كتاب : أعيان العصر وأعوان النصر
المؤلف : الصفدي

أخبرتنا أن الزمان جميعاً ... قد تقضّى في ليلة الهجران
وأنشدني من لفظه لنفسه:
يعيبون من أهوى بكسرة جفنه ... وعندي لهذا العيب قد تمّ حُسنُهُ
فقلتُ وما قصدي سوى سيف جفنه ... إذا دام فتك السيف يكسَر جفنهُ
وأنشدني أيضاً ما قاله في بستان الصاحب شمس الدين:
ودولاب يحنّ بجسّ عودٍ ... على وترٍ يساسُ بغير جسِّ
فلما أن بدت منه نجوم ... حكى فلكاً يدورُ بسعدِ شمسِ
وأنشدني من لفظه له في مليح ينظر في مرآة:
سَقياً لمرآة الحبيب فإنها ... أمسَت لطلعته البهيّة مَطلعا
واستقبلت قمرَ السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
وأنشدني من لفظه وكان الغزّي يدّعيهما:
كأن السحاب الغرَّ لما تجمّعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها
نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب ومرّ الريح حالب ضرعها
وأنشدني أيضاً، والغزّي يدّعيهما:
ونوّار خشخاش بكرنا نزوره ... وقد دُهش الرائي لحسن صفوفه
تغنّى به الشحرورُ من فرط وجده ... فنقّط بالياقوت ملء دفوفه
وكنت قد سمعت له وأنا بصفد في حدود العشرين وسبع مئة:
كأن ضوء البدر لما بدا ... ونوره بين غصون الغصونْ
وجهَ الحبيب زار عشّاقه ... فاعترضَتْ من دونه الكاشحونْ
ونظم زين الدين عمر بن داود الصفدي أيضاً في ذلك قطعة، وقد تقدمت في ترجمته فأعجبني نظم جمال الدين، وقلت أنا فيه:
كأنما الأغصانُ لما انثنت ... أمام بدر التّمّ في غيهبهْ
بِنتُ مليك خلف شِباكها ... تفرّجت منه على موكبه
وقلت أيضاً:
وكأنما الأغصان تثنيها الصّبا ... والبدرُ من خللٍ يلوحُ ويُحجبُ
حسناء قد عامت وأرخَت شعرَها ... في لجّة والموج فيه يلعب
وقلت أيضاً:
وكأنما الأغصان في دوحها ... يلوحُ لي منها سنا البدر
ترسٌ من التّبر غدا لامعاً ... يقيسه أسودَ بالشّبر
وكتبت أنا إليه ملغزاً في مكوك الحايك:
أيا مَن فاق في الآداب حتى ... أقرّ بفضله الجمُّ الغفيرُ
وأجرزَ في النّهى قصبات سبقٍ ... فدون محله الفلكُ الأثير
وأطلع في سماء النّظم زهراً ... يلوح فمَن زهيرٌ أو جرير
قطعت أولي النُهى في البحث سبقاً ... فما لك في مناظرة نظيرُ
إذا أغربت في الإعراب وجهاً ... فكم ثلجت بما تبدي الصدور
وإن قيل المعمّى والمورّى ... فذهنك نافد فيه بصيرُ
وها أنا قد دعوتك للتّحاجي ... لأنك في الحجى طبٌ خبيرُ
فما ساعٍ يُرى في غير أرض ... ولا هو في السّما مما يطيرُ
تراه مردّداً ما بين طردٍ ... وعكسٍ قصّرت عنه الطيور
ويلطَم كلما وافى مداهُ ... ويُسحب وهو مغلول أسيرُ
وتُنزع كل آونةٍ حشاهُ ... ويُلقى وهو للبلوى صبور
ويُرشف بعد ذلك منه ثغر ... ولا عذبٌ هناك ولا نميرُ
إذا ما سار أثّر في خطاه ... طرائق دونَها الروض النّظيرُ
يجرّ إذا سعى ذنباً طويلاً ... ويفتر حين يعلوه قصور
ويُسمع منه عند الجري صوتٌ ... له في صدره منه خَرير
قليل المكثِ كم قد بات تُطوى ... له من شقّة لما يطيرُ
ويفترش الحرير ويرتديه ... غطاء وهو مع هذا فقير
وتظهر في جوانبه نجوم ... وفي أحشائه فلكٌ يدور
فأوضح ما ذكرت فغيرُ خافٍ ... على مجموع فضلك ما أشير
ودُم في نعمة وسعود جدٍ ... وعزٍ ما سقى روضاً غديرُ
فكتب الجواب في أسرع وقت:

أوجهُك لاحَ أم قمرٌ مُنيرُ ... وذكرُك فاح أم نشرٌ عبيرُ
طلعت طلوع شمس الصحو صُبحاً ... على فرس حكي فلكاً يسيرُ
ويا لله روضاً ضمن طرسٍ ... زهير في جوانبه جرير
رميت به إليّ فقلت هذا ... شعاع الشمس مأخذه عسير
أراني رمزه الوضاح حسناً ... ينبهني على أني حقير
وإني ملحَق بأقل صنفٍ ... إذا ما حقّق الجمُّ الغفيرُ
فمذ صحّفته فكري مَلولٌ ... ومذ نشرته باعي قصير
هو المأسور بالماسور لكن ... له في أسره مرح كثير
نشيط أيّدٌ ويقاد طوعاً ... بخيط متنه واهٍ طريرُ
يُراع لأن مهجته يَراعٌ ... له في الجوف من خوف صغير
يحور الى يمين من شمال ... وما يغنى بذا لكن يخور
غدا يسعى بأربعة سراعٍ ... وليس لمشيه بهم نظير
يخالف بين رجليه فيجري ... وترفعه يداه فيستطير
له نول يسير لكل حي ... وميت فيه إحسانٌ كثير
إذا أسدى إليه الخير مُسدٍ ... جزاهُ عليه وهو بذا قدير
كذاك صفاتك الحُسنى ولكن ... بدأت تطوّلاً وبنا قصور
ففخراً ثم ستراً ثم قَصراً ... فأين الثّمدُ والبحر الغزيرُ
وكتب هو يوماً متقاضياً:
إلى بابك العالي توجهتُ موقناً ... بسرعة نيل القصد قبل التوجهِ
وعادتُنا منك النجاح لقاصدٍ ... نحاك وأنت الجاهُ للمتجوّه
ومن مسّ دهر من تأوّه من له ... سواك وأنت الجبرُ للمتأوّه
فلاقاه بالحمد امرؤٌ وهو مطنب ... لخلق ولست القصدُ للمتفوّه
واقترح علينا يوماً القاضي شهاب الدين بن فضل الله معارضة أحمد بن حسن الموصلي في موشحه الذي أوله:
باسمٌ عن لآلٍناسمٌ عن عطرنافرٌ كالغزالسافرٌ كالبدرِ
فكان الذي نظمه ولم يلتزم قوافيه في الأغصان ولا الحشوات، فقال:
زائرٌ بالخيالزائلٌ عن قربيباهرٌ بالجمالناهر بالعُجبِ
أي غصن نضير ... نزهة للنظرْ
لحظُ عيني خفير ... منه ورد الخفَرْ
يا له من غرير ... في هواه غرَرْ
ساحرٌ بالدّلالِساخرٌ بالصبِّفائقٌ في الكماللائقٌ بالحبِ
بشذا المسكِ فاحْ ... ثغرُ هذا الغزالْ
باسمٌ عن أقاحْ ... أو فريد اللآلْ
ردّ نور الصّباح ... كظلام الليالْ
ريقهُ حين جالفي لماهُ العذبصرتُ بين الزّلالوالهوى في كرب
ذو قوام رطيبْ ... منه تُجنى الحُرَقْ
رام ظلم القضيب ... فاشتكي بالورق
فتثنّى الحبيب ... ورنا بالحدق
مثل بيض النّصالمن سواد الهدبوالعوالي أمالبالقوام الرّطب
لو رآه القسوس ... حسّبته المسيح
وهو يحيي النفوس ... بالكلام الفصيحْ
ما تبينُ الشموس ... عند هذا المليح
خلِّ عنك الغزاليرتعي في الكثبثم قل للهلاليحتجب في الغرب
ثغره في بريق ... إذ جلاه بريق
كل حُر رقيق ... للماه الرّقيق
خده والشقيق ... ذا الهذا شقيق
قد بدا فيه خالكسواد القلبإذ غدا في اشتعالفوق نار الحب
ما لصبّ صبا ... في هواهُ نصيب
منه قبل الصِّبا ... قد علاني الشّيب
يا نسيم الصَّبا ... جُزْ بأرض الحبيب
واجتهد أن تنالمنه طيب القُربثم عد بالنوالمن هدايا حبي
جائرٌ قد ظهر ... عدله في القوام
في الوجود اشتهر ... مثل بدر التّمام
فيه يحلو السهر ... ويمر المنام
صدّ تيهاً وقالوهو يبغي حربيلحظ عيني نبالقلت آه وا قلبي
وكان الذي قلته أنا:
جامح في الدّلالجانح للهجرخاطر في الجمالعاطر في النشرِ
غصنٌ بانَ رطيب ... قد زها بالطّرب

