: حدثني الفضل بن ربيع، عن أبيه، قال: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلساً عاماً ببغداد - وكان وفد إليه منهم جماعة - فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بن حزم، فانتسب ثم قال: يا أمير المؤمنين، قال الأحوص فينا شعراً، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده:
لاتأوين لحزميٍّ رأيت به ... فقراً وإن ألقي الحزميّ في النار
الناخسين بمروان بذي خشبٍ ... والداخلين على عثمان في الدار
قال: والشعر في المدح للوليد بن عبد الملك؛ فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قال الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فأمر باستصفاء أموالهم. فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثاً، فقال له أبو جعفر: لا جرم،إنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قال لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب إلى عماله أن ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته. قال: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس.
وحدثني جعفر بن أحمد بن يحيى، قال: حدثني أحمد بن أسد، قال: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قال: ما يقولون؟ قال: يقولون: عليل؛ فأطرق قليلاً ثم قال: يا ربيع، ما لنا وللعامة ! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بغض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيء عدوهم؛ وقد فعلنا ذلك بهم. ثم مكث أياماً، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل؛ فركب حتى رآه العامة.
وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، قال:

وجه أبو جعفر مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون؛ وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق بنت سليمان بن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها؛ يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه؛ فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعراً، فقال فيها أبياتاً، يقول فيها:
يا ساكن المربد هجت لي ... شوقاً فما أنفك بالمربد
قال: فحدثني أبي فقال: كان المنصور نازلاً على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه؛ وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولاً يأمره أن يتوخى قتل محمد بن أبي العباس، فاتخذ سماً قاتلاً، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها. فكتبت بذلك أم محمد بن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها. فكتب المنصور يأمر بحمله إليه؛ فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطاً ضرباً خفيفاً، وحبسه أياماً، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه.
قال: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتاباً أكدته وأشهدت عليه شهوداً، فعزب بها عشر سنين في سلطانه؛ فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة؛ فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد؛ فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر؛ وكانت أم موسى ولدت له جعفراً والمهدي.
وذكر عن علي بن الجعد أنه قال: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قال: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعاماً ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئاً يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب.
وذكر عن يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: كتب المنصور إلى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا؛ فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلاً، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك.
وذكر أبو بكر الهذلي أن أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت.
وقال الفضل بن ربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح.
وذكر عن أبان بن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور " ولا تبذر تبذيرا " إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت علينا به من عطيتك. قال: وقرأ الهيثم عنده: " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " فقال للناس: لولا أن الأموال حسن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه ديناراً ولا درهماً لما أجد لبذل المال من اللذاذة؛ ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.
ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قال: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه. قال: فمن هناك! قال: وكان المنصور كثيراً ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئاً ولا لاحياً.
وذكر عن قحطبة، قال: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثاً: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك.
وذكر علي بن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه.

وذكر الزبير بن بكار، عن عمر، قال: لما حمل عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قال: تركتها وراءك يابن اللخناء! وذكر عن عمر بن شبة، أن قحطبة بن غدانة الجشمي - وكان من الصحابة - قال: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب في مدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم؛ ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه. وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بن جديد، قال: حدثني بعض الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح.
وذكر أحمد بن خالد، قال: حدثني يحيى بن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " ، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قال: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريماً، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، تلتمس من غيرك شكر ما آتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك. واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك فأكرم وجهك عن رده.
وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، فقال: سمعت إسحاق بن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بن علي والعباس بن محمد.
وذكر عن أحمد بن خالد، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الفهري، قال: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة - وقال قوم: بل خطب في أيام - منى فقال في خطبته: أيها الناس؛ إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه؛ أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه؛ قد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني؛ فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به؛ إذ يقول تبارك وتعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " . أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب.
وذكر عن داود بن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، أذكرك من ذكرت به... فقطع الخطبة ثم قال: سمعاً سمعاً؛ لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جباراً عنيداً، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل؛ فوالله ما أردت بها وجه الله ؛ ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها؛ فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت؛ فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره...ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
وذكر عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قال: قمت إلي أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرأت: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك. قال: فخرجت من عنده سليماً.
وقال عيسى بن عبد الله بن حميد: حدثني إبراهيم بن عيسى، قال: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد - يعني به مسجد المدينة ببغداد - فلما بلغ:اتقوا الله حق تقاته، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق الله حق تقاته...فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعاً سمعاً، لمن ذكر بالله؛ هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئاً، فقال أبو جعفر:

الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به، لايقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه. ثم قال: خذه إليك يا ربيع، قال: فوثقنا له بالنجاة - وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروهاً قال: خذه إليك يا مسيب - قال: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر؛ وجعل عيسى بن موسى يمشي على هيئته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: كأنك خفتني على هذا الرجل! قال: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك؛ إلا أن أمير المؤمنين أكثر علماً، وأعلى نظراً من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه. فلما جلس قال: علي بالرجل، فأتى به؛ فقال: يا هذا؛ إنك لما رأيتني على المنبر، قلت؛ هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك؛ فاشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغيير قدميك في سبيل الله؛ أنطه يا ربيع أربع مائة درهم، واذهب فلا تعد. وذكر عن عبد الله بن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قال: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيباً بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " ، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل؛ والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعداً للقوم الظالمين؛ الذين اتخذوا الكعبة عرضاً، والفيء إرثاً، وجعلوا القرآن عضين؛ لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد؛ أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد؛ ثم أخذهم؛ فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً! وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش قال: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثل:
تفرقت الظباء على خداش ... فما يدري خداش ما يصيد
قال: ثم أمر بإحضار القواد و الموالي والصحابة وأهل بيته، وأمر حماداً التركي بإسراج الخيل وسليمان بن مجالد بالتقدم والمسيب بن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر. قال: فأزم عليه طويلاً لا ينطق. قال رجل لشبيب بن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قال: فافترع الخطبة، ثم قال:
ما لي أكفكف عن سعدٍ ويشتمني ... ولو شتمت بني سعدٍ لقد سكنوا
جهلاً علي وجبناً عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
ثم جلس وقال:
فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن ... لأكشفه إلا لإحدى العظائم
والله لقد عجزوا عن أمرٍ قمنا به، فما شكروا الكافي؛ ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصصٍ، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحداً بإهانة نفسي؛ والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي؛ والسعيد من وعظ بغيره. قدم يا غلام، ثم ركب.
وذكر الفقيمي أن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن مولى محمد بن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الرحمن بن حسن واخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير؛ فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمين؛ فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي؛ فوالله ما كان فيها برجل؛ قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية؛ إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غداً؛ فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه؛ فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه؛ وقد كان أتى محمد بن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب؛ وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل؛ وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها؛ وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم؛ فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة؛ حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصاراً، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها؛ من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلماً وحسداً منهم لنا، وبغياً لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم.
جهلاً علي وجبناً عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالاً فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالاً يعملون عليه؛ فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال؛ فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعةً، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي؛ فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين. ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مريب " .
قال: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال: أيها الناس؛ لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرةً إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه؛ بإعزاز دينه، وإعلاء حقه. إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم. إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا؛ ولم تمنعنا إقامة الحق له من إقامة الحق عليه.
وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الفضل بن الربيع أخبره عن أبيه، قال: قال المنصور: قال أبي: سمعت أبي؛ علي بن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء.
وذكر عن إبراهيم بن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بن جميل الكاتب - وأصله من الربذة - فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته، ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشرة درة، وقال لا تلبس سراويل كتان فإنه من الصرف.

وذكر محمد بن إسماعيل الهاشمي، إن الحسن بن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة وأخاه إبراهيم بياخمري وخرج إبراهيم بن حسن بن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بن أبي طالب بالمدينة كتاباً يذكر لهم فيه إبراهيم بن الحسن بن الحسن وخروجه بمصر، وأنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وأنهم يدأبون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم؛ حتى وثب بنو أبيه غضباً على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بن ربيعة بن معاوية اليربوعي:
فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ... وبالله أحمي عنكم وأدافع
لضاعت أمور منكم لا أرى لها ... كفاةً وما لا يحفظ الله ضائع
فسموا لنا من طحطح الناس عنكم ... ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع!
ومازال منا قد علمتم عليكم ... على الدهر إفضال يرى ومنافع
ومازال منكم أهل غدرٍ وجفوةٍ ... وبالله مغتر وللرحم قاطع
وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم ... وقائع منكم ثم فيها مقانع
وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم ... كذاك الأمور؛ خافضات روافع
وهل تعلون أقدام قوم صدورهم ... وهل تعلون فوق السنام الأكارع!
ودب رجال للرياسة منكم ... كما درجت تحت الغدير الضفادع؟
وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: كان أرزاق الكتاب والعمال أيام أبي جعفر ثلاثمائة درهم؛ فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بن سهل، فأما في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائة إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن أبي مسلم ثلثمائة درهم في الشهر.
وذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة؛ فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذلك عن سعره؛ فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقه حتى يعود سعره ذلك إلى حاله؛ وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك؛ وسأل من بحضرته عن عمله؛ فإن أنكر شيئاً عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه.
وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بن خاقان التميمي، قال: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قال: ذكر الوليد عند المنصور أيام نزوله ببغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا:لعن الله الملحد الكافر - قال: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي بن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة - فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قال: حضرت الوليد بن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعري:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلنا الضعف من ساداتهم ... وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل
فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين؛ فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قال: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلي دين ابن الزبعري يوم قال هذا الشعر.قال: فلعن المنصور ولعنه جلساؤه؛ وقال: الحمد لله على نعمته وتوحيده.
وذكر عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذموماً، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.
وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب إلى العامل هناك:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35