ينثني في كثيب ... بالصّبا عن كثب
ما لقلبي نصيب ... منه غير النّصَبْ
قمر في كمالفوق غصن نضرطالعاً لا يزالفي دياجي الشعر
كم جَلا بالسّنا ... فرقُه لي الصّباح
وحلا في الجَني ... مبسمٌ عن أقاح
إن رَنا وانثنى ... أو تبدّى ولاح
يا حياءَ الغزالوافتضاح السمرواختفاء الهلالوكسوف البدر
خاله كالرقيب ... للعِذار الرّقيم
وسط نار تُذيب ... حول روض وسيم
يتشكّى اللهيب ... في النعيم المقيم
ذاق برد الظلالفي لهيب الجمرواهتدى في الضّلالببروق الثّغر
غضنٌ بانَ يميس ... في رياض الزهرْ
ريقه الخندريس ... في زلالٍ ظهرْ
فيه درٌ نفيس ... في عقيقٍ بهر
جفنه حين صالفي حنايا صدريلو كفاني النّباللاكتفى بالسَّحر
شقّ قلب الشّقيق ... منه خدٌ أنيق
والقوام الرّشيق ... فيه معنىً دقيق
كم سقاني الرحيق ... من فم كالعقيق
بعد ذاك الزلالما حلا لي صبريوالقوام المُمالقام فيه عُذري
يوسف بن سيف الدولةأبي المعالي بن زمّاخ - بالزاي والميم المشددة وبعد الألف خاء مشددة - ابن بركة بن ثمامة بن أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان التغلبي المصري المعروف بابن مهمندار العرب، بدر الدين.
كان شيخاً متجنّداً فاضلاً، شاعراً مؤرخاً، صنّف تصانيف منها كتاب في الأنساب، ومنها كتاب في البديع سمّاه الآيات البيّنات.
أنشدني الشيخ العلامة أثير الدين، قال: أنشدني المذكور لنفسه:
وليلة مثل عين الظّبي وهي معي ... قطعتها آمناً من يقظة الرُقَبا
أردفتُها فوق دهم الليل مختفياً ... والصبحُ يركض خلفي خيله الشهبا
حتى دهاني وعين الشمس فاترة ... وقد جذبت بذيل الليل ما انجذبا
ما هي بأول عادات الصباح معي ... ليلُ الشباب بصبح الشيب قد هربا
وبه قال: أنشدني له:
أعلى الورى همماً أوفاهُم ذمماً ... أسناهم كرماً في كل مبتذل
ماضي العزيمة وهّاب الكريمة دفّ ... اع العظيمة، وثّابٌ بلا فشل
مُعطي الألوف ومِطعام الضيوف ومط ... عانُ الصفوف ومُردي الحادث الجلل
بادي الوسامة، دفّاع الظلامة حمّ ... الُ الغرامة ذو عِلم وذو عملِ
صافي السرائر، صوّام الهواجر قوّ ... امُ الدياجر والإصباح والأصل
تأتي الوفود إليه لا إلى أحد ... ومَن رأى البحر لا يأتي الى الوشلِ
الدهر جسمٌ وأعضاء جسمه دولٌ ... وأنت وحدك فيه جوهر الدول
وأنشدني الشيخ فتح الدين سيد الناس، والشيخ أثير الدين كلاهما، قال: أنشدنا لنفسه:
فلا تعجب لحُسن المدحِ مني ... صفاتك أذكرت حكمَ البوادي
وقد تُبدي لك المرآة شخصاً ... ويُسمعك الصّدى ما قد تُنادي
وأنشدني الشيخ أثير الدين قال: أنشدني له:
ما شيمةُ العرب العَرْباء شيمتُكم ... ولا بهذا عُرِفنَ الخرّدُ الغيدُ
كانت سُليمى ولبنى والرّباب إذا ... أزمعنَ هجراً أتتهنّ المواعيد
ودار بينهما فحوى مُعاتبةٍ ... أرقُّ مما أراقته العناقيد
وآفة الصبِّ مثلي أن يبثّ جوىً ... لمن يحبُّ ولا يُلوى له جيد
ومن شعره:
إن كنتَ تفخر أن تفوهَ بوصفه ... حُسناً ومثلك من يفوقُ قريضُهُ
سَل عن سواد الشّعر نرجسَ طرفه ... يخبرْكَ بالليل الطويل مريضه
ومنه:
ما إن عجبتُ لكون نيلك فاتني ... لسواد لحظي وهو بحرٌ مزبدُ
لكنني متعجّب كيف اختفى ... بين الأيادي البيض حظ أسود
ومنه:
كنا إذا جئنا لمن قبلكم ... أنصف في التّرحيب قبل القيامْ
واليوم صِرنا حين نأتيكم ... نقنع منكم بلطيفِ الكلام

لا غيّر الله بكم خيفةً ... من أن يجيء من لا يردّ السلام
وأنشدني الشيخ قطب الدين عبد الكريم إجازة، قال: أنشدني لنفسه:
مسائل دورٍ شيبُ رأسي وهجرُها ... فكل على كل له سببٌ يُنبي
فأحلِفُ لولا الهجرُ ما شاب مفرقي ... وتُقسم لولا الشيب ما كرهتْ قربي
قلت: كنت قد سمعت أنا الشيخ العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية ينشد هذين البيتين، ويترنّم بهما، فأعجباني، ونظمت المعنى مختصراً وقلت:
مسألة الدور بنا ... عجبت من وجودها
صدّت لشيبٍ قد بدا ... والشيبُ من صدودها
ولما خاض السلطان الملك الظاهر بيبرس الفرات ورمى بنفسه وبالجيوش فيه، قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر - رحمه الله تعالى:
تجمّع جيش الشّرك من كل وجهة ... وظنوا بأنّا ما نُطيق لهم غلبا
وجاؤوا الى شاطي الفرات وما دروا ... بأن جياد الخيل تقطعها وثْبا
وجاءت جنود الله في العُدد التي ... تُميس به الأبطال يوم الوغى عُجبا
فعُمنا بسدٍّ من حديد سباحةً ... إليه فما اسطاع العدو له نقْبا
ولما سمع ابن مهمندار العرب ذلك، قال: أنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني لنفسه:
لو عاينتْ عيناك يوم نزالنا ... والخيل تطفح في العجاج الأكدر
وسنا الأسنّة والضياء من الظبى ... كشفا لأعيننا قتام العثير
وقد اطلخمّ الأمر واحتدم الوغى ... ووهى الجبان وساء ظن المجتري
لرأيت سداً من حديد مائراً ... فوق الفرات وفوقه نارٌ تري
ورأيت سيل الخيل قد سدّ الرُبا ... ومن الفوارس أبحُراً في أبحر
ظفرتْ وقد منع الفوارس مدّها ... تجري ولولا خيلُنا لم تطفر
حتى سبقنا أسهُماً طاشت لنا ... منهم إلينا بالخيول الضّمر
لم يفتحوا للرمي منهم أعيُناً ... حتى كُحلنَ بكل لدنٍ أسمر
فتسابقوا هرباً ولكن ردّهم ... دون الهزيمة رمح كلّ غضنفر
ملؤوا الفضاء فعنْ قليل لم ندع ... فوق البسيطة منهم من مُخبر
سدّت علينا طُرقنا قتلاهم ... حتى جنحنا للمكان الأوعر
ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ... لو أنها برؤوسهم لم تعثرِ
من كل أشهب خاض في بحر الدِّما ... حتى بدا لعيوننا كالأشقر
كم قد قلعنا صخرةً من صرخةٍ ... ولكم ملأنا محجراً من محجر
وجرى دماؤهم على وجه الثّرى ... حتى جرت منها مجاري الأنهر
والظاهر السلطان في آثارهم ... يُذري الرؤوس بكل عضبٍ أبتر
ذهب العجاج مع النّجيع بصقله ... فكأنه في غمده لم يُشهر
إن شئت تمدحه فقف بإزائه ... مثلي غداة الروع وانظم وانثر
قلت: هذه الأبيات الأخيرة الأربع ليست من رواية الشيخ أثير الدين.
وكتب ناصر الدين ابن النقيب الى بدر الدين بن مهمندار العرب:
أيوسُفُ بدر الدين والحُسنُ كله ... ليوسف يُعزى أو الى البدر يُنسب
أتيت أخيراً غير أنك أول ... تعدّ من الآحاد شعراً وتُحسب
وأحسن ما في شعرك الحرّ أنه ... به ليس تستجدي ولا تتكسّب
وتوفي بدر الدين - رحمه الله - في حدود السبع مئة.
ومولده سنة اثنتين وست مئة.
ومن شعره العذب، ونظمه الذي كأنه في الصّقال عضب، قوله:
عسى الليالي وفي قولي عسى خدع ... تردّ لي من زماني بعض ما ذهبا
بانوا بأبهى من الدنيا وزينتها ... عندي وأكرم مطلوب إذا طلبا
كالغصن منثنياً كالظبي ملتفتاً ... كالشمس مبتسماً كالبدر منتقبا
كم بتّ أرشفُ صغراً حشوه درر ... وكلما زدتُ لثماً زادني لهبا
منها في المديح:
مَن حاتمٌ وعطايا جوده جملٌ ... وجودُ ذا جمل تترى ولا عجبا

لكن هو الحظّ ذكر الغيث سار وما ... هَمى لجيناً على عافٍ ولا ذهبا
وسار جدواه في الدنيا وساكنها ... فأدبر الفقرُ عنهم ممعناً هربا
فاضمُم يديك على مالٍ حباك به ... تعوّد البذل، لو قيّدته وثبا
وارفقْ بنفسك لا تعديكَ راحته ... فتغرق الناس من بعض الذي وهبا
يوسف بن شاذيابن داود بن شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، الأمير صلاح الدين ابن الملك الأوحد ابن الملك الزاهر ابن الملك المجاهد، تقدّم ذكر والده الأوحد في مكانه من حرف الشين.
كان الأمير صلاح الدين من أحسن الناس صورة، وهو أمرد، وعمل الإمرة من أحسن ما يكون. وكان ذهنه في العمائر وغيرها ذهناً جيداً صحيحاً، ليس في دمشق أحسن من بستانه، ولا من العمارة التي رتّبها فيه. وكان الأمير سيف الدين تنكز قد مال إليه، وأحبّه، وكان يطلع الى بستانه، ويأكل ضيافته فيه، وكانت تكون شيئاً عظيماً.
ولما أمسك السلطان تنكز وأمسك بعده الأمير سيف الدين بشتاك الأميرين سيف الدين ألجيبغا، وسيف الدين طيبغا حاجي وأودعهما الاعتقال بقلعة دمشق لاختصاصهما بتنكز داخل الأمير صلاح الدين الرُعب والفزع، فانقطع في بستانه بالمرض جمعة.
ومات - رحمه الله تعالى - في صفر سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان قد لبس خلعة الإمرة في يوم الخميس عاشر شهر رجب الفرد سنة ثماني عشرة وسبع مئة لأنه كان قد توجّه الى مصر بتقدمة حسنة مليحة، فرُسم له بالإمرة.
يوسف بن عبد اللهابن محمد بن عطاء بن حسن بدر الدين أبو المحاسن العدل ابن قاضي القضاة شمس الدين الأذرعي الحنفي الصالحي.
كان فقيهاً فاضلاً مهيباً. سمع من ابن الزبيدي، وجمال الدين بن الحصيري. وحدّث عنه ابن الخبّاز.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين وست مئة.
ومولده سنة تسع عشرة وست مئة.
يوسف بن أبي عبد اللهابن يوسف بن سعد جلال الدين أبو المحاسن النابلسي الدمشقي الشافعي.
كان قاضياً مفتياً، سمع من خالد الحافظ - وكان عمه - ومن مجد الدين الإسفراييني، والمرسي، وشيخ الشيوخ وطائفة.
وأم بالشامية، وأعاد بها، وعرف بجودة النقل، وولي قضاء بعلبك، وكان حميد الأحكام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حدود عشر وسبع مئة.
ومولده قبل الأربعين وست مئة.
يوسف بن عبد الرحمنابن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر، الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدّثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي القضاعي الكلبي، الحلبي المولد، خاتمة الحفّاظ، ناقد الأسانيد والألفاظ.
طلب الحديث في أول سنة خمس وسبعين وست مئة، وهلمّ جرا الى آخر وقت، لا يفتر عن الطلب والاجتهاد والرواية والتسميع.
سمع من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، وابن الحرستاني، وحنبل، ثم ابن ملاعب الرّهاوي، وابن البنا، ثم ابن أبي لقمة، وابن البن، وابن مكرّم، والقزويني، ثم ابن اللتي، وابن صبّاح، وابن الزبيدي. وأعلى ما سمع بإجازة عن ابن كليب، وابن بوش، والجمّال، وخليل بن بدر، والبوصيري، وأمثالهم، ثم المؤيّد الطوسي، وزاهر الثقفي، وعبد المعزّ الهروي. وسمع الكتب الأمهات المسندة، والكتب الستة، والمعجم الكبير، وتاريخ الخطيب، والنّسب للزبير، والسيرة والموطأ من طرق، والزهد، والمستخرج على مُسلم، والحلية والسُنن للبيهقي، ودلائل النبوة، وأشياء يطول ذكرها. ومن الأجزاء ألوفاً. ومشيخته نحو الألف.
وسمع أبا العباس بن سلامة، وابن أبي عمر، وابن علان، والشيخ محيي الدين النووي، والزواوي، والكمال عبد الرحيم، والعز الحراني، وابن الدّرجي، والقاسم الإربلي، وابن الصابوني، والرشيد العامري، ومحمد بن القواس، والفخر بن البخاري، وزينب، وابن شيبان، ومحمد بن محمد بن مناقب، وإسماعيل بن العسقلاني، والمجد بن الخليلي، والعماد بن الشيرازي، والمحيي بن عصرون، وأبا بكر بن الأنماطي، والصّفي خليلاً، وغازياً الحلاوي، والقطب بن القسطلاني وطبقتهم، والدمياطي شرف الدين، والفاروثي، واليونيني، وابن بلبان، والشريشي، وابن دقيق العيد، والظاهري، والتقي الإسعردي، وطبقتهم. وتنازل الى طبقة سعد الدين الحارثي، وابن نفيس، وابن تيمية.

ولم يتهيّأ له السماع من ابن عبد الدائم، ولا الكرماني، ولا ابن أبي اليسر، ونحوهم. ولا أجازوا له، مع إمكان أن تكون له إجازة المرسي، والمنذري، وخطيب مردا، واليلداني، وتلك الحلبة.
وحفظ القرآن، وعُني باللغة، فبرع فيها، وأتقن النحو والتصريف.
وكان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان وحافظ العصر، وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا كان له مشروباً ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا، أو الحاكم لقال: لأمرُهُ دائم النفوذ، وكان الى حرمه يعود وعليه يعول وبه يعود، أو ابن نقطة، لأغرقته بحاره الزّخّارة، ورأى خطه المستقيم خارجاً عن دائرته، وبدره لا يدخل معه في هذه الدّارة، أو ابن عساكر لعلم أنه ليس من أبطاله، ولا عدّه الطّلبة من أتباعه ولا رجاله.
أتقن أسماء الرجال، وحرّر صيغها، وتجاوز الغاية، ومن أول ما خطا بلغها، وكان أمره في ذلك عجباً عاجباً، وإذا أمّ مقصداً في ذلك لم يجد له دونه حاجباً، كأنما عناه السّراج الورّاق بقوله:
أين إمامٌ في الحديث مثله ... تضربُ آباطاً إليه الإبلُ
ذاد عن السُنّة كل مفترٍ ... به جلي الدُجا وحُلّ المُشكل
وكان في علم الرجال أوحداً ... بحيث قال العلم: هذا الرجل
أتقنهم معرفةً يقول ذا ... مستعملٌ وقول ذاك مهمَل
وأما اللغة، فأبو عبيدة يكون عبده، والأصمعي أصمّ عيّه من يسمع كلامه بعده.
وأما النحو، فليس لأبي علي معه حجة، ولا لابن خالويه عنده قولٌ يتوجه.
وأما التصريف فما ابن جنّي عنده ابن آدم، ولا المازني من رجاله إن صادفه، أو صادم.
ولم يزل على حاله الى أن خلت منه الربوع، وجرت الجفون عليه دماً بعد الدموع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
ومولده بظاهر حلب في عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وست مئة.
ودفن بمقابر الصوفية.
وكان فيه حياءٌ وسكون، وحلم واحتمال، وقناعة واطّراح تكلّف، وترك التجمل والتودد الى الناس، مع الانجماع عنهم، وعدم الكلام إلا أن يُسأل فيجيب ويُجيد، وكلما طالت مجالسة الطالب له ظهر فضله، لا يتكثّر بفضائله، ولا يغتاب أحداً. وكان يصعد الى الصالحية ماشياً، لا يركب بغلاً ولا حماراً، وهو في عشر التسعين، ويستحمّ بالماء البارد في الشيخوخة، إلا أنه كان قد امتحن بأمر المطالب، وتتبّعها، فعثر به جماعة من الشياطين، وأكلوا معه، فكان لا يزال في فقر لأجل ذلك.
وحجّ، وسمع بالحرمين والقدس ودمشق ومصر وحلب وحماة وحمص وبعلبك، والإسكندرية وبُلبيس وقطيا، وغير ذلك. وأوذي مرة، واختفى مدة من أجل سماع تاريخ الخطيب. وأوذي مرة أخرى لأجل قراءة شيء من كتاب أفعال العباد مما يتأوّله الفضلاء المخالفون، وحبس.
ولما توفي ابن أبي الفتح حصل له من جهاته حلقة الخضر والحديث بالناصرية، فأضاءت بذلك حاله، واتسع رزقه، ثم إنه ولي دار الحديث الأشرفية بعد ابن الشُريشي سنة ثماني عشرة وسبع مئة، التزم بمذهب الشافعي، وأشهد عليه بذلك، وذكر الدّرس بالأشرفية في ثالث عشري الحجة من السنة المذكورة. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: لم يلِ هذه المدرسة من حين بنائها الى الآن، أحق بشرط الواقف منه، وقد وليها جماعة كبار مثل ابن الصّلاح ومحيي الدين النواوي وغيرهما، لأن الواقف قال: فإن اجتمع من فيه الرواية، ومن فيه الدراية قدّم من فيه الرواية.

وأخبرني من لفظه شيخنا الذهبي، ونقلته من خطه، قال: ما رأيت أحداً في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي، وسمعته يقول في شيخنا أبي محمد الدمياطي إنه ما رأى أحفظ منه، وكان الدمياطي يقول: إنه ما رأى شيخاً أحفظ من زكي الدين عبد العظيم، وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي ابن المفضّل، ولا رأى ابن المفضّل أحفظ من الحافظ عبد الغني، ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني، إلا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر، فقد رآه، ولم يسمع منه، ولا رأى ابن عساكر والمديني، أحفظ من أبي القاسم اسماعيل بن محمد التيمي، ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر ابن ماكولا، ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبي بكر الخطيب، ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبي حازم العبدوي، ولا رأياً أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندَه، ومعهما الحاكم. وكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة الأصفهاني. وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحيى بن زهير التُستَري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زُرعة الرازي. وأما الدارقطني فما رأى مثل نفسه، وكان الحاكم يقول: ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر الجعابي، وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة، ولا رأى ابن عُقدة، ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي، ولا رأى النسائي مثل إسحاق بن راهويه، ولا رأى أبو زرعة أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وقد رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة، ولا رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري، ولا رأى البخاري - فيما ذكر - مثل علي بن المديني، ولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل، ولا مثل يحيى بن معين، وابن راهويه، ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطّان، ولا رأى هو مثل شعبة وسفيان ومالك، ولا رؤوا مثل أيوب السخستياني، نعم، ولا رأى مالك مثل الزُهري، ولا رأى مثل ابن المسيّب، ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة رضي الله عنه، ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين، ولا رأى مثل أبي هريرة، نعم، ولا رأى الثوري مثل منصور، ولا رأى منصور مثل إبراهيم، ولا رأى إبراهيم مثل علقمة، ولا رأى علقمة كابن مسعود، فيما زعم.
وقال شيخنا الذهبي: لم يسألني ابن دقيق العيد إلا عنه. وقال الذهبي أيضاً: وكان قد اغترّ في شبيبته، وصحب عفيف الدين التلمساني، فلما تبيّن له ضلاله هجره وتبرّأ منه. وقال الذهبي: وكان يترخّص في الأداء من غير أصول، ويُصلح كثيراً من حفظه، ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين، ويتوسّع، وكأنه يرى العمدة على إجازة المُسمع للجماعة، وله في ذلك مذاهب عجيبة، وكان يتمثّل بقول ابن مندة: يكفيك من الحديث شمّه.
وصنّف كتاب تهذيب الكمال في أربعة عشر مجلداً. كسف به الكتب المتقدمة في هذا الشأن، وسارت به الرُكبان، واشتهر في حياته، وصنّف كتاب الأطراف للكتب الستة في ستة أسفار، وخرّج لجماعة.
قال الذهبي: وما علمته خرّج لنفسه لا عوالي ولا موافقات ولا معجماً، وكل وقت ألومه في ذلك فيسكت، وقد حدّث بكتابه التهذيب خمس مرات، وحدّث بالصحيحين مرات، وبالمسند ومعجم الطبراني وبدلائل النبوة ويكتب جمّة، وحدّث بسائر أجزائن العالية وبكثير من النازلة.
وقال الذهبي أيضاً: أعلى ما عنده مطلقاً الغيلانيات وجزء ابن عرفة وابن الفرات بإجازة.
وسمع منه الذهبي سنة أربع وتسعين، وأخذ عنه صحيح البخاري غير مرة. واستملى منه العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وشيخنا ابن سيد الناس، ومحب الدين وأولاده، وشمس الدين السروجي، وابن الدمياطي وابن عبد الهادي وابنا السفاقسي، والشيخ تقي الدين بن رافع، وسبط التنيسي، وخلائق. وتخرّج به جماعة كشيخنا علم الدين البرزالي، والشيخ صلاح الدين العلائي، والشيخ عماد الدين بن كثير، وابن عبد الهادي، وابن العطار، وابن الفخر، وابن الجعبري، وغيرهم.

وقال شيخنا الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في حقه: ووجدت بدمشق الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصراً دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمداً آثار السلف الصالح، مجتهداً فيما نيط به في حفظ السّنة من النصائح، معرضاً عن الدنيا وأشباهها، مقبلاً على طريقه التي أربى بها على أربابها، لا يبالي ما ناله من الأزل، ولا يخلط جدّه بشيء من الهزل، وكان بما يضعه بصيراً، وبتحقيق ما يأتيه جديراً، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام، وكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز، وأستفيد من حديثه الذي إذا طال لا يملل، وإن أوجز وددت أنه لم يوجز، وهو الذي حداني على رؤية الشيخ تقي الدين بن تيمية.
قلت: وكان معتدل القامة، مشرباً حمرة، قوي التركيب، متع بذهنه وبحواسه، ولم أر بعد الشيخ فتح الدين بن سيد الدين من يحكم ترقيق الأجزاء وترميمها مثل الشيخ جمال الدين، ولم يستعر مني شيئاً فأعاده إلا وقد نبّه فيه على نكتة كنت محتاجاً إليها حتى في إجازة الشيخ فتح الدين بن سيد الناس لي. وفيه قلت:
درتُ على أشياخ عصري فيا ... فخري بما نلتُ ويا عزّي
وذقتُ طعم الكل في علمهم ... فلم أجد أحلى من المزي
وسمعتُ صحيح مسلم على البندينجي، وهو حاضر بقراءة ابن طغريل، وعدة نسخ حاضرة صحيحة، يقابل بها فيردّ الشيخ جمال الدين - رحمه الله - على ابن طغريل اللفظ، فيقول ابن طغريل: ما في النسخة إلا ما قرأت، فيقول من في يده بعض تلك النسخ الصحيحة: هو عندي، كما قال الشيخ، أو هو مظفّر عليه أو مضبّب أو في الحاشية تصحيح ذلك، ولما تكرر ذلك، قلت أنا له: ما النسخة الصحيحة إلا أنت.
وقرأت عليه من لفظي ديوان خطب ابن نُباتة والأربعين النووية، وسمعت عليه من الأجزاء كثيراً، وسمع هو شيئاً من شعري بدار الحديث، وقرأت عليه كتاب الشمائل للترمذي بعدما كتبته بخطي، ولم أر في أشياخي بعد شيخنا أثير الدين في العربية مثله خصوصاً في التصريف واللغة، إلا أنه مع إتقانه لأسماء الرجال وله فيها هذا المصنف العظيم، لم يكن يعتني بتراجم العالم من الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والقراء والأطباء والأدباء والشعراء، ولا له فيها مشاركة البتّة، وإنما كان يعتني برجال الحديث لا غير، ولقد سألته مرة عن القالي بالقاف، والفالي بالفاء، فقال: لا أعرف إلا الفالي بالفاء فعلمت أنه ليس له عناية بغير رواة الحديث، وإلا فأبو علي القالي بالقاف مشهور بين صغار الأدباء، ولكن عندي من الشيخ جمال الدين فوائد وقواعد في أسماء رجال الحديث، لم آخذها إلا عنه، ولا وجدتها في كتاب، وكان أسماء الرجال الذين يجيء ذكرهم في سماعاته وطرقه يجيد الكلام في طبقاتهم وأحوالهم وقوتهم وضعفهم ولينهم، وكان في ذلك بحراً لا يشق ثبجه وعجاجاً لا ينحط قتامه.
ولما كان في سنة خمس وسبع مئة. تكلم الشافعية وغيرهم مع الشيخ تقي الدين بن تيمية وبحثوا معه في القصر الأبلق، وبحث معه صفي الدين الهندي ثم كمال الدين بن الزملكاني، وخرجوا، وانفصلت القضية، فلما كان بعد ذلك في يوم الإثنين ثاني عشري شهر رجب الفرد قرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلاً في الردّ على الجهمية من كتاب أفعال العباد تصنيف البخاري، وكانت قراءته لذلك تحت قبة النسر في المجلس المعقود لقراءة الصحيح، فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين، وقالوا: نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر الى قاضي القضاة الشافعي، فطلبه، وحبسه، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية، فتألم لذلك، وأخرجه من الحبس بنفسه، وخرج الى القصر الأبلق، واجتمع هو وقاضي القضاة هناك وردّ عن المزي، وأثنى عليه، وغضب قاضي القضاة، وأعاد المزي الى الحبس بالقوصية، فبقي أياماً، ثم أُفرج عنه، ونادى الأفرم في دمشق أنه أي من تكلم في العقائد حلّ ماله ودمه.
وكنت قد كتبت أنا له توقيعاً بمشيخة دار الحديث النورية عوضاً عن الشيخ علم الدين البرزالي - رحمه الله تعالى - وذلك في المحرم سنة أربعين وسبع مئة، ونسخته:

رسم بالأمر العالي، لا زالت أوامره المطاعة تزيد العلم الشريف جمالاً، وتزينه بمن يفيده كمالاً، أن يرتب المجلس السامي الشيخي الجمالي في كذا ثقة بأنه الثقة، والعالم الذي لغيره المقت وله المقة، والمحدّث الذي متى فاه بما عنده بادر كل أحد بالقبول وصدقه، والحبر الذي إذا تكلم نسخ كلام من تقدم بأقواله المحققة، والحافظ الذي اجتحف سيله ابن نقطة فأغرقه، والناقد الذي كدر على ابن معين صفوه ورنّقه، والمصنّف الذي شيب من ابن أبي شيبة مفرقه، والمسند الذي لو عاصره عبد الرزاق حرمه الرحلة إليه مما رزقه، والمتأخر الذي لا يعرف بعد الدارقطني مثله، وربما تقدمه في فنّه المحرر وسبقه.
فليباشر ما فوض إليه مباشرة يتضوّع من نشر السنة بها النشر، ويكون للحديث الشريف حفظ يدوم الى الحشر، مجتهداً في البيان للطلبة، والإعانة لهم على سلوك المعرفة، فمحجّتها بالغموض منتقبة، لأن تهذيب كماله ليس للبدر في تمامه كما له، وأطرافه سار في الأطراف، فما ينكره علماء الحديث ولا رجاله، وإتقانه للأسماء إتقان تزأر في غابة أسوده وأشباله، ومحله من الحفظ محل يعزّ على صاحب الاستيعاب مناله، وإعرابه لو عاصره أبو البقاء لم يظفر بلبابه، وتصريفه لو عاينه ابن جني ما دخل سوقه على تصنيفه الملوكي برفع حجابه، ولغته لو سمعها ابن الأعرابي ما نقل شيئاً عن أعرابه.
ولينزّل الطلبة منزل البنين في الحنوّ عليهم عند الهفوة، ولا يكن فيه قسوة المعلمين على من في ذهنه فترة، ولم يكن من الفهم في الذروة، وليجْلُ عليهم حسن وجه الإقبال، وإذا كان المؤمنون إخوة فيوسف أحسن الإخوة، حتى يوضح لهم ما أبهم من الأسانيد المظلمة، والأسماء التي هي لتساوي صورها مبهمة، والألفاظ التي هي لولا القرائن موهمة.
ولينبّه على الصحيح إذا ورد، والحسن إذا أضاء وجهه لمن انتقد، والضعيف إذا اعتلّ متنه ولم يصح له سند، والموضوع الذي لا يعرفه إلا من امتاز برتبته وانفرد، وليحرر لهم الألفاظ إذا رواها، ويحقق مخارجها الصحيحة الفصيحة التي فاخر بها هذا اللسان العربي وباهى، ويحترز في أدائها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " عاملاً في ذلك بشرط الواقف أثابه الله فيما يبدي ويعيد، ولا يتعدّ ما قرره، فإن الله تعالى يرى عمله، وقد استفاض في الواقف أنه شهيد، والوصايا كثيرة، وعنه تصدر بالإفادة جميع وفودها، ومن أفق فضائله تتألق كواكب سعودها، وتقوى الله عز وجل ملاك أمرها، وسداد ثغرها، فلا يتعرّ منها منكبه، ولا يتعدّ عنها مركبه، والله تعالى يمدّ في أجله، ويبلّغ كلاً من الطلبة في بقائه غاية أمله.
والخط الكريم أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
يوسف بن عبد الغالبابن هلال الإسكندري العلاف.
كان عامياً، ولكن له النظم الحلو، وروى عنه الفضلاء، وكتبوا شعره.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في بلده سنة عشرين وسبع مئة.
ومن شعره، وقيل إنه لابن الوحيد:
وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثباتٌ في الحشا وثباتُ
تؤجج ناراً وهي في العين جنة ... وتعطيك طعم المرّ وهي نبات
ومنه:
كم قلت للحائك الظريف وفي ... يمينه طاقة يخلّصها
هل لك في ردّ مهجةٍ لفتى ... ليس له طاقة يخلّصها
يوسف بن عبد المحمودابن عبد السلام، الشيخ الإمام العالم جمال الدين البتّي الحنبلي.
كان من فضلاء العراق ببغداد.
توفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشر شوال سنة ست وعشرين وسبع مئة.
وكان إليه المرجع في القراءات والعربية.
يوسف بن عمر بن الحسينالشيخ العدل المعمر بدر الدين الختني - بالخاء المعجمة وفتح التاء ثالثة الحروف وبعدها نون - المصري.
حضر في الرابعة على ابن رواج وتفرد به، وسمع من صالح المدلجي، والمرسي، والبكري، وابن اللمطي، وتفرّد بأشياء، وله مشيخة، روى منها عن نيّف وستين نفساً، وأكثر الطلبة عنه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء منتصف صفر سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة.
ومولده في سنة خمس وأربعين وست مئة.
يوسف بن محمدابن مظفّر بن حماد، جمال الدين الحموي الشافعي، مفتي حماة وخطيبها بالجامع الكبير.

حدّث بجزء ابن الأنصاري عن مؤمّل البالسي، والمقداد القيسي.
وكان على قدم متين من العلم والعمل والتعبّد ونشر العلم.
وكان فقيهاً شافعي المذهب، مشاركاً في الأصلين والنحو، أديباً شاعراً قدم القاهرة، وحدّث بشيء من شعره، وكتب عنه الفضلاء.
أنشد شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا أبو المحاسن يوسف لنفسه:
وددت لو كان يهوى عاذلي ليرى ... حال المحبّ على الأشواق والفكر
يتلو الملام على سمعي فيكذبه ... قلبي بناءً على ما قد رأى بصري
يا فاضح الغصن من عطفيه في هيف ... ومخجل الظبي من عينيه بالحور
إني ومدمعُ عيني سائلٌ أبداً ... حرمت جفني لذيذ النوم بالسهر
عسى توفي غريم الحب قبلته ... فيلتقي الحسن بين الغصن والقمر
وعلّ طيفك يسري نحو عاشقه ... إن استقرّت به تهويمة السحر
وأنشدنا أيضاً له:
ولما أن قضى أجلي بهجر ... وسرت كليم وجدٍ لا محاله
بجانب خدّه آنست ناراً ... ولكني وجدتُ بها ضلالهْ
وتوفي - رحمه الله تعالى - في آخر نهار الأحد سابع ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة عن أربع وستين سنة، وتأسف الناس عليه، رحمه الله تعالى.
يوسف بن محمدالشيخ الإمام العالم صلاح الدين بن المغيزل الحموي الشافعي، مفتي حماة وخطيبها.
كان كهلاً، مفنّناً في العلوم مناظراً، له محفوظات وفضائل، وحدث عن الشيخ شمس الدين بن قدامة.
حكي لي شمس الدين بن النّصيبي بحلب، قال: بحث يوماً صلاح الدين بن المغيزل هو والشيخ صدر الدين بن الوكيل بحضور ابن البارزي قاضي حماة من بكرة الى أن قال المؤذن للظهر: الله أكبر، فقال القاضي شرف الدين: طوّل الله في عمريكما للمسلمين، سروراً بهما، أو كما قال.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة تسع عشرة وسبع مئة بحماة.
يوسف بن محمدصلاح الدين ابن الملك الحافظ غياث الدين ابن الملك السعيد شاهنشاه ابن الملك الأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب.
سمع جزء إسماعيل الصفّار على إسماعيل العراقي حاضراً في الثالثة سنة ست وأربعين وست مئة.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في خامس عشري ذي القعدة سنة خمس وسبع مئة.
يوسف بن محمد بن عثمانالسيف، الناسخ، الدلال على الكتب بجسر اللبّادين بدمشق.
أصله من سرخس، رأيته غير مرة ينادي على الكتب، وينسخ، وهو شيخ قد أنقى.
وكان رزيّ الحال. كتب كثيراً من الدواوين المتأخرة، خصوصاً ديوان ابن قزل المشدّ وديوان ابن محاسن الشوّاء.
وكان يقول: أنا قبّلت قُبلة بألف درهم، يفتخر بذلك.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة إحدى وعشرين وسبع مئة.
يوسف بن محمد بن منصورابن عمران المحدث الفاضل أبو الفضل الهلالي الحوراني.
كتب أحكام الضياء، وقرأه على ابن الكمال، وحفظ متوناً جمة، وقرأ الحديث على ابن عبد الدائم، وصحب محموداً الزاهد الدمشقي، وسمع بمصر من الرشيد العطار، وكتب عنه الجماعة، وكان يقرأ على كرسي بالجامع من حفظه، وربما قرأ في القرى، فيهبونه.
وكان ديّناً قانعاً.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة عشر وسبع مئة.
يوسف بن محمد بن يعقوبابن إبراهيم، القاضي الإمام العالم شهاب الدين بن الصاحب محيي الدين بن النحاس الحلبي الحنفي.
كان صدراً كبيراً، خلف والده في تدريس المدرستين الريحانية والظاهرية، وباشر في حياة والده نظر الخزانة، وباشر بعد موته نظر الجامع مدة، وكان معيّناً للمناصب الكبار.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
يوسف بن محمد بن عبيد اللهالقاضي صلاح الدين كاتب الدرج السلطاني بالقاهرة.
كان كاتباً مأموناً، اعتمد عليه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر ومن بعده. ولم يزل مقدّماً عند كاتبي السر واحداً بعد واحد الى آخر أيام القاضي علاء الدين بن الأثير، وكان يستكتبه في المهمات، وكان يلازم الديوان، تطلع الشمس وتغرب عليه وهو في الديوان، أقام كاتب درج مقدار خمس وخمسين سنة.

وكان ساكناً خيّراً، ليس فيه شر البتة، محتملاً أذى رفاقه، رأيتهم وهم يسبونه في وجهه، ولا يرد عليهم، خصوصاً القاضي قطب الدين بن المكرم، كان يقول له: لعن الله والديك يا كلب يا ابن الكلب، يا عبد النّحس يا ابن الأمة، ولا يردّ عليه حرفاً. هذا وهو المقدّم على الجميع.
وكان أسمر اللون، قطط الشعر، صغير الذقن.
ولما حصل الفالج للقاضي علاء الدين بن الأثير، طلبه السلطان الملك الناصر محمد ليكتب بين يديه شيئاً في السر على أن يجعله كاتب سر، فلما أخذ الأمير سيف الدين ألجاي الدوادارية، ودخل به في دهليز القصر، أحدث في سراويله، فأعفي من الدخول، وكبرت سنّه، وعورت عينه، وانهدّت أركان قواه، وهو ملازم الخدمة، فكنت أقول له: لو وفرت نفسك وقعدت في بيتك كان خيراً، وكان يقول: أخاف أنهم يقطعون معلومي. ولم يكن أحد يقدم على ذلك لقدَم هجرته، وثبوت قدمه في الخدمة، ولكن كل ذلك من ضعف نفسه، وكان يكتب خطاً رديئاً ضعيفاً.
ولم يزل على حاله حتى توفي - رحمه الله تعالى - في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وكان معلوم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قد رُسم به للقاضي شهاب الدين محمود، ولم يزل عليه الى أن خرج الى دمشق كاتب السرّ، فأعطى المعلوم للقاضي صلاح الدين بن عبيد الله، ولما توفي رسم بالمعلوم للقاضي جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود.
يوسف بن محمد بن محمدابن عبد الرحمن بن علوان، القاضي الأصيل بهاء الدين بن القاضي محيي الدين الإسكندري الحلبي.
كان مشهوراً بقضاء سرمين وأعمالها، وكان له هيئة حسنة، وعنده كرم، وله معروف وفيه رئاسة ومروءة.
قال شيخنا علم الدين البرزالي: وروى لنا عن ابن قميرة وابن رواحة وابن خليل بحلب ودمشق والقاهرة وسرمين.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في سادس عشري شهر رجب سنة سبع مئة.
ومولده في شعبان سنة تسع وثلاثين وست مئة بحلب.
وكانت وفاته بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية.
يوسف بن محمد بن منصورالشيخ الصالح المحدث الهلالي العامري الكفيري الفرّا.
كان رجلاً صالحاً، يقرأ الحديث على كرسي بالجامع الأموي، ويصلي بمسجد آدم عليه السلام، وله كتب وأجزاء، سمع بقراءته من ابن عبد الدائم، وبمصر من الرشيد العطار، وحدث عنهما، وصحب الشيخ محموداً الدشتي، وسمع بعض تصانيفه.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر رجب الفرد سنة عشر وسبع مئة.
ومولده تقريباً سنة خمس وثلاثين وست مئة.
يوسف بن محمد بن أحمدابن صالح بن صارم بن مخلوف، القاضي نور الدين بن تقي الدين بن جلال الدين بن تقي الدين الأنصاري الخزرجي المعروف بالفيومي.
اجتمعتُ به بالديار المصرية، وبصفد، وبدمشق غير مرة. أعرفه وهو شاهد العمائر في خدمة الأمير سيف الدين بكتمر الساقي بالديار المصرية، ثم إنه ورد الى صفد، وكان في ديوان نائبها الأمير سيف الدين طشتمر الساقي. ثم توجه معه الى حلب. ثم إنه عاد الى مصر. واجتمعت فيها به سنة خمس وأربعين وسبع مئة.
وكتب هو إليّ لما قدمت القاهرة في هذه السنة:
وجدنا أُنسَ مولانا فلما ... وجدنا الأنس لم نقنع بذاكا
وهام الطرف مني في انتظار ... يروم من الصبابة أن يراكا
عجزت عن المزار فكنتَ ممن ... نواك به كُفينا من نواكا
ولا عتبٌ على شيخ ضعيفٍ ... إذا ما قام لم يملك حراكا
فعش لمسرّة الأحباب إنّا ... إذا ما عشت عشنا في ذراكا
وكان قد كتب إلي بالقاهرة في سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة أبياتاً جيدة، ضاعت من يدي، وكتبت أنا الجواب في وزنها ورويّها وهو:
أهديت لي من نظمك الناضر ... زهر رُباً أفديه بالناظر
نظمته شعراً فألهى الورى ... عن كل معنىً حسن نادر
فجاء في لطف نسيم الصّبا ... إذا سرى وهناً على حاجر
يكاد من رقّة ألفاظه ... يُشرب في كأس الطّلا الدائر
من كل معنىً فائقٍ لم يدر ... في فكر نظّام ولا ناثر
من أين أبدعت المعاني التي ... فيه وما مرّت على خاطر
لو كان في عصرٍ مضى ما رأى ال ... ناس البكا في المنزل الداثر

فلا روى العشاق مع وجدهم ... نسيب مجنون بني عامر
ولا رأى الناس غزال الحمى ... يروق فيه غزل الحاجري
ولم يمثل بسوى لفظه ... شواهد في المثل السائر
فأنت أولى الناس فينا بأن ... تُعرف بالسّاحر لا الشاعر
علوت نور الدين في ذروة ... تسمو على الواقع والطائر
لأن ما تنظمه لم يكن ... لأول فينا ولا آخر
شعر متى ابتاعه مفلسٌ ... بنفسه لم يكُ بالخاسر
تالله قد بالغتَ في وصف ما ... يقلّ في الباطن والظاهر
لأنني في أدبي قاصرٌ ... أسبح في بحر النّهى الزاخر
وليس ما أجمع مستحسناً ... في أدب البادي ولا الحاضر
وربما يختار مولاي أن ... يكون من دون الورى جابري
فاسلم ودم ما ابتسمت روضة ... بكى لها جفن الحيا الماطر
وأنشدته يوماً لغزاً في قصب السّكر، وهو:
عجبت لمعسول الرّضاب مهفهف ... يحاكي أنابيب القنا حال نبته
تناقض معناه الغريب فبوله ... على الرأس راسٍ والشوارب في استه
وأنشدني هو من لفظه لنفسه فيه:
في حلب أبصرت أعجوبةً ... تُخرج أذكى الناس من عقله
شخصاً رشيق القدّ عذب اللمى ... لا تقدر الروم على مثله
وهو بلا عقل جريح الحشا ... والدود لا يشبع من أكله
لا يبرح البول على رأسه ... والقيد لا ينفكّ عن رجله
له عيون وهو أعمى وفي ... عينيه أولاد على شكله
يا من سما بين الورى قدرُه ... اكشف لنا عنه وعن أصله
وأنشدني من لفظه لنفسه في العُصفر:
أشبّه عصفراً في الروض يُزهى ... وتشبيهي لهيئته مقارب
ككنز فيه بلّور عليه ... دنانير ومهلكها عقارب
يوسف بن محمد بن نصرابن أبي القاسم الشيخ الفقيه جمال الدين المقرئ.
سمع من ابن علاق والنجيب الحراني.
أجاز لي بخطه بالقاهرة، في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة أربع وستين وست مئة.
وتوفي رحمه الله تعالى.
يوسف بن محمد بن سلميانابن أبي العز بن وهيب بن عطاء، الشيخ الفقيه الإمام الصدر الكبير جمال الدين أبو المحاسن ابن الشيخ الإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن الشيخ قاضي القضاة صدر الدين، الأذرعي الأصل الحنفي.
كان مدرساً بالعذراوية والإقبالية للطائفة الحنفية، ثم إنه تركهما في آخر عمره لولده صدر الدين علي، وولي نظر الجامع الأموي، وتوكّل لجماعة من الأمراء، ودرس قديماً بمدارس الحنفية بالقدس.
وسمع بالقاهرة من الرضي بن البرهان الواسطي، وله إجازة من عثمان بن خطيب القرافة، وعبد الله بن الخشوعي، والعماد بن عبد الهادي، والصدر البكري، وأبي طالب بن السروري، وحدّث. وكان حسن الأخلاق، وفيه مودة وكرم.
توفي - رحمه الله تعالى - ثالث عشر صفر سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة إحدى وخمسين وست مئة.
يوسف بن مظفرابن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، الفقيه الإمام العالم جمال الدين المعري بن الوردي، أخو القاضي الفاضل زين الدين عمر بن الوردي، وقد تقدّم ذكره في حرف العين. وكان القاضي جمال الدين هذا هو الأكبر.
وكان فقيهاً جيداً، قرأ التنبيه، واشتغل بالحاوي الصغير كثيراً. وكان ينقل من الرافعي، ومن الروضة كثيراً. ذكر لي جماعة أنه كان فقيه النفس، وكان جواد بما يملكه، اشتغل على القاضي شرف الدين البارزي، وتنقّل في القضاء بالبلاد الحلبية، وربما أنه تعدى السبعين سنة، وكان ضعيف العربية.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في أواخر ذي القعدة سنة تسع وأربعين وسبع مئة في طاعون حلب.
يوسف بن موسىابن محمد بن مسعود، بهاء الدين بن الشيخ تاج الدين المراغي المعروف بابن الحيوان.
كان شاباً ذكياً فاضلاً، وله شعر واشتغال ومحفوظ، ولازم ابن الباجربقي بعدما تمفقر، وكان يعظم الباجربقي، وامتدحه بقصيدة.

قال البرزالي: وسمع على جماعة من شيوخنا.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شوال سنة تسع وتسعين وستّ مئة.
يوسف بن موسى بن أحمدالقاضي الرئيس الصدر صلاح الدين ابن القاضي قطب الدين ابن شيخ السلامية.
كان شاباً نشأ غصناً في رياض سعادة، وطلع بدراً بين الكواكب الوقّادة، قطف زهرة دنياه الغضة، وأمطرت السما عليه ذهباً وفضة، وفاز بلذات ما كان غيره يراها في الأحلام، ورأس على صغر سنّه على كل من في الشام. وكان تنكز يحبه ويكرمه، ويوفر جانبه ويعظمه.
ولم يزل الى أن ذوى غصنه اليانع، وسقت قبره من العيون الغيوثُ الهوامع.
وتوفي - رحمه الله تعالى - تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة.
وكان قد تزوج ابنة الصاحب شمس الدين غبريال في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبع مئة.
يوسف بن أبي نصرابن الشقاري، الأمير المسند عماد الدين أبو الحجاج الدمشقي.
سمع الصحيح من ابن الزبيدي، وابن الصلاح، والناصح بن الحنبلي، والفخر الإربلي، والرشيد بن الهادي، والسخاوي.
وولي إمرة الحاج مرات عديدة، وأنفق في ذلك وفي وجوه البر أموالاً كثيرة.
وكان سليم الباطن وقف بالنّيرب تربة مليحة بقبّة، وخانقاه ومسجداً، ووقف على ذلك أماكن. وحدّث بالصحيح غير مرة، وقرأ عليه شيخنا الذهبي الصحيح في عشرة أيام.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وست مئة.
ومولده سنة عشر وست مئة.
يوسف بن هبة اللهالإسرائيلي، الشيخ جمال الدين بن الحلبي الطبيب الفاضل المعروف في القاهرة بالصفدي، لأنه سكن صفد مدة.
وله كلام جيد على آيات تدل على ذكائه واطلاعه.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وتسعين وست مئة.
يوسف بن هلالابن أبي البركات جمال الدين الحلبي الحنفي أبو الفضائل الطبيب الصفدي.
أخبرني العلامة أبو حيان من لفظه، قال: كان المذكور فيه تعبّد واعتكاف في شهر رمضان بجامع الحاكم، وكان يؤثر الفقراء ويطبّهم ويبرّهم بالشراب والطعام الذي يواتيهم في مرضهم، وأنشدنا لنفسه بالكاملية يوم الأحد تاسع المحرم سنة إحدى وثمانين وست مئة:
بكمال حسنك يا مخاطب ذاتي ... بلوائح أخفى من اللحظات
أنعم عليّ بترك ما هو عكس ما ... قد جلّ عن حصر وعن كلمات
يا قهوة مني إلي شربتها ... عندي إذا حظرت على الأموات
ارتجت الأرضون ثم تشققت ... عن كل ميت فيه كل حياة
هي روح سر السر فهي إذا بدت ... تستغرق الأرواح في الأوقات
من دونها موتٌ وفيها عيشةٌ ... فالروح أول نقدةٍ يا أتِ
ماذا أقول وما أصرّح واصفاً ... قد قلت في الحركات والسّكنات
فوصفت ظاهرها بما أظهرته ... والسر في سري ولا بصفات
قال شيخنا الذهبي: كان أديباً عالماً، له أرجوزة في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة ثالث عشري المحرم سنة ست وتسعين وست مئة.
قلت: الظاهر أنه هذا الذي تقدم آنفاً، وإنما وهِمَ أثير الدين في اسم أبيه.
يوسف بن يوسفابن إسرائيل بن يوسف بن أبي الحسن الفقيه الفاضل بدر الدين ابن الشيخ المقرئ جمال الدين الصالحي الحنفي.
كان فقيهاً مشتغلاً بالفقه والأصول، حسن المناظرة، باشر إعادة المدرسة الظاهرية وغيرها.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمسٍ وعشرين وسبع مئة، وله من العمر سبع وثلاثون سنة، ورثاه العماد القطان بقصيدة.
يوسف حَوْك
النصراني الزغلي.

كان من أهل الكرك. أول ما عرفت من أمره أنه أمسكه والي الشقيف من بلاد صفد بزغل، وجهّزه الى صفد، وكان النائب بها إذ ذاك الأمير سيف الدين أرقطاي في شهور سنة أربع وعشرين وسبع مئة، فدخل إليه، وطلب الخلوة به، فقال له: أحضر لي صائغاً خلوة، فلما حضر قال له: قصّ من هذه النحاسة التي معك شيئاً، فقصّ ذلك قدراً زنته أربعة خمسة دراهم، ووضعها في البوتقة، ولما ذابت، ألقى عليها شيئاً مما معه مثل الذّرود، فصارت فضة حجر، ليس فيها ريبة ولا شبهة، فقال النائب للصائغ: ما تقول في هذه؟ فقال: هذه فضة حجر طلغم ليس فيها شيء، فأطلعه الى القلعة، واعتقله بها. وبقي خائفاً من الأمير سيف الدين تنكز، لا هو الذي يخرجه من الاعتقال، ولا هو الذي يتمكّن منه ليعمل له الذي توهّمه فيه. ولم يزل يوسف معتقلاً بقلعة صفد الى أن كتب ذلك قصّة وجهّزها في سنة ثلاثين وسبع مئة أو ما قبلها الى تنكز، وطلب فيها الحضور، فأحضره تنكز من صفد، ودخل إليه، وعمل بين يديه كما عمل قدّام نائب صفد، وكان تنكز سعيد الحركات والآراء، فقال له: أحقّ ما عملت هذه الصنعة بين يدي مولانا السلطان، فكتي مطالعة بصورة الحال، وجهّزه تحت الترسيم الى السلطان الملك الناصر، فدخل إليه، وعمل ذلك العمل أيضاً، فطار عقل السلطان به، وقال له: أنا أعمل الذهب أيضاً.
وبقي عند السلطان ينام في المرقد، ويركب من خيل النّوبة، وينزل الى القاهرة، وأوهم الناس، وأخذ منهم الذهب، ومن بكتمر الساقي ومن الخدّام شيئاً كثيراً من الذهب، وصار يقول لهم: كل من أحضر لي خمسة مئة دينار أخذها خمسة آلاف، فطمع الناس، وأعطوه ذهباً كثيراً، وهو يأخذ الجميع، ويدكه في الفحم، ويحرّك به البوتقة، ويفرّغ ذلك ذهباً أحمر لا مرية فيه:
أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب ... أن يصنعوا ذهباً إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة ... إلا من الفضة المعروفة النّسب
وبلغ في أمره أن كان السلطان يطلب له الخمر من الأقباط، ويشربه قدّامه، ويقول له: يا خوند ما أقدر على الزئبق ورائحته إلا بهذا، وكان يحتمل له السلطان هذا مع كراهيته في الخمر، وشرع يدافعه من وقت الى وقت، الى أن قال له: هذا يريد حشيشة ما رأيتها إلا في جبال الكرك، فجهزه تحت الترسيم على خيل البريد الى الكرك، ولو قدر هناك على الهروب هرب. لكن الترسيم الذي عليه، احتفظوا به، وأحضروه.
ثم إنه هرب من القاهرة، وتطلبه السلطان، وأمسك أناساً ضمنوه، وقتلهم بالمقارع، وبالغ في طلبه الى أن أمسك في الصعيد، وأحضر الى السلطان في أواخر الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة، فسلّمه الى والي القاهرة، فقتله من بعد صلاة الجمعة الى المغرب ألف شيب، فأصبح وقد ورم جسده جميعه، وسُمّر على جمل، وطيف به، وهلك.
والذي كان في ذهني منه أنه كان قد ظفر من أحد ببعض شيء من إكسير، فكان يعمل بين يدي أولياء الأمر منه قليلاً قليلاً، والذي يتعيش به على الناس كله من الزغليات، ولهذا كان لا يعمل إلا ثلاثة دراهم أو أربعة.
يونس بن إبراهيمابن عبد القوي بن قاسم بن داود، فتح الدين الكناني العسقلاني أبو النون الدبابيسي، مسند الديار المصرية.
قرأت عليه جميع القدر المسموع من كتاب القناعة لابن أبي الدنيا من أول الجزء الأول الى قوله: فكأنما ملئت غنىً، وذهب عني ما كنت أجده بسماعه من الشيخ أبي الحسن بن أبي عبد الله بن المقير سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وجزءاً فيه ثلاثة أحاديث من رواية الشيخ أبي أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد الفرضي بسماعه من ابن المقير، وجزءاً فيه الأسانيد الحسنة المختارة من رواية الشيخ أبي غالب شجاع بن فارس الذهلي الحافظ عن شيوخه بسماعه من ابن المقير، وجزءاً فيه أحاديث منتقاة من أصول الشيخ الجليل أبي الرجاء محمد بن أحمد الجركاني، وجزءاً فيه أحاديث عن مشايخ الإمام أبي طاهر السلفي، وجزءاً فيه موعظة الأوزاعي للخليفة بإجازته من ابن المقير، وجزءاً فيه خطب الإمام علي بن أبي طالب في وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بإجازته من ابن المقير، وجزءاً فيه مجلس من مجالس القاضي أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني عن شيوخه بإجازة المسمع من السبط.
وسمعت عليه بقراءة غيري أجزاء أُخر كثيرة.

وكان قد سمع بإفادته عمه المحدث داود وابن أبي الحسن علي بن عبد الله بن المقير. وأجاز له ابن المقير، وفخر القضاة أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحباب، وأسعد بن عبد الغني بن قادوس، وحمزة بن عمر بن أوس، وشعيب بن يحيى بن أحمد الزعفراني، وظافر بن طاهر بن شحم المطية، وأبو الحسن علي بن محمود الصابوني، وعبد الوهاب بن ظافر بن رواج الجوشني، والفقيه بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن بنت الجميزي الشافعي، وعبد الرحمن بن مكي بن الحاسب سبط السلفي، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن النّقار، وأبو الرضا علي بن زيد بن علي التّسارسي، ومحمد بن أبي الحسن بن يحيى بن ياقوت، ومحمد بن إبراهيم بن الحبّاب، وأبو المنصور مظفر بن عبد الملك بن عبد القوي، ومنصور بن سند بن الدباغ، وأبو البركات هبة الله بن محمد المقدسي، ويوسف بن عبد المعطي بن المخيّلي، ويوسف بن محمود الساوي، وأبو علي الحسن بن إبراهيم بن دينار، وأبو بكر محمد بن الحسن السفاقسي، وأبو الفضل المرجا بن أبي الحسن بن شقيرة، ويعقوب بن محمد الهذباني، ومنصور بن أبي القاسم الجهني، وعبد العزيز بن عبد الوهاب بن عوف، وعبد القوي بن عزون، وابنه إسماعيل، وأحمد بن يحيى بن صباح، وعبد الحق بن عبد الله بن علاق، والحسن بن علي الفارسي، وأبو طالب محمد بن علي بن الخيمي، ومحمد بن إبراهيم التلمساني، ويوسف بن عبد الكافي بن الكهف، ومحمد بن محمود الأموي، وزهير بن محمد المهلبي، وعبد المنعم بن رضوان بن مناد. وله رواية عن غير هؤلاء.
وحدّث بالكثير، وسمع منه أبو الحجاج المزي سنة ثلاث وثمانين، وأبو محمد البرزالي، وسمع منه الحافظ أبو العلاء الفرضي.
وكان شيخاً أمياً ساكناً ديّناً، له جلد على إسماع الحديث، وتفرّد بغالب شيوخه، وعلا سنده، وانتفع الناس به، وازدحم الطلبة عليه، وهو آخر من حدث بالقاهرة عن ابن المقيّر، وعن خلق من أصحاب السلفي بالإجازة.
وأجاز لي سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بالقاهرة، وأذن في الكتابة عنه الشيخ شهاب الدين أحمد العسجدي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بالقاهرة في مستهل جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبع مئة.
ومولده سنة خمس وثلاثين وست مئة تقريباً بالقاهرة.
قلت أنا فيه:
إن الرواية تحتاج العلوّ فمن ... يسمع على صغرٍ يصعد بتأسيس
ولم يكن لي في الإسناد مرتبة ... تعلو وقد حصلت لي بالدبابيسي
يونس بن إبراهيمابن سليمان، الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين الصرخدي الحنفي خطيب صرخد.
كان فاضلاً فقيهاً أديباً عارفاً بالنحو واللغة، وأقام بالمدرسة العزية التي بالكجك بدمشق مدة منقطعاً عن الناس بنفس شريفة تقنع بالقليل. طُلب في أواخر عمره لخطابة صرخد، فأجاب، وفرح به أهله، وذكر أنه سمع من الصريفيني.
وتوفي بصرخد في ذي الحجة سنة ثمان وتسعين وست مئة.
ومن شعره:
ظمئت الى سلسال حسنك مقلة ... رويت محاجرها من العبرات
تشتاق روضاً من جمالك طالما ... سرحت به وجنت من الوجنات
حجبوك عن عيني وما حجبوك عن ... قلبي ولا منعوك من خطراتي
هل ينقضي أمد البعاد ونلتقي ... بلوى المحصّب أو على عرفات
وتضمنا بعد البعاد منازل ... بالخيف أو بمنى على الجمرات
وأفيق من ولهي عليك وينقضي ... شوقي إليك وتنطفي جمراتي
يونس بن أحمدابن أبي الجن، ينتهي نسبه الى الحسين بن علي رضي الله عنهما.
كان كبير الأشراف بدمشق، يدعى ناصر الدين.
توفي - رحمه الله تعالى - سنة ست وعشرين وسبع مئة.
سمع من خطيب مردا، وروى عنه. وقصده الطلبة، وسمعوا عليه لشرفه ونسبه.
وكان جيداً متودداً، له شهرة بين الناس.
يونس بن أحمد بن صلاحالشيخ الإمام المفتي شرف الدين أبو النون القرقشندي الشافعي.
كان فقيه مصر، وسمع من عبد الهادي قطعة من الموطأ، وطلب السماع عليه، فامتنع. وكان معيداً بزاوية الشافعي بجامع مصر.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في حادي عشري شهر ربيع الآخر سنة خمسٍ وعشرين وسبع مئة، ودفن بالقرافة.

وقع في وقتٍ بينه وبين الشمس المحوجب نزاع في مسألة، وانفصلا من غير تراضٍ، فجاء إليه المحوجب ثاني يوم، واستغفر له، وقال: رأيت الشافعي في النوم، وقال: لا تنازعه فإنه ينقل مذهبي.
يونس بن حمزةابن عباس الإربلي، الشيخ الصالح الكبير المعمر أبو محمد العدوي القطّان، الساكن بالصالحية.
كان مشهوراً بطول العمر، روى بالإجازة العامة عن داود بن معمر بن الفاخر، وكان يمكن أن يروي عمّن هو أقدم منه، ولكن لم يقدم الطلبة على ذلك، لأنه ذكر أن مولده سنة ست وستّ مئة بإربل.
وتوفي - رحمه الله تعالى - في نصف ذي القعدة سنة ثماني عشرة وسبع مئة، وحضر جنازته خلق كثير.
يونس بن عبد المجيدابن علي بن داود الهذلي، القاضي سراج الدين الأرمنتي.
كان من الفقهاء الفضلاء، الأدباء الشعراء، المحمودين السيرة في القضاء.
سمع من الشيخ مجد الدين بن أبي الحسن بن علي بن وهب القشيري، والحافظ أبي الحسين يحيى بن علي العطار، وعمر بن موسى العامري، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة.
وحدث بقوص وغيرها، واشتغل على مجد الدين القشيري، وأجازه بالفتوى، وورد مصر للاشتغال، وأعاد بالمدرسة المعروفة بزين التجار، كان هو والفقيه نجم الدين بن الرفعة معيدين بها، قال نجم الدين بن الرفعة: كنت مرة في الإعادة، فصار الطلبة يأتون إليّ، ولا يجلسون إليه، حتى وصلت الحلقة إليه، فقام، وأخذ سجادته على كتفه، ونظر إليّ، وقال: أروح الى الجامع، آخذاً دروساً في الأصول والنحو، يعني أنك ما تدري هذا.
وكان حسن المحاضرة، مليح المحاورة، صنّف المسائل المهمة في اختلاف الأئمة، وكتاب الجمع والفرق.
ولاه قاضي القضاة تقي الدين بن بنت الأعز القضاء بإخميم، وعملها، ثم أقره الشيخ تقي الدين مدة، ونقله الى البهنسا، فأقام بها فوق عشرين سنة، ثم ولاه قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بلبيس والشرقية، ونقله الى قوص بعد كمال الدين السبكي.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بقوص من لسعة ثعبان في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبع مئة.
ومولده بأرمنت سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان لأبيه نظم وأدب.
قال كمال الدين الأدفوي: أنشدته ارتجالاً حين خرج من عند ابن جماعة:
سراج الدين سر في طيب عيش ... قرير العين محمود الفعال
وقد كملت مسرّتكم وتمّت ... وقيت النّقص من عين الكمال
قال: ورأيت بخطه على كتاب:
الحال مني يا فتى ... تغني عن الخبر المفيد
وبغير سكين ذبح ... ت وأدرجوني في الصعيد
وكان كذلك لم يخرج من قوص، وكان يروي التنبيه والمهذّب بالسند.
قال: وأنشدني لنفسه في شروط الكفاءة:
شرط الكفاءة حرّرت في ستّة ... ينبيك عنها بيت شعر مفردُ
نسبٌ، ودينٌ، صنعة، حرية ... فقد العيوب، وفي اليسار تردّدُ
قلت: الكفاءة عند الشافعي واجبة، فلا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء، فإن رضوا بإسقاط الكفاءة، صحّ النكاح، خلافاً للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، حيث ذهب الى أن الكفاءة شرط في الصحة، وسبيل من سلك الطريق القطعي في بطلان مذهبه أن يقول: فقد تزوج علي بن أبي طالب بفاطمة رضي الله عنهما، وأبوها سيّد البشر.
والكفاءة سبعة أمور: وهي الدين، والنسب، والصنعة، والحرية، والتنقي من العيوب، واليسار على أحد الوجهين، وأن لا يكون الزوج مولىً للزوجة أو أهلها، فموالي قريش ليسوا أكفّاء لقريش، وفي وجه أنهم أكفاء لأن موالي القوم منهم.
وقال كمال الدين الأدفوي: وأنشدني لنفسه في التعارض بين الاحتمالات، وتقديم بعضها على بعض:
مجازٌ وإضمارٌ ونقل وبعده اش ... تراك، وقبل الكل رتبة تخصيص
متى ما يكن إثنان منها تعارضا ... فقدم ما قدمت واحظ بتلخيص
قال: وأنشدني له:
إن ترمك الأقدار في أزمةٍ ... أوجبها أجرامك السالفه
فافزع الى ربك في كشفها ... ليس لها من دونه كاشفه
ومن شعره:
وشادن زار بعد يأسٍ ... كالغيث وافى على قنوط
وبات يجلو عليّ كأساً ... جاءت بحلّ الدم العبيط

ولم نثلّث إذا ختلسنا ... إلا بإثم بنا محيط
فقلت والليل في شبابٍ ... عاجله الصبح بالوخوط
مشمّر ذيله لسير ... تشمير ذي الرحلة النشيط
بالله يا صبح لا تزرنا ... والصبح حربٌ لقوم لوط
ومن شعره:
يا أهل ودي وما أهلاً دعوتكمُ ... بالحقّ لكنها العادات والدرب
أبدعة ظهرت في الحب حادثة ... بالغدر أم رجعت عن دينها العرب
ومنه:
أيا ميُّ إن البين أعمى بصيرتي ... فلم أدر بعد اليوم رَشداً ولا غيّا
وإني لأسقي حيّكم من مدامعي ... وأعجبُ من ذا ميت قد سقى الحيّا
وقلبه موالياً فقال:
لما بدت بين أتراب لها من طيْ ... خودٌ طوت ثوب صبري بعد نشره طيْ
قلت سقيتُ بدمعي حيّكم يا ميْ ... قالت: عجب ما رأينا ميت يسقي الحيْ
ومنه:
يا صاحبيّ ديار عَلوهْ ... ظهر الهوى الخافي المموّهْ
والصبّ يوثقه الجوى ... وتخلّف الرفقاء جفوه
فقفا وإلا فالهوى ... يستوقف المشتاق عنوه
وسلا على قدريكما ... فأعزُّ ما في الحب سلوهْ
لا بأس أن يشكو المعا ... هدَ، أو يبثّ الدار شجوه
يا سطوة البين المش ... تّ وهل لغير البين سطوه
خلّفتني أشكو الصفا ... شكوى الخليل خليل صفوه
بتأوهٍ أعيا الصدا ... لو كان ينجو من تأوّه
بأبي أُوَيْطان تسقّي ... تُ الهوى فيهنّ قهوه
بلواحظ شهدت سرا ... ها بقلبي ألف غزوه
وأنا المطيع الحب إلا ... في تأمّره بخلوه
سافرت في العلياء حتى ... صرت شهوة كل شهوه
لا أستجيب لغير مد ... ح الشيخ شمس الدين دعوه
يونس بن عيسىابن جعفر بن محمد، القاضي شرف الدين الهاشمي الأرمنتي.
كان من الفضلاء النبلاء، قليل الكلام، كثير الاحتشام، واسع الصدر، رئيساً ساكناً.
سمع من أبي العباس أحمد بن محمد القرطبي، واشتغل بالفقه على خال أمه الرضي الأرمنتي، وعلى الشيخ جلال الدين الدشناوي.
وتولى الحكم بعدة أماكن منها: دشنا، وأدفو، وأسنا، وأسوان، وقمولا وما معها من القرى، ونقادة. وناب بقوص قريباً من ثلاثين سنة، وأهلها راضون عنه.
وله معرفة بالفرائض والحساب والوراقة، ودرس بالمدرسة العزية ظاهر قوص، وأعاد بالمدرسة الشمسية مدة.
قال كمال الدين الأدفوي: وكان حلو الخلوة، ينبسط ويتبسّم، وفيه قعدد، وعليه مهابة، فقيه النّفس يتكلم على الوسيط كلاماً حسناً. ولما حج آخر حجة اجتمع بقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وتحدث معه، فأعجبه سمته، وأحسن إليه، وأضافه ضيافة حسنة كبيرة، وخطر له أن يولّيه الشرقية، فذكرت له، فقال: أنا في آخر العمر، ما أخرج من وطني، وأيضاً فأنا في قوص أي من ولي أقرّني على حالي، والكدّ على غيري.
وقع من علوّ، فمات - رحمه الله تعالى - بعد ساعة، سنة أربع وعشرين وسبع مئة.
اليونينيالشيخ شرف الدين علي بن محمد. وقطب الدين موسى بن محمد.
تمّ الكتاب بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، نهار الجمعة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وتسع مئة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بخط العبد الفقير المعترف بالذنب والتقصير، الراجي عفو ربه القدير أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر العِواجي نزيل مكة المشرفة.
عفا الله عنه بمنّه وكرمه، آمين، آمين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16